فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه، الله أعلم. - وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر، ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في خطبته في حجة الوداع "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا ؟ قال "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت" وقال وكيع، عن بشير بن سليمان، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة، لأن الله يقول {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي في الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره وشرعه وقدره.
{الطّلاَقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلّ لَكُمْ أن تَأْخُذُواْ مِمّآ آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلاّ أن يَخَافَآ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أن يَتَرَاجَعَآ أن ظَنّآ أن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال {الطّلاَقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قال أبو داود رحمه الله في سننه (باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث). حدثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية، ودل أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، فنسخ ذلك فقال {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية، ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم عن علي بن الحسين به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رجلاً قال لامرأته: لا أطلقك أبداً ولا آويك أبداً، قالت: كيف ذلك ؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فأنزل الله عز وجل {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ، وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جرير بن عبد الحميد وابن إدريس، ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون،(1/336)
كلهم عن هشام عن أبيه، قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ما دامت في العدة، وإن رجلاً من الأنصار غضب على امرأته، فقال: والله لا آويك ولا أفارقك، قالت: وكيف ذلك ؟ قال: أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} قال: فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق. وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان عن يعلىَ بن شبيب مولى الزبير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم. ورواه الترمذي عن قتيبة، عن يعلى بن شبيب به، ثم رواه عن أبي كريب، عن ابن إدريس، عن هشام. عن أبيه مرسلاً، وقال: هذا أصح. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن يعلى بن شبيب به، وقال: صحيح الإسناد. ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن عائشة، قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس، فقال: والله لأتركنك لا أيماً ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مراراً، فأنزل الله عز وجل فيه {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فوقت الطلاق ثلاثاً لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره. وهكذا روي عن قتادة مرسلاً، ذكره السدي وابن زيد وابن جرير كذلك، واختار أن هذا تفسير هذه الآية. وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسناً إليها، لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تضار بها. وقال علي بن أبي طلحة. عن ابن عباس، قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في ذلك، أي في الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري، حدثني إسماعيل بن سميع، قال: سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أين الثالثة ؟ قال: "التسريح بإحسان" ورواه عبد بن حميد في تفسيره ولفظه: أخبرنا يزيد بن أبي حكيم عن سفيان عن إسماعيل بن سميع، أن أبا رزين الأسدي يقول: قال رجل: يا رسول الله، أرأيت قوله الله {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فأين الثالثة ؟ قال "التسريح بإحسان الثالثة" ورواه الإمام أحمد أيضاً. وهكذا رواه سعيد بن منصور عن خالد بن عبد الله، عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين به وكذا رواه ابن مردويه أيضاً من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلاً ورواه ابن مردويه أيضاً من طريق عبد الواحد بن زياد، عن إسماعيل بن سميع، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، ثم قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة، حدثنا ابن عائشة، حدثنا حماد بن سلمة بن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة ؟ قال: {إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.
وقوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن،(1/337)
النساء حرام" وقد رواه إسماعيل بن عليه وسفيان الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي عبد الله الشقري واسمه سلمة بن تمام ثقة، عن أبي القعقاع عن ابن مسعود موقوفاً وهو أصح.
(طريق أخرى) - قال ابن عدي: حدثنا أبو عبد الله المحاملي، حدثنا سعيد بن يحيى الثوري، حدثنا محمد بن حمزة، عن زيد بن رفيع، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تأتوا النساء في أعجازهن" محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه فيهما مقال. وقد روي من حديث أبي بن كعب والبراء بن عازب وعقبة بن عامر وأبي ذر وغيرهم، وفي كل منها مقال لا يصح معه الحديث، والله أعلم. وقال الثوري، عن الصلت بن بهرام، عن أبي المعتمر، عن أبي جويرية، قال: سأل رجل علياً عن إتيان المرأة في دبرها، فقال: سفلت، سفل الله بك، ألم تسمع قول الله عز وجل: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} . وقد تقدم قول ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه يحرمه. قال أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الدارمي في مسنده: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب، قال: قلت: لابن عمر: ما تقول في الجواري أيحمض لهن ؟ قال: وما التحميض ؟ فذكر الدبر، فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وكذا رواه ابن وهب وقتيبة عن الليث به وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك. فكل ما ورد عنه مما يحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم. قال ابن جرير: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبو زيد أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي العمر، حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس، أنه قيل له: يا أبا عبد الله، أن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال: كذب العبد أو العلج علي أبي عبد الله قال مالك أشهد علىَ يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال له يا أبا عبد الرحمن إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن ؟ فقال وما التحميض ؟ فذكر له الدبر، فقال: ابن عمر: أف أف! وهل يفعل ذلك مؤمن، أو قال مسلم ؟ فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع. وروى النسائي عن الربيع بن سليمان، عن أصبغ بن الفرج الفقيه، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، قال: قلت لمالك: أن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن ؟ قال: وما التحميض ؟ قلت: نأتيهن في أدبارهن فقال أف أف أو يعمل هذا مسلم فقال لي مالك فأشهد على سعيد بن يسار، أنه سأل ابن عمر، فقال: لا بأس به. وروى النسائي أيضاً من طريق يزيد بن رومان، عن عبيد الله بن عبد الله: أن ابن عمر كان لا يرى بأساً أن يأتي الرجل المرأة في دبرها. وروى معمر بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام. وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: حدثني إسماعيل بن حسين، حدثني إسرائيل بن روح، سألت مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن ؟ قال: ما أنتم إلا قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع، لا تعدوا الفرج، قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك. قال: يكذبون علي يكذبون علي، فهذا هو الثابت عنه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة، وهو قول سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعكرمة وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبر والحسن وغيرهم من السلف، أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر وهو مذهب جمهور العلماء، وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة حتى حكوه عن الإمام مالك، وفي صحته نظر،(1/338)
حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة، وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستذكار له عن بكر بن عبد الله المزني، أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله: {وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً} ورواه ابن جرير عنه، وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله، وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، ولنذكر طرق حديثها واختلاف ألفاظه، قال الإمام مالك في موطئه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعيد بن زرارة: أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذه ؟" قالت: أنا حبيبة بنت سهل. "فقال ما شأنك" ؟ فقال: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها، فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر" فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ منها" فأخذ منها وجلست في أهلها. وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بإسناده مثله، ورواه أبو داود عن القعنبي عن مالك والنسائي عن محمد بن مسلمة عن ابن القاسم عن مالك.
(حديث آخر) - عن عائشة، قال أبو داود وابن جرير: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا أبو عامر، حدثنا عمرو السدوسي عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة، أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فضربها فانكسر بعضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكته إليه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتاً، فقال "خذ بعض مالها وفارقها" قال: ويصلح ذلك يا رسول الله ؟ قال "نعم" قال إني أصدقتها حديقتين فهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذهما وفارقها" ففعل، وهذا لفظ ابن جرير وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام.
(حديث آخر) فيه، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال البخاري: حدثنا أزهر بن جميل، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد عن عكرمة، عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: "ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتردين إليه حديقته" ؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة". وكذا رواه النسائي عن أزهر بن جميل بإسناده مثله، ورواه البخاري أيضاً به، عن إسحاق الواسطي، عن خالد هو ابن عبد الله الطحان، عن خالد هو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة، به نحوه، وهكذا رواه البخاري أيضاً من طرق عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت: لا أطيقه يعني بغضاً. وهذا الحديث من إفراد البخاري من هذا الوجه، ثم قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة أن جميلة رضي الله عنها - كذا قال - والمشهور أن اسمها حبيبة كما تقدم، لكن قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثني أبو يوسف يعقوب بن يوسف الطباخ، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثني عبد الأعلى، حدثنا سعيد عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق، ولكنني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "تردين عليه حديقته ؟". قالت:نعم(1/339)
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما ساق ولا يزداد، وقد رواه ابن مردويه في تفسيره عن موسى بن هارون، حدثنا أزهر بن مروان، حدثنا عبد الأعلى مثله، وهكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان بإسناد مثله سواء، وهو إسناد جيد مستقيم، وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا جميلة ما كرهت من ثابت ؟". قالت: والله ما كرهت منه ديناً ولا خلقاً، إلا أني كرهت دمامته، فقال لها، "أتردين عليه الحديقة ؟". قالت: نعم، فردت الحديقة، وفرق بينهما. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: قرأت على فضيل عن أبي جرير، أنه سأل عكرمة هل كان للخلع أصل ؟ قال: كان ابن عباس يقول: أن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً، إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهاً، فقال زوجها: يا رسول الله، إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي، فإن ردت علي حديقتي، قال "ما تقولين" ؟ قالت: نعم وإن شاء زدته، قال: ففرق بينهما.
(حديث آخر) - قال ابن ماجه: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس، وكان رجلاً دميماً، فقالت يا رسول الله، والله لولا مخافة الله إذا دخل عليّ بصقت في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتردين إليه حديقته" ؟ قالت: نعم، فردت عليه حديقته، قال: ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها، فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب عن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتى بامرأة ناشز، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل، ثم دعا بها فقال: كيف وجدت ؟ فقالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني، فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن كثير مولى ابن سمرة فذكر مثله، وزاد فحبسها فيه ثلاثة أيام، قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة أتت عمر بن الخطاب، فشكت زوجها، فأباتها في بيت الزبل، فلما أصبحت قال لها: كيف وجدت مكانك ؟ قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال: خذ ولو عقاصها، وقال البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن عبد الله بن عقيل، أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته، قالت: كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عني، قالت: فكانت مني زلة يوماً فقلت له: أختلع منك بكل شيء أملكه، قال: نعم، قالت: ففعلت، قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت: ما دون عقاص الرأس، ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ولا يترك لها سوى عقاص شعرها، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وقبيصة بن ذؤيب والحسن بن صالح وعثمان البتي، وهذا مذهب مالك والليث والشافعي وأبي ثور، واختاره ابن جرير، وقال أصحاب أبي حنيفة: أن كان الإضرار من قبلها، جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا يجوز الزيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء، وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئاً، فإن أخذ، جاز في(1/340)
القضاء. وقال الإمام أحمد وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه: لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها، وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وطاوس والحسن والشعبي وحماد بن أبي سليمان والربيع بن أنس، وقال معمر والحكم: كان علي يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها، وقال الأوزاعي: القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها. (قلت): ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة ثابت بن قيس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد، وبما روى عبد بن حميد حيث قال: أخبرنا قبيصة عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، يعني المختلعة، وحملوا معنى الآية على معنى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي من الذي أعطاها لتقدم قوله: {أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي من ذلك، وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ منه} رواه ابن جرير، لهذا قال بعده {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
(فصل) قال الشافعي: اختلف أصحابنا في الخلع، فأخبرنا سفيان عن عمر بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد، يتزوجها أن شاء، لأن الله تعالى يقول: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ - قرأ إلى - أَنْ يَتَرَاجَعَا} قال الشافعي: وأخبرنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة، قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق، وروى غير الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس: أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله قال: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه، أيتزوجها ؟ قال: نعم، ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء، ثم قرأ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقرأ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من أن الخلع ليس بطلاق وإنما هو فسخ، هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وابن عمر، وهو قول طاوس وعكرمة، وبه يقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو ثور وداود بن علي الظاهري، وهو مذهب الشافعي في القديم، وهو ظاهر الآية الكريمة، والقول الثاني في الخلع: أنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك، قال مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جهمان مولى الأسلميين، عن أم بكر الأسلمية: أنها اختلعت من زوجها عبد الله خالد بن أسيد فأتيا عثمان بن عفان في ذلك، فقال: تطليقة إلا أن تكون سميت شيئاً فهو ما سميت، قال الشافعي: ولا أعرف جهمان، وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر، والله أعلم. وقد روي نحوه عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر، وبه يقول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وشريح والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو عثمان البتي والشافعي في الجديد، غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع تطليقة أو اثنتين أو أطلق، فهو واحدة بائنة، وإن نوى ثلاثا فثلاث، وللشافعي قول آخر في الخلع، وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق، وعري عن البينة، فليس هو بشيء بالكلية.
(مسألة) وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما، وهي المشهورة، إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء، أن كانت ممن تحيض، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر، وبه يقول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة وسالم وأبو سلمة وعمر بن عبد العزيز(1/341)
وابن شهاب والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وأبو عياض وخلاس بن عمر وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبو العبيد. قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم، ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق، فتعتد كسائر الملطقات، والقول الثاني أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرى بها رحمها. قال ابن أبي شيبة. حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع، عن ابن عمر: أن الربيع اختلعت من زوجها، فأتى عمها عثمان رضي الله عنه، فقال: تعتد بحيضة. قال: وكان ابن عمر يقول: تعتد ثلاث حيض، حتى قال هذا عثمان، فكان ابن عمر يفتي به، ويقول: عثمان خيرنا وأعلمنا. وحدثنا عبدة عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: عدة المختلعة حيضة. وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: عدتها حيضة، وبه يقول عكرمة وأبان بن عثمان وكل من تقدم ذكره ممن يقول أن الخلع فسخ يلزمه القول بهذا واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود والترمذي حيث قال: كل منهما: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البغدادي، حدثنا علي بن بحر، أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة، ثم قال الترمذي: حسن غريب، وقد رواه عبد الرزاق عن معمر، عن عمرو بن مسلم عن عكرمة مرسلاً.
(حديث آخر) - قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، وهو مولى آل طلحة، عن سليمان بن يسار، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة.
(طريق أخرى) - قال ابن ماجه: حدثنا علي بن سلمة النيسابوري، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن الرّبَيّع بنت معوذ بن عفراء، قال: قلت لها: حدثيني حديثك، قالت: اختلعت من زوجي، ثم جئت عثمان فسألت عثمان: ماذا علي من العدة ؟ قال: لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك، فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة، قالت: وإنما اتبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية، وكانت تحت ثابت بن قيس، فاختلعت منه¹ وقد روى ابن لهيعة عن ابن الأسود، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن الربيع بنت معوذ، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة. (مسألة) وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عن الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبد الله بن أبي أوفى وماهان الحنفي وسعيد بن المسيب والزهري أنهم قالوا: أن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها، وهو اختيار أبي ثور رحمه الله. وقال سفيان الثوري: أن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها، وإن كان يسمى طلاقاً فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة، وبه يقول داود بن علي الظاهري، واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة، وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن فرقة: أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره، وهو قول شاذ مردود.
(مسألة) وهل له أن يوقع عليها طلاقاً آخر في العدة ؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء: (أحدها) ليس له ذلك، لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه، وبه يقول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور.(1/342)
(والثاني) قال مالك: أن أتبع الخلع طلاقاً من غير سكوت بينهما، وقع، وإن سكت بينهما، لم يقع، قال ابن عبد البر: وهذا يشبه ما وري عن عثمان رضي الله عنه. (والثالث) أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي، وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وإبراهيم والزهري والحاكم والحكم وحماد بن أبي سليمان، وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء، وقال ابن عبد البر: وليس ذلك بثابت عنهما.
وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي هذه الشرائع التي شرعها لكم. هي حدوده فلا تتجاوزوها، كما ثبت في الحديث الصحيح "إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها". وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ويقوون ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال: حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" ؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله - فيه انقطاع.
وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ، أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح، فلو وطئها واطئ في غير نكاح ولو في ملك اليمين، لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول، واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه يقول: يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني، وفي صحته عنه نظر، على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد حكاه عنه في الاستذكار، والله أعلم. وقد قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة، فيتزوجها زوج آخر، فيطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى الأول ؟ قال "لا، حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها" هكذا وقع في رواية ابن جرير، وقد رواه الإمام أحمد فقال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد، قال: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله يعني ابن عمر، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها، فترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوق العسيلة" وهكذا رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس وابن ماجه، عن محمد بن بشار بندار، كلاهما عن محمد بن جعفر غندر، عن شعبة به، كذلك فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمرو مرفوعاً على خلاف ما يحكى عنه، فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند، والله أعلم. وقد روى أحمد أيضاً والنسائي وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد، عن رزين بن سليمان الأحمدي، عن ابن عمر، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثاً، فيتزوجها آخر، فيغلق الباب، ويرخي الستر، ثم يطلقها قبل أن(1/343)
يدخل بها، هل تحل للأول ؟ قال "لا، حتى تذوق العسيلة" ، وهذا لفظ أحمد، وفي رواية لأحمد سليمان بن رزين.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا محمد بن دينار، حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثاً، فتزوجت بعده رجلاً فطلقها قبل أن يدخل بها، أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته". وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن إبراهيم الأنماطي عن هشام بن عبد الملك، حدثنا محمد بن دينار، فذكره (قلت) ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطاحي البصري ويقال له ابن أبي الفرات، اختلفوا فيه، فمنهم من ضعفه، ومنهم من قواه وقبله وحسن له، وذكر أبو داود أنه قبل موته، فالله أعلم،
(حديث آخر) - قال ابن جرير: حدثنا عبيد بن آدم بن أبي أياس العسقلاني، حدثنا أبي، حدثنا شيبان، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المرأة يطلقها زوجها ثلاثاً، فتتزوج غيره فيطلقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأول أن يراجعها. قال "لا، حتى يذوق الآخر عسيلتها" ثم رواه من وجه آخر عن شيبان وهو ابن عبد الرحمن به - وأبو الحارث غير معروف.
(حديث آخر) - قال ابن جرير: حدثنا يحيى عن عبيد الله، حدثنا القاسم عن عائشة: أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت زوجاً، فطلقها قبل أن يمسها، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول ؟ فقال: "لا، حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول " أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبد الله بن عمر العمري عن القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن عمته عائشة به.
(طريق أخرى) - قال ابن جرير: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري وسفيان بن وكيع وأبو هشام الرفاعي، قالوا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته، فتزوجت رجلاً غيره، فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها، أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته" ، وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية وهو محمد بن حازم الضرير به.
(طريق أخرى) - قال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن العلاء الهمداني، حدثنا أبو أسامة عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها، فتتزوج رجلاً فيطلقها قبل أن يدخل بها، أتحل لزوجها الأول ؟ قال "لا حتى يذوق عسيلتها" ، قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو فضيل، وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية جميعاً عن هشام بهذا الإسناد، وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم عن هشام به، وتفرد به مسلم من الوجهين الآخرين، وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعاً بنحوه أو مثله - وهذا إسناد جيد، وكذا ورواه ابن جرير أيضاً من طريق علي بن زيد بن جدعان عن امرأة أبيه أمينة أم محمد، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى عن هشام بن عروة، حدثني أبي عن عائشة مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له إنه لا يأيتها وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" تفرد به من هذا الوجه.
(طريق أخرى) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الأعلى عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند(1/344)
النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: أن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر، ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" ، وهكذا رواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك ومسلم من حديث عبد الرزاق والنسائي من حديث يزيد بن زريع، ثلاثتهم عن معمر به، وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم، أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات، وقد رواه الجماعة إلا أبو داود من طريق سفيان بن عيينة والبخاري من طريق عقيل ومسلم من طريق يونس بن يزيد، وعنده آخر ثلاث تطليقات، والنسائي من طريق أيوب بن موسى، ورواه صالح بن أبي الأخضر، كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وقال مالك، عن المسور بن رفاعة القرظي، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير: أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، فنكحت عبد الرحمن بن الزبير فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها، فأراد رفاعة بن سموأل أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن تزوجها، وقال: "لا تحل لك حتى تذوق العسيلة" هكذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك، وفيه انقطاع وقد رواه إبراهيم بن طهمان وعبد الله بن وهب عن مالك، عن رفاعة، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، عن أبيه فوصله.
(فصل) والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها، كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك، أن يطأها الثاني وطأً مباحاً، فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف لم تحل للأول بهذا الوطء، وكذا لو كان الزوج الثاني ذمياً لم تحل للمسلم بنكاحه، لأن أنكحة الكفار باطلة عنده، واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه الصلاة والسلام: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضاً، وليس المراد بالعسيلة المني، لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أن العسيلة الجماع" فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
(الحديث الأول) عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سفيان عن أبي قيس عن الهزيل عن عبد الله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحَلّل والمحَلّل له وآكل الربا وموكله" . ثم رواه أحمد والترمذي والنسائي من غير وجه عن سفيان وهو الثوري عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي عن هزيل بن شرحبيل الأودي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين، ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس.
(طريق أخرى) عن ابن مسعود. قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله عن عبد الكريم عن أبي الواصل عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحَلّل والمحَلّل له".
(طريق أخرى) - روى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن(1/345)
الحارث الأعور عن عبد الله بن مسعود، قال: آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به، والواصلة والمستوصلة، ولاوي الصدقة والمعتدي فيها، والمرتد على عقبيه أعرابياً بعد هجرته، والمحَلِل والمحَلّل له، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
(الحديث الثاني) عن علي رضي الله عنه، قال الإمام أحمد، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن الحارث عن علي قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، والواشمة والمستوشمة للحسن، ومانع الصدقة، والمحَلّل والمحلّل له، وكان ينهى عن النوح". وكذا رواه عن غندر عن شعبة عن جابر وهو ابن يزيد الجعفي عن الشعبي عن الحارث عن علي به، وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد وحصين بن عبد الرحمن ومجالد بن سعيد وابن عون، عن عامر الشعبي به، وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الشعبي به. ثم قال أحمد: أخبرنا محمد بن عبد الله، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الربا وآكله وكاتبه وشاهده، والمحَلّل والمحَلَل له.
(الحديث الثالث) عن جابر رضي الله عنه. قال الترمذي: أخبرنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن يزيد الأيامي، حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله، وعن الحارث عن علي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحَلّل والمحَلَل له" ، ثم قال: وليس إسناده بالقائم. ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل، قال: ورواه ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن علي، قال: وهذا وهم من ابن نمير، والحديث الأول أصح.
(الحديث الرابع) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، أخبرنا أبي، سمعت الليث بن سعد يقول: أبو المصعب مشرح وهو ابن هاعان، قال عقبة بن عامر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بالتيس المستعار" ؟ قالوا: بلى يا رسول صلى الله عليه وسلم، قال: "هو المحَلّل، لعن الله المحَلّل والمحَلَل له" تفرد به ابن ماجه، كذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن عثمان بن صالح عن الليث به، ثم قال: كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكاراً شديداً. (قلت) عثمان هذا أحد الثقات، روى عنه البخاري في صحيحه ثم قد تابعه غيره، فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق، عن أبي صالح عبد الله بن صالح، عن الليث به فبرىء من عهدته، والله أعلم.
(الحديث الخامس) عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحَلّل والمحَلَل له.
(طريق (أخرى) - قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي: حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحَلّل، قال: "لا، إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها" ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن حميد عن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه من هذا، فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر، والله أعلم.
(الحديث السادس) عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا عبد الله هو(1/346)
ابن جعفر عن عثمان بن محمد المقبري عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحَلّل والمحَلَل له، وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني البيهقي من طريق عبد الله بن جعفر القرشي وقد وثقه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم، وأخرج له مسلم في صحيحه عن عثمان بن محمد الأخنسي وثقه ابن معين عن سعيد المقبري وهو متفق عليه.
(الحديث السابع) عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال الحاكم في مستدركه، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني، حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو يمان محمد بن مطرف المدني عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه، هل تحل للأول ؟ فقال: لا إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد رواه الثوري عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به، وهذه الصيغة مشعرة بالرفع وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر، عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحَلّل ولا محَلَل له إلا رجمتهما، وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار، أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وكذا روي عن علي وابن عباس وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي الزوج الثاني بعد الدخول بها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} أي المرأة والزوج الأول {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي يتعاشرا بالمعروف. قال مجاهد أن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي شرائعه وأحكامه {يُبَيِّنُهَا} أي يوضحها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجت بآخر، فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها، ثم تزوجها الأول، هل تعود إليه بما بقي من الثلاث، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق، فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم.
{وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنّ ضِرَاراً لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أن اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
هذا أمر من الله، عز وجل للرجال، إذا طلق أحدهم المرأة طلاقاً له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها، أي يرتجعها، إلى عصمة نكاحه، بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها، أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح، قال الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}، قال ابن عباس، ومجاهد ومسروق والحسن وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن(1/347)
حيان وغير واحد: كان الرجل يطلق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها، ضراراً لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعدهم عليه، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي بمخالفته أمر الله تعالى.
وقوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} قال ابن جرير عند هذه الآية: أخبرنا أبو كريب، أخبرنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن أبي العلاء الأودي، عن حميد بن الرحمن، عن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين، فأتاه أبو موسى قال: يا رسول الله، أغضبت على الأشعريين ؟ فقال: "يقول أحدكم قد طلقت، قد راجعت، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها" ثم رواه من وجه آخر عن أبي خالد الدلال وهو يزيد بن عبد الرحمن، وفيه كلام. وقال مسروق: هو الذي يطلق في غير كنهه، ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة، وقال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع ومقاتل بن حيان: هو الرجل يطلق ويقول: كنت لاعباً، أو يعتق أو ينكح ويقول: كنت لاعباً، فأنزل الله {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} فألزم الله بذلك، وقال ابن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا أبو أحمد الصيرفي، حدثني جعفر بن محمد السمسار، عن إسماعيل بن يحيى عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب لا يريد الطلاق، فأنزل الله {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد، حدثنا آدم، حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن هو البصري، قال: كان الرجل يطلق ويقول: كنت لاعباً ويعتق ويقول: كنت لاعباً، وينكح ويقول: كنت لاعباً، فأنزل الله {ولا تتخذوا آيات الله هزواً}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق أو أعتق أو نكح أو أنكح، جاداً أو لاعباً، فقد جاز عليه" وكذا رواه ابن جرير، من طريق الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن مثله، وهذا مرسل، وقد رواه ابن مردويه، عن طريق عمرو ابن عبيد، عن الحسن، عن أبي الدرداء موقوفاً عليه. وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن الحسن بن أيوب، حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سلمة عن الحسن عن عبادة بن الصامت في قول الله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزواً}. قال: كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل: زوجتك ابنتي ثم يقول: كنت لاعباً، ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعباً، فأنزل الله {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من قالهن لاعباً أو غير لاعب، فهن جائزات عليه: الطلاق والعتاق والنكاح" والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء عن ابن ماهك عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة" وقال الترمذي: حسن غريب.
وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ، أي في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} ، أي السنة {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ، أي فيما تأتون وفيما تذرون، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك.
{وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذَلِكُمْ أَزْكَىَ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1/348)
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها. وكذا روى العوفي عنه عن ابن عباس أيضاً، وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي والزهري والضحاك: إنها أنزلت في ذلك، وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لابد في النكاح من ولي، كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية، كما جاء في الحديث "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها" وفي الأثر الآخر "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل" وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء، محرر في موضعه من كتب الفروع، وقد قررنا ذلك في كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته، فقال البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن، قال: حدثني معقل بن يسار، قال: كانت لي أخت تخطب إلي، قال البخاري: وقال إبراهيم عن يونس، عن الحسن، حدثني معقل بن يسار، وحدثنا أبو معمر، وحدثنا عبد الوارث، حدثنا يونس عن الحسن، أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها، فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها، فأبى معقل، فنزلت {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن، عن معقل بن يسار به، وصححه الترمذي أيضاً، ولفظه عن معقل بن يسار، أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع بن لكع! أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك، قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك، زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني. وروى ابن جرير، عن ابن جريج، قال: هي جُمْل بنت يسار، كانت تحت أبي البداح. وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: هي فاطمة بنت يسار. وهكذا ذكر غير واحد من السلف، أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته. وقال السدي: نزلت في جابر بن عبد الله وابنة عم له والصحيح الأول والله أعلم.
وقوله: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به، ويتعظ به، وينفعل له {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} أيها الناس {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي يؤمن بشرع الله، ويخاف وعيد الله وعذابه، في الدار الآخرة، وما فيها من الجزاء {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي إتباعكم شرع الله، في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحمية في ذلك أزكى لكم وأطهر لقلوبكم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أي من المصالح، فيما يأمر به وينهى عنه {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي الخيرة فيما تأتون، ولا فيما تذرون.
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أن يُتِمّ الرّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتّمْ أن تَسْتَرْضِعُوَاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلّمْتُم مّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أن اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(1/349)
هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك، ولهذا قال {لِمَنْ أَرَادَ أن يُتِمّ الرّضَاعَةَ} وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم. قال الترمذي: (باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين) حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين، فإنه لا يحرم شيئاً، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي امرأة هشام بن عروة. (قلت) تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ورجاله على شرط الصحيحين، ومعنى قوله "إلا ما كان في الثدي" أي في محال الرضاعة قبل الحولين، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن وكيع، وغندر عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: لما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن ابني مات في الثدي، أن له مرضعاً في الجنة" ، وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة وإنما قال عليه السلام ذلك، لأن ابنه إبراهيم عليه السلام، مات وله سنة وعشرة أشهر، فقال: أن له مرضعاً، يعني تكمل رضاعه، ويؤيده ما رواه الدارقطني من طريق الهيثم بن جميل عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين" ثم قال: ولم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. (قلت) وقد رواه الإمام مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد، عن ابن عباس مرفوعاً، ورواه الدراوردي عن ثور، عن عكرمة، عن ابن عباس، وزاد "وما كان بعد الحولين فليس بشيء" وهذا أصح.
وقال أبو داود الطيالسي، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام" وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي}، وقال {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين، يروى عن علي وابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي هريرة وابن عمر وأم سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء والجمهور، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبي يوسف ومحمد ومالك في رواية، وعنه أن مدته سنتان وشهران، وفي رواية: وثلاثة أشهر. وقال أبو حنيفة: سنتان وستة أشهر. وقال زفر بن الهذيل: ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين، وهذا رواية عن الأوزاعي، قال مالك: ولو فطم الصبي دون الحولين، فأرضعته امرأة بعد فصاله، لم يحرم لأنه قد صار بمنزلة الطعام، وهو رواية عن الأوزاعي، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا: لا رضاع بعد فصال، فيحتمل أنهما أرادا الحولين، كقول الجمهور: سواء فطم أو لم يفطم ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك، والله أعلم، وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم، وهو قول عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها، فترضعه، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورأين ذلك من الخصائص، وهو قول الجمهور، وحجة الجمهور وهم الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، والأكابر من الصحابة، وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، سوى عائشة ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انظرن من إخوانكم فإنما الرضاعة من المجاعة" وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع وفيما يتعلق برضاع الكبير، عن قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ}.(1/350)
وقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره، وتوسطه وإقتاره، كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.
وقوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أي بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالباً، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت، ولكن أن كانت مضارة لأبيه، فلا يحل لها ذلك، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها، ولهذا قال: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضراراً بها، قاله مجاهد وقتادة والضحاك والزهري والسدي والثوري وابن زيد وغيرهم.
وقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قيل: في عدم الضرار لقريبه، قاله مجاهد والشعبي والضحاك، وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها، وهو قول الجمهور، وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره، وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف، ويرجح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعاً "من ملك ذا رحم محرم، عتق عليه" وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو في عقله. وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: أنه رأى امرأة ترضع بعد الحولين، فقال: لا ترضعيه.
وقوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه، كما قال في سورة الطلاق {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}.
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها أو العذر له، فلا جناح عليهما في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف، قاله غير واحد. وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في جميع أحوالكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.
{وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيَ أَنْفُسِهِنّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن، أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال، وهذا الحكم(1/351)
يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي: أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها ولم يفرض لها، فترددوا إليه مراراً في ذلك، فقال أقول فيها برأيي، فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملاً، وفي لفظ: لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد الله بذلك فرحاً شديداً، وفي رواية: فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها، وهي حامل، فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع، أو أربعة أشهر وعشر للجمع بين الآيتين، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه، أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، وفي رواية: فوضعت حملها بعده بليال، فلما تعلت من نفاسها، تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال لها: ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح ؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج أن بدا لي، قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة، يعني لما احتج عليه به، قال: ويصحح ذلك عنه، أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة. وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة، شهران وخمس ليال على قول الجمهور، لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد، فكذلك فلتكن على النصف منها في العدة. ومن العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية، ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة، وقد ذكر سعيد بن المسيب، وأبو العالية وغيرهما، أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، لاحتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظر به هذه المدة، ظهر أن كان موجوداً، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح" فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، والله أعلم. قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر ؟ قال: فيه ينفخ الروح، وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح، رواهما ابن جرير، ومن ههنا ذهب الإمام أحمد، في رواية عنه، إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة ههنا، لأنها صارت فراشاً كالحرائر، وللحديث الذي رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص أنه قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد، إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر. ورواه أبو داود عن قتيبة، عن غندر، وعن ابن المثنى، عن عبد الأعلى، وابن ماجه عن علي بن محمد، عن الربيع، ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة، عن مطر الوراق، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة، عن عمرو بن العاص، فذكره. وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث، وقيل أن قبيصة لم يسمع عمراً، وقد(1/352)
ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف، منهم سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير، والحسن وابن سيرين وأبو عياض والزهري وعمر بن عبد العزيز، وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان، وهو أمير المؤمنين، وبه يقول الأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وقال طاوس وقتادة: عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري والحسن بن صالح بن حيي: تعتد بثلاث حيض، وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي. وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة، وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور، وقال الليث: ولو مات وهي حائض، أجزأتها. وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض، فثلاثة أشهر. وقال الشافعي والجمهور: شهر وثلاثة أحب إليّ، والله أعلم.
وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها لما ثبت في الصحيحين عن غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" وفي الصحيحين أيضاً عن أم سملة أن امرأة قالت: يا رسول الله، أن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال "لا" كل ذلك يقول - لا - مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكم في الجاهلية تمكث سنة" قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها، دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به. فقلما تفتض بشيء إلا مات، ومن ههنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها، وهي قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية، كما قاله ابن عباس وغيره، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره. والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان. ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة والاَيسة والحرة والأمة والمسلمة والكافرة، لعموم الآية، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد على الكافرة، وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك، وحجة قائل هذه المقالة قوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" قالوا: فجعله تعبداً، وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها لعدم التكليف، وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها، ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع، والله الموفق للصواب.
وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي انقضت عدتهن، قاله الضحاك والربيع بن أنس، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} قال الزهري: أي على أوليائها. {فِيمَا فَعَلْنَ} يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن، قال العوفي عن ابن عباس: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف. وروي عن مقاتل بن حيان نحوه، وقال ابن جريج عن مجاهد {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال: النكاح الحلال الطيب، وروي عن الحسن والزهري والسدي ونحو ذلك.(1/353)
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيَ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنّ وَلَكِن لاّ تُوَاعِدُوهُنّ سِرّاً إِلاّ أن تَقُولُواْ قَوْلاً مّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوَاْ عُقْدَةَ النّكَاحِ حَتّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوَاْ أن اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوَاْ أن اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
يقول تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أن تعرضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح، قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَآءِ} قال: التعريض أن يقول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها - يعرض لها بالقول بالمعروف - وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة، ونحو هذا، ولا ينتصب للخطبة، وفي رواية: إني لا أريد أن أتزوج غيرك أن شاء الله، ولوددت أني وجدت امرأة صالحة، ولا ينتصب لها ما دامت في عدتها ورواه البخاري تعليقاً فقال: وقال لي طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَآءِ} هو أن يقول: إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة، وهكذا قال مجاهد وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وقتادة والزهري ويزيد بن قسيط ومقاتل بن حيان والقاسم بن محمد وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض: إنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: فإذا حللت فآذنيني، فلما حلت، خطب عليها أسامة بن زيد مولاه، فزوجها إياه، فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها، والله أعلم.
وقوله: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} أي أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن، وهذا كقوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} وكقوله: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} ولهذا قال {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي في أنفسكم، فرفع الحرج عنكم في ذلك. ثم قال: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} قال أبو مجلز وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وسليمان التيمي ومقاتل بن حيان والسدي: يعني الزنا، وهو معنى الزنا، وهو معنى رواية العوفي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} لا تقل لها: إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، ونحو هذا، وكذا روي عن سعيد بن جبير والشعبي وعكرمة وأبي الضحى والضحاك والزهري ومجاهد والثوري، هو أن يأخذ ميثاقها أن لا تتزوج غيره. وعن مجاهد: هو قول الرجل للمرأة: لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك، وقال قتادة: هو أن يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تنكح غيره، فنهى الله عن ذلك، وقدم فيه وأحل الخطبة، والقول بالمعروف، وقال ابن زيد {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} هو أن يتزوجها في العدة سراً، فإذا حلت أظهر ذلك، وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك، لهذا قال {إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي والثوري وابن زيد: يعني به ما تقدم من إباحة التعريض كقوله: إني فيك لراغب ونحو ذلك، وقال محمد بن سيرين: قلت لعبيدة:(1/354)
ما معنى قوله: {إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} ؟ قال: يقول لوليها: لا تسبقني بها، يعني لا تزوجها حتى تعلمني، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يعني ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان والزهري وعطاء الخراساني والسدي والثوري والضحاك: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة، وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في العدة. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها، فدخل بها، فإنه يفرق بينهما، وهل تحرم عليه أبداً ؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد، واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب وسليمان بن يسار، أن عمر رضي الله عنه، قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطباً من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لم ينكحها أبداً وقالوا: ومأخذ هذا أن الزوج لما استعجل ما أحل الله، عوقب بنقيض قصده، فحرمت عليه على التأبيد كالقاتل يحرم الميراث. وقد روى الشافعي هذا الأثر عن مالك. قال البيهقي: وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد، لقول علي أنها تحل له. (قلت) قال: ثم هو منقطع عن عمر. وقد روى الثوري عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق، أن عمر رجع عن ذلك، وجعل لها مهرها وجعلهما يجتمعان.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}، توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يؤيسهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته، فقال {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
{لاّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أن طَلّقْتُمُ النّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ}
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها، وقبل الدخول بها. قال ابن عباس وطاوس وإبراهيم والحسن البصري: المس النكاح، بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها، أن كانت مفوضة وإن كان في هذا إنكسار لقلبها، ولهذا أمر تعالى بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره. وقال سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة، عن ابن عباس: قال، متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أن كان موسراً متعها بخادم أو نحو ذلك، وإن كان معسراً أمتعها بثلاثة أثواب. وقال الشعبي: أوسط ذلك درع وخمار وملحفة وجلباب، قال: وكان شريح يمتع بخمسمائه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب بن سيرين، قال: كان يمتع بالخادم أو بالنفقة أو بالكسوة. قال: ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف، ويروى أن المرأة قالت: متاع قليل من حبيب مفارق. وذهب أبو حنيفة إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها. وقال الشافعي في الجديد: لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، وأحب ذلك إليّ إني أستحسن ثلاثين درهماً، كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما.(1/355)
وقد اختلف العلماء أيضاً: هل تجب المتعة لكل مطلقة أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها، على أقوال: أحدها أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وقد كن مفروضاً لهن ومدخولاً بهن، وهذا قول سعيد بن جبير وأبي العالية والحسن البصري، وهو أحد قولي الشافعي ومنهم من جعله الجديد الصحيح، والله أعلم.
(والقول الثاني) أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس، وإن كانت مفروضاً لها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} قال شعبة وغيره، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة. وقد روى البخاري في صحيحه، عن سهل بن سعد وأبي أسيد. أنهما قالا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شرحبيل، فلما أدخلت عليه، بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين. (القول الثالث) أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها، فإن كان قد دخل بها، وجب لها مهر مثلها إذا كانت وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول، وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع، وكان ذلك عوضاً لها عن المتعة، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها، فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها، هذا قول ابن عمر ومجاهد، ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول، وهذا ليس بمنكور، عليه تحمل آية التخيير في الأحزاب، ولهذا قال تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} ومن العلماء من يقول: إنها مستحبة مطلقاً. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب القزويني، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن أبي إسحاق، عن الشعبي، قال: ذكروا له المتعة، أيحبس فيها ؟ فقرأ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} قال الشعبي: والله ما رأيت أحداً حبس فيها، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة.
{وَإِن طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أن تَمَسّوهُنّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاّ أن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ وَأَن تَعْفُوَاْ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أن اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى، حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول، فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الآية، والله أعلم. وتشطير الصداق والحالة هذه أمر مجمع عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنه متى كان قد سمى لها صداقاً ثم فارقها قبل دخوله بها، فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج وإن لم يدخل بها، وهو مذهب الشافعي في القديم، وبه حكم الخلفاء الراشدون، لكن قال الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، أخبرنا ابن جريج عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال في الرجل يتزوج المرأة(1/356)
فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق، لأن الله يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} قال الشافعي: بهذا أقول، وهو ظاهر الكتاب. قال البيهقي وليث بن أبي سليم، وإن كان غير محتج به، فقد رويناه من حديث ابن أبي طلحة عن ابن عباس فهو مقوله.
وقوله: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} أي النساء، عما وجب لها على زوجها، فلا يجب لها عليه شيء، قال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} قال: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها. قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله: روي عن شريح وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والشعبي والحسن ونافع وقتادة وجابر بن زيد وعطاء الخراساني والضحاك والزهري ومقاتل بن حيان وابن سيرين والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. قال: وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} يعني الرجال، وهو قول شاذ لم يتابع عليه، انتهى كلامه.
وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "ولي عقد النكاح الزوج" وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة به، وقد أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ولم يقل عن أبيه عن جده، فالله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا جابر يعني ابن أبي حازم، عن عيسى يعني ابن عاصم، قال: سمعت شريحاً يقول: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح، فقلت له: هو ولي المرأة، فقال علي: لا، بل هو الزوج، ثم قال: وفي إحدى الروايات عن ابن عباس وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح في أحد قوليه، وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع ومحمد بن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبي مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان، أنه الزوج (قلت) وهذا هو الجديد من قولي الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه، والثوري وابن شبرمة والأوزاعي، واختاره ابن جرير، ومأخذ هذا القول أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج، فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها، وكما أنه لا يجوز للوليّ، أن يهب شيئاً من مال المولية للغير، فكذلك في الصداق، قال: والوجه الثاني حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس - في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح - قال: ذلك أبوها أو أخوها أو من لا تنكح إلا بإذنه. وروي عن علقمة والحسن وعطاء وطاوس والزهري وربيعة وزيد بن أسلم وإبراهيم النخعي وعكرمة في أحد قوليه، ومحمد بن سيرين في أحد قوليه أنه الولي. وهذا مذهب مالك، وقول الشافعي في القديم، ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها. وقال ابن جرير: حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة، قال: أذن الله في العفو وأمر به، فأي امرأة عفت جاز عفوها، فإن شحت وضنت عفا وليها جاز عفوه، وهذا يقتضي صحة عفو الولي وإن كانت رشيدة، وهو مروي عن شريح، لكن أنكر عليه الشعبي، فرجع عن ذلك وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه.
وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. قال ابن جرير: قال بعضهم: خوطب به الرجال والنساء، حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو، وكذا روي عن الشعبي وغيره. وقال مجاهد والنخعي والضحاك(1/357)
ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والثوري: الفضل - ههنا - أن تعفوا المرأة عن شطرها أو إتمام الرجل الصداق لها، ولهذا قال {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} أي الإحسان، قاله سعيد، وقال الضحاك وقتادة والسدي وأبو وائل المعروف: يعني لا تهملوه بل استعملوه بينكم، وقد قال أبو بكر بن مردويه، حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا عبد الله بن الوليد الرصافي عن عبد الله بن عبيد، عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليأتين على الناس زمان عضوض، يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} شرار يبايعون كل مضطر" وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر، فإن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكاً إلى هلاكه، فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه. وقال سفيان: عن أبي هارون، قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي، فكان عون يحدثنا ولحيته ترش من البكاء، ويقول صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هماً حين رأيتهم أحسن ثياباً، وأطيب ريحاً، وأحسن مركباً، وجالست الفقراء فاسترحت بهم، وقال {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فليدع له، رواه ابن أبي حاتم {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم، وسيجزي كل عامل بعمله.
{حَافِظُواْ عَلَى الصّلَوَاتِ والصّلاَةِ الْوُسْطَىَ وَقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلّمَكُم مّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}
ويأمر تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل ؟ قال: "الصلاة في وقتها". قلت: ثم أي ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قلت: ثم أي ؟ قال "برّ الوالدين"، قال: حدثني بهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني. وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، عن القاسم بن غنام، عن جدته أم أبيه الدنيا، عن جدته أم فروة، وكانت ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الأعمال، فقال "إن أحب الأعمال إلى الله تعجيل الصلاة لأول وقتها" وهكذا رواه أبو داود والترمذي، وقال: لا نعرفه إلا من طريق العمري وليس بالقوي عند أهل الحديث، وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى، وقد اختلف السلف والخلف فيها أي صلاة هي ؟ فقيل: إنها الصبح، حكاه مالك في الموطأ بلاغاً عن علي وابن عباس، وقال هشيم وابن علية وغندر وابن أبي عدي وعبد الوهاب وشريك وغيرهم عن عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي، وقال: صليت خلف ابن عباس الفجر، فقنت فيها ورفع يديه، ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين، رواه ابن جرير، ورواه أيضاً من حديث عوف عن خلاس بن عمرو، عن ابن عباس مثله سواء، وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عوف عن أبي المنهال، عن أبي العالية، عن ابن عباس، أنه صلى الغداة في مسجد البصرة، فقنت قبل الركوع، وقال: هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها الله في كتابه، فقال {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وقال أيضاً: حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا الربيع بن أنس عن أبي العالية، قال: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة صلاة الغداة، فقلت لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبي: ما الصلاة الوسطى ؟ قال: هذه الصلاة. وروي(1/358)
من طريق أخرى عن الربيع عن أبي العالية، أنه صلى مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فلما فرغوا قال: قلت لهم: أيتهنّ الصلاة الوسطى ؟ قالوا: التي قد صليتها قبل. وقال أيضاً: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن عثمة عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله، قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح، وحكاه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وأبي أمامة وأنس وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء ومجاهد وجابر بن زيد وعكرمة والربيع بن أنس، ورواه ابن جرير عن عبد الله بن شداد وابن الهاد أيضاً، وهو الذي نص عليه الشافعي رحمه الله، محتجاً بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} والقنوت عنده في صلاة الصبح، ومنهم من قال: هي وسطى باعتبار أنها لا تقصر، وهي بين صلاتين ورباعيتين مقصورتين، وترد المغرب، وقيل: لأنها بين صلاتين جهريتين وصلاتي نهار سريتين، وقيل: إنها صلاة الظهر، قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا ابن أبي ذئب عن الزبرقان يعني ابن عمرو، عن زهرة يعني ابن معبد، قال: كنا جلوساً عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي الظهر، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير، وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثني عمرو بن أبي حكيم، سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وقال: أن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. ورواه أبو داود في سننه من حديث شعبة به وقال أحمد أيضاً: حدثنا يزيد حدثنا ابن أبي ذئب عن الزبرقان أن رهطاً من قريش مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي صلاة العصر فقام إليه رجلان منهم فسألاه، فقال: هي الظهر. ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه، فقال: هي الظهر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وفي تجارتهم، فأنزل الله {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم". والزبرقان هو ابن عمرو بن أمية الضمري، لم يدرك أحداً من الصحابة، الصحيح ما تقدم من روايته عن زهرة بن معبد وعروة بن الزبير. وقال شعبة وهمام عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن زيد بن ثابت، قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. وقال أبو داود الطيالسي وغيره، عن شعبة: أخبرني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان يحدث عن أبيه عن زيد بن ثابت، قال: الصلاة الوسطى هي الظهر، ورواه ابن جرير، عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن عبد الصمد، عن شعبة، عن عمر بن سليمان، عن زيد بن ثابت، قال الصلاة الوسطى هي الظهر، ورواه ابن جرير، عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن عبد الصمد، عن شعبة، عن عمر بن سليمان، عن زيد بن ثابت، في حديث رفعه، قال "الصلاة الوسطى صلاة الظهر". وممن روي عنه أنها الظهر ابن عمر، وأبو سعيد وعائشة، على اختلاف عنهم، وهو قول عروة بن الزبير وعبد الله بن شداد بن الهاد، ورواية عن أبي حنيفة رحمهم الله، وقيل: إنها صلاة العصر. قال الترمذي والبغوي رحمهما الله: وهو قول أكثر علماء الصحابة وغيرهم. وقال القاضي الماوردي: هو قول جمهور التابعين: وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر. وقال أبو محمد بن عطية في تفسيره. وهو قول جمهور الناس. وقال الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في كتابه المسمى بكشف المغطى تبيين الصلاة الوسطى، وقد نص فيه: أنها العصر، وحكاه عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي أيوب وعبد الله بن عمرو وسمرة بن جندب وأبي هريرة وأبي سعيد وحفصة وأم حبيبة وأم سلمة وعن ابن عباس وعائشة على الصحيح عنهم، وبه قال عبيدة وإبراهيم النخعي(1/359)
ورزين وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل وعبيد بن مريم وغيرهم، وهو مذهب أحمد بن حنبل. قال القاضي الماوردي والشافعي قال ابن المنذر: وهو الصحيح عن أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد، واختاره ابن حبيب المالكي، رحمهم الله.
ذكر الدليل على ذلك - قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن شتير بن شكل، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً" ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء، وكذا رواه مسلم من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير، والنسائي من طريق عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل بن حميد، عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وقد رواه مسلم أيضاً من طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار عن علي بن أبي طالب، وأخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وغير واحد من أصحاب المساند والسنن والصحاح من طرق يطول ذكرها عن عبيدة السلماني، عن علي به، ورواه الترمذي والنسائي من طريق الحسن البصري عن علي به، قال الترمذي: ولا يعرف سماعه منه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عاصم عن زر، قال: قلت لعبيدة: سل علياً عن الصلاة الوسطى، فسأله، فقال: كنا نراها الفجر أو الصبح، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم أو بيوتهم ناراً" ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي به. وحديث يوم الأحزاب، وشغل المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن أداء صلاة العصر يومئذ، مروي عن جماعة من الصحابة يطول ذكرهم، وإنما المقصود رواية من نص منهم في روايته، أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. وقد رواه مسلم أيضا من حديث ابن مسعود والبراء بن عازب رضي الله عنهما.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الوسطى صلاة العصر" وحدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا أبان، حدثنا قتادة عن الحسن، عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وسماها لنا أنها هي صلاة العصر، وحدثنا محمد بن جعفر وروح، قالا: حدثنا سعيد عن قتادة، عن الحسن عن سمرة بن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هي العصر" قال ابن جعفر: سئل عن صلاة الوسطى، ورواه الترمذي من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، وقال: حسن صحيح، وقد سمع منه حديث آخر. وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلاة الوسطى صلاة العصر" . (طريق أخرى بل حديث آخر) قال ابن جرير: وحدثني المثنى، حدثنا سليمان بن أحمد الجرشي الواسطي، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني صدقة بن خالد، حدثني خالد بن دهقان، عن خالد بن سبلان، عن كهيل بن حرملة، قال: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى، فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها، ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فقال: أنا أعلم لكم ذلك، فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه ثم خرج إلينا، فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر، غريب من هذا الوجه جداً.
(حديث آخر) - قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا عبد السلام عن مسلم مولى(1/360)
أبي جبير، حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي، قال: كنت جالساً عند عبد العزيز بن مروان، فقال: يا فلان اذهب إلى فلان فقل له: أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى ؟ فقال رجل جالس: أرسلني أبو بكر وعمر، وأنا غلام صغير، أسأله عن الصلاة الوسطى فأخذ أصبعي الصغيرة، فقال "هذه صلا ة الفجر"، وقبض التي تليها، فقال "هذه الظهر"، ثم قبض الإبهام، فقال "هذه المغرب"، ثم قبض التي تليها، فقال "هذه العشاء"، ثم قال "أي أصابعك بقيت ؟" فقلت: الوسطى، فقال "أي الصلاة بقيت ؟" فقلت: العصر، فقال "هي العصر" غريب أيضاً جداً.
(حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي حدثني أبو ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلاة الوسطى صلاة العصر" إسناده لا بأس به.
(حديث آخر) قال أبو الحاتم بن حبان في صحيحه: حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير، حدثنا الجراح بن مخلد، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام بن مورق العجلي، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الوسطى صلاة العصر". وقد روى الترمذي من حديث محمد بن طلحة بن مصرف عن زبيد اليامي، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الوسطى صلاة العصر" ، ثم قال: حسن صحيح، وأخرجه مسلم في صحيحه من طريق محمد بن طلحة به، ولفظه "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" الحديث، فهذه نصوص في المسألة لا تحتمل شيئاً، ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من رواية الزهري عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" وفي الصحيح أيضاً من حديث الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة عن أبي كثير عن أبي المهاجر، عن بريدة بن الحصيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من ترك صلاة العصر، فقد حبط عمله " وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرننا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة، عن أبي تميم عن أبي نصرة الغفاري، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد من أوديتهم، يقال له الحميص، صلاة العصر، فقال "إن هذه الصلاة عرضت على الذين من قبلكم فضيعوها، ألا ومن صلاها ضعف له أجره مرتين، ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا الشاهد" ثم قال: رواه عن يحيى بن إسحاق عن الليث عن جبير بن نعيم عن عبد الله بن هبيرة به، وهكذا رواه مسلم والنسائي جميعاً عن قتيبة عن الليث، وراه مسلم أيضاً من حديث محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن جبير بن نعيم الحضرمي، عن عبد الله بن هبيرة السبائي به، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد أيضاً حدثنا إسحاق، أخبرني مالك، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولىَ عائشة، قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، قالت: إذا بلغت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فآذني، فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليّ { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وقال ابن جرير: حدثني ابن المثنى الحجاج، حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: كان في مصحف عائشة {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وهي صلاة العصر} وهكذا رواه من طريق الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك وقد روى الإمام مالك أيضاً عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع، قال: كنت أكتب مصحفاً لحفصة زوج(1/361)
النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وصلاة العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . هكذا رواه محمد بن إسحاق بن يسار فقال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي ونافع مولى ابن عمر أن عمر بن نافع قال فذكر مثله وزاد كما حفظتها من النبي صلى الله عليه وسلم.
(طريق أخرى عن حفصة) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي بشر، عن عبد الله بن يزيد الأزدي، عن سالم بن عبد الله، أن حفصة أمرت إنساناً أن يكتب لها مصحفاً، فقالت: إذا بلغت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فآذني، فلما بلغ آذنها، فقالت: اكتب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وصلاة العصر}.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عبيد الله عن نافع، أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفاً، فقالت: إذا بلغت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما بلغها أمرته فكتبها {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وصلاة العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. قال نافع: فقرأت ذلك المصحف، فوجدت فيه الواو. وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير أنهما قرأا كذلك، وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبدة، حدثنا محمد بن عمرو، حدثني أبو سلمة عن عمرو بن رافع مولى عمر، قال: كان في مصحف حفصة {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وصلاة العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وتقرير المعارضة أنه عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى بواو العطف التي تقتضي المغايرة، فدل ذلك على أنها غيرها، وأجيب عن ذلك بوجوه (أحدها) أن هذا أن روي على أنه خبر، فحديث علي أصح وأصرح منه، وهذا يحتمل أن تكون الواو زائدة، كما في قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ، أو تكون لعطف الصفات لا لعطف الذوات، كقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وكقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} وأشباه ذلك كثيرة وقال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وقال أبو داود الأيادي:
سلط الموت والمنون عليهم ... فلهم في صدى المقابر هام
والموت هو المنون، قال عدي بن زيد العبادي:
فقدمت الأديم لراهشيه ... فألفى قولها كذباً ومينا
والكذب هو المين، وقد نص سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل: مررت بأخيك وصاحبك، ويكون الصاحب هو الأخ نفسه، والله أعلم، وأما أن روي على أنه قرآن، فإنه لم يتواتر فلا يثبت بمثل خبر الواحد قرآن، ولهذا لم يثبته أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في المصحف، ولا قرأ بذلك أحد من القراء الذين تثبت الحجة بقراءتهم، لا من السبعة ولا من غيرهم. ثم قد روي ما يدل على نسخ هذه التلاوة المذكورة في هذا الحديث، قال مسلم: حدثنا إسحق بن راهويه، أخبرنا يحيى بن آدم عن فضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب، قال: نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ العصر} فقرأناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، ثم نسخها الله عز وجل، فأنزل {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فقال له زاهر رجل كان مع شقيق: أفهي العصر ؟ قال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله عز وجل. قال(1/362)
مسلم: ورواه الأشجعي عن الثوري، عن الأسود، عن شقيق (قلت): وشقيق هذا لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث الواحد، والله أعلم، فعلى هذا تكون هذه التلاوة وهي تلاوة الجادة ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناها أن كانت الواو دالة على المغايرة، وإلا فلفظها فقط، والله أعلم.
وقيل: أن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب، رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وفي إسناده نظر، فإنه رواه عن أبيه عن أبي الجماهير عن سعيد بن بشير، عن قتادة عن أبي الخليل، عن عمه، عن ابن عباس، قال: صلاة الوسطى المغرب. وحكى هذا القول ابن جرير، عن قبيصة بن ذؤيب، وحكى أيضاً عن قتادة على اختلاف عنه، ووجه هذا القول بعضهم بأنها وسطى في العدد بين الرباعية والثنائية، وبأنها وتر المفروضات، وبما جاء فيها من الفضلية، والله أعلم.
وقيل: إنها العشاء الأخير، اختاره علي بن أحمد الواحدي في تفسيره المشهور، وقيل: هي واحد من الخمس لا بعينها وأبهمت فيهن، كما أبهمت ليلة القدر في الحول أو الشهر أو العشر، ويحكى هذا القول عن سعيد بن المسيب وشريح القاضي ونافع مولى ابن عمر، والربيع بن خيثم، ونقل أيضاً عن زيد بن ثابت واختاره إمام الحرمين الجويني في نهايته.
وقيل: بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس، رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر، وفي صحته أيضاً نظر، والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمرو بن عبد البر النمري إمام ما وراء البحر، وإنها لإحدى الكبر إذا اختاره مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر. وقيل: إنها صلاة العشاء وصلاة الفجر. وقيل: بل هي صلاة الجماعة. وقيل: صلاة الجمعة. وقيل صلاة الخوف. وقيل: بل صلاة عيد الفطر. وقيل: بل صلاة الأضحى، وقيل: الوتر. وقيل: الضحى. وتوقف فيها آخرون لما تعارضت عندهم الأدلة، ولم يظهر لهم وجه الترجيح، ولم يقع الإجماع على قول واحد، بل لم يزل النزاع فيها موجوداً من زمان الصحابة وإلى الآن. قال ابن جرير: حدثني محمد بن بشار وابن مثنى، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه، وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها، وإنما المدار ومعترك النزاع في الصبح والعصر، وقد ثبت السنة بأنها العصر فتعين المصير إليها. وقد روى الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمهما الله في كتاب الشافعي رحمه الله، حدثنا أبي سمعت حرملة بن يحيى التجيبي يقول: قال الشافعي، كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم. بخلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ولا تقلدوني، وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد بن حنبل عن الشافعي، وقال موسى أبو الوليد بن أبي الجارود عن الشافعي: إذا صح الحديث وقلت قولاً، فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك، فهذا من سيادته وأمانته، وهذا نفس إخوانه من الأئمة رحمهم الله، أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر، وإن كان قد نص في الجديد وغيره أنها الصبح لصحة الأحاديث أنها العصر، وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدثي المذهب الشافعي، وصمموا على أنها الصبح قولاً واحداً، قال المارودي: ومنهم من حكى في المسألة قولين ولتقرير المعارضات والجوابات موضع آخر غير هذا وقد أفردناه على حدة ولله الحمد والمنة.(1/363)
وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه، وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها، ولهذا لما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الرد على ابن مسعود حين سلّم عليه وهو في الصلاة، اعتذر إليه بذلك وقال "إن الصلاة لشغلاً" . وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله" ، وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل، حدثني الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم، قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت، رواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن إسماعيل به، وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من العلماء حيث ثبت عندهم أن تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة قبل الهجرة إلى المدينة وبعد الهجرة إلى أرض الحبشة، كما دل على ذلك حديث ابن مسعود الذي في الصحيح، قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة فيرد علينا، قال: فلما قدمنا سلمت عليه فلم يرد علي، فأخذني ما قرب وما بعد، فلما سلم قال "إني لم أرد عليك إلا أني كنت في الصلاة، وإن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" وقد كان ابن مسعود ممن أسلم قديماً وهاجر إلى الحبشة، ثم قدم منها إلى مكة مع من قدم فهاجر إلى المدينة، وهذه الآية {وقوموا لله قانتين} مدنية بلا خلاف، فقال قائلون: إنما أراد زيد بن أرقم بقوله: كان الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلاة، الإخبار عن جنس الكلام، واستدل على تحريم ذلك بهذه الآية بحسب ما فهمه منها، والله أعلم، وقال آخرون: إنما أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها، ويكون ذلك قد أبيح مرتين وحرم مرتين، كما اختار ذلك قوم من أصحابنا وغيرهم، والأول أظهر، والله أعلم، وقال الحافظ أبو يعلى: أخبرنا بشر بن الوليد، أخبرنا إسحاق بن يحيى عن المسيب، عن ابن مسعود، قال كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فلم يرد علي، فوقع في نفسي أنه نزل في شيء فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال "وعليك السلام أيها المسلم ورحمة الله، أن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، إذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تكلموا" وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} ، لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال الذي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل، وهي حال القتال والتحام الحرب، فقال {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} أي فصلوا على أي حال كان رجالاً أو ركباناً يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، كما قال مالك عن نافع: أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً على أقدامهم، أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه البخاري وهذا لفظ مسلم، ورواه البخاري من وجه آخر عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أو قريباً منه، ولمسلم أيضاً عن ابن عمر، قال: فإن كان خوف أشد من ذلك، فصل راكباً أو قائماً تومى إيماءً، وفي حديث عبد الله بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله، وكان نحو عرفة أو عرفات، فلما واجهه حانت صلاة العصر، قال فخشيت أن تفوتني فجعلت أصلي وأنا أومى إيماء الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، وهذا من رخص الله التي رخص لعباده ووضعه الاَصار والأغلال عنهم، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: في هذه الآية يصلي الراكب على دابته والراجل على(1/364)
رجليه، قال وروي عن الحسن ومجاهد ومكحول والسدي والحكم ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح، نحو ذلك - وزاد: ويومى برأسه أينما توجه، ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا غسان، حدثنا داود يعني ابن علية عن مطرف، عن عطية، عن جابر بن عبد الله، قال: إذا كانت المسايفة فليومى برأسه حيث كان وجهه، فذلك قوله: {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ، وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك، وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري - زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ - كلاهما عن بكير بن الأخنس الكوفي، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، وبه قال: الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن مهدي عن شعبة، قال: سألت الحكم وحماداً وقتادة عن صلاة المسايفة، فقالوا: ركعة، وهكذا روى الثوري عنهم سواء، وقال ابن جرير أيضاً: حدثني سعيد بن عمرو السكوني، حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا المسعودي، حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله، قال: صلاة الخوف ركعة. واختار هذا القول ابن جرير، وقال البخاري: (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو). وقال الأوزاعي: أن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة، صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال، ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول، وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. هذا لفظ البخاري، ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق لعذر المحاربة إلى غيبوبة الشمس، وبقوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لأصحابه لما جهزهم إلى بني قريظة "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق فصلوا وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير، ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة، فلم يعنف واحداً من الفريقين، وهذا على اختيار البخاري لهذا القول، والجمهور على خلافه، ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء، ووردت بها الأحاديث، لم تكن مشروعة في غزوة الخندق، وإنما شرعت بعد ذلك، وقد جاء مصرحاً بهذا في حديث أبي سعيد وغيره، وأما مكحول والأوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلاة الخوف بعد ذلك لا تنافي جواز ذلك، لأن هذا حال نادر خاص، فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن عمر في فتح تستر وقد اشتهر ولم ينكر، و لله أعلم.
وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي أقيموا صلاتكم كما أمرتم، فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها، {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أي مثل ما أنعم عليكم وهداكم وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد صلاة الخوف {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الآية.
{وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيّةً لأزْوَاجِهِمْ مّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ(1/365)
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنْفُسِهِنّ مِن مّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها، وهي قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}. قال البخاري: حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زريع، عن حبيب، عن ابن أبي مليكة، قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها، قال يا ابن أخي، لا أغير شيئاً منه من مكانه. ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها ؟ فأجابه أمير المؤمنين، بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها، فأثبتها حيث وجدتها، قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فننسخها آية المواريث فجعل لهن الثمن أو الربع مما ترك الزوج، ثم قال: وروي عن أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني والربيع بن أنس أنها منسوخة. وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله بعد {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملاً، فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة، قال: وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان، قالوا: نسختها {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . قال: وروي عن سعيد بن المسيب، قال: نسختها التي في الأحزاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية، (قلت) وروي عن مقاتل وقتادة أنها منسوخة بآية الميراث، وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا روح، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} قال: كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها واجب. فأنزل الله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قال: جعل الله تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية أن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فالعدة كما هي واجب عليها، زعم ذلك عن مجاهد رحمه الله، وقال عطاء: قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت، وهو قول الله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قال عطاء: أن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقول الله {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ} قال عطاء: ثم جاء الميراث، فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت، ولا سكنى لها، ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه بهذا القول، الذي عول عليه مجاهد وعطاء، من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة، كما زعمه الجمهور، حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر(1/366)
وعشر، وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات بأن يمكنّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً أن اخترن ذلك، ولهذا قال {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ} أي يوصيكم الله بهن وصية كقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الآية، وقوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} وقيل: إنما انتصب على معنى فلتوصوا لهن وصية وقرأ آخرون بالرفع وصية على معنى كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير، ولا يمنعنه من ذلك لقوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر، أو بوضع الحمل، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس بن تيمية ورده آخرون، منهم الشيخ أبو عمر بن عبد البر، وقول عطاء ومن تابعه، على أن ذلك منسوخ بآية الميراث، أن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت، فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما قولان للشافعي رحمه الله، وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج، بما رواه مالك في موطئه، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري، رضي الله عنهما، أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم" قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر بي فنوديت له فقال "كيف قلت" ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له شأن زوجي، فقال "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك، فأخبرته فاتبعه وقضى به، وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به. ورواه النسائي أيضاً وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما نزل قوله تعالى: {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} قال رجل: أن شئت أحسنت ففعلت، وإن شئت لم أفعل، فأنزل الله هذه الآية {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} وقد استدل بهذه الآية، من ذهب من العلماء، إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة، أو مفروضاً لها، أو مطلقة قبل المسيس، أو مدخولاً بها، وهو قول عن الشافعي رحمه الله، وإليه ذهب سعيد بن جبير، وغيره من السلف، واختاره ابن جرير، ومن لم يوجبها مطلقاً، يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وأجاب الأولون بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم، فلا تخصيص على المشهور المنصوص، والله أعلم.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده، فيما أمركم ونهاكم عنه، بينه ووضحه وفسره، ولم يتركه مجملاً في وقت احتياجكم إليه {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تفهمون وتتدبرون.(1/367)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُوَاْ أن اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مّن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف، وعنه كانوا ثمانية آلاف وقال أبو صالح: تسعة آلاف، وعن ابن عباس أربعون ألفاً، وقال وهب بن منبه وأبو مالك: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: كانوا أهل قرية يقال لها داوردان. وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد من قبل واسط، وقال سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل أذرعات، وقال ابن جريج عن عطاء قال: هذا مثل. وقال علي بن عاصم: كانوا من أهل داوردان قرية على فرسخ من قبل واسط. وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي، عن المنهال بن عمرو الأسدي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم {مُوتُوا} فماتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم، فذلك قوله عز وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} الآية. وذكر غير واحد من السلف، أن هؤلاء القوم، كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم، وأصابهم بها وباء شديد، فخرجوا فراراً من الموت، هاربين إلى البرية، فنزلوا وادياً أفيح، فملؤوا ما بين عدوتيه، فأرسل الله إليهم ملكين، أحدهما من أسفل الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد، فحيزوا إلى حظائر، وبني عليهم جدران وقبور، وفنوا وتمزقوا وتفرقوا، فلما كان بعد دهر، مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل، يقال له حزقيل، فسأل الله أن يحييهم على يديه، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية، أن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام أن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً، فكان ذلك وهو يشاهد، ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح، أن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فقاموا أحياءً ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت. وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ}، أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم. وفي هذه القصة عبرة ودليل، على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء، طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعاً في أن واحد. ومن هذا القبيل، الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، أخبرنا مالك وعبد الرزاق، أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن عباس، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام(1/368)
حتى إذا كان بسرغ، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فذكر الحديث، فجاءه عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيباً لبعض حاجته فقال: أن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه" فحمد الله عمر ثم انصرف، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به بطريق أخرى لبعضه. قال أحمد: حدثنا حجاج ويزيد العمي، قالا: أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً" قال: فرجع عمر من الشام، وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، عن الزهري بنحوه. وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي كما أن الحذر لا يغني من القدر، كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه، لا يقرب أجلا ولا يبعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وروينا عن أمير الجيوش، ومقدم العساكر، وحامي حوزة الإسلام، وسيف الله المسلول على أعدائه: أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، أنه قال وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفاً. وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء - يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب، ويتأسف على ذلك، ويتألم أن يموت على فراشه. وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} ، يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيل الله، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع، وفي حديث النزول أنه يقول تعالى: "من يقرض غير عديم ولا ظلوم" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود، قال: لما نزلت { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ }، قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض ؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح". قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي، قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك. قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل. وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً بنحوه، وقوله: {قرضاً حسناً} روي عن عمر وغيره من السلف هو النفقة في سبيل الله، وقيل: هو النفقة على العيال، وقيل: هو التسبيح والتقديس. وقوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية، وسيأتي الكلام عليها. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، قال: أتيت أبا هريرة رضي الله عنه، فقلت له: إنه بلغني أنك تقول أن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة، قال: وما أعجبك من ذلك، لقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" هذا حديث غريب، وعلي بن زيد(1/369)
ابن جدعان عنده مناكير، لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب، حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا محمد بن عقبة الرفاعي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فقدم قبلي حاجاً، قال: وقدمت بعده، فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول "إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت: ويحكم، والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فما سمعت هذا الحديث، قال: فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجاً، فانطلقت إلى الحج ألقاه في هذا الحديث، فلقيته لهذا، فقلت: يا أبا هريرة، ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك ؟ قال: ما هو ؟ قلت: زعموا أنك تقول: أن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة، قال: يا أبا عثمان، وما تعجب من ذا، والله يقول {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} ويقول {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} ؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة". وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار، عن سالم، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "من دخل سوقاً من الأسواق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير - كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة" الحديث، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما نزلت {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} إلى آخرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رب زد أمتي" ، فنزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}. قال "رب زد أمتي" ، فنزلت {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وروى ابن أبي حاتم أيضاً. عن كعب الأحبار: أنه جاءه رجل فقال: إني سمعت رجلاً يقول: من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مرة واحدة، بنى الله له عشرة آلاف ألف غرفة من درّ وياقوت في الجنة، أفأصدق ذلك ؟ قال: نعم، أو عجبت من ذلك ؟ قال: نعم، وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما لا يحصي ذلك إلا الله، ثم قرأ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} فالكثير من الله لا يحصى وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أي أنفقوا ولا تبالوا، فا لله هو الرازق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم القيامة.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىَ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيّ لّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ أن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلّوْاْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ}
قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هذا النبي هو يوشع بن نون قال ابن جرير: يعني ابن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، وهذا القول بعيد لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل، وكان ذلك في زمان داود عليه السلام، كما هو مصرح به في القصة، وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة، والله أعلم وقال(1/370)
السدي: هو شمعون. وقال مجاهد: هو شمويل عليه السلام، وكذا قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: وهو شمويل بن بالي بن علقمة بن ترخام بن اليهد بن بهرض بن علقمة بن ماجب بن عموصا بن عزريا بن صفية بن علقمة بن أبي ياشف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام. وقال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث، وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويقيمهم على منهج التوراة، إلى أن فعلوا ما فعلوا، فسلط الله عليهم أعداءهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقاً كثيراً، وأخذوا منهم بلاداً كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه، وذلك أنهم كان عندهم التوراة، والتابوت الذي كان في قديم الزمان، وكان ذلك موروثاً لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب، وأخذوا التوراة من أيديهم، ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل، وانقطعت النبوة من أسباطهم، ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل، فأخذوها فحبسوها في بيت، واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلاماً يكون نبياً لهم، ولم تزل المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلاماً، فسمع الله لها ووهبها غلاماً، فسمته شمويل، أي سمع الله دعائي، ومنهم من يقول: شمعون، وهو بمعناه، فشب ذلك الغلام، ونشأ فيهم، وأنبتها لله نباتاً حسناً، فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه، وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً يقاتلون معه أعداءهم، وكان الملك أيضاً قد باد فيهم، فقال لهم النبي: فهل عسيتم أن أقام الله لكم ملكاً ألا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه، {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} أي وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد، قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم، والله عليم بهم.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكاً منهم، فعين لهم طالوت، وكان رجلاً من أجنادهم، ولم يكن من بيت الملك فيهم، لأن الملك كان في سبط يهوذا، ولم يكن هذا من ذلك السبط، فلهذا قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} ، أي كيف يكون ملكاً علينا {وَنَحْنُ أَحَقّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ} أي هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء، وقيل: دباغاً، وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت، وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف، ثم قد أجابهم النبي قائلاً: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} أي اختاره لكم من بينكم، والله أعلم به منكم، يقول: لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي، بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك، {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أي وهو مع هذا، أعلم منكم، وأنبل، وأشكل منكم، وأشد قوة وصبراً في الحرب ومعرفة بها، أي أتم علماً وقامة منكم، ومن ههنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه¹ ثم قال {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} أي هو الحاكم الذي ما شاء(1/371)
فعل، ولا يُسأل عما يفعل، وهم يسألون لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه، ولهذا قال {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي هو واسع الفضل، يختص برحمته من يشاء، عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه.
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيّهُمْ أن آيَةَ مُلْكِهِ أن يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رّبّكُمْ وَبَقِيّةٌ مّمّا تَرَكَ آلُ مُوسَىَ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ أن فِي ذَلِكَ لآية لّكُمْ أن كُنْتُم مّؤْمِنِينَ}
يقول لهم نبيهم: أن علامة بركة ملك طالوت عليكم، أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} قيل معناه وقار وجلالة. قال عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة {فِيهِ سَكِينَةٌ} أي وقار: وقال الربيع: رحمة، وكذا روي عن العوفي، عن ابن عباس. وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ؟ قال: ما تعرفون من آيات الله فتسكنون إليه، وكذا قال الحسن البصري. وقيل: السكينة طست من ذهب، كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى عليه السلام، فوضع فيها الألواح، ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس، وقال سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي، قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي روح هفافة. وقال ابن جرير، حدثني المثنى، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحواص، كلهم عن سماك عن خالد بن عرعرة، عن علي، قال: السكينة ريح خجوج، ولها رأسان. وقال مجاهد: لها جناحان وذنب. وقال محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر، وجاءهم الفتح. وقال عبد الرزاق: أخبرنا بكار بن عبد الله، أنه سمع وهب بن منبه يقول: السكينة روح من الله تتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم، فتخبرهم ببيان ما يريدون.
وقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} قال ابن جرير: أخبرنا ابن مثنى، حدثنا أبو الوليد، حدثنا حماد عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، في هذه الآية {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} قال: عصاه، ورضاض الألواح، وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة، وزاد: والتوراة. قال أبو صالح {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى} يعني عصا موسى، وعصا هارون، ولوحين من التوراة، والمن. وقال عطية بن سعد: عصا موسى، وعصا هارون، وثياب موسى، وثياب هارون، ورضاض الألواح. وقال عبد الرزاق: سألت الثوري عن قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} ، فقال: منهم من يقول: قفيز من منّ، ورضاض الألواح، ومنهم من يقول: العصا والنعلان.
وقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} قال ابن جريح: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون، قال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وأطاعوا طالوت. وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن بعض أشياخه، جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة، وقيل: على بقرتين. وذكر غيره: أن التابوت كان بأريحا، وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الكبير فأصبح التابوت على رأس الصنم فانزلوه فوضعوه تحته، فأصبح كذلك، فسمروه تحته، فأصبح الصنم مكسور القوائم، ملقى بعيداً، فعلموا أن هذا أمر من الله لا قبل لهم به،(1/372)
فأخرجوا التابوت من بلدهم، فوضعوه في بعض القرى، فأصاب أهلها داء في رقابهم، فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء، فحملوه على بقرتين فسارتا به، لا يقربه أحد إلا مات، حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل، فكسرتا النيرين ورجعتا، وجاء بنو إسرائيل فأخذوه، فقيل: إنه تسلمه داود عليه السلام، وإنه لما قام إليهما خجل من فرحه بذلك، وقيل: شابان منهم، فالله أعلم وقيل: كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها أزدرد.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ} أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي با لله واليوم الآخر.
{فَلَمّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنّهُ مِنّيَ إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمْ فَلَمّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُمْ مُلاَقُواْ اللّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده، ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل، وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفاً، فالله أعلم، أنه قال {إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ} أي مختبركم بنهر، قال ابن عباس وغيره: وهو نهر بين الأردن وفلسطين، يعني نهر الشريعة المشهور، {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} ، أي فلا بأس عليه، قال الله تعالى: {شَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} قال ابن جريج: قال ابن عباس: من اغترف منه بيده روي، ومن شرب منه لم يرو. وكذا رواه السدي عن أبي مالك، عن ابن عباس: وكذا قال قتادة وابن شوذب، وقال السدي: كان الجيش ثمانين ألفاً، فشرب منه ستة وسبعون ألفاً، وتبقى معه أربعة آلاف، كذا قال. وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومسعر بن كدام عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب، قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن، ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن جده، عن البراء بنحوه، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق، فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدة. ولهذا قالوا {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
{وَلَمّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ(1/373)
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
أي لما واجه حزب الإيمان، وهم قليل من أصحاب طالوت، لعدوهم أصحاب جالوت، وهم عدد كثير {قَالُواْ رَبّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} أي أنزل علينا صبراً من عندك {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} أي في لقاء الأعداء، وجنبنا الفرار والعجز {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
قال الله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ} أي غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} ذكروا في الإسرائيليات أنه قتله بمقلاع كان في يده، رماه به فأصابه فقتله، وكان طالوت قد وعده أن قتل جالوت أن يزوجه ابنته، ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له ثم آل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة، ولهذا قال تعالى: {وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ} الذي كان بيد طالوت {وَالْحِكْمَة} أي النبوة بعد شمويل {وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَآءُ} أي مما يشاء الله من العلم الذي اختص به صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ} أي لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} الآية، وقال ابن جرير: حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء" ثم قرأ ابن عمر {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ} وهذا إسناد ضعيف، فإن يحيى بن سعيد هذا، هو ابن العطار الحمصي، وهو ضعيف جداً، ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو حميد الحمصي، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده، وولد ولده، وأهل دويرته، ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله عزّ وجل، ما دام فيهم" وهذا أيضاً غريب ضعيف لما تقدم أيضاً، وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا علي بن إسماعيل بن حماد، أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد، أخبرنا زيد بن الحباب، حدثني حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان رفع الحديث، قال " لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون، وبهم تمطرون، وبهم ترزقون، حتى يأتي أمر الله". وقال ابن مردويه أيضاً: وحدثنا محمد بن أحمد، حدثنا محمد بن جرير بن يزيد، حدثنا أبو معاذ نهار بن معاذ بن عثمان الليثي، عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأبدال في أمتي ثلاثون، بهم ترزقون، وبهم تمطرون، وبهم تنصرون " قال قتادة، إني لأرجو أن يكون الحسن منهم.
وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي ذو منّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضاً، وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.
ثم قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي هذه آيات الله التي قصصناها(1/374)
عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق، أي بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل، {وَإِنَّكَ} يا محمد {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وهذا توكيد وتوطئة للقسم.
{تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ مّنْهُمْ مّن كَلّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً }، وقال ههنا {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} يعني موسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم، وكذلك آدم كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم، الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل، (فإن قيل) فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده، فلطم بها وجه اليهودي، فقال: أي خبيث ؟ وعلى محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى على المسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ فلا تفضلوني على الأنبياء" وفي رواية "لا تفضلوا بين الأنبياء" فالجواب من وجوه (أحدها) أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل، وفي هذا نظر (الثاني) أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع، (الثالث) أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر. (الرابع) لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. (الخامس) ليس مقام التفضيل إليكم، وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد والتسليم له، والإيمان به.
وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبد الله ورسوله إليهم {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} يعني أن الله أيده بجبريل عليه السلام، ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} أي كل ذلك عن قضاء الله وقدره، لهذا قالوا {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ}
يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله، سبيل الخير، ليدّخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم،(1/375)
وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا، {مّن قَبْلِ أن يَأْتِيَ يَوْمٌ} يعني يوم القيامة {لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} أي لا يباع أحد من نفسه ولا يفادي بمال لو بذل، ولو جاء بملء الأرض ذهباً، ولا تنفعه خلة أحد، يعني صداقته بل ولا نسابته، كما قال {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ولا شفاعة: أي ولا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} مبتدأ محصور في خبره، أي ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذٍ كافراً، وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ولم يقل: والظالمون هم الكافرون.
{اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ}
هذه آية الكرسي، ولها شأن عظيم، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان، عن سعيد الجريري، عن أبي السليل، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هو ابن كعب، أن النبي صلى الله عليه وسلم، سأله "أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال الله ورسوله أعلم، فرددها مراراً، ثم قال: آية الكرسي، قال "ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده، أن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش" وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن الجريري به، وليس عنده زيادة: والذي نفسي بيده الخ.
(حديث آخر) عن أبي أيضاً في فضل آية الكرسي، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا مبشر عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدة بن أبي لبابة، عن عبد الله بن أبي بن كعب، أن أباه أخبره أنه كان له جرن فيه تمر، قال: فكان أبي يتعاهده، فوجده ينقص، قال: فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، قال: فقلت: ما أنت ؟ جني أم أنسي ؟ قال: جني. قال: ناولني يدك، قال فناولني يده، فإذا يد كلب وشعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن. قال: لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني. قلت: فما حملك على ما صنعت ؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة، فأحببنا أن نصيب من طعامك. قال: فقال له أبي: فما الذي يجيرنا منكم ؟ قال: هذه الآية، آية الكرسي، ثم غدا إلى النبي فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق الخبيث " وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي، عن حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحضرمي بن لاحق، عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب، عن جده به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
(طريق آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عثمان بن غياث، قال: سمعت أبا السليل، قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس حتى يكثروا عليه، فيصعد على سطح بيت، فيحدث الناس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله: "أي آية في القرآن أعظم ؟" فقال رجل {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال: فوضع يده بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، أو قال: فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي، وقال: "ليهنك العلم يا أبا المنذر".(1/376)
(حديث آخر) عن الأسقع البقري. قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو زيد القرطيسي، حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي، حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسقع رجل صدق، أخبره عن الأسقع البكري، أنه سمعه يقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين، فسأله إنسان: أي آية في القرآن أعظم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " الله لا إله هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} حتى انقضت الآية.
(حديث آخر) - عن أنس - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الحارث، حدثني سلمة بن وردان، أن أنس بن مالك، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلاً من صحابته، فقال "أي فلان هل تزوجت ؟ قال: لا، وليس عندي ما أتزوج به، قال "أوليس معك قل هو الله أحد ؟" قال: بلى، قال "ربع القرآن". قال "أليس معك قل يا أيها الكافرون ؟" قال: بلى. قال: "ربع القرآن". أليس معك إذا زلزلت ؟" قال: بلى. قال "ربع القرآن" قال "أليس معك إذا جاء نصر الله ؟ قال: بلى. قال "ربع القرآن". قال "أليس معك آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم" قال بلى. قال "ربع القرآن".
(حديث آخر) عن أبي ذر جندب بن جنادة. قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع بن الجراح، حدثنا المسعودي، أنبأني أبو عمر الدمشقي، عن عبيد الخشخاش، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست، فقال "يا أبا ذر، هل صليت ؟" قلت: لا. قال "قم فصل". قال: فقمت فصليت، ثم جلست، فقال "يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن". قال: قلت: يا رسول الله، أوَ للإنس شياطين ؟ قال: نعم، قال قلت: يا رسول الله الصلاة ؟ قال "خير موضوع، من شاء أقل، ومن شاء أكثر" قال: قلت: يا رسول الله فالصوم ؟ قال "فرض مجزي وعند الله مزيد" قلت: يا رسول الله فالصدقة ؟ قال "أضعاف مضاعفة". قلت: يا رسول الله، فأيها أفضل ؟ قال: "جهد من مقل، أوسر إلى فقير" قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول ؟ قال: "آدم" قلت: يا رسول الله، ونبي كان ؟ قال: نعم نبي مكلم" قلت: يا رسول الله، كم المرسلون ؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً"، وقال مرة "وخمسة عشر" قلت: يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم ؟ قال: "آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ورواه النسائي.
(حديث آخر) عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه. قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي أيوب، أنه كان في سهوة له، وكانت الغول تجيء فتأخذ، فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال "فإذا رأيتها فقل باسم الله، أجيبي رسول الله". قال: فجاءت، فقال لها، فأخذها، فقالت: إني لا أعود، فأرسلها¹ فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما فعل أسيرك" ؟ قال: أخذتها، فقالت: إني لا أعود، فأرسلتها، فقال: إنها عائدة، فأخذتها مرتين أو ثلاثاً كل ذلك تقول: لا أعود، فيقول "إنها عائدة"، فأخذتها، فقالت: أرسلني، وأعلمك شيئاً تقوله فلا يقربك شيء، آية الكرسي، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم. فأخبره، فقال "صدقت وهي كذوب". ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بندار عن أبي أحمد الزبيري به، وقال حسن غريب. والغول في لغة العرب: الجان إذا تبدى في الليل.
وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة، فقال في كتاب فضائل القرآن، وفي كتاب الوكالة، وفي صفة إبليس من صحيحه، قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: حدثنا عوف عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، أخذته وقلت:(1/377)
لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني فإني محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟" قال: قلت يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته وخليت سبيله، قال "أما إنه قد كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه سيعود" فرصدته، فجاء يحثو الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فأنا محتاج وعليّ عيال، لا أعود. فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالاً، فرحمته وخليت سبيله. قال "أما أنه قد كذبك وسيعود"، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود، فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: وما هي ؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعي الله بها، فخليت سبيله. قال "وما هي ؟" قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟" قلت: لا. قال "ذاك شيطان". كذا رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب، عن عثمان بن الهيثم، فذكره وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا، فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرويه الصفار، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب، أنبأنا مسلم بن إبراهيم، أنبأنا إسماعيل بن مسلم العبدي، أنبأنا أبو المتوكل الناجي، أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة، وكان فيه تمر، فذهب يوماً ففتح الباب، فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف، ودخل يوماً آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف، ثم دخل يوماً آخر ثالثاً، فإذا قد أخذ منه مثل ذلك، فشكا ذلك أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تحب أن تأخذ صاحبك هذا ؟" قال: نعم. قال "فإذا فتحت الباب فقل سبحان من سخرك محمد. فذهب ففتح الباب فقال سبحان من سخرك محمد فإذا هو قائم بين يديه، قال: يا عدو الله، أنت صاحب هذا. قال: نعم، دعني فإني لا أعود، ما كنت آخذاً إلا لأهل بيت من الجن فقراء، فخلى عنه، ثم عاد الثانية، ثم الثالثة، فقلت: أليس قد عاهدتني ألا تعود ؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال لا تفعل، فإنك أن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها، لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير، ذكر ولا أنثى، قال له: لتفعلن ؟ قال: نعم. قال: ما هن ؟ قال {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} قرأ آية الكرسي حتى ختمها، فتركه فذهب فلم يعد، فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما علمت أن ذلك كذلك" وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله، عن شعيب بن حرب، عن إسماعيل بن مسلم، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة به، وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضاً، فهذه ثلاث وقائع.
(قصة أخرى) قال أبو عبيد في كتاب الغريب: حدثنا أبو معاوية، عن أبي عاصم الثقفي، عن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رجل من الإنس، فلقيه رجل من الجن فقال: هل لك أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان، فصارعه فصرعه، فقال: إني أراك ضئيلاً شخيتاً، كأن ذراعيك ذراعا كلب، أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم، أم أنت من بينهم ؟ فقال: إني بينهم لضليع،(1/378)
فعاودني فصارعه فصرعه الإنسي فقال: تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خبخ كخبخ الحمار، فقيل لابن مسعود: أهو عمر ؟ فقال من عسى أن يكون إلا عمر، قال أبو عبيد: الضئيل النحيف الجسم، والخبخ بالخاء المعجمة، ويقال بالحاء المهملة الضراط.
(حديث آخر) عن أبي هريرة. قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه: حدثنا علي بن حمشان، حدثنا سفيان حدثنا بشر بن موسى، حدثنا الحميدي، حدثنا حكيم بن جبير الأسدي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي "، وكذا رواه من طريق آخر عن زائدة، عن حكيم بن جبير، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، كذا قال، وقد رواه الترمذي من حديث زائدة، ولفظه "لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي" ثم قال: غريب، لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم فيه شعبة وضعفه. (قلت) وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين، وغير واحد من الأئمة، وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي.
(حديث آخر) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن نافع، أخبرنا عيسى بن محمد المروزي، أخبرنا عمر بن محمد البخاري، أخبرنا عيسى بن غنجار، عن عبد الله بن كيسان، حدثنا يحيى، أخبرنا بن عقيل، عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب: أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن. فقال ابن مسعود على الخبير سقطت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أعظم آية في القرآن {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
(حديث آخر) في اشتماله على اسم الله الأعظم قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر، أنبأنا عبد الله بن زياد، حدثنا شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} و {ألم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} " إن فيهما اسم الله الأعظم" وكذا رواه أبو داود، عن مسدد والترمذي، عن علي بن خشرم وابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، ثلاثتهم عن عيسى بن يونس، عن عبيد الله بن أبي زياد به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) في معنى هذا، عن أمامة رضي الله عنه، قال ابن مردويه: أخبرنا عبد الله بن نمير، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل، أخبرنا هشام بن عمار، أنبأنا الوليد بن مسلم، أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد، أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه، قال "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة، وآل عمران وطه" وقال هشام وهو ابن عمار خطيب دمشق أما البقرة و {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وفي آل عمران {ألم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وفي طه {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}.
(حديث آخر) عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة، قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن محرز بن مساور الأدمي، أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن، أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس، أخبرنا محمد بن حمير، أخبرنا محمد بن زياد، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة، عن الحسين بن بشر به، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، من حديث محمد بن حمير وهو الحمصي، من رجال البخاري أيضاً، فهو إسناد على شرط البخاري، وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي، أنه حديث موضوع، والله أعلم. وقد روى ابن(1/379)
مردويه من حديث علي والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله، نحو هذا الحديث، ولكن في إسناد كل منهما ضعف. وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، أخبرنا يحيى بن درستويه المروزي، أخبرنا زياد بن إبراهيم، أخبرنا أبو حمزة السكري، عن المثنى، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة، أجعل له قلب الشاكرين، ولسان الذاكرين، وثواب النبيين، وأعمال الصديقين، ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنت قلبه للإيمان، أو أريد قتله في سبيل الله" وهذا حديث منكر جداً.
(حديث آخر) في أنها تحفظ من قرأها في أول النهار وأول الليل. قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني، أخبرنا ابن أبي فديك. عن عبد الرحمن المليكي، عن زرارة بن مصعب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ: {حم} المؤمن إلى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وآية الكرسي، حين يصبح، حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" ثم قال: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة المليكي، من قبل حفظه.
وقد ورد في فضلها أحاديث أخر، تركناها اختصاراً لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث علي في قراءتها عند الحجامة، إنها تقوم مقام حجامتين. وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات، وتلحس للحفظ وعدم النسيان، أوردهما ابن مردويه، وغير ذلك.
وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة
فقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره. وكان عمر يقرأ القيام، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها، لا قوام لها بدون أمره، كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم، فقوله: {لا تَأْخُذُهُ} أي لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس، ولهذا قال: ولا نوم لأنه أقوى من السنة. وفي الصحيح عن أبي موسىَ، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} أن موسى عليه السلام سأل الملائكة: هل ينام الله عز وجل ؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثاً، فلا يتركوه ينام، ففعلوا، ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما، قال: فجعل ينعس وهما في يده، وفي كل يد واحدة، قال: فجعل ينعس وينبه، وينعس وينبه، حتى نعس نعسة، فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما، قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله عز وجل، يقول فكذلك السموات والأرض في يده، وهكذا رواه ابن جرير، عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق فذكره، وهو من أخبار بني إسرائيل، وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل، وأنه منزه عنه، وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل. حدثنا هشام بن يوسف، عن أمية(1/380)
ابن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي عكرمة عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر، قال "وقع في نفس موسى: هل ينام الله ؟ فأرسل إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما قال: فجعل ينام، وكادت يداه تلتقيان، فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى، حتى نام نومة، فاصطفقت يداه، فانكسرت القارورتان، - قال - ضرب الله عز وجل مثلاً، أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض" وهذا حديث غريب جداً، والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي، حدثني أبي عن أبيه، حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى، هل ينام ربك ؟ قال: اتقوا الله، فناداه ربه عز وجل يا موسى، سألوك هل ينام ربك، فخذ زجاجتين في يديك، فقم الليلة، ففعل موسى، فلما ذهب من الليل ثلث نعس، فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما، حتى إذا كان آخر الليل نعس، فسقطت الزجاجتان فانكسرتا، فقال: يا موسى، لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي.
وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه، كقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} كقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وكقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة: "آتي تحت العرش فأخر ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع - قال - فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة".
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله إخباراً عن الملائكة {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.
وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه. ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته، إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}
وقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} قال: علمه، وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم، كلاهما عن مطرف بن طريف به، قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير مثله، ثم قال ابن جرير: وقال آخرون الكرسي موضع القدمين، ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين. وقال شجاع بن مخلد في تفسيره: أخبرنا أبو عاصم، عن سفيان، عن عمار الذهبي، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ؟ قال "كرسيه(1/381)
موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل" كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس، فذكره وهو غلط، وقد رواه وكيع في تفسيره، حدثنا سفيان عن عمار الذهبي، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي، عن محمد بن معاذ، عن أبي عاصم، عن سفيان، وهو الثوري بإسناده عن ابن عباس موقوفاً مثله، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظهير الغزاري الكوفي، وهو متروك عن السدي، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعاً ولا يصح أيضاً. وقال السدي، عن أبي مالك: الكرسي تحت العرش: وقال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش. وقال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السبع والأرضين السبع، بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض، ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرني ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس" قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض ".
وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا سليمان بن أحمد، أخبرنا عبد الله بن وهيب المقري، أخبرنا محمد بن أبي السري العسقلاني، أخبرنا محمد بن عبد الله التميمي، عن القاسم بن محمد الثقفي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي، إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة" ، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده. حدثنا زهير، حدثنا ابن أبي بكر، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه، قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، قال: فعظم الرب تبارك وتعالى، وقال: "إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله" وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما، والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما، والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن خليفة، وليس بذاك المشهور، وفي سماعه من عمر نظر. ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفاً، ومنهم من يرويه عنه مرسلاً، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة، ومنهم من يحذفها. وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه,والله أعلم. وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء، والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية، وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين، أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن، وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع، وهو الفلك الأثير ويقال له الأطلس، وقد رد ذلك عليهم آخرون وروى ابن جرير من طريق جويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش، والصحيح أن الكرسي غير العرش، والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة عن عمر في ذلك، وعندي في صحته نظر، والله أعلم.
وقوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض، ومن فيهما، ومن بينهما،(1/382)
بل ذلك سهل عليه، يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره، ولا رب سواه، فقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} كقوله: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح، أمروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
يقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ} أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه علي بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً، وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاماً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تكون مقلاة، فتجعل على نفسها أن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ، وقد رواه أبو داود والنسائي جميعاً عن بندار به، ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه. وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم، أنها نزلت في ذلك. وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد، عن ابن عباس قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف، يقال له الحصيني، كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا استكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل الله فيه ذلك، رواه ابن جرير. وروى السدي نحو ذلك، وزاد: وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتاً، فلما عزما على الذهاب معهم، أراد أبوهما أن يستكرههما، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما، فنزلت هذه الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عوف، أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أسق، قال: كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب، فكان يعرض علي الإسلام، فآبى، فيقول {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ويقول: يا أسق، لو أسلمت لا ستعنا بك على بعض أمور المسلمين، وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء، أن هذه محمولة على أهل الكتاب، ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية، وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال، وإنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف، دين الإسلام، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه، ولم ينقد له أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل، وهذا معنى الإكراه، قال الله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا(1/383)
فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وفي الصحيح "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال، ثم بعد ذلك يسلمون، وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن حميد عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل "أسلم"، قال: إني أجدني كارهاً، قال: "وإن كنت كارهاً" فإنه ثلاثي صحيح ، ولكن ليس من هذا القبيل، فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له، بل هي كارهة، فقال له: أسلم وإن كنت كارهاً، فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص.
وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي من خلع الأنداد والأوثان، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده، وشهد أنه لا إله إلا هو {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريق المثلى، والصراط المستقيم، قال أبو قاسم البغوي: حدثنا أبو روح البلدي، حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق عن حسان، هو ابن قائد العبسي قال: قال عمر رضي الله عنه: أن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال، يقاتل الشجاع عمن لا يعرف، ويفر الجبان من أمه، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه، وإن كان فارسياً أو نبطياً. وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري، عن أبي إسحاق عن حسان بن قائد العبسي عن عمر، فذكره، ومعنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان، قوي جداً، فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها، والاستنصار بها.
وقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم، هي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد، ولهذا قال {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} الآية، قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي: هو الإسلام، وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني لا إله إلا الله، وعن أنس بن مالك: العروة الوثقى القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد قال: هو الحب في الله، والبغض في الله، وكل هذه الأقوال صحيحة، ولا تنافي بينها. وقال معاذ بن جبل في قوله: {لا انْفِصَامَ لَهَا} دون دخول الجنة، وقال مجاهد وسعيد بن جبير {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا ابن عوف عن محمد بن قيس بن عباد، قال: كنت في المسجد، فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فصلى ركعتين أوجز فيهما، فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله، فدخلت معه فحدثته، فلما استأنس، قلت له: أن القوم لما دخلت المسجد، قالوا: كذا وكذا، قال: سبحان الله، ما ينبغي لأحد أن يقول مالا يعلم، وسأحدثك لم، إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصصتها عليه، رأيت كأني في روضة خضراء. قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها - وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلى عروة، فقيل لي اصعد عليه، فقلت: لا أستطيع، فجاءني منصف - قال ابن عون هو الوصيف - فرفع ثيابي من خلفي، فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة، فقال: استمسك بالعروة، فاستيقظت وإنها لفي يدي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصتها عليه فقال "أما الروضة، فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، أنت(1/384)
على الإسلام حتى تموت" قال: وهو عبد الله بن سلام. أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون، فقمت إليه. وأخرجه البخاري من وجه آخر، عن محمد بن سيرين به.
(طريق أخرى وسياق آخر) قال الإمام أحمد: أنبأنا حسن بن موسى وعثمان، قالا: أنبأنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن المسيب بن رافع، عن خرشة بن الحر، قال قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء شيخ يتوكأ على عصاً له، فقال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا. فقام خلف سارية فصلى ركعتين، فقلت له: قال بعض القوم: كذا وكذا، فقال: الجنة لله، يدخلها من يشاء، وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا: كأن رجلاً أتاني فقال: انطلق، فذهبت معه فسلك بي منهجاً عظيماً، فعرضت لي طريق عن يساري، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها، ثم عرضت لي طريق عن يميني، فسلكتها حتى انتهيت إلى جبل زلق، فأخذ بيدي فزجل بي حتى أخذت بالعروة، فقال: استمسك، فقلت: نعم، فضرب العمود برجله، فاستمسك بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "رأيت خيراً، أما المنهج العظيم فالمحشر، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار، ولست من أهلها، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام، فاستمسك بها حتى تموت" قال: فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة، قال: وإذا هو عبد الله بن سلام، وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان، وابن ماجه عن أبي شيبة عن الحسن بن موسى الأشيب، كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه، وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر الفزاري به.
{اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مّنَ النّورِ إِلَى الظّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان، يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ولهذا وحد تعالى لفظ النور، وجمع الظلمات، لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة ولكنها باطلة، كما قال {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وقال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن ميسرة، حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، قال: يبعث أهل الأهواء، أو قال: تبعث أهل الفتن، فمن كان هواه الإيمان، كانت فتنته بيضاء مضيئة، ومن كان هواه الكفر، كانت فتنته سوداء مظلمة، ثم قرأ هذه الآية {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ(1/385)
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبّهِ أن آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ويقال نمرود بن فالخ بن عبار بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، والأول قول مجاهد وغيره، قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود، وذو القرنين، والكافران: نمرود وبختنصر، والله أعلم. ومعنى قوله: {أَلَمْ تَرَ} أي بقلبك يا محمد {إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} ، أي وجود ربه، وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} . وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة، إلا تجبره، وطول مدته في الملك، وذلك أنه يقال: أنه مكث أربعمائة سنة في ملكه، ولهذا قال: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} وكان طلب من إبراهيم دليلاً، على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي إنما الدليل على وجوده، حدوث هذه الأشياء، المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار، ضرورة، لأنها لم تحدث بنفسها، فلا بد لها من موجد أوجدها، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له. فعند ذلك قال المحاج - وهو النمرود - {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}. قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي، وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين، قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما - فيقتل، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة - والظاهر والله أعلم - أنه ما أراد هذا لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم، ولا في معناه لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ولهذا قال له إبراهيم، لما ادعى هذه المكابرة: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت، فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهاً كما ادعيت تحيي وتميت، فأت بها من المغرب ؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام، بهت، أي أخرس، فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يلهمهم حجة ولا برهاناً، بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد، وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين، أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه، ومنهم من قد يطلق عبارة رويةً ترديه وليس كما قالوه، بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني، ويبين بطلان ما ادعاه نمرود في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة. وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة. كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت(1/386)
بينهما هذه المناظرة. وروى عبد الرزاق عن معمر، عن زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله، عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه، وقال: أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله، وجاء فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً، فعملت طعاماً، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه، فقال: أنى لك هذا ؟ قالت: من الذي جئت به، فعلم أنه رزق رزقهم الله عز وجل. قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكاً، يأمره بالإيمان بالله، فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك، فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة، عذبه الله بها، فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة، حتى أهلكه الله بها.
{أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىَ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا قَالَ أَنّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىَ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إِلَىَ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أن اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
تقدم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} وهو في قوة قوله: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه، ولهذا عطف عليه بقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} اختلفوا في هذا المار من هو، فروى ابن أبي حاتم، عن عصام بن رواد، عن آدم بن أبي إياس، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي بن أبي طالب، أنه قال: هو عزير. ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه، وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بريدة، وهذا القول هو المشهور وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد، هو أرميا بن حلقيا. قال محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم عن وهب بن منبه، أنه قال: هو اسم الخضر عليه السلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: سمعت سليمان بن محمد اليساري الجاري من أهل الجاري ابن عم مطرف، قال سمعت سلمان يقول: أن رجلاً من أهل الشام يقول: أن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه حزقيل بن بوار. وقال مجاهد بن جبر: هو رجل من بني إسرائيل، وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس، مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} أي ليس فيها أحد، من قولهم خوت الدار تخوي خوياً.
و قوله: {عَلَى عُرُوشِهَا} أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، وقال {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا؟ } وذلك لما رآى من دثورها وشدة خرابها وبعدها(1/387)
عن العود إلى ما كانت عليه، قال الله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} قال: وعمرت البلاد بعد مضي سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، وتراجع بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله عز وجل بعد موته، كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه: كيف يحي بدنه، فلما استقل سوياً (قال) الله له، أي بواسطة الملك: {كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم} قال: وذلك أنه مات أول النهار، ثم بعثه الله في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال {أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير، فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال، ولا التين حمض ولا أنتن، ولا العنب نقص {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} أي كيف يحييه الله عز وجل، وأنت تنظر {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} أي دليلاً على المعاد {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} أي نرفعها، فيركب بعضها على بعض. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن إسماعيل بن حكيم، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} بالزاي ثم قال: صحيح الإسناد. ولم يخرجاه. وقرىء {نُنْشِزُهَا} أي نحييها، قاله مجاهد {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْما}. وقال السدي وغيره تفرقت عظام حماره حوله يميناً ويساراً، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحاً فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حماراً قائماً من عظام لا لحم عليها، ثم كساها الله لحماً وعصباً وعروقاً وجلداً، وبعث الله ملكا فنفخ في منخري الحمار، فنهق بإذن الله عز وجل، وذلك كله بمرأى من العزيز، فعند ذلك لما تبين له هذا كله {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي أنا عالم بهذا، وقد رأيته عيانا، فأنا أعلم أهل زماني بذلك، وقرأ آخرون "قال اعلم" على أنه أمر له بالعلم.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىَ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىَ وَلَكِن لّيَطْمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطّيْرِ فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ ثُمّ اجْعَلْ عَلَىَ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنّ جُزْءًا ثُمّ ادْعُهُنّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام، أسباباً منها أنه لما قال لنمرود {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك، إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة، فقال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، وسعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن ؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي". وكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى، عن وهب به، فليس المراد ههنا بالشك، ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف، وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة أحدها.(1/388)
وقوله: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي، وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن، فروي عن ابن عباس، أنه قال هي الغرنوق والطاوس والديك والحمامة، وعنه أيضاً أنه أخذ وزاً ورألاً وهو فرخ النعام، وديكاً وطاوساً. وقال مجاهد وعكرمة: كانت حمامة وديكاً وطاوساً وغراباً. وقوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي: قطعهن، قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو الأسود الدؤلي ووهب بن منبه والحسن والسدي وغيرهم. وقال العوفي عن ابن عباس {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءاً، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير، فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاء، وجعل على كل جبل منهن جزءاً، قيل أربعة أجبل، وقيل سبعة، قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر، يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعياً ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته، ولهذا قال {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع من شيء، وما شاء كان بلا ممانع، لأنه القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب في قوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل عن سعيد بن المسيب قال: اتفق عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا قال: ونحن شيبة. فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى عندك لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو قوله الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} الآية، فقال ابن عباس: أما أن كنت تقول هذا، فأنا أقول أرجى منها لهذه الأمة، قول إبراهيم {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني محمد بن أبي سلمة عن عمرو، حدثني ابن المنكدر أنه قال: التقى عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أي آية في القرآن أرجى عندك، فقال عبد الله بن عمرو: قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا} الآية، فقال ابن عباس: لكن أنا أقول قول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} فرضي من إبراهيم قوله: {بَلَى} ، قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان، وهكذا رواه الحاكم في المستدرك عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأحزم، عن إبراهيم بن عبد الله السعدي، عن بشر بن عمر الزهراني، عن عبد العزيز بن أبي سلمة بإسناده مثله، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
{مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر(1/389)
أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فقال {مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} . قال سعيد بن جبير: يعني في طاعة الله. وقال مكحول: يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك. وقال شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس: الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف، ولهذا قال تعالى: {كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّئَةُ حَبّةٍ} وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف. قال الإمام احمد: حدثنا زياد بن الربيع أبو خداش، حدثنا واصل مولى ابن عيينة، عن بشار بن أبي سيف الجرمي، عن عياض بن غطيف، قال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابته بجنبه، وامرأته تحيفة قاعدة عند رأسه، قلنا: كيف بات أبو عبيدة ؟ قالت: والله لقد بات بأجر. قال أبو عبيدة: ما بتّ بأجر، وكان مقبلاً بوجهه على الحائط، فأقبل على القوم بوجهه وقال: ألا تسألوني عما قلت ؟ قالوا: ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً أو أماط أذى، فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله عز وجل ببلاء في جسده فهو له حطة" وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به، ومن وجه آخر موقوفاً.
(حديث آخر) - قال الإمام احمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن سليمان، سمعت أبا عمرو الشيباني عن ابن مسعود أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة " ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن مهران عن الأعمش به، ولفظ مسلم: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة".
(حديث آخر) - قال أحمد: حدثنا عمرو بن مجمع أبو المنذر الكندي، أخبرنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم والصوم لي، وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة يوم القيامة، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
(حديث آخر) - قال أحمد: أخبرنا وكيع، أخبرنا الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، الصوم جنة، الصوم جنة" وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج كلاهما عن وكيع به.
(حديث آخر) - قال أحمد: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركيم، عن يُسَيْر بن عميلة، عن خريم بن فاتك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أنفق نفقة في سبيل الله، تضاعف بسبعمائة ضعف".(1/390)
(حديث آخر) - قال أبو داود: أنبأنا محمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أيوب، عن زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف".
(حديث آخر) - قال ابن أبي حاتم: أنبأنا أبي، حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان، حدثنا ابن أبي فديك، عن الخليل بن عبد الله، عن الحسن عن عمران بن حصين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة، ومن غزا في سبيل الله وأنفق في جهة ذلك، فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، وهذا حديث غريب، وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة، عند قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} الآية.
(حديث آخر) - قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن العسكري البزاز، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب، أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي، أخبرنا أبي عن عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر: لما نزلت هذه الآية {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم "رب زد أمتي" قال: فأنزل الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قال "رب زد أمتي" قال: فأنزل الله {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه عن حاجب بن أركين، عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقري، عن أبي إسماعيل المؤدب، عن عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره. وقوله ههنا {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاء} أي بحسب إخلاصه في عمله {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق، سبحانه وبحمده.
{الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيّ حَلِيمٌ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأذَىَ كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاّ يَقْدِرُونَ عَلَىَ شَيْءٍ مّمّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات مناً على من أعطوه، فلا يمنون به على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا بفعل.
وقوله: {وَلاَ أَذًى} أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهاً يحبطون به ما سلف من الإحسان، ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل على ذلك، فقال {لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ} أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه. {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة. {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي على ما خلفوه من الأولاد، ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها، لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.
ثم قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم {وَمَغْفِرَةٌ} أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن فضيل قال: قرأت على معقل بن عبد الله، عن عمرو بن دينار، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف، ألم تسمع قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عن خلقه،(1/391)
{حَلِيمٌ} أي يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم، وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم من حديث شعبة عن الأعمش، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب} وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري، أخبرنا هشيم بن خارجة، أخبرنا سليمان بن عقبة، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر"، وروى أحمد وابن ماجه من حديث يونس بن ميسرة نحوه ثم روى ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه، والنسائي من حديث عبد الله بن يسار الأعرج، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن خمر، والمنان بما أعطى" وقد روى النسائي، عن مالك بن سعد، عن عمه روح بن عبادة، عن عتاب بن بشير، عن خصيف الجزري، عن مجاهد عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه، ولا منان"، وقد رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن المنهال، عن محمد بن عبد الله بن عصار الموصلي، عن عتاب، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس، ورواه النسائي من حديث عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد قوله، وقد روي عن مجاهد، عن أبي سعيد، وعن مجاهد عن أبي هريرة نحوه، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى، ثم قال تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس، أو يقال إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه، قال الضحاك: والذي يتبع نفقته مناً أو أذى، فقال {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو جمع صفوانة، فمنهم من يقول: الصفوان يستعمل مفرداً أيضاً وهو الصفا وهو الصخر الأملس، {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد {فَتَرَكَهُ صَلْداً} أي فترك الوابل ذلك الصفوان صلداً أي أملس يابساً، أي لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب، ولهذا قال {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
{وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله عنهم في ذلك، {وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي وهم متحققون متثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا في معنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح المتفق على صحته "من صام رمضان إيماناً واحتساباً" أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه، قال الشعبي: {وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي تصديقاً ويقيناً، وكذا قال قتادة وأبو صالح وابن زيد، واختاره ابن جرير وقال مجاهد والحسن: أي يتثبتون أين يضعون صدقاتهم.(1/392)
وقوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} ، وهو عند الجمهور: المكان المرتفع من الأرض، وزاد ابن عباس والضحاك وتجري فيه الأنهار. قال ابن جرير رحمه الله: وفي الربوة ثلاث لغات: هن ثلاث قراءات: بضم الراء، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق، وفتحها وهي قراءة بعض أهل الشام، والكوفة,ويقال إنها لغة تميم، وكسر الراء، ويذكر أنها قراءة ابن عباس.
وقوله: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} وهو المطر الشديد، كما تقدم، فآتت {أُكُلَهَا} أي ثمرتها {ضِعْفَيْنِ} أي بالنسبة إلى غيرها من الجنان {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قال الضحاك: هو الرذاذ وهو اللين من المطر، أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبداً، لأنها أن لم يصبها وابل فطل، وأياً ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبداً، بل يتقبله الله ويكثره وينميه كل عامل بحسبه، ولهذا قال {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.
{أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ}
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام هو ابن يوسف، عن ابن جريج سمعت عبد الله بن أبي مليكة، يحدث عن ابن عباس، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عمير، قال: قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نزلت ؟ {أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} قالوا: الله أعلم. فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ضربت مثلاً بعمل، قال عمر: أي عمل ؟ قال ابن عباس: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله، ثم رواه البخاري عن الحسن بن محمد الزعفراني، عن حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، فذكره وهو من أفراد البخاري رحمه الله، وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولاً ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات عياذاً بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل منه شيء وخانه أحوج ما كان إليه، ولهذا قال تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} وهو الريح الشديد {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ فيه} أي أحرق ثمارها وأباد أشجارها، فأي حال يكون حاله ؟ وقد روى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس، قال: ضرب الله مثلا حسناً وكل أمثاله حسن، قال {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يقول صنعه في شيبته {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا ردّ إلى الله عز وجل، ليس له خير فيستعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيراً يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند(1/393)
كبره وضعف ذريته. وهكذا روى الحاكم في مستدركه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه "اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني وانقضاء عمري" ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها على المراد منها. كما قال تعالى: { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرْضِ وَلاَ تَيَمّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوَاْ أن اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ الشّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللّهُ يَعِدُكُم مّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}
يأمر تعالى: عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة ههنا، قاله ابن عباس: من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها، قال مجاهد: يعني التجارة بتيسيره إياها لهم، وقال علي والسدي {مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يعني الذهب والفضة، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض، قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثة، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولهذا قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} أي تقصدوا الخبيث {مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون، وقيل معناه {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه، ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا إسحاق، عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد، حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه يا نبي الله قال غشه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان إلى النار، أن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، أن الخبيث لا يمحو الخبيث" والصحيح القول الأول، قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا الحسين بن عمر العبقري، حدثني أبي عن أسباط عن السدي، عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب رضي الله عنه، في قول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الآية، قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل، بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله فيمن فعل ذلك {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}، ثم رواه ابن جرير وابن ماجه وابن مردويه، والحاكم في مستدركه من طريق السدي، عن عدي بن ثابت عن البراء بنحوه، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل عن(1/394)
السدي عن أبي مالك عن البراء رضي الله عنه، {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال: نزلت فينا، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر، فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه، فنزلت {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال: لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده، وكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عبيد الله هو ابن موسى العبسي، عن إسرائيل عن السدي، وهو إسماعيل بن عبد الرحمن، عن أبي مالك الغفاري واسمه غزوان، عن البراء فذكر نحوه، ثم قال وهذا حديث حسن غريب، وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا سليمان بن كثير، عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن لونين من التمر الجعرور والحبيق، وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم، ثم يخرجونها في الصدقة، فنزلت {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين عن الزهري، ثم قال: أسنده أبو الوليد عن سليمان بن كثير عن الزهري، ولفظه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون الحبيق، أن يؤخذ في الصدقة، وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حميد اليحصبي، عن الزهري، عن أبي أمامة، ولم يقل عن أبيه، فذكر نحوه، وكذا رواه ابن وهب، عن عبد الجليل، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن مغفل، في هذه الآية {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: كسب المسلم لا يكون خبيثاً، ولكن لا يصدق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه، وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حماد هو ابن سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب، فلم يأكله ولم ينه عنه، قلت: يا رسول الله، نطعمه المساكين ؟ قال "لا تطعموهم مما لا تأكلون". ثم رواه عن عفان عن حماد بن سلمة به¹ فقلت: يا رسول الله، ألا أطعمه المساكين ؟ قال "لا تطعموهم مما لا تأكلون} . وقال الثوري، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يقول: لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه، رواه ابن جرير، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يقول: لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم، لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه، قال فذلك قوله: {إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه ؟ رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وزاد: وهو قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ثم روي عن طريق العوفي وغيره، عن ابن عباس، نحو ذلك، وكذا ذكره غير واحد.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها، فهو غني عنها، وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير، كقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} وهو غني عن جميع خلقه وجميع خلقه فقراء إليه، وهو واسع الفضل، لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب،(1/395)
فليعلم أن الله غني واسع العطاء، كريم جواد، ويجزيه بها، ويضاعفها له أضعافاً كثيرة، من يقرض غير عديم ولا ظلوم، وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير والتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان" ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} الآية، وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننهما جميعاً، عن هناد بن السري. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلى الموصلي، عن هناد به، وقال الترمذي: حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص، يعني سلام بن سليم، لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديثه، كذا قال: وقد رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره، عن محمد بن أحمد¹ عن محمد بن عبد الله بن مسعود مرفوعاً نحوه¹ ولكن رواه مسعر عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعود، فجعله من قوله، والله أعلم، ومعنى قول تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله. {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق، قال تعالى: {والله يعدكم مغفرة منه} أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء. {وَفَضْلاً} أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
وقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله، وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً "الحكمة القرآن" يعني تفسيره، قال ابن عباس: فإنه قد قرأه البر والفاجر، رواه ابن مردويه، وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يعني بالحكمة الإصابة في القول، وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}: ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن، وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة، وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان ابن زفر الجهني، عن أبي عمار الأسدي، عن ابن مسعود مرفوعاً "رأس الحكمة مخافة الله " وقال أبو العالية في رواية عنه: الحكمة الكتاب والفهم، وقال إبراهيم النخعي، الحكمة الفهم، وقال أبو مالك: الحكمة السنة، وقال ابن وهب، عن مالك، قال زيد بن أسلم: الحكمة العقل، قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفاً في أمر دنياه، عالماً بأمر دينه بصيراً به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة الفقه في دين الله، وقال السدي: الحكمة النبوة، والصحيح أن الحكمة كما قال الجمهور: لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في الأحاديث "من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه" رواه وكيع بن الجراح في تفسيره، عن إسماعيل بن رافع، عن رجل لم يسمه، عن عبد الله بن عمر، وقوله: وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويزيد، قالا: حدثنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم، عن ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل(1/396)
آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن إسماعيل أبي خالد به.
وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل، يعي به الخطاب ومعنى الكلام.
{وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن نّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مّن نّذْرٍ فَإِنّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ أن تُبْدُواْ الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده، وتوعد من لا يعمل بطاعته، بل خالف أمره، وكذب خبره، وعبد معه غيره، فقال {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته.
وقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أي أن أظهرتموها فنعم شيء هي.
وقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة" والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" ، وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال "لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها، فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الله الجبال فقالت: يا رب هل في خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال نعم الحديد. قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال: نعم النار، قالت: يارب فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال: نعم الماء. قالت: يارب فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال: نعم الريح ؟ قالت: يارب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من شماله". وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله، أي الصدقة أفضل ؟ قال "سر إلى فقير أو جهد من مقل" رواه أحمد ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي ذر، فذكره وزاد، ثم شرع في هذه الآية {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية، وفي الحديث المروي "صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب، أنا موسى(1/397)
بن عمير عن عامر الشعبي في قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} قال: أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، أما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ؟" قال: خلفت لهم نصف مالي، وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه، حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم "ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر ؟" فقال: عدة الله وعدة رسوله، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقاً، وهذا الحديث روي من وجه آخر عن عمر رضي الله عنه، وإنما أوردناه ههنا لقول الشعبي: أن الآية نزلت في ذلك، ثم أن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل، سواء كانت مفروضة أو مندوبة، لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسيره هذه الآية، قال: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها فقال بسبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها فقال بخمسة وعشرين ضعفاً.
وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي بدل الصدقات ولا سيما إذا كانت سراً، يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات وقد قرى ويكفر بالجزم عطفاً على محل جواب الشرط وهو قوله: {فَنِعِمَّا هِيَ} كقوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجزيكم عليه.
{لّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَآءِ الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
قال أبو عبد الرحمن النسائي: أنبأنا محمد بن عبد السلام بن عبد الرحيم، أنبأنا الفريابي حدثنا سفيان عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرخص لهم، فنزلت هذه الآية {لّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} . وكذا رواه أبو حذيفة وابن المبارك وأبو أحمد الزبيدي وأبو داود الحضرمي عن سفيان، وهو الثوري به، وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن يعني الدشتكي، حدثني أبي عن أبيه، حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين، وسيأتي عند قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} الآية، حديث أسماء بنت الصديق في ذلك.(1/398)
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ} كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } ونظائرها في القرآن كثيرة.
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللّهِ} قال الحسن البصري: نفقة المؤمن لنفسه ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله، وقال عطاء الخراساني: يعني إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله. وهذا معنى حسن وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله، فقد وقع أجره على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب ألبرّ أو فاجر أو مستحق أو غيره، وهو مثاب على قصده، ومستند هذا تمام الآية {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} والحديث المخرج في الصحيحين من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته ".
وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني المهاجرين الذين انقطعوا إلى الله وإلى رسوله وسكنوا المدينة، وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} يعني سفراً للتسبب في طلب المعاش والضرب في الأرض هو السفر، قال الله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ال ْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} وقال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
وقوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم، وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً". رواه أحمد من حديث ابن مسعود أيضاً.
وقوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} وقال {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وفي الحديث الذي في السنن "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
وقوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} أي لا يلحون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن سأل وله ما يغنيه عن المسألة، فقد ألحق في المسألة، قال البخاري: حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شريك بن أبي نمر أن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، إقرؤا إن شئتم يعني قوله : {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر المديني، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار وحده، عن أبي هريرة به،(1/399)
وقال أبو عبد الرحمن النسائي: أخبرنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل، أخبرنا شريك وهو ابن أبي نمر عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة به، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، إنما المسكين المتعفف، اقرؤوا أن شئتم {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وروى البخاري من حديث شعبة، عن محمد بن أبي زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي ذئب، عن أبي الوليد، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بالطواف عليكم فتطعمونه لقمة لقمة، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافاً" وقال ابن جرير: حدثني معتمر عن الحسن بن مالك، عن صالح بن سويد، عن أبي هريرة، قال: ليس المسكين بالطواف الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين المتعفف في بيته لا يسأل الناس شيئاً تصيبه الحاجة، اقرؤوا أن شئتم {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، عن رجل من مزينة أنه قالت له أمه: ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يسأله الناس ؟ فانطلقت أسأله فوجدته قائماً يخطب، وهو يقول "ومن استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق، فقد سأل الناس إلحافاً" فقلت بيني وبين نفسي: لناقة لهي خير من خمس أواق، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسأل، وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن عرفة، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، قال: سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله، فأتيته فقعدت، قال: فاستقبلني فقال "من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكف كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف، قال: فقلت ناقتي الياقوتة خير من أوقية، فرجعت فلم أسأله، وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة، زاد أبو داود وهشام بن عمار كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده نحوه، وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال، عن عمارة بن غزية، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، قال: قال أبو سعيد الخدري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة أوقية فهو ملحف". والأوقية أربعون درهماً، وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن سأل أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً، وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو كدوحاً في وجهه" قالوا: يا رسول الله وما غناه ؟ قال "خمسون درهماً أو حسابها من الذهب". وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي، وقد تركه شعبة بن الحجاج، وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا الحديث، وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا أبو حسين عبد الله بن أحمد بن يونس، حدثني أبي، حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، قال: بلغ الحارث رجلاً كان بالشام من قريش، أن أبا ذر كان به عوز فبعث إليه ثلاثمائة دينار، فقال: ما وجد عبد الله رجلاً أهون عليه مني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سأل وله أربعون فقد ألحف" ولال أبي ذر أربعون درهماً وأربعون شاة وماهنان، قال أبو بكر بن عياش، يعني خادمين، وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أخبرنا إبراهيم بن محمد، أنبأنا(1/400)
عبد الجبار، أخبرنا سفيان عن داود بن سابور، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من سأل وله أربعون درهماً فهو ملحف وهو مثل سف الملة" يعني الرمل، ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان، عن أحمد بن آدم، عن سفيان وهو ابن عيينة بإسناده نحوه قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي لا يخفى عليه شيء منه وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.
وقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل ونهار، والأحوال من سر وجهر، حتى أن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضاً، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضاً عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع: "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في فيّ أمرأتك". وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وبهز، قال: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت، قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدث عن أبي مسعود رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة" ، أخرجاه من حديث شعبة به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن شعيب، قال: سمعت سعيد بن يسار عن يزيد بن عبد الله بن عريب المليكي، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "نزلت هذه الآية { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في أصحاب الخيل. وقال حبش الصنعاني عن ابن شهاب، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله، رواه ابن أبي حاتم ثم قال: وكذا روي عن أبي أمامة وسعيد بن المسيب ومكحول، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا يحيى بن يمان عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن ابن جبير، عن أبيه، قال: كان لعلي أربعة دراهم، فأنفق درهماً ليلاً ودرهماً نهاراً ودرهماً سراً ودرهماً علانية، فنزلت {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً}، وكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الوهاب بن مجاهد، وهو ضعيف، ولكن رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس، أنها نزلت في علي بن أبي طالب، وقوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} تقدم تفسيره.
{الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوَاْ إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها، إلى بعثهم ونشورهم، فقال { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ، أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً. وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق، رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي(1/401)
والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وحكي عن عبد الله بن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} يعني لا يقومون يوم القيامة، وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد والضحاك وابن زيد، وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حنيف، عن أبي عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أنه كان يقرأ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يوم القيامة} وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا ربيعة بن كلثوم، حدثنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقرأ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وذلك حين يقوم من قبره. وفي حديث أبي سعيد في الإسراء، كما هو مذكور في سورة سبحان، أنه عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء أكلة الربا. رواه البيهقي مطولاً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء أكلة الربا" . ورواه الإمام أحمد، عن حسن وعفان وكلاهما عن حماد بن سلمه به، وفي إسناده ضعف. وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: فأتينا على نهر، حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح، ثم يأتي الذي قد جمع الحجارة عنده، فيفغر له فاه فيلقمه حجراً، نذكر في تفسيره أنه آكل الربا.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}، أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياساً منهم للربا على البيع، لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أي هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا، وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} يحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم، أي على ما قالوه من الاعتراض، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم ينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل، ولهذا قال: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه، فله ما سلف من المعاملة، لقوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس" ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف، كما قال تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} قال سعيد بن جبير والسدي: فله ما سلف ما كان أكل من الربا قبل التحريم. وقال ابن أبي حاتم: قرى على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أيفع، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة أم ولد لزيد بن أرقم: يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت: نعم، قالت: فإني(1/402)
بعته عبداً إلى العطاء بثمانمائة، فأحتاج إلى ثمنه، فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة، فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن لم يتب، قال: فقلت أرأيت أن تركت المائتين وأخذت الستمائة ؟ قالت: نعم {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة، مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة، ثم قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ} أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة، ولهذا قال: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقد قال أبو داود: حدثنا يحيى أبو داود، حدثنا يحيى بن معين، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي، عن عبد الله بن عثمان خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: لما نزلت {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله" ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن خثيم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض والمزابنة: وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل وبالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا - يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا - والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله، لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه" وفي السنن عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وفي الحديث الآخر: "الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس" وفي رواية "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" وقال الثوري عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، آية الربا، رواه البخاري عن قبيصة عنه، وقال أحمد عن يحيى عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن سعيد بن المسيب، أن عمر قال: من آخر ما نزل، آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة، وقال رواه ابن ماجه وابن مردويه من طريق هياج بن بسطام، عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم، إلى ما لا يريبكم، وقد قال ابن أبي عدي بالإسناد موقوفاً، فذكره ورده الحاكم في مستدركه، وقد قال ابن ماجه، حدثنا عمرو بن علي الصيرفي، حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن زبيد عن إبراهيم عن مسروق عن(1/403)
عبد الله، هو ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون باباً" ورواه الحاكم في مستدركه: من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناده مثله، وزاد "أيسرها أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقال ابن ماجه: حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبي معشر عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الربا سبعون جزءاً، أيسرها أن ينكح الرجل أمه" وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم عن عباد بن راشد، عن سعيد بن أبي خيرة، حدثنا الحسن منذ نحو أربعين أو خمسين سنة، عن أبي هريرة أن رسول الله. صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا" ، قال: قيل له: الناس كلهم ؟ قال "من لم يأكله منهم ناله من غباره" ، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، من غير وجه، عن سعيد بن أبي خيرة، عن الحسن به، ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات، الحديث الذي رواه الإمام أحمد، حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش، عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة، قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن، فحرم التجارة في الخمر، وقد أخرجه الجماعة، سوى الترمذي، من طرق من الأعمش به، وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه الآية، فحرم التجارة، وفي لفظ له عن عائشة، قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر، قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك، كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها" وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما، عند لعن المحلّل في تفسير قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه" ، قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي، ويكون داخله فاسداً، فالاعتبار بمعناه لا بصورته، لأن الأعمال بالنيات، وفي الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم" وقد صنف الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية، كتاباً في إبطال التحليل، تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل، وقد كفى في ذلك، وشفى، فرحمه الله، ورضي عنه.
{يَمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ كَفّارٍ أَثِيمٍ أن الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا، أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة، كما قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} وقال تعالى :{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} وقال {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} الآية، وقال ابن جرير: في قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل، وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده، فقال: حدثنا حجاج. حدثنا شريك، عن الركين بن الربيع عن أبيه، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل" ، وقد رواه ابن ماجه:(1/404)
عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون، عن يحيى بن زائدة عن إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل" ، وهذا من باب المعاملة، بنقيض المقصود، كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا الهيثم بن نافه الظاهري، حدثني أبو يحيى رجل من أهل مكة، عن فروخ مولى عثمان، أن عمر وهو يومئذٍ أمير المؤمنين، خرج من المسجد فرأى طعاماً منشوراً، فقال: ما هذا الطعام ؟ فقالوا: طعام جلب إلينا، قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه، قيل: يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر، قال: من احتكره ؟ قالوا: فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر، فأرسل إليهما، فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا: يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام"، فقال فروخ عند ذلك: أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبداً، وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع، قال أبو يحيى: فلقد رأيت مولى عمر مجذوماً، ورواه ابن ماجه من حديث الهيثم بن رافع به، ولفظه "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام".
وقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} قرى بضم الياء والتخفيف، من ربا الشيء يربو وأرباه يربيه، أي كثره ونماه ينميه، وقرى يربي بالضم والتشديد من التربية، قال البخاري: حدثنا عبد الله بن كثير، أخبرنا كثير سمع أبا النصر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى يكون مثل الجبل" كذا رواه في كتاب الزكاة، وقال في كتاب التوحيد: وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار فذكره بإسناده نحوه، وقد رواه مسلم في الزكاة، عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن خالد بن مخلد، فذكره، قال البخاري ورواه مسلم بن أبي مريم، وزيد بن أسلم، وسهيل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: أما رواية مسلم بن أبي مريم، فقد تفرد البخاري بذكرها، وأما طريق زيد بن أسلم، فرواها مسلم في صحيحه، عن أبي الطاهر بن السرح عن أبي وهب، عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به، وأما حديث سهيل، فرواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل به، والله أعلم، قال البخاري: وقال ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن العباس المروزي، عن أبي النضر، هاشم بن القاسم، عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري، عن عبد الله بن دينار، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلّوه، حتى يكون مثل أحد" وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن سعد المقبري، وأخرجه النسائي من رواية مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ومن طريق يحيى القطان، عن محمد بن عجلان، ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع، عن عباد بن منصور، حدثنا القاسم بن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول، الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه، حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد" وتصديق ذلك في كتاب الله {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وكذا رواه أحمد، عن وكيع، وهو في(1/405)
تفسير وكيع، ورواه الترمذي، عن أبي كريب عن وكيع به، وقال: حسن صحيح، وكذا رواه الثوري عن عباد بن منصور به، ورواه أحمد أيضاً عن خلف بن الوليد، عن ابن المبارك، عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور، كلاهما عن أبي نضرة، عن القاسم به، وقد رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول، الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه، فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيلة، وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله، أو قال في كف الله حتى تكون مثل أحد، فتصدقوا" وهكذا رواه أحمد: عن عبد الرزاق، وهذا طريق غريب صحيح الإسناد، ولكن لفظه عجيب، والمحفوظ ما تقدم، وروي عن عائشة أم المؤمنين، فقال الإمام أحمد، حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد عن ثابت، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلّوه أو فصيلة حتى يكون مثل أحد" تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فيتلقاها الرحمن بيده، فيربيها كما يربي أحدكم فلّوه أو وصيفه" أو قال فصيلة، ثم قال: لا نعلم أحداً رواه عن يحيى بن سعيد عن عمرة إلا أبا أويس.
وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}، أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل - ثم قال تعالى مادحاً للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبراً عما أعد لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا أن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىَ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدّقُواْ خَيْرٌ لّكُمْ أن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، ناهياً لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه، فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال، بعد هذا الإنذار {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك، وقد ذكر زيد بن أسلم، وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي، أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاورا وقالت بني المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام(1/406)
بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد، نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فقالوا نتوب إلى الله، ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم، وهذا تهديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار قال ابن جريج: قال ابن عباس: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} ، أي استيقنوا بحرب من الله و رسوله، وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم، عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه، كان حقاً على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن وابن سيرين، أنهما قالا: والله أن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلا وضع فيه السلاح.
وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون، وجعلهم بهرجاً أين ما أتوا، فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم، وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل، رواه ابن جرير، وقال السهيلي: ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة: أخبريه أن جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب، فخصت الجهاد لأنه ضد قوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال: وهذا المعنى ذكره كثير، قال: ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ} أي بأخذ الزيادة {وَلا تُظْلَمُونَ} أي بوضع رؤوس الأموال أيضاً، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب، حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان، عن شبيب بن غرقدة المبارقي، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال: "ألا أن كل رباً كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب، موضوع كله" وكذا وجده سليمان بن الأحوص، وقال ابن مردويه: حدثنا الشافعي، حدثنا معاذ بن المثنى، أخبرنا مسدد، أخبرنا أبو الأحوص، حدثنا شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أن كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون" وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبي حمزة الرقاشي عن عمر وهو ابن خارجة، فذكره.
وقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، ثم يندب إلى الوضع عنه، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين، وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
(فالحديث الأول) عن أبي أمامة أسعد بن زرارة. قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني، حدثنا يحيى بن حكيم المقوم، حدثنا محمد بن بكر البرساني، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثني عاصم(1/407)
بن عبيد الله، عن أبي أمامة أسعد بن زرارة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فلييسر على معسر أو ليضع عنه".
(حديث آخر) عن بريدة. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الوارث، حدثنا محمد بن جحادة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة" قال: ثم سمعته يقول: "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثلاه صدقة" قلت: سمعتك يا رسول الله تقول "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة". ثم سمعتك تقول "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثلاه صدقة" ، قال: "له لكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة".
(حديث آخر) عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري. قال أحمد: حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا أبو جعفر الخطمي، عن محمد بن كعب القرظي، أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه فيختبى منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي، فسأله عنه، فقال: نعم هو في البيت يأكل خزيرة، فناداه، فقال: يا فلان، اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا، فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني ؟ فقال إني معسر وليس عندي شيء، قال: آلله أنك معسر ؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نفس عن غريمه، أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة" ، ورواه مسلم في صحيحه.
(حديث آخر) عن حذيفة بن اليمان، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا الأخنس أحمد بن عمران، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال: ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها - قالها ثلاث مرات - قال العبد عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال، وكنت رجلاً أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر، قال: فيقول الله عز وجل: أنا أحق من ييسر، ادخل الجنة". وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه من طرق عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، زاد مسلم وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ولفظ البخاري: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا الزهري عن عبد الله بن عبد الله، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه".
(حديث آخر) عن سهل بن حنيف، قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك، حدثنا عمرو بن ثابت، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الله بن سهل بن حنيف، أن سهلاً حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من أعان مجاهداً في سبيل الله أو غازياً أو غارماً في عسرته أو مكاتباً في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمر، قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، عن يوسف بن صهيب، عن زيد العمى عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته، فليفرج عن معسر" . انفرد به أحمد.(1/408)
(حديث آخر) عن أبي مسعود عقبة بن عمرو. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا أبو مالك عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، أن رجلاً أتى به الله عز وجل، فقال: ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال له الرجل: ما عملت مثقال ذرة من خير، فقال ثلاثاً، وقال في الثالثة: إني كنت أعطيتني فضلاً من المال في الدنيا، فكنت أبايع الناس، فكنت أيسر على الموسر، وأنظر المعسر. فقال تبارك وتعالى: نحن أولى بذلك منك، تجاوزا عن عبدي، فغفر له. قال أبو مسعود: هكذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به.
(حديث آخر) عن عمران بن حصين. قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي داود، عن عمران بن حصين قال، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له على رجل حق فأخره، كان له بكل يوم صدقة" ، غريب من هذا الوجه، وقد تقدم عن بريدة نحوه.
(حديث آخر) عن أبي اليسر كعب بن عمرو. قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، قال: حدثنا أبو اليسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله". وقد أخرجه مسلم في صحيحه ومن وجه آخر من حديث عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غلام له معه ضمامة من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري، وعلى غلامة بردة ومعافري، فقال له أبي: يا عم، إني أرى في وجهك سفعة من غضب، قال: أجل كان لي على فلان بن فلان - الحرامي - مال، فأتيت أهله، فسلمت فقلت: أثم هو ؟ قالوا: لا، فخرج عليّ ابن له جفر، فقلت: أين أبوك ؟ فقال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي، فقلت: اخرج إلي فقد علمت أين أنت، فخرج، فقلت ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت والله معسراً. قال: قلت: آلله. قال: قلت: آلله ؟ قال: الله، ثم قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده، ثم قال: فإن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل، فأشهد بصر عيناي هاتان - ووضع أصبعيه على عينيه - وسمع أذناي هاتان، ووعاه قلبي - وأشار إلى نياط قلبه، رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله في ظله" . وذكر تمام الحديث.
(حديث آخر) عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الحسن بن أسد بن سالم الكوفي، حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري، عن هشام بن زياد القرشي، عن أبيه، عن محجن مولى عثمان، عن عثمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أظل الله عيناً في ظله يوم لا ظل إلا ظله، من أنظر معسراً، أو ترك لغارم".
(حديث آخر) عن ابن عباس. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني، عن مقاتل بن حيان، عن عطاء، عن ابن عباس، قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يقول بيده: هكذا، وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض "من أنظر معسراً أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم ألا أن عمل الجنة حزن بربوة - ثلاثا - ألا أن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً" تفرد به أحمد.(1/409)
(طريق آخر) قال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد البوراني قاضي الحديبية من ديار ربيعة، حدثنا الحسن بن علي الصدائي، حدثنا الحكم بن الجارود، حدثنا ابن أبي المتئد خال ابن عيينة، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسراً إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته".
ثم قال تعالى يعظ عباده، ويذكرهم زوال الدنيا، وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة، والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ، وقد روي أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن العظيم، فقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، رواه ابن أبي حاتم، وقد رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب ابن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: آخر آية نزلت {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} وقد رواه النسائي من حديث يزيد النحوي، عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس، قال: آخر شيء نزل من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ، وكذا رواه الضحاك والعوفي عن ابن عباس، وروى الثوري عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: آخر آية نزلت {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فكان بين نزولها وموت النبي صلى الله عليه وسلم واحد وثلاثون يوماً، وقال ابن جريج: يقولون: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال وبدء يوم السبت ومات يوم الاثنين، رواه ابن جرير، ورواه ابن عطية عن أبي سعيد، قال آخر آية نزلت {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أن يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أن يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَآءِ أن تَضِلّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاُخْرَىَ وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوَاْ أن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىَ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشّهَادَةِ وَأَدْنَىَ أَلاّ تَرْتَابُوَاْ إِلاّ أن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوَاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(1/410)
هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال حدثني سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أنه قال لما نزلت آية الدين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من جحد آدم عليه السلام، إن الله لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج منه ما هو دار إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلاً يزهر، فقال: أي رب من هذا ؟ قال: هو ابنك داود، قال: أي رب، كم عمره، قال ستون عاماً، قال: رب زذ في عمره، قال: لا إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف سنة، فزاده أربعين عاماً، فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة، قال: إنه بقي من عمري أربعون عاماً، فقيل له: إنك وهبتها لابنك داود، قال: ما فعلت، فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة". وحدثنا أسود بن عامر، عن حماد بن سلمة، فذكره وزاد فيه "فأتمها الله لداود مائة وأتمها لآدم ألف سنة". وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يوسف بن أبي حبيب، عن أبي داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة: هذا حديث غريب جداً، وعلي بن زيد بن جدعان في أحاديثه نكارة، وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي وثاب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، ومن رواية أبي داود بن أبي هند، عن الشعبي عن أبي هريرة، ومن طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، ومن حديث تمام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره بنحوه.
فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} قال: أنزلت في السلم إلى أجل غير معلوم، وقال قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس، قال: أشهد السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه، ثم قرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}، رواه البخاري، وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس، قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" ، وقوله: {فَاكْتُبُوهُ} أمر منه تعالى بالكتابة لتوثقة والحفظ، فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة ؟ فالجواب أن الدين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلاً، لأن كتاب الله قد سهل الله ويسر حفظه على الناس، والسنن أيضاً محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس، فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم، قال ابن جريج: من أدان فليكتب، ومن(1/411)
ابتاع فليشهد، وقال قتادة: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلاً صحب كعباً، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوماً دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا: وكيف يكون ذلك ؟ قال: رجل باع بيعاً إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه فلم يستجب له، لأنه قد عصى ربه، وقال أبو سعيد والشعبي والربيع بن أنس والحسن وابن جريج وابن زيد وغيرهم: كان ذلك واجباً، ثم نسخ بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } والدليل على ذلك أيضاً الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقرراً في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد. قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بشهداء أشهدهم. قال: كفى بالله شهيداً، قال ائتني بكفيل قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت,فدفعها إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركباً يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركباً فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلاناً ألف دينار، فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بذلك¹ وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بذلك¹ وإني قد جهدت أن أجد مركباً أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركباً وإني استودعتكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركباً إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً يجيئه بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما كسرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه، فأتاه بألف دينار وقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لأتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه قال: هل كنت بعثت إلىّ بشيء ؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه ؟ قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بألفك راشداً، وهذا إسناد صحيح وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة معلقاً بصيغة الجزم، فقال وقال الليث بن سعيد فذكره، ويقال إنه في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه.
وقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أي بالقسط والحق ولا يجر في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان. وقوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم، فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب، كما جاء في الحديث "إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق" وفي الحديث الآخر "من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" وقال مجاهد وعطاء: واجب على الكاتب أن يكتب، وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين وليتق الله في ذلك {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لا يكتم منه شئياً {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} محجوراً عليه بتبذير ونحوه {أَوْ ضَعِيفاً} أي صغيراً، أو مجنوناً {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}. وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا(1/412)
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وهذا إنما يكون في الأموال، وما يقصد به المال، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة، كما قال مسلم في صحيحه: حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار ؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن" قالت: يا رسول الله ما نقصان العقل والدين ؟ قال "أما نقصان عقلها، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين".
وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود، وهذا مقيد حكم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلاً مرضياً. وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد، وبهذا قرأ آخرون فتذكر بالتشديد من التذكار، ومن قال: أن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر فقد أبعد. والصحيح الأول، والله أعلم.
وقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قيل: معناه إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة، وهو قول قتادة والربيع بن أنس، وهذا كقوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} ومن ههنا استفيد أن تحمل الشهادة فرض كفاية، وقيل مذهب الجمهور، والمراد بقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} للأداء، لحقيقة قوله الشهداء، والشاهد حقيقة فيمن تحمل، فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية، والله أعلم، وقال مجاهد وأبو مجلز وغير واحد: إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار، وإذا شهدت فدعيت فأجب، وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن من طريق مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن زيد بن خالد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" فأما الحديث الآخر في الصحيحين "ألا أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا" وكذا قوله: "ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم، وتسبق شهادتهم أيمانهم" وفي رواية "ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون " وهؤلاء شهود الزور، وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري أنها تعم الحالين التحمل، والأداء.
وقوله: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} هذا من تمام الإرشاد وهو الأمر بكتابة الحق صغيراً كان أو كبيراً، فقال: ولا تسأموا أي لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله، وقوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً هو أقسط عند الله، أي أعدل وأقوم للشهادة، أي أثبت للشاهد إذا وضع(1/413)
خطه ثم رآه تذكر به الشهادة، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالباً {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} وأقرب إلى عدم الريبة بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا ريبة.
وقوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} أي إذا كان البيع بالحاضر يداً بيد، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.
فأما الإشهاد على البيع فقد قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثني يحيى بن عبد الله بن بكر، حدثني ابن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} يعني أشهدوا على حقكم إذا كان في أجل أو لم يكن فيه أجل، فأشهدوا على حقكم على كل حال، قال وروي عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء والضحاك نحو ذلك، وقال الشعبي و الحسن: هذا الأمر منسوخ بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب، والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري، وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري، حدثني عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أن النبي صلى الله عليه وسلم، ابتاع فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلا بعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، قال: "أوليس قد ابتعته منك؟" قال الأعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل قد ابتعته منك" فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم، والأعرابي، وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقاً حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك، قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال "بم تشهد" ؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين، وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيدي، وكلاهما عن الزهري به نحوه، ولكن الاحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مردويه، والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ، ورجل أقرض رجلاً مالاً فلم يشهد" ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، قال: ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين".
وقوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قيل: معناه لا يضارّ الكاتب ولا الشاهد، فيكتب هذا خلاف ما يملي، ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما. وقيل: معناه لا يضربهما، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا الحسين يعني ابن حفص، حدثنا سفيان عن(1/414)
يزيد بن أبي زيادة، عن مقسم، عن ابن عباس، في هذه الآية {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قال: يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة، فيقولان: إنا على حاجة، فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا، فليس له أن يضارهما، قال: وروي عن عكرمة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك، وقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي أن خالفتم ما أمرتم به أو فعلتم ما نهيتم عنه، فإنه فسق كائن بكم، أي لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه، وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء بل علمه محيط بجميع الكائنات.
{وَإِن كُنتُمْ عَلَىَ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
يقول تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً} يكتب لكم، قال ابن عباس: أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً أو دواة أو قلماً، فرهان مقبوضة، أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة أي في يد صاحب الحق، وقد استدل بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو مذهب الشافعي والجمهور، واستدل بها آخرون على أنه لابد أن يكون الرهن مقبوضاً في يد المرتهن، وهو رواية عن الإمام أحمد، وذهب إليه طائفة، واستدل آخرون من السلف بهذه الآية، على أنه لا يكون الرهن مشروعاً إلا في السفر، قاله مجاهد وغيره، وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير رهنها قوتاً لأهله، وفي رواية: من يهود المدينة. وفي رواية الشافعي عند أبي الشحم اليهودي، وتقرير هذه المسائل في كتاب الأحكام الكبير، ولله الحمد والمنة، وبه المستعان.
وقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: هذه نسخت ما قبلها. وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضاً فلا بأس أن لا تكتبوا أولا تشهدوا: وقوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} يعني المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية قتادة، عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه".
قوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} أي لا تخفوها وتغلوها، ولا تظهروها. قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك، ولهذا قال {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } قال السدي: يعني فاجر قلبه، وهذه كقوله تعالى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الآثِمِينَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وهكذا قال ههنا {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.(1/415)
{للّهِ ما فِي السّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر وإن دقت وخفيت، وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} والآيات في ذلك كثيرة جداً، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم وهو المحاسبة على ذلك، ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم، وخافوا منها، ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثني أبو عبد الرحمن يعني العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخره. ورواه مسلم منفرداً به من حديث يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن العلاء، عن أبيه عن أبي هريرة، فذكر مثله ولفظه، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم، {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: نعم.
(حديث ابن عباس في ذلك) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان، سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إلى قوله: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شبية وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيع به، وزاد {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: قد فعلت {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلت {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: قد فعلت {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال:(1/416)
قد فعلت.
(طريق أخرى) عن ابن عباس. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: دخلت على ابن عباس، فقلت: يا أبا عباس، كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى، قال: أية آية ؟ قلت {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} قال ابن عباس: أن هذه الآية حين أنزلت، غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غماً شديداً وغاظتهم غيظاً شديداً، وقالوا: يا رسول الله هلكنا أن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا سمعنا وأطعنا" فقالوا سمعنا وأطعنا، قال: فنسختها هذه الآية {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} إلى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال.
(طريق أخرى) عنه. قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة، سمعه يحدث: أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية، فقال: والله لئن وأخذنا الله بهذا لنهلكن، ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه، قال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس، فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها، فقال ابن عباس: يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر، فأنزل الله بعدها {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى آخر السورة. قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم، أن أباه قرأ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه ابن عباس فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت، فنسختها الآية التي بعدها {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس، وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا شعبة عن خالد الحذاء، عن مروان الأصغر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} قال: نسختها الآية التي بعدها، وهكذا روي عن عليّ وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة، أنها منسوخة بالتي بعدها، وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل".
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً" لفظ مسلم وهو في إفراده من طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قال الله: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ". وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قال الله: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم(1/417)
يعملها، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالت الملائكة: رب وذاك أن عبدك، يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، وإنما تركها من جراي ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحسن أحد إسلامه، فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل" تفرد به مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق بهذا السياق واللفظ، وبعضه في صحيح البخاري. وقال مسلم أيضاً: حدثنا أبو كريب، حدثنا خالد الأحمر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له، وإن عملها كتبت" تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب. وقال مسلم أيضاً: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا عبد الوارث عن الجعد أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء العطاردي عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى، قال "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة، وإن همّ بها فعملها، كتبها الله عنده سيئة واحدة" ثم رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبد الرزاق,. زاد "ومحاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك" وفي حديث سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال "وقد وجدتموه ؟" قالوا: نعم، قال: "ذاك صريح الإيمان " لفظ مسلم، وهو عند مسلم أيضاً من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وروى مسلم أيضاً من حديث مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عبد الله، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال "تلك صريح الإيمان".
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فإنها لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} يقول: يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وهو قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي من الشك والنفاق. وقد روى العوفي والضحاك عنه قريباً من هذا.
وروى ابن جرير عن مجاهد والضحاك نحوه، وعن الحسن البصري أنه قال: هي محكمة لم تنسخ، واختار ابن جرير ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة، وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر، وقد يحاسب ويعاقب، بالحديث الذي رواه عند هذه الآية قائلاً: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد بن هشام (ح) وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا ابن هشام، قالا جميعاً في حديثهما عن قتادة عن صفوان بن محرز، قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له: هل تعرف كذا ؟ فيقول: رب أعرف، مرتين، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، قال: فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على(1/418)
رؤوس الأشهاد {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة عن قتادة به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن هذه الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقالت: هذه مبايعة الله العبد وما يصيبه من الحمى والنكبة، والبضاعة يضعها في يد كمه فيفقدها، فيفزع لها ثم يجدها في ضبنته حتى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر، وكذا رواه الترمذي وابن جرير من طريق حماد بن سلمة به، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه. (قلت) وشيخه علي بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته، وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبد الله، عن عائشة، وليس لها عنها في الكتب سواه.
{آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا أن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا الله بهما
(الحديث الأول) - قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا شعبة عن سليمان، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من قرأ الآيتين" وحدثنا أبو نعيم: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بالآيتين - من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" وقد أخرجه بقية الجماعة عن طريق سليمان بن مهران الأعمش بإسناده مثله وهو في الصحيحين من طريق الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن عنه به، وهو في الصحيحين أيضاً عن عبد الرحمن، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال عبد الرحمن: ثم لقيت أبا مسعود فحدثني به، وهكذا رواه أحمد بن حنبل، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا شريك، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، عن علقمة، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه" .
(الحديث الثاني) - قال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا شيبان، عن منصور، عن ربعي، عن خرشة بن الحر، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي" قد رواه ابن مردويه من حديث الأشجعي، عن الثوري، عن منصور، عن ربعي، عن زيد بن ظبيان، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش".
(الحديث الثالث) - قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، حدثنا مالك بن مغول (ح)(1/419)
وحدثنا ابن نمير وزهير بن حرب، جميعاً عن عبد الله بن نمير، وألفاظهم متقاربة، قال ابن نمير: حدثنا أبي، حدثنا مالك ابن مغول عن الزبير بن عدي، عن طلحة، عن مرة، عن عبد الله، قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها، قال {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: فراش من ذهب، قال: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات.
(الحديث الرابع) قال أحمد حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي حدثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش" هذا إسناد حسن ولم يخرجوه في كتبهم.
(الحديث الخامس) - قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، أخبرنا مروان، أنبأنا ابن عوانة عن أبي مالك، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش، لم يعطها أحد قبلي، ولا يعطاها أحد بعدي" ثم رواه من حديث نعيم بن أبي هند عن ربعي عن حذيفة بنحوه.
(الحديث السادس) - قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن نافع، أنبأنا إسماعيل بن الفضل، أخبرنا محمد بن بزيع، أخبرنا جعفر بن عون عن مالك بن مغول، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: لا أرى أحداً عقل الإسلام ينام حتى يقرأ خواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم من تحت العرش، ورواه وكيع في تفسيره عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمير بن عمرو المخارقي، عن علي، قال: ما أرى أحداً يعقل، بلغه الإسلام، ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز تحت العرش.
(الحديث السابع) - قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليال فيقر بها شيطان " ثم قال: هذا حديث غريب، وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
(الحديث الثامن) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين، أخبرنا الحسن بن الجهم، أخبرنا إسماعيل بن عمرو، أخبرنا ابن مريم، حدثني يوسف بن أبي الحجاج، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال: "إنهما من كنز الرحمن تحت العرش" وإذا قرأ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} استرجع واستكان.
(الحديث التاسع) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن محمد بن كوفي، حدثنا أحمد بن يحيى بن حمزة، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن أبي حميد، عن أبي مليح، عن معقل بن يسار،(1/420)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة".
(الحديث العاشر) - قد تقدم في فضائل الفاتحة من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته رواه مسلم والنسائي وهذا لفظه.
فقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لما نزلت عليه هذه الآية "ويحق له أن يؤمن" وقد روى الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو النضر الفقيه، حدثنا معاذ بن نجدة القرشي، حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا أبو عقيل عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس بن مالك، قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حق له أن يؤمن" ، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ} عطف على الرسول، ثم أخبر عن الجميع فقال {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين، الذين تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، وقوله: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه، وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه، {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} سؤال للمغفرة والرحمة واللطف، قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضل عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ - إلى قوله - غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} قال: قد غفرت لكم {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي المرجع والمآب يوم الحساب. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن بيان، عن حكيم، عن جابر، قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قال جبريل: أن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فسأل {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى آخر هذه الآية، وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي لا يكلف أحداً فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أي هو وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما مالا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} أي من خير {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} أي من شر وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف. ثم قال تعالى مرشداً عباده إلى سؤاله، وقد تكفل لهم بالإجابة كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا {رَبَّنَا لا(1/421)
تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} أي أن تركنا فرضاً على جهة النسيان، أو فعلنا حراماً كذلك، أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلاً منا بوجهه الشرعي. وقد تقدم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، قال "قال الله: نعم" ولحديث ابن عباس، قال الله "قد فعلت". وروى ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي، عن عطاء¹ قال ابن ماجه في روايته عن ابن عباس، وقال الطبراني وابن حبان، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد روي من طريق آخر وأعله أحمد وأبو حاتم، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن شهر، عن أم الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان، والاستكراه" قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن، فقال: أجل، أما تقرأ بذلك قرآناً {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
وقوله: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والاَصار التي كانت عليهم، التي بعثت نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهل السمح، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قال الله: نعم" وعن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قال الله قد فعلت" . وجاء في الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بالحنيفية السمحة".
وقوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به، وقد قال مكحول في قوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: العزبة والغلمة، رواه ابن أبي حاتم، قال الله: نعم، وفي الحديث الآخر: قال الله: قد فعلت.
وقوله: {وَاعْفُ عَنَّا} أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا {وَاغْفِرْ لَنَا} أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة {وَارْحَمْنَا} أي فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: أن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره. وقد تقدم في الحديث أن الله قال: نعم، وفي الحديث الآخر: قال الله: قد فعلت.
وقوله: {أَنْتَ مَوْلانَا} أي أنت ولينا وناصرنا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك، {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة، قال الله: نعم. وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس، قال الله: قد فعلت. وقال ابن جرير: حدثني مثنى بن إبراهيم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق أن معاذاً رضي الله عنه، كان إذا فرغ من هذه السورة {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: آمين. ورواه وكيع عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن معاذ بن جبل، أنه كان إذا ختم البقرة قال: آمين.(1/422)
سورة آل عمران
هي مدنية، لأن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية منها نزل في وفد نجران وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة، كما سيأتي بيان ذلك عند تفسير آية المباهلة منها، إن شاء الله تعالى، وقد ذكرنا ما ورد في فضلها مع سورة البقرة أول البقرة.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الَمَ اللّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إن الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
قد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {اللّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ} و{ألم اللّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ} عند تفسير آية الكرسي وقد تقدم الكلام على قوله: {ألم} في أول سورة البقرة بما يغني عن إعادته، وتقدم الكلام على قوله: {اللّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ} في تفسير آية الكرسي.
وقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق، أي لا شك فيه ولا ريب، بل هو منزل من عند الله، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً، وقوله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله الأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به، وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها، لأنه طابق ما أخبرت به، وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن العظيم عليه. وقوله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} أي على موسى بن عمران، {وَالأِنْجِيلَ} أي على عيسى ابن مريم عليهما السلام، {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل هذا القرآن {هُدىً لِلنَّاسِ} أي في زمانهما. {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} وهو الفارق بين الهدى والضلال. والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك. وقال قتادة والربيع بن أنس: الفرقان - ههنا - القرآن. واختار ابن جرير أنه مصدر ههنا لتقدم ذكر القرآن في قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} وهو القرآن. وأما ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي صالح، أن المراد بالفرقان ههنا التوراة، فضعيف أيضاً لتقدم ذكر التوراة، والله أعلم.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ} أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي يوم القيامة، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي منيع الجناب عظيم السلطان، {ذُو انْتِقَامٍ} أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبياءه العظام.
{إِنّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض، لا يخفى عليه شيء من ذلك، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ(1/423)
كَيْفَ يَشَاءُ} أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى، وحسن وقبيح، وشقي وسعيد، {إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو الذي خلق، وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له، وله العزة التي لا ترام، والحكمة والأحكام. وهذه الآية فيها تعريض، بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر، لأن الله صوره في الرحم وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلهاً كما زعمته النصارى، عليهم لعائن الله، وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال ؟ كما قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ}.
{هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ رَبّنَآ إِنّكَ جَامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لاّ رَيْبَ فِيهِ أن اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات، هن أم الكتاب، أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال تعالى: {هُنّ أُمّ الْكِتَابِ} أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد. وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه فروي عن السلف عبارات كثيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وأحكامه وحدوده وفرائضه وما يؤمر به ويعمل به وعن ابن عباس أيضاً أنه قال المحكمات قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} والآيات بعدها. وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} إلى ثلاث آيات بعدها ورواه ابن أبي حاتم وحكاه عن سعيد بن جبير به قال: حدثنا أبي حدّثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية وهي {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فقال أبو فاختة: فواتح السور، وقال يحيى بن يعمر: الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير: هنّ أمّ الكتاب لأنهنّ مكتوبات في جميع الكتب، وقال مقاتل بن حيان: لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهنّ، وقيل في المتشابهات: المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام وما يؤمن به ولا يعمل به، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان، وعن مجاهد المتشابهات يصدق بعضها بعضاً وهذا إنما هو في تفسير قوله: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار وذكر حال الأبرار وحال الفجار ونحو ذلك. وأما ههنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم، وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله حيث قال منه آيات محكمات فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف عما(1/424)
وضعن عليه، قال: والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ويحرفن عن الحق.
ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال الله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي الإضلال لأتباعهم إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الاحتجاج بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} وبقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسول من رسل الله.
وقوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي تحريفه على ما يريدون وقال مقاتل بن حيان والسدي يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إلى قوله: {أُولُو الأَلْبَابِ} فقال: " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " هكذا وقع الحديث في مسند الإمام أحمد من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها ليس بينهما أحد وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي كلاهما عن أيوب به ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب به وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب وكذا رواه غير واحد عن أيوب وقد رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أيوب به، ورواه أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السدوسي ولقبه عارم: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به وتابع أيوب أبو عامر الخراز وغيره عن ابن أبي مليكة. فرواه الترمذي عن بندار، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي عامر الخراز، فذكره وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه عن حماد بن يحيى الأبح، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة. ورواه ابن جرير من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحي، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به. وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة: حدثتني عائشة، فذكره. وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه، وأبو داود في السنة من سننه، ثلاثتهم عن القعنبي، عن يزيد بن إبراهيم التستري، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه¹ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" لفظ البخاري. وكذا رواه الترمذي أيضاً، عن بندار عن أبي داود الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم به¹ وقال: حسن صحيح¹ وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد. وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ولم يذكر القاسم¹ كذا قال. وقد رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن(1/425)
محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ¹ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد حذركم الله فإذا رأيتموهم فاعرفوهم" ورواه ابن مردويه من طريق أخرى عن القاسم عن عائشة به، وقال الإمام أحمد. حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد عن أبي غالب، قال: سمعت أبا أمامة يحدث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} قال "هم الخوارج" . وفي قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال "هم الخوارج" وقد رواه ابن مردويه من غير وجه، عن أبي غالب. عن أبي أمامة مرفوعاً فذكره، وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي، ومعناه صحيح، فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجئوه بهذه المقالة، فقال قائلهم وهو ذو الخويصرة - بقر الله خاصرته: اعدل فإنك لم تعدل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد خبت وخسرت أن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني". فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب، وفي رواية خالد بن الوليد، رسول الله في قتله، فقال "دعه فانه يخرج من ضئضىء هذا، أي من جنسه قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم" ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب، وقبائل وآراء، وأهواء، ومقالات، ونحل كثيرة منتشرة، ثم نبعت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي" ، أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا المعتمر عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن بن جندب بن عبد الله، أنه بلغه عن حذيفة، أو سمعه منه، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: " إن في أمتي قوماً يقرؤون القرآن، ينثرونه نثر الدقل يتأولونه على غير تأويله" لم يخرجوه.
وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} اختلف القراء في الوقف ههنا.، فقيل: على الجلالة، كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء: فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله، ويروى هذا القول عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نَهيك وغيرهم. وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير: حدثنا هاشم بن مزيد، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الآية، وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه" غريب جداً. وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن(1/426)
عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن ابن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به" وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه، قال: كان ابن عباس يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون آمنا به، وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله، وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود: أن تأويله إلا عند اللهو والراسخون في العلم يقولون آمنا به، وكذا عن أبي بن كعب، واختار ابن جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد، وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله، وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وكذا قال الربيع بن أنس، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر الزبير: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} الذي أراد ما أراد {إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً، فنفذت الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع به الكفر، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس، فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال: التأويل يطلق، ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل، ويكون قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} خبره، وأما أن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا يكون قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حالاً منهم، وساغ هذا، وأن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} - إلى قوله - { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} الآية، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} أي وجاءت الملائكة صفوفاً صفوفاً.
وقوله إخباراً عنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}، أي المتشابه، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي الجميع من المحكم، والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد، لقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}، ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولوا العقول السليمة والفهوم المستقيمة، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا فياض الرقي، حدثنا عبد الله بن يزيد وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنساً وأبا أمامة وأبا الدرداء رضي الله عنهم قال: حدثنا أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن الراسخين في العلم، فقال: "من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام فلبه، ومن أعفّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم" ، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤون، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا،(1/427)
ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أنزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه" وتقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث من طريق هشام بن عمار، عن ابن أبي حازم، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب به، وقد قال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا أنس بن عياض، عن أبي حازم، عن أبي سلمة، قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر - قالها ثلاثاً - ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله" وهذا إسناد صحيح، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي "لا أعلمه إلا عن أبي هريرة"، وقال ابن المنذر في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني نافع بن يزيد، قال: يقال: الراسخون في العلم المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم، ثم قال تعالى مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}، أي لا تملها عن الهدي بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم، {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ} أي من عندك {رَحْمَةً} تثبت بها قلوبنا وتجمع بهاشملنا، وتزيدنا بها إيماناً وإيقاناً، {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، قالا جميعاً: حدثنا وكيع عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ثم قرأ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، وهي أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعها تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يكثر من دعائه "اللهم مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك" قالت قلت: يا رسول الله، وإن القلب ليتقلب ؟ قال: "نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه" فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب - وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام به مثله، رواه أيضاً عن المثنى عن الحجاج بن منهال عن عبد الحميد بن بهرام به مثله، وزاد: "قلت يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال: "بلى، قولي اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن "، ثم قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد الخلال، أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد الله، أخبرنا سعيد بن بشير عن قتادة، عن حسان الأعرج، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، فقال "ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} " غريب من هذا الوجه، ولكن أصله ثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة، وقد رواه أبو داود والنسائي وابن مردويه من حديث أبي عبد الرحمن المقري، زاد النسائي وابن حبان وعبد الله بن وهب كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب: حدثني عبد الله بن الوليد التجيبي عن سعيد بن المسيب، عن عائشة رضي الله عنها. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا استيقظ من الليل قال "لا إله إلا أنت، سبحانك، اللهم إني أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمة، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" لفظ ابن مردويه. وقال عبد الرزاق عن مالك عن أبي عبيد مولى سليمان بن(1/428)
عبد الملك عن عبادة بن نسي أنه أخبره أنه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه المغرب، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل، وقرأ في الركعة الثالثة، قال: فدنوت منه حتى أن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية. قال أبو عبيد: وأخبرني عبادة بن نسي أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، فقال عمر لقيس: كيف أخبرتني عن أبي عبد الله ؟ قال عمر: فما تركناها منذ سمعناها منه وإن كنت قبل ذلك لعلى غير ذلك، فقال له رجل: على أي شيء كان أمير المؤمنين قبل ذلك، قال: كنت أقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم عن مالك والأوزاعي، كلاهما عن أبي عبيد به، وروى هذا الأثر الوليد أيضاً عن ابن جابر، عن يحيى بن يحيى الغساني، عن محمود بن لبيد، عن الصنابحي، أنه صلى خلف أبي بكر المغرب، فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة يجهر بالقراءة، فلما قام إلى الثالثة، ابتدأ القراءة، فدنوت منه حتى أن ثيابي لتمس ثيابه، فقرأ هذه الآية {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية.
وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} أي يقولون في دعائهم: إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلاً بعمله وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.
{إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
يخبر تعالى عن الكفار بأنهم وقود النار {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه، كما قال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ، وقال ههنا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بآيات الله، وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} أي حطبها الذي تسجر به، وتوقد به، كقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا ابن لهيعة، أخبرني ابن الهاد عن هند بنت الحارث، عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس، قالت: بينما نحن بمكة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فنادى "هل بلغت اللهم، هل بلغت" ثلاثاً، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نعم، ثم أصبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه، ولتَخُوضُنّ البحارَ بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه، ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن هذا الذي هو خير منا، فهل في أولئك من خير ؟" قالوا: يا رسول الله، فمن أولئك ؟ قال "أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار" وكذا رأيته بهذا اللفظ وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن هند بنت الحارث امرأة عبد الله بن شداد، عن أم الفضل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة، فقال "هل بلغت" يقولها ثلاثاً¹ فقام عمر بن الخطاب وكان أواها، فقال: اللهم نعم، وحرصت، وجهدت، ونصحت، فاصبر¹ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وليخوضن رجال البحار بالإسلام,وليأتين على(1/429)
الناس زمان يقرؤون القرآن، فيقرؤونه ويعلمونه، فيقولون: قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا الذي هو خير منا ؟ فما في أولئك من خير" قالوا: يا رسول الله، فمن أولئك ؟ قال "أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار" ثم رواه من طريق موسى بن عبيد، عن محمد بن إبراهيم عن بنت الهاد عن العباس بن عبد المطلب بنحوه.
وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال الضحاك عن ابن عباس: كصنيع آل فرعون، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد، ومنهم من يقول: كسنة آل فرعون، وكفعل آل فرعون، وكشبه آل فرعون، والألفاظ متقاربة، والدأب بالتسكين والتحريك كنهر ونهر، هو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة، كما يقال لا يزال هذا دأبي ودأبك، وقال امرؤ القيس:
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم ... يقولون لا تأسف أسى وتجمل
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل
والمعنى كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها، والمعنى في الآية أن الكافرين لا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد، بل يهلكون ويعذبون كما جرى لأل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاؤوا به من آيات الله وحججه، {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي شديد الأخذ أليم العذاب لا يمتنع منه أحد ولا يفوته شيء، بل هو الفعال لما يريد الذي قد غلب كل شيء وذَلّ له كل شي، لا إله غيره ولا رب سواه.
{قُلْ لّلّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىَ جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَىَ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ أن فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ}
يقول تعالى: قل يا محمد للكافرين {سَتُغْلَبُونَ} أي في الدنيا، {وَتُحْشَرُونَ} أي يوم القيامة {إِلَىَ جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وقال: "يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً". فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله في ذلك قوله: {قُلْ لّلّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىَ جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ - إلى قوله - لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ} وقد رواه محمد بن إسحاق أيضاً، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس، فذكره، ولهذا قال تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم {آيَةٌ} ، أي دلالة على أن الله معز دينه، وناصر رسوله، ومظهر كلمته، ومعل أمره {فِي فِئَتَيْنِ} أي طائفتين {الْتَقَتَا} أي للقتال {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وهم مشركوا قريش يوم بدر، وقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} قال بعض العلماء فيما حكاه ابن جرير: يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم، أي جعل الله ذلك فيما رأوه سبباً لنصرة الإسلام عليهم، وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذٍ قبل القتال يَحْزِر لهم المسلمين،(1/430)
فأخبرهم بأنهم ثلثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون، وهكذا كان الأمر. كانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، ثم لما وقع القتال أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.
(والقول الثاني) أن المعنى في قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} أي ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم، أي ضعفيهم في العدد، ومع هذا نصرهم الله عليهم، وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي عن ابن عباس: أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلاً وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين تسعمائة إلى ألف، كما رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال: كثير، قال "كم ينحرون كل يوم" ؟ قال: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف" . وروى أبو إسحاق السبيعي، عن حارثة، عن علي رضي الله عنه، قال: كانوا ألفاً، وكذا قال ابن مسعود. والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وعلى كل تقدير كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول، والله أعلم، لكن وجه ابن جرير هذا وجعله صحيحاً كما تقول: عندي ألف، وأنا محتاج إلى مثليها، وتكون محتاجاً إلى ثلاثة آلاف، كذا قال، وعلى هذا فلا إشكال، لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين، وهو أن يقال: ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} فالجواب أن هذا كان في حالة والآخر كان في حالة أخرى، كما قال السدي عن الطيب عن ابن مسعود في قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} الآية، قال: هذا يوم بدر، قال عبد الله بن مسعود: وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} الآية وقال أبو إسحاق عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي: تراهم سبعين ؟ قال: أراهم مائة، قال: فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا، كم كنتم ؟ قال: ألفاً، فعندما عاين كل من الفريقين الآخر، رأى المسلمون المشركين مثليهم، أي أكثر منهم بالضعف ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم عز وجل، ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان، قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء، ليقدم كل منهما على الآخر {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} أي ليفرق بين الحق والباطل، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} وقال ههنا {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} أي أن في ذلك لمعتبراً لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكمة الله وأفعاله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
{زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(1/431)
يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء، لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم، قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد، فهذا مطلوب مرغوب فيه، مندوب إليه، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه، "وإن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء" ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة، أن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" وقوله في الحديث الآخر "حبب إليّ النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة". وقالت عائشة رضي الله عنها: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل، وفي رواية من الخيل إلا النساء، وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة، فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح محمود شرعاً وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال، وحاصلها أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره، وقيل: ألف دينار، وقيل: ألف ومائتا دينار وقيل اثنا عشر ألفاً، وقيل: أربعون ألفاً، وقيل: ستون ألفاً، وقيل سبعون ألفاً، وقيل: ثمانون ألفاً، وقيل غير ذلك، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القنطار اثنا عشر ألف أوقية، كل أوقية خير مما بين السماء والأرض" ، وقد رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن حماد بن سلمة به، وقد رواه ابن جرير عن بندار، عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موقوفاً وهذا أصح، وهكذا رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل وابن عمر، وحكاه ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة وأبي الدرداء، أنهم قالوا: القنطار ألف ومائتا أوقية، ثم قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا زكريا بن يحيى الضرير، حدثنا شبابة، حدثنا مخلد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية". وهذا حديث منكر أيضاً، والأقرب أن يكون موقوفاً على أبي بن كعب كغيره من الصحابة وقد روى ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن إبراهيم، عن يحَنّش أبي موسى، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية إلى ألف، أصبح له قنطار من أجر عند الله، القنطار منه مثل الجبل العظيم" ورواه وكيع عن موسى بن عبيدة بمعناه، وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي بتَنّيس، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا زهير بن محمد، حدثنا حميد الطويل ورجل آخر، عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} ؟ قال "القنطار ألفا أوقية" صحيح على شرط(1/432)
الشيخين، ولم يخرجاه، هكذا رواه الحاكم، وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر فقال: أنبأنا أحمد بن عبد الرحمن الرقي، أنبأنا عمرو بن أبي سلمة، أنبأنا زهير يعني ابن محمد، أنبأنا حميد الطويل، ورجل آخر قد سماه يعني يزيد الرقاشي، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله: "قنطار يعني ألف دينار" وهكذا رواه ابن مردويه والطبراني عن عبد الله بن محمد بن أبي مريم، عن عمرو بن أبي سلمة، فذكر بإسناده مثله سواء، وروى ابن جرير عن الحسن البصري: عنه مرسلاً وموقوفاً عليه: القنطار ألف ومائتا دينار، وهو رواية العوفي عن ابن عباس، وقال الضحاك: من العرب من يقول: القنطار ألف دينار، ومنهم من يقول: اثنا عشر ألفاً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عارم عن حماد عن سعيد الجَريري، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: القنطار ملء مسك الثور ذهباً، قال أبو محمد: ورواه محمد بن موسى الحرشي عن حماد بن زيد مرفوعاً، والموقوف أصح.
(وحب الخيل على ثلاثة أقسام) تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها، فهؤلاء يثابون، وتارة تربط فخراً ونواء لأهل الإسلام، فهذه على صاحبها وزر وتارة للتعفف واقتناء نسلها، ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر كما سيأتي الحديث بذلك أن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الآية، وأما المسومة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: المسومة الراعية، والمطهمة الحسان، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن عبد الله بن أبزى والسدي والربيع بن أنس وأبي سنان وغيرهم، وقال مكحول: المسومة الغرة والتحجيل وقيل: غير ذلك وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن خديج، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهم إنك خولتني من بني آدم، فاجعلني من أحب ماله وأهله إليه، أو أحب أهله وماله إليه" وقوله تعالى: {وَالأَنْعَامِ} يعني الإبل والبقر والغنم، {وَالْحَرْثِ} يعني الأرض المتخذة للغراس والزراعة، وقال الإمام أحمد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا أبو نعامة العدوي، عن مسلم بن بديل، عن إياس بن زهير، عن سويد بن هبيرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال "خير مال امرىء له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة" المأمورة: الكثيرة النسل، والسكة: النخل المصطف، والمأبورة: الملقحة.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أي حسن المرجع والثواب.
وقد قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن عطاء، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد. قال: قال عمر بن الخطاب لما نزلت {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} قلت: الآن يا رب حين زينتها لنا، فنزلت {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية، ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} أي قل يا محمد للناس: أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة، ثم أخبر عن ذلك فقال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبد الاَباد لا يبغون عنها(1/433)
حولا، {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبداً، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم، ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء.
{الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النّارِ الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ}
يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل، فقال تعالى: {الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا} أي بك وبكتابك وبرسولك، {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا، فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك ورحمتك، {وَقِنَا عَذَابَ النّارِ} ثم قال تعالى: {الصَّابِرِينَ} أي في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات، {وَالصَّادِقِينَ} فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة، {وَالْقَانِتِينَ} والقنوت الطاعة والخضوع {وَالْمُنْفِقِينَ} أي من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخلات، ومواساة ذوي الحاجات {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} دَلّ على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار، وقد قيل: أن يعقوب عليه السلام، لما قال لبنيه {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} إنه أخرهم إلى وقت السحر وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند والسنن من غير وجه عن جماعة من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من سائل فأعطيه ؟ هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ " الحديث، وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءاً على حدة، فرواه من طرق متعددة، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر" ، وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع، هل جاء السحر ؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح، رواه ابن أبي حاتم، وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبي عن حريث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب، أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه. وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة.
{شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أن الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإنْ حَآجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّهِ وَمَنِ اتّبَعَنِ وَقُلْ لّلّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاُمّيّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(1/434)
شهد تعالى وكفى به شهيداً وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين {أَنّهُ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ} أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه، وهو الغني عما سواه، كما قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} الآية، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، فقال {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام {قائماً بالقسط} منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} تأكيد لما سبق، {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياءً، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بقية بن الوليد حدثني جبير بن عمرو القرشي، حدثنا أبو سعيد الأنصاري عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام، عن الزبير بن العوام، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب، وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا علي بن حسين، حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني، حدثنا عمر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري، حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ} قال: "وأنا أشهد أي رب" وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي، قالا: حدثنا عمار بن عمر بن المختار، حدثني أبي، حدثني غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريباً من الأعمش، فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} قالها مراراً، قلت: لقد سمع فيها شيئاً فغدوت إليه فودعته ثم قلت: يا أبا محمد، إني سمعتك تردد هذه الآية، قال: أو ما بلغك ما فيها ؟ قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني. قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة، فأقمت سنة، فكنت على بابه، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد، قد مضت السنة قال: حدثني أبو وائل عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله عز وجل: عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة" ، وقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهوا تباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية، وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} ، وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} ، بكسر إنه، وفتح أن الدين عند الله الإسلام، أي شهد هو والملائكة وأولوا العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام، والجمهور قرؤوها بالكسر على الخبر، وكلا المعنيين صحيح، ولكن هذا على قول الجمهور أظهر، والله أعلم، ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول، إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ(1/435)
الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقاً، ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي من جحد ما أنزل الله في كتابه {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ} أي جادلوك في التوحيد { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي فقل: أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ولا ند له، ولا ولد له، ولا صاحبة له، {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي على ديني يقول كمقالتي، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية، ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به، الكتابيين من الملتين والأميين من المشركين، فقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} وما ذلك إلا لحكمته ورحمته وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث، فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالاً لأمر الله له بذلك، وقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار" رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأحمر والأسود"، وقال "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة".
وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه، ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فلان قل لا إله إلا الله" فنظر إلى أبيه فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أخرجه بي من النار" رواه البخاري في الصحيح، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
{إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا والآخرة وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ}
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله، قديماً وحديثاً،(1/436)
التي بلغتهم إياها الرسل إستكباراً عليهم، وعناداً لهم، وتعاظماً على الحق، واستنكافاً على إتباعه، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم، إلا لكونهم دعوهم إلى الحق {وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ} وهذا هو غاية الكبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" ، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو الزبير الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري نزيل مكة، حدثني أبو حفص عمر بن حفص يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري، حدثنا محمد بن حمزة، حدثنا أبو الحسن مولى لبني أسد، عن مكحول، عن أبي قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال "رجل قتل نبياً أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلاً من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله عز وجل" وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصابي محمد بن حفص، عن ابن حمير، عن أبي الحسن مولى بني أسد، عن مكحول به، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار، وأقاموا سوق بقلهم من آخره، رواه ابن أبي حاتم. ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق، قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة، فقال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي موجع مهين {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىَ كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّىَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُمْ مّعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ وَغَرّهُمْ فِي دِينِهِمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}
يقول تعالى منكراً على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم، وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد، ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} أي إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة في الدنيا يوماً وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة. ثم قال تعالى: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي ثبتهم على دينهم الباطل، ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياماً معدودات، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم واختلقوه ولم ينزل الله به سلطاناً، قال الله تعالى متهدداً لهم ومتوعداً {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله، وكذبوا رسله، وقتلوا أنبياءه، والعلماء من قومهم، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر,والله تعالى سائلهم عن ذلك كله ومحاسبهم عليه ومجازيهم به، ولهذا قال تعالى: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} أي لا شك في وقوعه وكونه، {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.(1/437)
{قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
يقول تبارك وتعالى: {قُلِ} يا محمد معظماً لربك وشاكراً له ومفوضاً إليه ومتوكلاً عليه {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أي لك الملك كله {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} أي أنت المعطي، وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة، لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي، خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبياً من الأنبياء، ولا رسولاً من الرسل في العلم با لله وشريعته، واطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار. ولهذا قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية، أي أنت المتصرف في خلقك، الفعال لما تريد، كما رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، قال الله رداً عليهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} الآية، أي نحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة البالغة، والحجة التامة في ذلك، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إسحاق بن أحمد من تاريخه، عن المأمون الخليفة، أنه رأى في قصر ببلاد الروم مكتوباً بالحميرية، فعرب له، فإذا هو بسم الله ما اختلف الليل والنهار، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن ملك قد زال سلطانه إلى ملك. ومُلْكُ ذي العرش دائم أبداً ليس بفان ولا بمشترك. وقوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَار} أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا، فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاء، وقوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} أي تخرج الزرع من الحب، والحب من الزرع، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي تعطي من شئت من المال ما لا يعد ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل قال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا جعفر بن جسْر بن فرقد، حدثنا أبي عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.(1/438)
{لاّ يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ}
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك، فقال تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} أي ومن يرتكب نهي الله في هذا، فقد بريء من الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إلى أن قال: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية، وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} ، وقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء: أنه قال: "إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم". وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء والضحاك والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} الآية. وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة، ثم قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه، وعادى أولياءه. ثم قال تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي إليه المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مسلم بن خالد عن ابن أبي حسين، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، قال: قام فينا معاذ بن جبل، فقال: يا بني أود، إني رسول رسول الله إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الجنة أو إلى النار.
{قُلْ أن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أن بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان والأيام واللحظات وجميع الأوقات، وجميع ما في الأرض والسموات لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وقدرته نافذة في جميع ذلك، وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن أنظر من أنظر منهم، فإنه يمهل، ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال بعد هذا {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} الآية، يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير ومن شر، كما قال تعالى: {يُنَبَّأُ الأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ(1/439)
وَأَخَّرَ} فما رأى من أعماله حسناً سره ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغاظه وود لو أنه تبرأ منه وأن يكون بينهما أمد بعيد، كما يقال لشيطانه الذي كان مقروناً به في الدنيا، وهو الذي جرأه على فعل السوء {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} ، ثم قال تعالى مؤكداً ومهدداً ومتوعداً {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي يخوفكم عقابه، ثم قال جل جلاله مرجياً لعباده لئلا ييئسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} قال الحسن البصري: من رأفته بهم حذرهم نفسه وقال غيره: أي رحيم بخلقه يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم وأن يتبعوا رسوله الكريم. {قُلْ أن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ فإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ} هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" ولهذا قال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تَحب. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا عبيد الله بن موسىَ عن عبد الأعلى بن أعين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهل الدين إلا الحب والبغض قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} قال أبو زرعة عبد الأعلى هذا منكر الحديث. ثم قال تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي باتباعكم الرسول صلى الله عليه وسلم، يحصل لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين: الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} الآية، أن شاء الله تعالى. {إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ(1/440)
وأشركوا با لله ما لم ينزل به سلطاناً، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا فراراً، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به، واصطفى آل إبراهيم، ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وآل عمران والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم عليه السلام. قال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله: هو عمران بن ياشم بن أمون ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يويم بنْ عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان بن رخيعم بن سليمان بن داود عليهما السلام، فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام، أن شاء الله تعالى، وبه الثقة.
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىَ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالاُنْثَىَ وَإِنّي سَمّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ}
امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام، وهي حنة بنت فاقوذ قال محمد بن إسحاق: وكانت امرأة لا تحمل، فرأت يوماً طائراً يزق فرخه، فاشتهت الولد، فدعت الله تعالى أن يهبها ولداً، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها، فحملت منه، فلما تحققت الحمل، نذرت أن يكون محرراً أي خالصاً مفرغاً للعبادة ولخدمة بيت المقدس، فقالت: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لدعائي العليم بنيتي، ولم تكن تعلم ما في بطنها: أذكراً أم أنثى ؟ {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرىء برفع التاء، على أنها تاء المتكلم، وأن ذلك من تمام قولها، وقريء بتسكين التاء، على أنه من قول الله عز وجل، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا، وقد حكي مقرراً، وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم" أخرجاه، وكذلك ثبت فيهما: أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله، وفي صحيح البخاري: أن رجلاً قال: يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه ؟ قال: "أسم ولدك عبد الرحمن" ، وثبت في الصحيح أيضاً: أنه لما جاءه أبو أسيد بابنه ليحنكه، فذهل عنه، فأمر به أبوه، فرده إلى منزلهم، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سماه المنذر، فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "كل غلام رهين بعقيقته، يذبح عنه يوم سابعه، ويسمى ويحلق رأسه" فقد رواه أحمد وأهل السنن، وصححه الترمذي بهذا اللفظ، وروي: ويُدَمّى، وهو أثبت وأحفظ، والله أعلم.
وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عق عن ولده إبراهيم يوم سابعه وسماه إبراهيم، فإسناده لا يثبت، وهو مخالف لما في الصحيح، ولو صح لحمل على أنه أَشْهَرَ اسمه بذلك يومئذ، والله أعلم، وقوله إخباراً عن أم مريم أنها قالت {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أي عوذتها بالله(1/441)
عز وجل من شر الشيطان، وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام، فاستجاب الله لها ذلك، كما قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله "ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مسه إياه، إلا مريم وابنها" ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا أن شئتم {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، أخرجاه من حديث عبد الرزاق، ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج، عن بقية، عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وروى من حديث قيس، عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرةً أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه مسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة. ورواه ابن وهب أيضاً، عن ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشْمَعِلّ، عن أبي هريرة. ورواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث. وهكذا رواه الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعن، فطعن في الحجاب".
{فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَمَرْيَمُ أَنّىَ لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ أن اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة، وأنه {أَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}، أي جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً، ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين، فلهذا قال {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا} وفي قراءة: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا} بتشديد الفاء، ونصب زكريا على المفعولية، أي جعله كافلاً لها. قال ابن إسحاق: وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة. وذكر غيره: أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب، فكفل زكريا مريم لذلك، ولا منافاة بين القولين¹ والله أعلم. وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها، لتقتبس منه علماً جماً نافعاً وعملاً صالحاً، ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما، وقيل: زوج أختها، كما ورد في الصحيح "فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة" وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضاً توسعاً، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب، وقال: "الخالة بمنزلة الأم" ، ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها، فقال {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً}. قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والربيع بن أنس وعطية العوفي والسدي: يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. وعن مجاهد {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} أي علماً، أو قال: صحفاً فيها علم، رواه ابن أبي حاتم، والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء. وفي السنة لهذا نظائر كثيرة، فإذا رأى زكريا هذا عندها {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} أي يقول من أين لك هذا ؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سهل بن زنجلة، حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن محمد بن(1/442)
المنكدر، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شق ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه، فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً، فأتى فاطمة فقال "يا بنية هل عندك شيء آكله، فإني جائع ؟" قالت: لا والله - بأبي أنت وأمي، فلما خرج من عندها، بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها، فوضعته في جفنة لها، وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إليها، فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك. قال "هلمي يا بنية". قالت: فأتيته بالجفنة، فكشف عنها، فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلما نظرت إليها بهت وعرفت أنها بركة من الله، فحمدت الله وصليت على نبيه وقدمته إلى رسول الله، فلما رآه حمد الله وقال "من أين لك هذا يا بنية" ؟ قالت: يا أبت {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فحمد الله وقال "الحمد الله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً وسئلت عنه، قالت: هو من عند الله، أن الله يرزق من يشاء بغير حساب" فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي، ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حتى شبعوا جميعاً، قالت: وبقيت الجفنة كما هي، قالت: فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً.
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لّدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَآءِ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ أن اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَىَ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ قَالَ رَبّ اجْعَلْ لّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَاذْكُر رّبّكَ كَثِيراً وَسَبّحْ بِالْعَشِيّ وَالإِبْكَارِ}
لما رأى زكريا عليه السلام أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد وكان شيخاً كبيراً قد وهن منه العظم واشتعل الرأس شيباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقراً، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفياً، وقال {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} أي من عندك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي ولداً صالحاً {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}. قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أي خاطبته الملائكة شفاهاً خطاباً، أسمعته وهو قائم يصلي في محراب عبادته ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته. ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره: إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان. وقوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ}. روى العوفي وغيره عن ابن عباس، وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيره في هذه الآية {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} أي بعيسى ابن مريم. وقال الربيع بن أنس: هو أول من صدق بعيسى ابن مريم. وقال قتادة: وعلى سننه ومنهاجه. وقال ابن جريج: قال ابن عباس في قوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} ، قال: كان يحيى وعيسى ابني(1/443)
خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، فذلك تصديقه بعيسى تصديقه له في بطن أمه، وهو أول من صدق عيسى، وكلمة الله عيسى، وهو أكبر من عيسى عليه السلام، وهكذا قال السدي أيضاً.
قوله: {وَسَيِّداً} قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم: الحكيم. قال قتادة: سيداً في العلم والعبادة. وقال ابن عباس والثوري والضحاك: السيد الحكيم التقي. قال سعيد بن المسيب: هو الفقيه العالم. وقال عطية: السيد في خلقه ودينه. وقال عكرمة: هو الذي لا يغلبه الغضب. وقال ابن زيد: هو الشريف. وقال مجاهد وغيره: هو الكريم على الله عز وجل.
وقوله : {وَحَصُوراً} روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وعطية العوفي، أنهم قالوا: الذي لا يأتي النساء. وعن أبي العالية والربيع بن أنس: هو الذي لا يولد له وقال الضحاك: هو الذي لا ولد له ولا ماء له. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس في الحصور: الذي لا ينزل الماء. وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثاً غريباً جداً، فقال: حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي، حدثني سعيد بن سليمان، حدثنا عباد يعني ابن العوام، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن ابن العاص - لا يدري عبد الله أو عمرو - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} قال: ثم تناول شيئاً من الأرض، فقال "كان ذكره مثل هذا" ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنه سمع سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا. ثم قرأ سعيد {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} ثم أخذ شيئاً من الأرض، فقال: الحصور من كان ذكره مثل ذي. وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف أصبعه السبابة، فهذا موقوف أصح إسناداً من المرفوع بل وفي صحة المرفوع نظر والله أعلم. ورواه ابن المنذر في تفسيره: حدثنا أحمد بن داود السمناني، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا علي بن مسهر، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يلقى الله إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا، فإن الله يقول {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} قال: "وإنما ذكره مثل هدبة الثوب" وأشار بأنملته، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عيسى بن حماد ومحمد بن سلمة المرادي قالا: حدثنا حجاج بن سليمان المقري عن الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ابن آدم يلقى الله بذنب يعذبه عليه أن شاء أو يرحمه، إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين" ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض، فأخذها وقال: "وكان ذكره مثل هذه القذاة".
وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان {حصوراً} ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوباً أو لا ذكر له، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا تليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها كأنه حُصِر عنها. وقيل مانعاً نفسه من الشهوات. وقيل ليست له شهوة في النساء، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة، ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى، أو بكفاية من الله عز وجل كيحيى عليه السلام، ثم هي في حق من قدر عليها، وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه درجة عليا، وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه(1/444)
عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن، بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: "حبب إليّ من دنياكم" هذا لفظه. والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء، بل معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} كأنه قال: ولداً له ذرية ونسل وعقب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله: {وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى، كقوله لأم موسى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة، أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ} أي الملك {ذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي هكذا أمر الله عظيم، لا يعجزه شيء، ولا يتعاظمه أمر، {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح، كما في قوله: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}. وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم، أن شاء الله تعالى.
