المجلد الأول
سورة الفاتحة
...
سورة الفاتحة
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطاً وبها تفتتح القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً أم الكتاب عند الجمهور، ذكره أنس، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك، قال الحسن وابن سيرين إنما ذلك اللوح المحفوظ، وقال الحسن الآيات المحكمات هن أم الكتاب ولذا كرها أيضاً أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم" ويقال لها (الحمد) ويقال لها (الصلاة) لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي" الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها ويقال لها (الشفاء) لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً "فاتحة الكتاب شفاء من كل سم" ويقال لها (الرقية) لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أنها رقية" ؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أن سماها (أساس القرآن) قال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم وسماها سفيان بن عيينة (بالواقية) وسماها يحيى بن أبي كثير (الكافية) لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة "أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها" ويقال لها سورة الصلاة والكنز، ذكرهما الزمخشري في كشافه.
وهي مكية قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية، وقيل مدنية قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري ويقال نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة، والأول أشبه لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} والله تعالى أعلم. وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة وهو غريب جداً، نقله القرطبي عنه وهي سبع آيات بلا خلاف، وقال عمرو بن عبيد ثمان، وقال حسين الجعفي ستة، وهذان القولان شاذان وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها في موضعه أن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قالوا وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً. قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع: أمّاً، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمّاً، واستشهد بقول ذي الرمة.
على رأسه أم لنا نقتدي بها ... جماع أمور ليس نعصي لها أمراً
يعني الرمح - قال وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها وقيل لأن الأرض(1/15)
دحيت منها. ويقال لها أيضاً: الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام وصح تسميتها بالسبع المثاني قالوا لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة وإن كان للمثاني معنى آخر كما سيأتي بيانه في موضعه أن شاء الله تعالى.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن: "هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم" ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني" وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث، حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي، حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب، وفاتحة الكتاب" وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى: {سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} بالفاتحة وأن البسملة هي الآية السابعة منها وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لمَ لم تكتب الفاتحة في مصحفك ؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة، قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في الصلاة، قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها وقد قيل: أن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة وقيل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} كما في حديث جابر في الصحيح وقيل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وهذا هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان.
ذكر ما ورد في فضل الفاتحة
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت، قال: فأتيته فقال: "ما منعك أن تأتيني" ؟ قال قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ثم قال: "لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قيل أن تخرج من المسجد" قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: "نعم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به، ورواه في موضع آخر من التفسير، وأبو داوود والنسائي وابن ماجه من طرق عن شعبة به، ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال(1/16)
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم قال صلى الله عليه وسلم: " إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها" قال أبي رضي الله عنه، فجعلت أبطي في المشي رجاء ذلك ثم قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال: "كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال فقرأت عليه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى أتيت على آخرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت" فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه فإن ابن المعلى صحابي أنصاري وهذا تابعي من موالي خزاعة وذاك الحديث متصل صحيح، وهذا ظاهره منقطع أن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم. على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب، وهو يصلي قال: يا أبيّ، فالتفت ثم لم يجبه، ثم قال: أبيّ، فخفف أبي ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك أي رسول الله قال: "وعليك السلام ما منعك: أي أبي إذ دعوتك أن تجيبني، قال أي رسول الله إني كنت في الصلاة قال: "أولست تجد فيما أوحى الله تعالى إلي {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}" قال بلى يا رسول الله لا أعود قال: "أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟" قلت نعم أي رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن لا أخرج هذا الباب حتى تعلمها" ، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث، فلما دنونا من الباب قلت: أي رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال: "ما تقرأ في الصلاة؟" قال فقرأت عليه أم القرآن قال: "والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني". ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي عن العلائي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره وعنده أنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن أنس بن مالك، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد عن إسماعيل بن أبي معمر عن أبى أسامة عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب، فذكره مطولاً بنحوه أو قريباً منه. وقد رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن أبي عمار حسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي". هذا لفظ النسائي وقال الترمذي حديث حسن غريب. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا هاشم يعني ابن البريد، حدثنا عبد الله بن عقيل عن جابر قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء فقلت: السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي، قال فقلت: السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي، قال: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا خلفه حتى دخل رحله ودخلت أنا المسجد فجلست كئيباً حزيناً فخرج عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر فقال: "عليك السلام ورحمة الله وعليك السلام ورحمة الله وعليك السلام ورحمة الله" ثم قال: "ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخْيَر سورة في القرآن" قلت: بلى يا رسول الله، قال: "اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها" هذا إسناد جيد، وابن عقيل هذا يحتج به الأئمة الكبار وعبد الله بن جابر هذا الصحابي ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي والله أعلم، ويقال إنه عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي فيما ذكره(1/17)
الحافظ ابن عساكر واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الأيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء، منهم إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن العربي وابن الحفار من المالكية، وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك لأن الجميع كلام الله، ولئلا يوهم التفضيل المفضل عليه، وإن كان الجميع فاضلاً، نقله القرطبي عن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وأبي حاتم بن حيان البستي ويحيى بن يحيى ورواية عن الإمام مالك أيضاً حديث آخر، قال البخاري في فضائل القرآن: حدثنا محمد بن المثنى، وحدثنا وهب حدثنا هشام عن محمد عن معبد عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا في مسير لنا، فنزلنا فجاءت جارية فقالت: أن سيد الحي سليم وإن نفرنا غيب فهل منكم راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبه برقيه فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبناً. فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي ؟ فقال: لا ما رقيت إلا بأم الكتاب قلنا: لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وما كان يدريه أنها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم" وقال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث، حدثنا هشام، حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا، وهكذا رواه مسلم وأبو داود من رواية هشام وهو ابن حسان عن ابن سيرين به وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم يعني اللديغ يسمونه بذلك تفاؤلاً.
(حديث آخر): روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم عن عمار بن زريق عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبرائيل، إذ سمع نقيضاً فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته، وهذا لفظ النسائي.
ولمسلم نحوه: حديث آخر، قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي هو ابن راهويه حدثنا سفيان بن عيينة عن العلاء، يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الخرقي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام" فقيل لأبي هريرة إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله حمدني عبدي، وإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله أثنىَ عليّ عبدي، فإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". هكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه وقد روياه أيضاً عن قتيبة عن مالك عن العلاء، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة به، وفي هذا السياق "فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل" وهكذا. رواه ابن إسحاق عن العلاء وقد رواه مسلم من حديث ابن جريج عن العلاء عن أبي السائب هكذا ورواه أيضاً من حديث ابن أبي أويس عن العلاء عن أبيه وأبي السائب، كلاهما عن أبي هريرة. وقال الترمذي هذا حديث حسن. وسألت أبا زرعة عنه فقال كلا الحديثين صحيح من قال عن العلاء عن أبيه وعن العلاء عن أبي السائب. روى هذا الحديث عبد الله بن الإمام أحمد من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي(1/18)
ابن كعب مطولاً وقال ابن جرير حدثنا صالح بن مسمار المروزي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عنبسة بن سعيد عن مطرف بن طريف عن سعد بن إسحاق عن كعب بن عجرة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأل فإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: حمدني عبدي وإذا قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أثنى عليّ عبدي، ثم قال: هذا لي وله ما بقي" ، وهذا غريب من هذا الوجه.
الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث
مما يختص بالفاتحة من وجوه
(أحدها) أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة، والمراد القراءة كقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي بقراءتك كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس، وهكذا قال في هذا الحديث "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" ثم بين تفضيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فدل على عظمة القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها إذا طلقت العبادة أريد بها جزء واحد منها. هو القراءة كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحاً به في الصحيحين: "أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار" فدل هذا كله على أنه لا بد من القراءة في الصلاة وهو اتفاق من العلماء، ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني، وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب أم تجزئ هي أو غيرها ؟ على قولين مشهورين فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم، أنها لا تتعين بل مهما قرأ من القرآن أجزأه في الصلاة واحتجوا بعموم قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وبما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن" قالوا فأمره بقراءة ما تيسر ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها فدل على ما قلنا.
(والقول الثاني) أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ولا تجزيء الصلاة بدونها، وهو قول بقية الأئمة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" والخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث "غير تمام" واحتجوا أيضاً بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وفي صحيحه ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزيء صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" والأحاديث في هذا الباب كثيرة ووجه المناظرة ههنا يطول ذكره وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم الله.
ثم أن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات. وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذاً بمطلق الحديث "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها بل لو قرأ بغيرها أجزأه لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} والله أعلم. وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل(1/19)
ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها" وفي صحة هذا نظر وموضع تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير والله أعلم.
(والوجه الثالث) هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم ؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء (أحدها) أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه لعموم الأحاديث المتقدمة (والثاني) لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها ولا في صلاة الجهرية ولا في صلاة السرية، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" ولكن في إسناده ضعف. ورواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر من كلامه، وقد روي هذا الحديث من طرق ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم (والقول الثالث) أنه تجب القراءة على المأموم في السرية لما تقدم، ولا يجب ذلك في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" وذكر بقية الحديث، وهكذا رواه أهل السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا قرأ فأنصتوا" وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضاً، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم للشافعي رحمه الله: والله أعلم. ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى - والغرض من ذكر هذه المسائل ههنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذ وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد فقد أمنت من كل شيء إلا الموت".(1/20)
تفسير الاستعاذة وأحكامها
قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى المودة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطان لا محالة إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} وقد أقسم للوالد آدم عليه السلام أنه له لمن الناصحين وكذب فكيف معاملته لنا وقد قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}.
قالت طائفة من القراء وغيرهم: يتعوذ بعد القراءة واعتمدوا على ظاهر سياق الآية ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة، وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيما نقله عنه ابن قلوقا وأبو حاتم السجستاني حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة الهذلي المغربي في كتاب العبادة الكامل: وروي عن أبي هريرة أيضاً وهو غريب، ونقله محمد بن عمر الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال: وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري. وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي عن المجموعة عن مالك رحمه الله: أن القارىء يتعوذ بعد الفاتحة، واستغربه ابن العربي. وحكى قولاً ثالثاً وهو الاستعاذة أولاً وآخراً جمعاً بين الدليلين، نقله الرازي. والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها ومعنى الآية عندهم {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أي إذا أردت القراءة كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية: أي إذا أردتم القيام، والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا جعفر بن سليمان عن علي بن علي الرفاعي اليشكري عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك ويقول لا إله إلا الله ثلاثاً - ثم يقول - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان عن علي بن علي وهو الرفاعي، وقال الترمذي: هو أشهر شيء في هذا الباب، وقد فسر الهمز بالموتة وهي الخنق، والنفخ بالكبر والنفث بالشعر، كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن نافع بن جبير بن المطعم عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة(1/21)
قال: "الله أكبر كبيراً ثلاثاً، الحمد لله كثيراً ثلاثاً، سبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" قال: همزه الموتة ونفخه الكبر ونفثه الشعر، وقال ابن ماجه: حدثنا علي بن المنذر حدثنا ابن فضيل حدثنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه" قال همزه الموتة ونفخه الكبر ونفثه الشعر، وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك عن يعلى بن عطاء عن رجل حدثه أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاثاً ثم قال: "لا إله إلا الله ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده ثلاث مرات" ثم قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان الكوفي، حدثنا علي بن هاشم بن البريد عن يزيد بن زياد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فتمزع أنف أحدهما غضباً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم شيئاً لو قاله لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن يوسف بن عيسى المروزي عن الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، به، وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل عن أبي سعيد عن زائدة وأبو داود عن يوسف بن موسى عن جرير بن عبد الحميد والترمذي والنسائي في اليوم الليلة عن بندار عن ابن مهدي عن الثوري والنسائي أيضاً من حديث زائدة بن قدامة ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى يخيل إليّ أن أحدهما يتمزع أنفه من شدة غضبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب" فقال: ما هي يا رسول الله، قال يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم" قال: فجعل معاذ يأمره فأبى وجعل يزداد غضباً وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: مرسل يعني أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل فإنه مات قبل سنة عشرين (قلت) وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبي بن كعب كما تقدم وبلغه عن معاذ بن جبل فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن الأعمش عن عدي بن ثابت قال: قال سليمان بن صرد رضي الله عنه. استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس فأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقالوا للرجل ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لست بمجنون، وقد رواه أيضاً مع مسلم وأبي داود والنسائي من طرق متعددة عن الأعمش به.
وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها ههنا وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال والله أعلم. وقد روي أن جبريل عليه السلام أول ما نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: "يا محمد استعذ" قال: "استعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم" ثم قال: "قل بسم الله الرحمن الرحيم" ثم قال {اقْرَأْ بِاسْمِ(1/22)
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال عبد الله: وهي أو سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان جبريل. وهذا الأثر غريب وإنما ذكرناه ليعرف فإن في إسناده ضعفاً وانقطاعاً والله أعلم.
(مسألة) وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة قال: وقال ابن سيرين: إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب واحتج الرازي لعطاء بظاهر الآية ( فاستعذ ) وهو أمر ظاهره الوجوب وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ولأنها تدرأ شر الشيطان وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولأن الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب وقال بعضهم: كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ لقيام رمضان في أول ليلة منه.
(مسألة) وقال الشافعي في الإملاء يجهر بالتعوذ وإن أسر فلا يضر وقال في الأم بالتخيير لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها على قولين ورجح عدم الاستحباب، والله أعلم، فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة وزاد بعضهم: أعوذ بالله السميع العليم وقال آخرون بل يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أن الله هو السميع العليم قاله الثوري والأوزاعي وحكي عن بعضهم أنه يقول أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر الآية ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور والأحاديث الصحيحة كما تقدم أولى بالاتباع من هذا والله أعلم.
(مسألة) ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف بل للصلاة فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ ويتعوذ في العيد بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد والجمهور بعدها قبل القراءة، ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث وتطييب له وهو لتلاوة كلام الله وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه ولا يقبل مصانعة ولا يدارى بالإحسان بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً، ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً أو موزوراً، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان.
(فصل) والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر والعياذة تكون لدفع الشر واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به ممن أحاذره
يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره
ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه فإن الشيطان لا يكفه عن(1/23)
الإنسان إلا الله ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة قوله في الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} وقال تعالى في سورة حم السجدة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير وقيل مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار ومنهم من يقول كلاهما صحيح في المعنى ولكن الأول أصح وعليه يدل كلام العرب¹ قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السلام:
أيما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأغلال
فقال أيما شاطن ولم يقل أيما شائط وقال النابغة الذبياني وهو زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان:
نأت بسعاد عنك نوى شطون
...
فباتت والفؤاد به رهين
يقول بعدت بها طريق بعيد وقال سيبويه: العرب تقول تشيطن فلان إذا فعل فعل الشياطين ولو كان من شاط لقالوا تشيط فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطاناً قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر "تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن" فقلت أوَ للإنس شياطين ؟ قال "نعم" وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود" فقلت يا رسول الله ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر ؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان" وقال ابن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركب برذوناً فجعل يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً فنزل عنه وقال ما حملتوني إلا على شيطان ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي إسناده صحيح. والرجيم فعيل بمعنى مفعول أي أنه مرجوم مطرود عن الخير كله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلأِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} إلى غير ذلك من الآيات وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر وأصح.(1/24)
تفسير البسملة وأحكامها
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } افتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة أو من أول كل سورة كتبت في أولها أو أنها بعض آية من كل سورة أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها أو أنها إنما كتبت للفصل لا أنها آية على أقوال للعلماء سلفاً وخلفاً وذلك مبسوط في غير هذا الموضع، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {سْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضاً وروي مرسلاً عن سعيد بن جبير وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي وفيه ضعف عن ابن جريح عن ابن أبي مليكة عنها، وروى له الدارقطني متابعاً عن أبي هريرة مرفوعاً وروي مثله عن علي وابن عباس وغيرهما، وممن حكى عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو هريرة وعلي ومن التابعين عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري وبه يقول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية عنه وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام رحمهم الله وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ليست من آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور وقال الشافعي في قوله في بعض طرق مذهبه هي آية من الفاتحة وليس من غيرها وعنه أنها بعض آية من أول كل سورة وهما غريبان. وقال داود هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهذا رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وحكاه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي، وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله. هذا ما يتعلق بكونها آية من الفاتحة أم لا.
فأما الجهر بها فمفرع على هذا، فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها وكذا من قال إنها آية من أولها، وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفاً وخلفاً فجهر بها من الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية وحكاه ابن عبد البر والبيهقي عن عمر وعلي ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهو غريب، ومن التابعين عن سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة والزهري وعلي بن الحسن وابنه محمد وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وسالم ومحمد بن كعب القرظي وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي وائل وابن سيرين ومحمد بن المنكدر وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد ونافع مولى ابن عمرو وزيد بن أسلم وعمر بن عبد العزيز والأزرق بن قيس وحبيب بن أبي ثابت وأبي الشعثاء ومكحول وعبد الله بن معقل بن مقرن زاد البيهقي وعبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية زاد ابن عبد البر وعمر بن دينار والحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة فيجهر بها كسائر أبعاضها وأيضاً فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسلمة وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال الترمذي: وليس إسناده بذاك. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال صحيح،(1/25)
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كانت قراءته مدّاً ثم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم. وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: {سْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وقال الدارقطني إسناده صحيح. وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي والحاكم في مستدركه عن أنس أن معاوية صلى بالمدينة فترك البسملة فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك فلما صلى المرة الثانية بسمل. وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها. فأما المعارضات والروايات الغربية وتطريقها وتعليلها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر وذهب آخرون أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل وطوائف من سلف التابعين والخلف وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل. وعند الإمام مالك أنه لا يقرأ البسملة بالكلية لا جهراً ولا سراً واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، ولمسلم ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها، ونحوه في السنن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. فهذه مآخذ الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة وهي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة من جهر بالبسملة ومن أسر ولله الحمد والمنة.
فصل في فضلها
قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله في تفسيره حدثنا أبي حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني حدثنا سلام بن وهب الجندي حدثنا أبي عن طاوس عن ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ فقال: "هو اسم من أسماء الله وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب" وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن سليمان بن أحمد عن علي بن المبارك عن زيد بن المبارك به، وقد روى الحافظ بن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عيسى بن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب فقال، ما أكتب ؟ قال بسم الله، قال له عيسى: وما بسم الله ؟ قال المعلم، ما أدري، قال له عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة" وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب زبرِيق عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر عن عطية عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وهذا غريب جداً، وقد يكون صحيحاً إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات والله أعلم. وقد روى جويبر عن الضحاك نحوه من قبله، وقد روى ابن مردويه من حديث يزيد بن خالد عن سليمان بن بريدة وفي رواية عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داوود وغيري وهي {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وروي بإسناده عن عبد الكريم بن المعافى بن عمران عن أبيه عن عمر بن ذر عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: لما نزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هرب الغيم إلى المشرق وسكنت الرياح، وهاج البحر وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله أن لا يسمى(1/26)
اسمه على شيء إلا بارك فيه. وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد. ذكره ابن عطية والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث "لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها" لقول الرجل ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفاً وغير ذلك. وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم قال: سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقلت تعس الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال بقوتي صرعته، وإذا قلت باسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب" هكذا وقع في رواية الإمام أحمد، وقد روى النسائي في اليوم والليلة وابن مردويه في تفيسره من حديث خالد الحذاء عن أبي تميمة وهو الهجيمي عن أبي المليح بن أسامة بن عمير عن أبيه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال: "لا تقل هكذا فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت، ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة" فهذا من تأثير بركة بسم الله، ولهذا تستحب في أول كل عمل وقول، فتستحب في أول الخطبة لما جاء "كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم" وتستحب البسملة عند دخول الخلاء لما ورد من الحديث في ذلك وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن من رواية أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبي سعيد مرفوعاً "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" وهو حديث حسن ومن العلماء من أوجبها عند الذكر ههنا ومنهم من قال بوجوبها مطلقاً وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة، وأوجبها آخرون عند الذكر ومطلقاً في قول بعضهم كما سيأتي بيانه في موضعه أن شاء الله، وقد ذكره الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتيت أهلك فسم الله فإنه أن وجد لك ولد كتب بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات" وهذا لا أصل له ولا رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها ولا غيرها، وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة: "قل بسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه أن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً" .
ومن ههنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك بسم الله هل هو اسم أو فعل متقاربان، وكل قد ورد به القرآن، أما من قدره بسم تقديره بسم الله ابتدائي فلقوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ومن قدره بالفعل أمراً أو خبراً نحو أبدأ بسم الله أو ابتدأت باسم الله فلقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بد له من مصدر فلك أن تقدر الفعل ومصدره وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله أن كان قياماً أو قعوداً أو أكلاً أو شراباً أو قراءة أو وضوءاً أو صلاة فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً واستعانة على الإتمام والتقبل والله أعلم، ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: أن أول ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: "يا محمد قل: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: قال له جبريل بسم الله يا محمد يقول اقرأ بذكر الله ربك وقم واقعد بذكر الله تعالى" لفظ ابن جرير.(1/27)
وأما مسألة الاسم هل هو المسمى أو غيره ففيها للناس ثلاثة أقوال: أحدها أن الاسم هو المسمى، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن فورك، وقال الرازي وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري في مقدمات تفسيره قالت الحشوية والكرامية والأشعرية: الاسم نفس المسمى وغير نفس التسمية، وقالت المعتزلة الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية، ثم نقول أن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات متقطعة وحروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب الإيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث، ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى، بأنه قد يكون الاسم موجوداً والمسمى مفقوداً كلفظة المعدوم وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون الاسم واحداً والمسميات متعددة المشترك وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى وأيضاً فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتاً ممكنة أو واجبة بذاتها وأيضاً فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك ولا يقوله عاقل وأيضاً فقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً" فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى وأيضاً فقوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أضافها إليه كما قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ونحو ذلك فالإضافة تقتضي المغايرة وقوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} أي فادعوا الله بأسمائه وذلك دليل على أنها غيره واحتج من قال الاسم هو المسمى بقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} والمتبارك هو الله تعالى والجواب أن الاسم معظم لتعظيم الذات المقدسة، وأيضاً فإذا قال الرجل زينب طالق يعني امرأته طلقت ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق والجواب أن المراد أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق. قال الرازي: وأما التسمية فإنه جعل الاسم معيناً لهذه الذات فهي غير الاسم أيضاً والله أعلم.
(الله) علم على الرب تبارك وتعالى يقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة" وجاء تعدادها في رواية الترمذي وابن ماجه وبين الروايتين اختلاف زيادة ونقصان وقد ذكر الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم: ألف في الكتاب والسنة الصحيحة، وألف في التوراة وألف في الإنجيل، وألف في الزبور وألف في اللوح المحفوظ.
وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل يفعل فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيره وروى عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة، قال الخطابي: ألا ترى أنك تقول ياألله ولا تقول يا الرحمن، فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف(1/28)
النداء على الألف واللام وقيل إنه مشتق واستدلوا عليه بقول رؤبة بن العجاج:
لله در الغانيات المدّه ... سبحن واسترجعن من تألهي
فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر وهو التأله من أله يأله إلهة وتألهاً كما روي عن ابن عباس أنه قرأ (ويذرك وإلاهتك) قال عبادتك أي أنه كان يعبد ولا يعبد وكذا قال مجاهد وغيره وقد استدل بعضهم على كونه مشتقاً بقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} ونقل سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه مثل فعال فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة قال سيبويه مثل الناس أصله أناس وقيل أصل الكلمة لاه فدخلت الألف واللام للتنظيم وهذا اختيار سيبويه: قال الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
قال القرطبي بالخاء المعجمة أي فتسوسني، وقال الكسائي والفراء أصله الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية كما قال تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي لكن أنا وقد قرأها كذلك الحسن، قال القرطبي: ثم قيل هو مشتق من وله إذا تحير والوله ذهاب العقل: يقال رجل واله وامرأة ولهى ومولوهة إذا أرسل في الصحراء فالله تعالى يحير أولئك والفكر في حقائق صفاته فعلى هذا يكون ولاه فأبدلت الواو همزة كما قالوا في وشاح أشاح ووسادة أسادة وقال الرازي وقيل إنه مشتق من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} قال: وقيل من لاه يلوه إذا احتجب وقيل اشتقاقه من أله الفصيل أولع بأمه. والمعنى أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، قال: وقيل مشتق من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه لقوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} وهو المنعم لقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وهو المطعم لقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} وهو الموجد لقوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وقد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق ألبتة، قال وهو قول الخليل وسيبويه، وأكثر الأصوليين والفقهاء ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه منها أنه لو كان مشتقاً لاشترك في معناه كثيرون، ومنها أن بقية الأسماء تذكر صفات له فتقول الله الرحمن الرحيم الملك القدوس، فدل أنه ليس بمشتق قال فأما قوله تعالى: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ} على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان، ومنها قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامداً غير مشتق نظر والله أعلم.