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَمَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىَ نِسَآءِ الْعَالَمِينَ يَمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك، أن الله قد اصطفاها أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس، واصطفاها ثانياً مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين، قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قال: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناء على ولد في صغره، ورعاة على زوج في ذات يده، ولم تركب مريم بنت عمران بعيراً قط" ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم، فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق به، وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد" أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام به مثله، وقال الترمذي: حدثنا أبو بكر بن زنجويه، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون" تفرد به الترمذي وصححه، قال عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، قال: كان ثابت البناني يحدث عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت(1/445)
رسول الله" رواه ابن مردويه، وروى ابن مردويه من طريق شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا آدم العسقلاني، حدثنا شعبة، حدثنا عمرو بن مرة، سمعت مرة الهمداني، يحدث عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون". وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن شعبة به، ولفظ البخاري "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليه السلام في كتابنا البداية والنهاية، ولله الحمد والمنة. ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل، لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه مما فيه محنة لها، ورفعة في الدارين بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولداً من غير أب، فقال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} أما القنوت فهو الطاعة في خشوع، كما قال تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة". ورواه ابن جرير من طريق ابن لهيعة عن دراج به، وفيه نكارة. وقال مجاهد: كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها والقنوت هو طول الركود في الصلاة، يعني امتثالاً لقول الله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} قال الحسن: يعني اعبدي لربك، {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي كوني منهم وقال الأوزاعي: ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها رضي الله عنها وأرضاها. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكديمي، وفيه مقال: حدثنا علي بن بحر بن بري، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، في قوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} قال: سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها. وذكر ابن أبي الدنيا: حدثنا الحسن بن عبد العزيز، حدثنا ضمرة عن ابن شوذب، قال: كانت مريم عليها السلام، تغتسل في كل ليلة. ثم قال تعالى لرسوله بعد ما أطلعه على جلية الأمر {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} أي نقصه عليك {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي ما كنت عندهم يا محمد فتخبرهم عنهم معاينة عما جرى بل أطلعك الله على ذلك كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر. قال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، أنه أخبره عن عكرمة، وأبي بكر عن عكرمة، قال: ثم خرجت بها، يعني أم مريم بمريم تحملها، في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام، قال: وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فإني حررتها، وهي أنثى، ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي، فقالوا: هذه ابنة إمامنا، وكان عمران يؤمهم في الصلاة، وصاحب قرباننا، فقال زكريا: ادفعوها لي فإن خالتها تحتي، فقالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا، فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة،(1/446)
فقرعهم زكريا فكفلها وقد ذكر عكرمة أيضاً والسدي وقتادة والربيع بن أنس وغير واحد، دخل حديث بعضهم في بعض، أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن، واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جَرْيَة الماء فهو كافلها، فألقوا أقلامهم، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت ويقال إنه ذهب صاعداً يشق جريه الماء، وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيهم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
{إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَمَرْيَمُ إنَّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ قَالَتْ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
هذه بشارة من الملائكة لمريم عليها السلام بأن سيوجد منها ولد عظيم له شأن كبير. قال الله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَمَرْيَمُ إنَّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له: كن فيكون، وهذا تفسير قوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} كما ذكر الجمهور على ما سبق بيانه {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي يكون مشهوراً بهذا في الدنيا، ويعرفه المؤمنون بذلك وسمي المسيح، قال بعض السلف: لكثرة سياحته. وقيل: لأنه كان مسيح القدمين، لا أخمص لهما، وقيل: لأنه كان إذا مسح أحداً من ذوي العاهات برىء، بإذن الله تعالى. وقوله: {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} نسبة إلى أمه حيث لا أب له. {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره، معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه بذلك {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي في قوله وعمله، له علم صحيح وعمل صالح. قال محمد بن إسحاق: عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن محمد بن شرحبيل، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تكلم مولود في صغره إلا عيسى وصاحب جريج" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو الصقر يحيى بن محمد بن قزعة، حدثنا الحسين يعني المروزي، حدثنا جرير يعني ابن حازم، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وصبي كان في زمن جريج، وصبي آخر" فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عز وجل، قالت في مناجاتها {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ؟} تقول كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغياً حاشا لله ؟ فقال لها الملك عن الله عز وجل في جواب ذلك السؤال {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء، وصرح ههنا بقوله: { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ولم يقل: يفعل، كما في قصة زكريا، بل نص ههنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي فلا يتأخر شيئاً بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة كقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح بالبصر.(1/447)
{وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ أَنِيَ أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىَ بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إن فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّكُمْ أن كُنتُم مّؤْمِنِينَ وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلاُحِلّ لَكُم بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ أن اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ}
يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام: أن الله يعلمه {وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ، الظاهر أن المراد بالكتاب ههنا الكتابة، والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة، و {وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} ، فالتوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران، والإنجيل الذي أنزل على عيسى ابن مريم عليهما السلام. وقد كان عيسى عليه السلام يحفظ هذا وهذا، وقوله: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} أي يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، قائلاً لهم {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ} وكذلك كان يفعل، يصور من الطين شكل طير، ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإذن الله عز وجل، الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ} قيل: أنه الذي يبصر نهاراً ولا يبصر ليلاً، وقيل بالعكس. وقيل: الأعشى. وقيل الأعمش. وقيل: هو الذي يولد أعمى وهو أشبه، لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي {وَالأَبْرَصَ} معروف، {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه السلام، فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، بعث في زمان الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، لم يستطيعوا أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وما ذاك إلا لأن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبداً، وقوله: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن، وما هو مدخر له في بيته لغد، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في ذلك كله {لآيَةً لَكُمْ} أي على صدقي فيما جئتكم به {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي مقرراً لها ومثبتاً {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئاً، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ، فكشف لهم عن المغطى في ذلك، كما قال في الآية(1/448)
الأخرى {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} والله أعلم. ثم قال {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
{فَلَمّآ أَحَسّ عِيسَىَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيَ إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ رَبّنَآ آمَنّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتّبَعْنَا الرّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
يقول تعالى: {فَلَمّآ أَحَسّ عِيسَىَ} أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال، {قَالَ مَنْ أَنصَارِيَ إِلَى اللّهِ} قال مجاهد: أي من يتبعني إلى الله. وقال سفيان الثوري وغيره: أي من أنصاري مع الله، وقول مجاهد: أقرب. والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله ؟ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر "من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي. فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" حتى وجد الأنصار، فآووه ونصروه وهاجر إليهم، فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر، رضي الله عنهم وأرضاهم. وهكذا عيسى ابن مريم عليه السلام انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، ولهذا قال الله تعالى مخبراً عنهم {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} الحواريون قيل: كانوا قصارين، وقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم، وقيل: صيادين. والصحيح أن الحواري الناصر، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب، فانتدب الزبير ثم ندبهم، فانتدب الزبير رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري، وحواريي الزبير" ، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} قال: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد جيد. ثم قال تعالى مخبراً عن ملأ بني إسرائيل، فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه السلام، وإرادته بالسوء والصلب حين تمالؤوا عليه، ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان، وكان كافراً، أن هنا رجلاً يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك ويفسد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه، إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب، وأنه ولد زنية حتى استثاروا غضب الملك، فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به، نجاه الله تعالى من بينهم ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء، وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى، فأخذوه وأهانوه وصلبوه، ووضعوا على رأسه الشوك، وكان هذا من مكر الله بهم، فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعناداً للحق ملازماً لهم، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد، ولهذا قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
{إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَىَ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(1/449)
فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ وَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيات وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ}
اختلف المفسرون في قوله تعالى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} فقال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر، تقديره إني رافعك إلي ومتوفيك، يعني بعد ذلك. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إني متوفيك، أي مميتك. وقال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه، قال ابن إسحاق: والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات، ثم أحياه. وقال إسحاق بن بشر، عن إدريس عن وهب: أماته الله ثلاثة أيام، ثم بعثه، ثم رفعه. وقال مطر الوراق: إني متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت، وكذا قال ابن جرير: توفيه هو رفعه، وقال الأكثرون: المراد بالوفاة ههنا - النوم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} الآية. وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول إذا قام من النوم: "الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا" الحديث، وقال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} - إلى قوله - { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} والضمير في قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} عائد على عيسى عليه السلام، أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم، لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، حدثنا الربيع بن أنس، عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: " إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة" وقوله تعالى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي برفعي إياك إلى السماء {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام، لما رفعه الله إلى السماء، تفرقت أصحابه شيعاً بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله، وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ورد على كل فريق، فاستمروا على ذلك قريباً من ثلثمائة سنة، ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين، والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه الطائفة الملكية منهم، وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيدهم الله عليهم، لأنهم أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله، فلما بعث الله(1/450)
محمداً صلى الله عليه وسلم، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي العربي، خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق، فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته، مع ما قد حرفوا وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك، لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واجتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما، وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم عز وجل في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} الآية، فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقاً، سلبوا النصارى بلاد الشام وألجؤوهم إلى الروم فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة. وقد أخبر الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً، لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها، وقد جمعت في هذا جزءاً مفرداً، ولهذا قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك، وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفيه أمره، وهو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى في سورة مريم {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وههنا قال تعالى:
{إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ أن هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ اللّهُ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}
يقول جل وعلا: {إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ} في قدرة الله حيث خلقه من غير أب {كَمَثَلِ آدَمَ} حيث خلقه من غير أب ولا أم بل {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فالذي خلق آدم من غير(1/451)
أب، قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل، فدعواها في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً، ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أثنى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} وقال ههنا: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} أي نحضرهم في حال المباهلة {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نلتعن {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي منا أو منكم. وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران، أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم، قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم: العاقب واسمه عبد المسيح، والسيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأويس بن الحارث، وزيد، وقيس، ويزيد ونبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويُحَنّس، وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب، وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه، وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم، وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة، ولكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها، قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب، قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم": وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوهم" فصلوا إلى المشرق، قال: فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وكذلك قول النصرانية، فهم يحتجون في قولهم هو الله، بأنه كان يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بأمر الله. وليجعله الله آية للناس، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يسمعه أحد من بني آدم قبله، ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى: فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم - تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً - وفي كل ذلك من(1/452)
قولهم: قد نزل القرآن، فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلما" قالا: قد أسلمنا، قال: "إنكما لم تسلما فأسلما". قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: "كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير". قالا: فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم أن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط، فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم أن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فإنكم عندنا رضا، قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين" فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجراً، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم ثم نظر عن يمينه وشماله، فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال: "اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه" . قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج: أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، إلا أنه قال في الأشراف: كانوا اثني عشر، وذكر بقيته بأطول من هذا السياق، وزيادات أخر.
وقال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو الله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال "لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين" فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح" فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أمين هذه الأمة" رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة، عن حذيفة، بنحوه وقد رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن صلة، عن ابن مسعود بنحوه وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد، حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو جهل قبحه الله، أن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته، قال: فقال "لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً" ، وقد رواه(1/453)
البخاري و الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الكريم به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جداً، ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة، وفيه غرابة، وفيه مناسبة لهذا المقام، قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يسوع، عن أبيه، عن جده، قال يونس - وكان نصرانياً فأسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران أسلم أنتم، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب، والسلام". فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به، وذعره ذعراً شديداً، وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة، وكان من همدان، ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب، فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه، فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة، فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في أمر النبوة رأي، ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي واجتهدت لك، فقال الأسقف: تنح فاجلس، فتنحى شرحبيل فجلس ناحية، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل، فقال له الأسقف: تنح فاجلس، فتنحى عبد الله فجلس ناحية، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله، فأمره الأسقف، فتنحى فجلس ناحية، فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً، أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران والمسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح، أهل الوادي أعلاه وأسفله. وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجبار بن فيض الحارثي، فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدنية وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللاً لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، فلم يرد عليهم، وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً، فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وكانا معرفة لهم، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس، فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن، أن نبيكم كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً، فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأي منكما، أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب(1/454)
سفرهم ثم يعودون إليه، ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم، ثم قال "والذي بعثني بالحق، لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم" . ثم سألهم سألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى، فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرنا أن كنت نبياً أن نسمع ما تقول فيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى" فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الآية {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} - إلى قوله - {الْكَاذِبِينَ} فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له، وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي، وإني والله أرى أمراً ثقيلاً، والله لئن كان هذا الرجل ملكاً مبعوثاً فكنا أول العرب طعناً في عينيه ورداً عليه أمره، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة، وإنا لأدنى العرب منهم جواراً، ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه، لا يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك، فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم ؟ فقال: أرى أن أحكمه، فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً، فقالا: له: أنت وذاك، قال: فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال: وما هو ؟ فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعل وراءك أحداً يثرب عليك" ؟ فقال شرحبيل: سل صاحبي، فسألهما فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه، فكتب لهم هذا الكتاب "بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران - أن كان عليهم حكمه - في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم، وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة، في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة" وذكر تمام الشروط وبقية السياق.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع، لأن الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية، وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن داود المكي، حدثنا بشر بن مهران حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جابر، قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي بعثني بالحق لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادي ناراً" قال جابر، وفيهم نزلت {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} قال جابر {أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب {أَبْنَاءَنَا} الحسن والحسين {وَنِسَاءَنَا} فاطمة. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى، عن أحمد بن محمد الأزهري، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند به بمعناه، ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه هكذا قال وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن المغيرة عن الشعبي مرسلاً، وهذا أصح، وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك، ثم قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي عن(1/455)
هذا إلى غيره {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته.
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ}
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم. {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ} والكلمة تطلق على الجملة المفيدة، كما قال ههنا، ثم وصفها بقوله: {سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: {أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} لا وثناً ولا صليباً ولا صنماً ولا طاغوتاً ولا ناراً ولا شيئاً، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ثم قال تعالى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال ابن جريج: يعني يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، وقال عكرمة: يسجد بعضناً لبعض {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة، فَأَشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم. وقد ذكرنا في شرح البخاري عند روايته من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر، فسأله عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن صفته ونعته وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجلية، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مشركاً، لم يسلم بعد، وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح، كما هو مصرح به في الحديث، ولأنه لما سأله: هل يغدر ؟ قال: فقلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها، قال: ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئاً سوى هذه، والغرض أنه قال: ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، نزلت في وفد نجران. وقال الزهري: هم أول من بذل الجزية، ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هرقل في جملة الكتاب، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجوه (أحدها) يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين، مرة قبل الحديبية، ومرة بعد الفتح. (الثاني) يحتمل أن صدر سورة آل عمران، نزل في وفد نجران إلى هذه الآية، وتكون هذه الآية، نزلت قبل ذلك، ويكون قول ابن إسحاق: إلى بضع وثمانين آية، ليس بمحفوظ لدلالة حديث أبي سفيان. (الثالث) يحتمل أن قدوم وفد نجران، كان قبل الحديبية، وأن الذي بذلوه مصالحة عن المباهلة لا على(1/456)
وجه الجزية، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك، كما جاء فرض الخمس والأربعة أخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك. (الرابع) يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمر بكتب هذا في كتابه إلى هرقل، لم يكن أنزل بعد، ثم أنزل القرآن موافقة له صلى الله عليه وسلم، كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب في الحجاب وفي الأسارى، وفي عدم الصلاة على المنافقين، وفي قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وفي قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} الآية.
{يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجّونَ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَأَنْتُمْ هَؤُلآءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أن أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهَذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ}
ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل عليه السلام، ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم، كما قال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فأنزل الله تعالى: {أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجّونَ فِيَ إِبْرَاهِيمَ} الآية، أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهودياً، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى ؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانياً وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر ؟ ولهذا قال تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ثم قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} الآية. هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لا يعلمون، فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} الآية. ثم قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} يقول تعالى: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه وهذا النبي، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن(1/457)
مسروق، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عز وجل" ثم قرأ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} الآية، وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن أبيه به، ثم قال البزار: ورواه غير أبي أحمد، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، ولم يذكر مسروقاً. وكذا رواه الترمذي من طريق وكيع عن سفيان، ثم قال: وهذا أصح، لكن رواه وكيع في تفسيره، فقال: حدثنا سفيان عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مسعود، قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي ولاية من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عز وجل إبراهيم عليه السلام " ثم قرأ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية، قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي ولي جميع المؤمنين برسله.
{وَدّت طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلّونَكُمْ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالّذِيَ أُنْزِلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُوَاْ آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُوَاْ إِلاّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ أن الْهُدَىَ هُدَى اللّهِ أن يُؤْتَىَ أَحَدٌ مّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ قُلْ أن الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين، وبغيهم إياهم الإضلال، وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم، ثم قال تعالى منكراً عليهم {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي تعلمون صدقها وتتحققون حقها {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه {وَقَالَتْ طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالّذِيَ أُنْزِلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُوَاْ آخِرَهُ} الآية، هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس: إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيضة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا {لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} . وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد في قوله تعالى إخباراً عن اليهود بهذه الآية، يعني يهوداً صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، وكفروا آخر النهار مكراً منهم، ليروا الناس أن قد بدت لهم الضلالة منه بعد أن كانوا اتبعوه. وقال العوفي عن ابن عباس: قالت طائفة من أهل الكتاب: إذ لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا، وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك.
وقوله تعالى: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} أي لا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من(1/458)
الآيات البينات، والدلائل القاطعات، والحجج الواضحات¹ وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين. وقوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يقولون: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين، فيتعلموه منكم، ويساووكم فيه ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به، أو يحاجوكم به عند ربكم، أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم، فتقوم به عليكم الدلالة، وتتركب الحجة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي الأمور كلها تحت تصرفه، وهو المعطي المانع، يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة التامة والحكمة البالغة {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يحد ولا يوصف بما شرف به نبيكم محمداً صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، وهداكم به إلى أكمل الشرائع.
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}
يخبر تعالى عن اليهود بأن منهم الخونة ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم، فإن منهم {مَنْ أن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} أي من المال {يُؤَدّهِ إِلَيْكَ} أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليه {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليه. وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة، وأما الدينار فمعروف. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا سعيد بن عمرو السكوني، حدثنا بقية عن زياد بن الهيثم، حدثنا مالك بن دينار، قال: إنما سمي الدينار لأنه دين ونار وقيل: معناه من أخذه بحقه فهو دينه، ومن أخذه بغير حقه فله النار. ومناسب أن يذكر ههنا الحديث الذي علقه البخاري في غير موضع من صحيحه، ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً. قال: ائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركباً يركبها ليقدم عليه في الأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني استسلفت فلاناً ألف دينار فسألني شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً، وسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً فرضي بذلك، وأني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني استودعتكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه لينظر لعل مركباً يجيئه بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما كسرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم(1/459)
الرجل الذي كان تسلف منه، فأتاه بألف دينار، وقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء ؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل هذا، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بألف دينار راشداً، هكذا رواه البخاري في موضع معلقاً بصيغة الجزم، وأسنده في بعض المواضع من الصحيح عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه. ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا مطولاً، عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث به، ورواه البزار في مسنده عن الحسن بن مدرك عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه، ثم قال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، كذا قال وهو خطأ لما تقدم. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين وهم العرب، فإن الله قد أحلها لنا، قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي وقد اختلقوا هذه المقالة، وائتفكوا بهذه الضلالة، فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما هم قوم بهت. قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة بن يزيد، أن رجلاً سأل ابن عباس، فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة، قال ابن عباس: فتقولون ماذا ؟ قال: نقول ليس علينا بذلك بأس، قال هذا كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} ، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم، وكذا رواه الثوري عن أبي إسحاق بنحوه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا يعقوب، حدثنا جعفر عن سعيد بن جبير، قال: لما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر" ثم قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى} أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك، واتقى محارم الله، واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
{إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
يقول تعالى: أن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة {أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي برحمة منه لهم، يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي من الذنوب والأدناس، بل يأمر بهم إلى النار {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة، فلنذكر منها ما تيسر،
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة، قال علي بن مدرك: أخبرني، قال سمعت(1/460)
أبا زرعة عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" قلت: يا رسول الله، من هم ؟ خسروا وخابوا. قال: وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال: "المسبل، والمنفق سلعته بالحلف والكاذب، والمنان" ، ورواه مسلم وأهل السنن من حديث شعبة به.
(طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا إسماعيل عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن أبي الأحمس، قال: لقيت أبا ذر فقلت له: بلغني عنك أنك تحدث حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما إنه لا يخالني أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما سمعته منه، فما الذي بلغك عني ؟ قلت: بلغني أنك تقول: ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله. قال: قلته وسمعته، قلت: فمن هؤلاء الذين يحبهم الله ؟ قال: "الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم يصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن" قلت: من هؤلاء الذين يشنؤهم الله ؟ قال: "التاجر الحلاف - أو قال: البائع الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان" غريب من هذا الوجه. (الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن جرير بن حازم، حدثنا عدي بن عدي، أخبرني رجاء بن حيوة والعرس بن عميرة، عن أبيه عدي هو ابن عميرة الكندي، قال: خاصم رجل من كندة، يقال له امرؤ القيس بن عابس، رجلاً من حضر موت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، فقضى على الحضرمي بالبينة، فلم يكن له بينة فقضى على امرىء القيس باليمين، فقال الحضرمي: أن أمكنته من اليمين يا رسول الله ؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان" قال رجاء: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول الله ؟ فقال "الجنة". قال: فاشهد أني قد تركتها له كلها، ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي به،
(الحديث الثالث) قال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين هو فيها فاجر، ليقتطع بها مالَ امرئ مسلم، لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان" . فقال الأشعث: في والله كان ذلك¹ كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألك بينة ؟ قلت: لا. فقال لليهودي: احلف. فقلت: يا رسول الله، إذاً يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية أخرجاه من حديث الأعمش.
(طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن شقيق بن سلمة، حدثنا عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق، لقي الله وهو عليه غضبان" قال: فجاء الأشعث بن قيس، فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه، فقال: فيّ كان هذا الحديث، خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر كانت لي في يده فجحدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه" قال: قلت: يا رسول الله، ما لي بينة، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري، أن خصمي امرؤ فاجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق، لقي الله وهو عليه غضبان" قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية.
(الحديث الرابع) قال أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، قال: حدثنا رِشْدين عن زَبّان، عن سهل بن معاذ بن(1/461)
أنس، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن لله تعالى عباداً لا يكلمهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم" قيل: ومن أولئك يا رسول الله ؟ قال: "متبري من والديه راغب عنهما، ومتبرىء من ولده، ورجل أنعم عليه قوم، فكفر نعمتهم وتبرأ منهم".
(الحديث الخامس) قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا هشيم، أنبأنا العوام يعني ابن حوشب، عن إبراهيم بن عبد الرحمن يعني السكسكي، عن عبد الله ابن أبي أوفى، أن رجلاً أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية، ورواه البخاري من غير وجه عن العوام.
(الحديث السادس) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ورجل حلف على سلعة بعد العصر، يعني كاذباً، ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له" ورواه أبو داود والترمذي من حديث وكيع، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
{وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله، أن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله، ولهذا قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وقال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس. {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} يحرفونه، وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيدون، وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله، لكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله وقال وهب بن منبه: أن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول رواه ابن أبي حاتم، فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش، وهو من باب تفسير المعرب المعبر وفهم كثير منهم بل أكثرهم بل جميعهم فاسد وأما أن عنى كتب الله التي هي كتبه عنده فتلك كما قال: محفوظة لم يدخلها شيء.
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أن تَتّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنّبِيّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مّسْلِمُونَ}(1/462)
قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي: حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أوذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني" أو كما قال صلى الله عليه وسلم: فأنزل الله في ذلك من قولهما: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة، أن يقول للناس اعبدوني من دون الله، أي مع الله، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، قال: وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضاً، يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، وفي المسند والترمذي كما سيأتي أن عدي بن حاتم قال: يا رسول الله ما عبدوهم. قال "بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم" فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به، وبلغتهم إياه رسله الكرام، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام، فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة، فقاموا بذلك أتم القيام، ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق، وقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} أي ولكن يقول الرسول للناس كونوا ربانيين، قال ابن عباس وأبو رزين وغير واحد: أي حكماء علماء حلماء، وقال الحسن وغير واحد: فقهاء وكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني وعطية العوفي والربيع بن أنس وعن الحسن أيضاً: يعني أهل عبادة وأهل تقوى، وقال الضحاك في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} : حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً {تَعلَمُونَ} أي تفهمون معناه، وقرىء {تُعَلِّمُونَ} بالتشديد من التعليم {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} تحفظون ألفاظه، ثم قال الله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} أي ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله: لا نبي مرسل ولا ملك مقرب {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية، وقال {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال إخباراً عن الملائكة {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىَ ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوَاْ أَقْرَرْنَا قَالَ(1/463)
فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلّىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام لمهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة، وبلغ أي مبلغ، ثم جاءه رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ولهذا قال تعالىوتقدس {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} أي لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} وقال ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة والسدي يعني عهدي وقال محمد بن إسحاق (إصري) أي ثقل ما حملتم من عهدي أي ميثاقي الشديد المؤكد {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} أي عن هذا العهد والميثاق {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به وينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقال طاوس والحسن البصري وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً، وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه، بل يستلزمه ويقتضيه، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، مثل قول علي وابن عباس، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني مررت بأخ لي يهودي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال، فتغير وجه رسول صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت، قلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً، بالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين".
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر: حدثنا إسحاق حدثنا حماد عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ". وفي بعض الأحاديث "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي" فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد، لكان هو الواجب طاعته المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به صلوات الله وسلامه عليه.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ(1/464)
وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىَ وَعِيسَىَ وَالنّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ}
يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي {لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} الآية، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهاً، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع، وقد ورد حديث في تفسير هذه الآية على معنى آخر فيه غرابة، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن النضر العسكري، حدثنا سعيد بن حفص النفيلي، حدثنا محمد بن محصن العكاشي، حدثنا الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح، عن النبي صلى الله عليه وسلم {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} ، "أما من في السموات فالملائكة، وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام، وأما كرهاً فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون". وقد ورد في الصحيح "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" وسيأتي له شاهد من وجه آخر، ولكن المعنى الأول للآية أقوى، وقد قال وكيع في تفسيره، حدثنا سفيان عن منصور، عن مجاهد {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} قال: هو كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال أيضاً: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} قال: حين أخذ الميثاق، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله ثم قال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعني القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي من الصحف والوحي، {وَالأَسْبَاطِ } وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الإثني عشر، {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} يعني بذلك التوراة والإنجيل، {وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} وهذا يعم جميع الأنبياء جملة {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني: بل نؤمن بجميعهم {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية، أي من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله، فلن يقبل منه {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" . وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن، حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجى الأعمال يوم القيامة، فتجى الصلاة فتقول: يا رب، أنا الصلاة¹ فيقول إنك على خير¹ وتجي الصدقة فتقول: يا رب، أنا الصدقة فيقول إنك على خير، ثم يجي الصيام فيقول: يا رب، أنا الصيام، فيقول: إنك على خير، ثم تجى الأعمال كل ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير، ثم يجى الإسلام فيقول: يا رب، أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أعطى، قال الله في كتابه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي(1/465)
الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} تفرد به أحمد، قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد: عباد بن راشد ثقة، ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.
{كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوَاْ أن الرّسُولَ حَقّ وَجَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أن عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنّ الله غَفُورٌ رّحِيمٌ}
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع البصري حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله هل لي من توبة ؟ فنزلت {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ - إلى قوله - فَإِنّ الله غَفُورٌ رّحِيمٌ} فأرسل إليه قومه فأسلم، وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان من طريق داود بن أبي هند به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال عبد الرزاق: أنبأنا جعفر بن سليمان، حدثنا حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنزل الله فيه {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم} - إلى قوله - { غفور رحيم} قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك - والله ما علمت - لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة، قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه، فقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول، ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعدما تلبسوا به من العماية، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي يلعنهم الله، ويلعنهم خلقه، {خَالِدِينَ فِيهَا} أي في اللعنة، {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ثم قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه، تاب عليه.
{إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضّآلّونَ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَىَ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ}
يقول تعالى متوعداً ومهدداً لمن كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفراً، أي استمر عليه إلى الممات، ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات، كما قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ(1/466)
الْمَوْتُ} الآية، ولهذا قال ههنا {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي، قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن قوماً أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} وهكذا رواه، وإسناده جيد، ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا. ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهباً فيما يراه قربة، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام: هل ينفعه ذلك ؟ فقال "لا، إنه لم يقل يوماً من الدهر: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين" وكذلك لو افتدى بملء الأرض ذهباً ما قبل منه، كما قال تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وقال {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} ، وقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ولهذا قال تعالى ههنا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} فعطف {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} به على الأول، فدل على أنه غيره، وما ذكرناه أحسن من أن يقال: أن الواو زائدة، والله أعلم، ويقتضي ذلك أن لا ينقذه من عذاب الله شيء ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهباً، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها، وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به ؟ قال: فيقول: نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك" وهكذا أخرجه البخاري ومسلم،
(طريق أخرى) وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا حماد عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك ؟ فيقول: أي رب خير منزل، فيقول: سل وتمن، فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار، لما يرى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك ؟ فيقول: يا رب شر منزل، فيقول له: تفتدى مني بطلاع الأرض ذهباً ؟ فيقول: أي رب نعم، فيقول: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار" ، ولهذا قال {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.
{لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
روى وكيع في تفسيره عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} قال: الجنة، وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، سمع أنس بن مالك، يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحة: يا رسول الله، أن الله يقول {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن(1/467)
أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بخ بخ ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين" ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، أخرجاه، وفي الصحيحين أن عمر قال يا رسول الله لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به ؟ قال: حبس الأصل وسبل الثمرة" وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي عمرو بن حماس، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، قال: قال عبد الله: حضرتني هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فذكرت ما أعطاني الله، فلم أجد شيئاً أحب إليّ من جارية لي رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، يعني تزوجتها.
{كُلّ الطّعَامِ كَانَ حِلاّ لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ إِلاّ مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىَ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أن تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّبِعُواْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
قال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، قال: قال ابن عباس حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، قال: "سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعني على الإسلام" قالوا: فذلك لك، قال: فسلوني عما شئتم. قالوا: اخبرنا عن أربع خلال: أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه ؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل ؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم، ومن وليه من الملائكة ؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه، فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً وطال سقمه، فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها" ؟ فقالوا: اللهم نعم: قال: "اللهم اشهد عليهم". وقال "أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد، والشبه بإذن الله أن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله" ؟ قالوا: نعم. قال: "اللهم اشهد عليهم". وقال: "أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه، ولا ينام قلبه" ؟ قالوا: اللهم نعم. قال: "اللهم اشهد" قالوا: وأنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك و نفارقك قال: "إن وليي جبريل ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك غيره لتابعناك، فعند ذلك قال الله تعالى: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} الآية، ورواه أحمد أيضاً عن حسين بن محمد عن عبد الحميد به،
(طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي، عن بكير بن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} قال" هاتوا" قالوا: أخبرنا عن علامة النبي قال: "تنام عيناه ولا ينام(1/468)
قلبه"، قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة، وكيف تذكر ؟ قال: "يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة، أذكرت، وإذا علا ماء المرأة أنثت" قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال: كان يشتكي عرق النسا، فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا وكذا - قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل - فحرم لحومها" قالوا: صدقت، قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال: "ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيده - أو في يديه - مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله عز وجل" قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع ؟ قال "صوته". قالوا صدقت، إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك أن أخبرتنا بها، إنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك ؟ قال: "جبريل عليه السلام"، قالوا: جبريل ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر، لكان، فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} والآية بعدها، وقد رواه الترمذي والنسائي، من حديث عبد الله بن الوليد العجلي به نحوه، وقال الترمذي: حس غريب، وقال ابن جريج والعوفي عن ابن عباس: كان إسرائيل عليه السلام - وهو يعقوب - يعتريه عرق النسا بالليل، وكان يقلقه ويزعجه عن النوم، ويقلع الوجع عنه بالنهار، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عرقاً ولا يأكل ولد ما له عرق، وهكذا قال الضحاك والسدي، كذا رواه وحكاه ابن جرير في تفسيره، قال: فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استناناً به واقتداء بطريقه، قال: وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، قلت: ولهذا السياق بعدما تقدم مناسبتان (إحداهما) أن إسرائيل عليه السلام حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله، وكان هذا سائغاً في شريعتهم فله مناسبة بعد قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فهذا هو المشروع عندنا,وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبه العبد ويشتهيه، كما قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الآية.
(المناسبة الثانية) لما تقدم بيان الرد على النصارى، واعتقادهم الباطل في المسيح وتبيين زيف ما ذهبوا إليه وظهور الحق واليقين في أمر عيسى وأمه، كيف خلقه الله بقدرته ومشيئته وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تبارك وتعالى، شرع في الرد على اليهود قبحهم الله تعالى وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع، فإن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة أن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة، أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها فاتبعه بنوه في ذلك، وجاءت التوراة بتحريم ذلك، وأشياء أخرى زيادة على ذلك، وكان الله عز وجل قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه، وقد حرم ذلك بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم عليه السلام، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرم مثل هذا في التوراة عليهم، وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغاً، وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين، ثم حرم عليهم ذلك في التوراة، وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم، وهذا هو النسخ بعينه، فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح عليه السلام، في إحلاله بعض ما حرم في التوراة، فما بالهم لم يتبعوه ؟ بل كذبوه وخالفوه ؟ وكذلك ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الدين القويم، والصراط المستقيم، وملة أبيه إبراهيم، فما بالهم لا يؤمنون ؟ ولهذا قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ(1/469)
قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} أي كان حلاً لهم، جميع الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرمه إسرائيل، ثم قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} فإنها ناطقة بما قلناه {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائماً، وأنه لم يبعث نبياً آخر يدعو إلى الله بالبراهين والحجج بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرناه {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ثم قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن، {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال تعالى :{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
{إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ الله غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم، يطوفون به، ويصلون إليه، ويعتكفون عنده {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه، ولهذا قال تعالى: {مُبَارَكاً} أي وضع مباركاً {وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال "المسجد الحرام". قلت: ثم أي ؟ قال: "المسجد الأقصى". قلت: كم بينهما ؟ قال: "أربعون سنة". قلت: ثم أي ؟ قال: "ثم حيث أدركتَ الصلاة فصل فكلها مسجد" وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد بن سليمان، عن شريك، عن مجالد، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} قال: كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله. وحدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة، قال: قام رجل إلى علي رضي الله عنه، فقال: ألا تحدثني عن البيت، أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً، وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في أول سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا، وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقاً، والصحيح قول علي رضي الله عنه. فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً "بعث الله جبريل إلى آدم وحواء، فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم، ثم أمر بالطواف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا(1/470)
أول بيت وضع للناس" فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف. والأشبه. والله أعلم، أن يكون هذا موقوفاً على عبد الله بن عمرو، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب.
وقوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} بكة من أسماء مكة على المشهور، قيل: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها وقيل: لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون. قال قتادة: أن الله بك به الناس جميعاً، فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها، وكذا روى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعمرو بن شعيب ومقاتل بن حيان. وذكر حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: مكة من الفج إلى التنعيم، وبكة من البيت إلى البطحاء، وقال شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم: بكة البيت والمسجد، وكذا قال الزهري. وقال عكرمة، في رواية، وميمون بن مهران: البيت وما حوله بكة، وما وراء ذلك مكة. وقال أبو صالح وإبراهيم النخعي وعطية العوفي ومقاتل بن حيان: بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة، وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة: مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأم رحم، وأم القرى، وصلاح، والعرش على وزن بدر، والقادس لأنها تطهر من الذنوب، والمقدسة، والناسة بالنون، وبالباء أيضاً والحاطمة، والنسّاسة، والرأس، وكوثاء والبلدة، والبنية، والكعبة.
وقوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمه وشرفه، ثم قال تعالى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله إسماعيل، وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادتها ههنا، و لله الحمد والمنة. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} أي فمنهنّ مقام إبراهيم والمشْعَر. وقال مجاهد: أثر قدميه في المقام آية بينة، وكذا روى عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافياً غير ناعل
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد وعمرو الأودي، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} قال: الحرم كله مقام إبراهيم، ولفظ عمرو: الحجر كله مقام إبراهيم، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج مقام إبراهيم هكذا رأيته في النسخة، ولعله الحجر كله مقام إبراهيم، وقد صرح بذلك مجاهد. وقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية، كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى التّيْمي، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه، وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ(1/471)
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} الآية، وقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها، كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعاً وموقوفاً. ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" وقال يوم الفتح فتح مكة "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله، إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاها" فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال "إلا الإذخر" ، ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه، ولهما واللفظ لمسلم أيضاً عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال "إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لمريء يؤمن با لله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له أن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب". فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو ؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، أن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بخَزْية، وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد كم أن يحمل بمكة السلاح" رواه مسلم. وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحَزْوَرَة بسوق مكة، يقول: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وكذا صَحّح من حديث ابن عباس نحوه وروى أحمد عن أبي هريرة نحوه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان، حدثنا أبو عاصم، عن زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم، حدثني زياد ابن أبي عياش، عن يحيى بن جعدة بن هبيرة في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قال: آمناً من النار. وفي معنى هذا القول الحديث الذي رواه البيهقي: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، حدثنا أحمد بن عبيد، حدثنا محمد بن سليمان الواسطي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا ابن المؤمل عن ابن محيصن، عن عطاء، عن عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج من سيئة، وخرج مغفوراً له" ثم قال: تفرد به عبد الله بن المؤمل، وليس بالقوي. وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} هذه آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، والأول أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم(1/472)
لوجبت ولما استطعتم" ثم قال "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"، ورواه مسلم عن زهير بن حرب عن يزيد بن هارون به نحوه. وقد روى سفيان بن حسين وسليمان بن كثير وعبد الجليل بن حميد ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري، عن أبي سنان الدؤلي واسمه يزيد بن أمية، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس أن الله كتب عليكم الحج" فقام الأقرع بن حابس، فقال: يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال "لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، والحاكم من حديث الزهري به، ورواه شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه. وروي من حديث أسامة بن يزيد.
قال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وردان عن علي بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البَخْتَري، عن علي رضي الله عنه، قال: لما نزلت {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قالوا: يا رسول الله في كل عام ؟ فسكت، قالوا: يا رسول الله في كل عام ؟ قال "لا، ولو قلت نعم لوجبت" ، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وكذا رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث منصور بن وردان به، ثم قال الترمذي، حسن غريب، وفيما قال نظر، لأن البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من علي. وقال ابن ماجه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا محمد بن أبي عبيدة عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك، قال: قالوا: يا رسول الله، الحج في كل عام ؟ قال" لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها، لعذبتم" . وفي الصحيحين من حديث ابن جريج عن عطاء، عن جابر، عن سراقة بن مالك، قال يا رسول الله، متعتنا هذه لعامنا هذا، أم للأبد ؟ قال "لا، بل للأبد". وفي رواية "بل لأبد أبد".
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لنسائه في حجته "هذه ثم ظهور الحصر - يعني ثم الزمن ظهور الحصر - ولا تخرجن من البيوت" وأما الاستطاعة فأقسام: تارة يكون الشخص مستطيعاً بنفسه، وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الأحكام، قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا إبراهيم بن يزيد، قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله ؟ قال: "الشعث التفل"، فقام آخر فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال: "العج والثج"، فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله ؟ قال: "الزاد والراحلة" ، وهكذا رواه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخوزي، قال الترمذي: ولا نعرفه إلا من حديثه، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، كذا قال ههنا وقال في كتاب الحج: هذا حديث حس. لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا، وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث، لكن قد تابعه غيره، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن محمد بن عباد بن جعفر، قال: جلست إلى عبد الله بن عمر، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما السبيل ؟ قال "الزاد والراحلة" وهكذا رواه ابن مردويه من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير به ثم قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك، وقد روي هذا الحديث من طرق أخرى من حديث أنس وعبد الله بن عباس وابن مسعود وعائشة(1/473)
كلها مرفوعة، ولكن في أسانيدها مقال كما هو مقرر في كتاب الأحكام، والله أعلم. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث، ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقيل: ما السبيل ؟ قال "الزاد والراحلة"، ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية عن يونس، عن الحسن، قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقالوا: يا رسول الله ما السبيل ؟ قال "الزاد والراحلة"، ورواه وكيع في تفسيره عن سفيان، عن يونس به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا الثوري، عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي، عن فضيل، يعني ابن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي، عن مهران بن أبي صفوان، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد الحج فليتعجل" ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي معاوية الضرير به. وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال: من ملك ثلثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلاً، وعن عكرمة مولاه أنه قال: السبيل الصحة وروى وكيع بن الجراح عن أبي جناب يعني الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس، قال {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال "الزاد والبعير" وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. وقال سعيد بن منصور عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة، قال: لما نزلت {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ} قالت اليهود: فنحن مسلمون، قال الله عز وجل: فاخْصِمهم فحجهم، يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلاً" فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود، حدثنا مسلم بن إبراهيم، وشاذ بن فياض، قالا: حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن الحارث، عن علي رضي الله عنه,قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك زاداً وراحلة ولم يحج بيت الله، فلا يضره مات يهودياً أو نصرانياً، ذلك بأن الله قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ورواه ابن جرير من حديث مسلم بن إبراهيم به، وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة الرازي: حدثنا هلال بن فياض، حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني، فذكره بإسناده مثله، ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى القطعي عن مسلم بن إبراهيم، عن هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي به، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال مجهول، والحارث يضعف في الحديث. وقال البخاري: هلال هذا منكر الحديث. وقال ابن عدي: هذا الحديث ليس بمحفوظ. وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث أبي عمرو الأوزاعي: حدثني إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، حدثني عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً، وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه. وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد(1/474)
هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ}
هذا تعنيف من الله تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق، وكفرهم بآيات الله، وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم، مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله، بما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين والسادة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن، وما بشروا به ونوهوا به من ذكر النبي الأمي الهاشمي العربي المكي سيد ولد آدم، وخاتم الأنبياء، ورسول رب الأرض والسماء، وقد توعدهم الله على ذلك، وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ومعاملتهم الرسول المبشر به بالتكذيب والجحود والعناد، فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون، أي وسيجزيهم على ذلك {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}
يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله وما منحهم به من إرسال رسوله، كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} الآية، وهكذا قال ههنا {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} ثم قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} يعني أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه، فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلاً ونهاراً، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية بعدها. وكما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه يوماً: "أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً ؟" قالوا: الملائكة. قال: "وكيف لا يؤمنون وهم عند ربهم" ؟ وذكروا الأنبياء، قال "وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟" قالوا: فنحن. قال "وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟" قالوا: فأي الناس أعجب إيماناً ؟ قال "قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها" وقد ذكرت سند هذا الحديث والكلام عليه في أول شرح البخاري، ولله الحمد، ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية، والعدّة في مباعدة الغواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد وحصول المراد.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ}(1/475)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن عن سفيان وشعبة عن زبيد اليامي، عن مرة، عن عبد الله هو ابن مسعود {اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ} قال: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وهذا إسناد صحيح موقوف، وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود، وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب، عن سفيان الثوري، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ} : أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى"، وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث مسعر عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود مرفوعاً، فذكره، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، كذا قال، والأظهر أنه موقوف، والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم: وروي نحوه عن مرة الهمداني والربيع بن خُثيم وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي وطاوس والحسن وقتادة وأبي سنان والسدي، نحو ذلك. وروي عن أنس أنه قال: لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية، والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال: لم تنسخ، ولكن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فعياذاً با لله من خلاف ذلك.
قال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا شعبة، قال: سمعت سليمان عن مجاهد: أن الناس كانوا يطوفون بالبيت وابن عباس جالس معه محجن، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، ولو أن قطرة من الزقوم قُطِرت لأَمَرّتْ على أهل الأرض عيشتهم، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم ؟" وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من طرق عن شعبة به وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن با لله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه".
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن با لله عز وجل" ورواه مسلم من طريق الأعمش به. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله قال: أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله" ، وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي".(1/476)
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الملك القرشي، حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت وأحسبه عن أنس، قال: كان رجل من الأنصار مريضاً، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فوافقه في السوق فسلم عليه، فقال له "كيف أنت يا فلان" ؟ قال: بخير يا رسول الله، أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف"، ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان، وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديثه، ثم قال الترمذي: غريب، وقد رواه بعضهم عن ثابت مرسلاً، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أخر إلا قائماً، ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن شعبة به، وترجم عليه فقال (باب كيف يخر للسجود)، ثم ساقه مثله فقيل: معناه أن لا أموت إلا مسلماً، وقيل: معناه أن لا أقتل إلا مقبلاً غير مدبر وهو يرجع إلى الأول.
وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} قيل {بِحَبْلِ اللَّهِ} أي بعهد الله، كما قال في الآية بعدها {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} أي بعهد وذمة، وقيل {بِحَبْلِ مِن اللَّهِ} يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعاً في صفة القرآن "هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم".
وقد ورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى، فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أسباط بن محمد عن عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض".
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص، عن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه" ، وروى من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك. وقال وكيع: حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: قال عبد الله: أن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين. يا عبد الله هذا الطريق، هلم إلى الطريق فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن.
وقوله: {وَلا تَفَرَّقُوا} أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} إلى آخر الآية، وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة(1/477)
شديدة وضغائن وإحن وذحول، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام، فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} إلى آخر الآية، وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم، فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان، وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسم، بما أراه الله فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي. وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي ؟" فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ . وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج، وذلك أن رجلاً من اليهود مَرّ بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه، حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم وتوعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟" وتلا عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم. وذكر عكرمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفك، والله أعلم.
{وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ تَفَرّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ تُرْجَعُ الأمور}
يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، قال الضحاك: هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة، يعني المجاهدين والعلماء. وقال أبو جعفر الباقر: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} ثم قال: "الخير اتباع القرآن وسنتي" رواه ابن مردويه. والمقصود من هذه الآية، أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرأً فيلغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" وفي رواية: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان الهاشمي، أنبأنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة بن اليمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم" ورواه(1/478)
الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن أبي عمرو به، وقال الترمذي: حسن، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، مع الآيات الكريمة، كما سيأتي تفسيرها في أماكنها، ثم قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الآية، ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع قيام الحجة عليهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثني أزهر بن عبد الله الهوزني، عن أبي عامر عبد الله بن لُحَيّ، قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة، قام حين صلى الظهر، فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثة وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وإنه سيخرج في أمتي أقوام تُجَارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله" والله يا معشر العرب، لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به، وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى، كلاهما عن أبي المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي به، وقد ورد هذا الحديث من طرق.
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} يعني يوم القيامة، حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة قاله ابن عباس رضي الله عنهما، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} قال الحسن البصري: وهم المنافقون {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} وهذا الوصف يعم كل كافر {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يعني الجنة ماكثون فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً، وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع عن ربيع بن صبيح وحماد بن سلمة، عن أبي غالب، قال: رأى أبو أمامة رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق، فقال أبو أمامة، كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} إلى آخر الآية، قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟: قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعاً - حتى عد سبعاً - ما حدثتكموه، ثم قال: هذا حديث حسن، وقد رواه ابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب وأخرجه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي غالب بنحوه.
وقد روى ابن مردويه عند تفسير هذه الآية عن أبي ذر حديثاً مطولاً غريباً عجيباً جداً، ثم قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي هذه آيات الله وحججه وبيناته نتلوها عليك يا محمد {بِالْحَقِّ} أي نكشف ما الأمر عليه في الدنيا والآخرة {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} أي ليس بظالم لهم بل هو الحكم، العدل الذي لا يجور، لأنه القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحداً من خلقه، ولهذا قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي الجميع ملك له وعبيد له {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة.(1/479)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرّوكُمْ إِلاّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدُبَارَ ثُمّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوَاْ إِلاّ بِحَبْلٍ مّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم، فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، عن سفيان عن ميسرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطية العوفي وعكرمة وعطاء والربيع بن أنس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} يعني خير الناس للناس، والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس، ولهذا قال {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا شريك، عن سماك، عن عبد الله بن عميرة، عن زوج دُرّة بنت أبي لهب، عن درة بنت أبي لهب قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال: "خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم" ورواه أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي خياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية.
وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأنتم أكرم على الله عز وجل" وهو حديث مشهور، وقد حسنه الترمذي، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه، وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا ابن زهير، عن عبد الله يعني ابن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي وهو ابن الحنفية: أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله " أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، فقلنا يا رسول الله ما هو ؟ قال "نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد وجعل التراب لي طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم" تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو العلاء الحسن بن سوار، حدثنا ليث عن معاوية عن أبي حَلْبَس(1/480)
يزيد بن ميسرة، قال سمعت أم الدرداء رضي الله عنها تقول: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها يقول: "إن الله تعالى يقول: يا عيسى إني باعث بعدك أمة أن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم قال: يا رب كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم ؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي".
وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها ههنا، قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا المسعودي حدثنا بكير بن الأخنس، عن رجل، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً" قال أبو بكر رضي الله عنه: فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافات البوادي.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا هشام بن حسان، عن القاسم بن مهران، عن موسى بن عبيد، عن ميمون بن مهران، عن عبد الرحمن بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي أعطاني سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر، يا رسول الله فهلا استزدته فقال استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفاً". قال عمر: فهلا استزدته ؟ قال قد استزدته فأعطاني هكذا" ، وفرج عبد الله بن بكر بين يديه، وقال عبد الله: وبسط باعيه، وحثا عبد الله، وقال هشام: وهذا من الله لا يدرى ما عدده.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة قال: قال شريح بن عبيد: مرض ثوبان بحمص، وعليها عبد الله بن قرط الأزدي، فلم يعده، فدخل على ثوبان رجل من الكلاعين عائداً، فقال له ثوبان: أتكتب ؟ قال: نعم، قال: اكتب، فكتب للأمير عبد الله بن قرط "من ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فإنه لو كان لموسى وعيسى عليهما السلام بحضرتك خادم لعدته"، ثم طوى الكتاب وقال له: أتبلغه إياه ؟ قال: نعم، فانطلق الرجل بكتابه فدفعه إلى ابن قرط، فلما رآه، قام فزعاً، فقال الناس: ما شأنه أحدث أمر ؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده وجلس عنده ساعة، ثم قام فأخذ ثوبان بردائه، وقال: اجلس حتى أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "ليدخلن الجنة من أمتّي سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً" تفرد به أحمد من هذا الوجه وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حمصيون، فهو حديث صحيح، ولله الحمد والمنة.
(طريق آخر): قال الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن زِبْريق الحمصي، حدثنا محمد بن إسماعيل يعني ابن عياش، حدثني أبي، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ربي عز وجل وعدني من أمتي سبعين ألفاً لا يحاسبون,مع كل ألف سبعون ألفاً" هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي بين شريح وبين ثوبان، والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ثم غدونا إليه، فقال "عرضت علي الأنبياء الليلة بأممها، فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي ومعه العصابة، والنبي ومعه النفر، والنبي وليس معه أحد، حتى مر علي موسى عليه السلام ومعه كَبْكَبَة من بني إسرائيل، فأعجبوني فقلت: من هؤلاء ؟ فقيل: هذا أخوك موسىَ معه بنو إسرائيل. قال: فقلت: فأين أمتي ؟ فقيل: انظر عن يمينك، فنظرت(1/481)
فإذا الظراب قد سد بوجوه الرجال ثم قيل لي: انظر عن يسارك. فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال، فقيل لي: أرضيت ؟ فقلت، رضيت يا رب - قال - فقيل لي: أن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فداكم أبي وأمي أن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفاً فافعلوا، فإن قصرتم فكونوا من أهل الظراب، فإن قصرتم فكونوا من أهل الأفق، فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون" فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، أي من السبعين، فدعا له، فقام رجل آخر فقال: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال "قد سبقك بها عكاشة" قال: ثم تحدثنا فقلنا: من ترون هؤلاء السبعين الألف، قوم ولدوا في الإسلام لم يشركوا بالله شيئاً حتى ماتوا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" هكذا رواه أحمد بهذا السند وهذا السياق، ورواه أيضاً عن عبد الصمد عن هشام عن قتادة بإسناده مثله، وزاد بعد قوله "رضيت يا رب، رضيت يا رب، قال: رضيت، قلت: نعم. قال انظر عن يسارك - قال - فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال، فقال: رضيت ؟ قلت: رضيت" وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه تفرد به أحمد، ولم يخرجوه.
(حديث آخر) قال أحمد بن منيع: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز، حدثنا حماد عن عاصم عن زر، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت عليّ الأمم بالمواسم فراثت عليّ أمتي، ثم رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم، قد ملؤوا السهل والجبل، فقال: أرضيت يا محمد ؟ فقلت: نعم. قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم". فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عكاشة" رواه الحافظ الضياء المقدسي، وقال: هذا عندي على شرط مسلم.
(حديث آخر) قال الطبراني: حدثنا محمد بن الجذوعي القاضي، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا محمد بن أبي عدي عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب" قيل: من هم ؟ قال "هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" ورواه مسلم من طريق هشام بن حسان، وعنده ذكر عكاشة.
(حديث آخر) ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفاً، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" فقال أبو هريرة: فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعله منهم" ثم قام رجل من الأنصار فقال مثله، فقال "سبقك بها عكاشة".
(حديث آخر) قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً - أو سبعمائة ألف - آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر" أخرجه البخاري ومسلم جميعاً عن قتيبة عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل به.(1/482)
(حديث آخر) قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، أنبأنا حصين بن عبد الرحمن، قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال، أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت، قال: فما صنعت ؟ قلت: استرقيت. قال: فما حملك على ذلك ؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم الشعبي ؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال "لا رقية إلا من عين أو حمة"، قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما الذي تخوضون فيه ؟" فأخبروه، فقال "هم الذين لا يرقون ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. "قال: أنت منهم"، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال "سبقك بها عكاشة" وأخرجه البخاري عن أسيد بن زيد عن هشيم، وليس عنده: لا يرقون.
(حديث آخر) قال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثاً، وفيه فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء" ثم كذلك، وذكر بقيته، رواه مسلم من حديث روح، غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً، مع كل ألف سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي عز وجل" وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش به، وهذا إسناد جيد.
(طريق أخرى) عن أبي أمامة. قال ابن أبي عاصم، حدثنا دحيم، حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر، عن أبي اليمان الهَوْزني واسمه عامر بن عبد الله بن لُحَيّ، عن أبي أمامة عن رسول الله، قال: "إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب " فقال يزيد بن الأخنس: والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل الذباب الأصهب في الذباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله وعدني سبعين ألفاً، مع كل ألف سبعون ألفاً وزادني ثلاث حثيات" ، وهذا أيضاً إسناد حسن،
(حديث آخر) قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن خليد، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربي عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب، ثم يشفع كل ألف لسبعين ألفاً، ثم يحثي ربي عز وجل بكفيه ثلاث حثيات" فكبر عمر وقال: أن(1/483)
السبعين الأول يشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر، قال الحافظ الضياء أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة: لا أعلم لهذا الإسناد علة، والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثني يحيى بن سعيد، حدثنا هشام يعني الدستوائي، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة، حدثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد أو قال: بقديد فذكر حديثاً وفيه ثم قال "وعدني ربي عز وجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب، وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوؤوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة" قال الضياء: وهذا عندي على شرط مسلم.
(حديث آخر) قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف". قال أبو بكر رضي الله عنه: زدنا يا رسول الله. قال: "والله هكذا". فقال عمر: حسبك يا أبا بكر، فقال أبو بكر: دعني وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا، فقال عمر: أن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق عمر" هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبد الرزاق. قاله الضياء وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا أبو هلال عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة ألف " فقال أبو بكر: يا رسول الله، زدنا. قال: "وهكذا وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك، قلت: يا رسول الله، زدنا فقال عمر: أن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق عمر"، هذا حديث غريب من هذا الوجه. وأبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي بصري.
(طريق آخر) عن أنس. قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، حدثنا حميد عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً" قالوا: زدنا يا رسول الله. قال: "لكل رجل سبعون ألفاً". قالوا: زدنا، وكان على كثيب، فقال "هكذا" وحثا بيده، قالوا: يا رسول الله أبعد الله من دخل النار بعد هذا، وهذا إسناد جيد، ورجاله كلهم ثقات، ما عدا عبد القاهر بن السري، وقد سئل عنه ابن معين فقال: صالح.
(حديث آخر) روى الطبراني من حديث قتادة عن أبي بكر بن أنس، عن أبي بكر بن عمير، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله وعدني أن يدخل من أمتي ثلثمائة ألف الجنة" فقال عمير: يا رسول الله، زدنا، فقال: هكذا، بيده، فقال عمير: يا رسول الله، زدنا فقال عمر: حسبك أن الله أن شاء أدخل الناس الجنة بحفنة أو بحثية واحدة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "صدق عمر".
(حديث آخر) قال الطبراني: حدثنا أحمد بن خليد، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عبد الله بن عامر أن قيساً الكندي حدثه أن أبا سعيد الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن ربي وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب، ويشفع كل ألف لسبعين ألفاً، ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه". كذا قال قيس، فقلت لأبي سعيد: آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم بأذني، ووعاه قلبي، قال أبو سعيد: فقال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وذلك أن شاء الله عز وجل يستوعب مهاجري(1/484)
أمتي ويوفي الله بقيته من أعرابنا" وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناده مثله، وزاد: قال أبو سعيد: فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألف ألف.
(حديث آخر) قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفس محمد بيده ليبعثن منكم يوم القيامة إلى الجنة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يَخْبِطون الأرض، تقول الملائكة: لم جاء مع محمد أكثر مما جاء مع الأنبياء ؟" وهذا إسناد حسن.
(نوع آخر) - من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله عز وجل، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة، قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأرجو أن يكون من يتبعني من أمتي يوم القيامة ربع الجنة" قال: فكبرنا، ثم قال: "أرجو أن يكونوا ثلث الناس" قال: فكبرنا، ثم قال: "أرجو أن تكونوا الشطر"، وهكذا رواه عن روح عن ابن جريج به، وهو على شرط مسلم. وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟" فكبرنا، ثم قال "أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟" فكبرنا، ثم قال "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة".
(طريق أخرى) عن ابن مسعود. قال الطبراني: حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثني الحارث بن حَصِيرة، حدثني القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم وربع الجنة لكم ولسائر الناس ثلاثة أرباعها ؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "كيف أنتم وثلثها ؟" قالوا: ذاك أكثر، قال: "كيف أنتم والشطر لكم ؟" قالوا: ذاك أكثر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، لكم منها ثمانون صفاً" قال الطبراني: تفرد به الحارث بن حَصِيرة.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا ضرار بن مرة أبو سنان الشيباني عن محارب بن دِثار، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، هذه الأمة من ذلك ثمانون صفاً" وكذا رواه عن عفان عن عبد العزيز به، وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان به، وقال: هذا حديث حسن، ورواه ابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه به.
(حديث آخر) - روى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي: حدثنا خالد بن يزيد البجلي، حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من أمتي" تفرد به خالد بن يزيد البجلي، وقد تكلم فيه ابن عدي.
(حديث آخر) قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا موسى بن غيلان، حدثنا هاشم بن مخلد، حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان، عن أبي عمرو، عن أبيه عن أبي هريرة، قال: لما نزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم ربع أهل الجنة، أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة".(1/485)
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، الناسُ لنا فيه تبع، غداً لليهود للنصارى بعد غد" رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرفوعاً بنحوه، ورواه مسلم أيضاً من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة" وذكر تمام الحديث.
(حديث آخر) - روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي" ، ثم قال: انفرد به ابن عقيل عن الزهري، ولم يرو عنه سواه، وتفرد به زهير بن محمد عن ابن عقيل، وتفرد به عمرو بن أبي سلمة عن زهير. وقد رواه أبو أحمد بن عدي الحافظ، فقال: حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق، حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي عَتّاب، حدثنا أبو حفص التنيسي - يعني عمرو بن أبي سلمة - حدثنا صدقة الدمشقي عن زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري. ورواه الثعلبي: حدثنا أبو العباس المخلدي أنبانا أبو نعيم عبد الملك بن محمد، أنبانا أحمد بن عيسى التنيسي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله عن زهير بن محمد عن ابن عقيل به.
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح، كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها، رأى من الناس سرعة، فقرأ هذه الآية {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ثم قال: من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله فيها، رواه ابن جرير، ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} الآية، ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات، شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {كَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} أي قليل منهم من يؤمن با لله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان.
ثم قال تعالى مخبراً عباده المؤمنين ومبشراً لهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، فقال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} وهكذا وقع، فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن، وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك، ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام. ثم قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} أي ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} أي بذمة من الله، وهو عقد الذمة لهم وضرب الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} أي أمان منهم لهم، كما في المهادن والمعاهَد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين، ولو امرأة، وكذا عبد على أحد قولي العلماء، قال ابن عباس {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ(1/486)
النَّاسِ} أي بعهد من الله وعهد من الناس وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي والربيع بن أنس. وقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي ألزموا فالتزموا بغضب من الله وهم يستحقونه {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} أي ألزموها قدراً وشرعاً. ولهذا قال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي وإنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبداً متصلاً بذل الآخرة، ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله، وقيضوا لذلك - أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله عز وجل والغشيان لمعاصي الله، والاعتداء في شرع الله، فعياذاً بالله من ذلك، والله عز وجل المستعان. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر الأزدي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلثمائة نبي، ثم يقوم سوق بقلهم آخر النهار.)
{لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ أن الّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
قال ابن أبي نجيح: زعم الحسن بن يزيد العجلي، عن ابن مسعود في قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا قال السدي. ويؤيد هذا القول الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا أبو النضر وحسن بن موسى، قالا: حدثنا شيبان عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال "أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم" قال: فنزلت هذه الآيات {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } - إلى قوله - { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس - أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سَعْيَة وأسيد بن سَعْيَة وغيرهم، أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً} أي ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة، يعني مستقيمة {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي يقومون الليل ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} الآية، ولهذا قال تعالى(1/487)
ههنا {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} أي لا يضيع عند الله، بل يجزيهم به أوفر الجزاء {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} أي لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً. ثم قال تعالى مخبراً عن الكفرة المشركين بأنه {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي لا يرد عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ثم ضرب مثلاً لما ينفقه الكفار في هذه الدار، قاله مجاهد والحسن والسدي، فقال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أي برد شديد، قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم. وقال عطاء: برد وجليد، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد {فِيهَا صِرٌّ} أي نار وهو يرجع إلى الأول، فإن البرد الشديد ولا سيما الجليد يحرق الزروع والثمار، كما يحرق الشيء بالنار {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} أي فأحرقته، يعني بذلك السفعة إذا نزلت على حرث قد أن جذاذه أو حصاده، فدمرته وأعدمت ما فيه من ثمر أو زرع، فذهبت به وأفسدته، فعدمه صاحبه أحوج ما كان إليه. فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا وثمرتها، كما أذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه. وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل وعلى غير أساس {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدّواْ مَا عَنِتّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الآيات إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَآأَنْتُمْ أُوْلآءِ تُحِبّونَهُمْ وَلاَ يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضّواْ عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِن اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لاَ يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أن اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
يقول تبارك وتعالى ناهياً عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم، لا يألون المؤمنين خبالاً، أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودّون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم، وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أي من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخلة أمره. وقد روى البخاري والنسائي وغيرهما، من حديث جماعة منهم يونس ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وابن أبي عتيق عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله" ، وقد رواه الأوزاعي ومعاوية بن سلام عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه، فيحتمل أنه عند الزهري عن أبي سلمة عنهما وأخرجه النسائي عن الزهري أيضاً، وعلقه البخاري في صحيحه فقال: وقال عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي أيوب الأنصاري فذكره فيحتمل أنه عند أبي سلمة عن ثلاثة من الصحابة، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان، حدثنا عيسى بن يونس عن أبي حيان(1/488)
التيمي، عن أبي الزنباع، عن ابن أبي الدهقانة، قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن ههنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتباً، فقال: قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين. ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين وإطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب، ولهذا قال تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} ، وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن إسرائيل، حدثنا هشيم، حدثنا العوام عن الأزهر بن راشد، قال: كانوا يأتون أنساً فإذا حدثهم بحديث لا يدرون ما هو، أتوا الحسن يعني البصري، فيفسره لهم، قال: فحدث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تستضيئوا بنار المشركين، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً" فلم يدروا ما هو، فأتوا الحسن فقالوا له: أن أنساً حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستضيئوا بنار المشركين، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً" فقال الحسن: أما قوله "لا تنقشوا في خواتيمكم عربياً": محمد صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: "لا تستضيئوا بنار المشركين" يقول: لا تستشيروا المشركين في أموركم. ثم قال الحسن: تصديق ذلك في كتاب الله {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله تعالى، وقد رواه النسائي عن مجاهد بن موسى، عن هشيم، ورواه الإمام أحمد عن هشيم بإسناده مثله في غير ذكر تفسير الحسن البصري، وهذا التفسير فيه نظر ومعناه ظاهر "لا تنقشوا في خواتيمكم عربياً" أي بخط عربي، لئلا يشابه نقس خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان نقشه محمد رسول الله، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن ينقش أحد على نقشه. وأما الاستضاءة بنار المشركين، فمعناه لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم، بل تباعدوا منهم، وهاجروا من بلادهم، ولهذا روى أبو داود "لا تتراءى ناراهما" وفي الحديث الآخر "من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله" فحمل الحديث على ما قاله الحسن رحمه الله، والاستشهاد عليه بالآية فيه نظر، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} أي قد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل، ولهذا قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرونه لكم من الإيمان فتحبونهم على ذلك، وهم لا يحبونكم لا باطناً ولا ظاهراً، {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أي ليس عندكم في شيء منه شك ولا ريب، وهم عندهم الشك والريب والحيرة. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أي بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم، رواه ابن جرير، {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} والأنامل أطراف الأصابع، قاله قتادة. وقال الشاعر:
أَوَدّ كما ما بَلّ حلقي ريقتي ... وما حملت كفاي أنملي العشرا
وقال ابن مسعود والسدي والربيع بن أنس: الأنامل الأصابع، وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الإيمان والمودة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ(1/489)
الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وذلك أشد الغيظ والحنق. قال الله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه، ومعل كلمته ومظهر دينه، فموتوا أنتم بغيظكم {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغلّ للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها. ثم قال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم، ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب أو أديل عليهم الأعداء، لما لله تعالى في ذلك من الحكمة - كما جرى يوم أُحد - فرح المنافقون بذلك، قال الله تعالى مخاطباً للمؤمنين {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} الآية، يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به. وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة أحد وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين. والتمييز بين المؤمنين والمنافقين وبيان صبر الصابرين فقال تعالى:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمّتْ طّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ فَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}
المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغير واحد. وعن الحسن البصري: المراد بذلك يوم الأحزاب. رواه ابن جرير، وهو غريب لا يعول عليه. وكانت وقعة أحد يوم السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة. قال قتادة: لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال. وقال عكرمة: يوم السبت للنصف من شوال، فالله أعلم، وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان فلما رجع قَفَلُهُم إلى مكة قال أبناء من قتل، ورؤساء من بقي لأبي سفيان: أرصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك، فجمعوا الجموع والأحابيش، وأقبلوا في نحو من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أحد تلقاء المدينة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فلما فرغ منها صلى على رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس "أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة"¹ فأشار عبد الله بن أبي بالمقام بالمدينة، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروج إليهم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته وخرج عليهم، وقد ندم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله أن شئت أن(1/490)
نمكث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يرجع حتى يحكم الله له" فسار صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، فلما كانوا بالشوط، رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضباً لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم. واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي. وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: "لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال". وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه. وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف. والرماة يومئذ خمسون رجلاً، فقال لهم "انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين من قبلكم والزموا مكانكم أن كانت النوبة لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم" وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار. وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغلمان يومئذ وأرجأ آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين، وتعبّأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار، ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات، إن شاء الله تعالى، ولهذا قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي تنزلهم منازلهم، وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لما تقولون، عليم بضمائركم.
وقد أورد ابن جرير ههنا سؤالاً حاصله: كيف تقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} الآية ؟ ثم كان جوابه عنه: أن غدوه ليبوأهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار. وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} الآية، قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال: قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} الآية، قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة. وما نحب - وقال سفيان مرة - وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به. وكذا قال غير واحد من السلف: إنهم بنو حارثة وبنو سلمة. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} أي يوم بدر، وكان يوم الجمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك، وخرب محله وحزبه هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فيهم فرسان وسبعون بعيراً، والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه. وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعُدد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً } - إلى - {غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن سماك، قال: سمعت عياضاً الأشعري قال: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء: أبو عبيدة، ويزيد بن أبي(1/491)
سفيان، وابن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض وليس عياض هذا الذي حدث سماكاً قال: وقال عمر: إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة، قال فكتبنا إليه إنه قد جاش إلينا الموت، واستمددناه، فكتب إلينا إنه قد جاءني كتابكم تستمدونني، وإني أدلكم على من هو أعز نصراً، وأحصن جنداً: الله عز وجل فاستنصروه، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا، فقاتلوهم ولا تراجعوني، قال: فقاتلناهم فهزمناهم أربعة فراسخ، قال: وأصبنا أموالاً فتشاورنا، فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة، قال: وقال أبو عبيدة: من يراهنني ؟ فقال شاب: أنا أن لم تغضب قال: فسبقه فرأيت عقيصتي أبي عبيدة تَنْفُزَان وهو خلفه على فرس عُرْي، وهذا إسناد صحيح، وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث بندار عن غندر بنحوه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه، وبدر: محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها، منسوبة إلى رجل حفرها، يقال له: بدر بن النارين، قال الشعبي: بدر بئر لرجل يسمى بدراً، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تقومون بطاعته.
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أن يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَىَ أن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلآفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرَىَ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النّصْرُ إِلاّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
اختلف المفسرون في هذا الوعد، هل كان يوم بدر أو يوم أحد ؟ على قولين (أحدهما) أن قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} متعلق بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} ورُوي هذا عن الحسن البصري وعامر الشعبي والربيع بن أنس وغيرهم، واختاره ابن جرير قال عباد بن منصور عن الحسن في قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} قال: هذا يوم بدر، رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا داود عن عامر يعني الشعبي: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} - إلى قوله - {مُسَوِّمِينَ} قال: فبلغت كُرْزاً الهزيمة، فلم يمد المشركين، ولم يمد الله المسلمين بالخمسة، وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية على هذا القول، وبين قوله تعالى في قصة بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} - إلى قوله - {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ؟ فالجواب أن التنصيص على الألف - ههنا - لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها، لقوله: {مُرْدِفِينَ} بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم. وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران. فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، والله أعلم. وقال سعيد بن أبي(1/492)
عروبة، عن قتادة: أمد الله المسلمين يوم بدر بخمسة آلاف. (القول الثاني) - أن هذا الوعد متعلق بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} وذلك يوم أُحد وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم. لكن قالوا: لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف لأن المسلمين فروا يومئذ، زاد عكرمة: ولا بالثلاثة الآلاف لقوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا بملك واحد وقوله: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} يعني: تصبروا على عدوكم، وتتقوني وتطيعوا أمري. وقوله تعالى: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قال الحسن وقتادة والربيع والسدي: أي من وجههم هذا، وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح: أي من غضبهم هذا. وقال الضحاك: من غضبهم ووجههم. وقال العوفي عن ابن عباس: من سفرهم هذا، ويقال: من غضبهم هذا. وقوله تعالى: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} أي معلمين بالسيما، وقال أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان سيماهم أيضاً في نواصي خيولهم، رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: حدثنا أبو زرعة، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذه الآية {مُسَوِّمِينَ} قال: بالعهن الأحمر، وقال مجاهد: {مُسَوِّمِينَ} أي محذفة أعرافها، معلمة نواصيها بالصوف الأبيض في أذناب الخيل. وقال العوفي، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: أتت الملائكة محمداً صلى الله عليه وسلم، مسومين بالصوف، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف. وقال قتادة وعكرمة {مُسَوِّمِينَ} أي بسيما القتال، وقال مكحول: مسومين بالعمائم. وروى ابن مردويه من حديث عبد القدوس بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {مُسَوِّمِينَ} قال "معلمين" . وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم حنين عمائم حمر. وروى من حديث حصين بن مخارق عن سعيد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان سيما الملائكة يوم بدر، عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر. ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عدداً ومدداً لا يضربون، ثم رواه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس فذكر نحوه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الأحمسي، حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عروة عن يحيى بن عباد أن الزبير رضي الله عنه، كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجراً بها، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر، رواه ابن مردويه من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، فذكره. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} أي وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييباً لقلوبكم وتطميناً، وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ(1/493)
بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} ولهذا قال ههنا {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي هو ذو العزة التي لا ترام، والحكمة في قدره والأحكام، ثم قال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي أمركم بالجهاد والجلاد لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين، فقال: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} أي ليهلك أمة {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أي يخزيهم ويردهم بغيظهم لما لم ينالوا منكم ما أرادوا. ولهذا قال: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا} أي يرجعوا {خَائِبِينَ} أي لم يحصلوا على ما أملوا. ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له، فقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} أي بل الأمر كله إليّ، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} وقال {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قال محمد بن إسحاق في قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم، ثم ذكر تعالى بقية الأقسام، فقال {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم بعد الضلالة {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم، ولهذا قال {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي يستحقون ذلك. وقال البخاري: حدثنا حبان بن موسى، أنبأنا عبد الله، أنبأنا معمر عن الزهري، حدثني سالم عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر "اللهم العن فلاناً وفلاناً" بعدما يقول سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد " فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية وهكذا رواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق، كلاهما عن معمر به. وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو عقيل - قال أحمد: وهو عبد الله بن عقيل صالح الحديث ثقة - حدثنا عمر بن حمزة عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم العن فلاناً، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية" فنزلت هذه الآية {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فتيب عليهم كلهم وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية الغَلابي، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا محمد بن عجلان عن نافع، عن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو على أربعة، قال: فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} إلى آخر الآية، قال: وهداهم الله للإسلام. وقال محمد بن عجلان عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال، كان رسول الله يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم، حتى أنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية، وقال البخاري أيضاً: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع وربما قال: إذا قال "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر "اللهم العن فلاناً وفلاناً" لأحياء من أحياء العرب، حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية.
وقال البخاري: قال حميد وثابت، عن أنس بن مالك: شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟" فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} وقد أسند هذا الحديث الذي علقه البخاري في صحيحه، فقال البخاري في غزوة أحد: حدثنا يحيى بن عبد الله السلمي، أخبرنا عبد الله، أخبرنا معمر عن الزهري، حدثني(1/494)
سالم بن عبد الله بن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر "اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً" بعدما يقول "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. وعن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة، وقد تقدمت مسندة متصلة في مسند أحمد آنفاً.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا حميد عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل ؟" فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} انفرد به مسلم، فرواه عن القعنبي، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، فذكره.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح: حدثنا الحسين بن واقد عن مطر، عن قتادة، قال: أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكسرت رباعيته، وفرق حاجبه، فوقع وعليه درعان والدم يسيل، فمر به سالم مولى أبي حذيفة فأجلسه ومسح عن وجهه، فأفاق وهو يقول "كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل ؟" فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية، وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بنحوه، ولم يقل: فأفاق.
ثم قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي الجميع ملك له، وأهلها عبيد بين يديه {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
{يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتّقُواْ النّارَ الّتِيَ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مّغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين، إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضاه، وإلا زاده في المدة، وزاده الآخر في القدر، وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً، وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ(1/495)
وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أي كما أعدت النار للكافرين، وقد قيل أن معنى قوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} تنبيهاً على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أي فما ظنك بالظهائر ؟، وقيل: بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن" وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية، وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ؟" وقد رواه ابن جرير فقال: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني مسلم بن خالد عن أبي خُثيم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مرة، قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخاً كبيراً قد فسد، فقال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلاً عن يساره، قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين، فأين النار ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار ؟" وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار ؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل ؟ وإذا جاء الليل أين النهار ؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة، رواه ابن جرير من ثلاثة طرق، ثم قال: حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا جعفر بن برقان، أنبأنا يزيد بن الأصم: أن رجلاً من أهل الكتاب قال: يقولون {جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} فأين النار ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: أين يكون الليل إذا جاء النهار، وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟ وقد روي هذا مرفوعاً، فقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام، حدثنا عبد الواحد بن زياد عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم، عن عمه يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت قوله تعالى: {جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} فأين النار ؟ قال: "أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء، فأين النهار ؟" قال: حيث شاء الله، قال "وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل" وهذا يحتمل معنيين (أحدهما) أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل، وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة عن البزار. (الثاني) أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الأخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش وعرضها، كما قال الله عز وجل {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار، والله أعلم.
ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} أي في الشدة والرخاء والمنشط(1/496)
والمكره والصحة والمرض وفي جميع الأحوال، كما قال {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه. والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر. وقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم. وقد ورد في بعض الآثار "يقول الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت، أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك" ، رواه ابن أبي حاتم، وقد قال أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الزمن، حدثنا عيسى بن شعيب الضرير أبو الفضل، حدثني الربيع بن سليمان الجيري عن أبي عمرو بن أنس بن مالك، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كف غضبه، كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه، ستر الله عورته، ومن اعتذر إلى الله، قبل الله عذره" وهذا حديث غريب، وفي إسناده نظر، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا مالك عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" وقد رواه الشيخان من حديث مالك. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عبد الله وهو ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله" قال: قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال "اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله، مالك من مالك إلا ما قدمت، ومالُ وارثك ما أخرْتَ" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تعدون الصرعة فيكم ؟" قلنا: الذي لا تصرعه الرجال. قال "لا ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب". قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون فيكم الرقوب ؟" قلنا: الذي لا ولد له. قال "لا، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئاً" أخرج البخاري الفصل الأول منه، وأخرج مسلم أصل هذا الحديث، من رواية الأعمش به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة سمعت عروة بن عبد الله الجعفي يحدث عن حصبة أو ابن أبي حصين، عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: "تدرون ما الرقوب ؟" قلنا: الذي لا ولد له، قال "الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً" قال "تدرون ما الصعلوك ؟" قالوا: الذي ليس له مال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً" قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما الصرعة ؟" قالوا: الصريع قال فقال صلى الله عليه وسلم: "الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه".
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن الأحنف بن قيس، عن عم له يقال له جارية بن قدامة السعدي، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، قل لي قولاً ينفعني وأقلل عليّ لعلي أعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب" فأعاد عليه حتى أعاد عليه مراراً كل ذلك يقول "لا تغضب"، وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام به، ورواه أيضاً عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام به، أن رجلاً قال: يا رسول الله، قل لي قولاً وأقلل عليّ لعلي أعقله، فقال "لا تغضب" الحديث، انفرد به أحمد.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله أوصني، قال: "لا تغضب". قال الرجل: ففكرت(1/497)
حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله، انفرد به أحمد.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي ابن حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل: أنا، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه، وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له: يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت، فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" ، ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده إلا أنه وقع في روايته عن أبي حرب عن أبي ذر، والصحيح ابن أبي حرب عن أبيه عن أبي ذر، كما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا أبو وائل الصنعاني، قال: كنا جلوساً عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه، فلما أن أغضبه قام ثم عاد إلينا وقد توضأ، فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي - وقد كانت له صحبة - قال: قال رسول الله "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أغضب أحدكم فليتوضأ" . وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنعاني عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني، قال أبو داود: أراه عبد الله بن بحير.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا نوح بن جَعْونة السلمي، عن مقاتل بن حيان، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسراً أو وضع له، وقاه الله من فيح جهنم، ألا أن عمل الجنة حزن بربوة - ثلاثاً - ألا أن عمل النار سهل بسهوة. والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيماناً" ، انفرد به أحمد، وإسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن.
(حديث آخر في معناه) - قال أبو داود: حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي عن بشر يعني ابن منصور، عن محمد بن عجلان، عن سويد بن وهب، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، ملأه الله أمناً وإيماناً، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه - قال بشر: أحسبه قال: تواضعاً - كساه الله حلة الكرامة ومن زوّج لله كساه الله تاج الملك".
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد قال: حدثنا سعيد، حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه أن رسول الله قال "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء" ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن أبي أيوب به، وقال الترمذي: حسن غريب.
(حديث آخر) - قال عبد الرزاق: أنبأنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل، عن عم له، عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً " رواه ابن جرير.(1/498)
(حديث آخر) - قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، أنبأنا يحيى بن أبي طالب، أنبأنا علي بن عاصم، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله" وكذا رواه ابن ماجه عن بشر بن عمر، عن حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد به، فقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل. ثم قال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فهذا من مقامات الإحسان، وفي الحديث "ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله" ، وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القرشي، عن عبادة بن الصامت، عن أبي بن كعب أن رسول الله، قال: "من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك. وروي عن طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس ؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم، وحق على كل امريء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة" وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن رجلاً أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره، فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب، إني عملت ذنباً فاغفره، فقال عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء". أخرجه في الصحيح من حديث إسحاق بن أبي طلحة بنحوه.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو عامر، قالا: حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين، سمع أبا هريرة، قلنا: يا رسول الله، إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا، وشممنا النساء والأولاد، فقال "لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم". قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال "لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين" ، ورواه الترمذي(1/499)
وابن ماجه من وجه آخر من حديث سعد به، ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة لما رواه الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا وكيع، حدثنا مسعر وسفيان الثوري عن عثمان بن المغبرة الثقفي، عن علي بن ربيعة، عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي رضي الله عنه، قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني - وصدق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء - قال مسعر - فيصلي - وقال سفيان - ثم يصلي ركعتين، فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له" وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والبزار والدارقطني من طرق عن عثمان بن المغيرة به، وقال الترمذي: هو حديث حسن، وقد ذكرنا طرقه، والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبالجملة فهو حديث حسن، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ومما يشهد بصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء " وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه" فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، عن سيد الأولين والآخرين، ورسول رب العالمين، كما دل عليه الكتاب المبين، من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية، بكى. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محرز بن عون، حدثنا عثمان بن مطر، حدثنا عبد الغفور عن أبي نُصَيرة، عن أبي رجاء، عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "عليكم بلا إله إلا الله، والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون" عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان. وروى الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" . وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عمر بن أبي خليفة، سمعت أبا بدر يحدث عن ثابت، عن أنس، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، أذنبت ذنباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أذنبت فاستغفر ربك. قال: فإني أستغفر ثم أعود فأذنب قال: فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك، فقالها في الرابعة استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور" وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} أي لا يغفرها أحد سواه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بأسير، فقال: اللهم(1/500)
إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد¹ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرف الحق لأهله" وقوله: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره، قالوا: حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحماني عن عثمان بن واقد، عن أبي نُصَيرة، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى بن معين به - وشيخه أبو نُصَيرة الواسطي واسمه مسلم بن عبيد، وثقه الإمام أحمد وابن حبان، وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر، فهو حديث حسن، والله أعلم. وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن من تاب تاب الله عليه، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وكقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} ونظائر هذا كثيرة جداً. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا جرير، حدثنا حبان هو ابن زيد الشرعبي عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر: "ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون" تفرد به أحمد. ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي جزاؤهم على هذه الصفات {مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار} أي من أنواع المشروبات {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} يمدح تعالى الجنة.
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لّلنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَيَتّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}
يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أُحد وقتل منهم سبعون {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم، والدائرة على الكافرين، ولهذا قال تعالى: {سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ثم قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم {وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ} يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم. و {هُدىً} لقلوبكم، و {مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أي زاجر عن المحارم والمآثم. ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين {وَلا تَهِنُوا} أي لا تضعفوا بسبب ما جرى {وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ(1/501)
مُؤْمِنِينَ} أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} أي أن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة، ولهذا قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس: في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يكفر عنهم من ذنوبهم أن كانت لهم ذنوب. وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به. وقوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} الآية. وقال تعالى: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} الآية، ولهذا قال ههنا {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء. وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم، تتمنون لقاء العدو وتتحرّقون عليهم وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا وصابروا، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ولهذا قال تعالى: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يعني الموت شاهدتموه وقت لمعان السيوف وحد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرجال للقتال والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل. وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش، وعداوة الذئب.
{وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أن تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مّؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أن قَالُواْ ربّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيَ أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ}(1/502)
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا أن محمداً قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين، فقال لهم: قتلت محمداً، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وجَوّزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه، قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال الأنصاري: أن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي رجعتم القهقرى {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حياً وميتاً. وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع، وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه، تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها، أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه، أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقدمِتّها، وقال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدّث الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } - إلى قوله - {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها، وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعَقِرتُ حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد، حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به مني ؟ وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له، ولهذا قال {كِتَاباً مُؤَجَّلاً} كقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} وكقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه،(1/503)
كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن صُهبان، قال: قال رجل من المسلمين وهو حُجْر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة - {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} ثم أقحم فرسه دجلة، فلما أقحم، أقحم الناس، فلما رآهم العدو قالوا: ديوان فهربوا. وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} ولهذا قال ههنا {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم، ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قيل: معناه كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال: وأما الذين قرأوا {قَتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم، وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل، قال: ومن قرأ قاتل فإنه اختار ذلك، لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله {فَمَا وَهَنُوا} وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا، ثم اختار قراءة من قرأ {قَتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} لأن الله عاتب بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل، فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال، فقال لهم {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير، وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر، فإنه قال: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم، وما ضعفوا عن عدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك الصبر {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} فجعل قوله: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} حالاً، وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه، وله اتجاه لقوله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} الآية، وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره، وقرأ بعضهم {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زرّ عن ابن مسعود {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} أي ألوف، وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} أي علماء كثير، وعنه أيضاً: علماء صبر أبرار وأتقياء. وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل، قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الربيون بفتح الراء، وقال ابن زيد: الربيون الأتباع والرعية، والربانيون الولاة. {وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} قال قتادة والربيع بن أنس {وَمَا ضَعُفُوا} بقتل نبيهم {وَمَا اسْتَكَانُوا} يقول: فما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله، وقال ابن عباس {وَمَا اسْتَكَانُوا} تخشعوا، وقال السدي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم، وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة: أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي لم يكن لهم هجير(1/504)
إلا ذلك {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي النصر والظفر والعاقبة {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} أي جمع لهم ذلك مع هذا {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أن تُطِيعُواْ الّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدّوكُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىَ الظّالِمِينَ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّىَ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا تُحِبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّن يُرِيدُ الآخرة ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىَ أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيَ أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} ثم أمرهم بطاعته وموالاته والإستعانة به والتوكل عليه، فقال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال، فقال {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن سيار عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "فضلني ربي على الأنبياء - أو قال على الأمم - بأربع: قال: أرسلت إلى الناس كافة، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره، ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي، وأحلت لي الغنائم". ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي عن سيار القرشي الأموي مولاهم الدمشقي سكن البصرة، عن أبي أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه به، وقال: حسن صحيح. وقال سعيد بن منصور: أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "نصرت بالرعب على العدو" ، ورواه مسلم من حديث ابن وهب. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً(1/505)
ومسجداً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهراً، وأعطيت الشفاعة، وليس من نبي إلا وقد سأل شفاعته وإني اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئاً" تفرد به أحمد. وروى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} قال: قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب" رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} قال ابن عباس: وعدهم الله النصر، وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} أن ذلك كان يوم أحد، لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام، فلما حصل ما حصل من عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة، تأخر الوعد الذي كان مشروطاً بالثبات والطاعة، ولهذا قال {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي أول النهار {ذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي تقتلونهم {بِإِذْنِهِ} أي بتسليطه إياكم عليهم {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} وقال ابن جريج: قال ابن عباس: الفشل الجبن {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} كما وقع للرماة {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} وهو الظفر منهم {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} أي غفر لكم ذلك الصنيع، وذلك، والله أعلم، لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم، قال ابن جريج: قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} قال: لم يستأصلكم، وكذا قال محمد بن إسحاق: رواهما ابن جرير {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، عن عُبيد الله عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد، قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله، أن الله يقول في يوم أحد {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} يقول ابن عباس والحسن: القتل {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} الآية، وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم، وأباحوا عسكر المشركين، أكب الرماة جميعاً دخلوا في العسكر ينهبون، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا - وشبك بين يديه - وانتشبوا، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب بعضهم بعضاً، والتبسوا وقتل من المسلمين، ناس كثير، وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كانوا تحت المهراس، وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشكوا به أنه حق، فلا زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين نعرفه بتلفته إذا مشى، قال: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا، قال: فرقى نحونا(1/506)
وهو يقول: "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله" ويقول مرة أخرى: "اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا" حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل اعلُ هبل - مرتين يعني إلهه - أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ألا أجيبه ؟ قال "بلى". فلما قال: اعل هبل. قال عمر: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: قد أنعمت عينها فعاد. عنها أو فَعَالَ. فقال أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر. قال: فقال أبو سفيان، يوم بيوم بدر، الأيام دول، وإن الحرب سجال، قال: فقال: عمر: لا سواء قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. قال: إنكم تزعمون ذلك، فقد خبنا وخسرنا إذن، فقال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا. قال: ثم أدركته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه أن كان ذلك لم نكرهه، هذا حديث غريب وسياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس، فإنه لم يشهد أحداً ولا أبوه، وقد أخرجها الحاكم في مستدركه عن أبي النضر الفقيه، عن عثمان بن سعيد، عن سلمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس به، وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة من حديث سليمان بن داود الهاشمي به. ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها فقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب، عن الشعبي، عن ابن مسعود، قال: أن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا، حتى أنزل الله {مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصوا ما أمروا به، أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة: سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم، فلما رهقوه قال: "رحم الله رجلاً ردهم عنا" قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما رهقوه أيضاً قال: "رحم الله رجلاً ردهم عنا" فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا" فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: الله أعلى وأجل"، فقالوا: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان، لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: الله مولانا والكافرون لا مولى لهم" فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر. فيوم علينا ويوم لنا، يوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا سواء: أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون" فقال أبو سفيان، لقد كان في القوم مثلة، وإن كان لعن غير ملأ منا، ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكلت شيئاً" ؟ قالوا: لا. قال: "ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار" قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم: حمزة فصلى عليه، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه، فرفع الأنصاري وترك حمزة حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة، حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة، تفرد به أحمد أيضاً. وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير، وقال "لا تبرحوا أن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا" فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء(1/507)
يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة. فقال عبد الله بن جبير: عهد إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً، فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد ؟ فقال "لا تجيبوه". فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ قال "لا تجيبوه". فقال: أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال: أن هؤلاء قد قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال له: كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يحزنك، قال أبو سفيان: اعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه" قالوا: ما نقول قال: "قولوا: الله أعلى وأجل". قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أجيبوه" قالوا: ما نقول ؟ قال "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم". قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، تفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم رواه عن عمرو بن خالد عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن البراء بنحوه، وسيأتي بأبسط من هذا وقال البخاري أيضاً: حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون، فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي. قال: قالت: فو الله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم. قال عروة: فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله عز وجل. وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده أن الزبير بن العوام قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل، ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتتنا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا أن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم. قال محمد بن إسحاق: فلم يزل لواء المشركين صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فدفعته لقريش فلاثوا به. وقال السدي، عن عبد خير قال: قال عبد الله بن مسعود: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحد {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود، وكذا روي عن عبد الرحمن بن عوف وأبي طلحة، رواهن ابن مردويه في تفسيره، وقوله تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} قال ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أحد بني عدي بن النجار، قال: انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يخليكم ؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وقال البخاري: حدثنا حسان بن حسان، حدثنا محمد بن طلحة، حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن عمه يعني أنس بن النضر، غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أشهدني الله مع رسول الله ليرين الله ما أجد، فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه بشامة، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية(1/508)
بسهم، هذا لفظ البخاري، وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه وقال البخاري أيضاً: حدثنا عبدان، حدثنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب، قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوماً جلوساً، فقال: من هؤلاء القعود ؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء فحدثني، قال: سل، قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال: نعم. فكبر، فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه " وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان، فكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان" فضرب بها على يده فقال: "هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك" ثم رواه البخاري من وجه آخر على أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب.
وقوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} أي صرفكم عنهم إذ تصعدون أي في الجبل هاربين من أعدائكم. وقرأ الحسن وقتادة {إذ تَصْعَدون} أي في الجبل {وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة. قال السدي: لما شدّ المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس "إليّ عباد الله، إليّ عباد الله" فذكر الله صعودهم إلى الجبل، ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، فقال {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد. وقال عبد الله بن الزبعري: يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها:
يا غراب البين أسمعت فقل ... إنما تنطق شيئاً قد فعل
إن للخير وللشر مدى ... وكلا ذلك وجه وقبل
إلى أن قال:
ليت أشياخي ببدر شهد ... واجزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكّت بقباء بركها ... واستحر القتل في عبد الأشل
ثم خفوا عند ذاكم رُقّصاً ... رقص الحفّان يعلو في الجبل
فقتلنا الضعف من أشرافهم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل
الحفان: صغار النعم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلاً من أصحابه كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعاً، وقال "إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم" وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، قال فهزموهم قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن، فقال: أصحاب عبد الله الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قاله لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: إنا(1/509)
والله لنأتين الناس، فلنصيبن من الغنيمة. فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله إلا اثنا عشر رجلاً، فأصابوا منا سبعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين، سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً. قال أبو سفيان: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد ؟ - ثلاثاً - قال. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم، فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله، أن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. وإنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز يقول: اعل هبل اعل هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه ؟" قالوا: يا رسول الله، وما نقول ؟ قال "قولوا الله أعلى وأجل" قال: لنا العزى ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه ؟" قالوا: يا رسول الله، وما نقول ؟ قال "قولوا الله مولانا ولا مولى لكم" وقد رواه البخاري من حديث زهير بن معاوية مختصراً، ورواه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق بأبسط من هذا كما تقدم، والله أعلم - وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غزية، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبقي معه أحد عشر رجلاً من الأنصار، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد الجبل، فلقيهم المشركون، فقال "ألا أحد لهؤلاء" فقال طلحة: أنا يا رسول الله، فقال "كما أنت يا طلحة" فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه، ثم قتل الأنصاري فلحقوه، فقال "ألا رجل لهؤلاء" فقال طلحة، مثل قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله، فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه وأصحابه يصعدون، ثم قتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول، فيقول طلحة: فأنا يا رسول الله، فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال، فيأذن له، فيقاتل مثل من كان قبله، حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لهؤلاء" فقال طلحة: أنا، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله، وأصيبت أنامله، فقال حَس، فقال رسول الله "لو قلت باسم الله وذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء" ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون. وقد روى البخاري عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم، قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم، يعني يوم أحد - وفي الصحيحين من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما. وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشم الزهري، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: نَثَل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: "ارم فداك أبي وأمي" ، وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد، عن مروان بن معاوية، وقال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد، عن سعد بن أبي وقاص، أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول: "ارم فداك أبي وأمي " حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به(1/510)
- وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام - وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، واثنين من قريش، فلما أرهقوه قال "من يردهم عنا وله الجنة - أو وهو رفيقي في الجنة" فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضاً، فقال " من يردهم عنا وله الجنة" فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه "ما أنصفنا أصحابنا" رواه مسلم عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به نحو، وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير، قال: كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت رسول الله حلفته، قال "بل أنا أقتله إن شاء الله" فلما كان يوم أحد، أقبل أبي في الحديد مقنعاً وهو يقول: لا نجوت أن نجا محمد، فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير، أخو بني عبد الدار، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف، من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته، فوقع إلى الأرض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور، فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش ؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتل أبياً" ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي، بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، فمات إلى النار {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب بنحوه - وذكر محمد بن إسحاق، قال: لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوتُ إن نجوتَ، فقال القوم: يا رسول الله يعطف عليه رجل منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه" فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فقال بعض القوم - ما ذكر لي - فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً - وذكر الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، نحو ذلك. قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل، إذا أنا بنار تأجج فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش، وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا أبي بن خلف - وثبت في الصحيحين من رواية عبد الرزاق عن معمر، عن همام بن منبه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو حينئذ يشير إلى رباعيته - واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله" وأخرجه البخاري أيضاً من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في سبيل الله، واشتد غضب الله على قوم دَمّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال ابن إسحاق: أصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشج في وجنته، وكلمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص، فحدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال: ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص(1/511)
أن كان ما علمته لسيء الخلق مبغضاً في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على من دَمّى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" - وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري، عن عثمان الجزري، عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودَمّى وجهه، فقال "اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً" فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار - وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ، دلوني على محمد لا نجوت أن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد، ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان، فقال والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك، قال الواقدي: والذي ثبت عندنا، أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قميئة، والذي دَمّى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص، وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا ابن المبارك عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد، قال: ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث، قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه وأراه قال حمية، فقال: فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلاً من قومي أحب إلي وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفاً لا أحفظه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكما صاحبكما يريد طلحة" وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله، قال: وذهبت لأن أنزع ذلك من وجهه، فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزّم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيّته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع، فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، قال ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة أحسن الناس هتماً، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت أصبعه، فأصلحنا من شأنه، ورواه الهيثم بن كليب والطبراني من حديث إسحاق بن يحيى به. وعند الهيثم فقال أبو عبيدة: أنشدك الله يا أبا بكر إلا تركتني ؟ فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه، فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبو عبيدة، وذكر تمامه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه، وقد ضعّف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم وقال ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن مالكاً أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مص الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له: مجه، فقال: لا والله لا أمجه أبداً، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" فاستشهد. وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة(1/512)
أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، وقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} أي فجزاكم غماً على غم، كما تقول العرب: نزلت ببني فلان، ونزلت على بني فلان. وقال ابن جرير: وكذا قوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي على جذوع النخل، قال ابن عباس: الغم الأول بسبب الهزيمة، وحين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ليس لهم أن يعلونا" وعن عبد الرحمن بن عوف: الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني حين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة، رواهما ابن مردويه، وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك، وذكر ابن أبي حاتم، عن قتادة نحو ذلك أيضاً وقال السدي: الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والثاني يإشراف العدو عليهم، وقال محمد بن إسحاق {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} أي كرباً بعد كرب قتل مَنْ قتل من إخوانكم، وعلو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال: قتل نبيكم، فكان ذلك متتابعاً عليكم غماً بغم، وقال مجاهد وقتادة: الغم الأول سماعهم قتل محمد، والثاني ما أصابهم من القتل والجراح، وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه. وعن السدي: الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني إشراف العدو عليهم، وقد تقدم هذا القول عن السدي. قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} فأثابكم بغمكم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح، يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم أمر ربكم، وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم غم ظنكم أن نبيكم قد قتل وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم. وقوله تعالى: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم {وَلا مَا أَصَابَكُمْ} من الجراح والقتل، قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف والحسن وقتادة والسدي، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} سبحانه وبحمده لا إله إلا هو جل وعلا.)
{ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىَ طَآئِفَةً مّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِيَ أَنْفُسِهِم مّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىَ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ إِنَّ الّذِينَ تَوَلّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مستلمو السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بن مسعود، قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان، وقال البخاري وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه،(1/513)
ويسقط وآخذه،وهكذا رواه في المغازي معلقاً، ورواه في كتاب التفسير مسنداً عن شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة، قال، رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس، لفظ الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي أيضاً، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن أبي قتيبة، عن ابن أبي عدي، كلاهما عن حميد، عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس، الحديث، وهكذا رُوِي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إِلا أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} أي إِنما هم كَذَبة أهل شك وريب في الله عز وجل هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه الله وهو كما قال، فإن الله عز وجل يقول: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله، ولهذا قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} كما قال في الآية الأخرى {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَّنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} إلى آخر الآية، وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإِسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إِذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم {يَقُولُونَ} في تلك الحال {هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} فقال تعالى: {قل أن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك} ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إِسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب، رواه ابن أبي حاتم. قال الله تعالى: { لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أي هذا قدر قدره الله عز وجل وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه، وقوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر، ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} أي ببعض ذنوبهم السابقة كما قال بعض السلف: أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإِن من جزاء السيئة السيئة بعدها، ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} أي عما كان منهم من الفرار {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد(1/514)
وأن الله قد عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ومناسب ذكره ههنا، قال الإِمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن عاصم، عن شقيق، قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم حنين، قال عاصم: يقول يوم أحد: ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر، قال: فانطلق فأخبر بذلك عثمان، قال: فقال عثمان: أما قوله إِني لم أفر يوم حنين، فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} وأما قوله إني تخلفت يوم بدر، فإِني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد، وأما قوله إِني تركت سنة عمر فإِني لا أطيقها ولا هو، فأته فحدثه بذلك.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزّى لّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مّتّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ}
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب، لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} أي عن إخوانهم {إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ} أي سافروا للتجارة ونحوها {أَوْ كَانُوا غُزّىً} أي كانوا في الغزو {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا} أي في البلد {مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} أي ما ماتوا في السفر، وما قتلوا في الغزو وقوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتلهم، ثم قال تعالى رداً عليهم {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره، ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضاً، وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا جَمْع حطامها الفاني، ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله عز وجل، فيجزيه بعمله أن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فقال تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ أن اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ إِنْ يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الّذِي يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيّ أن يَغُلّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ(1/515)
لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مّبِينٍ}
يقول تعالى مخاطباً رسوله، ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي: أي شيء جعلك لهم ليناً، لولا رحمة الله بك وبهم، وقال قتادة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} يقول فبرحمة من الله لنت لهم، وما صلة، والعرب تصلها بالمعرفة كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} وبالنكرة كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} وهكذا ههنا قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي برحمة من الله، وقال الحسن البصري هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال الإمام أحمد: حدثنا حيوة، حدثنا بقية، حدثنا محمد بن زياد، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال: أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أبا أمامة إن من المؤمنين من يلين لي قلبه" تفرد به أحمد، ثم قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} والفظ الغليظ، والمراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي لو كنت سيء الكلام، قاسي القلب عليهم لا نفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: "إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة إنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح"، وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي، حدثنا عمار بن عبد الرحمن عن المسعودي عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض" حديث غريب. ولهذا قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييباً لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه، كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون: ولكن نقول اذهب، فنحن معك، وبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك مقاتلون، وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل، حتى أشار المنذر بن عمرو المُعْنق ليموت، بالتقدم إلى أمام القوم. وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين. فقال له الصديق: إنا لم نجىء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال، وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك: "أشيروا عليّ معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن ؟ والله ما علمت عليه إلا خيراً" واستشار علياً وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها. فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجباً(1/516)
عليه أو من باب الندب تطييباً لقلوبهم ؟ على قولين. وقد قال الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر، وكانا حواريّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه، وأبوي المسلمين، وقد روى الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكما" وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم ؟ فقال: "مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم" وقد قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن بكير عن شيبان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "المستشار مؤتمن" ورواه أبو داود والترمذي، وحسنه النسائي من حديث عبد الملك بن عمير بأبسط من هذا. ثم قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أسود بن عامر عن شريك، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المستشار مؤتمن" تفرد به. وقال أيضاً: حدثنا أبو بكر، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه" تفرد به أيضاً. وقوله تعالى:{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} وقوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وهذه الآية كما تقدم من قوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ثم أمرهم بالتوكل عليه، فقال {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن سفيان بن خصيف عن عكرمة، عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأنزل الله {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي يخون. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا خصيف، حدثنا مقسم، حدثني ابن عباس أن هذه الآية {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها، فأكثروا في ذلك، فأنزل الله {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وكذا رواه أبو داود والترمذي جميعاً عن قتيبة، عن عبد الواحد بن زياد به. وقال الترمذي: حسن غريب، ورواه بعضهم، عن خصيف، عن مقسم يعني مرسلاً، وروى ابن مردويه من طريق أبي عمرو بن العلاء، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقد، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} وروي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم، وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك. وقال العوفي عن ابن عباس {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً. وكذا قال الضحاك. وقال محمد بن إسحاق {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه أمته. وقرأ الحسن البصري وطاوس ومجاهد(1/517)
والضحاك {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ} بضم الياء أي يخان وقال قتادة والربيع بن أنس: نزلت هذه الآية يوم بدر، وقد غل بعض أصحابه. رواه ابن جرير عنهما، ثم حكى عن بعضهم أنه فسر هذه القراءة بمعنى يتهم بالخيانة، ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضاً في أحاديث متعددة، قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك، حدثنا زهير يعني ابن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن أبي مالك الأشجعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض - أو في الدار - فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً، فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة".
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة والحارث بن يزيد، عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمعت المستورد بن شداد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال" هكذا رواه الإمام أحمد. وقد رواه أبو داود بسند آخر وسياق آخر، فقال: حدثنا موسى بن مروان الرقي، حدثنا المعافى، حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد، عن جبير بن نفير، عن المستورد بن شداد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً" قال: قال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من اتخذ غير ذلك فهو غال - أو سارق". قال شيخنا الحافظ المزي رحمه الله: رواه جعفر بن محمد الفريابي عن موسى بن مروان: فقال: عن عبد الرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير، وهو أشبه بالصواب.
(حديث آخر) - قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا حفص بن بشر، حدثنا يعقوب القمي، حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، فينادي: يا محمد يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء، فيقول: يا محمد يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي: يا محمد، يا محمد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد بلغتك. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قَشْعاً من أدم ينادي: يا محمد يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك" لم يروه أحد من أهل الكتب الستة.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري سمع عروة يقول: حدثنا أبو حميد الساعدي: قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي: أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، أن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر" ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه: ثم قال "اللهم هل بلغت" ثلاثاً، وزاد هشام بن عروة فقال أبو حميد: بصرته بعيني وسمعته بأذني واسألوا زيد بن ثابت، أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة، وعند(1/518)
البخاري: واسألوا زيد بن ثابت، ومن غير وجه عن الزهري، ومن طريق عن هشام بن عروة، كلاهما عن عروة، به.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هدايا العمال غلول" وهذا الحديث من أفراد أحمد، وهو ضعيف الإسناد، وكأنه مختصر من الذي قبله، والله أعلم.
(حديث آخر) - قال أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو أسامة عن داود بن يزيد الأودي، عن المغيرة بن شبل، عن قيس بن أبي حازم، عن معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في أثري فرددت، فقال "أتدري لم بعثت إليك ؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لهذا دعوتك فامض لعملك" هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن عدي بن عميرة وبريدة والمستورد بن شداد وأبي حميد وابن عمر.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن علية، حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي، عن أبي زرعة بن عمر بن جرير، عن أبي هريرة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجي يوم القيامة على رقبته رقاع تخنق فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك" أخرجاه من حديث أبي حيان به.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد، حدثني قيس عن عدي بن عميرة الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملاً فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه، فهو غل يأتي به يوم القيامة" قال: فقام رجل من الأنصار أسود - قال مجالد: هو سعيد بن عبادة كأني انظر إليه - فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك. قال "وما ذاك ؟" قال: سمعتك تقول: كذا وكذا، قال "وأنا أقول ذاك الآن، من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه، وما نهي عنه انتهى" وكذا رواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد به.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن أبي إسحاق الفزاري، عن ابن جريج، حدثني منبوذ رجل من آل أبي رافع عن الفضل بن عُبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب، قال أبو رافع: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى المغرب، إذ مر بالبقيع، فقال "أف لك، أف لك" مرتين، فكبر في ذرعي وتأخرت وظننت أنه يريدني، فقال "مالك ؟" امش قال: قلت: أحدثت حدثاً يا رسول الله، قال "وما ذاك" ؟ قلت: أفّفْت بي، قال "لا، ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعياً على آل فلان فغل نمرة فدرع الآن مثلها من نار".
(حديث آخر) - قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن سالم الكوفي المفلوج - وكان بمكة-(1/519)
حدثنا عبيدة بن الأسود عن القاسم بن الوليد، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، عن عبادة بن الصامت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم ثم يقول "مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم، إياكم والغلول فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد، في الحضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم" وقد روى ابن ماجه بعضه عن المفلوج به.
(حديث آخر) - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة".
(حديث آخر) - قال أبو داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن مطرف، عن أبي الجهم، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً، ثم قال " انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء، قد غللته" قال: إذاً لا أنطلق، قال "إذاً لا أكرهك"، تفرد به أبو داود.
(حديث آخر) - قال أبو بكر بن مردويه: أنبأنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أنبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، أنبأنا عبد الحميد بن صالح، أنبأنا أحمد بن أبان عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "إن الحجر ليُرْمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفاً ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه ثم يقال لمن غل ائت به، فذلك قوله: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}".
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني سماك الحنفي أبو زميل، حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد، حتى أتوا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها - أو عباءة " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون". قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وكذا رواه مسلم والترمذي من حديث عكرمة بن عمار به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) - قال ابن جرير: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدقاً، فقال: "إياك يا سعد أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء". قال: لا آخذه ولا أجيء به، فأعفاه ثم رواه من طريق عبيد الله عن نافع به نحوه.
(حديث آخر) - قال أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، حدثنا صالح بن محمد بن زائدة عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم، فوجد في متاع رجل غلول، قال: فسأل(1/520)
سالم بن عبد الله، فقال: حدثني أبي عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتم في متاعه غلولاً فاحرقوه - قال: وأحسبه قال: واضربوه" قال: فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفاً، فسأل سالماً فقال: بعه وتصدق بثمنه، وكذا رواه علي بن المديني وأبو داود والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي، زاد أبو داود وأبو إسحاق الفزاري، كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة به. وقد قال علي بن المديني والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا، وقال الدارقطني: الصحيح أنه من فتوى سالم فقط، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ومن تابعه من أصحابه، وقد رواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه. ثم روى عن معاوية عن أبي إسحاق عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن علي، قال: الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد، وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال بل يعزر تعزير مثله، وقال البخاري: وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال، ولم يحرق متاعه، والله أعلم.
(حديث آخر عن عمر رضي الله عنه) - قال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثني عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن موسى بن جبير حدثه: أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه: أن عبد الله بن أنيس حدثه: أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوماً الصدقة، فقال: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة "من غل منها بعيراً أو شاة فإنه يحمله يوم القيامة" ؟ قال عبد الله بن أنيس: بلى. ورواه ابن ماجه عن عمرو بن سَوّاد عن عبد الله بن وهب به. ورواه الأموي عن معاوية، عن أبي إسحاق، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: عقوبة الغال أن يخرج رحله ويحرق على ما فيه. ثم روى عن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن علي قال: الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن جبير بن مالك، قال: أمر بالمصاحف أن تغير، قال: فقال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يغل مصحفاً فليغله، فإنه من غل شيئاً جاء به يوم القيامة، ثم قال: قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم - وروى وكيع في تفسيره عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم، قال: لما أمر بتحريق المصاحف قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ياأيها الناس غلوا المصاحف، فإنه من غل يأت بما غل يوم القيامة، ونعم الغل المصحف يأتي به أحدكم يوم القيامة - وقال أبو داود، عن سمرة بن جندب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالاً فينادي في الناس، فيجيئون بغنائمهم، فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله، هذا كان مما أصبنا من الغنيمة، فقال "أسمعت بلالاً ينادي" ثلاثاً ؟ قال: نعم. قال "فما منعك أن تجيء" ؟ فاعتذر إليه فقال "كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك".
وقوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه، وأجير من وبيل عقابه، ومن استحق غضب الله وألزم به فلا محيد له عنه، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير، وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} ، وكقوله: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية. ثم قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} ، قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: يعني أهل الخير وأهل الشر درجات، وقال أبو عبيدة والكسائي: منازل، يعني متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار، كقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} الآية، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي وسيوفيهم إياها، لا يظلمهم خيراً ولا يزيدهم شراً، بل يجازي كل عامل بعمله، وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} أي من جنسكم، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} وقال تعالى: {وَمَا(1/521)
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه، ولهذا قال تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يعني القرآن {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يعني القرآن والسنة، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} أي من قبل هذا الرسول {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي لفي غيّ وجهل ظاهر جلي بيّن لكل أحد.
{أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاّتّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
يقول تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} وهي ما أصيب منهم يوم أحد من قتل السبعين منهم {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يعني يوم بدر، فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلاً، وأسروا سبعين أسيراً، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} أي من أين جرى علينا هذا {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا قُراد أبو نوح، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثني ابن عباس، حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} بأخذكم الفداء. وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غزوان وهو قُراد أبو نوح بإسناده ولكن بأطول منه، وهكذا قال الحسن البصري، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا إسماعيل ابن علية عن ابن عون عن محمد عن عبيد، ح، قال سُنَيد وهو حسين: وحدثني حجاج عن جرير، عن محمد عن عبيدة، عن علي رضي الله عنه، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فذكر لهم ذلك فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا ألا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره ؟ قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً، عدة أسارى أهل بدر، وهكذا رواه النسائي والترمذي من حديث أبي داود الحفري عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن سفيان بن سعيد، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين به، ثم قال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة، وروى أبو أسامة عن هشام نحوه، وروى عن ابن سيرين عن عبيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وقال محمد بن إسحاق وابن جريج والربيع بن أنس والسدي {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي بسبب(1/522)
عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ثم قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين، كان بقضاء الله وقدره، وله الحكمة في ذلك {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أي الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ} يعني بذلك أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في أثناء الطريق، فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الإياب والقتال والمساعدة، ولهذا قال {أَوِ ادْفَعُوا} قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو صالح والحسن والسدي: يعني كثروا سواد المسلمين، وقال الحسن بن صالح: ادفعوا بالدعاء، وقال غيره: رابطوا، فتعللوا قائلين {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ} قال مجاهد: يعنون لو نعلم أنكم تلقون حرباً لجئناكم، ولكن لا تلقون قتالاً. قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبّان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة، انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس ؟ فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الإنصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} استدلوا به علة أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان، لقوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} . ثم قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} يعني أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته، ومنه قولهم هذا {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ} فإنهم يتحققون أن جنداً من المشركين قد جاؤوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من سراتهم يوم بدر. وهم أضعاف المسلمين أنه كائن بينهم قتال لا محالة. ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} ثم قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} أي لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل، قال الله تعالى: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي أن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت، فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول.
{وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ اسْتَجَابُواْ للّهِ(1/523)
وَالرّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ أن النّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوَءٌ وَاتّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنّمَا ذَلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ أن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ}
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار، فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار. قال محمد بن جرير: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة، حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري أربعين أو سبعين، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غاراً مشرفاً على الماء فقعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال - أراه ابن ملحان الأنصاري: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج حتى أتى حياً منهم فاختبأ أمام البيوت، ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح، فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الأخر، فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل، وقال إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآناً: "بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه" ، ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زماناً، وأنزل الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئاً ؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة، تركوا" وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة" تفرد به مسلم من طريق حماد.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله المديني، حدثنا سفيان عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعلمت أن الله أحيا أباك، فقال له: تمن عليّ. فقال له: أرد إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى. قال: إني قضيت الحكم أنهم إليها لا يرجعون". تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن أبا جابر وهو عبد الله بن عمرو بن حرام(1/524)
الأنصاري رضي الله عنه، قتل يوم أحد شهيداً. قال البخاري: وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر: سمعت جابراً قال لما قتل أبي: جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تبكه - أو ما تبكيه - ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع" وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: لما قتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وذكر تمامه بنحوه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم، وحسن متقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها" هكذا رواه أحمد، وكذا رواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وهب، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن إسحاق به. ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره، وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وكذلك قال قتادة والربيع والضحاك: أنها نزلت في قتلى أحد.
(حديث آخر) قال أبو بكر بن مردويه، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا هارون بن سليمان، أنبأنا علي بن عبد الله المديني، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري، سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصّمة الأنصاري، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال "يا جابر مالي أراك مهتماً ؟" قال قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك ديناً وعيالاً، قال: فقال: "ألا أخبرك ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً"، قال علي: الكفاح المواجهة "قال: سلني أعطك. قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني القول: أنهم إليها لا يرجعون. قال: أي رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية". ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري، عن أبيه عن جابر، به نحوه. وكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق علي بن المديني به. وقد رواه البيهقي أيضاً من حديث أبي عبادة الأنصاري وهو عيسى بن عبد الرحمن أن شاء الله عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر "يا جابر ألا أبشرك" قال: بلى، بشرك الله بالخير، قال "شعرت أن الله أحيا أباك، فقال: تمن عليّ عبدي ما شئت أعطكه، قال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك، أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى، قال: إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع".(1/525)
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا" تفرد به أحمد. وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحاق به، وهو إسناد جيد. وكأن الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله أعلم - وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضاً فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله، رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" قوله "يعلق" أي يأكل، وفي هذا الحديث "إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة" وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان - وقوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} إلى آخر الآية، أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم، نسأل الله الجنة. قال محمد بن إسحاق {وَيَسْتَبْشِرُونَ} أي ويسرون بلحوق من خَلْفَهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم. قال السدي: يؤتى الشهيد بكتاب فيه: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم، وقال سعيد بن جبير: لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء، قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم، أي ربهم، أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه، فاستبشروا بذلك، فذلك قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية، وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع "أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا".
ثم قال تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} قال محمد بن إسحاق: استبشروا وسروا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم، وقلما ذكر الله فضلاً ذكر به الأنبياء وثواباً أعطاهم الله إياه، إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم.(1/526)
وقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} هذا كان يوم حمراء الأسد، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين، كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلداً، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه، لما سنذكره، فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو، عن عكرمة، قال: لما رجع المشركون عن أحد، قالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئس ما صنعتم، ارجعوا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد - أو بئر أبي عيينة - الشك من سفيان - فقال المشركون: نرجع من قابل، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تعد غزوة، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} ورواه ابن مردويه من حديث محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس فذكره - وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذّن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله، أن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك، فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، كان قد شهد أحداً، قال: شهدتُ أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي - أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله، وكنت أيسر جراحاً منه، فكان إذا غلب حملته عُقبة ومشى عُقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وقال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية، قلت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، فقال "من يرجع في أثرهم" فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير رضي الله عنهما، هكذا رواه البخاري منفرداً به بهذا السياق، وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصم، عن عباس الدوري، عن أبي النضر، عن أبي سعيد المؤدب، عن هشام بن عروة به، ثم قال: صحيح، ولم يخرجاه، كذا قال. ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، وهديّة بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة. عن هشام بن عروة به، وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان به. وقد رواه الحاكم أيضاً من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن البهي، عن عروة، قال: قالت لي(1/527)
عائشة: يا بنيّ أن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه - وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه، أنبأنا سمويه، أنبأنا عبد الله بن الزبير، أنبأنا سفيان، أنبأنا هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أبو بكر والزبير رضي الله عنهما" ، ورفع هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة رضي الله عنها كما قدمناه، ومن جهة معناه فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة، وإنما قالت ذلك عائشة لعروة بن الزبير، لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: أن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد ما كان منه ما كان، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب" ، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتد عليهم الذي أصابهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال "إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل" فجاء الشيطان فخوّف أولياءه، فقال: أن الناس قد جمعوا لكم، فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال "إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد لأحضض الناس" فانتدب معه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلاً، فساروا في طلب أبي سفيان فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} الآية، ثم قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة، وقد مر به - كما حدثني عبد الله بن أبي بكر - معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئاً كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا حَدّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟ لنكرّنّ على بقيتهم ثم فلنفرغن منهم، فلما رأى أبو سفيان معبداً، قال: ما وراءك يا معبد ؟ قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلهم، يتحرقون عليكم تحرقاً، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتاً من شعر، قال: وما قلت ؟ قال: قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عَدْواً أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول(1/528)
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل البَسْل ضاحية ... لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش تنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومر به ركب من بني عبد القيس فقال: أين تريدون ؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم ؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتمونا ؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم: "والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو أصبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب" وقال الحسن البصري في قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} أن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب، فمن ينتدب في طلبه ؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبعوهم، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه، فلقي عيراً من التجار فقال: ردوا محمداً ولكم من الجعل كذا وكذا، وأخبروهم أني قد جمعت لهم جموعاً وأني راجع إليهم، فجاء التجار فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حسبنا الله ونعم الوكيل" . فأنزل الله هذه الآية، وهكذا قال عكرمة وقتادة وغير واحد: أن هذا السياق نزل في شأن حمراء الأسد، وقيل: نزلت في بدر الموعد، والصحيح الأول. وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} الآية، أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء، فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به، {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، قال: أراه قال: حدثنا أبو بكر عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس {قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد رواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله، كلاهما عن يحيى بن أبي بكير، عن أبي بكر وهو ابن عياش به، والعجب أن الحاكم أبا عبد الله رواه من حديث أحمد بن يونس به، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ثم رواه البخاري عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل، عن أبي حصين عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: {قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. وقال عبد الرزاق: قال ابن عيينة: وأخبرني زكريا عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو، قال: هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، رواه ابن جرير. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري، حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري، أنبأنا أبو بكر بن عياش عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم أحد: أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فأنزل الله هذه الآية. وروى أيضاً بسنده عن محمد بن عُبيد الله الرافعي، عن أبيه، عن جده أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم، وجه علياً في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: أن القوم قد جمعوا لكم، فقالوا: {قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فنزلت فيهم هذه الآية. ثم قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا الحسن بن سفيان، أنبأنا أبو خيثمة مصعب بن سعيد، أنبأنا موسى بن أعين،(1/529)
عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: {قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} " هذا حديث غريب من هذا الوجه - وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حيوة بن شريح وإبراهيم بن أبي العباس، قالا: حدثنا بقية، حدثنا بحير بن سَعْد عن خالد بن معدان، عن سيف، عن عوف بن مالك أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، قضى بين رجلين، فقال: المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ردوا علي الرجل" فقال: "ما قلت ؟" قال: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل" وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بحير عن خالد، عن سيف وهو الشامي، ولم ينسب عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه - وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، حدثنا مطرف عن عطية، عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ ؟" فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما نقول ؟ قال "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا" وقد روي هذا من غير وجه، وهو حديث جيد، وروينا عن أم المؤمنين زينب وعائشة رضي الله عنهما، أنهما تفاخرتا، فقالت زينب: زوجني الله وزوجكن أهاليكن، وقالت عائشة: نزلت براءتي من السماء في القرآن، فسلمت لها زينب، ثم قالت: كيف قلت حين ركبت راحلة صفوان بن المعطل ؟ فقالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. قالت زينب: قلت كلمة المؤمنين، ولهذا قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم وردّ عنهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} مما أضمر لهم عدوهم {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد، حدثنا محمد بن نعيم، حدثنا بشر بن الحكم، حدثنا مبشر بن عبد الله بن رزين، حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} قال: النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيراً مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} قال: هذا أبو سفيان، قال لمحمد صلى الله عليه وسلم، موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: "عسى" ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدراً، فوافقوا السوق فيها، فابتاعوا، فذلك قول الله عز وجل: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} الآية، قال: وهي غزوة بدر الصغرى، رواه ابن جرير، وروى أيضاً عن القاسم، عن الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج، قال: لما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش، فيقولون: قد جمعوا لكم، يكيدونهم بذلك، يريدون أن يرعبوهم، فيقول المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى قدموا بدراً، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد، قال: رجل من المشركين أخبر أهل مكة بخيل محمد، وقال في ذلك:
نفرت قلوصي من خيول محمد ... وعجوة منثورة كالعنجد
... واتخذت ماء قديد موعدي
قال ابن جرير: هكذا أنشدنا القاسم وهو خطأ، وإنما هو:
قد نفرت من رفقتي محمد ... وعجوة من يثرب كالعنجد(1/530)
فهي على دين أبيها الأتلد ... قد جعلت ماء قديد موعدي
وماء ضجنان لها ضحى الغد
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة، قال الله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجأوا إِلي، فإِني كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} إِلى قوله: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} وقال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وقال {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} الآية، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
{وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إنَّ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوَاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مّهِينٌ مّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىَ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لّهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لّهُمْ سَيُطَوّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللّهِ مِيرَاثُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} وذلك من شدة حرصه على الناس، كان يحزنه مبادرة الكفار إِلى المخالفة والعناد والشقاق، فقال تعالى: لا يحزنك ذلك {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ} أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، ثم قال تعالى مخبراً عن ذلك إِخباراً مقرراً: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ} أي استبدلوا هذا بهذا {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} أي ولكن يضرون أنفسهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ثم قال تعالى، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} كقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} وكقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} وكقوله: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} ثم قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي لا بد أن(1/531)
يعقد سبباً من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه، يعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستر المنافقين. فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} قال مجاهد: ميز بينهم يوم أحد، وقال قتادة: ميز بينهم بالجهاد والهجرة، وقال السدي: قالوا: أن كان محمد صادقاً فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي حتى يخرج المؤمن من الكافر، روى ذلك كله ابن جرير - ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك. ثم قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ثم قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه. ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة، فقال {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، قال البخاري: حدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن هو ابن عبد الله بن دينار عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك" ثم تلا هذه الآية {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} إِلى آخر الآية، تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح به.
(حديث آخر) قال الإِمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إِن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك أنا كنزك" وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة به. ثم قال النسائي: ورواية عبد العزيز عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أثبت من رواية عبد الرحمن عن أبيه عبد الله بن دينار، عن أبي صالح عن أبي هريرة (قلت) ولا منافاة بين الروايتين، فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين، والله أعلم، وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح، عن أبي هريرة.ومن حديث محمد بن أبي حميد عن زياد الخطمي عن أبي هريرة به.
(حديث آخر) قال الإِمام أحمد: حدثنا سفيان عن جامع، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه، يفر منه وهو يتبعه، فيقول: أنا كنزك"(1/532)
ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد، زاد الترمذي: وعبد الملك بن أعين، كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود به، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي إِسحاق السبيعي، عن أبي وائل، عن ابن مسعود به، ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود موقوفاً.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أمية بن بسطام، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من ترك بعده كنزاً مثل له شجاعاً أقرع يوم القيامة له زبيبتان يتبعه، ويقول: من أنت ؟ ويلك، فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يتبع سائر جسده" إِسناده جيد قوي، ولم يخرجوه. وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي، ورواه ابن جرير وابن مردويه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إِلا دُعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع" لفظ ابن جرير، وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود عن أبي قزعة، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده، فيبخل به عليه، إِلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه" ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزعة واسمه حجير بن بيان، عن أبي مالك العبدي موقوفاً، ورواه من وجه آخر عن أبي قزعة مرسلاً. وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها، رواه ابن جرير، والصحيح الأول وإِن دخل هذا في معناه، وقد يقال: أن هذا أولى بالدخول، والله سبحانه وتعالى أعلم، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} فإن الأمور كلها مرجعها إِلى الله عز وجل. فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي بنياتكم وضمائركم.
{لقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مّن قَبْلِي بِالْبَيّنَاتِ وَبِالّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} قالت اليهود: يا محمد، افتقر ربك فسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الآية، رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم. وقال محمد بن إِسحاق:(1/533)
حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدراس فوجد من يهود أناساً كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له أشيع، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فو الله إِنك لتعلم أن محمداً رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إِلى الله من حاجة من فقر، وإِنه إِلينا لفقير، ما نتضرع إِليه كما يتضرع إِلينا، وإِنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ما حملك على ما صنعت ؟" فقال: يا رسول الله، إن عدو الله قد قال قولاً عظيماً، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك، غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله فيما قال فنحاص رداً عليه وتصديقاً لأبي بكر {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الآية، رواه ابن أبي حاتم. وقوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} تهديد ووعيد، ولهذا قرنه تعالى بقوله: {وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي هذا قولهم في الله وهذه معاملتهم لرسل الله وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء، ولهذا قال تعالى: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً، وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} يقول تعالى تكذيياً أيضاً لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إِليهم في كتبهم، أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته، فتقبلت منه، أن تنزل نار من السماء تأكلها، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله عز وجل: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج والبراهين، {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة، {قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل. ثم قال تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك، فلك أسوة بمن قبلك من الرسل الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة، {وَالزُّبُرِ} وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين، {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي البين الواضح الجلي.
{كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ لَتُبْلَوُنّ فِيَ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور}(1/534)
يخبر تعالى إخباراً عاماً يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت، والجن والإِنس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخراً كما كان أولاً، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس، فإِنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإِذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها في صلب آدم وانتهت البرية، أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحداً مثقال ذرة، ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز الأويسي، حدثنا علي بن أبي علي اللهبي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فثقوا، وإِياه فارجوا، فإِن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد: فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال: أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر عليه السلام. وقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرؤوا أن شئتم {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} " هذا حديث ثابت في الصحيحين، من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة، وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم، وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، ومن حديث محمد بن عمرو هذا ورواه ابن مردويه من وجه آخر، فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، أنبأنا حميد بن مسعدة أنبأنا عمرو بن علي عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها" قال: ثم تلا هذه الآية {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} وتقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ما رواه الإمام أحمد عن وكيع بن الجراح عن الأعمش، عن زيد بن وهب. عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الأخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه". وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} تصغير لشأن الدنيا، وتحقير لأمرها، وأنها دنيئة فانية، قليلة زائلة، كما قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وفي الحديث " والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع إليه" وقال قتادة في قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} قال: هي متاع هي متاع متروكة أوشكت - والله الذي لا إله إلا هو - أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله، وقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ(1/535)
مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} إلى آخر الآيتين، أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شي من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسلياً لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين، وآمراً لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله، فقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، هكذا ذكره مختصراً، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولاً، فقال: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وقف، فنزل، ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب" يريد عبد الله بن أبي، قال: كذا وكذا، فقال سعد: يا رسول الله، اعف عنه واصفح، فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله، شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} الآية وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} الآية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، فقتل الله به صناديد كفار قريش قال عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأسلموا فكل من قام بحق أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله والرجوع إلى الله عز وجل.
{وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ(1/536)
وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وّيُحِبّونَ أن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوهوا بذكره في الناس، ليكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والخط الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسالكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئاً، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" وقوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} ، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلة". ، وفي الصحيح أيضاً "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" ، وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال: اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: وما لكم وهذه، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه، وهكذا رواه البخاري في التفسير، ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما، وابن أبي حاتم، وابن جرير، والحاكم في مستدركه وابن مردويه كلهم من حديث عبد الملك بن جريج بنحوه، ورواه البخاري أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص، أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس، فذكره وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية، وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه. وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، قال: كان أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت عند مروان فقال: يا أبا سعيد رأيت قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} ، ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما(1/537)
لم نفعل ؟ فقال أبو سعيد: أن هذا ليس من ذاك، إنما ذاك أن ناساً من المنافقين كانوا يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً، فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم، وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح، فقال مروان: أين هذا من هذا ؟ فقال أبو سعيد: وهذا يعلم هذا ؟ فقال مروان: أكذلك يا زيد ؟ قال: نعم صدق أبو سعيد، ثم قال أبو سعيد: وهذا يعلم ذاك - يعني رافع بن خديج، ولكنه يخشى أن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة، فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري: ألا تحمدني على ما شهدت لك، فقال أبو سعيد: شهدت الحق فقال زيد: أولا تحمدني على ما شهدت الحق ؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم، عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية ؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد رضي الله عنهم، وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم، فقال له ما ذكرناه ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، والله أعلم، وقد روى ابن مردويه أيضاً من حديث محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري، عن محمد بن ثابت الأنصاري، أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله، والله لقد خشيت أن أكون هلكت، قال"لم" ؟ قال نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد، ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جَهْوَري الصوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة ؟" فقال: بلى يا رسول الله. فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب، وقوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد، وبالياء على الإخبار عنهم أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لا بد لهم منه ولهذا قال تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو مالك كل شيء، والقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه، والقدير الذي لا أقدر منه.
{إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ رَبّنَآ إِنّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أن آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىَ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}
قال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أتت قريش اليهود، فقالوا: بم جاءكم موسى ؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى ؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً، فدعا ربه، فنزلت هذه الآية {إِنَّ فِي خَلْقِ(1/538)
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ} فليتفكروا فيها، وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية، وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة، والله أعلم، ومعنى الآية أن الله تعالى يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها و كثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات، وزروع وثمار، وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والروائح والطعوم والخواص، {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا. وكل ذلك تقدير العزيز العليم، ولهذا قال تعالى: {لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ثم وصف تعالى أولي الألباب، فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} . كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك" أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته. وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار وعن الحسن البصري أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقال الفضيل قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: طوبى لمن كان قيله تذكراً وصمته تفكراً، ونظره عبراً، قال لقمان الحكيم: أن طول الوحدة ألهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة، وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرىء إلا فهم ولا فهم امرؤ قط إلا علم، ولا علم امرؤ قط إلا عمل. وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله عز وجل حسن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة. وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها. وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعاً من بين أصحابه قد ذهب عقله. وقال عبد الله بن المبارك: مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة، فناداه فقال: يا راهب، أن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر: كنز الرجال، وكنز الأموال. وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين، فيقول: أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه. وقال الحسن البصري: يا ابن آدم، كل في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفس للفكرة. وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة، انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة. وقال بشر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه. وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس، قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون:(1/539)
"أن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر". وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضيفاً، واتخذ المساجد بيتاً، وعلم عينيك البكاء، وجسدك الصبر، وقلبك الفكر، ولا تهتم برزق غد. وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أنه بكى يوماً بين أصحابه، فسئل عن ذلك، فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر أن فيها مواعظ لمن ادكر. وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
نزهة المؤمن الفكر ... لذة المؤمن العبر
نحمد الله وحده ... نحن كل على خطر
رب لاه وعمره
... قد تقضى وما شعر
رب عيش قد كان فو
... ق المنى مونق الزهر
في خرير من العيو ... ن وظل من الشجر
وسرور من النبا ... ت وطيب من الثمر
غيرته وأهله ... سرعة الدهر بالغير
نحمد الله وحده ... إن في ذا لمعتبر
إن في ذا لعبرة
... للبيب أن اعتبر
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته، فقال {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ومدح عباده المؤمنين {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} قائلين {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً، بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل، فقالوا {سُبْحَانَكَ} أي عن أن تخلق شيئاً باطلاً {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث. قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا. ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم. ثم قالوا {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي يوم القيامة لا مجير لهم منك. ولا محيد لهم عما أردت بهم {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ} أي داعياً يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} أي يقول آمنوا بربكم فآمنا، أي فاستجبنا له واتبعناه، أي بإيماننا واتباعنا نبيك، {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي استرها، {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} فيما بيننا وبينك، {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} أي ألحقنا بالصالحين، {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} قيل: معناه على الإيمان برسلك، وقيل: معناه على ألسنة رسلك. وهذا أظهر - وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن محمد، عن أبي عقال، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفاً لا حساب عليهم، ويبعث منها خمسين ألفاً شهداء وفودا إلى الله، وبها صفوف الشهداء رؤوسهم مقطعة في أيديهم تثج أوداجهم دماً، يقولون {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} فيقول الله: صدق عبيدي اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاء بيضاً. فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا" وهذا الحديث يعد من غرائب المسند،(1/540)
ومنهم من يجعله موضوعاً، والله أعلم. {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي على رؤوس الخلائق، {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك، وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن سُريج، حدثنا المعتبر، حدثنا الفضل بن عيسى، حدثنا محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله عز وجل ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار" حديث غريب. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده، فقال البخاري رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فقال {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} الآيات، ثم قام فتوضأ واستن، فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح. وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني، عن ابن أبي مريم به. ثم رواه البخاري من طرق عن مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته، قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها، فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها، فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح. وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن مالك به. ورواه مسلم أيضاً وأبو داود من وجوه أخر عن مخرمة بن سليمان به.
(طريق أخرى) لهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي، حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرّة، أنبأنا خلاد بن يحيى، أنبأنا يونس بن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته. قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الآخرة حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره، قام فمر بي، فقال: من هذا ؟ عبد الله ؟ قلت: نعم، قال: فمه قلت أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة. قال: "فالحق الحق فلما أن دخل قال: افرشنّ عبد الله ؟ فأتى بوسادة من مسوح. قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه، ثم استوى على فراشه قاعداً، قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال: "سبحان الملك القدوس" ثلاث مرات ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها. وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حديثاً في ذلك أيضاً.
(طريق أخرى) رواها ابن مردويه من حديث عاصم بن بهدلة عن بعض أصحابه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ(1/541)
وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} إلى آخر السورة ثم قال "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن بين يدي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً وأعظم لي نوراً يوم القيامة" وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه، ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أتت قريش اليهود، فقالوا: بم جاءكم موسى من الآيات ؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، فدعا ربه عز وجل، فنزلت {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} قال: فليتفكروا فيها، لفظ ابن مردويه. وقد تقدم هذا الحديث من رواية الطبراني في أول الآية، وهذا يقتضي أن تكون هذه الآيات مكية، والمشهور أنها مدنية، ودليله الحديث الأخر. قال ابن مردويه: حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن علي الحراني، حدثنا شجاع بن أشرس، حدثنا حشرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم عن الكلبي وهو أبو جَناب، عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال: قول الشاعر: زر غباً تزدد حباً. فقال ابن عمر: ذرينا أخبرينا بأعجب شيء رأيتِهِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي، ثم قال "ذريني أتعبد لربي عز وجل" قالت: فقلت والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تَعَبّد لربك، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قالت: فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر ؟ فقال: "ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} " ثم قال "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن أبي جناب الكلبي عن عطاء. قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها، فسلمنا عليها، فقالت: من هؤلاء ؟ قال: فقلنا: هذا عبد الله بن عمر وعبيد بن عمير. قالت: يا عبيد بن عمير. ما يمنعك من زيارتنا، قال: ما قال الأول: زر غباً تزدد حباً. قالت إنا لنحب زيارتك وغشيانك. قال عبد الله بن عمر: دعينا من بطالتكما هذه، أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبكت ثم قالت: كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي، حتى لصق جلده بجلدي، ثم قال: "يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي". قالت: إني لأحب قربك وأحب هواك. قالت: فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن، ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه، قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم بكى حتى رأيت دموعه بلغت حجره، قالت: ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده، قالت: ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر، ثم قال: الصلاة يا رسول الله، فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر(1/542)
الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال "يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ ومالي لا أبكي وقد نزل عليّ الليلة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} إلى قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} - ثم - "قال ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها" وهكذا رواه أبي حاتم ابن حبان في صحيحه عن عمران بن موسى، عن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن زكريا، عن إبراهيم بن سويد النخعي، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه. وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار عن شجاع بن أشرس به. ثم قال: حدثني الحسن بن عبد العزيز: سمعت سنيداً يذكر عن سفيان هو الثوري رفعه، قال "من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيها ويله" يعد بأصابعه عشراً - قال الحسن بن عبد العزيز: فأخبرني عبيد بن السائب قال: قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن ؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن. قال ابن أبي الدنيا: وحدثني قاسم بن هاشم، حدثنا علي بن عياش، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل ؟ فأطرق هنية ثم قال: يقرؤهن وهو يعقلهن.
(حديث آخر) فيه غرابة. قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير، حدثنا إسحاق بن إبراهيم البستي (ح) قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو قال: أنبأنا هشام بن عمار، أنبأنا سليمان بن موسى الزهري، أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي، أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف.
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ فَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاُدْخِلَنّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثّوَابِ}
يقول تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} أي فأجابهم ربهم، كما قال الشاعر:
وداع دعا: يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن سلمة رجل من آل أم سلمة، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} إلى آخر الآية. وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا، وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة. ثم قال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الآية {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} إلى آخرها، رواه ابن مردويه، ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} وقوله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} هذا تفسير للإجابة، أي قال لهم(1/543)
مجيباً لهم أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى، وقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي جميعكم في ثوابي سواء، {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران، {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم، ولهذا قال {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} وقال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وقوله تعالى: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت أن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي ؟ قال "نعم ثم قال: كيف قلت ؟ فأعاد عليه ما قال، فقال: نعم، إلا الدّين، قاله لي جبريل آنفاً" ولهذا قال تعالى: {وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله: {ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً، كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراماً وإن يع ... ط جزيلاً فإنه لا يبالي
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحاً. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن دحيم بن إبراهيم قال: قال الوليد بن مسلم، أخبرني حَريز بن عثمان أن شداد بن أوس كان يقول: يا أيها الناس، لا تتهموا الله في قضائه، فإنه لا يبغي على مؤمن، فإذا أنزل بأحدكم شي مما يحب، فليحمد الله، وإذا أنزل به شي مما يكره، فليصبر وليحتسب، فإن الله عنده حسن الثواب.
{لاَ يَغُرّنّكَ تَقَلّبُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لّلأبْرَارِ}
يقول تعالى: لا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور، فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجاً، وجميع ما هم فيه {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وهذه الآية كقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ، وقال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي قليلاً، وقال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم إلى النار، قال بعده {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن نصر،(1/544)
حدثنا أبو طاهر سهل بن عبد الله، أنبأنا هشام بن عمار، أنبأنا سعيد بن يحيى، أنبأنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سموا الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق" كذا رواه ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن جناب، حدثنا عيسى بن يونس عن عبد الله بن الوليد الوصافي، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، قال: إنما سماهم الله أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق، وهذا أشبه، والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدستوائي عن رجل عن الحسن، قال: الأبرار الذين لا يؤذون الذر. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن خيثمة عن الأسود، قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها، لئن كان براً لقد قال الله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} وكذا رواه عبد الرزاق عن الأعمش عن الثوري به. وقرأ {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر عن فرج بن فضالة، عن لقمان عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} ويقول {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
{وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ} يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله أي مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه، {لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} ، أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هوداً أو نصارى، وقد قال تعالى في سورة القصص: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} الآية، وقد قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الآية. وقد قال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} ، وقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} ، وقال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} وهذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلاً كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود، ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ(1/545)
قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إلى قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية، وهكذا قال ههنا {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية، وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، لما قرأ سورة {كهيعص} بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة، بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: "إن أخاً لكم بالحبشة قد مات، فصلوا عليه" فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه. وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استغفروا لأخيكم" فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة، فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} الآية، ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد، عن أنس بن مالك، بنحو ما تقدم ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: "إن أخاكم أصحمة قد مات" ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر عليه أربعاً، فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة، فأنزل الله {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو الرازي، حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عاشئة رضي الله عنها، قالت: لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. وقد روى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو العباس السياري بمرو، حدثنا عبد الله بن علي الغزال، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا ابن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، قال: نزل بالنجاشي عدو من أرضهم، فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا، فقال: لا، دواء بنصرة الله عز وجل خير من دواء بنصرة الناس، قال: وفيه نزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} الآية. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني مسلمة أهل الكتاب. وقال عباد بن منصور: سألت الحسن البصري عن قول الله {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية، قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فاتبعوه، وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين: للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم بالذي اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، رواهما ابن أبي حاتم. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين" فذكر منهم: ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، وقوله تعالى: {لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة منهم، بل يبذلون ذلك مجاناً، ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، قال مجاهد: {سَرِيعُ الْحِسَابِ} يعني سريع الإحصاء، رواه ابن أبي حاتم وغيره، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال الحسن البصري رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم، وكذا قال غير واحد من علماء السلف، وأما المرابطة(1/546)
فهي المداومة في مكان العبادة والثبات، وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة، قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم، وروى ابن أبي حاتم ههنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي من حديث مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي، أنبأنا ابن أبي كريمة عن محمد بن يزيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أقبل عليّ أبو هريرة يوماً، فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قلت: لا. قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت {اصْبِرُوا} أي على الصلوات الخمس، {وَصَابِرُوا} أنفسكم وهواكم، {وَرَابِطُوا} في مساجدكم، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما عليكم، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت، عن داود بن صالح، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه. وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن شرحبيل، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" ، وقال ابن جرير أيضاً: حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثني يحيى بن يزيد عن زيد بن أبي أنيسة، عن شرحبيل، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب" ؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال "إسباغ الوضوء في أماكنها، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" ، وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي، أنبأنا محمد بن عبد الله بن السلام البيروتي، أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي، أنبأنا عثمان بن عبد الرحمن، أنبأنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي أيوب رضي الله عنه، قال: وقفه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟" قلنا: نعم يا رسول الله، وما هو ؟ قال "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة". قال: وهو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فذلك هو الرباط في المساجد، وهذا حديث غريب من هذا الوجه جداً. وقال عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، حدثني داود بن صالح، قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال: قلت: لا. قال: إنه لم يكن يا ابن أخي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة، رواه ابن جرير، وقد تقدم سياق ابن مردويه له، وأنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، والله أعلم، وقيل: المراد بالمرابطة ههنا مرابطة الغزو في نحور العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين، وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه، فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها".(1/547)
(حديث آخر) روى مسلم عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح، أخبرني أبو هانىء الخولاني أن عمرو بن مالك الجَنْبي أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه يَنْمي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر" وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هانىء الخولاني وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، وحسن بن موسى وأبو سعيد قالوا: حدثنا ابن لهيعة، حدثنا مشرح بن هاعان، سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن من الفتان" وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد به إلى قوله "حتى يبعث" دون ذكر "الفتان" وابن لهيعة إذا صرح بالتحديث فهو حسن ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد.
(حديث آخر) قال ابن ماجه في سننه: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني الليث عن زهرة بن معبد عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى عليه عمله الصالح الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن من الفتان، وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع".) (طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا موسى، أنبأنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات مرابطاً وقي فتنة القبر، وأمن من الفزع الأكبر، وغدا عليه وريح برزقه من الجنة، وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة ".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي، عن إسحاق بن عبد الله عن أم الدرداء ترفع الحديث، قالت: "من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا كهمس، حدثنا مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، قال: قال عثمان رضي الله عنه وهو يخطب على منبره: إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلاّ الضّن بكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها" وهكذا رواه أحمد أيضاً عن روح، عن كهمس، عن مصعب بن ثابت، عن عثمان، وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير، قال: خطب عثمان بن عفان الناس فقال: يا أيها الناس إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم وبصحابتكم، فليختر مختار لنفسه أو ليدع" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة صيامها وقيامها".(1/548)
(طريق أخرى) عن عثمان رضي الله عنه. قال الترمذي: حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا هشام بن عبد الملك، حدثنا الليث بن سعد، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان، قال: سمعت عثمان وهو على المنبر يقول: إني كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني، ثم بدا لي أن أحدثكموه: ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" . ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، قال محمد يعني البخاري أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان، وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث، والله أعلم. وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، وعنده زيادة في آخره فقال يعني عثمان: فليرابط امرؤ كيف شاء هل بلغت ؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، حدثنا محمد بن المنكدر، قال: مر سلمان الفارسي. بشرحبيل بن السمط، وهو في مرابَط له وقد شق عليه وعلى أصحابه، فقال: أفلا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بلى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال خير - من صيام شهر وقيامه، ومن مات فيه وقي فتنة القبر، ونمي له عمله إلى يوم القيامة" تفرد به الترمذي من هذا الوجه، وقال: هذا حديث حسن، وفي بعض النسخ زيادة وليس إسناده بمتصل، وابن المنكدر لم يدرك سلمان. (قلت): الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط، وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة، كلاهما عن شرحبيل بن السمط وله صحبة عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان" وقد تقدم سياق مسلم بمفرده.
(حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، حدثنا محمد بن يعلى السلمي، حدثنا عمر بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو، عن مكحول، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لرباط يوم في سبيل الله، من وراء عورة المسلمين محتسباً من شهر رمضان أعظم أجراً من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها، ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسباً من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجراً - أراه قال - من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها، فإن رده الله تعالى إلى أهله سالماً لم تكتب عليه سيئة ألف سنة، وتكتب له الحسنات، ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة" هذا حديث غريب، بل منكر من هذا الوجه، وعمر بن صبيح متهم.
(حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا عيسى بن يونس الرملي، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سعيد بن خالد بن أبي طويل، سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حرس ليلة في سبيل الله خير من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة. السنة ثلثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة" وهذا حديث غريب أيضاً، وسعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم: روى عن أنس أحاديث موضوعة.
(حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن الصباح، أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة، عن عمر بن عبد العزيز، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله حارس(1/549)
الحرس" فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر، فإنه لم يدركه والله أعلم.
(حديث آخر) قال أبو داود: حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية يعني ابن سلام عن زيد - يعني ابن سلام - أنه سمع أبا سلام قال: حدثني السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله" ثم قال "من يحرسنا الليلة" ؟ قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله، فقال "فاركب" فركب فرساً له، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغز من قبلك الليلة" فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه، فركع ركعتين ثم قال: "هل أحسستم فارسكم ؟" فقال رجل: يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال: "أبشروا فقد جاءكم فارسكم" فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أرَ أحداً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل نزلت الليلة ؟" قال: لا إلا مصلياً أو قاضي حاجة، فقال له: "أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها". ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عبد الرحمن بن شريح، سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول: سمعت أبا عامر التّجيبي، قال الإمام أحمد: وقال غير زيد أبا علي الجنبي يقول: سمعت أبا ريحانة يقول كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فأتينا ذات ليلة إلى شرف، فبتنا عليه، فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة يدخل فيها ويلقي عليه الجحفة يعني الترس، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس نادى: "من يحرسنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل ؟" فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله فقال "ادن" فدنا، فقال "من أنت ؟" فتسمى له الأنصاري، ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء فأكثر منه. فقال أبو ريحانة: فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أنا رجل آخر، فقال "ادن"، فدنوت فقال "من أنت ؟" قال: فقلت: أنا أبو ريحانة، فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري، ثم قال "حرمت النار على عين دمعت - أو بكت - من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله" وروى النسائي منه "حرمت النار" إلى آخره عن عصمة بن الفضل عن زيد بن الحباب به، وعن الحارث بن مسكين عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن شريح به، وأتم وقال في الروايتين عن أبي علي الجَنَبي.
(حديث آخر) قال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا بشر بن عمر، حدثنا شعيب بن رُزيق أبو شيبة عن عطاء الخراساني، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" ثم قال: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رُزيق، قال وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة. (قلت) وقد تقدما، ولله الحمد والمنة.(1/550)
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رشدين عن زَبّان، عن سهل بن معاذ، عن أبيه معاذ بن رضي الله عنه أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حرس من وراء المسلمين متطوعاً لا بأجرة سلطان، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، فإن الله يقول {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} " تفرد به أحمد رحمه الله.
(حديث آخر) - روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، أن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" . فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام، ولله الحمد على جزيل الإنعام، على تعاقب الأعوام والأيام. وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا مطرف بن عبد الله المدني، حدثنا مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وهكذا روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال: أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، وودعته للخروج، وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة، وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... وهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبارَ خيل الله في ... أنف امريء ودخانَ نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال: قلت: نعم، قال فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا وأملى عليّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله، علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر ؟" فقال: يا رسول الله، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فو الذي نفسي بيده لو طُوّقْتَ ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أَوَ ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله، فيكتب له بذلك الحسنات" وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في جميع أموركم وأحوالكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي في الدنيا والآخرة - وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي(1/551)
أنه كان يقول في قول الله عز وجل {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني.(1/552)
سورة النساء
قال العوفي عن ابن عباس: نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه، عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت، ورَوى من طريق عبد الله بن لهيعة، عن أخيه عيسى، عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حبس" وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر، حدثنا محمد بن بشر العبدي، حدثنا مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية، و {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية، و {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} و {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} ثم قال: هذا إسناد صحيح أن كان عبد الرحمن سمع من أبيه فقد اختلف في ذلك، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل عن ابن مسعود قال: خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعاً {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وقوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} ، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} رواه ابن جرير. ثم رَوى من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، أولاهن {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} والثانية {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} والثالثة {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} ثم ذكر قول ابن مسعود سواء - يعني في الخمسة الباقية - وروى الحاكم من طريق أبي نعيم عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن أبي مليكة: سمعت ابن عباس يقول: سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير. ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}
يقول تعالى آمراً خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومنبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر، من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا وكيع عن أبي هلال عن قتادة، عن ابن عباس، قال: خلقت المرأة من الرجل فجعل نهمتها في الرجل وخلق الرجل من الأرض فجعل نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم.(1/553)
وفي الحديث الصحيح: "إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج". وقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} أي وذرأ منهما أي من آدم وحواء رجالاً كثيراً ونساء، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر. ثم قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} أي واتقوا الله بطاعتكم إياه. قال إبراهيم ومجاهد والحسن {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} أي كما يقال: أسألك بالله وبالرحم، وقال الضحاك: واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن والضحاك والربيع وغير واحد وقرأ بعضهم: والأرحام بالخفض على العطف على الضمير في به أي تساءلون بالله وبالأرحام، كما قال مجاهد وغيره. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي هو مراقب لجميع أحولكم وأعمالكم، كما قال: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . وفي الحديث الصحيح "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب. ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض، ويحننهم على ضعفائهم. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر وهم مجتابو النّمار - أي من عريهم وفقرهم - قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، حتى ختم الآية. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ، ثم حضهم على الصدقة فقال: "تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره" وذكر تمام الحديث، وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة، وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} الآية.
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم، ولهذا قال: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} قال سفيان الثوري عن أبي صالح: لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك. وقال سعيد بن جبير: لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول: لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام. وقال سعيد بن المسيب والزهري: لا تعط مهزولاً وتأخذ سميناً. وقال إبراهيم النخعي والضحاك: لا تعط زائفاً وتأخذ جيداً. وقال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم. وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} قال مجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والسدي وسفيان بن حسين: أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعاً. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} قال ابن عباس: أي إثماً كبيراً عظيماً. وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال:(1/554)
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {حُوباً كَبِيراً} قال: "إثماً كبيراً" ولكن في إسناده محمد بن يوسف الكُدَيْمي وهو ضعيف وروي هكذا عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وأبي مالك وزيد بن أسلم وأبي سنان مثل قول ابن عباس وفي الحديث المروي في سنن أبي داود " اغفر لنا حوبنا وخطايانا". وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصل مولى أبي عيينة عن ابن سيرين عن ابن عباس، أن أبا أيوب طلق امرأته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا أيوب أن طلاق أم أيوب كان حوباً" قال ابن سيرين: الحوب الإثم، ثم قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هَوْذة بن خليفة، حدثنا عوف عن أنس أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن طلاق أم أيوب لحوب" فأمسكها، ثم روى ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم عن حميد الطويل، سمعت أنس بن مالك أيضاً يقول: أراد أبو طلحة أن يطلق أم سليم امرأته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن طلاق أم سليم لحوب " فكف. والمعنى: أن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه. وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} ، أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه. وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه {وإن خفتم ألا تقسطوا} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. ثم قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله. حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ، قالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن. ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ}، قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال. وقوله: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين وإن شاء ثلاثاً، وإن شاء أربعاً. كما قال الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أي منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه، بخلاف قصر الرجال على أربع، فمن هذه الآية كما قال ابن عباس وجمهور العلماء، لأن المقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره. قال الشافعي: وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة، وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله مجمع عليه بين العلماء إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة، أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع. وقال بعضهم: بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين، وأما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري:(1/555)
وقد علقه البخاري وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة، ودخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع. وهذا عند العلماء من خصائصه دون غيره من الأمة لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع، ولنذكر الأحاديث في ذلك، قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا معمر عن الزهري، قال ابن جعفر في حديثه: أنبأنا ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعاً" فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تمكث إلا قليلا. وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك ولأمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال. وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم، من طرق عن إسماعيل بن علية وغندر ويزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة وسفيان الثوري وعيسى بن يونس، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ، عن معمر بإسناده مثله إلى قوله: "اختر منهن أربعاً" وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد، وهي زيادة حسنة وهي مُضَعّفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي حيث قال بعد روايته له سمعت البخاري يقول: هذا الحديث غير محفوظ. والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري. حُدّثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة - فذكره. قال البخاري: وإنما حديث الزهري عن سالم، عن أبيه أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر: لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال. وهذا التعليل فيه نظر، والله أعلم - وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مرسلاً. وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلاً. قال أبو زرعة: وهو أصح. وقال البيهقي: ورواه عقيل عن الزهري: بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد. وقال أبو حاتم: وهذا وهم إنما هو الزهري، عن محمد بن سويد. بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكره. قال البيهقي: ورواه يونس وابن عيينة عن الزهري عن محمد بن أبي سويد وهذا كما علله البخاري وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد، رجاله ثقات على شرط الشيخين ثم قد روي من غير طريق معمر بل والزهري. قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو علي الحافظ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا أبو بُرَيد عمرو بن يزيد الجرمي، أخبرنا سيف بن عبيد الله حدثنا سرار بن مجشر، عن أيوب، عن نافع وسالم، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً. هكذا أخرجه النسائي في سننه، قال أبو علي بن السكن: تفرد به سرار بن مجشر وهو ثقة. وكذا وثقه ابن معين قال أبو علي: وكذا رواه السميدع بن واهب عن سرار. قال البيهقي: وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس، وعروة بن مسعود الثقفي وصفوان بن أمية يعني حديث غيلان بن سلمة. فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال، فإذا كان هذا في الدوام، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، (حديث آخر في ذلك) روى أبو داود وابن ماجه في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حُمَيْضة بن الشمردل وعند ابن ماجه بنت الشمردل، حكى أبو داود أن منهم من يقول الشمرذل بالذال المعجمة عن قيس بن الحارث، وعند أبي داود في رواية الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي قال:(1/556)
أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اختر منهن أربعاً" ، وهذا الإسناد حسن: ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثله لما للحديث من الشواهد. (حديث آخر في ذلك) قال الشافعي في مسنده: أخبرني من سمع ابن أبي الزناد يقول أخبرني عبد المجيد بن سُهيل بن عبد الرحمن عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه، قال: أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختر أربعاً أيتهن شئت وفارق الأخرى" فعمدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة فطلقتها. فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غيلان كما قاله البيهقي رحمه الله. وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، أي فإن خشيتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن، كما قال تعالى، {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة أو على الجواري السراري فإنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحب فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج، وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} قال بعضهم ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم، قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي رحمهم الله، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي فقراً {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} وقال الشاعر:
فما يدري الفقير متى غنا ه ... و ما يدري الغني متى يعيل
وتقول العرب: عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ولكن في هذا التفسير ههنا نظر، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري أيضاً والصحيح قول الجمهور {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} أي لا تجوروا، يقال: عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة ...
له شاهد من نفسه غير عائل
وقال هشيم عن أبي إسحاق قال: كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه: إني لست بميزان لا أعول. رواه ابن جرير، وقد روى ابن أبي حاتم وأبو حاتم ابن مردويه وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، حدثنا محمد بن شعيب عن عمر بن محمد بن زيد عن عبد الله بن عمر عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} قال: "لا تجوروا" قال ابن أبي حاتم: قال أبي، هذا حديث خطأ، والصحيح: عن عائشة موقوف، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس وعائشة ومجاهد وعكرمة والحسن وأبي مالك وأبي رزين والنخعي والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: لا تميلوا، وقد استشهد عكرمة رحمه الله ببيت أبي طالب الذي قدمناه، ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة، وقد رواه ابن جرير ثم أنشده جيداً واختار ذلك. وقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: النحلة المهر، وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة: نحلة فريضة، وقال مقاتل وقتادة وابن جريج: نحلة أي فريضة. زاد ابن جريج: مسماة، وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذباً بغير حق، ومضمون كلامهم: أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتماً، وأن يكون طيب النفس بذلك كما يمنع المنيحة ويعطي النحلة طيباً بها كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيباً بذلك فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالاً طيباً، ولهذا قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ(1/557)
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن السدي عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة عن علي قال: إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك فليبتع بها عسلاً ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئاً مريئاً شفاء مباركاً. وقال هشيم عن سيار عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك، ونزل {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع عن سفيان عن عمير الخثعمي عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن عبد الرحمن بن البَيْلماني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قالوا: يا رسول الله فما العلائق بينهم ؟ قال: "ما تراضى عليه أهلوهم" وقد روى ابن مردويه من طريق حجاج بن أرطأة عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن البَيْلماني عن عمر بن الخطاب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنكحوا الأيامى - ثلاثا " فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله ما العلائق بينهم ؟ قال: "ما تراضى عليه أهلوهم" ابن البَيْلماني ضعيف ثم فيه انقطاع أيضاً.
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}
ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياماً، أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام، فتارة يكون الحجر للصغر، فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة للفلس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه، حجر عليه، وقال الضحاك عن ابن عباس، في قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} قال: هم بنوك والنساء، وكذا قال ابن مسعود والحكم بن عيينة والحسن والضحاك: هم النساء والصبيان، وقال سعيد بن جبير: هم اليتامى، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: هم النساء، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها" ورواه ابن مردويه مطولاً وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن مسلم بن إبراهيم، حدثنا حرب بن سُريح، عن معاوية بن قرة، عن أبي هريرة {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} قال: هم الخدم، وهم شياطين الإنس، وقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً}. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يقول: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم، وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهاً، وقد قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ، ورجل كان له على رجل دين(1/558)
فلم يُشهِد عليه، وقال مجاهد: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} ، يعني في البر والصلة، وهذه الآية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة ومن تحت الحجر بالفعل من الإنفاق في الكساوي والأرزاق والكلام الطيب وتحسين الأخلاق، وقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} قال ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي ومقاتل بن حيان: أي اختبروهم {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} قال مجاهد: يعني الحلم، قال الجمهور من العلماء البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد، وفي سنن أبي داود عن علي قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل" وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" ، أو يستكمل خمس عشرة سنة وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عمر، قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث: أن هذا الفرق بين الصغير والكبير واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج، وهي الشعرة، هل تدل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغاً في حقهم لأنه لا يتعجل بها إلى ضرب الجزية عليه. فلا يعالجها، والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس واحتمال المعالجة بعيد، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عطية القرظي رضي الله عنه، قال: عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح وإنما كان كذلك لأن سعد بن معاذ كان قدحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الغريب: حدثنا ابن علية عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمر، أن غلاماً ابتهر جارية في شعره، فقال عمر رضي الله عنه: انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد، قال أبو عبيد: ابتهرها أي قذفها، والابتهار أن يقول فعلت بها وهو كاذب، فإن كان صادقاً فهو الابتيار، قال الكميت في شعره:
قبيح بمثلي نعت الفتاة ... إما ابتهاراً وإما ابتياراً
وقوله عز وجل: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} قال سعيد بن جبير: يعني صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم. وكذا روي عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة وهكذا قال الفقهاء: متى بلغ الغلام مصلحاً لدينه وماله انفك الحجر عنه فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه، وقوله: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية {إِسْرَافاً وَبِدَاراً} أي مبادرة قبل بلوغهم، ثم قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} من كان في غنى عن مال اليتيم فليستعفف عنه ولا يأكل منه شيئاً، وقال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا الأشج، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة، {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} نزلت في مال اليتيم، وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا: حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن أبيه عن عائشة: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجاً أن يأكل منه، وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت:(1/559)
أنزلت هذه الآية في والي اليتيم {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} بقدر قيامه عليه. ورواه البخاري عن إسحاق عن عبد الله بن نمير عن هشام به، قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله أو قدر حاجته، واختلفوا هل يرد إذا أيسر ؟ على قولين (أحدهما) لا، لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيراً، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي، لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل، قال أحمد: حدثنا عبد الوهاب، حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالاً ومن غير أن تقي مالك - أو قال - تفدي مالك بماله" شك حسين، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، حدثنا حسين المكتب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أن عندي يتيماً عنده مال وليس عنده شيء ما. آكل من ماله ؟ قال: "بالمعروف غير مسرف" ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث حسين المعلم به وروى ابن حبان في صحيحه وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي عن جعفر بن سليمان عن أبي عامر الخزاز، عن عمرو بن دينار، عن جابر أن رجلاً قال: يا رسول الله فيم أضرب يتيمي ؟ قال: "ما كنت ضارباً منه ولدك غير واق مالك بماله ولا متأثل منه مالاً" وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: أن في حجري أيتاماً وإن لهم إبلاً ولي إبل، وأنا أمنح في إبلي وأفْقر، فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال: أن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتسقي عليها فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب، ورواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد به، وبهذا القول وهو عدم أداء البدل، يقول عطاء بن أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطية العوفي والحسن البصري. (والثاني) نعم، لأن مال اليتيم على الحظر، وإنما أبيح للحاجة فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة، وقد قال ابن أبي الدنيا: حدثنا ابن خيثمة، حدثنا وكيع عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم، أن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت.
(طريق أخرى) قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: قال عمر رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، أن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت، إسناد صحيح وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} يعني القرض، قال وروي عن عبيدة وأبي العالية، وأبي وائل، وسعيد بن جبير في إحدى الروايات ومجاهد والضحاك والسدي نحو ذلك، وروي من طريق السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: يأكل بثلاث أصابع، ثم قال: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: يأكل من ماله يقوت على يتيمه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، قال وروي عن مجاهد وميمون بن مهران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك، وقال(1/560)
عامر الشعبي: لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه، رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وهب: حدثنا نافع بن أبي نعيم القارى قال: سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، فقالا: ذلك في اليتيم أن كان فقيراً أنفق عليه بقدر فقره، ولم يكن للولي منه شيء، وهذا بعيد من السياق، لأنه قال {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} يعني من الأولياء. {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً} أي منهم {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أي بالتي هي أحسن كما قال في الآية الأخرى {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي لا تقربوه إلا مصلحين له، فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف وقوله: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} يعني بعد بلوغهم الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذٍ سلموا إليهم أموالهم فإذا دفعتم إليهم أموالهم {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} وهذا أمر من الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه، ثم قال: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} أي وكفى بالله محاسباً وشهيداً ورقيباً على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم للأموال هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة مدخلة، مروج حسابها، مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم".
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}
قال سعيد بن جبير وقتادة: كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئاً، فأنزل الله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} الآية، أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة، أو زوجية، أو ولاء، فإنه لحمة كلحمة النسب. وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هراسة عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: جاءت أم كُجّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أن لي ابنتين قد مات أبوهما وليس لهما شيء، فأنزل الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} الآية، وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر، والله أعلم، وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الآية، قيل: المراد وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} فليرضخ لهم من التركة نصيب، وإن ذلك كان واجباً في ابتداء الإسلام، وقيل يستحب. واختلفوا هل هو منسوخ أم لا على قولين، فقال البخاري: حدثنا أحمد بن حميد، أخبرنا عُبيد الله الأشجعي عن سفيان عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ}. قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. تابعه(1/561)
سعيد عن ابن عباس. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: هي قائمة يعمل بها، وقال الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية، قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم، وهكذا روي عن ابن مسعود وأبي موسى وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبي العالية والشعبي والحسن، وقال ابن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح والزهري ويحيى بن يعمر: إنها واجبة، وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن إسماعيل ابن علية عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين قال: ولي عبيدة وصية فأمر بشاة فذبحت فأطعم أصحاب هذه الآية وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي، وقال مالك فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع عن الزهري: أن عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله، وقال الزهري: هي محكمة. وقال مالك: عن عبد الكريم عن مجاهد قال: هي حق واجب ما طابت به الأنفس.
ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني ابن أبي مليكة: أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والقاسم بن محمد أخبراه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حية، قالا: فلم يدع في الدار مسكيناً ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه، قالا: وتلا {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} ، قال القاسم: فذكرت ذلك لابن عباس، فقال: ما أصاب، ليس ذلك له إنما ذلك إلى الوصية وإنما هذه الآية في الوصية يريد الميت يوصي لهم، رواه ابن أبي حاتم.
ذكر من قال هذه الآية منسوخة بالكلية
قال سفيان الثوري، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} قال: منسوخة، وقال إسماعيل بن مسلم المكي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال في هذه الآية {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} نسختها الآية التي بعدها {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فأنزل الله بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه، فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى، رواهن ابن مردويه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر. وحدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا سعيد بن عامر عن همام، حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: إنها منسوخة، كانت قبل الفرائض كان ما ترك الرجل من مال أعطى منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حضروا القسمة ثم نسخ بعد ذلك نسختها المواريث فألحق الله بكل ذي حق حقه، وصارت الوصية من ماله يوصي بها لذوي قرابته حيث شاء. وقال مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: هي منسوخة، نسختها المواريث والوصية. وهكذا روي عن عكرمة وأبي الشعثاء والقاسم بن محمد وأبي صالح وأبي مالك وزيد بن أسلم والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وربيعة بن أبي عبد الرحمن أنهم قالوا: إنها منسوخة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم، وقد اختار ابن جرير ههنا قولاً غريباً جداً وحاصله أن معنى الآية عنده {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} أي وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا} لليتامى والمساكين إذا حضروا {قولاً معروفاً} هذا مضمون ما حاوله بعد طول العبارة والتكرار، وفيه نظر، والله أعلم. وقال العوفي عن ابن عباس {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} هي قسمة الميراث، وهكذا قال غير واحد، والمعنى على هذا لا على ما سلكه ابن جرير رحمه الله، بل المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى(1/562)
والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم يائسون لا شيء يعطونه، فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون براً بهم وصدقة عليهم، وإحساناً إليهم وجبراً لكسرهم. كما قال الله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وذم الذين ينقلون المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة. كما أخبر عن أصحاب الجنة {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي بليل. وقال {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} فـ {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه، ولهذا جاء في الحديث "ما خالطت الصدقة مالاً إلا أفسدته" أي منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية، وقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب. فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة، وهكذا قال مجاهد وغير واحد، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده، قال: يا رسول الله، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال "لا". قال: فالشطر ؟ قال "لا". قال: فالثلث ؟ قال: "الثلث، والثلث كثير". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" وفي الصحيح عن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث، والثلث كثير" قال الفقهاء: أن كان ورثة الميت أغنياء، استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث، وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث، وقيل: المراد بالآية فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} ، حكاه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس، وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً، أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك، فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم، ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلماً، فإنما يأكل في بطنه ناراً¹ ولهذا قال {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة وفي الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد، عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله، وما هن ؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبيدة، أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي، حدثنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا: يا رسول الله، ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال "انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير. رجال كل رجل منهم له مشفران كمشفري البعير، وهو موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم، ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في فيّ أحدهم حتى يخرج من أسفله، ولهم جوار وصراخ، قلت: يا جبريل، من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً، إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً" وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه، يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم. وقال ابن مردويه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا زياد بن المنذر عن نافع بن الحارث، عن أبي(1/563)
برزة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً" قيل "يا رسول الله، من هم ؟ قال "ألم تر أن الله قال {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} الآية" ، رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة، عن عقبة بن مكرم، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أحمد بن علي بن المثنى عن عقبة بن مكرم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن عصام، حدثنا أبو عامر العبدي، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن عثمان بن محمد، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم" أي أوصيكم باجتناب مالهما، وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} الآية، قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}
هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك. ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك. وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتب الأحكام، والله المستعان. وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك، وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي" رواه ابن ماجه وفي إسناده ضعف. وقد روي من حديث ابن مسعود وأبي سعيد، وفي كل منهما نظر. قال ابن عيينة: إنما سمّى الفرائض نصف العلم، لأنه يبتلى به الناس كلهم. وقال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى. حدثنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئاً، فدعا بماء فتوضأ منه، ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج به، ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة عن محمد بن(1/564)
المنكدر عن جابر.
(حديث آخر عن جابر في سبب نزول الآية) قال أحمد: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله هو ابن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا ولهما مال، قال: فقال "يقضي الله في ذلك" فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك". وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل به، قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه. والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسبب الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات، ولم يكن له بنات، وإنما كان يورث كلالة، ولكن ذكرنا الحديث ههنا تبعاً للبخاري رحمه الله فإنه ذكره ههنا، والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية، والله أعلم.
فقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} أي يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤونة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى، وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، كما جاء في الحديث الصحيح وقد رأى امرأة من السبي فرق بينها وبين ولدها، فجعلت تدور على ولدها، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك" ؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال "فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها" وقال البخاري ههنا: حدثنا محمد بن يوسف عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع. وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} وذلك لما أنزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، وتعطى البنت النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيغير، فقال بعضهم: يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم، ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئاً وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً. وقوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} قال بعض الناس: قوله: {فَوْقَ} زائدة، وتقديره فإن كن نساء اثنتين، كما في قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} وهذا غير مسلم لا هنا ولا هناك. فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه، وهذا ممتنع، ثم قوله: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} لو كان المراد ما قالوه لقال: فلهما ثلث ما ترك وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورثت الأختان الثلثين فلأن ترث البنتان الثلثين بالطريق الأولى. وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم،(1/565)
حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين، فدل الكتاب والسنة على ذلك، وأيضاً فإنه قال {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فلو كان للبنتين النصف لنص عليه أيضاً، فلما حكم به للواحدة على انفرادها، دل على أن البنتين في حكم الثلاث، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} إلى آخره، الأبوان لهما في الإرث أحوال (أحدها) أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس، فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة، فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس¹ وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب. (الحال الثاني) أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم والحالة هذه الثلث، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم، وهو الثلثان، فلو كان معهما - والحالة هذه - زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع. ثم اختلف العلماء ماذا تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة، على ثلاثة أقوال: (أحدها) أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين، لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما. وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب. فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ الأب ثلثيه، هذا قول عمر وعثمان، وأصح الروايتين عن علي، وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء. (والثاني) أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا، وهو قول ابن عباس. وروي عن علي ومعاذ بن جبل نحوه. وبه يقول شريح وداود الظاهري. واختاره أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه الإيجاز في علم الفرائض وهذا فيه نظر، بل هو ضعيف، لأن ظاهر الآية إنما هو إذا استبد بجميع التركة، وأما هنا فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض ويبقى الباقي كأنه جميع التركة فتأخذ ثلثه كما تقدم (والقول الثالث) أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة خاصة، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة، فيبقى خمسة للأب، وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال، فتكون المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي بعد ذلك وهو سهم، وللأب الباقي بعد ذلك)وهو سهمان. ويحكى هذا عن ابن سيرين، وهو قول مركب من القولين الأولين، موافق كلاً منهما في صورة وهو ضعيف أيضاً، والصحيح الأول، والله أعلم. (والحال الثالث من أحوال الأبوين) وهو اجتماعهما مع الإخوة، سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئاً، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيفرض لها مع وجودهم السدس، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب، أخذ الأب الباقي. وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور. وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه دخل على عثمان، فقال: أن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث، قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة، فقال عثمان: لا أستطيع تغيير ما كان قبلي، ومضى في الأمصار وتوارث به الناس. وفي صحة هذا الأثر نظر، فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس، ولو كان هذا صحيحاً عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به، والمنقول عنهم خلافه، وقد روى عبد(1/566)
الرحمن بن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه قال: الأخوان تسمى إخوة، وقد أفردت لهذه المسألة جزءاً على حدة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد، عن قتادة قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم، ونفقته عليهم دون أمهم، وهذا كلام حسن. لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم¹ وهذا قول شاذ رواه ابن جرير في تفسيره فقال: حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: السدس الذي حجبته الإخوة الأم لهم، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم، ثم قال ابن جرير: وهذا قول مخالف لجميع الأمة. وقد حدثني يونس، أخبرنا سفيان، أخبرنا عمرو عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس أنه قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الآية الكريمة. وقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير من حديث أبي إسحاق عن الحارث بن عبد الله الأعور، عن علي بن أبي طالب، قال: إنكم تقرؤون {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. ثم قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الحارث، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم. (قلت) لكن كان حافظاً للفرائض معتنياً بها وبالحساب، فالله أعلم.
وقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} أي إنما فرضنا للآباء والأبناء، وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللأبوين الوصية، كما تقدم عن ابن عباس، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم، لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي أو الأخروي أو هما من أبيه ما لا يأتيه من ابنه، وقد يكون بالعكس، ولذا قال {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} أي كأن النفع متوقع ومرجو من هذا كما هو متوقع ومرجو من الأخر، فلهذا فرضنا لهذا وهذا، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث، والله أعلم.
وقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} أي هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض، هو فرض من الله حكم به وقضاه، والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها، ويعطي كلاّ ما يستحقه بحسبه، ولهذا قال {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ(1/567)
مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}
يقول تعالى: ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم إذا متن من غير ولد، فإن كان لهن ولد، فلكم الربع مما تركن من بعد الوصية أو الدين. وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب ثم قال {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} إلى آخره وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن فيه. وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} الخ الكلام عليه كما تقدم، وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} الكلالة مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن الكلالة، فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، الكلالة من لا ولد له ولا والد، فلما ولي عمر قال: إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه، رواه ابن جرير وغيره. وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد عن سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت آخر الناس عهداً بعمر، فسمعته يقول: القول ما قلت وما قلت وما قلت، قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد وهكذا قال علي وابن مسعود وصح عن غير وجه عن ابن عباس وزيد بن ثابت، وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم، وبه يقول أهل المدينة وأهل الكوفة والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف، بل جميعهم، وقد حكى الإجماع عليه غير واحد، وورد فيه حديث مرفوع، قال أبو الحسين بن اللبان وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهو أنه من لا ولد له، والصحيح عنه الأول، ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد. وقوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي من أم كما هو في قراءة بعض السلف، منهم سعد بن أبي وقاص، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه (أحدها) أنهم يرثون مع من أدلوا به، وهي الأم. (الثاني) أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء. (الثالث) أنهم لا يرثون إلا أن كان ميتهم يورث كلالة، فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن. (الرابع) أنهم لا يزادون على الثلث، وإن كثر ذكورهم وإناثهم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرنا يونس عن الزهري، قال: قضى عمر أن ميراث الإخوة من الأم بينهم للذكر مثل الأنثى، قال الزهري: ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك من(1/568)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهذه الآية هي التي قال الله تعالى فيها {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} واختلف العلماء في المسألة المشتركة، وهي زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين، فعلى قول الجمهور للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس ولولد الأم الثلث ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوة الأم، وقد وقعت هذه المسألة في زمن أمير المؤمنين عمر، فأعطى الزوج النصف، والأم السدس، وجعل الثلث لأولاد الأم، فقال له أولاد الأبوين: يا أمير المؤمنين، هب أن أبانا كان حماراً، ألسنا من أم واحدة ؟ فشرك بينهم وصح التشريك عنه وعن عثمان، وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم، وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح القاضي ومسروق وطاوس ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز والثوري وشريك، وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق بن راهويه، وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم، بل يجعل الثلث لأولاد الأم، ولا شيء لأولاد الأبوين، والحالة هذه لأنهم عصبة. وقال وكيع بن الجراح: لم يختلف عنه في ذلك. وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري. وهو المشهور عن ابن عباس. وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وزفر بن الهُذيل والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد وأبي ثور وداود بن علي الظاهري، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي رحمه الله في كتابه الإيجاز. وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} أي لتكون وصيته على العدل لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه، أو يزيده على ما قدّر الله له من الفريضة، فمن سعى في ذلك، كان كمن ضاد الله في حكمته، وقسمته. ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي، حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الإضرار في الوصية من الكبائر" وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا، وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة، قال أبو القاسم ابن عساكر: ويعرف بمفتي المساكين، وروى عنه غير واحد من الأئمة، وقال فيه أبو حاتم الرازي: هو شيخ، وقال علي بن المديني هو مجهول لا أعرفه، لكن رواه النسائي في سننه عن علي بن حجر عن علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفاً " الإضرار في الوصية من الكبائر" وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن عائذ بن حبيب، عن داود بن أبي هند، ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفاً، وفي بعضها: ويقرأ ابن عباس {غَيْرَ مُضَارٍّ}. قال ابن جرير: والصحيح الموقوف، ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث، هل هو صحيح أم لا ؟ على قولين (أحدهما) لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة، والقول القديم للشافعي رحمهم الله، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار. وهو مذهب طاوس وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز وهو اختيار أبي عبد الله البخاري في صحيحه، واحتج بأن رافع بن خديج أوصى أن لا تكشف الفزارية عما أغلق عليه بابها، قال: وقال بعض الناس لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فلم يخص وارثاً ولا غيره، انتهى ما ذكره. فمتى كان الإقرار صحيحاً مطابقاً لما في نفس الأمر، جرى فيه هذا الخلاف، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم، فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة {غَيْرَ(1/569)
مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}. ثم قال تعالى: )
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}
أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله، فلا تعتدوها ولا تجاوزوها، ولهذا قال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي فيها فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضها بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي لكونه غير ما حكم الله به وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن أيوب عن أشعث بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة" قال: ثم يقول أبو هريرة، اقرؤوا أن شئتم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } - إلى قوله - { عَذَابٌ مُهِينٌ} قال أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه: حدثنا عَبْدَة بن عبد الله، أخبرنا عبد الصمد، حدثنا نصر بن علي الحُدّاني، حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني، حدثني شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت، فيُضارّان في الوصية، فتجب لهما النار" وقال قرأ عليّ أبو هريرة من ههنا {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ }- حتى بلغ - { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عبد الله بن جابر الحداني به، وقال الترمذي: حسن غريب، وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل.
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً}
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة، حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت، ولهذا قال {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} يعني الزنا {مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك، قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور، فنسخها بالجلد أو الرجم، وكذا رُوى عن عكرمة، وسعيد بن جبير والحسن وعطاء الخراساني وأبي صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك، أنها منسوخة، وهو أمر متفق عليه - قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر،(1/570)
حدثنا سعيد عن قتادة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، أثر عليه، وكرب لذلك، وتَرَبّد وجهه، فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم، فلما سري عنه، قال: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة" ، وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة، عن الحسن، عن حطان، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي عن مبارك ابن فضالة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي، عرف ذلك في وجهه، فلما أنزلت {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فلما ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا خذوا قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة". وقد روى الإمام أحمد أيضاً هذا الحديث عن وكيع بن الجراح، حدثنا الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حُرَيث، عن سلمة بن المحبق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وكذا رواه أبو داود مطولاً من حديث الفضل بن دلهم، ثم قال: وليس هو بالحافظ، كان قصاباً بواسط.
(حديث آخر) قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا عباس بن حمدان، حدثنا أحمد بن داود حدثنا عمرو بن عبد الغفار، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، عن مسروق، عن أبي كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البكران يجلدان وينفيان، والثيبان يجلدان ويرجمان، والشيخان يرجمان" هذا حديث غريب من هذا الوجه - وروى الطبراني من طريق ابن لهيعة عن أخيه عيسى بن لهيعة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزلت سورة النساء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حبس بعد سورة النساء" . وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين، ولم يجلدهم قبل ذلك، فدل على أن الرجم ليس بحتم، بل هو منسوخ على قولهم، والله أعلم وقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} أي واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما، قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما: أي بالشتم والتعيير والضرب بالنعال، وكان الحكم كذلك، حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم، وقال عكرمة وعطاء والحسن وعبد الله بن كثير: نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا. وقال السدي: نزلت في الفتيان من قبل أن يتزوجوا. وقال مجاهد: نزلت في الرجلين إذا فعلا - لا يكنى، وكأنه يريد اللواط - والله أعلم، وقد روى أهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به" . وقوله: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} أي أقلعا ونزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت، {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} أي لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً(1/571)
رَحِيماً}. وقد ثبت في الصحيحين "إذا زنت أمة أحدكم، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها" أي ثم لا يعيرها بما صنعت بعد الحد الذي هو كفارة لما صنعت.
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
يقول سبحانه وتعالى: إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو قبل معاينة الملك روحه قبل الغرغرة. قال مجاهد وغير واحد: كل من عصى الله خطأ أو عمداً، فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب، وقال قتادة عن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة، رواه ابن جرير. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة، قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به، فهو جهالة عمداً كان أو غيره. وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد، قال: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها قال ابن جريج: وقال لي عطاء بن أبي رباح، نحوه. وقال أبو صالح عن ابن عباس: من جهالته عمل السوء، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي: ما دام في صحته، وهو مروي عن ابن عباس. وقال الحسن البصري {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} ، ما لم يغرغر. وقال عكرمة: الدنيا كلها قريب.
ذكر الأحاديث في ذلك
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عياش، وعصام بن خالد، قالا: حدثنا ابن ثوبان عن أبيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به، وقال الترمذي: حسن غريب. ووقع في سنن ابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو وهو وهم إنما هو عبد الله بن عمر بن الخطاب.
(حديث آخر) عن ابن عمر قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا أيوب بن نهيك الحلبي، سمعت عطاء بن أبي رباح، قال: سمعت عبد الله بن عمر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه وأدنى من ذلك، وقبل موته بيوم وساعة يعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه إلا قبل منه".
(حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن إبراهيم بن ميمونة، أخبرني رجل من ملحان يقال له أيوب قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه، ومن تاب قبل موته بجمعة تيب عليه، ومن تاب قبل(1/572)
موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه، فقلت له: إنما قال الله {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فقال: إنما أحدثك ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي وأبو عامر العقدي عن شعبة.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا محمد بن مطرف، عن زيد بن اسلم، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني، قال: اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم"، فقال الآخر: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم"، فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة"، قال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه". وقد رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني، فذكر قريباً منه.
(حديث آخر) قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا عمران بن عبد الرحيم، حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا عوف عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر".
أحاديث في ذلك مرسلة
قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي عن عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، هذا مرسل حسن عن الحسن البصري رحمه الله. وقد قال ابن جرير أيضاً رحمه الله: حدثنا ابن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي أيوب بشير بن كعب أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، وحدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد، عن قتادة، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر مثله.
(أثر آخر) قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا عمران عن قتادة، قال: كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قلابة، فحدث أبو قلابة فقال: أن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة، فقال: وعزتك وجلالك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح، فقال الله عز وجل: وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح. وقد ورد هذا في حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري، كلاهما عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " قال إبليس: وعزتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة، فإن توبته مقبولة، ولهذا قال تعالى: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} وأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وحشرجت الروح في الحلق وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم، فلا توبة مقبولة حينئذ، ولات حين مناص، ولهذا قال {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} وهذا كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآيتين، وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها في قوله تعالى: {يَوْمَ(1/573)
يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} الآية، وقوله: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} يعني أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض. قال ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قالوا: نزلت في أهل الشرك. وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، قال: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، قال: حدثني أبي عن مكحول أن عمر بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان أن أبا ذر حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب". قيل: وما وقوع الحجاب ؟ قال "أن تخرج النفس وهي مشركة" ، ولهذا قال الله تعالى: {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي موجعاً شديداً مقيماً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً}
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الشيباني عن عكرمة، عن ابن عباس، - قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السوائي، ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} قال: كانوا إذا مات الرجل، كان أولياؤه أحق بامرأته أن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان، عن عكرمة، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء، كوفي أعمى، كلاهما عن ابن عباس بما تقدم. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن حسين عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله تعالى عن ذلك، أي نهى عن ذلك، تفرد به أبو داود، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك. فقال وكيع عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مقسم، عن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها، فجاء رجل فألقى عليها ثوباً كان أحق بها، فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً}(1/574)
قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمة ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، وروى العوفي عنه: كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم، ألقى ثوبه على امرأته، فورث نكاحها، ولم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً}. وقال زيد بن أسلم في الآية: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية، ورث امرأته من يرث ماله، وكان يعضلها حتى يرثها، أو يزوجها من أراد، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا علي بن المنذر، حدثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل به. ثم روى من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة، حبسها أهله على الصبي يكون فيهم، فنزلت {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} الآية. وقال ابن جريج: قال مجاهد: كان الرجل إذا توفي، كان ابنه أحق بامرأته ينكحها أن شاء إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت، فجنح عليها ابنه، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح، فأنزل الله هذه الآية. وقال السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها، جاء وليه فألقى عليها ثوباً، فإن كان له ابن صغير، أو أخ، حبسها حتى يشب، أو تموت فيرثها، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوباً، نجت، فأنزل الله {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً}. وقال مجاهد في هذه الآية: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه، رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان، نحو ذلك. قلت: فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد، ومن وافقه، وكل ما كان فيه نوع من ذلك، والله أعلم. وقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي لا تُضَارّوهن في العشرة، لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك، أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والإضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} يقول: ولا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} يعني الرجل، تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي، وكذا قال الضحاك وقتادة، واختاره ابن جرير، وقال ابن المبارك وعبد الرزاق: أخبرنا معمر، قال أخبرني سماك بن الفضل عن ابن البَيْلماني، قال: نزلت هاتان الآيتان، إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام. قال عبد الله بن المبارك: يعني قوله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} في الجاهلية، {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} في الإسلام. وقوله: {إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي(1/575)
والحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو صالح والسدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال: يعني بذلك الزنا، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها، وتضاجرها حتى تتركه لك، وتخالعها، كما قال تعالى في سورة البقرة: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الآية، وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان، والنشوز وبذاء اللسان، وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها، وهذا جيد، والله أعلم. وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفرداً به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال: وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، أي نهى عن ذلك. قال عكرمة والحسن البصري: وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام، وقال عبد الرحمن بن زيد: كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها قال: فهذا قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية، وقال مجاهد في قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} هو كالعضل في سورة البقرة. وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال "هذه بتلك" ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام، ولله الحمد.
وقوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة، كما قال ابن عباس في هذه الآية: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً، ويكون في ذلك الولد خير كثير، وفي الحديث الصحيح "لا يفرك مؤمن مؤمنة أن سخط منها خلقاً رضي منها آخر".
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ(1/576)
بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ولو كان قنطاراً من المال، وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته ههنا. وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق، ثم رجع عن ذلك، كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين، قال: نبئت عن أبي العجفاء السلمي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تَغّلوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة، ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن مُسَيب البصري، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(طريق أخرى عن عمر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن عبد الرحمن عن المجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "أيها الناس، ما إكثاركم في صُدُق النساء" . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصّدُقات فيما بينهم أربعمائة درهم، فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال: نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال: وأي ذلك ؟ فقالت: أما سمعت الله يقول {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} الآية ؟ قال: فقال: اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل، إسناده جيد قوي.
(طريق أخرى) قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق، عن قيس بن ربيع، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، أن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} - من ذهب - قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود، {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} ، فقال عمر: أن امرأة خاصمت عمر فخصمته.
(طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع) قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغُصّة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد، ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة من صفة النساء طويلة، في أنفها فطس: ما ذاك لك. قال: ولم ؟ قالت: لأن الله قال {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} الآية، فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ ولهذا قال منكراً {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك ؟ قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد: يعني بذلك الجماع - وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما: "الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب ؟" قالها ثلاثاً، فقال الرجل: يا رسول الله مالي ؟ - يعني ما أصدقها -(1/577)
قال "لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها". في سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها، فإذا هي حامل من الزنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقضى لها بالصداق، وفرق بينهما، وأمر بجلدها، وقال "الولد عبد لك. فالصداق في مقابلة البضع" ولهذا قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}.
وقال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، أن المراد بذلك العقد. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير والضحاك والسدي، نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الآية: هو قوله "أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله" فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة، قال: وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، قال له: "جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي" رواه ابن أبي حاتم، وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: "واستوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله".
وقال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية، يحرم الله تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم، وإعظاماً واحتراماً أن توطأ من بعده، حتى إنها لتحرم عن الابن بمجرد العقد عليها، وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت، عن رجل من الأنصار، قال: لما توفي أبو قيس - يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأته، فقالت: إنما أعدك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أن أبا قيس توفي، فقال "خيراً" ثم قالت: أن ابنه قيساً خطبني، وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولداً فما ترى ؟ فقال لها "ارجعي إلى بيتك"، قال: فنزلت {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا حسين، حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله بنت صخرة، وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وكان عند أبيه خلف، وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف، فخلف عليها صفوان بن أمية. وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولاً به في الجاهلية، ولهذا قال {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} كما قال {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} قال: وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة، تزوج بامرأة أبيه، فأولدها ابنه النضر بن كنانة، قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح لا من سفاح" قال: فدل على أنه كان سائغاً لهم ذلك، فإن أراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً فيما بينهم. فقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي، حدثنا قراد، حدثنا ابن عيينة عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، وهكذا قال عطاء وقتادة، ولكن فيما(1/578)
نقله السهيلي من قصة كنانة نظر، والله أعلم، وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الآية، مبشع غاية التبشع، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} وقال {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وقال {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} فزاد ههنا {وَمَقْتاً} أي بغضاً أي هو أمر كبير في نفسه، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله، ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب، بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه. وقال عطاء بن أبي رباح في قوله: {وَمَقْتاً} أي يمقت الله عليه، {وَسَاءَ سَبِيلاً} أي وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب، عن خاله أبي بردة - وفي رواية: ابن عمر، وفي رواية: عن عمه - أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أي عم أين بعثك النبي ؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.
(مسألة) وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية، فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضاً بذلك، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها، ويقول: هذا المتاع، لو كان له متاع اذهب بها إلى يزيد بن معاوية، ثم قال: لا، ادع لي ربيعة بن عمرو الجُرسي، وكان فقيهاً، فلما دخل عليه قال: أن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد، فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له، ثم قال: نعم ما رأيت، ثم قال ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري، فدعوته وكان آدم شديد الأدمة، فقال: دونك هذه بيض بها ولدك، قال: وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته، ثم أعتقته، ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي رضي الله عنه.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}(1/579)
هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: حرمت عليكم سبع نسباً وسبع صهراً، وقرأ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} الآية¹ وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء عن عمير، مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، ثم قرأ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} فهن النسب. وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} فإنها بنت، فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتاً شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في هذه الآية، والله أعلم، وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة" ، وفي لفظ لمسلم "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"، وقال بعض الفقهاء: كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاعة إلا في أربع صور، وقال بعضهم: ست صور هي مذكورة في كتب الفروع والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك، لأنه يوجد مثل بعضها من النسب، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر فلا يرد على الحديث شيء أصلاً البتة، ولله الحمد وبه الثقة. ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية، وهذا قول مالك، ويروى عن ابن عمر، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. وقال آخرون: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان" وقال قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، والمصة ولا المصتان"، وفي لفظ آخر "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان" رواه مسلم. وممن ذهب إلى هذا القول: الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد وأبو ثور، وهو مروي عن علي وعائشة وأم الفضل وابن الزبير وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير رحمهم الله. وقال آخرون: لا يحرم أقل من خمس رضعات، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمْرة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان فيما أنزل من القرآن "عشر رضعات معلومات يحرمن" ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن، وروى عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، نحو ذلك. وفي حديث سهلة بنت سهيل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة خمس رضعات، وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات، وبهذا قال الشافعي وأصحابه، ثم ليعلم أنه لا بد أن(1/580)
تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ثم اختلفوا هل يحرم لبن الفحول، كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم، أو إنما يختص الرضاع بالأم فقط، ولا ينتشر إلى ناحية الأب، كما هو قول لبعض السلف ؟ على قولين، تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير. وقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل، وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها، ولهذا قال {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} في تزويجهن، فهذا خاص بالربائب وحدهن. وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب، فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها، لقوله: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي رضي الله تعالى عنه، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، أيتزوج أمها ؟ قال: هي بمنزلة الربيبة، وحدثنا ابن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت، قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. وفي رواية عن قتادة، عن سعيد، عن زيد بن ثابت، أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل. وقال ابن المنذر: حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو بكر بن حفص عن مسلم بن عويمر الأجدع، أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف، قال: فلم أجامعها حتى توفى عمي عن أمها، وأمها ذات مال كثير، فقال أبي: هل لك في أمها ؟ قال: فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر، فقال: انكح أمها ؟ قال: وسألت ابن عمر، فقال: لا تنكحها، فأخبرت أبي بما قالا، فكتب إلى معاوية فأخبره بما قالا، فكتب معاوية: إني لا أحل ما حرم الله، ولا أحرم ما أحل الله، وأنت وذاك والنساء سواها كثير. فلم ينه ولم يأذن لي فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل عن رجل عن عبد الله بن الزبير، قال: الربيبة والأم سواء لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة، وفي إسناده رجل مبهم لم يسم. وقال ابن جريج: أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهداً قال له {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} أراد بهما الدخول جميعاً، فهذا القول كما ترى مروي عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس، وقد توقف فيه معاوية. وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني فيما نقله الرافعي عن العبادي. وقد روي عن ابن مسعود مثله، ثم رجع عنه، قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، حدثنا عبد الرزاق عن الثوري، عن أبي فروة، عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن مسعود: أن رجلاً من بني كمخ من فزارة تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته. فاستفتى ابن مسعود، فأمره أن يفارقها ثم تزوج أمها، فتزوجها وولدت له أولاداً، ثم أتى ابن مسعود المدينة، فسئل عن ذلك، فأخبر أنها لا تحل له، فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل: إنها عليك حرام ففارقها. وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم، فإنها تحرم بمجرد العقد. قال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن محمد ابن هارون بن عَزْرة، حدثنا عبد الوهاب عن سعيد، عن قتادة، عن(1/581)
عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقول: إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها، وروي أنه قال: إنها مبهمة، فكرهها. ثم قال: وروي عن ابن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وطاوس وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وابن سيرين وقتادة والزهري نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وجمهور الفقهاء قديماً وحديثاً، ولله الحمد والمنة - قال ابن جرير: والصواب قول من قال: الأم من المبهمات، لأن الله لم يشترط معهن الدخول كما اشترطه مع أمهات الربائب، مع أن ذلك أيضاً إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر غير أن في إسناده نظراً، وهو ما حدثني به المثنى، حدثنا حبان بن موسى، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلقها، فإن شاء تزوج الابنة" ، ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره. وأما قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل، أو لم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، كقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}. وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان، وفي لفظ لمسلم عزة بنت أبي سفيان، قال "أو تحبين ذلك" ؟ قالت: نعم لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، قال "فإن ذلك لا يحل لي". قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال "بنت أم سلمة" ؟ قالت: نعم. قال "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لبنت أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن" وفي رواية للبخاري "إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي"، فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة، وحكم بالتحريم لذلك، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف وقد قيل: بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل، فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام - يعني ابن يوسف - عن ابن جريج، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان، قال: كانت عندي امرأة فتوفيت، وقد ولدت لي فوجدت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب فقال: ما لك ؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال علي: لها ابنة ؟ قلت: نعم وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك ؟ قلت: لا، هي بالطائف قال: فانكحها، قلت: فأين قول الله {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} ؟ قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك، هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم، وهو قول غريب جداً، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، فاستشكله وتوقف في ذلك، والله أعلم. وقال ابن المنذر، حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قوله: {اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، قال: في بيوتكم، وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس، عن ابن شهاب: أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين، توطأ إحداهما بعد الأخرى ؟ فقال عمر: ما أحب أن أخبرهما جميعاً يريد أن أطأهما جميعاً بملك يميني، وهذا منقطع. وقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا أبو الأحوص، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قيس، قال: قلت لابن عباس: أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له ؟ فقال:(1/582)
أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين، لأن الله حرم ذلك في النكاح، قال {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم. وروى هشام عن قتادة: بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة، وكذا قال قتادة عن أبي العالية، ومعنى قوله: {اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أي نكحتموهن، قاله ابن عباس وغير واحد. وقال ابن جريج عن عطاء: هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها. وقلت: أرأيت أن فعل ذلك في بيت أهلها ؟ قال: هو سواء، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها. وقال ابن جرير: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا يحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.
وقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية. كما قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} الآية، وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ}. قال: كنا نحدث - والله أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد، قال المشركون بمكة في ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} ونزلت {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} ، ونزلت {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا الجرح بن الحارث عن الأشعث، عن الحسن بن محمد: أن هؤلاء الآيات مبهمات {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}، ثم قال: وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول، نحو ذلك. (قلت) معنى مبهمات أي عامة في المدخول بها وغير المدخول، فتحرم بمجرد العقد عليها، وهذا متفق عليه، فإن قيل: فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة كما هو قول الجمهور، ومن الناس من يحكيه إجماعاً وليس من صلبه، فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية. أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين معاً في التزويج، وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف، كما قال {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً، وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح، ومن أسلم وتحته أختان، خيّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة. قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجَيْشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه، قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق أحداهما. ثم رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن لهيعة، وأخرجه أبو داود والترمذي أيضاً من حديث يزيد بن أبي حبيب، كلاهما عن أبي وهب الجَيْشاني، قال الترمذي واسمه ديلم بن الهوشع. عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه به، وفي لفظ للترمذي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر أيتهما شئت"، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد(1/583)
رواه ابن ماجه أيضاً بإسناد آخر فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي وهب الجَيْشاني عن أبي خراش الرعيني، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية، فقال "إذا رجعت فطلق إحداهما" قلت: فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز، ويحتمل أن يكون غيره، فيكون أبو وهب قد)رواه عن اثنين عن فيروز الديلمي، والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني، حدثنا هيثم بن خارجة، حدثنا يحيى بن إسحاق عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رُزَيق بن حكيم، عن كثير بن مرة، عن الديلمي، قال: قلت: يا رسول الله، أن تحتي أختين، قال "طلق أيهما شئت" ، فالديلمي المذكور أولاً هو الضحاك بن فيروز الديلمي قال أبو زرعة الدمشقي: كان يصحب عبد الملك بن مروان، والثاني هو أبو فيروز الديلمي رضي الله عنه، وكان من جملة الأمراء باليمن الذين وَلُوا قتل الأسود العنسي المتنبىء لعنه الله، وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضاً لعموم الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عنبة أو عتبة عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين، فكرهه فقال له - يعني السائل: يقول الله تعالى: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: وبعيرك مما ملكت يمينك. وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك. قال الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين، هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وما كنت لأصنع ذلك، فخرج من عنده، فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. قال مالك: قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب. قال: وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك. قال ابن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستذكار: إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم قال أبو عمر: حدثني خلف بن أحمد قراءة عليه: أن خلف بن مطرف حدثهم: حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة، قالوا: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي، حدثني عمي إياس بن عامر، قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: أن لي أختين مما ملكت يميني، اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولاداً ثم رغبت في الأخرى فما أصنع ؟ فقال علي رضي الله عنه: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى، قلت: فإن ناساً يقولون: بل تزوجها ثم تطأ الأخرى، فقال علي: أرأيت أن طلقها زوجها أو مات عنها، أليس ترجع إليك ؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد، أو قال: إلا الأربع، ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب، ثم قال أبو عمر: هذا الحديث رحلة، لو لم يصب الرجل من أقصى المغرب أو المشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته. قلت: وقد روي عن علي نحو ما روي عن عثمان. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، حدثنا عبد الرحمن بن غزوان، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال لي علي بن أبي طالب: حرمتهما آية وأحلتهما آية - يعني الأختين - قال ابن عباس: يحرمهن عليّ قرابتي منهن ولا يحرمهن عليّ قرابة بعضهن من بعض، يعني الإماء وكانت الجاهلية يحرمون ما(1/584)
تحرمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. فلما جاء الإسلام أنزل الله {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} يعني في النكاح، ثم قال أبو عمر: روى الإمام أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن سلمة عن هشام، عن ابن سيرين، عن ابن سيرين، قال: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد، وعن ابن مسعود والشعبي نحو ذلك. قال أبو عمر: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس، ولكنهم اختلف عليهم، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا العراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب، إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} إلى آخر الآية، أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، فكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم، وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات، وهن المزوجات {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن، فإن الآية نزلت في ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان هو الثوري عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري، قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس، ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فاستحللنا بها فروجهن، وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم، ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، ثلاثتهم عن عثمان البتي، ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سوراي عن عثمان البتي، ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم، عن أبي سعيد الخدري، فذكره، وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري به. وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي، عن أبي سعيد الخدري، قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة، عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس، لهن أزواج من أهل الشرك، فكأن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن، قال: فنزلت هذه الآية في ذلك {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة، زاد مسلم: وشعبة، ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة بإسناده نحوه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ولا أعلم أن أحداً ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة - كذا قال - وقد تابعه سعيد وشعبة، والله أعلم.
وقد روى الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في سبايا خيبر، وذكر مثل حديث أبي سعيد، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقاً لها من زوجها أخذاً بعموم هذه الآية، وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه سئل عن(1/585)
الأمة تباع ولها زوج ؟ قال: كان عبد الله يقول: بيعها طلاقها. ويتلو هذه الآية {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وكذا رواه سفيان عن منصور ومغيرة والأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود، قال: بيعها طلاقها وهو منقطع، ورواه سفيان الثوري عن خالد، عن أبي قلابة، عن ابن مسعود، قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج، فسيدها أحق ببضعها. ورواه سعيد عن قتادة، قال: أن أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس، قالوا: بيعها طلاقها. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب ابن علية عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلاق الأمة ست: بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} قال: هُنّ ذوات الأزواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك، فبيعها طلاقها. قال معمر: وقال الحسن مثل ذلك، وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال إذا كان لها زوج، فبيعها طلاقها. وروى عوف عن الحسن: بيع الأمة طلاقها، وبيعه طلاقها، فهذا قول هؤلاء من السلف، وقد خالفهم الجمهور قديماً وحديثاً، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقاً لها لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ونجزّت عتقها، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة، فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خيرها دل على بقاء النكاح، وأن المراد من الآية المسبيات فقط، والله أعلم. وقد قيل: المراد بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي، واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عمر وعبيدة {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.
وقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم، فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه. وقال عبيدة وعطاء والسدي في قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } يعني الأربع. وقال إبراهيم {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} يعني ما حرم عليكم. وقوله تعالى :{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أ ي ما عدا من ذكرن من المحارم، هن لكم حلال، قاله عطاء وغيره. وقال عبيدة والسدي {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ما دون الأربع، وهذا بعيد، والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} يعني ما ملكت أيمانكم، وهذه الآية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين، وقول من قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع، أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي، ولهذا قال {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} أي كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك، كما قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وكقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، وكقوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ مرتين. وقال آخرون: أكثر من ذلك. وقال(1/586)
آخرون: إنما أبيح مرة ثم نسخ مرة، ثم نسخ، ولم يبح بعد ذلك. وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة، وهو وراية عن الإمام أحمد، وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤون {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ، وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك. والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام. وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني، عن أبيه، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فقال "يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" وفي رواية لمسلم: في حجة الوداع، وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام، وقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى، قال: فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به، وزيادة للجعل، قال السدي: أن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى، يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما، فقال: أتمتع منك أيضاً بكذا وكذا، فازاد قبل أن يستبرىء رحمها يوم تنقضي المدة، وهو قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}. قال السدي: إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وهي منه بريئة وعليها أن تستبرىء ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، فلا يرث واحد منهما صاحبه، ومن قال بهذا القول الأول جعل معناه كقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} الآية، أي إذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه، فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، قال: زعم الحضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة، فقال: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. يعني أن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ. واختار هذا القول ابن جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} والتراضي أن يوفيها صداقها ثم يخيرها، يعني في المقام أو الفراق. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
يقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} أي سعة وقدرة {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} أي(1/587)
الحرائر العفائف المؤمنات. وقال ابن وهب: أخبرني عبد الجبار عن ربيعة {مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} قال ربيعة: الطول الهوى، يعني ينكح الأمة إذا كان هواه فيها، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، ثم أخذ يشنع على هذا القول ويرده {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون، ولهذا قال {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، قال ابن عباس وغيره: فلينكح من إماء المؤمنين، وكذا قال السدي ومقاتل بن حيان. ثم اعترض بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور¹ ثم {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه، وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه، كما جاء في الحديث "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر " أي زان. فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها لما جاء في الحديث "لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها" وقوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي وادفعوا مهورهن بالمعروف، أي عن طيب نفس منكم، ولا تبخسوا منه شيئاً استهانة بهن لكونهن إماء مملوكات، وقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ} أي عفائف عن الزنا لا يتعاطينه، ولهذا قال {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} وهن الزواني اللاتي لا يمنعن من أرادهن بالفاحشة - وقوله تعالى: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} ، قال ابن عباس: المسافحات هن الزواني المعلنات، يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحداً أرادهن بالفاحشة. و {مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} يعني أخلاء، وكذا روي عن أبي هريرة ومجاهد والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني ويحيى بن أبي كثير ومقاتل بن حيان والسدي، قالوا: أخلاء. وقال الحسن البصري: يعني الصديق. وقال الضحاك أيضاً {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} ذات الخليل الواحد المقرة به، نهى الله عن ذلك. يعني تزويجها ما دامت كذلك.
وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} اختلف القراء في أحصن، فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد مبني لما لم يسم فاعله، وقرىء بفتح الهمزة والصاد فعل لازم، ثم قيل: معنى القراءتين واحد، واختلفوا فيه على قولين (أحدهما) أن المراد بالإحصان ههنا الإسلام، وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي والسدي، وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب وهو منقطع، وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي في رواية الربيع، قال: وإنما قلنا ذلك، استدلالاً بالسنة، وإجماع أكثر أهل العلم. وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً مرفوعاً، قال: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله، حدثنا أبي عن أبيه، عن أبي حمزة، عن جابر، عن رجل، عن أبي عبد الرحمن، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قال "إحصانها إسلامها وعفافها" وقال: المراد به ههنا التزويج. قال: وقال علي: اجلدوهن، ثم قال ابن أبي حاتم: وهو حديث منكر. (قلت) وفي إسناده ضعف، وفيه من لم يسم، ومثله لا تقوم به حجة. وقال القاسم وسالم: إحصانها إسلامها وعفافها. وقيل: المراد به ههنا التزويج، وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم. ونقله أبو علي الطبري في كتابه الإيضاح عن الشافعي، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه. وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد أنه قال: إحصان الأمة أن ينكحها الحر، وإحصان العبد(1/588)
أن ينكح الحرة، وكذا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، رواهما ابن جرير في تفسيره. وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي. وقيل: معنى القراءتين متباين. فمن قرأ: أحصن بضم الهمزة فمراده التزويج، ومن قرأ بفتحها فمراده الإسلام. اختاره أبو جعفر بن جرير في تفسيره وقرره ونصره، والأظهر - والله أعلم - أن المراد بالإحصان ههنا التزويج، لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} والله أعلم. والآية الكريمة سياقها كلها في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي تزوجن، كما فسره ابن عباس ومن تبعه، وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور، وذلك أنهم يقولون: أن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة، سواء كانت مسلمة أو كافرة، مزوجة أو بكرا، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنى من الإماء. وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك، فأما الجمهور فقالوا: لاشك أن المنطوق مقدم على المفهوم. وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء، فقدمناها على مفهوم الآية. فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت أن جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لنبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت اتركها حتى تماثل" ، وعند عبد الله بن أحمد عن غير أبيه "فإذا تعالت من نفسها حُدّها خمسين" وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم أن زنت الثانية، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم أن زنت الثالثة فتبين زناها. فليبعها ولو بحبل من شعر" ولمسلم "إذا زنت ثلاثاً فليبعها في الرابعة" ، وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش، فجلدنا ولا ئد من ولا ئد الإمارة خمسين خمسين في الزنا.
(الجواب الثاني) جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها، وإنما تضرب تأديباً وهو المحكي عن ابن عباس رضي الله عنه. وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي الظاهري في رواية عنه وعمدتهم مفهوم الآية، وهو من مفاهيم الشرط، وهو حجة عند أكثرهم فقدم على العموم عندهم، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ قال: "إن زنت فحدوها، ثم أن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير". قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة وأخرجاه في الصحيحين. وعند مسلم قال ابن شهاب: الضفير الحبل. قالوا: فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة، وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات من العذاب، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك، والله أعلم - وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن سفيان، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على أمة حد حتى تحصن - أو حتى تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات" وقد رواه ابن خزيمة عن عبد الله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعاً، وقال رفعه خطأ إنما هو من قول ابن عباس. وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران وقال مثل ما قاله ابن خزيمة. قالوا: وحديث عليٍ وعمر قضايا أعيان، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة:(1/589)
(أحدها) أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعاً بينه وبين هذا الحديث. (الثاني) أن لفظة الحد في قوله "فليجلدها الحد" مقحمة من بعض الرواة بدليل الجواب الثالث، وهو أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد، وأيضاً فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث عباد بن تميم عن عمه، وكان قد شهد بدراً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير" (الرابع) أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظة الحد في الحديث على الجلد، لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بعثكال نخل فيه مائة شمراخ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كأحمد وغيره من السلف. وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة. ورجم الثيب أو اللائط، والله أعلم. وقد روى ابن جرير في تفسيره: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقول: لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج، وهذا إسناد صحيح عنه، ومذهب غريب أن أراد أنها لا تضرب الأمة أصلاً لا حداً، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث، وإن أراد أنها لا تضرب حداً، ولا ينفي ضربها تأديباً فهو كقول ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه في ذلك، والله أعلم.
(الجواب الثالث) أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة، فأما قبل الإحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وكحديث عبادة بن الصامت "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجمها بالحجارة" والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث. وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري وهو في غاية الضعف، لأن الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب، وهو خمسون جلدة، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال ؟ وهذا الشارع عليه السلام سأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: اجلدوها، ولم يقل: مائة، فلو كان حكمها كما زعم داود لوجب بيان ذلك لهم، لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء، وإلا فما الفائدة في قولهم: ولم تحصن لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نزلت، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الآخر فبينه لهم، كما في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه فذكرها لهم، ثم قال "والسلام ما قد علمتم" وفي لفظ لما أنزل الله قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} قالوا: هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك وذكر الحديث وهكذا هذا السؤال.
(الجواب الرابع) عن مفهوم الآية جواب أبي ثور وهو أغرب من قول داود من وجوه، وذلك أنه يقول: فإذا أحصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات المزوجات وهو الرجم، وهو لا ينصف فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين، فأخطأ في فهم الآية، وخالف الجمهور في الحكم، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي رحمه الله: ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا، وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، والألف واللام في المحصنات(1/590)
للعهد، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} والمراد بهن الحرائر فقط من غير تعرض لتزويج غيره، وقوله: {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه وهو الجلد لا الرجم، والله أعلم. وقد روى أحمد نصاً في رد مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعيد عن أبيه: أن صفيّة كانت قد زنت برجل من الحمس، فولدت غلاماً، فادعاه الزاني، فاختصما إلى عثمان، فرفعهما إلى علي بن أبي طالب، فقال علي: أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وجلدهما خمسين خمسين، وقيل: بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى أي أن الإماء على النصف من الحرائر في الحد وإن كن محصنات وليس عليهن رجم أصلاً لا قبل النكاح ولا بعده، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة، قال ذلك صاحب الإفصاح، وذكر هذا عن الشافعي فيما رواه ابن عبد الحكم عنه، وقد ذكره البيهقي في كتاب السنن والآثار، وهو بعيد من لفظ الآية، لأنا إنما استفدنا تنصيف الحد من الآية لا من سواها فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها وقال: بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه وهو قول في مذهب أحمد رحمه الله، فأما قبل الإحصان فله ذلك، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة، وهذا أيضاً بعيد لأنه ليس في لفظ الآية ما يدل عليه، ولولا هذه لم ندر ما حكم الإماء في التنصيف، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد مائة، أو رجمهن كما ثبت في الدليل عليه، وقد تقدم عن علي أنه قال: أيها الناس أقيموا الحد على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور: "إذا زنت أمة أحدكم، فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها" ملخص الآية: أنها إذا زنت أقوال: أحدها تجلد خمسين قبل الإحصان وبعده. وهل تنفى ؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها إنها تنفى عنه. والثاني لا تنفى عنه مطلقاً والثالث أنها تنفى نصف سنة وهو نصف نفي الحرة، وهذا الخلاف في مذهب الشافعي، وأما أبو حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد، وإنما هو رأي الإمام أن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال وأما النساء فلا، لأن ذلك مضاد لصيانتهن وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا النساء. نعم حديث عبادة وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه، رواه البخاري وذلك مخصوص بالمعنى وهو أن المقصود من النفي الصون، وذلك مفقود في نفي النساء، والله أعلم. والثاني أن الأمة إذا زنت تجلد خمسين بعد الإحصان وتضرب تأديباً غير محدود بعدد محصور، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها لا تضرب قبل الإحصان، وإن أراد نفيه فيكون مذهباً بالتأويل وإلا فهو كالقول الثاني. القول الآخر أنها تجلد قبل الإحصان مائة، وبعده خمسين، كما هو المشهور عن داود وأضعف الأقوال: أنها تجلد قبل الإحصان خمسين، وترجم بعده، وهو قول أبي ثور وهو ضعيف أيضاً، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} أي إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا، وشق عليه الصبر عن الجماع، وعنت بسبب ذلك كله، فله حينئذ أن يتزوج بالأمة،(1/591)
وإن ترك تزوجها وجاهد نفسه في الكف عن الزنا فهو خير له لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيّاً، فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي، ولهذا قال {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومن هذه الآية الكريمة، استدل جمهور العلماء في جواز نكاح الإماء على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر ومن خوف العنت لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد، ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن، وخالف الجمهور أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين، فقالوا: متى لم يكن الرجل مزوجاً بحرة، جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضاً سواء كان واجداً لطول حرة أم لا، وسواء خاف العنت أم لا، وعمدتهم فيما ذهبوا إليه قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي العفائف وهو يعم الحرائر والإماء، وهذه الآية عامة وهذه أيضاً ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور، والله أعلم.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً}
يخبر تعالى أنه يريد أن يبين لكم أيها المؤمنون ما أحل لكم وحرم عليكم مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها، {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها، {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي من الإثم والمحارم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله. وقوله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} أي يريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة أن تميلوا عن الحق إلى الباطل ميلاً عظيماً {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} أي في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم، ولهذا أباح الإماء بشروط، كما قال مجاهد وغيره {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} فناسبه التخفيف لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وكيع عن سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} أي في أمر النساء. وقال وكيع: يذهب عقله عندهن. وقال موسى الكليم عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ليلة الإسراء حين مر عليه راجعاً من عند سدرة المنتهى، فقال له: ماذا فرض عليكم، فقال: أمرني بخمسين صلاة في كل يوم وليلة، فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني قد بلوت الناس قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا، وإن أمتك أضعف أسماعاً وأبصاراً وقلوباً، فرجع، فوضع عشراً. ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمساً، الحديث.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}(1/592)
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً بالباطل، أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا، حتى قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا داود عن عكرمة، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول: أن رضيته أخذته، وإلا رددته ورددت معه درهماً، قال: هو الذي قال الله عز وجل فيه {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل عن داود الأودي، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله في الآية، قال: إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لما أنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قال المسلمون: أن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل أموالنا، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكيف للناس ؟ فأنزل الله بعد ذلك {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} الآية، وكذا قال قتادة، وقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} قرىء تجارة بالرفع وبالنصب وهو استثناء منقطع، كأنه يقول: لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، ولكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال، كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}، وكقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى}. ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول، لأنه يدل على التراضي نصاً بخلاف المعاطاة، فإنها قد لا تدل على الرضى ولا بد، وخالف الجمهور في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً، فصححوا بيع المعاطاة مطلقاً، ومنهم من قال: يصح في المحقرات وفيما يعده الناس بيعاً وهو احتياط نظر من محققي المذهب، والله أعلم. وقال مجاهد {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} بيعاً أو عطاء يعطيه أحد أحداً، ورواه ابن جرير، ثم قال: وحدثنا وكيع، حدثنا أبي عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة، ولا يحل لمسلم أن يغش مسلماً" هذا حديث مرسل. ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وفي لفظ البخاري "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا" ، وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث أحمد والشافعي وأصحابهما وجمهور السلف والخلف، ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام بحسب ما يتبين فيه حال البيع ولو إلى سنة في القرية ونحوها، كما هو المشهور عن مالك رحمه الله، وصححوا بيع المعاطاة مطلقاً وهو قول في مذهب الشافعي، ومنهم من قال: يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعاً وهو اختيار طائفة من الأصحاب كما هو متفق عليه، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي بارتكاب محارم الله، وتعاطي معاصيه، وأكل أموالكم بينكم بالباطل {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} أي فيما أمركم به ونهاكم عنه. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرت ذلك له، فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب" قال: قلت: يا رسول الله، إني(1/593)
احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله عز وجل {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً، وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب به. ورواه أيضاً عن محمد بن أبي سلمة، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عنه، فذكر نحوه، وهذا - والله أعلم - أشبه بالصواب. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا يوسف بن خالد، حدثنا زياد بن سعد عن عكرمة، عن ابن عباس أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جنب، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فدعاه فسأله عن ذلك، فقال: يا رسول الله، خفت أن يقتلني البرد، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده، يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تردّى من جبل فقتل نفسه، فهو مترد في نار جهنم خالداً فيها أبداً" وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، وكذلك رواه أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وعن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة " وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من طريق أبي قلابة. وفي الصحيحين من حديث الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكيناً نحر بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل "عبدي بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة" ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً} أي ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فيه ظالماً في تعاطيه أي عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} الآية، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد. وقوله تعالى: {أنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية، أي إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها، كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة، ولهذا قال {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا مؤمل بن هشام، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا خالد بن أيوب عن معاوية بن قرة، عن أنس، قال: الذي بلغنا عن ربنا عز وجل، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر، يقول الله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية، وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة، فلنذكر منها ما تيسر، قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم عن مغيرة عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن قَرْثع الضبي، عن سلمان الفارسي، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدري ما يوم الجمعة ؟" قلت: هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم، قال"لكن أدري ما يوم الجمعة، لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة" ، وقد روى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني خالد عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، أخبرني صهيب مولى العُتْواري، أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد يقولان: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال:: "والذي نفسي بيده" ثلاث مرات،(1/594)
ثم أكب فأكب كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر، فكان أحب إلينا من حمر النعم، فقال: "ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل له: ادخل بسلام" ، وهكذا رواه النسائي والحاكم في مستدركه من حديث الليث بن سعد به، ورواه الحاكم أيضاً وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال به ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
(تفسير هذه السبع) وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد، عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل: يا رسول الله، وما هن ؟ قال "الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
(طريق أخرى عنه) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فهد بن عوف، حدثنا أبو عوانة عن عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "الكبائر سبع: أولها الإشراك بالله، ثم قتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم إلى أن يكبر، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة"، فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر، لا ينفي ما عداهن إلا عند من يقول بمفهوم اللقب، وهو ضعيف عند عدم القرينة ولا سيما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم، كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع، فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال: حدثنا أحمد بن كامل القاضي إملاء، حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد، حدثنا معاذ بن هانيء، حدثنا حرب بن شداد، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عبد الحميد بن سنان، عن عبيد بن عمير، عن أبيه يعني عمير بن قتادة رضي الله عنه، أنه حدثه وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "ألا أن أولياء الله المصلون من يقم الصلوات الخمس التي كتبت عليه، ويصوم رمضان ويحتسب صومه، يرى أنه عليه حق، ويعطي زكاة ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها"، ثم أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله، ما الكبائر ؟ فقال "تسع: الشرك بالله، وقتل نفس مؤمن بغير حق، وفرار يوم الزحف، وأكل مال اليتيم وأكل الربا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً، ثم قال: لا يموت رجل لا يعمل هؤلاء الكبائر، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع من ذهب" ، هكذا رواه الحاكم مطولاً، وقد أخرجه أبو داود والترمذي مختصراً من حديث معاذ بن هانيء به. وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطاً، ثم قال الحاكم: رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان. (قلت) وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات. وقال البخاري: في حديثه نظر، وقد رواه ابن جرير عن سليمان بن ثابت الجحدري، عن سلم بن سلام، عن أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد بن عمير، عن أبيه فذكره، ولم يذكر في الإسناد عبد الحميد بن سنان، والله أعلم.
(حديث آخر في معنى ما تقدم) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن ابن عمرو، قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، فقال: "لا أقسم، لا أقسم"، ثم نزل فقال: "أبشروا أبشروا، من صلى(1/595)
الصلوات الخمس واجتنب الكبائر السبع، نودي من أبواب الجنة: ادخل". قال عبد العزيز: لا أعلمه. إلا قال: "بسلام". وقال المطلب: سمعت من سأل عبد الله بن عمرو، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهن ؟ قال: نعم "عقوق الوالدين، وإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وأكل الربا".
(حديث آخر في معناه) قال أبو جعفر بن جرير في التفسير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا زياد بن مخراق عن طيسلة بن مياس، قال: كنت مع النجدات فأصبت ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر، فلقيت ابن عمر، فقلت له: إني أصبت ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر، قال: ما هي ؟ قلت: أصبت كذا وكذا. قال: ليس من الكبائر. قلت: وأصبت كذا وكذا. قال ليس من الكبائر. قال - بشي لم يسمه طيسلة - قال: هي تسع وسأعدهن عليك "الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقها والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ظلماً. وإلحاد في المسجد الحرام والذي يستسحر، وبكاء الوالدين من العقوق". قال زياد: وقال طيسلة: لما رأى ابن عمر فرقي قال: أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت: نعم. قال: وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت: نعم. قال: أحي والداك ؟ قلت: عندي أمي. قال: فوالله لئن أنت ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا سليمان بن ثابت الجحدري الواسطي، حدثنا سلم بن سلام، حدثنا أيوب بن عتبة عن طيسلة بن علي النهدي، قال: أتيت ابن عمر وهو في ظل أراك يوم عرفة وهو يصب الماء على رأسه ووجهه، قلت: أخبرني عن الكبائر ؟ قال: هي تسع قلت: ما هي ؟ قال: "الإشراك بالله وقذف المحصنة" قال: قلت: قبل القتل ؟ قال: نعم ورغما، وقتل النفس المؤمنة، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً" هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفاً. وقد رواه علي بن الجعد عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة بن علي، قال: أتيت ابن عمر عشية عرفة، وهو تحت ظل أراكة، وهو يصب الماء على رأسه فسألته عن الكبائر ؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هن سبع" قال: قلت: وما هن ؟ قال "الإشراك بالله وقذف المحصنة" قال: قلت: قبل الدم ؟ قال: نعم، ورغماً، وقتل النفس المؤمنة، والفرار من الزحف، والسحر وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً". وهكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب عن أيوب بن عتبة اليماني وفيه ضعف، والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان أن أبارهم السمعى حدثهم عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عبد الله لا يشرك به شيئاً، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر فله الجنة - أو دخل الجنة " فسأله رجل ما الكبائر ؟ فقال "الشرك بالله، وقتل نفس مسلمة، والفرار يوم الزحف" ورواه أحمد أيضاً، والنسائي من غير وجه عن بقية.(1/596)
(حديث آخر) روى ابن مردويه في تفسيره من طريق سليمان بن داود اليماني - وهو ضعيف - عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم قال: وكان في الكتاب: "إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة: إشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا وأكل مال اليتيم".
(حديث آخر فيه ذكر شهادة الزور): قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثني عُبيد الله بن أبي بكر، قال: سمعت أنس بن مالك: قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، أو سئل عن الكبائر، فقال: "الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين" ، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قال: قول الزور - أو شهادة الزور " قال شعبة: أكبر ظني أنه قال: شهادة الزور. أخرجاه من حديث شعبة به. وقد رواه ابن مردويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس بنحوه.
(حديث آخر) أخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بَكْرة عن أبيه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين" وكان متكئاً، فجلس فقال "ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور" فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
(حديث آخر فيه ذكر قتل الولد) وهو ثابت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ وفي رواية أكبر قال "أن تجعل لله نداً وهو خلقك". قلت: ثم أي ؟ قال "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قلت: ثم أي ؟ قال "أن تزاني حليلة جارك" ثم قرأ {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} - إلى قوله - { إِلاَّ مَنْ تَابَ}.
(حديث آخر فيه ذكر شرب الخمر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثني ابن صخر أن رجلاً حدثه عن عمارة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص وهو بالحجر بمكة، وسأله رجل عن الخمر فقال: والله أن عظيماً عند الله الشيخ مثلي يكذب في هذا المقام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب فسأله، ثم رجع فقال: سألته عن الخمر، فقال: "هي أكبر الكبائر، وأم الفواحش من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته" غريب من هذا الوجه.
(طريق أخرى) رواها الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن داود بن صالح عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وأناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين، جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أسأله عن ذلك، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأنكروا ذلك، فوثبوا إليه حتى أتوه في داره، فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ملكاً من بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره بين أن يشرب خمراً، أو يقتل نفساً، أو يُزاني أو يأكل لحم خنزير أو يقتله، فاختار شرب الخمر، وإنه لما شربها لم يمتنع من شيء أراده منه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيباً: "ما من أحد يشرب خمراً إلا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا يموت أحد وفي مثانته منها شيء إلا حرم الله عليه الجنة، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية" هذا حديث غريب من هذا الوجه جداً، وداود بن(1/597)
صالح هذا هو التمار المدني مولى الأنصار، قال الإمام أحمد: لا أرى به بأساً. وذكره ابن حبان في الثقات ولم أر أحداً جرحه.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمرو وفيه ذكر اليمين الغموس. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن فراس، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، أو قتل النفس - شعبة الشاك - واليمين الغموس" ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة، وزاد البخاري وشيبان كلاهما عن فراس به.
(حديث آخر في اليمين الغموس) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفذ التيمي، عن أبي أمامة الأنصاري، عن عبد الله بن أنيس الجهني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة" ، وهكذا رواه أحمد في مسنده وعبد بن حميد في تفسيره، كلاهما عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث بن سعد به، وأخرجه الترمذي عن عبد بن حميد به، وقال: حسن غريب، وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة ولا يعرف اسمه، وقد روى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن محمد بن زيد، عن عبد الله بن أبي أمامة، عن أبيه، عن عبد الله بن أنيس، فزاد عبد الله بن أبي أمامة. (قلت) هكذا وقع في تفسير ابن مردويه وصحيح ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن إسحاق كما ذكره شيخنا فسح الله في أجله.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمرو في التسبب إلى شتم الوالدين، قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع عن مسعر وسفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو، رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو، قال "من الكبائر أن يشتم الرجل والديه، قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال "يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه " أخرجه البخاري عن أحمد بن يونس، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال "يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه، فيسب أمه" وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد، ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم به مرفوعاً بنحوه، وقال الترمذي: صحيح، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
(حديث آخر في ذلك) قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دُحيم، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا زهير بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكبر الكبائر عرض الرجل المسلم، والسبّتان والسبّة" هكذا روي هذا الحديث، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن جعفر بن مسافر، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد عن العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة " وكذا رواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زَبْر، عن العلاء، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله.(1/598)
(حديث آخر في الجمع بين الصلاتين من غير عذر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه، عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر" وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف عن المعتمر بن سليمان به، ثم قال: حنش هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا إسماعيل ابن علية عن خالد الحذاء، عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة يعني العدوي، قال: قُرىء علينا كتاب عمر: من الكبائر جمع بين الصلاتين - يعني بغير عذر - والفرار من الزحف، والنهبة، وهذا إسناد صحيح. والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر، تقديماً أو تأخيراً، وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية، فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكباً كبيرة، فما ظنك بترك الصلاة بالكلية، ولهذا روى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة". وفي السنن مرفوعاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر"، وقال "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله"، وقال "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".
(حديث آخر) فيه اليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل، حدثنا أبي، حدثنا شبيب بن بشر عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئاً، فدخل عليه رجل فقال: ما الكبائر فقال: "الشرك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، وهذا أكبر الكبائر" وقد رواه البزار عن عبد الله بن إسحاق العطار، عن أبي عاصم النبيل، عن شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال "الإشراك بالله واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله عز وجل" وفي إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفاً، فقد روي عن ابن مسعود نحو ذلك. قال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا مطرف عن وبرة بن عبد الرحمن عن أبي الطفيل قال: قال ابن مسعود: أكبر الكبائر الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق عن وبرة عن أبي الطفيل عن عبد الله به، ثم رواه من طرق عدة عن أبي الطفيل عن ابن مسعود وهو صحيح إليه بلا شك.
(حديث آخر) فيه سوء الظن بالله. قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن بندار، حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثنا أبو حذيفة البخاري عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل، حديث غريب جداً.
(حديث آخر) فيه التعرب بعد الهجرة قد تقدم في رواية عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رشدين، حدثنا عمرو بن خالد الحراني، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن سهل بن أبي حَثْمة عن أبيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الكبائر سبع، ألا تسألوني عنهن ؟ الشرك بالله، وقتل النفس والفرار يوم الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، والتعرب بعد الهجرة"، وفي إسناده نظر، ورفعه غلط فاحش، والصواب ما رواه ابن جرير: حدثنا تميم بن المنتصر، حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن سهل بن(1/599)
أبي حَثْمة، عن أبيه، قال: إني لفي هذا المسجد، مسجد الكوفة، وعلي رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر يقول: يا أيها الناس، الكبائر سبع فأصاخ الناس، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: لم لا تسألوني عنها ؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، ما هي ؟ قال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة. فقلت لأبي: يا أبت، التعرب بعد الهجرة، كيف لحق ههنا ؟ قال يا بني وما أعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفيء، ووجب عليه الجهاد، خلع ذلك من عنقه، فرجع أعرابياً كما كان.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا أبو معاوية يعني شيبان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن سلمة بن قيس الأشجعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا إنما هن أربع أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا" قال: فما أنا بأشح عليهن مني إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رواه أحمد أيضاً والنسائي وابن مردويه من حديث منصور بإسناده مثله.
(حديث آخر) تقدم من رواية عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإضرار في الوصية من الكبائر" والصحيح ما رواه غيره عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال ابن أبي حاتم: وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله.
(حديث آخر في ذلك) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عباد بن عباد، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم عن أبي أمامة، أن أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكىء، فقالوا: الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، وفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزور، والغلول، والسحر، وأكل الربا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين تجعلون {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}" إلى آخر الآية. في إسناده ضعف، وهو حسن.
(ذكر أقوال السلف في ذلك)
قد تقدم ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في ضمن الأحاديث المذكورة، وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية عن ابن عون، عن الحسن، أن أناساً سألوا عبد الله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله عز وجل أمر أن يعمل بها لا يعمل بها، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك، فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: متى قدمت ؟ فقال: منذ كذا وكذا. قال: أبإذن قدمت ؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه. فقال: يا أمير المؤمنين، أن ناساً لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها، فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال: فاجمعهم لي. قال: فجمعتهم له. قال ابن عون: أظنه قال: في بهو، فأخذ أدناهم رجلاً فقال: أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله ؟ قال: نعم. قال: فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال: اللهم لا. قال: ولو قال: نعم، لخصمه. قال: فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم قال: فثكلت عمر أمه، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله، قد علم ربنا أنه ستكون لنا سيئات، قال: وتلا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية. ثم قال: هل علم أهل المدينة ؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم، إسناد حسن ومتن حسن وإن كان من رواية(1/600)
الحسن عن عمر، وفيها انقطاع إلا أن مثل هذا اشتهر، فتكفي شهرته. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري، حدثنا علي بن صالح عن عثمان بن المغيرة، عن مالك بن جوين، عن علي رضي الله عنه. قال: الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، والسحر، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة. وتقدم عن ابن مسعود أنه قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله عز وجل. وروى ابن جرير من حديث الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق والأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، كلاهما عن ابن مسعود، قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها، ومن حديث سفيان الثوري وشعبة عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا صالح بن حيان عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، ومنع فضول الماء بعد الري، ومنع طروق الفحل إلا بجعل.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" ، وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل" وذكر تمام الحديث. وفي مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً "من منع فضل الماء وفضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامة". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي، حدثنا أبو أحمد عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: ما أخذ على النساء من الكبائر، قال ابن أبي حاتم: يعني قوله تعالى: {عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ} الآية، وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا زياد بن مخراق عن معاوية بن قرة، قال: )أتينا أنس بن مالك فكان فيما حدثنا قال: لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى لم نخرج له عن كل أهل ومال، ثم سكت هُنيهة ثم قال: والله لما كلفنا ربنا أهون من ذلك لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر فما لنا ولها، وتلا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية.
أقوال ابن عباس في ذلك
روى ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن أيبه، عن طاوس، قال: ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا: هي سبع، فقال: هي أكثر من سبع وسبع، قال: فلا أدري كم قالها من مرة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان عن ليث عن طاوس، قال: قلت لابن عباس: ما السبع الكبائر ؟ قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. ورواه ابن جرير عن ابن حميد، عن جرير، عن ليث، عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ؟ قال: هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن طاوس عن أبيه قال: قيل لابن عباس: الكبائر سبع ؟ قال: هن إلى السبعين أقرب، وكذا قال أبو العالية الرياحي رحمه الله. وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير: أن رجلاً قال لابن عباس: كم الكبائر سبع ؟ قال: هن إلى(1/601)
سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار، وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شبل به، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، رواه ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا شبيب عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الكبائر كل ما وعد الله عليه النار كبيرة، وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب عن محمد بن سيرين، قال: نبئت أن ابن عباس كان يقول: كل ما نهى الله عنه كبيرة، وقد ذكرت الطرفة، قال: هي النظرة، وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن حازم، أخبرنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله بن معدان عن أبي الوليد، قال: سألت ابن عباس عن الكبائر، فقال كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة.
(أقوال التابعين)
قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية عن ابن عون، عن محمد، قال: سألت عبيدة عن الكبائر فقال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها، وفرار يوم الزحف، وأكل مال اليتيم بغير حقه، وأكل الربا، والبهتان. قال: ويقولون: أعرابية بعد هجرة، قال ابن عون: فقلت لمحمد: فالسحر ؟ قال: أن البهتان يجمع شراً كثيراً. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق، عن عبيد بن عمير، قال: الكبائر سبع، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله، الإشراك بالله منهن {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} الآية، و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} الآية، و {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}، والفرار من الزحف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} الآية، والتعرب بعد الهجرة {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}، وقتل المؤمن {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} الآية، وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضاً في حديث أبي إسحاق عن عبيد بن عمير بنحوه. وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن عطاء يعني ابن أبي رباح، قال: الكبائر سبع: قتل النفس، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن مغيرة، قال: كان يقال: شتم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الكبائر. قلت: وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سب الصحابة، وهو رواية عن مالك بن أنس رحمه الله. وقال محمد بن سيرين: ما أظن أحداً ينتقص أبا بكر وعمر وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه الترمذي. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عياش، قال زيد بن أسلم في قول الله عز وجل {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} من الكبائر: الشرك بالله، والكفر بآيات الله ورسله، والسحر، وقتل الأولاد، ومن دعى لله ولداً أو صاحبة - ومثل ذلك من الأعمال والقول الذي لا يصلح معه عمل. وأما كل ذنب يصلح معه دين، ويقبل معه عمل، فإن الله يغفر السيئات بالحسنات. وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية: إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر¹ وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا الكبائر، وسددوا، وأبشروا" وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس وعن(1/602)
جابر مرفوعاً "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" ، ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف، إلا ما رواه عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين. وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفرداً به من هذا الوجه عن عباس العنبري، عن عبد الرزاق، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الصحيح شاهد لمعناه وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة: "أترونها للمؤمنين المتقين ؟ لا ولكنها للخاطئين المتلوثين" وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة، فمن قائل: هي ما عليه حد في الشرع، ومنهم من قال: هي ما عليه وعيد مخصوص من الكتاب والسنة، وقيل غير ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي في كتابه الشرح الكبير الشهير في كتاب الشهادات منه: ثم اختلف الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدهم في الكبائر وفي الفرق بينها وبين الصغائر، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه (أحدها)أنها المعصية الموجبة للحد. (والثاني) أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة، وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهو إلى الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر. (والثالث) قال إمام الحرمين في الإرشاد وغيره: كل جريمة تنبىء بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، فهي مبطلة للعدالة. (والرابع) ذكر القاضي أبو سعيد الهروي أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه وكل معصية توجب في جنسها حداً من قتل أو غيره، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور والكذب في الشهادة والرواية واليمين، هذا ما ذكروه على سبيل الضبط، ثم قال: وفصل القاضي الروياني فقال: الكبائر سبع: قتل النفس بغير الحق، والزنا، واللواطة، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذ المال غصباً، والقذف، وزاد في الشامل على السبع المذكورة: شهادة الزور، وأضاف إليها صاحب العدة: أكل الربا والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها بلا عذر، وضرب المسلم بلا حق، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً، وسب أصحابه، وكتمان الشهادة بلا عذر، وأخذ الرشوة، والقيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة,. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ويقال: الوقيعة في أهل العلم، وحملة القرآن، ومما يعد من الكبائر: الظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة، ثم قال الرافعي: وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال. قلت: وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحواً من سبعين كبيرة، وإذا قيل: أن الكبيرة ما توعد عليها الشارع بالنار بخصوصها، كما قال ابن عباس وغيره وما تُتُبّع ذلك، اجتمع منه شيء كثير، وإذا قيل كل ما نهى الله عنه فكثير جداً، والله أعلم.
{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}(1/603)
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث، فأنزل الله {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}. ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة أنها قالت: قلت: يا رسول الله، فذكره، وقال: غريب. ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، فذكره. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث الثوري عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث، فنزلت الآية، ثم أنزل الله {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الآية، ثم قال ابن أبي حاتم: وكذا روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ، وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، وروي عن مقاتل بن حيان وخصيف نحو ذلك، وروى ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا: أنزلت في أم سلمة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن شيخ من أهل مكة، قال: نزلت هذه الآية في قول النساء: ليتنا الرجال، فنجاهد كما يجاهدون، ونغزو في سبيل الله عز وجل. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني أبي حدثني أبي، حدثنا الأشعث بن إسحاق عن جعفر يعني ابن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الآية، قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، فنحن في العمل هكذا، أن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة، فأنزل الله هذه الآية {وَلا تَتَمَنَّوْا} الآية، فإنه عدل مني وأنا صنعته. وقال السدي في الآية: فإن الرجال قالوا: نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان، وقالت النساء: نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا، فأبى الله ذلك ولكن قال لهم. سلوني من فضلي، قال: ليس بعرض الدنيا، وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية، قال: ولا يتمنى الرجل فيقول: ليت لو أن لي مال فلان وأهله، فنهى الله عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك، نحو هذا¹ وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق فيقول رجل: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثله فهما في الأجر سواء" ، فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الآية، وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا، فقال {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي في الأمور الدنيوية، وكذا الدينية أيضاً، لحديث أم سلمة وابن عباس. وهكذا قال عطاء بن أبي رباح: نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكن رجالاً فيغزون، رواه ابن جرير، ثم قال {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} أي كل له جزاء على عمله بحسبه أن خيراً فخير، وإن شراً فشر، هذا قول ابن جرير، وقيل: المراد بذلك في الميراث، أي كل يرث بحسبه، رواه الترمذي عن ابن عباس، ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم، فقال {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئاً، ولكن سلوني من فضلي أعطكم، فإني كريم وهاب، وقد روى الترمذي وابن مردويه من حديث حماد بن واقد، سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج" ثم قال الترمذي: كذا رواه حماد بن واقد، وليس بالحافظ، ورواه أبو نعيم عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل،(1/604)
عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح، وكذا رواه ابن مردويه من حديث وكيع عن إسرائيل، ثم رواه من حديث قيس بن الربيع عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وإن أحب عباده إليه الذي يحب الفرج" ، ثم قال {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه، لهذا قال {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً}
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو صالح وقتادة وزيد بن أسلم والسدي والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم، في قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أي ورثة، وعن ابن عباس في رواية: أي عصبة، قال ابن جرير: والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن عباس:
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا يظهرن لنا ما كان مدفونا
قال: ويعني بقوله: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} ، من تركة والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام: ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم، فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، أن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة. قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: ورثة، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت، ثم قال {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له، ثم قال البخاري: سمع أبو أسامة إدريس، وسمع إدريس عن طلحة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأودي، أخبرني طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية، قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} نسخت، ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ، وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس، قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول: ترثني وأرثك، وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا عقد ولا حلف في الإسلام" فنسختها هذه الآية {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}،(1/605)
ثم قال: وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن وابن المسيب وأبي صالح وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة والسدي والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان، أنهم قالوا: هم الحلفاء. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شريك عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس - ورفعه - قال: ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا حدة شدة". وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع عن شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب بن المقدام عن إسرائيل بن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة، وما يسرني أن لي حمر النعم وأني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة" ، هذا لفظ ابن جرير. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي، فما أحب أن لي حمر النعم، وإني أنكثه" قال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يصب الإسلام حلفاً إلا زاده شدة" قال "ولا حلف في الإسلام" ، وقد ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار. وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري بتمامه، وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرني مغيرة عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، قال: فقال: "ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، ولا حلف في الإسلام" وهكذا رواه أحمد عن هشيم، وحدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن جدعان عن جدته، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ". وحدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، قام خطيباً في الناس فقال: "يا أيها الناس ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام" ثم رواه من حديث حسين المعلم وعبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا، عن سعد ابن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" . وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله، ورواه أبو داود عن عثمان، عن محمد بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة، ثلاثتهم عن زكريا وهو ابن أبي زائدة بإسناده مثله، ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر به. ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه به. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف فقال: "ما كان حلف في الجاهلية فتمسكوا به، ولا حلف في الإسلام" وكذا رواه شعبة عن مغيرة وهو ابن مقسم عن أبيه به. وقال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين، قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت سعد بن الربيع مع ابن ابنها موسى بن سعد وكانت يتيمة في حجر أبي بكر، فقرأت عليها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فقالت: لا ولكن {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالت: إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى أن يسلم، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف، أمر الله أن يؤتيه نصيبه، رواه ابن أبي حاتم، وهذا قول(1/606)
غريب، والصحيح الأول، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك، وإن كانوا قد أمروا أن يوفوا بالعهود والعقود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوه قبل ذلك، وتقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة: لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة، وهذا نص في الرد على من ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن أحمد بن حنبل، والصحيح قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، ولهذا قال تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} أي ورثة من قراباته من أبويه وأقربيه، هم يرثونه دون سائر الناس، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولىَ رجل ذكر" أي اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة. وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم، أي من الميراث، فأيما حلف عقد بعد ذلك فلا تأثير له، وقد قيل: أن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل وحكم الحلف الماضي أيضاً، فلا توارث به، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأودي، أخبرني طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ، قال: من النصرة والنصيحة والرفادة ويوصي له وقد ذهب الميراث. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي أسامة، وكذا روي عن مجاهد وأبي مالك نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الأخر، فأنزل الله تعالى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وهذا هو المعروف، وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} وقال سعيد بن جبير: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}، أي من الميراث، قال: وعاقد أبو بكر مولى فورثه، رواه ابن جرير. وقال الزهري عن ابن المسيب: نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالاً غير أبنائهم ويورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيباً في الوصية، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة، وأبى الله أن يكون للمدعين ميراث ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيباً من الوصية، رواه ابن جرير، وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله فآتوهم نصيبهم، أي من النصرة والنصيحة والمعونة، لا أن المراد {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من الميراث حتى تكون الآية منسوخة، ولا أن ذلك كان حكماً ثم نسخ بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط، فهي محكمة لا منسوخة، وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه حتى نسخ ذلك، فكيف يقولون أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ؟ والله أعلم.
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ(1/607)
سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}
يقول تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} أي الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت، {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، وكذا منصب القضاء وغير ذلك، {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيما عليها، كما قال الله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} الآية، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} يعني أمراء، عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله، وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك. وقال الحسن البصري: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو أن زوجها لطمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القصاص" ، فأنزل الله عز وجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية، فرجعت بغير قصاص، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه، وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة وابن جريج والسدي، أورد ذلك كله ابن جرير، وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال: حدثنا أحمد بن علي النسائي، حدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي، حدثنا محمد بن محمد الأشعث حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد، قال: حدثنا أبي عن جدي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له، فقالت: يا رسول الله أن زوجها فلان بن فلان الأنصاري وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس له ذلك" فأنزل الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} أي في الأدب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أردت أمراً وأراد الله غيره" . وقال الشعبي في هذه الآية {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} قال: الصداق الذي أعطاها، ألا ترى أنه لو قذفها لا عنها، ولو قذفته جلدت. وقوله تعالى، {فَالصَّالِحَاتُ} أي من النساء {قَانِتَاتٌ} قال ابن عباس وغير واحد: يعني مطيعات لأزواجهن {حَافِظَاتٌ} وقال السدي وغيره: أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله. وقوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي المحفوظ من حفظه الله. قال ابن جرير حدثني المثني، حدثنا أبو صالح، حدثنا أبو معشر، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك" قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلى آخرها، ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن حبيب، عن أبي داود الطيالسي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري به، مثله سواء. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لهيعة عن عُبيد الله بن أبي جعفر: أن ابن قارظ أخبره أن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت" تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف.(1/608)
وقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أي والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن، والنشوز هو الارتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه، المبغضة له، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه، فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح" ، ورواه مسلم، ولفظه "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح" ، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ}. وقوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الهجر هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره، وكذا قال غير واحد. وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس في رواية: ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها. وقال علي بن أبي طلحة أيضاً عن ابن عباس: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد. وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم ومحمد بن كعب ومقسم وقتادة: الهجر هو أن لا يضاجعها. وقد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبي حُرة الرقاشي، عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع" قال حماد: يعني النكاح. وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه ؟ قال "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت". وقوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} ، أي إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبرح، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع "واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وكذا قال ابن عباس وغير واحد: ضرباً غير مبرح، قال الحسن البصري: يعني غير مؤثرو قال الفقهاء: هو أن لا يكسر فيها عضواً ولا يؤثر فيها شيئاً، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضرباً غير مبرح، ولا تكسر لها عظماً، فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية. وقال سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تضربوا إماء الله" فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ذئرت النساء على أزواجهن، فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود يعني أبا داود الطيالسي، حدثنا أبو عوانة عن داود الأودي، عن عبد الرحمن السلمي، عن الأشعث بن قيس، قال: ضفت عمر رضي الله عنه، فتناول امرأته فضربها، فقال: يا أشعث، أحفظ عني ثلاثاً حفظتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسأل الرجل فيم ضرب امرأته، ولا تنم إلا على وتر" ، ونسي الثالثة، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن أبي عوانة، عن داود الأودي به. وقوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده(1/609)
منها مما أباحه الله له منها، فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وليهن، وهو ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً}
ذكر الحال الأول وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة. ثم ذكر الحال الثاني وهو إذا كان النفور)من الزوجين، فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وقال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق، وتشوف الشارع إلى التوفيق، ولهذا قال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله عز وجل أن يبثعوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل,. ورجلاً مثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا، فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الأخر، ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض ولا يرث الكاره الراضي، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس، قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر: بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما: أن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا، وقال: أنبأنا ابن جريج، حدثني ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ؟ فقالت: تصير إلي وأنفق عليك، فكان إذا دخل عليها قالت: أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ؟، فقال: على يسارك في النار إذا دخلت، فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك، فضحك، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس، لأفرقن بينهما، فقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف، فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا، وقال عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: شهدت علياً وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكماً، فقال علي للحكمين: أتدريان ما عليكما ؟ أن عليكما أن رأيتما أن تجمعا جمعتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال علي: كذبت والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك، رواه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي مثله، ورواه من وجه آخر عن ابن سيرين، عن عبيدة عن علي به، وقد أجمع جمهور العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة حتى قال إبراهيم النخعي: أن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا، وهو رواية عن مالك، وقال الحسن البصري: الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة، وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود، ومأخذهم قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ولم يذكر التفريق، وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف،(1/610)
وقد اختلف الأئمة في الحكمين، هل هما منصوبان من جهة الحاكم، فيحكمان وإن لم يرض الزوجان. أو هما وكيلان من جهة الزوجين ؟ على قولين والجمهور على الأول، لقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} فسماهما حكمين ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه، وهذا ظاهر الآية، والجديد من مذهب الشافعي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، الثاني منهما بقول علي رضي الله عنه للزوج حين قال: أما الفرقة فلا، قال: كذبت حتى تقر بما أقرت به، قالوا: فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج، والله أعلم، قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الأخر، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة، ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضاً من غير توكيل.
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الأنات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "أتدري ما حق الله على العباد ؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً"، ثم قال: "أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ أن لا يعذبهم" ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين، فإن الله سبحانه جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود وكثيراً ما يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، كقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} ، وكقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة"، ثم قال تعالى: {وَالْيَتَامَى} وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم ثم قال {وَالْمَسَاكِينِ} وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم وسيأتي الكلام على الفقير والمكسين في سورة براءة، وقوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} ، يعني الذي بينك وبينه قرابة، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الذي ليس بينك وبينه قرابة، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك وزيد بن أسلم مقاتل بن حيان وقتادة، وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله: والجار ذي القربى: يعني الجار المسلم، والجار الجنب يعني اليهودي و النصراني، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود: والجار ذي القربى يعني المرأة وقال مجاهد أيضاً في قوله: والجار الجنب يعني الرفيق في السفر، وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار، فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان.
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عمر بن محمد بن زيد أنه سمع أباه محمداً يحدث عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أخرجاه في الصحيحين من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر به.(1/611)
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن داود بن شابور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عَمْرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وروى أبو داود والترمذي نحوه من حديث سفيان بن عيينة، عن بشير أبي إسماعيل، زاد الترمذي: وداود بن شابور، كلاهما عن مجاهد به، ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وقد روى عن مجاهد عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(والحديث الثالث) قال أحمد أيضاً: حدثنا عبد الله بن يزيد، أخبرنا حيوة، أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره" ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح به، وقال حسن غريب.
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن أبيه، عن عباية بن رفاعة، عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشبع الرجل دون جاره" ، تفرد به أحمد.
(الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري، سمعت أبا ظبية الكلاعي، سمعت المقداد بن الأسود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تقولون في الزنا ؟" قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره"، قال "ما تقولون في السرقة ؟" قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام، قال "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره" تفرد به أحمد، وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت: ثم أي ؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قلت ثم أي ؟ قال "أن تزاني حليلة جارك".
(الحديث السادس) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا هشام عن حفصة، عن أبي العالية، عن رجل من الأنصار قال: خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه، فظننت أن لهما حاجة، قال الأنصاري: لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام، فلما انصرف قلت: يا رسول ا لله، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام. قال: "ولقد رأيته ؟" قلت: نعم. قال "أتدري من هو ؟". قلت: لا، قال "ذاك جبريل، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" ثم قال "أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام".
(الحديث السابع) قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا أبو بكر يعني المدني، عن جابر بن عبد الله، قال: جاء رجل من العوالي ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وجبريل عليه السلام، يصليان حيث يصلى على الجنائز، فلما انصرف قال الرجل: يا رسول الله، من هذا الرجل الذي رأيت معك ؟ قال "وقد رأيته ؟" قال: نعم. قال "لقد رأيت خيرا كثيراً، هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه"، تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله.
(الحديث الثامن) قال أبو بكر البزار: حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الربيع الحارثي، حدثنا محمد بن(1/612)
إسماعيل بن أبي فديك، أخبرني عبد الرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقاً، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقاً، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم، له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم" قال البزار: لا نعلم أحداً روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك.
(الحديث التاسع) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عمران، عن طلحة بن عبد الله، عن عائشة، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال "إلى أقربهما منك بابا" ، ورواه البخاري من حديث شعبة به،
(الحديث العاشر) روى الطبراني وأبو نعيم عن عبد الرحمن، فزاد: قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فجعل الناس يتمسحون بوضوئه، فقال: "ما يحملكم على ذلك" ؟ قالوا: حب الله ورسوله. قال: "من سره أن يحب الله ورسوله فليصدق الحديث إذا حدث، وليؤد الأمانة إذا ائتمن".
(الحديث الحادي عشر) قال أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول خصمين يوم القيامة جاران" وقوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قال الثوري، عن جابر الجعفي، عن الشعبي، عن علي وابن مسعود، قالا: هي المرأة، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن وسعيد بن جبير في إحدى الروايات، نحو ذلك، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة: هو الرفيق في السفر، وقال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر، وأما ابن السبيل، فعن ابن عباس وجماعة: هو الضيف، وقال مجاهد وأبو جعفر الباقر والحسن والضحاك ومقاتل: هو الذي يمر عليك مجتازاً في السفر، وهذا أظهر، وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق، فهما سواء، وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة، وبالله الثقة وعليه التكلان. وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وصية بالأرقاء، لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس، فلهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت، يقول "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم" فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه، وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثنا بَحير بن سعد عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معد يكرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهولك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة " ورواه النسائي من حديث بقية، وإسناده صحيح، ولله الحمد.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم" رواه مسلم. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق" رواه مسلم أيضاً وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو(1/613)
أكلتين، فإنه ولي حره وعلاجه" أخرجاه، ولفظه للبخاري ولمسلم "فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً، فليضع في يده أكلة أو أكلتين". وعن أبي ذر رضي الله عنه,. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم" أخرجاه، وقوله تعالى: { نَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} ، أي مختالا في نفسه، معجبا متكبراً فخورا على الناس، يرى أنه خير منهم فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض، قال مجاهد في قوله: {إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً} يعني متكبراً {فَخُوراً} يعني يَعُدّ ما أعطى، وهو لا يشكر الله تعالى يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه، وهو قليل الشكر لله على ذلك، وقال ابن جرير: حدثني القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي، قال: لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخوراً، وتلا {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، وتلا {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} ، وروى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب مثله في المختال الفخور، وقال: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم عن الأسود بن شيبان، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير، قال: قال مطرف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته، فقلت: يا أبا ذر، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم: "إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة" ؟ فقال: أجل، فلا إخالني، أكذب على خليلي ثلاثا ؟ قلت: من الثلاثة الذين يبغض الله ؟ قال: المختال الفخور. أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل، ثم قرأ الآية {إن الله لا يحب من كان مختالا فخوراً} ، وحدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب بن خالد، عن أبي تميمة عن رجل من بَلْهُجَم، قال: قلت: يا رسول الله، أوصني، قال "إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة".
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً}
يقول تعالى ذاماً الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب، واليتامى، والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء، ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأي داء أدوأ من البخل". وقال: "إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا".
وقوله تعالى: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فالبخيل جحود لنعمة الله لا تظهر عليه ولا تبين، لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله، كما قال تعالى: {إِنَّ الأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي بحاله وشمائله {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وقال ههنا {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}(1/614)
ولهذا توعدهم بقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} والكفر هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعم الله عليه، وفي الحديث "إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه" ، وفي الدعاء النبوي "واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها، وأتممها علينا" وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك، ولهذا قال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} ، رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقاله مجاهد و غير واحد، ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء، وكذلك الآية التي بعدها وهي قوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} فإنه ذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله، وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم: العالم، والغازي، والمنفق المراؤون بأعمالهم، "يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول الله: كذبت إنما أردت أن يقال: جواد فقد قيل" أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لعدي بن حاتم: "إن أباك رام أمراً فبلغه" . وفي حديث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جدعان: هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه ؟ فقال: "لا، إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" ، ولهذا قال تعالى: {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية، أي إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان، فإنه سول لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسن لهم القبائح، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} ، ولهذا قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
ثم قال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} الآية، أي وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطريق الحميدة، وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملاً، وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} أي وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه، ويلهمه رشده، ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن الجناب الأعظم الإلهي الذي من طرد عن بابه، فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة، عياذاً بالله من ذلك.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}
يقول تعالى مخبراً: إنه لا يظلم أحداً من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة,بل يوفيها له ويضاعفها له أن كانت حسنة، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} الآية، وقال تعالى مخبراً عن لقمان أنه قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} الآية، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ(1/615)
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وفي الصحيحين من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل، وفيه "فيقول الله عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجوه من النار" وفي لفظ: "أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار فيخرجون خلقاً كثيراً" ثم يقول أبو سعيد: اقرؤوا أن شئتم {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عيسى بن يونس عن هارون بن عنترة، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، قال: قال عبد الله بن مسعود: يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو أخيها أو زوجها، ثم قرأ {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} فيغفر الله من حقه ما يشاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً، فينصب للناس فينادى: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه. فيقول: رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم ؟ فيقول: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر طُلبته، فإن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ علينا {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} قال: ادخل الجنة وإن كان عبداً شقياً قال الملك: رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير، فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضعفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاً إلى النار، ورواه ابن جرير من وجه آخر عن زاذان به نحوه ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا فضيل يعني ابن مرزوق عن عطية العوفي حدثني عبد الله بن عمر، قال: نزلت هذه الآية في الأعراب {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} قال رجل: فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: ما هو أفضل من ذلك {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ، وحدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبداً، وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال: يا رسول الله، أن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعته بشيء ؟ قال "نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" وقد يكون هذا خاصاً بأبي طالب من دون الكفار بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا عمران، حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة " وقال أبو هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك في قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} : يعني الجنة، نسأل الله رضاه والجنة، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان، قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، قال: فقُضي أني انطلقت حاجاً أو معتمراً، فلقيته فقلت: بلغني عنك حديث أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجزى العبد بالحسنة ألف ألف حسنة" فقلت: ويحكم ما أحد أكثر مني مجالسة لأبي هريرة، وما سمعت هذا الحديث منه فتحملت أريد أن الحقه فوجدته قد انطلق حاجاً، فانطلقت إلى الحج في طلب هذا الحديث فلقيته فقلت: يا أبا هريرة: أن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة قال: يا أبا عثمان، وما تعجب من ذا والله يقول {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} ويقول {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} والذي(1/616)
نفسي بيده لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" قال: وهذا حديث غريب، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير، ورواه أحمد أيضاً فقال: حدثنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، قال أتيت أبا هريرة، فقلت له: بلغني أنك تقول: أن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة ! قال: وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" ، ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا أبو خلاد وسليمان بن خلاد المؤدب، حدثنا محمد الرفاعي عن زياد بن الجصاص، عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة، فقدم قبلي حاجاً وقدمت بعده، فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت: ويحكم ما كان أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة، وما سمعت منه هذا الحديث، فهممت أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجاً، فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث، ورواه ابن أبي حاتم من طريق أخرى فقال: حدثنا بشر بن مسلم، حدثنا الربيع بن روح، حدثنا محمد بن خالد الذهبي، عن زياد الجصاص، عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة" فقال أبو هريرة: والله بل سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة" ثم تلا هذه الآية {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} يقول تعالى مخبراً عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه، فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة حين يجيء من كل أمة بشهيد، يعني الأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} الآية¹ وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية، وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي" فقلت: يا رسول الله آقرأ عليك، وعليك أنزل ؟ "قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فقال "حسبك الآن" فإذا عيناه تذرفان، ورواه هو ومسلم أيضاً من حديث الأعمش به، وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود فهو مقطوع به عنه ورواه أحمد من طريق أبي حيان وأبي رزين عنه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري عن أبيه، قال: وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئاً فقرأ حتى أتى على هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه، فقال: "يا رب، هذا شهدت على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أره" ، وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه، عن عبد الله هو ابن مسعود في هذه الآية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهيد عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم". وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي في التذكرة حيث قال: باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، قال: أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض فيه على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تعالى:(1/617)
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فإنه أثر وفيه انقطاع، فإن فيه رجلاً مبهماً لم يسم، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه، وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة، قال: ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} أي لو انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ، كقوله: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} الآية، وقوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئاً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا حكام، حدثنا عمرو عن مطرف، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له: سمعت الله عز وجل يقول - يعني إخباراً عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا - {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال في الآية الأخرى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} فقال ابن عباس: أما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا: تعالوا فلنجحد، فقالوا {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} ¹ وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف عليّ في القرآن، قال: ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال: ليس هو بالشك، ولكن اختلاف قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك، قال أسمع الله يقول {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} فقد كتموا. فقال ابن عباس: أما قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركاً جحد المشركون، فقالوا {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} رجاء أن يغفر لهم، فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} وقال جويبر عن الضحاك: أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، قول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك، فقلت: ألقى على ابن عباس متشابه القرآن، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فيقول المشركون: أن الله لا يقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحده، فيقولون: تعالوا نجحد: فيسألهم فيقولون {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال: فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت بهم {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} رواه ابن جرير.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً}
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن(1/618)
قربان محالها التي هي المساجد للجنب، إلا أن يكون مجتازاً من باب إلى باب من غير مكث، وقد كان هذا قبل تحريم الخمر، كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر، فقال: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً"، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه فقال "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً" فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات فلما نزل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا انتهينا. وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه: فنزلت الآية التي في النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي: أن لا يقربن الصلاة سكران، لفظ أبي داود. ذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثا شعبة، أخبرني سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: نزلت فيّ أربع آيات، صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا أناساً من المهاجرين وأناساً من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لَحْىَ بعير ففزر به أنف سعد، فكان سعد مفزور الأنف، وذلك قبل تحريم الخمر، فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية، والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة، ورواه أهل السنن إلا ابن ماجه من طرق عن سماك به.