وحكى الرازي عن بعضهم أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي ضعفه وهو حقيق بالتضعيف كما قال، وقد حكى الرازي هذا القول ثم قال وأعلم أن الخلائق قسمان واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة، فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال فتاهوا في ميادين الصمدية وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلائق كلهم والهون في معرفته، وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال لأن الخلق يألهون إليه بفتح اللام وكسرها لغتان، وقيل إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع لاها، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس لاهت، وقيل إنه مشتق من أله الرجل إذا تعبد وتأله إذ تنسك، وقرأ ابن عباس (ويذرك وإلاهتك) وأصل ذلك الإله فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام(1/29)
الزائدة في أولها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا في اللفظ لاماً واحدة مشددة وفخمت تعظيماً فقيل الله.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا، وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك كما تقدم في الأثر عن عيسى عليه السلام أنه قال: والرحمن: رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم: رحيم الآخرة، وزعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم وقد قال {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد أن الرحمن: اسم عبراني ليس بعربي وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى الرحيم عربي والرحمن عبراني فلهذا جمع بينهما قال أبو إسحاق وهذا القول مرغوب عنه وقال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما خرّجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قال الله تعالى أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته" قال: وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق، قال وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له، قال القرطبي: ثم قيل هما بمعنى واحد كندمان ونديم قاله أبو عبيد، وقيل ليس بناء فعلان كفعيل فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك رجل غضبان للرجل الممتلي غضباً، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين قال الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي أكثر رحمة، ثم حكي عن الخطابي وغيره أنهم استشكلوا هذه الصفة وقالوا لعله أرفق كما في الحديث " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وأنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" وقال ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل يغضب وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لم يسأل الله يغضب عليه" وقال بعض الشعراء:
الله يغضب أن تركت سؤاله ... وبنيّ آدم حين يسأل يغضب
وقال ابن جرير حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العزرمي يقول: الرحمن الرحيم قال: الرحمن لجميع الخلق الرحيم قال بالمؤمنين قالوا ولهذا قال {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} وقال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته وقال {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فخصهم باسمه الرحيم قالوا فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسم به غيره كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكدّ به والمؤكد لا يكون إلا أقوى من المؤكد والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم فيه ما ذكروه وعلى هذا فيكون(1/30)
تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره ووصفه أولاً بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} كما وصف غيره بذلك من أسمائه كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك فلهذا بدأ باسم الله ووصفه بالرحمن لأنه أخص وأعرف من الرحيم، لأن التسمية أولاً إنما تكون بأشرف الأسماء فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص. فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم، فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى، كذا رواه ابن جرير عن عطاء. ووجهه بذلك والله أعلم وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقالوا لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله بالرحمن قال ابن جرير وقد أنشد بعض الجاهلية الجهال:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندب الطهوي:
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم ... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال الرحمن الفعلان من الرحمة هو من كلام العرب وقال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الرفيق الرقيق لمن أحب أن يرحمه والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال الرحمن اسم ممنوع. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه تسمى به تبارك وتعالى. وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته حرفاً حرفاً {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة ومنهم من وصلها بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وكسرت الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور، وحكى الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قُرى قول الله تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} قال ابن عطية ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت.(1/31)
الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
القراء السبعة على ضم الدال في قوله الحمد لله هو مبتدأ وخبر. وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا (الحمد لله) بالنصب وهو على إضمار فعل وقرأ ابن أبي عبلة الحمد لله بضم الدال واللام اتباعاً للثاني الأول وله شواهد لكنه شاذ، وعن الحسن وزيد بن علي {الْحَمْدُ للّهِ} بكسر الدال اتباعاً للأول الثاني.
قال أبو جعفر بن جرير معنى {الْحَمْدُ للّهِ} الشكر لله خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً. وقال ابن جرير رحمه الله: الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد لله. قال وقد قيل أن قول القائل الحمد لله ثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقوله الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من الحمد والشكر مكان الآخر وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية، وقال ابن عباس الحمد لله كلمة كل شاكر، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل الحمد لله شكراً، وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر، لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
ولكنهم اختلفوا أيهما أعمّ الحمد أو الشكر على قولين والتحقيق أن بينهما عموماً وخصوصاً فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية، تقول حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه وهو أخص، لأنه لا يكون إلا بالقول، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول والفعل والنية كما تقدم وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية لا يقال شكرته لفروسيته وتقول شكرته على كرمه وإحسانه إليّ. هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين والله أعلم.
وقال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: الحمد نقيض الذم، تقول حمدت الرجل أحمده حمداً ومحمدة فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعم من الشكر، وقال في الشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف يقال شكرته وشكرت له وباللام أفصح. وأما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحي وللميت وللجماد أيضاً كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك ويكون قبل الإحسان وبعده، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضاً فهو أعم.
ذكر أقوال السلف في الحمد
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله، فما الحمد(1/32)
لله، فقال علي: كلمة رضيها الله لنفسه، ورواه غير أبي معمر عن حفص فقال: قال عمر لعلي - وأصحابه عنده: لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر قد عرفناها فما الحمد لله ؟ قال علي: كلمة أحبها الله تعالى لنفسه ورضيها لنفسه وأحب أن تقال، وقال علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران: قال ابن عباس: الحمد لله كلمة الشكر وإذا قال العبد الحمد لله قال: شكرني، عبدي رواه ابن أبي حاتم، وروى أيضاً هو وابن جرير من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال الحمد لله هو الشكر لله هو الاستخذاء له والإقرار له بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك، وقال كعب الأحبار: الحمد لله ثناء الله، وقال الضحاك: الحمد لله رداء الرحمن، وقد ورد الحديث بنحو ذلك.
قال ابن جرير: حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك" ، وقد روى الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى فقال: "أما أن ربك يحب الحمد" ورواه النسائي عن علي بن حجر عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن الأسود بن سريع به. وروى أبو عيسى الحافظ الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله" وقال الترمذي حسن غريب، وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد الله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ" وقال القرطبي في تفسيره وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله كان الحمد لله أفضل من ذلك" قال القرطبي وغيره أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لله لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم أن عبداً من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا يا ربنا أن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله، وهو أعلم بما قال عبده، ماذا قال عبدي ؟ قالا يا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما "اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها" وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا قول العبد الحمد لله رب العالمين أفضل من قوله لا إله إلا الله لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد، وقال آخرون لا إله إلا الله أفضل لأنها تفصل بين الإيمان والكفر وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الآخر: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وقد تقدم عن جابر مرفوعاً "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله" وحسنه الترمذي والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث "اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله" الحديث.
والرب هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح وكل ذلك صحيح في حق الله ولا يستعمل الرب لغير الله بل بالإضافة تقول: رب الدار، رب كذا، وأما الرب فلا يقال إلا(1/33)
الله عز وجل، وقد قيل إنه الاسم الأعظم. والعالمين جمع عالم وهو كل موجود سوى الله عز وجل والعالم جمع لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات في السموات وفي البر والبحر وكل قرن منها وجيل يسمى عالماً أيضاً. قال بشر بن عمار عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الحمد لله الذي له الخلق كله السموات والأرض وما فيهنّ وما بينهن مما نعلم ومما لا نعلم. وفي رواية سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس: رب الجن والإنس، وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج وروي عن علي نحوه قال ابن أبي حاتم بإسناده لا يعتمد عليه، واستدل القرطبي لهذا القول بقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} وهم الجن والإنس. قال الفراء وأبو عبيد: العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم عالم. وعن زيد بن أسلم وأبي محيصن العالم كل ما له روح ترفرف. وقال قتادة: رب العالمين كل صنف عالم، وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد وهو أحد خلفاء بني أمية وهو يعرف بالجعد ويلقب بالحمار أنه قال خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السموات وأهل الأرض عالم واحد وسائرهم لا يعلمهم إلا الله عز وجل.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الإنس عالم وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أو أربعة عشر ألف عالم - هو يشك - الملائكة على الأرض وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة ألاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم الله لعبادته. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الفرات، يعني ابن الوليد، عن معتب بن سمي عن سبيع يعني الحميري في قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: العالمين ألف أمة فستمائة في البحر وأربعمائة في البر، وحكي مثله عن سعيد بن المسيب وقد روي نحو هذا مرفوعاً كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك، فأرسل راكباً يضرب إلى اليمن وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد بشيء، أم لا قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خلق الله ألف أمة: ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه" محمد بن عيسى هذا وهو الهلالي ضعيف وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وقال وهب بن منبه لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها، وقال مقاتل: العوالم ثمانون ألفاً، وقال كعب الأحبار لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل نقله البغوي. وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال أن لله أربعين ألف عالم الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها، وقال الزجاج العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة قال القرطبي: وهذا هو الصحيح إنه شامل لكل العالمين كقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} والعالم مشتق من العلامة (قلت) لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز:
فيا عجباً كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد(1/34)
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
الرّحْمنِ الرّحِيمِ
وقوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تقدم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن الإعادة قال القرطبي: إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله رب العالمين ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} قال: فالرب فيه ترهيب والرحمن الرحيم ترغيب وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد" .
مَلِكِ يَوْمِ الدّينِ
قرأ بعض القراء (ملك يوم الدين) وقرأ آخرون (مالك) وكلاهما صحيح متواتر في السبع، ويقال ملك بكسر اللام وبإسكانها، ويقال مليك أيضاً وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ (ملكي يوم الدين) وقد رجح كلا من القراءتين مرجّحِون من حيث المعنى وكلتاهما صحيحة حسنة، ورجح الزمخشري ملك لأنها قراءة أهل الحرمين ولقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} وقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} وحكي عن أبي حنيفة أنه قرأ: {مَلك يَوْمِ الدِّينِ} على أنه فعل وفاعل ومفعول وهذا شاذ غريب جداً وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئاً غريباً حيث قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي، حدثنا عبد الوهاب بن عدي بن الفضل عن أبي المطرف عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرؤون (مالك يوم الدين) قال ابن شهاب وأول من أحدث "ملك" مروان (قلت) مروان عنده علم بصحة ما قرأه لم يطلع عليه ابن شهاب و لله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مردويه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها (مالك يوم الدين) ومالك مأخوذ من الملك كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} وقال {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ} وملك مأخوذ من الملك كما قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وقال {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عامّ في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئاً ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} وقال تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وقال الضحاك عن ابن عباس {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يقول لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكماً كملكهم في الدنيا، قال: ويوم الدين يوم الحساب للخلائق وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم أن خيراً فخير وإن شراً فشر إلا من عفا عنه، وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف هو ظاهر وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى أن تفسير مالك يوم الدين أنه القادر على إقامته ثم شرع يضعفه والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم وأن كلاً من القائلين هذا القول وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر ولا ينكره، ولكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا، كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} والقول الثاني يشبه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} والله أعلم. والملك في الحقيقة هو الله عز وجل، قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ}(1/35)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً "أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله" وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟" وفي القرآن العظيم {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلكٌ} {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} وفي الصحيحين "مثل الملوك على الأسرة" .
والدين الجزاء والحساب كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} وقال {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي مجزيون محاسبون، وفي الحديث "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" أي حاسب نفسه كما قال عمر رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}.
إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من إياك وقرأ عمرو ابن فايد بتخفيفها مع الكسر وهي قراءة شاذة مردودة لأن أيا ضوء الشمس، وقرأ بعضهم أياك بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم هياك بالهاء بدل الهمزة كما قال الشاعر:
فهياك والأمر الذي أن تراحبتم ... وارده ضاقت عليك مصادره
ونستعين بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والأعمش فإنهما كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم، والعبادة في اللغة من الذلة يقال طريق معبد وبعير معبد أي مذلل وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف. وقدم المفعول وهو إياك وكرر للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، وهذا كما قال بعض السلف الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل، وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} ، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} وكذلك هذه الآية الكريمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب وهو مناسبة لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك وهو قادر عليه كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وفي صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل إذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله حمدني عبدي، وإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله أثنى علي عبدي، فإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله مجدني عبدي، وإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال {اهْدِنَا(1/36)
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} يعني إياك نوحد ونخاف ونرجوك يا ربنا لا غيرك {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على طاعتك وعلى أمورنا كلها وقال قتادة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم وإنما قدم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن العبادة له هي المقصودة والاستعانة وسيلة إليها والاهتمام والحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم والله أعلم. فإن قيل: فما معنى النون في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن كانت للجمع فالداعي واحد وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام ؟ وقد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم ولا سيما أن كان في جماعة أو إمامهم فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها وتوسط لهم بخير، ومنهم قال يجوز أن تكون للتعظيم كأن العبد له قيل إذا كنت داخل العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وإن كنت خارج العبادة فلا تقل نحن ولا فعلنا ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لاحتياج الجميع إلى الله عز وجل وفقرهم إليه. ومنهم من قال إياك نعبد ألطف في التواضع من إياك عبدنا لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعله نفسه وحده أهلاً لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم:
لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي
وقد سمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعبده في أشرف مقاماته فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} ، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} فسماه عبداً عند إنزاله عليه وعند قيامه في الدعوة وإسرائه به وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين حيث يقول: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وقد حكى الرازي في تفسيره عن بعضهم أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى الخلق، قال ولأن الله يتولى مصالح عبده والرسول يتولى مصالح أمته، وهذا القول خطأ والتوجيه أيضاً ضعيف لا حاصل له ولم يتعرض له الرازي بتضعيف ولا رد، وقال بعض الصوفية العبادة إما لتحصيل ثواب أو درء عقاب، قالوا وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده، وإما للتشريف بتكاليف الله تعالى وهذا أيضاً عندهم ضعيف، بل العالي أن يعبد الله لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال، قالوا ولهذا يقول المصلي: أصلي لله، ولو كان لتحصيل الثواب ودرء العقاب لبطلت الصلاة وقد رد ذلك عليهم آخرون وقالوا: كون العبادة لله عز وجل لا ينافي أن يطلب معها ثواباً ولا أن يدفع عذاباً كما قال ذلك الأعرابي: أما أني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حولها ندندن".
اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
قراءة الجمهور بالصاد وقرى السراط وقرى بالزاي، قال الفراء: وهي لغة بني عذرة وبني كلب(1/37)
لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال: "فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد الله إليه لأنه الأكمل وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وقد تقدمه مع ذلك وصف مسؤول كقول ذي النون {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
والهداية ههنا والإرشاد والتوفيق، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فتضمن معنى ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي بينا له الخير والشر، وقد تعدى بإلى كقوله تعالى: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة وكذلك قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقد تعدى باللام كقول أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلاً.
وأما الصراط المستقيم فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه وذلك في لغة العرب فمن ذلك قال جرير بن عطية الخطفي:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم
قال والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر، قال ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل ووصف باستقامة أو اعوجاج فتصف المستقيم باستقامته والمعوج باعوجاجه. ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو المتابعة لله وللرسول، فروي أنه كتاب الله، قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثني يحيى بن يمان عن حمزة الزيات عن سعيد وهو ابن المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصراط المستقيم كتاب الله" وكذلك رواه ابن جرير من حديث حمزة بن حبيب الزيات وقد تقدم في فضائل القرآن فيما رواه أحمد والترمذي من رواية الحارث الأعور عن علي مرفوعاً "وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم" وقد روي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه والله أعلم: وقال الثوري عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال الصراط المستقيم كتاب الله، وقيل هو الإسلام، قال الضحاك عن ابن عباس قال: قال جبريل لمحمد عليهما السلام "قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم" يقول ألهمنا الطريق الهادي وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه، وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال ذاك الإسلام، وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس(1/38)
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قالوا هو الإسلام، وقال عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال هو الإسلام أوسع مما بين السماء والأرض وقال ابن الحنفية في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال هو الإسلام وفي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول ياأيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه - فإنك أن فتحته تلجه - فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم" وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد به، ورواه الترمذي والنسائي جميعاً عن علي بن حجر عن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به، وهو إسناد حسن صحيح والله أعلم. وقال مجاهد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال: الحق وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم، وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم حدثنا حمزة بن المغيرة عن عاصم الأحول عن أبي العالية {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم فذكرنا ذلك للحسن فقال صدق أبو العالية ونصح. وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة فإن من اتبع الإسلام فقد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضاً، و لله الحمد. وقال الطبراني حدثنا محمد بن الفضل السقطي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أعني - {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} - أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل ذلك هو الصراط المسقيم لأن من وفق لما وفق له مَن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل والتمسك بالكتاب والعمل بما أمره الله به والانزجار عما زجره عنه واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاج الخلفاء الأربعة، وكل عبد صالح وكل ذلك من الصراط المستقيم. (فإن قيل) فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها وهو متصف بذلك ؟ فهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا ؟ فالجواب أن لا، ولولا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها وتبصره وازدياده منها واستمراره(1/39)
عليها فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله فإنه قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الآية: فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان وليس ذلك من باب تحصيل الحاصل لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك والله أعلم. وقال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يقولوا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وقد كان الصديق رضي الله عنه يقرأ بهذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سراً، فمعنى قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره.
صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضّآلّينَ
وقد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها أن الله يقول "هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" وقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مفسر للصراط المستقيم وهو بدل منه عند النحاة ويجوز أن يكون عطف بيان والله أعلم. والذين أنعم الله عليهم المذكرون في سورة النساء حيث قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} وقال الضحاك عن ابن عباس: صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين. وذلك نظير ما قال ربنا تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} قال هم النبيّون وقال ابن جريج عن ابن عباس: هم المؤمنون، وكذا قال مجاهد وقال وكيع: هم المسلمون وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه والتفسير المتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أعم وأشمل والله أعلم.
وقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قرأ الجمهور غير بالجر على النعت، قال الزمخشري: وقرى بالنصب على الحال، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير وذو الحال الضمير في عليهم والعامل أنعمت والمعنى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق. وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين وهما طريقة اليهود والنصارى، وقد زعم بعض النحاة أن غير ههنا استثنائية فيكون على هذا منقطعاً لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم وما أوردناه أولى لقول الشاعر:
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع عند رجليه بشن
أي كأنك جمل من جمال بني أقيش فحذف الموصوف واكتفى بالصفة وهكذا غير المغضوب عليهم أي إلى صراط المغضوب عليم اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف، وقد دل سياق الكلام وهو قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}(1/40)
ثم قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ومنهم من زعم أن لا في قوله تعالى: {وَلا الضَّالِّينَ} زائدة وأن تقدير الكلام عنده غير المغضوب عليهم والضالين واستشهد ببيت العجاج:
في بئر لا حور ... سرى وما شعر
أي في بئر حور، والصحيح ما قدمناه، ولهذا روى أبو القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ غير المغضوب عليهم وغير الضالين وهذا الإسناد صحيح، وكذلك حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك، وهو محمول على أنه صدر منهما على وجه التفسير، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء لتأكيد النفي لئلا يتوهم أنه معطوف على الذين أنعمت عليهم وللفرق بين الطريقتين ليتجنب كل واحد فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به واليهود فقدوا العمل والنصارى فقدوا العلم ولهذا الغضب لليهود والضلال للنصارى، لأن من علم وترك استحق الغضب خلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئاً لكنهم لا يهتدون إلى طريقه لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو اتباع الحق، ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وبهذا جاءت الأحاديث والآثار وذلك واضح بين فيما قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت سماك بن حرب يقول سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم، قال جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا عمتي وناساً فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوا له فقالت يا رسول الله: نأى الوافد وانقطع الولد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمنّ علي منّ الله عليك، قال "من وافدك ؟" قالت عدي بن حاتم، قال "الذي فر من الله ورسوله" قالت فمنّ علي، فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه علي ؟ قال: سليه حملاناً فسألته فأمر لها، قال فأتتني فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم قال فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال: "يا عدي ما أفرك ؟ أن يقال لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ما أفرك أن يقال الله أكبر فهل شيء أكبر من الله عز وجل ؟" قال فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر وقال: " إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى" ، وذكر الحديث ورواه الترمذي من حديث سماك بن حرب، وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه (قلت) وقد رواه حماد بن سلمة عن مَرّيّ بن قَطَريّ عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} قال: هم اليهود {وَلا الضَّالِّينَ} قال النصارى هم الضالون وهكذا رواه سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به، وقد روي حديث عدي هذا من طرق وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها وقال عبد الرزاق: وأخبرنا معمر عن بديل العقيلي أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسه وسأله رجل من بني القين فقال يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال: "المغضوب عليهم وأشار إلى اليهود والضالون هم النصارى"، وقد رواه الجريري وعروة وخالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق فأرسلوه ولم يذكروا من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمرو فا لله أعلم، وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال:(1/41)
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال: "اليهود" ، قلت: الضالين قال: "النصارى "، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: غير المغضوب عليهم وهم اليهود ولا الضالين هم النصارى، وقال الضحاك وابن جريج عن ابن عباس: غير المغضوب عليهم هم اليهود ولا الضالين النصارى، وكذلك قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد، وقال ابن أبي حاتم ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافاً وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون، الحديث المتقدم، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقال في المائدة {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، فقال: أنا من غضب الله أفر، وقالت له النصارى إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال لا أستطيعه فاستمر على فطرته وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذك، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي رضي الله عنه.
(مسألة) والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما، وذلك أن الضاد نخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم، وأما حديث أنا أفصح من نطق بالضاد فلا أصل له والله أعلم.
(فصل) اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرى من حولهم وقوتهم إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز الصراط الحسية يوم القيامة المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضالون وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الآية. وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به وإن كان هو الذي أضلهم بقدره كما قال تعالى: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ(1/42)
وَلِيّاً مُرْشِداً} وقال {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال لا كما تقول الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلون ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن ويتركون ما يكون فيه صريحاً في الرد عليهم: وهذا حال أهل الضلال والغي وقد ورد في الحديث الصحيح "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" يعني في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فليس بحمد الله، لمبتدع في القرآن حجة صحيحة لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقاً بين الهدى والضلال وليس فيه تناقض ولا اختلاف لأنه من عند الله تنزيل من حكيم حميد.
(فصل) يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها آمين مثل يس، ويقال أمين بالقصر أيضاً ومعناه اللهم استجب والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقال آمين مد بها صوته، ولأبي داود رفع بها صوته، وقال الترمذي هذا حديث حسن، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: "آمين" حتى يسمع من يليه من الصف الأول، رواه أبو داود وابن ماجه وزاد فيه فيرتج بها المسجد. والدارقطني وقال: هذا إسناد حسن. وعن بلال أنه قال: يا رسول الله لا تسبقني بآمين رواه أبو داود، ونقل أبو نصر القشيري عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل {آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قال أصحابنا وغيرهم: ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفرداً أو إماماً أو مأموماً وفي جميع الأحوال لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه" قيل بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان وقيل في الإجابة وقيل في صفة الإخلاص، وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً "إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله" وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قلت: يا رسول الله ما معنى آمين ؟ قال "رب افعل" وقال الجوهري: معنى آمين كذلك فليكن. وقال الترمذي معناه لا تخيب رجاءنا. وقال الأكثرون معناه اللهم استجب لنا. وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن يساف أن آمين اسم من أسماء الله تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعاً ولا يصح، قاله أبو بكر بن العربي المالكي. وقال أصحاب مالك: لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم لما رواه مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين فقولوا آمين" الحديث واستأنسوا أيضاً بحديث أبي موسى عند مسلم كان يؤمن إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وقد قدمنا في المتفق عليه "إذا أمن الإمام فأمنوا" وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية وحاصل الخلاف أن الإمام أن نسي التأمين جهر المأموم به قولاً واحداً وإن أمن الإمام جهراً فالجديد أن لا يجهر المأموم وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن مالك لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة، والقديم أنه يجهر به وهو مذهب(1/43)
الإمام أحمد بن حنبل والرواية الأخرى عن مالك لما تقدم "حتى يرتج المسجد" ولنا قول آخر ثالث أنه أن كان المسجد صغيراً لم يجهر المأموم لأنهم يسمعون قراءة الإمام وإن كان كبيراً جهر ليبلغ التأمين من في أرجاء المسجد والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود فقال: "إنهم لن يحسدونا على شيء كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام آمين" ورواه ابن ماجه ولفظه "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ماحسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول آمين فأكثروا من قول آمين" وفي إسناده طلحة بن عمرو وهو ضعيف، وروى ابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين" وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى، كان موسى يدعو وهارون يؤمن فاختموا الدعاء بآمين فإن الله يستجيبه لكم (قلت) ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} فذكر الدعاء عن موسى وحده ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمّن فنزل من منزلة من دعا لقوله تعالى: { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} فدل ذلك على أن من أمّن على دعاء فكأنما قاله، فلهذا قال: من قال أن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها، ولهذا جاء في الحديث "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" رواه أحمد في مسنده وكان بلال يقول لا تسبقني بآمين يا رسول الله. فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية والله أعلم. ولهذا قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن الحسن حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن ليث عن ابن أبي سليم عن كعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال آمين، فوافق آمين أهل الأرض آمين أهل السماء غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه، ومثل من لا يقول آمين كمثل رجل غزا مع قوم فاقترعوا فخرجت سهامهم ولم يخرج سهمه فقال لمَ لم يخرج سهمي ؟ فقيل إنك لم تقل آمين".(1/44)
سورة البقرة
(ذكر ما ورد في فضلها) قال الإمام أحمد حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البقرة سنام القرآن وذروته. نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً واستخرجت {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} من تحت العرش فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة، ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرؤوها على موتاكم" انفرد به أحمد وقد رواه أحمد أيضاً عن عارم عن عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن أبيه عن معقل بن يسار قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوها على موتاكم" يعني يس - فقد تبين بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير وفيه ضعف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل شيءٍ سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي" وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان" وقال الترمذي: حسن صحيح وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه" سنان بن سعد ويقال بالعكس وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره. وقال أبو عبيد حدّثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: أن الشيطان يفرّ من البيت يسمع فيه سورة البقرة. ورواه النسائي في اليوم والليلة وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع سورة البقرة يقرؤها فإن الشيطان يفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصغر البيوت الجوف الصفر من كتاب الله" وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن نصر عن أيوب بن سليمان به. وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال: ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط. وقال أن لكل شيء سناماً وإن سنام القرآن سورة البقرة وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن المفصل. وروى أيضاً من طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة، أربع من أولها وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث آيات من آخرها، وفي رواية لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء سناماً وإن سنام القرآن(1/45)
البقرة وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ومن قرآها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام" رواه أبو القاسم الطبراني وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه وابن مردويه من حديث الأزرق بن علي حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل به. وعند خالد بن حبان بن سعيد المديني. وقد روى الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذوو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال ما معك يا فلان فقال معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال أمعك سورة البقرة ؟ قال نعم قال: اذهب فأنت أميرهم" فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت أن لا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا القرآن واقرؤوه فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسكاً يفوح ريحه في كل مكان ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكى على مسك" هذا لفظ رواية الترمذي ثم قال هذا حديث حسن ثم رواه من حديث الليث عن سعيد عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلاً فالله أعلم. قال البخاري: وقال الليث حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة - وفرسه مربوطة عنده - إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها - فأشفق أن تصيبه فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدّث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقرأ يا ابن حضير" قال: قد أشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً فرفعت رأسي وانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال "وتدري ما ذاك ؟" قال لا قال "تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم" وهكذا رواه الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن عبد الله بن صالح، ويحيى بن بكير عن الليث به. وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير كما تقدم والله أعلم. وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وذلك فيما رواه أبو عبيد حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدّثوه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح قال "فلعله قرأ سورة البقرة" قال: فسألت ثابتاً فقال: قرأت سورة البقرة" وهذا إسناد جيد إلا أن فيه إبهاماً ثم هو مرسل والله أعلم.
(ذكر ما ورد في فضلها مع آل عمران(
قال الإمام أحمد حدّثنا أبو نعيم حدّثنا بشر بن مهاجر حدّثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: "تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة" قال ثم سكت ساعة ثم قال: "تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوّاف وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له هل تعرفني ؟ فيقول: ما أعرفك فيقول أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان بما كسينا هذا فيقال بأخذ ولدكما القرآن ثم يقال اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذّاً(1/46)
كان أو ترتيلاً" وروى ابن ماجه من حديث بشر بن المهاجر بعضه وهذا إسناد حسن على شرط مسلم فإن بشراً هذا خرج له مسلم ووثقه ابن معين وقال النسائي: ما به بأس إلا أن الإمام أحمد قال فيه هو منكر الحديث قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تأتي بالعجب وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه وقال الدارقطني: ليس بالقوي (قلت) ولكن لبعضه شواهد فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي قال الإمام أحمد حدّثنا عبد الملك بن عمر حدّثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة ثم قال اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة" وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام ممطور الحبشي عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي به الزهراوان: المنيرتان، والغياية: ما أظلك من فوقك، والفِرْقُ: القطعة من الشيء، والصواف المصطفة المتضامة، والبطلة السحرة، ومعنى لا تستطيعها أي لا يمكنهم حفظها وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها والله أعلم. ومن ذلك حديث النواس بن سمعان قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن عبد ربه حدّثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي عن جبير بن نفير قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمهم سورة البقرة وآل عمران" وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: "كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما" ورواه مسلم عن إسحاق بن منصور عن يزيد بن عبد ربه به، والترمذي من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي به وقال حسن غريب، وقال أبو عبيد: حدّثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير قال: قال حماد أحسبه عن أبي منيب عن عمه أن رجلاً قرأ البقرة وآل عمران فلما قضى صلاته قال له كعب أقرأت البقرة وآل عمران ؟ قال: نعم قال: فو الذي نفسي بيده أن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب. قال فأخبرني به قال: لا والله لا أخبرك به ولو أخبرتك به لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت، وحدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول: أن أخاً لكم أري في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وَعِرٍ طويل وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان يهتفان هل فيكم قارى يقرأ سورة البقرة ؟ وهل فيكم قارى يقرأ سورة آل عمران ؟ قال فإذا قال الرجل نعم دنتا منه بأعذاقهما حتى يتعلق بهما فيخطران به الجبل، وحدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي عمران أنه سمع أم الدرداء تقول: أن رجلاً ممن قرأ القرآن أغار على جار له فقتله وإنه أقيد به فقتل فما زال القرآن ينسل منه سورة حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ثم أن آل عمران انسلت منه وأقامت البقرة جمعة فقيل لها {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} قال فخرجت كأنها السحابة العظيمة قال أبو عبيد أراه يعنى أنهما كانتا معه في قبره يدفعان عنه ويؤنسانه فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن. وقال أيضاً حدثنا أبو مسهر الغسّاني عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أن يزيد بن الأسود الجرشي كان يحدث أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم بري من النفاق حتى يمسي ومن قرأهما في ليلة بري من النفاق حتى يصبح قال فكان يقرؤها كل يوم وليلة سوى جزئه. وحدّثنا عن ورقاء بن إياس عن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان - أو كتب - من القانتين فيه انقطاع ولكن(1/47)
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله وآله وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة.
ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال
قال أبو عبيد حدّثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن محمد بن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت السبع الطوال مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت المثاني مكان الزبور وفضلت بالمفصل" هذا حديث غريب وسعيد بن أبي بشير وفيه لين وقد رواه أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكره والله أعلم ثم قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن حبيب بن هند الأسلمي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ السبع فهو حبر" وهذا أيضاً غريب وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي وروى عنه عمرو بن عمرو وعبد الله بن أبي بكرة وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحاً فا لله أعلم. وقد رواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود وحسين كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به، ورواه أيضاً عن أبي سعيد عن سليمان بن بلال عن حبيب بن هند عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر" قال أحمد: وحدّثنا حسين حدثنا ابن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال عبد الله بن أحمد: وهذا أرى فيه عن أبيه عن الأعرج ولكن كذا كان في الكتاب فلا أدري أغفله أبي أو كذا هو مرسل وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سناً لحفظه سورة البقرة وقال له: "اذهب فأنت أميرهم" وصححه الترمذي ثم قال أبو عبيد: حدّثنا هشيم أنبأ أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} قال هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس قال وقال مجاهد هي السبع الطوال وهكذا قال مكحول وعطية بن قيس وأبو محمد الفارسي وشداد بن أوس ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك وفي تعدادها وإنّ يونس هي السابعة.
(فصل) والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بها لكن قوله تعالى فيه {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ويحتمل أن تكون منها وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن، قال بعض العلماء وهي مشتملة على ألف خبر وألف أمر وألف نهي، وقال العادّون آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وحروفها خمسة وعشرون ألفاً وخمسمائة حرف فا لله أعلم. قال ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس نزلت بالمدينة سورة البقرة، وقال خصيف عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة، وقال الواقدي حدّثني الضحاك بن عثمان عن أبي الزناد بن خارجة بن ثابت عن أبيه قال نزلت البقرة بالمدينة وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء والمفسرين ولا خلاف فيه. وقال ابن مردويه حدّثنا محمد بن معمر حدّثنا الحسن بن علي بن الوليد الفارسي حدّثنا خلف بن هشام وحدّثنا عيسى بن ميمون عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقولوا سورة(1/48)
البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والتي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله" هذا حديث غريب لا يصح رفعه وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص وهو ضعيف الرواية لا يحتج به وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال هذا المقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة أخرجاه، وروى ابن مردويه من حديث شعبة عن عقيل بن طلحة عن عتبة بن مرثد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخراً فقال: "يا أصحاب سورة البقرة" وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم "يا أصحاب الشجرة" يعني أهل بيعة الرضوان وفي رواية "يا أصحاب سورة البقرة" لينشطهم بذلك فجعلوا يقبلون من كل وجه وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون يا أصحاب سورة البقرة حتى فتح الله عليهم رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.(1/49)
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
الَمَ
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردّوا علمها إلى الله ولم يفسروها حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحيحن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة {الم} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ} ، وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم، وحم، والمص، وص. فواتح افتتح الله بها القرآن، وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال: الم اسم من أسماء القرآن وهكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السورة فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسماً للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول: قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم.
وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال الشعبي فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبد الله وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي: بلغني أن ابن عباس قال: الم اسم من أسماء الله الأعظم. هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال: سألت السدي عن حم وطس والم فقال ابن عباس: هي اسم الله الأعظم وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى حدّثنا أبو النعمان حدّثنا شعبة عن إسرائيل السدي عن مرة الهمداني قال: قال عبد الله فذكر نحوه. وحكى مثله عن علي وابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال الم قسم. ورويا أيضاً من حديث شريك بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس، الم قال أنا الله أعلم، وكذا قال سعيد بن جبير وقال السدي عن أبي مالك.
وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الم قال: أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه، وبلائه: وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم عليه السلام(1/50)
وعجب: فقال أعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به، فالألف مفتاح اسم الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله، الألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة.
هذا لفظ ابن أبي حاتم. ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سوراً كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه، قال ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين كقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} تطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين على أصح القولين قال فكذلك هذا.
هذا حاصل كلامه موجهاً ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا معاً ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الإصلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها والله أعلم. ثم أن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف، والمسألة مختلف فيها وليس فيها إجماع حتى يحكم به وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا كما قال الشاعر:
قلنا قفي لنا فقالت قافلا ... تحسبي أنا نسينا الإيجاف
تعني وقفت وقال الآخر:
ما للظليم عال كيف لا يا ... ينقد عنه جلده إذا يا
فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل وقال الآخر:
بالخير خيرات وإن شراً فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا
يقول وإن شراً فشراً ولا أريد الشر إلا أن تشاء فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله أعلم.
قال القرطبي وفي الحديث "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" الحديث قال سفيان هو أن يقول في اقتل "اق". وقال خصيف عن مجاهد أنه قال فواتح السور كلها (ق وص وحم وطسم والر) وغير ذلك(1/51)
هجاء موضوع وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفاً كما يقول القائل: ابني يكتب في - ا ب ت ث - أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغنى بذكر بعضها عن مجموعها حكاه ابن جرير.
قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً وهي - ا ل م ص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن - يجمها قولك: نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عدداً والمذكور منها أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف: قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة، ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله ومن ههنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلاماً فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثاً ولا سدى، ومن قال من الجهلة أن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية فقد أخطأ خطأً كبيراً، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه إتباعه وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام.
المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها، فقال بعضهم إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور حكاه ابن جرير وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة وقال آخرون بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم المؤلف منه حكاه ابن جرير أيضاً وهو ضعيف لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها بل غالبها وليس كذلك أيضاً لانبغىَ الابتداء بها في أوائل الكلام معهم سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك ثم أن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطاباً للمشركين فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكره فيها بياناً لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو العجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية.
قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن قال وجاء منها على حرف واحد كقوله: {ص} {نْ} {ق} وحرفين مثل {حم} وثلاثة مثل {الم} وأربعة مثل {المر} و {المص} وخمسة مثل {كهيعص و حمعسق} لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك(1/52)
(قلت) ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته وهذا معلوم بالاستقراء وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} {الم َنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم.
وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رئاب قال مر أبو ياسر بن أخطب في رجال في يهود برسول الله وهو يتلو فاتحة سورة البقرة {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فأتى أخاه حي بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى" فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ فقال "نعم" قالوا لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بيّن لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره فقال: "نعم"، قال ما ذاك ؟ قال: "المص" قال: "هذا أثقل وأطول، الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد سبعون فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة". هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال: "نعم"، قال ما ذاك ؟ قال "الر. قال هذا أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتان سنة". فهل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال "نعم" قال ماذا قال: "المر قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتان" ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً. ثم قال قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه حي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع سنين ؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ثم كان مقتضى هذا المسلك أن كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم.
الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ
قال ابن جريج قال ابن عباس {ذلك الكتاب} أي هذا الكتاب وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن(1/53)
جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج أن ذلك بمعنى هذا والعرب تعارض بين اسمي الإشارة فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر وهذا معروف في كلامهم وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة وقال الزمخشري ذلك إشارة إلى {الم} كما قال تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} وقال {ذَلِكُمُ اللَّهُ} وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره والله أعلم. وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك في أقوال عشرة. وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم.
والكتاب القرآن ومن قال: أن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما لا علم له به. والريب الشك قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {ذَلِكُمُ اللَّهُ} لا شك فيه وقال أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد وقال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذه خلافاً. وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني ... فقلت كلانا يا بثين مريب
واستعمل أيضاً في الحاجة كما قال بعضهم:
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى في السجدة {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال بعضهم هذه خبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف على قوله تعالى: {لا رَيْبَ} ويبتدى بقوله تعالى: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} والوقف على قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} أولى للآية التي ذكرناها ولأنه يصير قوله تعالى: {هُدىً} صفة للقرآن وذلك أبلغ من كون فيه هدى، وهدى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعاً على النعت ومنصوباً على الحال وخصت الهداية للمتقين كما قال {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن لأنه هو في نفسه هدى ولكن لا يناله إلا الأبرار كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقد قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} يعني نوراً للمتقين وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} قال هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي(1/54)
وقال محمد بن إسحاق: عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {لِلْمُتَّقِينَ} قال الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري قوله تعالى للمتقين قال: اتقوا ما حرم الله عليهم وأدّوا ما افترض عليهم، وقال أبو بكر بن عياش سألني الأعمش عن المتقين قال فأجبته فقال لي سل عنها الكلبي فسألته فقال الذين يجتنبون كبائر الإثم قال فرجعت إلى الأعمش فقال يرى أنه كذلك ولم ينكره. وقال قتادة للمتقين هم الذين نعتهم الله بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} الآية والتي بعدها، واختيار ابن جرير أن الآية تعم ذلك كله وهو كما قال. وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عن عبد الله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس" ثم قال الترمذي حسن غريب وقال ابن أبي حاتم حدّثنا أبي حدّثنا عبد الله بن عمران عن إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالساً عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة يا أبا عفيف ألا تحدّثنا عن معاذ بن جبل قال بلى سمعته يقول يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد فينادي مناد أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة. ويطلق الهدى ويراد به ما يقرّ في القلب من الإيمان وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقال {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} وقال {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} وقال {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} إلى غير ذلك من الآيات ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وقال تعالى: {أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقال {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح والله أعلم وأصل التقوى التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد ... إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وقال الآخر:
فألفت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كف ومعصم
وقد قيل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له أما سلكت طريقاً ذا شوك ؟ قال بلى، قال فما عملت قال شمرت واجتهدت قال فذلك التقوى. وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة ... إنّ الجبال من الحصى(1/55)
وأنشد أبو الدرداء يوماً:
يريد المرء أن يؤتى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا
وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة أن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله".
{الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: الإيمان التصديق، وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤمنون يصدّقون وقال معمر عن الزهري: الإيمان العمل، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس يؤمنون يخشون.
قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً وعملاً واعتقاداً وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل (قلت) أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك كما قال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} وكما قال إخوة يوسف لأبيهم {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً. هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنّة. ومنهم من فسره بالخشية كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} وقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} والخشية خلاصة الإيمان والعلم كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وقال بعضهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فعلى هذا يكون قوله بالغيب حالاً أي في حال كونهم غيباً عن الناس.
وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال ويؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله. وكذا قال قتادة بن دعامة وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة(1/56)
الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بالغيب قال بما جاء منه - يعني من الله تعالى - وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال: الغيب القرآن وقال عطاء بن أبي رباح من آمن بالله فقد آمن بالغيب وقال إسماعيل بن أبي خالد يؤمنون بالغيب قال: بغيب الإسلام وقال زيد بن أسلم: الذين يؤمنون بالغيب قال: بالقدر. فكل هذه متقاربة في معنى واحد لأن جميع المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله: أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيّناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله :{الْمُفْلِحُونَ} وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد حدثنا أبو المغيرة أنبأ الأوزاعي حدّثني أسد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال قلت لأبي جمعة حدّثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أحدّثك حديثاً جيّداً: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح قال: يا رسول الله هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال "نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" طريق أخرى قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدّثنا عبد الله بن جعفر حدّثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود حدّثنا عبد الله بن صالح حدّثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يومئذٍ رجاء بن حيوة رضي الله عنه فلما انصرف خرجنا نشيعه فلما أراد الانصراف قال أن لكم جائزة وحقاً أحدّثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: هات رحمك الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة فقلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منكم أجراً ؟ آمنا بالله واتبعناك، قال: " ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً مرتين" ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه. وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الخلق أعجب إليكم إيماناً ؟ قالوا الملائكة قال "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم" ؟ قالوا فالنبيون قال " وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ قالوا فنحن قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم"؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أن أعجب الخلق إليّ إيماناً لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها" قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث (قلت) ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده وابن مردويه في تفسيره والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن حميد - وفيه ضعف - عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله(1/57)
أو نحوه وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد روى نحوه عن أنس بن مالك مرفوعاً والله أعلم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن محمد المسندي حدثنا إسحاق بن إدريس أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري أخبرني جعفر بن محمود عن جدته نويلة بنت أسلم قالت صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام قال إبراهيم فحدثني رجال من بني حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال: "أولئك قوم آمنوا بالغيب" هذا حديث غريب من هذا الوجه.
{وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
قال ابن عباس ويقيمون الصلاة أي يقيمون الصلاة بفروضها وقال الضحاك عن ابن عباس إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها، وقال قتادة إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها وقال مقاتل بن حيان إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور بها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إقامتها.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال زكاة أموالهم، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال نفقة الرجل على أهله وهذا قبل أن تنزل الزكاة وقال جويبر عن الضحاك كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهنّ الصدقات هن الناسخات المثبتات وقال قتادة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها.
واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات فإنه قال وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين - زكاة كانت ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه (قلت) كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال فإن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه، والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" والأحاديث في هذا كثيرة وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء. قال الأعشى:(1/58)
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها ... وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
وقال أيضاً:
وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم
أنشدهما ابن جرير مستشهداً على ذلك وقال الآخر وهو الأعشى أيضاً.
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
يقول عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. هذا ظاهر ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة. قال ابن جرير وأرى أن الصلاة سميت صلاة لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعلمه مع ما يسأل ربه من حاجاته وقيل هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب ومنه سمي المصلي وهو التالي للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر. وقيل هي مشتقة من الصلى وهو الملازمة للشيء من قوله تعالى :{لا يَصْلاهَا} أي لا يلزمها ويدوم فيها {إِلاَّ الأَشْقَى} وقيل مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوم كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر والله أعلم.
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه أن شاء الله تعالى.
{والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ}
قال ابن عباس والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك أي يصدّقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرّقون بينهم ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم وبالآخرة هم يوقنون أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا وقد اختلفت المفسرون في الموصوفين هنا، هل هم الموصوفون بما تقدّم من قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ومن هم ؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير أحدها أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة، والثاني هما واحد وهم مؤمنو أهل الكتاب وعلى هذين تكون الواو عاطفة على صفات كما قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى. فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} وكما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ...
وليث الكتيبة في المزدحم(1/59)
فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد والثالث أن الموصوفين أوّلاً مؤمنو العرب والموصوفون ثانياً بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} لمؤمني أهل الكتاب نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة واختاره ابن جرير رحمه الله ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} الآية وبقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بي ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين كافر ومنافق عربي وكتابي (قلت) والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أوّل سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاثة عشر في المنافقين فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي من إنسي وجني وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والإيقان بالآخرة كما أن هذا لا يصح إلا بذاك وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الآية وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على جميع أمر المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلاً فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلاً كان لهم على ذلك الأجر مرتين وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدّم مجملاً كما جاء في الصحيح "إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدّقوهم ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم" ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم والله أعلم.(1/60)
{أُوْلَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
يقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ} أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل والإيقان بالدار الآخرة وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات {عَلَىَ هُدًى} أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي في الدنيا والآخرة، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {أُوْلَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ} أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا وقال ابن جرير وأما معنى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ} فإن معنى ذلك فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم وتأويل قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب. والخلود في الجنات والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب. وقد حكى ابن جرير قولاً عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية، على ما تقدم من الخلاف، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} منقطعاً مما قبله وأن يكون مرفوعاً على الابتداء وخبره {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب، والذي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب، ثم جمع الفريقين فقال: {أُوْلَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة والإشارة عائدة عليهم والله أعلم.
وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي حدثنا ابن لهيعة حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبد الله عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: وقيل له يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس أو كما قال، قال: "أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ - إلى قوله – {الْمُفْلِحُونَ} هؤلاء أهل الجنة، قالوا إنا نرجو أن نكون هؤلاء ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ - إلى قوله - عَظِيمٌ} هؤلاء أهل النار قالوا لسنا هم يا رسول الله، قال: "أجل".
{إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
يقول تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ} أي غطوا الحق وستروه وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك سواء عليهم إنذارك وعدمه فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا(1/61)
يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} الآية، أي أن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له ومن أضله فلا هادي له فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وبلغهم الرسالة فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول، وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بما أنزل إليك وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق وقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً وقد كفروا بما عندهم من علمك، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب وهم الذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} والمعنى الذي ذكرناه أولاً وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر، ويفسر ببقية الآيات التي في معناها، والله أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً فقال: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا ابن لهيعة حدثني عبد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم عن عبد الله بن عمرو وقال قيل يا رسول الله (إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس) فقال: "ألا أخبركم" ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} "هؤلاء أهل النار" قالوا لسنا منهم يا رسول الله، قال "أجل" وقوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ} محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} أي هم كفار في كلا الحالين فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ} ويحتمل أن يكون لا يؤمنون خبراً لأن تقديره أن الذين كفروا لا يؤمنون ويكون قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} جملة معترضة، والله أعلم.
{خَتَمَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهمْ وَعَلَىَ سَمْعِهِمْ وَعَلَىَ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ}
قال السدي ختم الله أي طبع الله وقال قتادة في هذه الآية استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، وقال ابن جريج: قال مجاهد ختم الله على قلوبهم قال الطبع ثبتت الذنوب على القلب فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم. قال ابن جريج الختم على القلب والسمع قال ابن جريج وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهداً يقول: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله، وقال الأعمش أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذه يعني الكف، فإذا أذنب العبد ذنباً ضم منه وقال بأصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بأصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال بأصبع أخرى هكذا حتى ضم أصابعه كلها ثم قال يطبع(1/62)
عليه بطابع. وقال مجاهد كانوا يرون أن ذلك الرين، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه، قال ابن جرير وقال بعضهم إنما معنى قوله تعالى: {خَتَمَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهمْ} إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال أن فلاناً أصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبراً قال وهذا لا يصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم (قلت) وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير ههنا وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جداً وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده ولو فهم قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وما أشبه من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحق وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال والله أعلم.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع عل قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وذكر حديث تقليب القلوب "ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك" وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً" الحديث، قال ابن جرير والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا به محمد بن بشار حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة والليث بن سعد وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به، وقال الترمذي حسن صحيح ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل الله تعالى والطبع فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه عنها.
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وقوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} جملة تامة فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة وهي الغطاء يكون على البصر كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} يقول فلا يعقلون ولا يسمعون يقول وجعل على أبصارهم غشاوة يقول على أعينهم فلا يبصرون، وقال ابن جرير: حدثني محمد(1/63)
ابن سعد حدثنا أبي حدثني عمي الحسين بن الحسن عن أبيه عن جده عن ابن عباس ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم قال وحدثنا القاسم حدثنا الحسين يعني ابن داود وهو سنيد حدثني حجاج وهو ابن محمد الأعور حدثني ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر قال الله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وقال: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} قال ابن جرير ومن نصب غشاوة من قوله تعالى وعلى أبصارهم غشاوة يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره وجعل على أبصارهم غشاوة يحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل وعلى سمعهم كقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} وقول الشاعر:
علفتها تبناً وماء بارداً ... حتى شتت همالة عيناها
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلداً سيفاً ورمحا
تقديره وسقيتها ماء بارداً ومعتقلاً رمحاً.
لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ثم عرّف حال الكافرين بهاتين الآيتين شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق كما أنزل سورة براءة فيهم وسورة المنافقين فيهم وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفاً لأحوالهم لتجتنب ويجتنب من تلبس بها أيضاً فقال تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}
النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار. وعملي وهو من أكبر الذنوب كما سيأتي تفصيله في موضعه أن شاء الله تعالى، وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج بنو النضير وبنو قريظة حلفاء الأوس فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج وقلّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأساً في المدينة وهو من الخزرج وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعت بدر قال: هذا. أمر الله قد توجه فأظهر الدخول في الإسلام ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهاً بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة.(1/64)
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير فقال تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} أي يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} أي إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط لا في نفس الأمر، ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها. أكدوا أمرهم قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر وليس الأمر كذلك كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} وبقوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}.
وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا} أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} يقول وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ومن القراء من قرأ {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد وقال ابن جرير فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعاً وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعاً، فكذلك المنافق سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما ظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن وذلك من فعله وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به، فذلك خديعته نفسه ظناً منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن كما قال تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} إعلاماً منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم يكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمى أمرهم مقيمين. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إليّ حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى يخادعون الله قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك. وقال سعيد عن قتادة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ويصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفؤَ السفينة كلما هبت ريح هبت معها.(1/65)
{فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}
قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ} قال شك فزادهم الله مرضاً قال شكاً. وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قلوبهم مرض قال: شكاً. وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة. وعن عكرمة وطاوس في قلوبهم مرض يعني الرياء. وقال الضحاك عن ابن عباس في قلوبهم مرض قال: نفاق فزادهم الله مرضاً قال: مرضاً وهذا كالأول. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قلوبهم مرض قال: هذا مرض في الدين وليس مرضاً في الأجساد وهم المنافقون والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام فزادهم الله مرضاً قال: زادهم رجساً، وقرأ {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ}. قال شراً إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم، وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه الله حسن وهو الجزاء من جنس العمل وكذلك قاله الأولون وهو نظير قوله تعالى أيضاً {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وقرى يكذّبون، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا، وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه" ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون: أن محمداً يقتل أصحابه، قال القرطبي وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة مع علمه بسوء اعتقادهم، قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون. ومنها: ما قال مالك إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام، قال: ومنها ما قال الشافعي إنما مَنعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله. ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل" ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} الآية، فهم يخالطونهم في بعض المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه لا يخاف من شرهم مع وجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يتلو عليهم آيات مبينات فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون، قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم(1/66)
(قلت) وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا، أو يتكرر منه ارتداده أم لا، أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه ؟ على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام.
(تنبيه) قول من قال كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم.
فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} الآية، وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كان تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: "إني أكره أن تتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه" وفي رواية في الصحيح "إني خيرت فاخترت" وفي رواية "لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت".
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلآ إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاّ يَشْعُرُون}
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الطيب الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} قال: هم المنافقون أما لا تفسدوا في الأرض قال الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} قال يعني لا تعصوا في الأرض وكان فسادهم ذلك معصية الله لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وقال ابن جريج عن مجاهد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا قالوا إنما نحن على الهدى مصلحون، وقال وكيع وعيسى بن يونس وعثان بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأزدي عن سلمان الفارسي { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} قال سلمان لم يجى أهل هذه الآية بعد. وقال ابن جرير حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان الفارسي في هذه الآية قال: ما جاء هؤلاء ؟ قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد، قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه وتضييعهم فرائضه وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته وكذبهم المؤمنين بدعواهم(1/67)
غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. وهذا الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} ثم قال {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل لأنه هو الذي غر المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ووالى الكافرين على المؤمنين ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح، ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء كما قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب يقول الله {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} يقول ألا أن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النّاسُ قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السّفَهَآءُ أَلآ إِنّهُمْ هُمُ السّفَهَآءُ وَلَكِن لاّ يَعْلَمُونَ}
يقول تعالى وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} يعنون - لعنهم الله - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء ؟ والسفهاء جمع سفيه كما أن الحكماء جمع حكيم والحلماء جمع حليم، والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي القليل المعرفة بواضع المصالح والمضار، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} قال عامة علماء التفسير هم النساء والصبيان وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} فأكد وحصر السفهاة فيهم {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى.
{وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوَاْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
يقول تعالى وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمنا وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعة وتقية وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ} يعني إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم فضمن خلوا معنى انصرفوا لتعديته بإلى(1/68)
ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به ومنهم من قال "إلى" هنا بمعنى "مع" والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير وقال السدي عن أبي مالك: خلوا يعني مضوا، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ}: يعني هم رؤساءهم في الكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس: وإذا خلوا إلى أصحابهم وهم شياطينهم وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ} من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ} إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين. وقال قتادة {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ} قال إلى رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس. قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وفي المسند عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن" فقلت يا رسول أوَ للإنس شياطين ؟ قال "نعم" وقوله: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أي إنا على مثل ما أنتم عليه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم وقال الضحاك عن ابن عباس قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة. وقوله تعالى جواباً ومقابلة على صنيعهم {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال ابن جرير أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الآية، وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} الآية، قال فهذا وما أشبهه من استهزاء الله تعالى ذكره وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل قال: وقال آخرون بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه والكفر به. قال: وقال آخرون هذا وأمثاله على سبيل الجواب كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به أنا الذي خدعتك. ولم يكن منه خديعة ولكن قال ذلك إذا صار الأمر إليه قالوا وكذلك قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} و {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزأ. والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم، وقال آخرون قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ و} و {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} فالأول ظلم والثاني عدل فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما، قال وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك. قال: وقال آخرون أن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا دخلوا إلى مردتهم قالوا إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم مستهزئون، فأخبر تعالى أنه يستهزئ(1/69)
بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا يعني من عصمة دماءهم وأموالهم خلاف الذي عنده في الآخرة يعني من العذاب والنكال. ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك. قال وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس حدثنا أبو كريب حدثنا أبو عثمان حدثنا بشر بن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} قال يسخر بهم للنقمة منهم، وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يمدهم يملي لهم وقال مجاهد يزيدهم، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} وقال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال بعضهم كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة وهي في الحقيقة نقمة وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال ابن جرير والصواب نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} والطغيان: هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وقال الضاحك عن ابن عباس في طغيانهم يعمهون في كفرهم يترددون، وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد في كفرهم وضلالتهم. قال ابن جرير: والعمه: الضلال. يقال عمه فلان يعمه عمها وعموهاً إذا ضل، قال وقوله في طغيانهم يعمهون في ضلالتهم، وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً. وقال بعضهم: العمى في العين والعمه في القلب، وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وتقول عمه الرجل يعمه عموهاً فهو عمه وعامه وجمعه عمه، وذهبت إبله العمهاء إذا لم يدر أين ذهبت.
{أُوْلَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُواْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ فَمَا رَبِحَتْ تّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين}
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة {أُوْلَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُواْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ} قال أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {أُوْلَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُواْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ} أي الكفر بالإيمان، وقال مجاهد آمنوا ثم كفروا وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال واعتاضوا عن الهدى بالضلالة وهو معنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي بذلوا الهدى ثمناً للضلالة وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى فيهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق آخر منهم فإنهم أنواع وأقسام ولهذا قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة وما كانوا مهتدين(1/70)
أي راشدين في صنيعهم ذلك، وقال ابن جرير حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء.
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُون}
يقال مثل ومثل ومثيل أيضاً والجمع أمثال، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يُبصر ولا يهتدي وهو مع هذا أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال والتشبيه ههنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات واحتج بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} ، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية ههنا وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان أي في الدنيا ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة قال وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} وقال بعضهم تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً، وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه وقال آخرون الذي ههنا بمعنى الذين كما قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
قلت وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في الظلام، وقوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق {لا يُبْصِرُونَ} لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها وهم مع ذلك {صُمٌّ} لا يسمعون خيراً {بُكْمٌ} لا يتكلمون بما ينفعهم {عُمْيٌ} في ضلالة وعماية البصيرة كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.(1/71)
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة ثم إنهم نافقوا وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال والحرام والخير والشر فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر، وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية، قال: أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال مجاهد: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} قال هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً ثم يدركه عمى القلب. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} إلى آخر الآية. قال هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون، وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة، وقال الضحاك: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا دمائهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: أن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} يقول في عذاب إذا ماتوا، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} أي يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفؤوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق، وقال السدي في تفسيره بسنده: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} فكانت الظلمة نفاقهم. وقال الحسن البصري: وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السوء فلا يجد له عملاً من خير عمل به يصدق به قوله لا إله إلا الله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} قال السدي بسنده: صم بكم عمي فهم خرس(1/72)
عمي، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} يقول لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه، ولا يعقلونه وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى، وكذا قال الربيع بن أنس: وقال السدي بسنده {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} إلى الإسلام. وقال قتادة: فهم لا يرجعون، أي لا يتوبون ولا هم يذكرون,)
{أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ أن اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِير}
هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم {كَصَيّبٍ} ، والصيب المطر، قال ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن أنس، وقال الضحاك: هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وقال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} {وَ الْبَرْقُ} هو ما يلمح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} أي ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً لأن الله محيط بقدرته وهم تحت مشيئته وإرادته كما قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} بهم ثم قال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} يقول يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كلما أضاء لهم مشوا فيه يقول كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين، وهكذا قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر والله أعلم، وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ(1/73)
نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} وقال في حق المؤمنين {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الآية، وقال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ذكر الحديث الوارد في ذلك
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أو بين صنعاء ودون ذلك حتى أن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه، رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر القطان عن قتادة بنحوه، وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً على إبهامه يطفأ مرة ويتقد مرة، وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قال على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى، وقال ابن أبي حاتم أيضاً حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا، وقال الضحاك بن مزاحم يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً فإذا انتهى إلى الصراط طفي نور المنافقين فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا فقالوا ربنا أتمم لنا نورنا.
فإذا تقرر هذا صار الناس أقساماً، مؤمنون خلص وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة وكفار خلص وهم الموصوفون بالآيتين بعدها ومنافقون وهم قسمان: خلص وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع الإيمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي وهم أخف حالاً من الذين قبلهم، وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط كما سيأتي تقريره في موضعه أن شاء الله، ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء، وهم أصحاب الجهل المركب في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} الآية، ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط وهم الذين قال تعالى فيهم {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فقسم الكفار ههنا إلى قسمين: داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة الحج {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} وقال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها، وفي سورة(1/74)
الإنسان إلى قسمين: سابقون وهم المقربون وأصحاب يمين وهم الأبرار.
فتلخّص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون، وأن المنافقين أيضاً صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان وشعبة من نفاق. إما عملي لهذا الحديث أو اعتقادي كما دلت عليه الآية كما ذهب عليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي أن شاء الله. قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية يعني شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" وهذا إسناد جيد حسن.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} قال لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} قال ابن عباس أي أن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير. ومعنى قدير قادر كما معنى عليم عالم، وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون أو، في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} بمعنى الواو كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أو تكون للتخيير أي اضرب لهم مثلاً بهذا وإن شئت بهذا، قال القرطبي: أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين على ما وجهه الزمخشري أن كلا منهما مساو للأخر في إباحة الجلوس إليه ويكن معناه على قوله سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم (قلت) وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم، والله أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلى أن قال {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} الآية: فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب.
{يَاأَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(1/75)
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألهويته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشاً أي مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات والسماء بناء وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} والمراد به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقاً لهم ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن، ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" الحديث، وكذا حديث معاذ أتدري ما حق الله على عباده ؟ "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" الحديث، وفي الحديث الآخر "لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان" وقال حماد بن سلمة حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين لأمها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن اليهود، قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد، قال ثم مررت بنفر من النصارى فقلت من أنتم ؟ قالوا نحن النصارى، قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "هل أخبرت بها أحداً ؟" قلت: نعم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة به، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه، وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده" رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به، هذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وبه عن ابن عباس {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه، وهكذا قال قتادة، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبو عمرو حدثنا أبو الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} قال الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك، وفي(1/76)
الحديث أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء وشئت، قال: "أجعلتني لله نداً" وفي الحديث الآخر: "نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون ما شاء الله وشاء فلان" قال أبو العالية فلا تجعلوا لله أنداداً أي عدلاء شركاء، وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد، وقال مجاهد {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة
قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطى بها فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهم وإما أن أبلغهن، فقال يا أخي إني أخشى أن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهم وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا، وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، وقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم، فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله كثيراً وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آمركم بخمسٍ الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم" قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ فقال: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسملين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله" هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الآية قوله: "وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً" وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال: يا سبحان الله أن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟.
وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوال والنغمات، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مفكرفي(1/77)
أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع، فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا علي يديه. وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذا انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز:
فيا عجباً كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وقال آخرون من تأمل هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وماذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.
{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ}
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطباً للكافرين: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به أن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك، قال ابن عباس: شهداءكم أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك شركاءكم أي قوماً آخرين يساعدونكم على ذلك، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم، وقال مجاهد وادعوا شهداءكم قال ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص {قُلْ فَأْتُوا(1/78)
بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} وقال في سورة سبحان {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} وقال في سورة يونس: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الآية { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} - أي شك - { مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا} - يعني محمداً صلى الله عليه وسلم - {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ} يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والطبري والزمخشري والرازي، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل من التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وقال بعضهم من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني من رجل أمي مثله، والصحيح الأول، لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} ولن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً مقدماً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر أن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيت أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وإجمالاً ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه أن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا، لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والأذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ(1/79)
وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} وقال في الزجر: {فَكُلاَّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} وقال في الوعظ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف، إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الآية، وان جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الآخرة، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" - لفظ مسلم - وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما كان الذي أوتيته وحياً" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليس معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم، وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة.
وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة، فقال: أن كان هذا القرآن معجزاً في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أما الوقود، بفتح الواو، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} وقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حراً إذا حميت أجارنا الله منها، وقال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط بن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قال هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، أما(1/80)
الحجارة فهي من كبريت أسود يعذبون به مع النار، وقال مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة، وقال أبو جعفر محمد بن علي حجارة من كبريت، وقال ابن جريج حجارة من كبريت أسود في النار، وقال لي عمرو بن دينار: أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية، حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول، قال لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي، وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم أخذ النار بهذه الحجارة أيضاً مشاهد، وهذا الجص يكون أحجاراً فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذاباً لأهلها، قال وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف، ثم قال القرطبي وقد فسر بمعنيين، أحدهما أن كل من آذى الناس دخل النار، والآخر أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك.
وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان وأعدت أي رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر، وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ} أي أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها "تحاجت الجنة والنار" ومنها "استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم، وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس.
تنبيه ينبغي الوقوف عليه) قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وقوله في سورة يونس: {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عن المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً وقد قال الرازي في تفسيره فإن قيل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} يتناول سورة الكوثر وسورة العصر، وقل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم أن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين (قلنا) فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا أن بلغت هذه السور في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك، كان امتناعهم من المعارضة مع شدة(1/81)
دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً، فعلى التقديرين يحصل المعجز، هذا لفظه بحروفه والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة قال الشافعي رحمه الله، لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين ؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال ولقد أنزل علي مثلها، فقال: وما هو ؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر فقر، ثم قال كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب.
{وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أن لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عطف يذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه أن شاء الله فلهذا قال تعالى: {وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أن لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ } فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: أن أنهارها تجري في غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، ولا منافاة بينها فطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم. وقال ابن أبي حاتم: قرأ على الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا أبو ثوبان عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهار الجنة تفجر تحت تلال أو من تحت جبال المسك" وقال أيضاً حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق، قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل المسك.
وقوله تعالى: {كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل، قال إنهم أُتُوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وهكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ونصرة بن جرير، وقال عكرمة {قَالُواْ هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} قال معناه مثل الذي كان بالأمس، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد يقولون ما أشبهه به قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل هذا الذي رزقنا من قبل ثمار الجنة من قبل هذا لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} قال سنيد بن داود حدثنا شيخ من أهل المصيصة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال يؤتى أحدهم بالصفحة من الشيء فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل، فتقول الملائكة كُلْ فاللون واحد والطعم مختلف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير، قال عشب الجنة الزعفران وكثبانها(1/82)
المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها، ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفاً به، فتقول لهم الوالدان: كلوا فاللون واحد والطعم مختلف، وهو قول الله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} قال: يشبه بعضه بعضاً، ويختلف في الطعم، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} يعني في اللون والمرأى وليس يشتبه في الطعم، وهذا اختيار ابن جرير، وقال عكرمة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} قال يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب، وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس لا يشبه شيئاً مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء، وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، ورواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} قال يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا التفاح بالتفاح والرمان بالرمان، قالوا في الجنة هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا وأتوا به متشابهاً يعرفونه وليس هو مثله في الطعم.
وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى، وقال مجاهد، من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد، وقال قتادة مطهرة من الأذى والمأثم، وفي رواية عنه لا حيض ولا كلف، وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثني يونس بن عبد الأعلى. أنبأنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: المطهرة التي لا تحيض، قال وكذلك خلقت حواء عليها السلام، فلما عصت قال الله تعالى: إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة - وهذا غريب، وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد حدثني جعفر بن محمد بن حرب وأحمد بن محمد الجوزي قالا: حدثنا محمد بن عبيد الكندي، حدثنا عبد الرزاق بن عمر البزيعي، حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قال من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق. هذا حديث غريب - وقد رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن يعقوب بن الحسن بن علي بن عفان عن محمد بن عبيد به، وقال صحيح على شرط الشيخين، وهذا الذي ادعاه فيه نظر، فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به (قلت) والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كريم بر رحيم.
{إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْى أن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ الّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون}(1/83)
قال السدي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وقال سعيد عن قتادة أي أن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئاً مما قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (قلت) العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية وليس كذلك، وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب، والله أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا مثل في القرآن إذا امتلؤوا من الدنيا رياً أخذهم الله عند ذلك ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} هذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه فالله أعلم، فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي لأنه أمس بالسورة وهو مناسب، ومعنى الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف وقيل لا يخشى أن يضرب مثلاً ما، أي: أيّ مثل كان بأي شيء كان صغيراً كان أو كبيراً وما ههنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل كما تقول لأضربن ضرباً ما، فيصدق بأدنى شيء أو تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة، واختار ابن جرير أن ما موصولة وبعوضة معربة بإعرابها، قال وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ونكرة أخرى كما قال حسان بن ثابت:
يكفي بنا فضلاً على من غيرنا ... حب النبي محمد إيانا
قال ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام: أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها، وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة بعوضة بالرفع، قال ابن جني وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله: {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي على الذي هو أحسن، وحكى سيبوبه: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً، أي بالذي هو قائل لك شيئاً وقوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} فيه قولان: أحدهما فما دونها في الصغر والحقارة كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء" والثاني: فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار ابن جرير، فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" فأخبر أنه لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ(1/84)
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} الآية، ثم قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} الآية، كما قال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية. قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} الآية. وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} وفي القرآن أمثال كثيرة، قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} وقال مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها. وقال قتادة {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله، وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال أبو العالية {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يعني هذا المثل {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} كما قال في سورة المدثر {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} وكذلك قال ههنا {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة يضل به كثيراً يعني به المنافقين ويهدي به المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم، وأنه لما ضرب له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به، ويهدي به يعني المثل كثيراً من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق لما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} قال هم المنافقون، وقال أبو العالية {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} قال هم أهل النفاق وكذا قال الربيع بن أنس، وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} قال يقول يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} فسقوا فأضلهم الله على فسقهم، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} يعني الخوارج. وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال سألت أبي فقلت: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} إلى آخر الآية: فقال: هم الحرورية، وهذا الإسناد وإن صح عن(1/85)
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على عليّ بالنهروان، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل لأنهم سموا خوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام، والفاسق في اللغة هو الخارج عن الطاعة أيضاً، وتقول العرب فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال للفأرة فويسقة لخروجها عن حجرها للفساد، وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به من الآية الفاسق الكافر، والله أعلم بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وهذه الصفات صفات الكفار المبانية لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} الآيات، إلى أن قال {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم عما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذ الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهد إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا وهو حسن، وإليه مال الزمخشري فإنه قال، فإن قلت: فما المراد بعهد الله ؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمرٌ وصّاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} وقال آخرون: العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآيتين، ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به، وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ(1/86)
بَعْدِ مِيثَاقِهِ} - إلى قوله - {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قال هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال، إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضاً، وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} قال: هو ما عهد إليهم في القرآن، فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قيل المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ورجحه ابن جرير، وقيل المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وقال الضحاك عن ابن عباس كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه خسر الرجل يخسر الرجل يخسر خسراً وخساراً كما قال جرير بن عطية:
إن سليطاً في الخسار ... إنه أولاد قوم خلقوا أقن
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون}
يقول تعالى محتجاً على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ} أي كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} أي وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} والآيات في هذا كثيرة، وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} قال هي التي في البقرة {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: كنتم أمواتاً فأحياكم: أمواتاً في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئاً حتى خلقكم ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم، قال وهي مثل قوله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قال كنتم تراباً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى، فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} وهكذا روي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة(1/87)
وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك، وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قال: يحييكم في القبر ثم يميتكم، وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة. وذلك كقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وهذا غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} الآية، كما قال تعالى في الأصنام {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ} الآية وقال: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}.
{هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيم}
لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلاً آخر مما يشاهدونه من خلق السموات والأرض فقال {هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي قصد إلى السماء. والاستواء ههنا مضمن معنى القصد والإقبال، لأنه عدّي بإلى فسواهن أي فخلق السماء سبعاً، والسماء ههنا اسم جنس فلهذا قال {فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيم} أي وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً ثم خلق السموات سبعاً، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره بعد هذا أن شاء الله. فأما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} فقد قيل أن ثم ههنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل، كما قال
الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبو ... هثم قد ساد قبل ذلك جده
وقيل أن الدحي كان بعد خلق السموات، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقد قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قال أن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة(1/88)
ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين فخلق الأرض على حوت، والحوت هو الذي ذكره الله في القرآن {نْ وَالْقَلَمِ} والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فالجبال تفخر على الأرض فذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك حين يقول { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} يقول أنبت شجرها {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} لأهلها {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} يقول من سأل فهكذا الأمر {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة، إنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض وأوحى في كل سماء أمرها قال خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار والجبال والبرد ومما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة حفظاً تحفظ من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حيث يقول {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ويقول {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا عبد الله بن صالح حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن سلام أنه قال: أن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} قال خلق الله الأرض قبل السماء فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك حين يقول: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} قال: بعضهن فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض، وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في سورة السجدة: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً، وقد حررنا ذلك في سورة النازعات وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} ففسر الدحي بإخرج ما كان مودعاً فيها بالقوة إلى الفعل لما أكملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعاً فيها من(1/89)
المياه فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفيسر أيضاً من رواية ابن جريح، قال أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سملة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة، فجعلوه مرفوعاً، وقد حرر ذلك البيهقي.
{وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون}
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك، وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن إذ ههنا زائدة وأن تقدير الكلام وقال ربك، وردّه ابن جرير، قال القرطبي وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج هذا اجتراء من أبي عبيدة {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} قال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} وقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} وقرى في الشاذ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} حكاها الزمخشري وغيره، ونقل القرطبي عن زيد بن علي وليس المراد ههنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن عباس وابن مسعود وجميع أهل التأويل وفي ذلك نظر بل الخلاف في ذلك كثير حكاه الرازي في تفسيره وغيره والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم، قاله القرطبي: أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك، وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وههنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً، قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك(1/90)
فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم فإني جاعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام: "يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل" فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم هم يصلون من تفسير قوله لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ، وقيل معنى قوله تعالى جواباً لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، قيل إنه جواب {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل بل تضمن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بن آدم، فقال الله تعالى لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم.
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه
قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين قال: حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالوا: قال الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قال لهم إني فاعل وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك، وقال السدي استشار الملائكة في خلق آدم، رواه ابن أبي حاتم قال: وروي عن قتادة نحوه وهذه العبارة أن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن والله أعلم {فِي الأَرْضِ}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دحيت الأرض من مكة وأول من طاف بالبيت الملائكة. فقال الله : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} يعني مكة " وهذا مرسل، وفي سنده ضعف وفيه مدرج وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك {خَلِيفَةً} قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة ؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً. قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه، وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه: قال ابن جرير وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله، إنما هي خلافة قرن منهم قرناً، قال: والخليفة الفعيلة من قولك خلف فلان فلاناً في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} ، ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفاً، قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، يقول ساكناً وعامراً(1/91)
يعمرها ويسكنها خلقاً ليس منكم. قال ابن جرير: وحدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: أن أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضاً، قال فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق فأسكنه إياها، فلذلك قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} . وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن ابن سابط: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} قال: يعنون به بني آدم، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقاً وأجعل فيها خليفة وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها. وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك، وتقدم آنفاً ما رواه الضحاك عن ابن عباس أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك فقاسوا هؤلاء بأولئك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن بكر بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عمر، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فبعث الله جنداً من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوا بجزائر البحور فقال الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} - إلى قوله - {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قال خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن فكانت الملائكة تششهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكوا، قال ابن أبي حاتم وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مبارك بن فضالة حدثنا الحسن قال: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قال لهم إني فاعل فآمنوا بربهم فعلمهم علماً وطوى علماً علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. قال الحسن: أن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون، فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام الرازي حدثنا ابن المبارك عن معروف يعني ابن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول السجل ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور فأسر إلى هاروت وماروت وكانا في أعوانه قلما قال تعالى، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . قال ذلك استطالة على الملائكة. وهذا أثر غريب وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارة توجب رده، والله أعلم، ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السياق وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم أيضاً حيث(1/92)
قال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن أبي عبيد الله حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول أن الملائكة الذين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} كانوا عشرة آلاف فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم، وهذا أيضاً إسرائيلي منكر كالذي قبله، والله أعلم. قال ابن جريج وإنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقال ابن جرير وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ؟ فأجابهم ربهم {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم، ومن بعض ما ترونه لي طائعاً قال: وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموه من ذلك، فكأنهم قالوا يا رب خبرنا - مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار - واختاره ابن جرير، وقال سعيد عن قتادة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قال استشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء - وقد علمت الملائكة أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض - ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، قال وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: أن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وقوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، قال: التسبيح والتقديس الصلاة، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ونحن نسبح بحمد ونقدس لك قال يقولون نصلي لك، وقال مجاهد ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال نعظمك ونكبرك، وقال الضحاك التقديس التطهير، وقال محمد بن إسحاق ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال: لا نعصي ولا نأتي شيئاً تكرهه. وقال ابن جرير التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم سبوح قدوس يعني بقولهم سبوح تنزيه له، وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له، وكذلك قيل للأرض أرض مقدسة يعني بذلك المطهرة، فمعنى قول الملائكة إذاً {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك {وَنُقَدِّسُ لَكَ} ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل ؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده" وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحاً في السموات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} قال قتادة فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقول في حكمة قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه(1/93)
ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعته واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع. والله أعلم. أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف. وقد نص عليه الشافعي وهل يجب الإشهاد على عقد الإمام ؟ فيه خلاف، فمنهم من قال لا يشترط وقيل بلى ويكفي شاهدان، وقال الجبائي يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف، ومعقود له وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين وفي هذا نظر، والله أعلم.
ويجب أن يكون ذكراً حراً بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً مجتهداً بصيراً خبيراً سليم الأعضاء بالحروب والآراء قرشياً على الصحيح ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة الروافض، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة السلام، "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان" وهل له أن يعزل نفسه فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك، فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام "من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان" وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم إمام الحرمين، وقالت الكرامية يجوز اثنان فأكثر كما كان علي و معاوية إمامين واجبي الطاعة، قالوا وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمام لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت وهذا يشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام أن شاء الله تعالى.
{وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلآءِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنِيَ أَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون}
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم وهذا كان بعد سجودهم له,وإنما قدم هذا الفصل على ذلك لمناسبة ما بين المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم فقال تعالى: {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا} قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا} قال: علمه أسماء ولده إنساناً والدواب فقيل: هذا الحمار،(1/94)
هذا الجمل، هذا الفرس، وقال الضحاك عن ابن عباس {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا} قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودابة وسماء وأرض وسهل وبحر وخيل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا} قال علمه اسم الصحفة والقدر، قال نعم حتى الفسوة والفسية، وقال مجاهد {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا} قال علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء، كذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء، وقال الربيع في رواية عن أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي أسماء النجوم. وقال عبد الرحمن بن زيد علمه أسماء ذريته كلهم، واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية لأنه قال {ثُمّ عَرَضَهُمْ} وهذا عبارة عما يعقل وهذا الذي رجح به ليس بلازم، فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقد قرأ عبد الله بن مسعود ثم عرضهن، وقرأ أبي بن كعب ثم عرضها أي المسميات. والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفسية يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر، ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي. ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتونه فيقول لست هناكم، ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه فيقول لست هناكم، فيقول ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة فيقول لست هناكم. فيذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه. فيقول ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه فيأتونه فيقول لست هناكم ائتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيأذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" هكذا ساق البخاري هذا الحديث ههنا، وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي عن قتادة به، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة، ووجه إيراده ههنا، والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء. فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات، ولهذا قال {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} يعني المسميات كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، قال ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس(1/95)
من الصحابة {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ثم عرض الخلق على الملائكة، وقال ابن جريج عن مجاهد ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: علمه اسم كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة، وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى: {إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين، وقال الضحاك عن ابن عباس {إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله، ومعنى ذلك فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. من غيرنا أم منا فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك. أن كنتم صادقين في قيلكم إني أن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي العليم بكل شيء الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: سبحان الله، قال تنزيه الله نفسه عن السوء، ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده لا إله إلا الله قد عرفناه، فما سبحان الله ؟ فقال لي علي: كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال، قال: وحدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا النضر بن عربي قال: سأل رجل ميمون بن مهران عن سبحان الله، قال: اسم يعظم الله به، ويحاشى به من السوء.
قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قال زيد بن أسلم قال أنت جبرائيل أنت ميكائيل أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب، وقال مجاهد في قول الله {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} قال اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء، وروي عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك، فلما ظهر آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} أي ألم أتقدم إليكم إني أعلم الغيب الظاهر والخفي كما قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وكما قال إخباراً عن الهدهد أنه قال لسليمان {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وقيل في قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} غير ما ذكرناه، فروى الضحاك عن ابن عباس {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قال يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن(1/96)
ناس من الصحابة قال قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الآية، فهذا الذي أبدوا {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك الثوري. واختار ذلك ابن جرير وقال أبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة هو قولهم لم يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فكان الذي أبدوا هو قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم، فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم، وقال ابن جرير: حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قصة الملائكة وآدم، فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته ولذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال وقد سبق من الله {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه، فقال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل. وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو أن معنى قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض وما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم، فلا يخفى علي أي شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي كانوا يكتمون ما كان عليه منطوياً إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته، قال: وصح ذلك كما تقول العرب قتل الجيش وهزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} ذكر أن الذي نادى إنما كان واحداً من بني تميم، قال وكذلك قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.
{وََإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدم فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، وقد دل على ذلك أحاديث أيضاً كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى عليه السلام "رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فلما اجتمع به قال أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته" وقال وذكر الحديث كما سيأتي أن شاء الله. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون فيه طرفها إذا ألهبت، قال: وخلق الإنسان من طين، فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، فقال: قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد، قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله للملائكة الذين كانوا معه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}. فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد(1/97)
فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك ؟ فقال الله تعالى. {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} يقول إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب، واللازب اللازج الصلب من حمأٍ مسنون منتن، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب، فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى، وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت، فهو قول الله تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت، قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويخرج من فيه، ثم يقول لست شيئاً للصلصلة ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت عليّ لأعصينك، قال: فلما نفخ الله فيه روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى: {وَكَانَ الأِنْسَانُ عَجُولاً} قال ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضراء قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بإلهام الله، فقال الله له "يرحمك الله يا آدم" قال: ثم قال تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات. اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سناً وأقوى خلقاً، خلقتني من نار وخلقته من طين، يقول أن النار أقوى من الطين، قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي آيسه من الخير كله وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الأسماء كلها وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشبه ذلك من الأمم وغيرها ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} أي يقول أخبروني بأسماء هؤلاء {إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أن كنتم تعلمون، لم أجعل في الأرض خليفة، قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم {قَالُوا سُبْحَانَكَ} تنزيهاً لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره تبنا إليك {لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} تبرياً منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم فقال {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} يقول أخبرهم بأسمائهم {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أيها الملائكة خاصة {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ولا يعلم غيري {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} يقول ما تظهرون {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يقول أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار، هذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور، وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش. فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً فوقع في صدره الكبر وقال ما أعطاني الله هذا إلا لميزة لي على الملائكة، فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} فقالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً، قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} يعني من شأن إبليس فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ با لله منك أن(1/98)
تنقص مني أو تشينني، فرجع ولم يأخذ، وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال وأنا أعوذ با لله أو أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به فبل التراب حتى عاد طيناً لازباً، واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشراً، فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، فكان أشدهم فزعاً منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فذلك حين يقول {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} يقول لأمر ما خلقت، ودخل من فيه وخرج من دبره وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال الملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله، فقال الحمد لله، فقال له الله "رحمك ربك" فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى: {خُلِقَ الأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، أبى واستكبر وكان من الكافرين، قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي ؟ قال أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين قال الله له: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ} يعني ما ينبغي لك {أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} والصغار هو الذل، قال {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ثم عرض الخلق على الملائكة فقال {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} قال الله: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قال: قولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} فهذا الذي أبدوا {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوا من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه ويقول أشياء ويقول على شرط البخاري.
والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم، دخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر، وسنبسط المسألة أن شاء الله تعالى عند قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ولذا قال محمد بن إسحاق عن خلاد عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس، قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمونه جناً، وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه،(1/99)
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشرف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد وقال سنيد، عن حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض، وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء. وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: أن من الملائكة قبيلاً يقال لهم الجن: وكان إبليس منهم، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى، فمسخه الله شيطاناً رجيماً، رواه ابن جرير، وقال قتادة عن سعد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن، قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، وهذا الإسناد صحيح عن الحسن، وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء. وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير. وقال سنيد بن داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس، فلذلك قال تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن القزاز حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال: أن الله خلق خلقاً فقال اسجدوا لآدم فقالوا: لا نفعل فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق خلقاً آخر فقال: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} اسجدوا لآدم قال: فأبوا فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق هؤلاء فقال اسجدوا لآدم قالوا نعم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم - وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده فإن فيه رجلاً مبهماً ومثله لا يحتج به، والله أعلم. وقال أنبأني حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبد الله بن بريدة: قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} من الذين أبوا فأحرقتهم النار، وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} يعني من العاصين وقال السدي {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد، وقال محمد بن كعب القرضي ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر، قال الله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} وقال قتادة في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته، وقال بعض الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا، قال معاذ: قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال: "لا لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ورجحه الرازي، وقال بعضهم بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وفي هذا التنظير نظر، والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكراماً وإعظاماً واحتراماً وسلاماً، وهي طاعة لله عزّ وجلّ لأنها امتثال(1/100)
لأمره تعالى، وقد قواه الرازي في تفيسره وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال، وقال قتادة في قوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام ما أعطاه من الكرامة، وقال: أنا ناري وهذا طيني، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام، قلت وقد ثبت في الصحيح "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" وقد كان في إبليس من الكبر - والكفر - والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرجمة وحضرة القدس، قال بعض المعربين وكان من الكافرين أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه كما قال {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} وقال: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال الشاعر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها ...
قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
أي قد صارت وقال ابن فورك: تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين، ورجحه القرطبي، وذكر ههنا مسألة فقال: قال علماؤنا من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته خلافاً لبعض الصوفية والرافضة هذا لفظه، ثم استدل على ما قال: بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أن يوافي الله بالإيمان وهو لا يقطع لنفسه لذلك يعني والولي الذي يقطع له بذلك في نفس الأمر قلت وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضاً بما ثبت عن ابن صياد أنه قال: هو الدخ حين خبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} وبما كا يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما ثبت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب، وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي قلت للشافعي كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء: هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض أو عام في ملائكة السموات والأرض، وقد رجح كلا من القولين طائفة، وظاهر الآية الكريمة العموم {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم، والله أعلم. {قُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ فَأَزَلّهُمَا الشّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ}
يقول الله تعالى إخباراً عما أكرم به آدم: بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغداً أي هنيئاً واسعاً طيباً: وروى الحافظ أبو(1/101)
بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني، حدثنا سلمة بن الفضل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله أريت آدم أنبياً كان ؟ قال: "نعم نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً" - يعني عياناً - فقال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أم في الأرض ؟ والأكثرون على الأول، وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف أن شاء الله تعالى، وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها فقال يا آدم أنبئهم بأسمائهم إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} قال ثم ألقيت السنة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحماً، وآدم نائم لم يهب من نومه حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه فقال فيما يزعمون والله أعلم "لحمي ودمي وزوجتي" فسكن إليها، فلما زوجه الله وجعل له سكناً من نفسه قال له قبلاً: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} ويقال أن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة وعن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وجشاً ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: ما أنت ؟ قالت امرأة، قال: ولم خلقت ؟ قالت لتسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه، ما اسمها يا آدم، قال: حواء، قالوا: ولِمَ سميت حواء ؟ قال: إنها خلقت من شيء حي. قال الله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا}.
وأما قوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي، فقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم، وكذا قال سعيد بن جبير والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس، وقال السدي أيضاً في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مره عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} هي الكرم. وتزعم يهود أنها الحنطة. وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة، وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم فكتب إليه أبو الجلد سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة، وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول هي البر ولكن الحبة(1/102)
منها في الجنة كَكُلَىَ البقر وألين من الزبد وأحلى من العسل، وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} قال النخلة: وقال ابن جرير عن مجاهد {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} قال التينة، وبه قال قتادة وابن جريج، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية كانت الشجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث، وقال عبد الرزاق: حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة. قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال أن الله عز وجل ثناؤه: نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل: كانت شجرة البر وقيل كانت شجرة العنب وقيل كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به، والله أعلم، وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره وهو الصواب، وقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} يصح أن يكون الضمير في قوله عنها عائداً إلى الجنة فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود فأزالهما أي فنحاهما: ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة فأزلهما أي من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي بسببها، كما قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي قرار وأرزاق وآجال - إلى حين - أي إلى وقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة، وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم ههنا أخباراً إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك أن شاء الله في سورة الأعراف فهناك القصة أبسط منها ههنا، والله الموفق، وقد قال ابن أبي حاتم ههنا: حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر" فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء. قال: وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما ذاق آدم من الشجرة فر هارباً فتعلقت شجرة بشعره فنودي: يا آدم أفراراً مني ؟ قال: بل حياء منك، قال: يا آدم اخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقاً ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين" هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله عنهما.(1/103)
وقال الحاكم حدثنا أبو بكر بن بَالُوَيه عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمرو عن زائدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال عبد بن حميد في تفسيره حدثنا روح عن هشام عن الحسن، قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا. وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة فأخرج آدم معه غصناً من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة. وقال السدي: قال الله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} فهبطوا ونزل آدم بالهند ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة، فبثه بالهند فنبتت شجرة الطيب فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق التي هبط بها آدم، وإنما قبضها آدم أسفاً على الجنة حين أخرج منها، وقال عمران بن عيينة. عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أهبط آدم من الجنة بِدَحْنا أرض الهند. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان، رواه ابن أبي حاتم. وقال محمد بن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا محمد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة. وقال رجاء بن سلمة أهبط آدم عليه السلام يداه على ركبتيه مطأطئاً رأسه، وأهبط إبليس مشبكاً بين أصابعه رافعاً رأسه إلى السماء وقال عبد الرزاق قال معمر أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى، قال: "إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير"، وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها" رواه مسلم والنسائي. وقال الرازي: أعلم أن في هذه الآية تهديداً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه (الأول) أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي، قال الشاعر:
يا ناظراً يرنو بعيني راقد ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت ربك حين أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد
وقال ابن القاسم:
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
قال الرازي عن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوماً من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء، فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة، وقد طرد من هنالك طرداً قدرياً، والقدري لا يخالف ولا يمانع ؟ فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: أن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء، كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية، وأجاب الجمهور بأجوبة، أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة، فلا يمتنع، ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التوراة أنه دخل في فم(1/104)
الحية إلى الجنة. وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة. وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السماء، ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد.
{فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيم}
قيل أن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وروي هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن معدان وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو إسحاق السبيعي عن رجل من بني تميم قال: أتيت ابن عباس فسألته ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال: علم شأن الحج، وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع، أخبرني من سمع عبيد بن عمير، وفي رواية قال أخبرني مجاهد عن عبيد بن عمير، أنه قال: قال آدم: يا رب خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال "بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك" قال: فكما كتبته علي فاغفر لي، قال: فذلك قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} وقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس فتلقى آدم من ربه كلمات، قال: قال آدم عليه السلام: يا رب ألم تخلقني بيدك ؟ قيل له: بلى، ونفخت فيّ من روحك ؟ قيل له بلى، وعطست فقلت يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك ؟ قيل له: بلى، وكتبت علي أن أعمل هذا ؟ قيل له: بلى، قال: أرأيت أن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال: نعم. وهكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد عن ابن عباس بنحوه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير عن ابن عباس، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهكذا فسره السدي وعطية العوفي، وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً شبيهاً بهذا فقال: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب أن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة ؟" قال: نعم فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. قال: أن آدم لما أصاب الخطيئة قال: أرأيت يا رب أن تبت وأصلحت ؟ قال الله "إذاً أدخلك الجنة" فهي الكلمات ومن الكلمات أيضاً {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، قال: كلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي إنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية، وقوله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً} وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب، ويتوب على من يتوب، وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده، لا إله إلا هو التواب الرحيم.(1/105)
{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالّذِينَ كَفَرواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية، أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل كما قال أبو العالية: الهدى: الأنبياء والرسل والبينات والبيان، وقال مقاتل بن حيان الهدى: محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن: الهدى: القرآن، وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعم {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} قال ابن عباس: فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} كما قال ههنا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص وقد أورد ابن جرير ههنا حديثاً ساقه من طريقين عن أبي سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذي هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أُذن في الشفاعة" وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به. وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم: أنه تأكيد وتكرير، كما يقال: قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، والصحيح الأول، والله أعلم.
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتّقُونِ}
يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق كما تقول يا ابن الكريم افعل كذا، يا ابن الشجاع بارز الأبطال، يا ابن العالم اطلب العلم، ونحو ذلك. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم "هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب ؟" قالوا: اللهم نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد" وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس: أن إسرائيل كقولك عبد الله وقوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى، وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم من عبودية آل فرعون، وقال أبو(1/106)
العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب، قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} يعني في زمانهم، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه وإتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم. وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الآية وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو العالية {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} قال عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه، وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم ؟ قال: أرض عنكم وأدخلكم الجنة، وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس، وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي فاخشون، قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي أن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولهذا قال {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك، وقوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} قال بعض المعربين: أول فريق كافر به أو نحو ذلك، قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم، قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه، وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: {مَا أَنْزَلْتُ} وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن، وأما قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل،(1/107)
لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم، وقوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن، يعني البصري عن قوله تعالى، ثمنا قليلاً قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها قال: ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أن آياته كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها، وقال السدي: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} يقول: لا تأخذوا طمعاً قليلاً، ولا تكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثمن، وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} يقول: لا تأخذوا عليه أجراً، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم عَلّم مجاناً عُلمتَ مجاناً، وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علماً مما يبتغىَ به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" فأما تعليم العلم بأجرة، فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله بأجرة، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب، فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" وقوله في قصة المخطوبة "زوجتكها بما معك من القرآن" فأما حديث عبادة بن الصامت، أنه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن فأهدى له قوساً فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه، رواه أبو داود، وروي مثله عن أبي ابن كعب مرفوعاً، فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم: أبو عمر بن عبد البر، على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم. وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب، قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله، ومعنى قول {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِين}
يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل، وتمويهه به، وكتمانهم الحق، وإظهارهم الباطل: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فنهاهم عن الشيئين معاً،(1/108)
وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به، ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس - ولا تلبسوا الحق بالباطل: لا تخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب. وقال أبو العالية - ولا تلبسوا الحق بالباطل - يقول، ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه وقال قتادة {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ} ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصراينة بدعة ليست من الله، وروي عن الحسن البصري نحو ذلك، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، وروي عن أبي العالية نحو ذلك وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس {وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم (قلت) وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً، ويحتمل أن يكون منصوباً، أي لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود وتكتمون الحق أي في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضاً، ومعناه وأنتم تعلمون الحق، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم، والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: كونوا معهم ومنهم، وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص، وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وآتوا الزكاة، قال: ما يوجب الزكاة ؟ قال: مائتان فصاعداً، وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} قال: صدقة الفطر، وقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة، وأبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير أن شاء الله تعالى، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد.
{تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون}
يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير، أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم، فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم، وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر، ويخالفون، فعيرهم الله عز وجل، وكذلك قال السدي(1/109)
وقال ابن جريج: {تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ} أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة، وقال محمد بن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركون أنفسكم {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم، أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي، وقال الضحاك عن ابن عباس: في هذه الآية يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم، وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن الحسن حدثنا مسلم الجرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني. عن أبي قلابة في قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء ؟ (قلت) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري، قالا: حدثنا هشام بن عمار حدثنا علي بن سليمان الكلبي حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" هذا حديث غريب من هذا الوجه. حديث آخر قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا وكيع حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد هو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت من هؤلاء ؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" ورواه عبد بن حميد في مسنده(1/110)
وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به، ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به، وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به، ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا موسى بن هارون حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ مكي بن إبراهيم حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم" وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضاً من حديث هشام الدستوائي عن المغيرة يعني ابن حبيب ختن مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك، قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم تقرض شفاههم، فقال: "يا جبريل من هؤلاء؟" قال: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أفلا يعقلون . حديث آخر - قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد: حدثنا الأعمش عن أبي وائل، قال: قيل لأسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان ؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه، ألا أسمعكم إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه، والله لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميراً بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قالوا: وما سمعته يقول ؟ قال: سمعته يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" رواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه وقال أحمد. حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعافي الأميين يوم القيامة مالا يعافي العلماء" وقد ورد في بعض الآثار: أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن أناساً من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار ؟ فو الله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل" ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزهري عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره، وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس، أن أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أبلغت ذلك ؟ قال: أرجو، قال: أن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل، قال: وما هن ؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أحكمت هذه قال: لا، قال: فالحرف الثاني ؟ قال: قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} أحكمت هذه ؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث ؟ قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الأَِّصْلاحَ} أحكمت هذه الآية ؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك، رواه ابن مردويه في تفسيره، وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا(1/111)
إليه" إسناده فيه ضعف وقال إبراهيم النخعي: أن لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وقوله إخباراً عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
{وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُو رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون}
يقول تعالى آمراً عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة، فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد، قال القرطبي وغيره: ولهذا يُسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث، وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري بن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "الصوم نصف الصبر" وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي، ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله. قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر، وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير، قال: الصبر: اعتراف العبد لله بما أصيب فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر. وقال أبو العالية في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} قال: على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله، وأما قوله: والصلاة، فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} الآية. وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة: قال حذيفة، يعني ابن اليمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حزبه أمر صلى، ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي، وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، ويقال: أخي حذيفة مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى. حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع علياً رضي الله عنه يقول: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح. قال ابن جرير: وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر بأبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: "أشكم درد" ومعناه أيوجعك بطنك ؟ قال: نعم، قال: "قم فصل، فإن الصلاة شفاء" قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا ابن علية(1/112)
حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قسم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} قال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} قال إنهما معونتان على رحمة الله. والضمير في قوله: إنها لكبيرة عائد إلى الصلاة، نص عليه المجاهد، واختاره ابن جرير، ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ} وقال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}. أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: المؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: إلا على الخاشعين الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: إلا الخاشعين يعني به المتواضعين وقال الضحاك: وإنها لكبيرة، قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين بوعده ووعيده. وهذا يشبه ما جاء في الحديث "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه" وقال ابن جرير: معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من رضا الله العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته. هكذا قال: والظاهر أن الآية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي وإن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات، فأما قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} قال ابن جرير، رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظناً، والشك ظناً، نظير تسميتهم الظلمة سدفة، والضياء سدفة، والمغيث صارخاً، والمستغيث صارخاً، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده، كما قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
يعني بذلك: تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم، وقال عمير بن طارق:
فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم ... وأجعل مني الظن غيباً مرجماً
يعني ويجعل اليقين غيباً مرجماً، قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد: كل ظن في القرآن يقين أي ظننت وظنوا، وحدثني المثنى: حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الجبري عن(1/113)
سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم، وهذا سند صحيح، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} قال: الظن ههنا يقين، قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} علموا أنهم ملاقوا ربهم كقوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} يقول علمت وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (قلت) وفي الصحيح: أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة "ألم أزوّجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول بلى فيقول الله تعالى "أظننت أنك ملاقي ؟" فيقول لا فيقول الله "اليوم أنساك كما نسيتني" وسيأتي مبسوطاً عند قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أن شاء الله تعالى.
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين}
يذكرهم تعالى بسالف نعمه إلى آبائهم وأسلافهم، وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالماً، وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى، خطاباً لهذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" ، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقيل، المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس، ولا يلزم تفضيلهم مطلقاً، حكاه الرازي وفيه نظر، وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره، وفيه نظر، لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه عليه.
{وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُون}
لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة، فقال: {وَاتّقُواْ يَوْماً} يعني يوم القيامة {لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً} أي لا يغني أحد عن أحد، كما قال {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}: وقال {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً،(1/114)
وقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} يعني من الكافرين كما قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وكما قال عن أهل النار {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وقوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} وقال: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} الآية. فأخبر تعالى أنهم أن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً، كما قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقال: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} قال سنيد: حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} قال: بدل، والبدل: الفدية، وقال السدي أما عدل فيعدلها من العدل يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهباً تفتدى به ما تقبل منها، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} يعني فداء، قال ابن أبي حاتم، وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك، وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل، قال: والصرف والعدل التطوع والفريضة، وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هاني وهذا القول غريب ههنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية، وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير: حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء، قال: قيل يا رسول الله، ما العدل ؟ قال "العدل الفدية" وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم، كما قال: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد، ولا يجير منه أحد، كما قال تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} وقال: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} الآية، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} مالكم اليوم لا تمانعون منا، هيهات ليس ذلك لكم اليوم، قال ابن جرير: وتأويل قوله: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشى والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها، وبالحسنة أضعافها، وذلك نظير قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ؟ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}(1/115)
{وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}
يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، أي خلصتكم منهم، وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب، وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأي رؤيا هالته، رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه أن شاء الله تعالى، فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها، ههنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص أن شاء الله تعالى، به الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل معناه: يديمون عذابكم، كما يقال سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال ههنا: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ثم فسره بهذا لقوله ههنا: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} وأما في سورة إبراهيم فلما قال: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل وفرعون علم على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافراً، وكسرى لمن ملك الفرس، وتبع لمن ملك اليمن كافراً، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند، ويقال كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل مصعب بن الريان، فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من اصطخر، وأيّاً ما كان فعليه لعنة الله، وقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم، أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله تعالى: {بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} قال: نعمة، وقال مجاهد {بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} قال: نعمة من ربكم عظيمة، وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي وغيرهم، وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير(1/116)
بن أبي سلمى:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
قال: فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده، وقيل: المراد بقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ} إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور ولفظه بعد ما حكى القول الأول، ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والبلاء ههنا في الشر، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان، وقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ، معناه وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلاً كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها ما في سورة الشعراء أن شاء الله، {فَأَنْجَيْنَاكُمْ} أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون، ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانةة عدوكم. قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}- إلى قوله - {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ، قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة، قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا، فدعا بشاة فذبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط، فلما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمر ربك ؟ قال: أمامك، يشير إلى البحر، فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر، فذهب به الغمر، ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى ؟ فو الله ما كذبت ولا كذبت، فعل ذلك ثلاث مرات ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطور العظيم يقول مثل الجبل - ثم سار موسى ومن معه، واتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم، فلذلك قال: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه، وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد، حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوارء، فقال: "ما هذا اليوم الذي تصومون ؟" قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى منكم" فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه، وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق عن أيوب السختياني به نحو ما تقدم، وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء" وهذا ضعيف من هذا الوجه، فإن زيداً العمي فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُون}
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى(1/117)
ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} قيل إنها: ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر، وقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني التوراة {وَالْفُرْقَانَ} وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وكان ذلك أيضاً بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقيل: الواو زائدة، والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب، وقيل، عطف عليه وإن كان المعنى واحداً، كما في قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراقشيه ... فألفى قولها كذباً ومينا
وقال الآخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد
فالكذب هو المين، والنأي: هو البعد. وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوَاْ إِلَىَ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوَاْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ}
هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حتى قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} الآية. قال: فذلك حين يقول موسى {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} أي إلى خالقكم، قلت: وفي قوله ههنا {إِلَى بَارِئِكُمْ} تنبيه على عظم جرمهم، أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال، فقال الله تعالى: أن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول، وهذا قطعة من حديث الفتون وسيأتي في سورة طه بكماله أن شاء الله. وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال موسى لقومه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. وقال ابن جرير: أخبرني القاسم بن أبي برة أنه سمع سعيد بن جبير(1/118)
ومجاهداً يقولان في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد حتى ألوى موسى بثوبه فطرحوا ما بأيديهم، فكشف عن سبعين ألف قتيل، وإن الله أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت فذلك حين ألوى موسى بثوبه وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك، وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل فجعل لحيهم توبة، وللمقتول شهادة وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حندس، فقتل بعضهم بعضاً ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك، وقال السدي في قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال: فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيداً حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل منهم سبعون ألفاً وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية البقية، فأمرهم أن يلقوا السلاح، وتاب عليهم، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيداً، ومن بقي مكفراً عنه، فذلك قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه حتى إذا فتر بعضهم، قالوا: يا نبي الله، ادع الله لنا، وأخذوا بعضديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض فألقوا السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى، ما يحزنك، أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون، وأما من بقي فقد قبلت توبته، فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل، رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه، وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم، خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثوا، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم، فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده، فجلسوا بالأفنية، وأصلت عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، فهشى موسى، وبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، فتاب الله عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم، فقالوا: يا موسى. ما من توبة، قال: بلى، اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم - الآية: فاخترطوا السيوف والجزرة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة، قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً، قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري. قال: ويتنادون فيها رحم الله عبداً صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم ثم قرأ {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ثُمّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذا سألتم رؤيتي جهرة عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريح، قال ابن عباس في هذه الآية {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّه جَهْرَةً } قال: علانية، وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد ابن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن(1/119)
عباس، أنه قال في قول الله تعالى: {لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً} أي علانية، أي حتى نرى الله، وقال قتادة والربيع بن أنس {حَتّىَ نَرَى اللّهَ جَهْرَةً} أي عياناً، وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه، قال: فسمعوا كلاماً، فقالوا {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا يقول ماتوا. وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة صيحة من السماء، وقال السدي في قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} الصاعقة: نار، وقال عروة بن رويم في قوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء، وقال السدي {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم أن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجل رجل، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون ؟ قال: فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال الربيع بن أنس كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وكذا قال قتادة، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلاً الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمروا به، وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة، فماتوا جميعاً، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي أن هذا لهم هلاك واخترت منهم سبعين رجلاً الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد، فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم، وطلب إليهم التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم - هذا سياق محمد بن إسحاق - وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل وواعدهم موسى، فاختار موسى سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، وساق البقية وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} والمراد السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى إنك لا تطلب من الله(1/120)
شيئاً إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته، وهذا غريب جداً إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضاً في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟
القول الثاني في الآية: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: أن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى، وقرأ قول الله {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون، قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أي شيء أصابكم ؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم. وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق، والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أموراً عظاماً من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح، والله أعلم.
{وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم، فقال: {وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} وهو جمع غمامة، سمي بذلك لأنه يغم السماء أي يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس، كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون، قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام، قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس، وقال الحسن وقتادة {وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} كان هذا في البرية، ظلل عليهم الغمام من الشمس، وقال ابن جرير: قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا وأطيب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} قال، ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ولم يكن إلا لهم. وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة، وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وكأنه يريد، والله أعلم، أن ليس من زي هذا السحاب بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظراً، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج، قال، قال ابن عباس {وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} قال، غمام أبرد من هذا وأطيب وهو الذي يأتي الله فيه في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس وكان معهم في التيه، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو ؟ فقال علي بن أبي طلحة(1/121)
عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه، فيأكلون منه ما شاؤوا. وقال مجاهد: المن: صمغة، وقال عكرمة: المن: شيء أنزله الله عليهم مثل الطل شبه الرّب الغليظ، وقال السدي، قالوا: يا موسى، كيف لنا بما ههنا، أي الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجرة الزنجبيل، وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية، وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وقال وهب بن منبه، وسئل عن المن، فقال، خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقى، وقال أبو جعفر بن جرير حدثني محمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن جابر عن عامر، وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه العسل، ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال:
فرأى الله أنهم بمضيع
...
لا بذي مزرع ولا مثمورا
فسناها عليهم غاديات
...
ويرىَ مزنهم خلايا وخورا
عسلاً ناطفاً وماء فراتا
...
وحليباً ذا بهجة مزمورا
فالناطف هو السائل والحليب المرمور الصافي منه، والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر، والله أعلم، أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد، فالمن المشهور أن أُكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً، وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه البخاري ومسلم من رواية الحكم عن الحسن العرني عن عمرو بن حريث به، وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان، قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" تفرد بإخراجه الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو وإلا من حديث سعيد بن عامر عنه، وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر - كذا قال - وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري، حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" وهذا حديث غريب من هذا الوجه وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بأبي محمد وقيل: أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها. ثم قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة: أن ناساً من أصحاب النبي(1/122)
صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم" وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به، وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن أياس عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة به، وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن شهر بن حوشب بقصة الكمأة فقط. وروى النسائي أيضاً وابن ماجه من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي، وبالقصتين عند ابن ماجه، وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة، فإنه لم يسمع منه بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة وبعضهم يقول: جدري الأرض، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر ابن عبد الله وأبي سعيد الخدري، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم" وقال النسائي في الوليمة أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" ثم رواه أيضاً وابن ماجه من طرق الأعمش عن أبي بشر عن شهر عنهما به، وقد رويا - أعني النسائي من حديث جرير وابن ماجه من حديث سعيد ابن أبي سلمة - كلاهما عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد رواه النسائي وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين" ورواه ابن مردويه عن أحمد بن عثمان عن عباس الدوري عن لاحق بن صواب عن عمار بن زريق عن الأعمش كابن ماجة، وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا عباس الدوري حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" وأخرجه النسائي عن عمرو بن منصور عن الحسن بن الربيع به: ثم ابن مردويه رواه أيضاً عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان عن الأعمش به، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن عبيد الله بن موسى، وقد روي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، كما قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا حمدون بن أحمد حدثنا حوثرة بن أشرس حدثنا حماد عن شعيب بن الحبحاب عن أنس: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها عن قرار، فقال بعضهم: نحسبه الكمأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم" وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا، والله أعلم. وروي عن شهر عن ابن عباس كما رواه النسائي أيضاً في الوليمة عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد عن عبد الله بن عون الخراز عن أبي عبيدة الحداد عن عبد الجليل بن عطية عن شهر عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" فقد اختلف كما ترى فيه شهر بن حوشب ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها، وقد سمعت من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم، فإن الأسانيد إليه جيدة، وهو لا يتعمد الكذب، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/123)
كما تقدم من رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وأما السلوى، فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السلوى طائر شبه بالسماني، كانوا يأكلون منه. وقال السدي في خبره، ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: السلوى طائر يشبه السماني، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس، قال: السلوى هو السماني، وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى، وعن عكرمة أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك، وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه، وقال وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت وفي رواية عن وهب قال سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحماً فقال الله لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض فأرسل عليهم ريحاً فأذرت عند مساكنهم السلوى وهو السماني مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء فخبأوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز، وقال السدي لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام كيف لنا بما ههنا أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر شبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه فقالوا: هذا الطعام. فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يخترق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} وقوله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن، قال ابن جريج، فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسداً، قال ابن عطية السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي في قوله أنه العسل وأنشد في ذلك مستشداً:
وقاسمها بالله جهداً لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما أشورها
قال فظن أن السلوى عسلاً، قال القرطبي: دعوى الإجماع لا تصح لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وهذا وذكر أنه كذلك في لغة كنانة لأنه يسلي به ومنه عين سلوان، وقال الجوهري: السلوى العسل واستشهد ببيت الهذلي أيضاً، والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا، قال الشاعر:
شربت على سلوانة ماء مزنة ... فلا وجديد العيش يامي ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان، وقال بعضهم السلوان دواء يشفي الحزين فيسلوا والأطباء يسمونه (مفرج)،(1/124)
قالوا والسلوى جمع بلفظ الواحد أيضاً كما يقال: سماني للمفرد والجمع وويلي كذلك، وقال الخليل واحده سلواة، وأنشد:
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتقض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوي، نقله كله القرطبي، وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أمر إباحة وإرشاد وامتنان، وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا كما قال {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات، وخوراق العادات، ومن ههنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}
يقول تعالى لائما على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا} الآيات. وقال آخرون هي أريحاء، ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد وهذا بعيد لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحاء، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام وفتحها الله عليهم عشية جمعة وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد {سُجّداً} أي شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال،(1/125)
قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} أي ركعاً، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} قال ركعاً من باب صغير، رواه الحاكم من حديث سفيان به، ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به وزاد فدخلوا من قبل أستاههم، وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي، وحكي عن بعضهم أن المراد ههنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته، وقال خصيف: قال عكرمة قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك هو باب الحطة من باب إيلياء بيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القبلة، وقال خصيف قال عكرمة قال ابن عباس فدخلوا على شق، وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود قيل لهم ادخلوا الباب سجّداً فدخلوا مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا، وقوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال مغفرة استغفروا، وروي عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه، وقال الضحاك عن ابن عباس {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال عكرمة قولوا {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} فكتب إليه أن أقروا بالذنب، وقال الحسن وقتادة أي أحطط عنا خطايانا {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وقال: هذا جواب الأمر أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكن الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه، ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعى إليه روحه الكريمة أيضاً، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر كما روى أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا وأنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً لله على ذلك، ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى، فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى، وقال آخرون بل هي صلاة الفتح فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلداً أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم، وقيل يصليها كلها بتسليم واحد، والله أعلم.
وقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} قال البخاري حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيل لبني اسرائيل ادخلوا الباب سجداً قولوا حطة - فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة" ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفاً وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسنداً في قوله تعالى:: {حِطَّةٌ} قال: فبدلوا وقالوا حبة، وقال عبد الرزاق أنبأنا(1/126)
معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة" وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد بن حميد كلهم عن عبد الرازق به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً - يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعيرة" وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن سليمان بن داود حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الله لبني إسرائيل {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} ثم قال أبو داود حدثنا أحمد بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله، هكذا رواه منفرداً به في كتاب الحروف مختصراً، وقال ابن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم" وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} قال اليهود: قيل لهم ادخلوا الباب سجداً قال: ركعاً، وقولوا حطة أي مغفرة، فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون حنطة حمراء فيها شعيرة، فذلك قول الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وقال الثوري عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود وقولوا حطة، فقالوا حنطة، حبة حمراء فيها شعيرة، فأنزل الله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا هطا سمعاتا أزبة مزبا، فهي بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء فذلك قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى: {دْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} قال ركعاً من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة، فذلك قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وهكذا روي عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع. وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل فأمروا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم وأمروا أن يقولوا حطة أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا، فاستهزؤوا فقالوا حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته. ولهذا قال: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب، وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب وقال أبو العالية الرجز الغضب، وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد، وقال سعيد بن جبير هو الطاعون، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم، قالوا: قال رسول(1/127)
الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم" وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت "إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها" الحديث، قال ابن جرير أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري، قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الوجع والسقم رجز عُذب به بعض الأمم قبلكم" وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه.
{وَإِذِ اسْتَسْقَىَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلّ أُنَاسٍ مّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ}
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر معكم وتفجيري الماء لكم منه من إثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولاكد واعبدوا الذي سخر لكم ذلك: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ} ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع وأمر موسى عليهالسلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول، وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل. وقال عطية العوفي: وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور يحمل على ثور فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء وقال عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه: كان لبني اسرائيل حجر فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا، وقال قتادة: كان حجراً طورياً من الطور يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، وقال الزمخشري وقيل كان من الرخام وكان ذراعاً في ذراع وقيل مثل رأس الإنسان وقيل كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار، قال: وقيل اهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا وقيل هوالحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس، فقالوا أن فقد موسى هذا الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون، والله أعلم، وقال يحيى بن النضر: قلت لجويبر: كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين، وقال الضحاك: قال ابن عباس لما كان بنو اسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً، وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من(1/128)
ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها، وقال مجاهد نحو قول ابن عباس وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف ولكن تلك مكية، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب لأن الله تعالى يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل لهم. وأما في هذه السورة - وهي البقرة - فهي مدنية، فلهذا كان الخطاب فيها متوجهاً إليهم,. وأخبر هناك بقوله: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} وهو أول الانفجار، وأخبر ههنا بما آل إليه الحال آخراً وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار ههنا وذاك هناك، والله أعلم، وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الزمخشري في تفسيره وأجاب عنها بما عنده، والأمر في ذلك قريب. والله أعلم.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ}
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقول وفوم فقالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم، فهو مأكل واحد: فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم، فقد اختلف السلف في معناه، فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء، وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه، بالثوم. وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصريو عن يونس، عن الحسن، في قوله: {وَفُومِهَا} قال: قال ابن عباس: الثوم، قال وفي اللغة القديمة: فوموا لنا بمعنى اختبزوا، قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحاً، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما، والله أعلم. وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبانا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس: سُئل عن قول الله: {وَفُومِهَا} مافومها ؟ قال الحنطة. قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح، وهو يقول:
قد كنت أغني الناس شخصاً واحداً ... ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجهني، حدثنا عيسى بن يونس، عن رشيد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَفُومِهَا} قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك وعكرمة عن ابن عباس: أن الفوم الحنطة، وقال سفيان الثوري عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء {وَفُومِهَا} قالا: وخبزها، وقال هشيم عن يونس عن الحسين وحصين عن أبي مالك {وَفُومِهَا } قال: الحنطة، وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن يزيد بن أسلم(1/129)
وغيرهم، فالله أعلم، وقال الجوهري: الفوم: الحنطة، وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز. قال: وقال بعضهم: هو الحمص، لغة شامية، ومنه يقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي، قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم وقوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع، وقوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً} هكذا هو منون مصروف، مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف. وقال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك. وقال ابن عباس {اهْبِطُوا مِصْراً} قال: مصر من الأمصار، رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك، وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود {اهْبِطُوا مِصْراً} من غير إجراء، يعني من غير صرف ثم روي عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون، وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضاً قال وابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضاً. ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى: {قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ} ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار ؟ وهذا الذي قاله فيه نظر، والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره، والمعنى على ذلك لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه. ولهذا قال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} أي ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم.
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}
يقول تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً أي لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون. قال الضحاك، عن ابن عباس: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} قال: هم أصحاب النيالات يعني الجزية. وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن، وقتادة في قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال الضحاك: وضربت عليه الذلة، قال: الذل. وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم تحت أقدام المسلمين ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة الفاقة، وقال عطية العوفي: الخراج، وقال الضحاك: الجزية، وقوله تعالى: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ} قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس: فحدث عليهم غضب من الله، وقال سعيد بن جبير: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ} يقول: استوجبوا سخطاً، وقال ابن جرير: يعني بقوله: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ} انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر يقال من: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء، ومنه قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ}(1/130)
يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام: إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم من الذلة، بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع، وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق، ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: قال ابن مسعود: كنت لا أحجب عن النجوى، ولا عن كذا ولا عن كذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي، فأدركته من آخر حديثه وهو يقول: يا رسول الله، قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أن أحداً من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما,أليس ذلك هو البغي ؟ فقال: "لا ليس ذلك من البغي ولكن البغي من بطر، أو قال: سفه الحق وغمط الناس" يعني رد الحق، وانتقاص الناس، والازدراء بهم، والتعاظم عليهم، ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله، وقتلهم أنبياءه، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة جزاء وفاقاً، قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أوقتل نبياً وإمام ضلالة وممثل من الممثلين} وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به، والله أعلم.