(سبب آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموا فلاناً، قال فقرأ: قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله {ياَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} هكذا رواه ابن أبي حاتم، وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن عبد الرحمن الدشتكي به، وقال: حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي: أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر، شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فخلط فيها، فنزلت {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث الثوري به، ورواه ابن جرير أيضاً عن ابن حميد، عن جرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: كان علي في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف، فطعموا فأتاهم بخمر فشربوا منها، وذلك قبل أن يحرم الخمر، فحضرت الصلاة فقدموا علياً فقرأ بهم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فلم يقرأها كما ينبغي، فأنزل الله عز وجل {ياَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ثم قال: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج بن المنهال، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن حبيب وهو أبو عبد الرحمن السلمي: أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً، فدعا نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب، فقرأ: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما عبدتم، لكم دينكم ولي دين، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {ياَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وقال العوفي عن ابن عباس في الآية: أن رجالاً كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى قبل أن يحرم الخمر، فقال الله {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية، رواه ابن جرير، وكذا قال أبو رزين ومجاهد. وقال عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة: كانوا(1/619)
يجتنبون السكر عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر. وقال الضحاك في الآية: لم يعن بها سكر الخمر وإنما عنى بها سكر النوم، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، ثم قال ابن جرير: والصواب أن المراد سكر الشراب، قال: ولم يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب، لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خوطب بالنهي الثمل الذي يفهم التكليف، وهذا حاصل ما قاله، وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام دون السكران الذي لا يدري ما يقال له فإن الفهم شرط التكليف، وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السكر بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائماً، والله أعلم، وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك. وقوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} هذا أحسن ما يقال في حد السكران أنه الذي لا يدري ما يقول، فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أيوب عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول" انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب به. وفي بعض ألفاظ الحديث "فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" وقوله: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدشتكي، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس في قوله: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} قال لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب، إلا عابري سبيل، قال: تمر به مراً، ولا تجلس، ثم قال: وروي عن عبد الله بن مسعود، وأنس، وأبي عبيدة، وسعيد بن المسيب، وأبي الضحى، وعطاء، ومجاهد، ومسروق، وإبراهيم النخعي، وزيد بن أسلم، وأبي مالك، وعمرو بن دينار، والحكم بن عتيبة، وعكرمة، والحسن البصري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن شهاب، وقتادة نحو ذلك، وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثني الليث، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن قول الله عز وجل {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد، فأنزل الله {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله، ما ثبت في صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر " وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، علماً منه أن أبا بكر رضي الله عنه سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيراً للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد، إلا بابه رضي الله عنه، ومن روى إلا باب علي، كما وقع في بعض السنن فهو خطأ، والصواب ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضاً، في معناه، إلا أن بعضهم قال: يمنع مرورهما لاحتمال التلويث، ومنهم من قال: أن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور، جاز لهما المرور، وإلا فلا. وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناوليني الخمرة من المسجد" فقلت: إني حائض، فقال "إن حيضتك ليست في يدك" وله عن أبي هريرة مثله، ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد، والنفساء في معناها، والله أعلم، وروى أبو داود من حديث أفلت بن خليفة العامري، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" ، قال أبو مسلم(1/620)
الخطابي: ضعف هذا الحديث جماعة وقالوا: أفلت مجهول، لكن رواه ابن ماجه، من حديث أبي الخطاب الهجري، عن محدوج الذهلي، عن جسرة، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، قال أبو زرعة الرازي: يقولون: جسرة، عن أم سلمة، والصحيح جسرة عن عائشة، فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي: من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا يحل لأحد أن يجنب، في هذا المسجد غيري وغيرك" فإنه حديث ضعيف لا يثبت، فإن سالماً هذا متروك، وشيخه عطية ضعيف، والله أعلم.
(حديث آخر) في معنى الآية. قال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرني ابن أبي ليلى عن المنهال، عن زر بن حبيش، عن علي {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} قال: لا يقرب الصلاة، إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء فيصلي، حتى يجد الماء، ثم رواه من وجه آخر عن المنهال بن عمرو، عن زر، عن علي بن أبي طالب، فذكره. قال: وروي عن ابن عباس في إحدى الروايات، وسعيد بن جبير والضحاك، نحو ذلك. وقد روى ابن جرير، من حديث وكيع، عن ابن أبي ليلى عن المنهال، عن عباد بن عبد الله، أو عن زر بن حبيش عن علي، فذكره. ورواه من طريق العوفي وأبي مجلز: عن ابن عباس، فذكره. ورواه عن سعيد بن جبير، وعن مجاهد، والحسن بن مسلم، والحكم بن عتيبة، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن مثل ذلك. وروى من طريق ابن جريج عن عبد الله بن كثير، قال: كنا نسمع أنه في السفر. ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي قلابة عن عمر بن بُجْدان، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإن ذلك خير" ثم قال ابن جرير بعد حكايته القولين: والأولى قول من قال {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب، في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى آخره، فكان معلوماً بذلك أن قوله: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} لو كان معنياً به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} معنى مفهوم، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها، وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضاً جنباً، حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل، قال: والعابر السبيل: المجتاز مراً وقطعاً، يقال منه: عبرت هذا الطريق، فأنا أعبره عبرا وعبوراً، ومنه يقال عبر فلان النهر، إذا قطعه وجاوزه، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار، هي عبر الأسفار لقوتها على قطع الأسفار، وهذا الذي نصره، هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة، ولمحلها أيضاً، والله أعلم. وقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة ومالك والشافعي، أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم، أن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقه، وذهب الإمام أحمد: إلى أنه متى توضأ الجنب، جاز له المكث في المسجد، لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بسند صحيح: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد، هو الدراوردي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضؤوا وضوء الصلاة. وهذا إسناد على شرط مسلم، والله أعلم.
وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً(1/621)
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أما المرض المبيح للتيمم، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء، فوات عضو أو شينه أو تطويل البرء، ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض، لعموم الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا قيس، عن خُصَيْف عن مجاهد في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قال: نزلت في رجل من الأنصار، كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية، هذا مرسل والسفر معروف، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير، وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} الغائط هو المكان المطمئن من الأرض، كنى بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر، وأما قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فقرىء لمستم ولامستم، واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك على قولين: (أحدهما): أن ذلك كناية عن الجماع، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قال: الجماع. وروي عن علي وأبي بن كعب ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حيان، نحو ذلك، وقال ابن جرير: حدثني حميد بن مسعدة,حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع، وقال ناس من العرب: اللمس الجماع، قال: فأتيت ابن عباس فقلت له: أن ناساً من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع، قال: فمن أي الفريقين كنت ؟ قلت: كنت من الموالي، قال: غُلب فريق الموالي. أن اللمس والمس والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء، ثم رواه عن ابن بشار، عن غندر، عن شعبه به نحوه، ثم رواه من غير وجه، عن سعيد بن جبير نحوه. ومثله قال: حدثني يعقوب، حدثنا هشيم، قال حدثنا أبو بشر: أخبرنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: اللمس والمس والمباشرة: الجماع ولكن الله يكني بما يشاء، حدثنا عبد الحميد بن بيان، أنبأنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: الملامسة: الجماع، ولكن الله كريم يكني بما يشاء، وقد صح من غير وجه، عن عبد الله بن عباس، أنه قال ذلك، ثم رواه ابن جرير: عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم، ثم قال ابن جرير وقال آخرون: عنى الله تعالى بذلك كل لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان، وأوجبوا الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئاً من جسدها مفضياً إليه، ثم قال: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله بن مسعود، قال: اللمس ما دون الجماع، وقد رواه من طرق متعددة، عن ابن مسعود بمثله، وروى من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: القبلة من المس وفيها الوضوء. وروى الطبراني بإسناده، عن عبد الله بن مسعود، قال: يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده، ومن القبلة، وكان يقول في هذه الآية {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} هو الغمز، وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبيد الله بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول: هي من اللماس. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً: من طريق شعبة عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله، قال: اللمس ما دون الجماع، ثم قال ابن أبي حاتم: وروي(1/622)
عن ابن عمر، وعبيدة، وأبي عثمان النهدي، وأبي عبيدة يعني ابن عبد الله بن مسعود، وعامر الشعبي، وثابت بن الحجاج، وإبراهيم النخعي، وزيد بن أسلم، نحو ذلك، (قلت) وروى مالك، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة، فمن قبل امرأته أوجسها بيده، فعليه الوضوء، وروى الحافظ أبو الحسن الدار قطني في سننه: عن عمر بن الخطاب نحو ذلك، ولكن روينا عنه من وجه آخر: أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ، فالرواية عنه مختلفة، فيحمل ما قاله في الوضوء أن صح عنه، على الاستحباب، والله أعلم. والقول بوجوب الوضوء من المس، هو قول الشافعي وأصحابه، ومالك، والمشهور عن أحمد بن حنبل رحمهم الله، قال ناصر هذه المقالة: قد قرىء في هذه الآية لامستم ولمستم، واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد، قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} أي جسوه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنا، يعرّض له بالرجوع عن الإقرار: "لعلك قبلت أو لمست" ، وفي الحديث الصحيح "واليد زناها اللمس"، وقالت عائشة رضي الله عنها: قلّ يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا، فيقبل ويلمس، ومنه ما ثبت في الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة، وهو يرجع إلى الجس باليد، على كلا التفسيرين، قالوا: ويطلق في اللغة على الجس باليد، كما يطلق على الجماع، قال الشاعر:
وألمست كفي كفه أطلب الغنى
واستأنسوا أيضاً بالحديث الذي رواه أحمد، حدثنا عبد الله بن مهدي، وأبو سعيد، قالا: حدثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير، وقال أبو سعيد: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ، قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا أتاه منها، غير أنه لم يجامعها، قال: فأنزل الله عز وجل هذه الآية {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} ، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأ ثم صلّ" قال معاذ: فقلت: يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال "بل للمؤمنين عامة" ، ورواه الترمذي من حديث زائدة به، وقال: ليس بمتصل، ورواه النسائي: من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، مرسلاً، قالوا: فأمره بالوضوء، لأنه لمس المرأة ولم يجامعها، وأجيب بأنه منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ، فإنه لم يلقه، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة، كما تقدم في حديث الصديق: "ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له" الحديث، وهو مذكور في سورة آل عمران، عند قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية، ثم قال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الجماع، دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه، ثم صلى ولم يتوضأ، ثم قال: حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي، قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ثم يقبل ثم يصلي، ولا يتوضأ، ثم قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلت: من هي إلا أنت ؟ فضحكت، وهكذا رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، عن جماعة من مشايخهم، عن وكيع به، ثم قال أبو داود: روي عن الثوري أنه قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني، وقال يحيى القطان لرجل: احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء، وقال الترمذي: سمعت البخاري يضعف هذا الحديث، وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة، وقد وقع في رواية ابن ماجه: عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد الطنافسي، عن وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي(1/623)
ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده: من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وهذا نص في كونه عروة بن الزبير، ويشهد له قوله: من هي إلا أنت فضحكت، لكن روى أبو داود عن إبراهيم بن مخلد الطالقاني، عن عبد الرحمن بن مغراء، عن الأعمش، قال: حدثنا أصحاب لنا، عن عروة المزني، عن عائشة، فذكره، والله أعلم. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا أبو زيد، عمر بن شَبّةَ عن شهاب بن عباد، حدثنا مندل بن علي، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة وعن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلة بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء، وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أبي روق الهمداني، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل ثم صلى ولم يتوضأ، رواه أبو داود والنسائي، من حديث يحيى القطان، زاد أبو داود: وابن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري به. ثم قال أبو داود والنسائي: لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة، ثم قال ابن جرير أيضاً: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءاً. وقال أيضاً: حدثنا أبو كريب، حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ. وقد رواه الإمام أحمد، عن محمد بن فضيل، عن حجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، وقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية: أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء، فمتى طلبه فلم يجده، جاز له حينئذ التيمم، وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع، كما هو مقرر في موضعه، كما هو في الصحيحين من حديث عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم، فقال "يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم، ألست برجل مسلم" قال: بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" ولهذا قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فالتيمم في اللغة، هو القصد، تقول العرب: تيممك الله بحفظه، أي قصدك، ومنه قول امرىء القيس شعراً:
ولما رأت أن المنية وردها ... وأن الحصى من تحت أقدامها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الفيء عرمضها طامي
والصعيد قيل: هو كل ما صعد على وجه الأرض، فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والحجر والنبات، وهو قول مالك، وقيل: ما كان من جنس التراب، كالرمل والزرنيخ والنورة، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقيل: هو التراب فقط، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما، واحتجوا بقوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أي تراباً أملس طيباً، وبما ثبت في صحيح مسلم، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء" وفي لفظ "وجعل ترابها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء" قالوا: فخصص الطهورية بالتراب، في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه، والطيب ههنا قيل: الحلال، وقيل: الذي ليس بنجس، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، إلا ابن ماجه من(1/624)
حديث أبي قلابة، عن عمرو بن بُجْدان، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجده فليمسه بشرته فإن ذلك خير" وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان أيضاً، ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده، عن أبي هريرة وصححه الحافظ أبو الحسن القطان، وقال ابن عباس: أطيب الصعيد تراب الحرث، رواه ابن أبي حاتم، ورفعه ابن مردويه في تفسيره، وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} التيمم بدل عن الوضوء في التطهر به، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع، ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال: أحدها وهو مذهب الشافعي في الجديد: أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين، لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين، كما في آية السرقة {فاقطعوا أيديهما} قالوا: وحمل ما أطلق ههنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية، وذكر بعضهم: ما رواه الدارقطني عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" ولكن لا يصح، لأن في أسانيده ضعفاء، لا يثبت الحديث بهم، وروى أبو داود عن ابن عمر، في حديث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبدي، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات، فوقفوه على فعل ابن عمر، قال البخاري وأبو زرعة وابن عدي: وهو الصواب، وقال البيهقي: رفع هذا الحديث منكر، واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد، عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه. وقال ابن جرير: حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا خارجة بن مصعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلمت عليه، فلم يرد عليّ حتى فرغ، ثم قام إلى الحائط فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم رد علي السلام. والقول الثاني: أنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين، وهو قول الشافعي في القديم. والثالث: أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، أن رجلاً أتى عمر، فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء، فقال عمر لا تصل، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: "إنما كان يكفيك، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض، ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه" وقال أحمد أيضاً: حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم: "ضربة للوجه والكفين".
(طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، عن سليمان الأعمش، حدثنا شقيق، قال: كنت قاعداً مع عبد الله وأبي موسى، فقال أبو موسى لعبد الله: لو أن رجلاً لم يجد الماء لم يصل ؟ فقال عبد الله: لا، فقال أبو موسى: أما تذكر إذ قال عمار لعمر: ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل، فأصابتني جنابة فتمرغت في التراب، فلما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما كان يكفيك أن تقول(1/625)
هكذا، وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعاً، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة" ؟ فقال عبد الله: لا جرم، ما رأيت عمر قنع بذاك، قال: فقال له أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة النساء {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ؟ قال: فما درى عبد الله ما يقول، وقال: لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم: وقال تعالى في آية المائدة {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} استدل بذلك الشافعي، على أنه لا بد في التيمم، أن يكون بتراب طاهر، له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء، كما روى الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة: أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، فضرب بيده عليه، ثم مسح وجهه وذراعيه، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي في الدين الذي شرعه لكم {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فلهذا أباح لكم، إذا لم تجدوا الماء، أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد، {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم، دون سائر الأمم، كما ثبت في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل " وفي لفظ "فعنده طهوره ومسجده، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة" وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم "فضلنا على الناس بثلاث، جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً وتربتها طهوراً إذا لم نجد الماء" وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} أي ومن عفوه عنكم وغفرانه لكم أن شرع التيمم، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء، توسعة عليكم ورخصة لكم، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة، أن تفعل على هيئة ناقصة، من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ، إلا أن يكون مريضاً أو عادماً للماء، فإن الله عز وجل قد أرخص في التيمم، والحالة هذه رحمة بعباده ورأفة بهم، وتوسعة عليهم، ولله الحمد والمنة.
(ذكر سبب نزول مشروعية التيمم) وإنما ذكرنا ذلك ههنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتّم تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير يقال: في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب ههنا، وبالله الثقة. قال أحمد: حدثنا ابن نمير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً في طلبها فوجدوها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى رسول الله، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن الحضير لعائشة: جزاك الله خيراً، فو الله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيراً.
(طريق أخرى) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، قأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس(1/626)
معهم ماء ؟ فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته، وقد رواه البخاري أيضاً عن قتيبة وإسماعيل، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن صالح قال، قال ابن شهاب: حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه زوجته عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها، وذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط. وقد رواه ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا صيفي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليه رخصة المسح بالصعيد الطيب، فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة نزلت فيك رخصة، فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث، حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا العباس بن أبي سَويّة، حدثني الهيثم بن رُزيق المالكي من بني مالك بن كعب بن سعد وعاش مائة وسبع عشرة سنة، عن أبيه، عن الأسلع بن شريك، قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها، ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: "يا أسلع ما لي أرى رحلتك تغيرت" قلت: يا رسول الله لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال "ولم" ؟ قلت: إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها، ورضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتلست به، فأنزل الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} وقد روي من وجه آخر عنه.
{لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا(1/627)
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}
يخبر تعالى عن اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله، ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ليشتروا به ثمناً قليلاً من حطام الدنيا، {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي هو أعلم بهم ويحذركم منهم، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} أي كفى به ولياً لمن لجأ إليه ونصيراً لمن استنصره. ثم قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} "من" في هذا لبيان الجنس كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} ، وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أي يتأولون الكلام على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل قصداً منهم وافتراء {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي يقولون سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه، هكذا فسره مجاهد وابن زيد، وهو المراد، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعدما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة، وقوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي اسمع ما نقول، لا سمعت، رواه الضحاك عن ابن عباس، وقال مجاهد والحسن: واسمع غير مقبول منك، قال ابن جرير: والأول أصح، وهو كما قال: وهذا استهزاء منهم واستهتار، عليهم لعنة الله، {وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} أي يوهمون أنهم يقولون: راعنا سمعك بقولهم راعنا، وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ}، يعني بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} والمقصود أنهم لا يؤمنون إيماناً نافعاً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}
يقول تعالى آمراً أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات، ومتهدداً لهم أن لم يفعلوا بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} قال بعضهم: معناه من قبل أن نطمس وجوهاً، فطمسها هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم، ويحمتل أن يكون المراد: من قبل أن نطمس وجوهاً فلا نبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أثراً، ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار. قال العوفي عن ابن عباس في الآية وهي {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} وطمسها أن تعمى {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه، وكذا قال قتادة وعطية العوفي، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهو مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سُبُل الضلالة، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي(1/628)
أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} الآية: أن هذا مثل ضربه الله لهم في ضلالهم، ومنعهم عن الهدى. قال مجاهد: من قبل أن نطمس وجوهاً، يقول: عن صراط الحق فنردها على أدبارها، أي في الضلال. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا. قال السدي: فنردها على أدبارها، فنمنعها عن الحق، قال: نرجعها كفاراً ونردهم قردة، وقال ابن زيد: نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز. وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح عن عيسى بن المغيرة، قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب، فقال: أسلم كعب زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم. فقال: ألستم تقرأون في كتابكم {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ - إلى - أَسْفَاراً} وأنا قد حملت التوراة، قال: فتركه عمر ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلاً من أهلها حزيناً وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} الآية، قال كعب: يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين. وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر من وجه آخر فقال: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حَلْبَس، عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني، قال: كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبعثه إليه لينظر أهو هو ؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة، فإذا تال يقرأ القرآن يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} فبادرت الماء فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ثم أسلمت. وقوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف. وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع. ثم أخبر تعالى أنه {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ، أي من الذنوب {لِمَنْ يَشَاءُ} ، أي من عباده، وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر:
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا صدقة بن موسى، حدثنا أبو عمران الجوني عن يزيد بن بابَنوس عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية، وقال {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} ، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز أن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة" تفرد به أحمد.
(الحديث الثاني) قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن مالك، حدثنا زائدة بن أبي الرّقاد، عن زياد النميري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه الله، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين لبعضهم من بعض".(1/629)
(الحديث الثالث) قال الإمام أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون، عن أبي إدريس، قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً" ورواه النسائي عن محمد بن مثنى عن صفوان بن عيسى به.
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثنا ابن غنم أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقول: يا عبدي ما عبدتني ورجوتني، فإني غافر لك على ما كان منك، يا عبدي إنك أن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة" تفرد به أحمد من هذا الوجه.
(الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا حسين عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر"، قال: فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر يحدث بهذا ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر. أخرجاه من حديث حسين به.
(طريق أخرى) لحديث أبي ذر. قال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء، ونحن ننظر إلى أحد، فقال "يا أبا ذر" قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "ما أحب أن لي أحداً ذاك عندي ذهباً أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده يعني لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا"، وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره، قال: ثم مشينا، فقال "يا أبا ذر، أن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا"، فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره، قال: ثم مشينا، فقال "يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك" قال: فانطلق حتى توارى عني، قال: فسمعت لغطاً، فقلت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له، قال: فهممت أن أتبعه، ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك، فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال "ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" ، أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به، وقد رواه البخاري ومسلم أيضاً، كلاهما عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال "من هذا ؟" فقلت: أبو ذر، جعلني الله فداك. قال "يا أبا ذر تعال". قال: فمشيت معه ساعة، فقال "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيراً فنفخ فيه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيراً" قال فمشيت معه ساعة، فقال لي "إجلس ههنا"، فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي "إجلس ههنا حتى أرجع إليك". قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول "وإن زنى وإن سرق" قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله، جعلني الله فداك من تكلم في جانب الحرة، ما سمعت أحداً يرجع إليك شيئاً، قال "ذاك جبريل عرض لي من جانب الحرة، فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة: قلت: يا جبريل، وإن سرق وإن زنى، قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى، قال: نعم: قلت: وإن سرق وإن زنى ؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر".(1/630)
(الحديث السادس) قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا عبيد الله بن موسى عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير، عن جابر، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان، قال: "من مات لا يشرك بالله شيئاً وجبت له الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً وجبت له النار" ، وذكر تمام الحديث تفرد به من هذا الوجه.
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني، حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي، حدثنا موسى بن عبيدة الرّبِذِي، أخبرني عبد الله بن عبيدة عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئاً إلا حلت لها المغفرة، أن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب" قيل: يا نبي الله وما الحجاب ؟ قال "الإشراك بالله - قال - ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئاً إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى، أن يشاء أن يعذبها وإن يشاء أن يغفر لها" ثم قرأ نبي الله {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
(الحديث السابع) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" تفرد به من هذا الوجه.
(الحديث الثامن) قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو قبيل عن عبد الله بن ناشر من بني سريع، قال: سمعت أبارَهْم قاصّ أهل الشام يقول: سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج ذات يوم إليهم، فقال لهم: أن ربكم عز وجل خيرني بين سبعين ألفاً يدخلون الجنة عفواً بغير حساب وبين الخبيئة عنده لأمتي، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله، أيخبأ ذلك ربك ؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وهو يكبر فقال: "إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفاً والخبيئة عنده" قال أبو رهم: يا أبا أيوب: وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكله الناس بأفواههم، فقالوا: وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو أيوب: دعوا الرجل عنكم أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أظن، بل كالمستيقن أن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله مصدقاً لسانه قلبه أدخله الجنة".
(الحديث التاسع) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني، حدثنا عيسى بن يونس (ح) وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إليّ، قال: حدثنا عيسى بن يونس نفسه عن واصل بن السائب الرقاشي، عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب الأنصاري، عن أبي أيوب، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام. قال "وما دينه ؟" قال: يصلي ويوحد الله تعالى. قال "استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه" فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال "وجدته شحيحاً في دينه" قال: فنزلت {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
(الحديث العاشر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عمرو بن الضحاك حدثنا أبي، حدثنا مستور أبو همام الهنائي، حدثنا ثابت عن أنس، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت، قال: "أليس تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ؟" ثلاث مرات ؟ قال: نعم، قال "فإن ذلك يأتي على ذلك كله".
(الحديث الحادي عشر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا عكرمة بن عمار عن ضمضم بن(1/631)
جوش اليمامي، قال: قال لي أبو هريرة: يا يمامي لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة أبداً. قلت: يا أبا هريرة، أن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال: لا تقلها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كان في بني إسرائيل رجلان: كان أحدهما مجتهداً في العبادة، وكان الآخر مسرفاً على نفسه، وكانا متآخيين، وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب فيقول: يا هذا أقصر، فيقول: خلني وربي أبعثت عليّ رقيباً قال: إلى أن رآه يوماً على ذنب استعظمه، فقال له: ويحك، أقصر ! قال: خلني وربي، أبعثت عليّ رقيباً ؟ فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة أبداً، قال: فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما، واجتمعا عنده، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أكنت عالماً، أكنت على ما في يدي قادراً ؟ اذهبوا به إلى النار: قال: "فو الذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته" ، ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار، حدثني ضمضم بن جوش به.
(الحديث الثاني عشر) قال الطبراني: حدثنا أبو شيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئاً".
(الحديث الثالث عشر) قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلى: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا سهل بن أبي حازم عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وعده الله على عمل ثواباً، فهو منجزه له، ومن توعده على عمل عقاباً، فهو فيه بالخيار" تفردا به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا بحر بن نصر الخولاني، حدثنا خالد يعني ابن عبد الرحمن الخراساني، حدثنا الهيثم بن حماد عن سلام بن أبي مطيع عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر، قال: كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزور، حتى نزلت هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد به وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري، حدثنا عبد الله بن عاصم، حدثنا صالح يعني المري، حدثنا أبو بشر عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب، حتى نزلت علينا هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قال: فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل. وقال البزار: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا شيبان بن أبي شيبة، حدثنا حرب بن سُريج عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال: "أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة" ، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع، أخبرني مُجَبّر عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} إلى آخر الآية، قام رجل فقال: والشرك بالله يا نبي الله ؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} رواه ابن جرير، وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر، وهذه الآية التي في سورة تنزيل مشروطة بالتوبة، فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه، تاب الله عليه، ولهذا قال {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} أي بشرط التوبة، ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه، ولا يصح ذلك لأنه تعالى قد حكم ههنا بأنه لا يغفر الشرك، وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء، أي: وإن لم يتب صاحبه فهذه(1/632)
أرجى من تلك من هذا الوجه، والله أعلم. وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} كقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" وذكر تمام الحديث، وقال ابن مردويه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا معن، حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخبركم بأكبر الكبائر الشرك بالله" ثم قرأ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ، وعقوق الوالدين. ثم قرأ {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}
قال الحسن وقتادة: نزلت هذه الآية وهي قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} في اليهود والنصارى حين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وقال ابن زيد: نزلت في قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، وفي قولهم { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى}، وقال مجاهد: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنب لهم، وكذا قال عكرمة وأبو مالك، وروى ذلك ابن جرير، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} وذلك أن اليهود قالوا: أن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة وسيشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل الله على محمد {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية، رواه ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا ابن حمير عن ابن لهيعة، عن بشير بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان اليهود يقومون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، وكذبوا، قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، وأنزل الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} ثم قال: وروي عن مجاهد وأبي مالك والسدي وعكرمة والضحاك، نحو ذلك، وقال الضحاك: قالوا: ليس لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب، فأنزل الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} فيهم، وقيل: نزلت في ذم التمادح والتزكية، وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم عن المقداد بن الأسود قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب، وفي الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع رجلاً يثني على رجل، فقال "ويحك قطعت عنق صاحبك" ، ثم قال: "إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة، فليقل أحسبه كذا، ولا يزكي على الله أحداً". وقال الإمام أحمد: حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر بن الخطاب: من قال: أنا مؤمن فهو كافر ومن قال هو عالم فهو جاهل ومن قال هو في الجنة فهو في النار، ورواه ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال: أن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال: هو عالم فهو جاهل، ومن قال: إنه في الجنة فهو في النار، وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وحجاج، أنبأنا شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن معبد الجهني، قال: كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن(1/633)
يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح" وروى ابن ماجه منه "إياكم والتمادح فإنه الذبح" عن أبي بكر بن أبي شيبة عن غندر عن شعبة به، ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري. وقال ابن جرير: حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي، حدثنا أبي عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد الله بن مسعود: أن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء، يلقى الرجل ليس يملك له نفعاً ولا ضراً، فيقول له: إنك والله كيت وكيت، فلعله أن يرجع ولم يَحْلَ من حاجته بشيء، وقد أسخط الله، ثم قرأ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية، وسيأتي الكلام على ذلك مطولاً عند قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} ولهذا قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أي المرجع في ذلك إلى الله عز وجل لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها، ثم قال تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وغير واحد من السلف: هو ما يكون في شق النواة. وعن ابن عباس أيضاً: هو ما فتلت بين أصابعك، وكلا القولين متقارب. وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقولهم {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} ، وقولهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئاً في قوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} الآية، ثم قال {وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} أي وكفى بصنيعهم هذا كذباً وافتراء ظاهراً. وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} أما الجبت، فقال محمد بن إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان. وهكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن والضحاك والسدي، وعن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن وعطية: الجبت الشيطان، وزاد ابن عباس: بالحبشية وعن ابن عباس أيضاً: الجبت الشرك. وعنه: الجبت الأصنام. وعن الشعبي: الجبت الكاهن، وعن ابن عباس: الجبت حيي بن أخطب، وعن مجاهد: الجبت كعب بن الأشرف، وقال العلامة أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح: الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك. وفي الحديث "الطيرة والعيافة والطّرْق من الجبت". قال: وليس هذا من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذَوْ لَقِيّ. وهذا الحديث الذي ذكره وراه الإمام أحمد في مسنده، فقال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان أبي العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه وهو قبيصة بن مخارق أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت" وقال عوف: العيافة زجر الطير، والطرق الخط يخط في الأرض، والجبت، قال الحسن: إنه الشيطان. وهكذا رواه أبو داود في سننه، والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي به. وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إسحاق بن الضيف، حدثنا حجاج عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن الطواغيت، فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين. وقال مجاهد: الطاغوت الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم. وقال الإمام مالك: الطاغوت هو كل ما يعبد من دون الله عز وجل.(1/634)
وقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله يأيديهم. وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة، قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد، فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العُناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن خير أم هو ؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً، فأنزل الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً} الآية، وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة، وأهل السقاية ؟ قال: أنتم خير، قال فنزلت {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} ونزل {ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب - إلى - نَصِيراً} وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كان الذين حَزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وأبو عمار وحوح بن عامر وهوذة بن قيس، فأما وحوح وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله عزو وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله عز وجل {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك، ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق، فكفى الله شرهم {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}.
{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مّن صَدّ عَنْهُ وَكَفَىَ بِجَهَنّمَ سَعِيراً}
يقول تعالى: أم لهم نصيب من الملك، وهذا استفهام إنكاري، أي ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل، فقال: {فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} ، أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحداً من الناس ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين. وهذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الأِنْفَاقِ} أي خوف أن يذهب ما بأيديكم مع أنه لا يتصور نفاده وإنما هو من بخلكم وشحكم، ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ الأِنْسَانُ قَتُوراً} أي بخيلاً، ثم قال {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} يعني بذلك حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له، لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا قيس بن الربيع عن السدي، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} الآية، قال ابن عباس:(1/635)
نحن الناس دون الناس، قال الله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل، الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب وحكموا فيهم بالسنن، وهي الحكمة، وجعلنا منهم الملوك ومع هذا {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} ، أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام، {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل. فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل ؟ وقال مجاهد: {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ}، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} ، فالكفرة منهم أشد تكذيباً لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى، والحق المبين، ولهذا قال متوعداً لهم {وكفى بجهنم سعيراً} أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً}
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله، فقال {إن الذين كفروا بآياتنا} الآية، أي ندخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، فقال {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} قال الأعمش عن ابن عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاء أمثال القراطيس، رواه ابن أبي حاتم، وقال يحيى بن يزيد الحضرمي أنه بلغه في الآية، قال: يجعل للكافر مائة جلد، بين كل جلدين لون من العذاب، ورواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا حسين الجعفي عن زائدة، عن هشام، عن الحسن قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} الآية، قال: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال حسين: وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم عودوا فعادوا. وقال أيضاً: ذكر عن هشام بن عمار، حدثنا سعيد بن يحيى - يعني سعدان - حدثنا نافع مولى يوسف السلمي البصري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قرأ رجل عند عمر هذه الآية {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} فقال عمر: أعدها علي، فأعادها، فقال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها تبدل في ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رواه ابن مردويه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم، عن عبدان بن محمد المروزي، عن هشام بن عمار به. ورواه من وجه آخر بلفظ آخر، فقال: حدثنا محمد بن إسحاق عن عمران، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا نافع أبو هرمز، حدثنا نافع عن ابن عمر، قال: تلا رجل عند عمر هذه الآية: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} الآية، قال: فقال عمر: أعدها علي، وثم كعب، فقال أنا عندي تفسير هذه الآية قرأتها قبل الإسلام قال: فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك، وإلا لم ننظر إليها، فقال: إني قرأتها قبل الإسلام: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع بن أنس: مكتوب في الكتاب الأول: أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وسنه تسعون ذراعاً، وبطنه لو وضع فيه(1/636)
جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها. وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا، قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا أبو يحيى الطويل عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعظم أهل النار في النار حتى أن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذرعاً، وإن ضرسه مثل أحد" تفرد به أحمد من هذا الوجه وقيل المراد بقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي سرابيلهم، حكاه ابن جرير، وهو ضعيف لأنه خلاف الظاهر. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها، ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا وهم خالدون فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولاً. وقوله: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة، والصفات الناقصة، كما قال ابن عباس: مطهرة من الأقذار والأذى. وكذا قال عطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو صالح وعطية والسدي. وقال مجاهد: مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد. وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمآثم، ولا حيض ولا كلف. وقوله: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} أي ظلاً عميقاً كثيراً غزيراً طيباً أنيقاً. قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، وحدثنا ابن المثنى، حدثنا ابن جعفر، قالا: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: شجرة الخلد".
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها. وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله عز وجل على عباده من الصلوات والزكوات والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه ولا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك، فأمر الله عز وجل بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود، قال: أن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة، وإن كان قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك، فيقول فأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا ؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه، قال: فتنزل عن عاتقه فيهوي على أثرها أبد الآبدين. قال زاذان: فأتيت البراء فحدثته، فقال: صدق أخي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}. وقال سفيان الثوري عن ابن أبي ليلى، عن رجل عن ابن عباس في الآية، قال: هي مبهمة للبر والفاجر، وقال محمد بن الحنفية: هي مُسْجَلة للبر والفاجر وقال أبو العالية الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه. وقال ابن أبي حاتم. حدثنا أبو سعيد، حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، قال: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها. وقال الربيع بن أنس: هي من(1/637)
الأمانات فيما بينك وبين الناس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، قال: قال يدخل فيه وعظ السلطان النساء يعني يوم العيد، وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية، وفتح مكة، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وأما عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، فكان معه لواء المشركين يوم أحد، وقتل يومئذ كافراً، وإنما نبهنا على هذا النسب لأن كثيراً من المفسرين قد يشتبه عليه هذا بهذا، وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه. وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكنّ له الناس في المسجد، قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فقال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدنة البيت وسقاية الحاج" وذكر بقية الحديث في خطبه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ إلى أن قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين عثمان بن طلحة ؟" فدعي له، فقال له "هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر" قال ابن جرير: حدثني القاسم، حدثنا الحسين عن حجاج، عن ابن جريج في الآية، قال: نزلت في عثمان بن طلحة، قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} الآية، فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح، قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك. حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا الزنجي بن خالد عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه. وروى ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه قال "أرني المفتاح" فأتاه به، فلما بسط يده إليه قام إليه العباس، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، اجمعه لي مع السقاية، فكف عثمان يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرني المفتاح يا عثمان" فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى، فكف عثمان يده. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عثمان أن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح" فقال: هاك بأمانة الله، قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم عليه الصلاة والسلام معه قداح يستقسم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما للمشركين قاتلهم الله، وما شأن إبراهيم وشأن القداح" ثم دعا بجفنة فيها ماء، فأخذ ماء فغمسه فيه، ثم غمس به تلك التماثيل، وأخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة، فألزقه في حائط الكعبة، ثم قال: "يا أيها الناس هذه القبلة"، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف(1/638)
في البيت شوطاً أو شوطين ثم نزل عليه جبريل فيما ذكر لنا برد المفتاح ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} حتى فرغ من الآية، وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا، فحكمها عام، ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية: هي للبر والفاجر، أي هي أمر لكل أحد، وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس، ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب: أن هذه الآية إنما نزلت في الأمراء، يعني الحكام بين الناس، وفي الحديث "إن الله مع الحاكم ما لم يجر فإذا جار وكله الله إلى نفسه" ، وفي الأثر "عدل يوم كعبادة أربعين سنة" ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} أي سميعاً لأقوالكم، بصيراً بأفعالكم، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُقْري هذه الآية {سَمِيعاً بَصِيراً} يقول: بكل شيء بصير، وقد قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني، أنبأنا المقري يعني أبا عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، حدثنا حرملة يعني ابن عمران التجيبي المصري، حدثني أبو يونس، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ويضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه ويقول: هكذا سمعت رسول الله يقرؤها ويضع إصبعيه. قال أبو زكريا: وصفه لنا المقري، ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى، والتي تليها على الأذن اليمنى، وأرانا فقال: هكذا وهكذا. رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده نحوه. وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة واسمه سليم بن جبير.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث حجاج بن محمد الأعور به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء، قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني ؟ قالوا: بلى. قال: اجمعوا لي حطباً، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها، قال: فهمّ القوم أن يدخلوها قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف" ، أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به. وقال أبو داود: حدثنا مسدّد، حدثنا يحيى عن عبيد الله، حدثنا نافع عن(1/639)
عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" وأخرجاه من حديث يحيى القطان. وعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان"، أخرجاه، وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" ، رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً حبشياً مُجَدّع الأطراف، رواه مسلم. وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا" رواه مسلم، وفي لفظ له "عبداً حبشياً مجدوعاً" وقال ابن جرير: حدثني علي بن مسلم الطوسي، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البرّ ببره والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساؤوا فلكم وعليهم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون" قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا ؟ قال "أوفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم "، أخرجاه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية" ، أخرجاه. وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" رواه مسلم. وروى مسلم أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرفق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن با لله واليوم الأخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه أن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الأخر" ، قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله، آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} قال: فسكت ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله، والأحاديث في هذا كثيرة.(1/640)
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط عن السدي في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد وفيها عمار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريباً منهم عّرسوا وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم، فأصبحوا قد هربوا غير رجل فأمر أهله فجمعوا متاعهم، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غداً، وإلا هربت ؟ قال عمار: بل هو ينفع فأقم، فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحداً غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله، فبلغ عماراً الخبر، فأتى خالداً فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني، فقال خالد: وفيم أنت تجير ؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير، فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد: أتترك هذا العبد الأجدع يسبني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد لا تسب عماراً فإنه من يسب عماراً يسبه الله، ومن يبغضه يبغضه الله، ومن يلعن عماراً يلعنه الله" فغضب عمار فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه فأنزل الله عز وجل قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلاً، ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره بنحوه والله أعلم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني العلماء والظاهر والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم. وقد قال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} وقال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" ، فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ} أي اتبعوا كتابه {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي خذوا بسنته {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح "إنما الطاعة في المعروف"، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي مراية عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة في معصية الله". وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ} فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الأخر، وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خير {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء وهو قريب.(1/641)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}
هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف، وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة. وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا، ولهذا قال {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} إلى آخرها. وقوله: {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} أي يعرضون عنك إعراضاً كالمستكبرين عن ذلك، كما قال تعالى عن المشركين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الآية.
ثم قال تعالى في ذم المنافقين: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق، أي المداراة والمصانعة لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ - إلى قوله - فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}. وقد قال الطبراني: حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحوطي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمر عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله عز وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ - إلى قوله - إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}.
ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم. ولهذا قال له {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم {وَعِظْهُمْ} أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.(1/642)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}
يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ} أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم. وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني، يعني لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك، كقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم. وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية، يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي، قال: كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: "يا عتبي، الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له".
وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لم جئت به". وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر عن الزهري، عن عروة، قال: خاصم الزبير رجلاً في سْريج من الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك". واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية. هكذا رواه البخاري ههنا، أعني في كتاب التفسير من صحيحه من حديث معمر، وفي كتاب الشرب من حديث ابن جريج ومعمر أيضاً، وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن الزهري، عن عروة، فذكره، وصورته صورة الإرسال، وهو متصل في المعنى، وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال، فقال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه(1/643)
كان يخاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة، كانا يسقيان بها كلاهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: حقه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: فقال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، هكذا رواه الإمام أحمد، وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير، فإنه لم يسمع منه، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، رواه كذلك في تفسيره، فقال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام، أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شراج الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اسقِ يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصار، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم، استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك {لا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به. ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به. وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير. وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير. والله أعلم. والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن عروة، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير، فذكره، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحداً قام بهذا الإسناد عن الزهري بذكر عبد الله بن الزبير غير ابن أخيه وهو عنه ضعيف، وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي أبو دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن سلمة رجل من آل أبي سلمة، قال: خاصم الزبير رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير، فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته، فنزلت: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو حيوة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب في قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل، هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري.
(ذكر سبب آخر غريب جداً) - قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، وأخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود، قال: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما، فقال المقضي عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، انطلقا إليه، فلما أتيا إليه، فقال الرجل: يا ابن الخطاب قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا. فقال: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فردنا إليك:(1/644)
فقال: أكذاك ؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليها مشتملاً على سيفه فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قتل عمر والله صاحبي، ولولا أني أعجزته لقتلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كنت أظن أن يجترىء عمر على قتل مؤمن" فأنزل الله {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} الآية، فهدر دم ذلك الرجل وبرىء عمر من قتله، فكره الله أن يسن ذلك بعد، فأنزل {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به، وهو أثر غريب مرسل، وابن لهيعة ضعيف والله أعلم.
(طريق أخرى) - قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره: حدثنا شعيب بن شعيب، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضمرة، حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فما تريد ؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي، فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى صاحبه أن يرضى، فقال: نأتي عمر بن الخطاب، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي عليه، فأبي أن يرضى، فسأله عمر بن الخطاب فقال كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية.
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً}
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه، لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر، وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان، فكيف كان يكون، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثني إسحاق، حدثنا أبو زهير عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: لما نزلت {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي"، ورواه ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن منير، حدثنا روح، حدثنا هشام عن الحسن بإسناده عن الأعمش، قال: لما نزلت {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو فعل ربنا لفعلنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي". وقال السدي: افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت: والله لو كتب علينا {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} لفعلنا¹ فأنزل الله هذه الآية. ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا بشر بن السري، حدثنا مصعب بن ثابت عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير قال: لما نزلت { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ(1/645)
دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم" وحدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد، قال: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه بيده إلى عبد الله بن رواحة، فقال: "لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل" يعني ابن رواحة، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أي ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}، قال السدي: أي وأشد تصديقاً {وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا {أَجْراً عَظِيماً} يعني الجنة {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} أي في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}. أي من عمل بما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه ورسوله فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ويجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون، ثم الشهداء والصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم ثم أثنى عليهم تعالى فقال: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب، حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي يمرض إِلا خير بين الدنيا والآخرة" وكان في شكواه التي قبض فيها أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: "مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" فعلمت أنه خُيّر، وكذا رواه مسلم من حديث شعبة عن سعد بن إِبراهيم به. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر "اللهم الرفيق الأعلى" ثلاثاً ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم.
(ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة)
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل من الأنصار إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فلان ما لي أراك محزوناً ؟" فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه، فقال: ما هو ؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إِلى وجهك ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إِليك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأتاه جبريل بهذه الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره. وقد روي هذا الأثر مرسلاً عن مسروق، وعن عكرمة، وعامر الشعبي وقتادة، وعن الربيع بن أنس وهو من أحسنها سنداً، قال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} الآية، وقال: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه، وكيف لهم إِذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضاً. فأنزل الله في ذلك، يعني هذه الآية، فقال: يعني رسول الله: "إِن الأعلين ينحدرون إِلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياض فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه"، وقد روي مرفوعاً من وجه آخر، فقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إِسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا فضيل بن عياض عن منصور، عن إِبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إِنك لأحب إِليّ من نفسي، وأحب إليّ من أهلي، وأحب إِلي من ولدي، وإِني لأكون في البيت(1/646)
فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إِليك، وإِذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إِذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإِن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}. وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في صفة الجنة من طريق الطبراني عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال، عن عبد الله بن عمران العابدي به، ثم قال: لا أرى بإسناده بأساً، والله أعلم. وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، حدثنا أبو بكر بن ثابت ابن عباس المصري، حدثنا خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب، عن عامر الشعبي، عن ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي، وأحب أن أكون معك في الدرجة، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن عطاء، عن الشعبي مرسلاً، وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي "سل"، فقلت: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: "أو غير ذلك ؟" قلت: هو ذاك. قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".
وقال الإِمام أحمد: حدثنا يحيى بن إِسحاق، أخبرنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عيسى بن طلحة، عن عمرو بن مرة الجهني، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي. وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة وهكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه" تفرد به أحمد. قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم، حدثنا ابن لهيعة عن زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، وحسن أولئك رفيقاً أن شاء الله" وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري، عن أبي حمزة، عن الحسن البصري، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" ثم قال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري، وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال: "المرء مع من أحب"، قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث. وفي رواية عن أنس أنه قال: إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأرجو أن الله يبعثني معهم وإن لم أعمل كعملهم، قال الإِمام مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق المشرق أوالمغرب، لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال "بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا با لله وصدقوا المرسلين" ، أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك واللفظ لمسلم، ورواه الإِمام أحمد، حدثنا فزارة، أخبرني فليح عن هلال يعني ابن علي، عن عطاء، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون - أو ترون - الكوكب الدري الغابر في الأفق الطالع في تفاضل الدرجات". قالوا: يا(1/647)
رسول الله أولئك النبيون ؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا با لله وصدقوا المرسلين" قال الحافظ الضياء المقدسي: هذا الحديث على شرط البخاري، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عفيف بن سالم عن أيوب، عن عتبة، عن عطاء عن ابن عمر، قال: أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سل واستفهم" فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة، ثم قال: أفرأيت أن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به، إني لكائن معك في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، والذي نفسي بيده، إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله، كان له بها عهد عند الله، ومن قال: سبحان الله وبحمده، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة" فقال رجل: كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة من نعم الله، فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتغمده الله برحمته" ونزلت هذه الآيات {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً }- إلى قوله - { نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} فقال الحبشي: وإن عينيّ لتريان ما ترى عيناك في الجنة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" فاستبكى حتى فاضت نفسه، قال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيديه، فيه غرابة ونكارة وسنده ضعيف، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} أي من عند الله برحمته وهو الذي أهلهم لذلك لا بأعمالهم {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} أي هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد، وتكثير العدد بالنفير في سبيل الله {ثُبَاتٍ} أي جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية، والثباب جمع ثبة، وقد تجمع الثبة على ثبين، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} أي عصباً يعني، سرايا متفرقين {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} يعني كلكم، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وخصيف الجزري.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} قال مجاهد وغير واحد: نزلت في المنافقين، وقال مقاتل بن حيان: {لَيُبَطِّئَنَّ} أي ليتخلفن عن الجهاد، ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه، ويبطىء غيره عن الجهاد كما كان عبد الله بن أبي بن سلول - قبحه الله - يفعل، يتأخر عن الجهاد ويثبط الناس عن الخروج فيه. وهذا قول ابن جريج وابن جرير، ولهذا قال تعالى إخباراً عن المنافق أنه يقول: إذا تأخر عن الجهاد {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أي قتل وشهادة وغلب العدو لكم لما لله في ذلك من الحكمة {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً} أي(1/648)
إذ لم أحضر معهم وقعة القتال يعد ذلك من نعم الله عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة أن قتل.
{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} أي نصر وظفر وغنيمة {ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} أي كأنه ليس من أهل دينكم {لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} أي بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه. وهو أكبر قصده وغاية مراده.
ثم قال تعالى: {فَلْيُقَاتِل} أي المؤمن النافر {فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي يبيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا، وما ذلك إِلا لكفرهم وعدم إيمانهم، ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، كما ثبت في الصحيحين: وتكفل الله للمجاهد في سبيله أن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة.
{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}
يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها، ولهذا قال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} يعني مكة، كقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} ، ثم وصفها بقوله: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} أي سخر لنا من عندك ولياً وناصراً، قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن عبيد الله، قال: سمعت ابن عباس قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين. حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن ابن مليكة أن ابن عباس تلا {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل.
ثم قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} أي المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان، ثم هيج تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، وإن لم تكن ذات النصب، وكانوا(1/649)
مأمورين بمواساة الفقراء منهم وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها: كونهم كانوا في بلدهم، وهو بلد حرام، أشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه، جزع بعضهم منه، وخافوا مواجهة الناس خوفاً شديداً {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى، فإن فيه سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} الآيات، قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وعلي بن زنجة، قالا: حدثنا علي بن الحسن عن الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، وعن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، قال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم"، فلما حوله الله إلى المدينة، أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} الآية، ورواه النسائي والحاكم وابن مردويه من حديث علي بن الحسن بن شقيق به، وقال أسباط، عن السدي: لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال {ذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وهو الموت. قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} . وقال مجاهد: أن هذه الآية نزلت في اليهود، رواه ابن جرير، وقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} أي آخرة المتقي خير من دنياه. {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء، وهذه تسلية لهم عن الدنيا وترغيب لهم في الآخرة وتحريض لهم على الجهاد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد عن هشام، قال: قرأ الحسن {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} قال: رحم الله عبداً صحبها على حسب ذلك، وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه. وقال ابن معين كان أبو مصهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها ... متاع قليل والزوال قريب
وقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} أي أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجو منه أحد منكم، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الآية، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد، فإن له أجلاً محتوماً، ومقاماً مقسوماً، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه: لقد شهدت كذا وكذا موقفاً، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء، وقوله: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} أي حصينة منيعة عالية رفيعة، وقيل، هي بروج في السماء قال السدي، وهو ضعيف، والصحيح أنها المنيعة، أي لا يغني حذر وتحصن من الموت، كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم(1/650)
ثم قيل: المشيدة هي المشيدة كما قال: وقصر مشيد وقيل: بل بينهما فرق، وهو أن المشيدة بالتشديد هي المطولة، وبالتخفيف هي المزينة بالشيد وهو الجص وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم - ههنا - حكاية مطولة عن مجاهد، أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطلق، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار، فخرج فإذا هو برجل واقف على الباب، فقال: ما ولدت المرأة ؟ فقال: جارية، فقال: أما إنها ستزني بمائة رجل ثم يتزوجها أجيرها ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فكر راجعاً، فبعج بطن الجارية بسكين فشقه ثم ذهب هارباً، وظن أنها قد ماتت، فخاطت أمها بطنها فبرئت وشبت وترعرعت ونشأت أحسن امرأة ببلدتها، فذهب ذاك الأجير ما ذهب ودخل البحور فاقتنى أموالاً جزيلة، ثم رجع إلى بلده وأراد التزوج، فقال لعجوز: أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة، فقالت ليس ههنا أحسن من فلانة، فقال: اخطبيها علي، فذهبت إليها فأجابت، فدخل بها فأعجبته إعجاباً شديداً، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه، فأخبرها خبره وما كان من أمره في الجارية، فقالت: أنا هي وأرته مكان السكين، فتحقق ذلك، فقال: لئن كنت إياها فلقد أخبرني باثنتين لا بد منهما (إحداهما) أنك قد زنيت بمائة رجل، فقالت: لقد كان شيء من ذلك ولكن لا أدري ما عددهم فقال: هم مائة: (والثاني) أنك تموتين بالعنكبوت فاتخذ لها قصراً منيعاً شاهقاً ليحرزها من ذلك، فبينما هم يوماً فإذا بالعنكبوت في السقف فأراها، فقالت: أهذه هي التي تحذرها علي، والله لا يقتلها إلا أنا، فأنزلوها من السقف، فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها واسودت رجلها، فكان في ذلك أجلها، فماتت، ونذكر ههنا قصة صاحب الحضر وهو الساطرون لما احتال عليه سابور حتى حصره فيه وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين، وقالت العرب في ذلك أشعاراً منها:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمراً وجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وكور
لم تهبه أيدي المنون فباد المل ... ك عنه فبابه مهجور
ولما دخل على عثمان جعل يقول: اللهم اجمع أمة محمد ثم تمثل بقول الشاعر:
أرى الموت لا يبقي عزيزاً ولم يدع ... لعاد ملاذاً في البلاد ومربعا
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق ... ويأتي الجبال في شماريخها معا
قال ابن هشام: وكان كسرى سابور ذو الأكتاف قتل الساطرون ملك الحضر، وقال ابن هشام: أن الذي قتل صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان، وأذل ملوك الطوائف، ورد الملك إلى الأكاسرة، فأما سابور ذو الأكتاف فهو من بعد ذلك بزمن طويل، والله أعلم، ذكره السهيلي، قال ابن هشام: فحصره سنتين وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته وهو في العراق، وأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة، فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، فدست إليه أن تتزوجني أن فتحت لك باب الحصن، فقال: نعم، فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحصن من تحت رأسه فبعثت بها مع مولى لها ففتح الباب، ويقال: دلتهم على طلسم كان في الحصن لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء فتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل، فإذا وقعت على سور الحصن سقط ذلك ففتح الباب، ففعل ذلك، فدخل سابور، فقتل ساطرون واستباح الحصن وخربه، وسار بها معه وتزوجها، فبينما هي نائمة على فراشها ليلاً إذ(1/651)
جعلت تتململ لا تنام، فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد فيه ورقة آس، فقال لها سابور: هذا الذي أسهرك فما كان أبوك يصنع بك ؟ قالت: كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير، ويطعمني المخ، ويسقيني الخمر، قال الطبري: كان يطعمني المخ والزبد، وشهد أبكار النحل، وصفو الخمر! وذكر أنه كان يرى مخ ساقها، قال: فكان جزاء أبيك ما صنعت به ؟! أنت إلي بذاك أسرع، ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس، فركض الفرس حتى قتلها، وفيه يقول عدي بن زيد العبادي أبياته المشهورة.
أيها الشامت المعير بالد ...
هر أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأي
...
ام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلد أم من
...
ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ...
وان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك ال
... روم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج
...
لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمراً وجلله كل
...
ساً فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد المل ... ك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ ش ... رف يوما وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غب ... طة حي إلى الممات يصير
ثم أضحوا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور
ثم بعد الفلاح والملك والأم ... ة وارتهم هناك القبور
وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك، هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي {قُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو إنتاج أو غير ذلك كما يقوله أبو العالية والسدي {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} أي من قبلك وبسبب إتباعنا لك واقتدائنا بدينك، كما قال تعالى عن قوم فرعون {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وكما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية، وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً وهم كارهون له في نفس الأمر، ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى إتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال السدي: وإن تصبهم حسنة، قال: والحسنة الخصب، تنتج مواشيهم وخيولهم، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان، قالوا {هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} والسيئة الجدب والضرر في أموالهم، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يقولون: بتركنا ديننا واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء، فأنزل الله عز وجل {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فقوله: قل كل من عند الله، أي الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قل كل من عند الله، أي الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري. ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب، وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا(1/652)
السكن بن سعيد، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا إسماعيل بن حماد عن مقاتل بن حيان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس وقد ارتفعت أصواتهما، فجلس أبو بكر قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس عمر قريباً من أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم ارتفعت أصواتكما ؟ " فقال رجل: يا رسول الله، قال أبو بكر: يا رسول الله الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا¹ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما قلت يا عمر ؟" فقال: قلت الحسنات والسيئات من الله¹ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل¹ فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر¹ وقال جبريل مقالتك يا عمر" فقال: "نختلف فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض، فتحاكما إلى إسرافيل فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله". ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال: "احفظا قضائي بينكما، لو أراد الله أن لا يعصى لما خلق إبليس" قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية: هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة. ثم قال تعالى مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي فمن قبلك، ومن عملك أنت، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} قال السدي والحسن البصري وابن جريج وابن زيد {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي بذنبك. وقال قتادة في الآية {فَمِنْ نَفْسِكَ} عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك. قال وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصيب رجلاً خدش عود ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر" وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلاً في الصحيح "والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا حزن، ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه" وقال أبو صالح {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك، رواه ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمار، حدثنا سهل يعني بن بكار، حدثنا الأسود بن شيبان، حدثني عقبة بن واصل ابن أخي مطرف عن مطرف بن عبد الله، قال: ما تريدون من القدر أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} ؟ أي من نفسك والله ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا وإليه يصيرون، وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضاً. ولبسطه موضع آخر. وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي تبلغهم شرائع الله وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} أي على أنه أرسلك وهو شهيد أيضاً بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه وبما يردون عليك من الحق كفراً وعناداً.
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني" وهذا(1/653)
الحديث ثابت في الصحيحين عن الأعمش به. وقوله: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي ما عليك منه أن عليك إلا البلاغ فمن اتبعك سعد ونجا، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له، ومن تولى عنك خاب وخسر وليس عليك من أمره شيء، كما جاء في الحديث "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه".
وقوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} أي خرجوا وتواروا عنك {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أي استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك، فقال تعالى: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلاً من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وعصيانه وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} الآية، وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضاً {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي كفى به ولياً وناصراً ومعيناً لمن توكل عليه وأناب إليه.
{أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَىَ أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً}
يقول تعالى آمراً لهم بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبراً لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، ثم قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} أي لو كان مفتعلاً مختلقاً، كما يقوله من يقول من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافاً، أي اضطراباً وتضاداً كثيراً، أي وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله، كما قال تعالى مخبراً عن الراسخين في العلم حيث قالوا {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي محكمه ومتشابهه حق، فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا، ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين، قال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم، حدثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً حتى احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول: "مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، أن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، إنما نزل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه" وهكذا رواه أيضاً عن أبي معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال لهم: "مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض،(1/654)
بهذا هلك من كان قبلكم " قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده، ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند به نحوه.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني، قال: كتب إلى عبد الله بن رباح يحدث عن عبد الله بن عمرو، قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية، فارتفعت أصواتهما، فقال: "إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب". ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن زيد به.
وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة. وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن حفص، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" وكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن محمد بن الحسين بن أشكاب، عن علي بن حفص عن شعبة مسنداً، ورواه مسلم أيضاً من حديث معاذ بن هشام العنبري وعبد الرحمن بن مهدي، وأخرجه أبو داود أيضاً من حديث حفص بن عمرو النمري، ثلاثتهم عن شعبة، عن خبيب، عن حفص بن عاصم به مرسلاً، وفي الصحيحين، عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن قيل وقال، أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين. وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بئس مطية الرجل زعموا". وفي الصحيح "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" ولنذكر ههنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلق نساءه، فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فاستفهمه أطلقت نساءك فقال "لا" فقلت: الله أكبر وذكر الحديث بطوله. وعند مسلم فقلت: أطلقتهن ؟ فقال "لا" فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي، لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر، ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها. وقوله: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المؤمنين. وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} يعني كلكم، واستشهد من نصر هذا القول بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب: )
أشم نديّ كثير النوادي ... قليل المثالب والقادحة
يعني لا مثالب له ولا قادحة فيه.
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ(1/655)
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}
يأمر تعالى عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عنه فلا عليه منه، ولهذا قال {لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عمرو بن نبيح، حدثنا حكام، حدثنا الجراح الكندي عن أبي إسحاق، قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله فيه: {لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ؟ قال: قد قال الله تعالى لنبيه : {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}. ورواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال: لا، أن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} إنما ذلك في النفقة وكذا رواه ابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش وعلي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن البراء به. ثم قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن النضر العسكري، حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي، حدثنا محمد بن حمير، حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، قال لأصحابه: "وقد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا" حديث غريب.
وقوله: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} أي على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عليه، كما قال لهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها". قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك ؟ فقال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبييل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة " وري من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء، نحو ذلك. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا سعيد، من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً، وجبت له الجنة" ، قال: فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدها عليّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأخرى يرفع الله العبد بها مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض". قال: وما هي يا رسول الله ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" ، رواه مسلم. وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء. ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} أي هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} الآية.
وقوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك، {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} أي يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء"، وقال مجاهد بن جبر: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. وقال الحسن البصري: قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ} ولم يقل من يشفّع، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} . قال ابن عباس وعطاء وعطية وقتادة ومطر الوارق {مُقِيتاً} أي حفيظاً. وقال مجاهد: شهيداً، وفي رواية عنه: حسيباً.(1/656)
وقال سعيد بن جبير والسدي وابن زيد: قديراً. وقال عبد الله بن كثير: المقيت الواصب، وقال الضحاك المقيت الرزاق، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحيم بن مطرف، حدثنا عيسى بن يونس عن إسماعيل عن رجل. عن عبد الله بن رواحة، وسأله رجل عن قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} قال: مقيت لكل إنسان بقدر عمله.
وقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة، قال ابن جرير: حدثنا موسى بن سهل الرملي، حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي، حدثنا هشام بن لاحق عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: "وعليك السلام ورحمة الله"، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله¹ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته" ¹ ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال له: "وعليك" ، فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت عليّ فقال: "إنك لم تدع لنا شيئاً، قال الله تعالى : {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فرددناها عليك" ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقاً، فقال: ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي حدثنا عبد الله بن السري أبو محمد الأنطاكي، قال أبو الحسن، وكان رجلاً صالحاً: حدثنا هشام بن لاحق فذكره بإسناده مثله، ورواه أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان فذكره مثله، ولم أره في المسند، والله أعلم.
وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير أخو سليمان عن كثير، حدثنا جعفر بن سليمان بن عوف، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن حصين أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليكم يا رسول الله فرد عليه ثم جلس فقال: "عشر"، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله، فرد عليه ثم جلس، فقال: "عشرون"، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه، ثم جلس فقال: "ثلاثون" ، وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه، ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف، وقال البزار: قد روي هذا عن البني صلى الله عليه وسلم من وجوه هذا أحسنها إسناداً وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً، ذلك بأن الله يقول: فحيوا بأحسن منها أو ردوها، وقال قتادة: فحيوا بأحسن منها، يعني للمسلمين، أو ردوها يعني لأهل الذمة، وهذا التنزيل فيه نظر كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به، فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام، رد عليه مثل ما قال، فأما أهل الذمة فلا يبدؤون بالسلام ولا يزادون، بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: وعليك" في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" . وقال سفيان الثوري، عن رجل، عن الحسن البصري، قال: السلام تطوع والرد فريضة، وهذا الذي قال هو قول العلماء قاطبة، أن(1/657)