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
لما بيّن تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى آخر الآية، وقال السدي {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ(1/131)
صَالِحاً} الآية، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم، فقال كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون لك ويشهدون أنك ستبعث نبيا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان هم من أهل النار"، فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية وفكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء كان من تمسك بالتوارة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً وإيمان النصارى أن من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً. قال ابن أبي حاتم، وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا، قلت وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية - قال - فأنزل الله بعد ذلك {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوارة في زمانهم. واليهود من الهوادة وهي المودة، أو التهود وهي التوبة، كقول موسى عليه السلام {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوارة، فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، سموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً، كما قال عيسى عليه السلام {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} وقيل: إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها ناصرة، قاله قتادة وابن جريج، وروي عن ابن عباس أيضاً، والله أعلم. والنصارى جمع نصران، كنشاوى جمع نشوان، وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة نصرانة وقال
الشاعر:
نصرانة لم تحَذّف
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر. وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الاَتية، وأماالصابئون فقد اختلف فيهم، فقال سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى و ليس لهم دين، وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه، وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وأبو الشعثاء، جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحم ومناكحتهم، وقال هشيم، عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتبة، فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس فقال الحكم، ألم أخبركم بذلك، وقال عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن ذكر الصابئين فقال: هم قوم يعبدون الملائكة، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة،(1/132)
ويصلون الخمس قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية، قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة، وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور ويصلون للقبلة، وكذا قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال: الصابئون قوم مما يلي العراق وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوماً، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال: الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفراً، وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله، قال: ولم يؤمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم، يعني في قول لا إله إلا الله، وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن نجيح، أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم، وأنها فاعلة، ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها، قال وهذا القول هو المنسوب إلى الكثرابنين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم ومبطلاً لقولهم وأظهر الأقوال والله أعلم، قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتنونه، ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابىء، أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذلك. وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ}
يقول تعالى مذكراً بني إسرائيل ما أخد عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له، واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق، رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وجزم وامتثال، كما قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف، ونص على ذلك ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس وغير واحد، وهذا ظاهر، في رواية عن ابن عباس الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور، وفي حديث الفتون عن ابن عباس أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا وقال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجداً فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر فرحمهم الله فكشفه عنهم، فقالوا والله ما سجدة أحب إلى اللهم سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك، وذلك قول الله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} وقال الحسن في قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} يعني التوارة وقال أبو العالية والربيع بن أنس: بقوة أي بطاعة، وقال مجاهد بقوة بعمل ما فيه، وقال قتادة(1/133)
{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} القوة: الجد وإلا قذفته عليكم، قال: فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا به بقوة، ومعنى قوله وإلا قذفته عليكم أي أسقطته عليكم، يعني الجبل، وقال أبو العالية والربيع {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} يقول: اقرؤوا ما في التوارة واعملوا به، وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ} يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتهم ونقضتموه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ}
يقول تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعاً لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة وفكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} القصة بكمالها، وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل أيله، وكذا قال قتادة، وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة أن شاء الله وبه الثقة، وقوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه الله {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} ورواه ابن جرير عن المثنى، عن أبي حذيفة وعن محمد بن عمر الباهلي وعن أبي عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به، وهذا سند جيد عن مجاهد، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} الآية، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير وقال شيبان النحوي عن قتادة {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فصار القوم قردة تعاوى، لها أذناب بعد ما كانوا رجالاً ونساءً وقال عطاء الخراساني: نودوا يا أهل القرية {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فلان ألم ننهكم ؟ فيقولون برؤوسهم: أي بلى، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة بالمصيصية، حدثنا محمد بن مسلم، يعني الطائفي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً، ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل، وقال الضحاك، عن ابن عباس: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم يقول إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب(1/134)
ولم ينسلوا وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء، ويحوله كما يشاء، وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال: يعني أذلة صاغرين، وروي عن مجاهد وقتادة والربيع وأبي مالك نحوه، وقال محمد بن إسحاق عن داود بن أبي الحصين عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: أن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به، فلما أبو إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره، وكانوا في قرية بين أيلة والطور، يقال لها: مدين، فحرم الله عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها، وكانوا إذا كان يوم السبت، أقبلت إليهم شرعاً إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت، ذهبن فلم يروا حوتاً صغيراً ولا كبيراً، حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعاً، حتى إذا ذهب السبت، ذهبن فكانوا كذلك، حتى طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجل منهم فأخذ حوتاً سراً يوم السبت فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتداً في الساحل فأوثقه تم تركه، حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إني لم آخذه في يوم السبت، فانطلق به فأكله، حتى إذا كان يوم السبت الآخر عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان، ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل، قال: ففعلوا كما فعل، وصنعوا سراً زماناً طويلاً لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق، فقالت طائفة منهم من أهل البقية: ويحكم اتقوا الله ونهوهم عما كانوا يصنعون، فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا، {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} بسخطنا أعمالهم {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم فقدوا الناس فلم يروهم، قال: فقال بعضهم لبعض: أن للناس شأناً، فانظروا ما هو فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم كما يغلق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد، قال: قال ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه نجى الذين نهوا عن السوء لقد أهلك الله الجميع منهم، قال: وهي القرية التي قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} الآية، وروى الضحاك عن ابن عباس نحواً من هذا، وقال السدي في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال: هم أهل أيلة، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت، وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئاً، فلم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت، فذلك قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ} فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهراً إلى البحر، فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث فيها، فإذا كان يوم الأحد، جاء فأخذه، فجعل الرجل يشوي السمك، فيجد جاره روائحه، فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك، فقال لهم علماؤهم: ويحكم، إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحل لكم، فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، قال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، قال: وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض(1/135)
الذين نهوهم لبعض {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} يقول: لمَ تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعونكم ؟ فقال بعضهم {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فلما أبوا، قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار وففتح المسلمون باباً والمعتدون في السبت باباً ولعنهم داود عليه السلام، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم، والكفار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم فلما أبطؤوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض، فذلك قول الله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وذلك حين يقول {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآية: فهم القردة (قلت) والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة، بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله، من أن مسخهم إنما كان معنوياً لا صورياً، بل الصحيح أنه معنوي وصوري، والله أعلم. وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} قال بعضهم: الضمير في فجعلناها عائد على القردة وقيل على الحيتان وقيل على العقوبة وقيل على القرية حكاها ابن جرير والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم {نَكَالاً} أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} وقوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أي من القرى، قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} منه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} الآية، على أحد الأقوال، في المكان كما قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى فالمراد لما بين يديها وما خلفها من القرى، وكذا قال سعيد بن جبير: لما بين يديها وما خلفها، قال: من بحضرتها من الناس يومئذٍ. وروي عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} قال: ما قبلها من الماضين في شأن السبت، وقال أبو العالية والربيع وعطية: وما خلفها لما بقي بعدهم من الناس بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم، وكان هؤلاء يقولون: "المراد لما بين يديها وما خلفها في الزمان". وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به، وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم ؟ وهذا لعل أحداً من الناس لا يقوله بعد تصوره فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى، كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، والله أعلم. وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية {فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها} أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية. لما بين يديها من ذنوب القوم وما خلفها، لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها، من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم. والثالث: أنه تعالى، جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، وهو قول الحسن.
(قلت): وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها، من بحضرتها من القرى، يبلغهم خبرها وما حل(1/136)
بها، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} الآية، وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} الآية، وقال تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم، وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} وقوله تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} الذين من بعدهم إلى يوم القيامة، وقال الحسن وقتادة {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها، وقال السدي وعطية العوفي {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم (قلت) المراد بالموعظة ههنا الزاجر أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا، وثقة الحافظ أبو بكر البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح، والله أعلم.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إن اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوَاْ أَتَتّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أن أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
يقول تعالى واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم.
ذكر بسط القصة
قال: ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض. فقال ذوو الرأي منهم والنهي: علام يقتل بعضكم بعضا، وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام، فذكروا ذلك له، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا، فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً، فذبحوها، فضربوه ببعضها، فقام: فقالوا: من قتلك ؟ فقال: هذا - لابن أخيه، ثم مال ميتاً، فلم يعطِ من ماله شيئاً، فلم يورث قاتل بعد، ورواه ابن جرير من حديث أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة بنحو من ذلك، والله أعلم. ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون به، ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره، عن أبي جعفر هو الرازي، عن هشام بن حسان به، وقال آدم بن أبي إياس في تفسره: أنبأنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى:(1/137)
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنياً، ولم يكن له ولد، وكان له قريب، وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى عليه السلام فقال له: أن قريبي قتل وأني إلى أمر عظيم، وإني لا أجد أحداً يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله، قال: فنادى موسى في الناس، فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا، فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام، فقال له: أنت نبي الله، فسل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه، فأوحى الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فعجبوا من ذلك، فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} يعني لا هرمة {وَلا بِكْرٌ} يعني ولا صغيرة {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي نصف بين البكر والهرمة {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أي صاف لونها {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي تعجب الناظرين {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} أي لم يذللها العمل {تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} يعني وليست بذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث {مُسَلَّمَةٌ} يعني مسلمة من العيوب {لا شِيَةَ فِيهَا} يقول: لا بياض فيها {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} قال ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: إنا أن شاء الله لمهتدون، لما هدوا إليها أبداً، فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز وعندها يتامى وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألت أضعاف ثمنها، فقال موسى: أن الله قد خفف عليكم، فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظما منها فيضربوا القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتاً كما كان، فأخذ قاتله، وهو الذي كان أتى موسى عليه السلام، فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله، وقال محمد بن جرير: حدثني محمد بن سعيد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله في شأن البقرة، وذلك أن شيخاً من بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام كان مكثراً من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته فقالوا ليت عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عيهم ألا يموت عمهم، أتاهم الشيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته، وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما، وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين، قيس ما بين القتيل والقريتين، فأيتهما كانت أقرب إليه، غرمت الدية، وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم، عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها، فلما أصبح أهل المدينة، جاء بنو أخي الشيخ فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فو الله لتغرمن لنا دية عمنا، قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا، وإنهم عمدوا إلى موسى عليه السلام، فلما أتوه، قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً على باب مدينتهم، وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا، وإن جبرائيل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه السلام، فقال: قل لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فتضربوه ببعضها، وقال السدي: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قال: كان رجل من بني إسرائيل(1/138)
مكثراً من المال، فكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي ولأخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولأكلن ديته، فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني فخرج العم مع الفتى ليلاً فملا بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده، فانطلق نحوه، فإذا بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي، فأدوا إليّ ديته، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي واعماه، فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية، فو الله أن ديته علينا لهينة، ولكن نستحي أن نعير به فذلك حين يقول تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فقال لهم موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا وتعنتوا على موسى، فشدد الله عليهم، فقالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} والفارض: الهرمة التي لا تولد، والبكر التي لم تلد إلا ولداً واحداً، والعوان النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال: نقي لونها {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} قال: تعجب الناظرين {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} من بياض ولا سواد ولا حمرة {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} فطلبوها فلم يقدروا عليها، وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلاً مرّ به معه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائماً تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفاً ؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستقيظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفاً، قال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفاً، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفاً، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف، فلما أكثر عليه قال: والله لا أشتريه منك بشيء أبداً، وأبى أن يوقظ أباه، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، وأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى، فأعطوه اثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشراً، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك، فانطلقوا به إلى موسى عليه السلام، فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدناها عند هذا وأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمناً، فقال له موسى: أعطهم بقرتك، فقال يا رسول الله، أنا أحق بمالي، فقال: صدقت، وقال للقوم: ارضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهباً، فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهباً، فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها، قال: اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك ؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه، وقال سنيد: حدثنا حجاج هو ابن محمد، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: أن سبطاً من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحداً منهم خارجاً إلا أدخلوه، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وأشرف، فإذا لم يرَ شيئاً فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا، قال: وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير أخيه، فطال عليه حياته، فقتله(1/139)
ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه، قال: فأشرف رئيس المدينة فنظر، فلم يرَ شيئاً ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات قتلتموه ثم تردون الباب، وكان موسى لما رأى القتل كثيراً في بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح ثم كف بعضهم عن بعض، فأتوا موسى، فذكروا له شأنهم، قالوا: يا موسى أن هؤلاء قتلوا قتيلاً ثم ردوا الباب، قال أهل المدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور، وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس، والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم، فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم.
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنَ لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لّوْنُهَا تَسُرّ النّاظِرِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا هِيَ أن البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّآ أن شَآءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلّمَةٌ لاّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآن جِئْتَ بِالْحَقّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم، لهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي ما هذه البقرة وأي شيء صفتها، قال ابن جرير، حدثنا أبو كريب، حدثنا ثمّام بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم - إسناد صحيح - وقد رواه غير واحد عن ابن عباس، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد، وقال ابن جريج: قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم، قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد" قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة، وقاله ابن عباس أيضاً، وقال الضحاك عن ابن عباس: عوان بين ذلك، يقول نصف بين الكبير والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر، وأحسن ما تكون، وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك، وقال السدي: العوان: النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها، وقال هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في البقرة: كانت بقرة وحشية، وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لا بسها، وذلك قوله تعالى: {تَسُرُّ(1/140)
النَّاظِرِينَ} وكذا قال مجاهد ووهب ابن منبة: كانت صفراء، وعن ابن عمر: كانت صفراء الظلف، وعن سعيد بن جبير: كانت صفراء القرن والظلف، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا نوح بن قيس، أنبأنا أبو رجاء عن الحسن في قوله تعالى: {بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال سوداء شديدة السواد، وهذا غريب، والصحيح الأول ولهذا أكد صفرتها بأنه {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} وقال عطية العوفي {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} تكاد تسود من صفرتها، وقال سعيد بن جبير {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال: صافية اللون. وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه، وقال شريك عن معمر عن ابن عمر {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال: صاف، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} تكاد تسود من صفرتها، وقال سعيد بن جبير {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} صافية اللون، وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه، وقال شريك عن معمر عن ابن عمر {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض، وقال السدي {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي تعجب الناظرين، وكذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس. وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. وفي التوارة: أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأ في التعريب، أو كما قال الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد، والله أعلم. وقوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أي لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ} إذا بينتها لنا {لَمُهْتَدُونَ} إليها، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي بن أخي منصور بن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن بني إسرائيل قالوا {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} ما أعطوا أبداً، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا، فشدد الله عليهم" وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله على السدي، والله أعلم، {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي إنها ليسن مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية، بل هي مكرمة، حسنة، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مسلمة يقول لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد: مسلمة من الشية، وقال عطاء الخراساني مسلمة القوائم والخلق لا شية فيها، قال مجاهد: لا بياض ولا سواد، وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة ليس فيها بياض، وقال عطاء الخراساني: لا شية فيها، قال لونها واحد بهيم، وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، وقال السدي: لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} ليست بمذللة بالعمل، ثم استأنف فقال: {تُثِيرُ الأَرْضَ} أي يعمل عليها بالحراثة، لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كذا قرره القرطبي وغيره: {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} قال قتادة: الآن بينت لنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقبل ذلك والله قد جاءهم الحق {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} قال الضحاك، عن ابن عباس: كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الذي(1/141)
أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا ما كادوا يذبحونها. وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس: فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها، وفي هذا نظر، لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس، وقال عبيدة ومجاهد وهب بن منبه وأبو العالية وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنهم اشتروها بمال كثير، وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك، وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة، أخبرني محمد بن سوقة عن عكرمة، قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير، وهذا إسناد جيد عن عكرمة والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضاً، وقال ابن جرير، وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة أن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه ولم يسنده عن أحد، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة، وفي هذا نظر بل الصواب، والله أعلم، ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه، وبالله التوفيق.
(مسألة) استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تعقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان، كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور من العلماء سلفاً وخلفاً بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها" وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم، إبل الدية في قتل الخطأ، وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم.
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَىَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قال البخاري: {فَادّارَأْتُمْ فِيهَا} اختلفتم وهكذا قال مجاهد قال فيما رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، إنه قال في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} اختلفتم، وقال عطاء الخراساني والضحاك: اختصمتم فيها، وقال ابن جريج {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} قال: بعضهم: أنتم قتلتموه، وقال آخرون: بل أنتم قتلمتموه، وكذ قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قال مجاهد: ما تغيبون، وقال ابن حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي، حدثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به، وخرق العادة به كائن، وقد كان معيناً في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجى من طريق صحيح عن معصوم بيانه، فنحن نبهمه كما أبهمه الله، ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أحمد بن سنان حدّثنا عفان بن مسلم حدّثنا عبد الواحد بن زياد حدّثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أن أصحاب بقرة بني(1/142)
إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها دنانير، فذبحوها، فضربوه - يعني القتيل - بعضو منها، فقام تشخب أوداجه دماً، فقالوا له من قتلك ؟ قال: قتلني فلان، وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه ضرب ببعضها، وفي رواية عن ابن عباس أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر، قال: أيوب عن ابن سيرين، عن عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها، قال معمر: قال قتادة: ضربوه بلحم فخذها فعاش، فقال: قتلني فلان، وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا النضر بن عربي عن عكرمه {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} فضرب بفخذها، فقام فقال: قتلني فلان، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك. وقال السدي: فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه فقال: قتلني ابن أخي، وقال أبو العالية: أمرهم موسى عليه السلام، أن يأخذوا عظماً من عظامها فيضربوا به القتيل، ففعلوا فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتاً كما كان، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض آرابها وقيل: بلسانهاوقيل بعجب ذنبها وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} أي فضربوه فحيي، ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} وهذه القصة، وقصة الذي خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة، ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً، كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبه، أخبرني يعلى بن عطاء، قال سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى ؟ قال: "أما مررت بواد ممحل، ثم مررت به خضراً" ؟ قال بلى. قال: "كذلك النشور" أو قال: "كذلك يحيي الله الموتى" وشاهد هذا قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ}.
(مسألة) استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثا بهذه القصة، لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله، فقال فلان قتلني، فكان ذلك مقبولاً منه، لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه، ورجحوا ذلك لحديث أنس أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بين حجرين، فقيل: من فعل بك هذا، أفلان ؟ أفلان ؟ حتى ذكروا اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، وعن مالك إذا كان لوثاً، حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك، ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثا.
{ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ}
يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى وإحيائه الموتى: {ثُمّ(1/143)
قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ} كله، فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً، ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط، فقيل له: من قتلك ؟ قال: بنو أخي قتلوني ثم قبض، فقال بنو أخيه حين قبضه الله: والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، يعني أبناء أخي الشيخ فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء: أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله نزل بذلك القرآن، وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وقال أبو علي الجياني في تفسيره {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} هو سقوط البرد من السحاب، قال القاضي الباقلاني وهذا تأويل بعيد، وتبعه في استبعاده الرازي، وهو كما قال فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل، والله أعلم، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا هشام ابن عمار، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي، حدثني يحيى بن أبي طالب يعني ويحيى بن يعقوب في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} قال: كثرة البكاء {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} قال: قليل البكاء {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} قال: بكاء القلب من غير دموع العين، وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز، وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة ولا حاجة إلى هذا، فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} وقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} الآية، وقال: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} الآية، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} الآية: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} الآية، وفي الصحيح "هذا جبل يحبنا ونحبه" وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" وفي صفة الحجر الأسود: إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة، وغير ذلك مما في معناه، وحكى القرطبي قولاً أنها للتخيير أي مثلاً لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين. وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولاً آخر: إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب، كقول القائل: أكلت خبزاً أو تمراً، وهو يعلم أيهما أكل، وقال آخر: إنها بمعنى قول القائل: كل حلوا أو حامضاً، أي لا يخرج عن واحد منهما، أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين، والله أعلم.(1/144)
(تنبيه) اختلف علماء العربية في معني قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: أو: ههنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة، كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} {عُذْراً أَوْ نُذْراً} وكما قال النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد
تريد ونصفه، قاله ابن جرير، وقال جرير بن عطية:
نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
قال ابن جرير: يعني نال الخلافة وكانت له قدراً، وقال آخرون أو ههنا بمعنى بل فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة، وكقوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وقال آخرون: معنى ذلك: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} عندكم حكاه ابن جرير، وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، كما قال أبو الأسود:
أحب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطىء أن كان غيا
وقال ابن جرير: قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد، ولكنه أبهم على من خاطبه، قال: وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات، قيل له: شككت ؟ فقال: كلا والله، ثم انتزع بقول الله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فقال: أو كان شاكاً من أخبر بهذا من الهادي منهم ومن الضال ؟ وقال بعضهم: معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها في القسوة. قال ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل، فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة¹ وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره (قلت) وهذا القول الأخير يبقى شبيهاً بقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} مع قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} وكقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} مع قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} الآية، أي أن منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، والله أعلم، وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا علي بن حفص حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله: القلب القاسي" رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج صاحب الإمام أحمد به، ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم، وروى البزار عن أنس مرفوعاً "أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، طول الأمل، والحرص على الدنيا".
{أَفَتَطْمَعُونَ أن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُوَاْ أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أن اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}(1/145)
يقول تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} أيها المؤمنون {أن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه، ثم قست قلوبهم من بعد ذلك: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ} أي يتأولونه على غير تأويله {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال: ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} وليس قوله: يسمعون التوراة كلهم قد سمعها، ولكن هم الذي سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وقال محمد بن إسحاق، فيما حدثني بعض أهل العلم: أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا تعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى، فقال: نعم، مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور، فلما غشيهم الغمام، أمرهم موسى أن يسجدوا، فوقعوا سجوداً، وكلمه ربه، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا، ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما جاؤوهم، حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا: حين قال موسى لبني إسرائيل: أن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا خلافاً لما قال الله عز وجل لهم فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقال السدي: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} قال: هي التوراة حرفوها، وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق، فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} أي مبلغاً إليه، ولهذا قال قتادة في قوله: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه، وقال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم، وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه، وقال السدي {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي أنهم أذنبوا، وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراماً والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً والباطل فيها حقاً، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئاً ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} الآية، قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، وعن ابن عباس {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي أن صاحبكم محمد رسول الله، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم، فأنزل الله {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي تقرون بأنه نبي. وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه. وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا(1/146)
تقروا به. يقول الله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وقال الضحاك عن ابن عباس: يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا، وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن" فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا: آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر. وقرأ قول الله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر، فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم، فلم يكونوا يدخلون، وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا، فيقولون: بلى، فإذا رجعوا إلى قومهم، يعني الرؤساء، فقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية، وقال أبو العالية {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني بما أنزل عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} قال كانوا يقولون: سيكون نبي فخلا بعضهم ببعض، فقالوا {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} قول آخر في المراد بالفتح، قال ابن جريج: حدثني القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله تعالى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: "يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت"، فقالوا: من أخبر بهذا الأمر محمداً ؟ ما خرج هذا القول إلا منكم {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بما حكم الله للفتح ليكون لهم حجة عليكم، قال ابن جريج عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم علياً فآذوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال السدي {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} من العذاب {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} من العذاب ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم. وقال عطاء الخراساني {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني بما قضى لكم وعليكم. وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم. وقوله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} قال أبو العالية: يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوباً عندهم، وكذا قال قتادة، وقال الحسن {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} قال: كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم خشية أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} يعني حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: وآمنا. كذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.
{وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ}(1/147)
يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ} أي ومن أهل الكتاب، قاله مجاهد، والأميون جمع أمي، وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة، قال أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد وهو ظاهر في قوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أي لا يدرون ما فيه. ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم: أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} وقال عليه الصلاة السلام "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا" الحديث، أي لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب، وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه من جهله بالكتاب دون أبيه. قال: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قول خلاف هذا، وهو ما حدثنا به أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} قال الأميون: قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله، فكتبوا كتاباً بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال هذا من عند الله، وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله، ثم قال ابن جرير: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن الأمي عند العرب الذي لا يكتب. قلت: ثم في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر، والله أعلم. وقوله تعالى: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: إلا أماني الأحاديث، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} يقول إلا قولاً يقولون بأفواههم كذباً. وقال مجاهد إلا كذباً: وقال سنيد عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} قال أناس من اليهود، لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئاً، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله ويقولون هو من الكتاب، أماني يتمنونها، وعن الحسن البصري نحوه، وقال أبو العالية والربيع وقتادة: إلا أماني يتمنون على الله ما ليس لهم، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إلا أماني، قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم، قال ابن جرير: والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس، وقال مجاهد: أن الأميين الذين وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئاً ولكنهم يتخرصون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذباً وزوراً، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه، ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت، يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب، وقيل المراد بقوله إلا أماني بالتشديد والتخفيف أيضاً: أي إلا تلاوة، فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى - أي تلا - أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية، وقال كعب بن مالك الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله آخر ليلة ... تمنى داود الكتاب على رسل
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} أي ولا يدرون ما فيه، وهم يجدون نبوتك بالظن، وقال مجاهد: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} يكذبون وقال قتادة وأبو العالية والربيع: يظنون بالله الظنون بغير الحق.(1/148)
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية، هؤلاء صنف آخر من اليهود. وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل، والويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة، وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض: سمعت أبا عياض يقول: ويل صديد في أصل جهنم وقال عطاء بن يسار: الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره" ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد، عن الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن دارج به، وقال هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة (قلت) لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده، وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوع منكر، والله أعلم. وقال ابن جرير حدثنا المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام، حدثنا صالح القشيري، حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} قال "الويل جبل في النار" وهو الذي أنزل في اليهود، لأنهم حرفوا التوراة، زادوا فيها ما أحبوا، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ولذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} وهذا غريب أيضاً جداً، وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب، وقال الخليل بن أحمد: الويل شدة الشر، وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها، وقال الأصمعي: الويل تفجع، والويح ترحم، وقال غيره: الويل: الحزن، وقال الخليل: وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب، ومنهم من فرق بينها، وقال بعض النحاة: إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة لأن فيها معنى الدعاء، ومنهم من جوز نصبها بمعنى: ألزمهم ويلاً (قلت) لكن لم يقرأ بذلك أحد، وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} قال: هم أحبار اليهود، وكذا قال سعيد عن قتادة: هم اليهود، وقال سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن علقمة: سألت ابن عباس رضي الله عنه، عن قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} قال: نزلت في المشركين وأهل الكتاب، وقال السدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمناً قليلاً، وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرؤونه غضاً لم يشب وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم، رواه البخاري من طرق عن الزهري، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {فَوَيْلٌ لَهُمْ} يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، وويل لهم مما يكسبون يقول مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.(1/149)
{وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
يقول تعالى إخباراً عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} أي بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه، قال محمد بن إسحاق عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يقولون أن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار وإنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} إلى قوله: {خَالِدُونَ} ثم رواه عن محمد، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس بنحوه، وقال العوفي عن ابن عباس {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، زاد غيره وهي مدة عبادتهم العجل، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة، وقال الضحاك وقال ابن عباس زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم، وقال أعداء الله إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتلك فذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} يعني الأيام التي عبدنا فيها العجل وقال عكرمة خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون، تعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رؤوسهم: "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد" فأنزل الله عز وجل {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} الآية، وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر، حدثنا محمد بن محمد بن صخر، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء، حدثنا ليث بن سعد، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لي من كان من اليهود ههنا" فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أبوكم" ؟ قالوا فلان، قال "كذبتم بل أبوكم فلان" فقالوا: صدقت وبررت، ثم قال لهم "هل أنتم صادقّي عن شيء أن سألتكم عنه" ؟ قالوا نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار " ؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً" ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم صادقي عن شيء أن سألتكم عنه ؟" قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟" فقالوا: نعم، قال "فما حملكم على ذلك ؟" فقالوا: أردنا أن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضر، ورواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه.
{بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1/150)
يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار، {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ} أي آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} أي عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره، فماله من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس، قال: الشرك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه، وقال الحسن أيضاً والسدي: السيئة الكبيرة من الكبائر، وقال ابن جريج، عن مجاهد {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قال: بقلبه، وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قال: أحاط به شركه، وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قال الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب، وعن السدي وأبي رزين نحوه، وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما، وقتادة والربيع بن أنس {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} والموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم. ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه " وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً، وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مّعْرِضُونَ}
يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذه ميثاقهم على ذلك وآنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصداً وعمداً وهم يعرفونه، ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} وقال تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ(1/151)
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى أن قال {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قلت: يا رسول الله أيّ العمل أفضل ؟ قال "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي ؟ قال "بر الوالدين" قلت: ثم أي ؟ قال "الجهاد في سبيل الله " ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله من أبر ؟ قال "أمك" قال: ثم من ؟ قال "أمك" قال: ثم من ؟ قال: "أباك" ؟ ثم أدناك ثم أدناك" وقوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} قال الزمخشري خبر بمعنى الطلب وهو آكد، وقيل كان أصله {أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} ونقل من قرأها من السلف، فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أبيّ وابن مسعود أنهما قرآها {لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبوبه. قال: واختاره الكسائي والفراء، قال {وَالْيَتَامَى} وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الاَباء، والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحاً في قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية، وقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أي كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس: حسناً كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو عامر الخزاز، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحقرن من المعروف شيئاً، وإن لم تجد فألق أخاك بوجه منطلق" وأخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي، وصححه من حديث أبي عامر الخزاز واسمه صالح بن رستم به، وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس: حسناً بعدما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي تركوه وراء ظهروهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة. ومن النقول الغريبة ههنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي، حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وداعة: أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهودياً ولا نصرانياً إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني ؟ فقال: أن الله تعالى يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} وهو السلام. قال: وروي عن عطاء الخراساني نحوه (قلت) وقد ثبت في السنة أنهم لا يُبدؤون بالسلام، والله أعلم.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مّن دِيَارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمّ أَنْتُمْ هَؤُلآءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مّنْكُمْ مّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىَ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاّ خِزْيٌ(1/152)
فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَىَ أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالاَخِرَةِ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}
يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الاَوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير: حلفاء الخزرج، وبنو قريظة: حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الاَخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة، ولهذا قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ولهذا قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أي لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} وذلك أن اهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وقوله تعالى: {ثمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية، قال محمد بن إسحاق بن يسار، حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية، قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير، وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة. وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائهم النضير وحلفائهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما، جمعوا له حتى يفدوه،(1/153)
فتعيرهم العرب بذلك يقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا فلم تقتلونهم ؟ قالوا: إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى فقال تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية، وقال أسباط عن السدي عن الشعبي نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية، وقال أسباط عن السدي، عن عبد خير، قال: غزونا مع سليمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مر برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله، يا رأس الجالوت، هل لك في عجوز ههنا من أهل دينك تشتريها مني ؟ قال: نعم، قال: أخذتها بسبعمائة درهم، قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشرينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه، قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا اشتريته، فأعتقه {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} قال: أنت عبد الله بن سلام ؟ قال: نعم: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين، ورد عليه ألفين. وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال عبد الله: أما أنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوارة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي استحبوها على الآخرة واختاروها {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه.
{وَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ وَقَفّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}
ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة، فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها، وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} الآية: ولهذا قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} قال السدي عن أبي مالك: أتبعنا، وقال غيره: أردفنا والكل قريب كما قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم،(1/154)
فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات، قال ابن عباس من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وإبراء الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له، وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض، كما قال تعالى إخباراً عن عيسى: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية، فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة، ففريقاً يكذبونه، وفريقاً يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم، وربما قتلوا بعضهم، ولهذا قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}.
والدليل على أن روح القدس هو جبريل، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية، وتابعه على ذلك ابن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة مع قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} ما قال البخاري وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن عروة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك" فهذا من البخاري تعليقاً، وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن سيرين والترمذي، عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزاري، ثلاثتهم، عن أبي عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام بن عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة به، قال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث أبي الزناد، وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينه، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني اللهم أيده بروح القدس" فقال: اللهم نعم، وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لحسان "اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك" وفي شعر حسان قوله:
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس به خفاء
وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفراً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أخبرنا عن الروح، فقال: "أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبرائيل وهو الذي يأتيني ؟" قالوا: نعم، وفي صحيح ابن حبان، عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" . أقوال أخر - قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا بشر عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} قال: هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وقال ابن جرير: حدثت عن المنجاب فذكره، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك، ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير أيضاً قال: وهو الاسم الأعظم. وقال ابن أبي نجيح: الروح هو حفظة على الملائكة، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: القدس هو الرب تبارك وتعالى، وهو قول كعب، وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدس: هو الله تعالى، وروحه: جبريل، وهو قول كعب، وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدس: هو الله تعالى، وروحه: جبريل. فعلى هذا يكون(1/155)
القول الأول، وقال السدي: القدس البركة. وقال العوفي عن ابن عباس: القدس: الطهر، وقال ابن جرير حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحاً كما جعل القرآن روحاً، كلاهما روح من الله، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} ثم قال ابن جرير: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: الروح في هذا الموضع: جبرائيل، فإن الله تعالى أخبر أنه أيد عيسى به كما أخبر في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} الآية، فذكر أنه أيده به، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل، لكان قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} تكرير قول لا معنى له، والله سبحانه وتعالى أعز وأجل أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به، (قلت) ومن الدليل على أنه جبرائيل ما تقدم من أول السياق، و لله الحمد، وقال الزمخشري {بِرُوحِ الْقُدُسِ} بالروح المقدسة، كما تقول: حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال: {وَرُوحٌ مِنْهُ} فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة، وقيل: لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل، قيل بالإنجيل كما قال في القرآن {رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} وقيل: باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره فتضمن كلامه قولاً آخر، وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة، وقال الزمخشري في قوله تعالى: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} إنما لم يقل وفريقاً قتلتم، لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضاً لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر وقد قال عليه السلام في مرض موته: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري" (قلت) وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره.
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مّا يُؤْمِنُونَ}
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس {وقالوا قلوبنا غلف} أي في أكنة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي لا تفقه: وقال العوفي عن ابن عباس: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} هي القلب المطبوع عليها، وقال مجاهد {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} عليه غشاوة وقال عكرمة: عليها طابع، وقال أبو العالية: أي لا تفقه، وقال السدي يقولون عليه غلاف، وهو الغطاء، وقال عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة: فلا تعي ولا تفقه، قال مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس غلف، بضم اللام، وهو جمع غلاف، أي قولبنا أوعية كل علم فلا نحتاج إلى علمك، قاله ابن عباس وعطاء {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} قال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا القليل {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} هو كقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله غلف، قال: تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} وهذا الذي رجحه ابن جرير، واستشهد بما روي من حديث عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري، عن حذيفة قال: "القلوب أربعة" فذكر منها "وقلب أغلف مغضوب عليه وذاك قلب الكافر" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن العرزمي، أنبأنا أبي، عن جدي، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قال: لم تختن، هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم وأنها بعيدة من الخير. قول آخر - قال الضحاك عن ابن عباس {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قال: يقولون قلوبنا غلف مملوءة لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وقال عطية العوفي عن ابن عباس {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}(1/156)
أي أوعية للعمل، وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيها، حكاه ابن جرير، وقالوا: قلوبنا غلف، بضم اللام، نقلها الزمخشري، أي جمع غلاف، أي أوعية، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر كما كانوا يمنون بعلم التوراة، ولهذا قال تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقد اختلفوا في معنى قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وقليل: فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: إنما كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قال: فقليلاً ما يؤمنون وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط، تريد ما رأيت مثل هذا قط، وقال الكسائي: تقول العرب: من زنى بأرض قلما تنبت، أي لا تنبت شيئاً، حكاه ابن جرير رحمه الله، والله أعلم.
{وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
يقول تعالى: {وَلَمّا جَآءَهُمْ} ، يعني اليهود، {كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ} وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ} يعني من التوراة، وقوله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ} أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، كما قال محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمرو، عن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم، قال: فينا والله وفيهم، يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة يعني: {وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} قالوا: كنا قد علوناهم قهراً دهراً في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، وهم يقولون: أن نبياً سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به، يقول الله تعالى: {فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ} قال: يستنصرون، يقولون: نحن نعين محمداً عليهم، وليسوا كذلك بل يكذبون، وقال محمد بن إسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن يهوداً كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو الذي كنا نذكر لكم، فينزل الله في ذلك من قولهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآية، وقال العوفي عن ابن عباس {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يعني بذلك أهل الكتاب، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه، وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر(1/157)
بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم، كفروا به حسداً للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال قتادة {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: وكانوا يقولون: إنه سيأتي نبي. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} وقال مجاهد {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال: هم اليهود .{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ}
قال مجاهد {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ} يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه، وقال السدي {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ} يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية ل {أن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} ولا حسد أعظم من هذا، قال ابن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي أن الله جعله من غيرهم {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} قال ابن عباس: في الغضب على الغضب، فغضب عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم (قلت) ومعنى {بَاءُوا} استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب، وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله، قال السدي: أما الغضب الأول، فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الغضب الثاني، فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس مثله. وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} لما كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار".
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}
يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} على محمد صلى الله عليه وسلم(1/158)
وصدقوه واتبعوه {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} يعني بما بعده {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} منصوباً على الحال، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ثم قال تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي أن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم ؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والاَراء والتشهي، كما قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون} وقال السدي: في هذه الآية يعيرهم الله تبارك وتعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا: نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون - أن كنتم مؤمنين بما أنزل الله - أنبياء الله يا معشر اليهود وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالاَيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، والاَيات البينات هي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد، وفرق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها ثم اتخذتم العجل أي معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه، وقوله: من بعده، أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ}، {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}، أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وانتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ أن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ}
يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم، ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وقد تقدم تفسير ذلك {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس، وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "حبك الشيء يعمي ويصم" ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح، عن بقية، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به، وقال السدي: أخذ موسى عليه السلام، العجل فذبحه بالمبرد، ثم ذراه في البحر، ثم لم يبق بحر(1/159)
يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء، ثم قال لهم موسى، اشربوا منه، فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول الله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه، قال: عمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد فبرده بها، وهو على شاطىء نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، وقال سعيد بن جبير {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} قال: لما أحرق العجل، برد ثم نسف، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران، وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب أحد "منه" ممن عبد العجل إلا جن، ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما ههنا، لأن المقصود من هذا السياق: أنه ظهر على شفاههم ووجوههم، والمذكور ههنا: أنهم أشربوا في قلوبهم العجل، يعني في حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذ ذكرت العهد منها
... أطير لو أن إنساناً يطير
وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ أن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ} أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله، ومخالفتكم الأنبياء ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمر عليكم إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين، المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان، وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة: من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله، وعبادتكم العجل من دون الله ؟.
{قُلْ أن كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآخرة عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمينَ وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَىَ حَيَاةٍ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أن يُعَمّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إن كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآخرة عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي بعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس: فتمنوا الموت فسلوا الموت وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: فتمنوا الموت أن كنتم صادقين. قال: قال ابن عباس: لو تمنى يهود الموت، لماتوا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا عثام: سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس، وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً" ، حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا زكريا(1/160)
ابن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي، حدثنا فرات عن عبد الكريم به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار، حدثنا سرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن، قال: قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم، قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين، قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه، وقد قال الله ما سمعت {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وهذا غريب عن الحسن، ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية، هو المتعين وهو الدعاء على أي الفريقي أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة، ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهم عليهم لعائن الله تعالى، لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كانوا يهوداً أو نصارى، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، لما نكلوا عن ذلك، علم كل أحد إنهم ظالمون، لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه، لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا، علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فلما رأوا ذلك، قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم، وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أميناً، ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّا} أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه، أن شاء الله تعالى.
أما من فسر الآية على معنى {إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في دعواكم، فتمنوا الآن الموت، ولم يتعرض هولاء للمباهلة، كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول، فإنه قال: القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} الآية، فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى ابن مريم عليه السلام، وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة، فقال لفريق اليهود: أن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم أن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته أن كان الأمر كما تزعمون، من أن الدار الآخرة لكم خاصة دوننا، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم، فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها، أنها أن تمنت الموت(1/161)
هلكت فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن، وآخره فيه نظر، وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم، أنهم يتمنون الموت، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيراً وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث "خيركم من طال عمره، وحسن عمله" ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم ؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى، فأما على تفسير ابن عباس: فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نصف أن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه، نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه، فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وسميت هذه المباهلة تمنياً، لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت، ولهذا قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء، وعاقبتهم عند الله الخاسرة، لأن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم، وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم، وهذا من باب عطف الخاص على العام، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا؟} قال: الأعاجم، وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه. قال: وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي، وقال الحسن البصري: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. قال: المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة، يود أحدهم أي يود أحد اليهود، كما يدل عليه نظم السياق، وقال أبو العالية: يود أحدهم، أي أحد المجوس، وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة، قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: هو كقول الفارسي "ده هزارسال" يقول: عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضاً، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو حمزة، عن الأعمش عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال هو قول الأعاجم هزارسال نوروز ومهرجان وقال مجاهد {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر، وقال مجاهد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ(1/162)
مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} أي وما هو بمنجيه من العذاب، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع ما عنده من العلم، وقال عوفي عن ابن عباس {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} قال: هم الذين عادوا جبرائيل، قال أبو العالية وابن عمر: فما ذاك بمغيثه من العذاب، ولا منجيه منه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس بمزحزحه من العذاب لو عمر كما أن عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافراً، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر، وسيجازي كل عامل بعمله.
{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَىَ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوّاً للّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَدُوّ لّلْكَافِرِينَ}
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته (ذكر من قال ذلك) حدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام" فقالوا: ذلك لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا عما شئتم" قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن، أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة، ومن وليه من الملائكة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني ؟" فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق، فقال: "نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضاً شديداً، فطال سقمه منه، فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه: لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها" فقالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد عليهم، وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل" قالوا: اللهم نعم، "قال اللهم أشهد، وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه" ؟ قالوا: اللهم نعم، قال: "اللهم اشهد"، قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: "فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه" قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك، قال: "فما يمنعكم أن تصدقوه" ؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ مَنْ(1/163)
كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ - إلى قوله - لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فعندها باؤوا بغضب على غضب، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد الرحمن بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به، ورواه أحمد أيضاً عن الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد بنحوه وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، فذكره مرسلاً وزاد فيه، قالوا فأخبرنا عن الروح، قال: "فأنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل وهو الذي يأتيني" قالوا: اللهم نعم، ولكنه عدو لنا، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، فلولا ذلك اتبعناك، فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ - إلى قوله - لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: والله على ما نقول وكيل، قال: "هاتوا" قالوا: فأخبرنا عن علامة النبي ؟ قال: "تنام عيناه ولا ينام قلبه" قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة ؟ وكيف يذكر الرجل ؟ قال: "يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت" قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال: "وكان يشتكي عرق النسا، فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا وكذا" قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل فحرم لحومها، قالوا: صدقت، قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال: "ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى" قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال: "صوته" قالوا: صدقت، قالوا: إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك أن أخبرتنا بها، أنه ليس من نبي إلا وله ملك يأيته بالخبر، فأخبرنا من صاحبك ؟ قال: "جبريل عليه السلام" قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} إلى آخر الآية، ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد به، وقال الترمذي: حسن غريب وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزة أن يهوداً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي، قال: "جبريل" قالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال، فنزلت: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} الآية، قال ابن جرير: قال مجاهد: قالت يهود: يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو، فنزل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} الآية، قال البخاري: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} قال عكرمة جبر وميك وإسراف: عبد. إيل: الله، حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكر، حدثنا حميد عن أنس بن مالك، قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الوالد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال: "أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً" قال: جبريل ؟ قال: "نعم" قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} "وأما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة، نزع الولد،(1/164)
وإذا سبق ماء المرأة نزعت" قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. يا رسول الله، أن اليهود قوم بهت، وإنهم أن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟" قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال: "أرأيتم أن أسلم" قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. قالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقضوه، فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله - انفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجاه من وجه آخر عن أنس بنحوه، وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق كما سيأتي في موضعه أن شاء الله تعالى، وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن إيل هو الله، وقد رواه سفيان الثوري عن خصيف، عن عكرمة، ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة، ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحاق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال: أن جبريل اسمه عبد الله، وميكائيل اسمه عبد الله، إيل: الله، ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء، وكذا قال غير واحد من السلف كما سيأتي قريباً، ومن الناس من يقول: إيل عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله، لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع فوزانه عبد الله عبد الرحمن عبد الملك عبد القدوس عبد السلام عبد الكافي عبد الجليل، فعبد موجودة في هذا كله، واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف، والله أعلم.
ثم قال ابن جرير، وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر من قال ذلك) حدثني محمد بن المثنى، حدثني ربعي بن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: نزل عمر الروحاء، فرأى رجالاً يبتدرون أحجاراً يصلون إليها، فقال: ما بال هؤلاء ؟ قالوا يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا، قال: فكره ذلك، وقال إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها، ثم ارتحل فتركه، ثم أنشأ يحدثهم، فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن ومن القرآن كيف يصدق التوراة، فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك (قلت) ولمَ ذلك ؟ قالوا: لأنك تغشانا وتأتينا، فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة ومن التوراة كيف تصدق القرآن، قالوا: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به، قال: فقلت لهم: عند ذلك نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه، وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول الله ؟ قال: فسكتوا، فقال له عالمهم وكبيرهم: أنه قد غلظ عليكم فأجيبوه، قالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت، قال: أما إذا نشدتنا بما نشدتنا، فإنا نعلم أنه رسول الله، قلت: ويحكم إذاً هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا: أن لنا عدواً من الملائكة وسلماً من الملائكة، وأنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة، قلت: ومن عدوكم، ومن سلمكم ؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل، قالوا: أن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا، قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما عز وجل ؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، قال: فقلت: فو الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما، وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم(1/165)
عدو ميكائيل، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبرائيل، قال: ثم قمت فأتبعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان، فقال: "يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل" فقرأ عليّ {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} حتى قرأ الآيات، قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لقد جئت أنا أريد أن أخبرك وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة عن مجالد، أنبأنا عامر، قال: انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود، فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمداً في كتبكم ؟ قالوا: نعم، قال: فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قال: أن الله لم يبعث رسولاً إلا جعل له من الملائكة كفلاً وإن جبرائيل كَفِلَ محمداً وهو الذي يأتيه، وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا، قال: فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما منزلتهما عند الله تعالى ؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، قال عمر: وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل، وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل، فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب، فقام إليه عمر فأتاه، وقدأنزل الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر، ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر فإنه لم يدرك زمانه، والله أعلم، وقال ابن جبير: حدثنا بشير، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد عن قتادة، قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انظلق ذات يوم إلى اليهود، فلما انصرف ورحبوا به، فقال لهم عمر: وأما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم، فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم: جبرائيل، فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمداً على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل، وتنكرون محمداً صلى الله عليه وسلم ؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآيات.
ثم قال: حدثني المثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، حدثنا قتادة، قال: بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوماً فذكر نحوه، وهذا في تفسير آدم وهو أيضاً منقطع، وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه، وهو منقطع أيضاً: وقال ابن أبن حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي، حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن يهودياً لقي عمر بن الخطاب، فقال: أن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا، فقال عمر {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} قال: فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه، ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبي جعفر هو الرازي، وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثني هشيم، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة، فإنه عدو(1/166)
لنا، قال: فنزلت هذه الآية، حدثنا يعقوب، أخبرنا هشيم، أخبرنا عبد الملك عن عطاء بنحوه، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} قال: قالت اليهود: أن جبرائيل عدو لنا، لأنه ينزل بالشدة والسنة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب، فجبرائيل عدو لنا. فقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} الآية.
وأما تفسير الآية فقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} فإنه نزله على قلبك بإذن الله، أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكي، ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول يلزمه الإيمان بجيمع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} الآيتين، فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله، لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه، كما قال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} ، وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب" ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاده، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب المتقدمة: {وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} الآية: وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الآية، ثم قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي، ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}. {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل، ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل، وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ، لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل، وليهم، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضاً، ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان، كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر هذا بالهدى وهذا بالرزق كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وقد تقدم ما حكاه البخاري، ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال، جبر، وميك، وإسراف: عبيد، وإيل: الله، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن أبي رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرحمن وقيل جبر: عبد، وإيل: الله. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري، عن علي بن الحسين، قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم ؟ قلنا: لا، قال: اسمه عبد الله، وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل.(1/167)
قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر، نحو ذلك. ثم قال: حدثني أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله، قال فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض، وقال: لهذا الحديث أحب إلى من كل شيء في دفتر كان بين يديه. وفي جبرائيل وميكائيل لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة والقراءات، ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه، أو يرجع الحكم في ذلك إليه، وبالله الثقة وهو المستعان، وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل: فإنه عدو، بل قال: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} كما قال الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نَغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
وقال الآخر:
ليت الغراب غداة ينعب دائباً ... كان الغراب مقطع الأوداج
وإنما أظهر لله هذا الاسم ههنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً لله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة" وفي الحديث الأخر " إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب" وفي الحديث الصحيح "من كنت خصمه خصمته ".
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَلَمّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّىَ يَقُولاَ إِنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلّمُونَ مَا يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُواْ واتّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ اللّهِ خَيْرٌ لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الآية، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات، دالات على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فأطلع الله(1/168)
في كتابه الذي أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكها الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيئاً منه عن آدمي، كما قال الضحاك عن ابن عباس {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتاباً، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، يقول الله تعالى في ذلك عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله في ذلك من قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم، والله ما عهد إلينا في محمد، وما أخذ علينا ميثاقاً، فأنزل الله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} وقال الحسن البصري: في قوله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غداً. وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: نبذه فريق منهم، أي نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير: أصل النبذ الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذاً، ومنه سمي النبيذ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء، قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه فنبذبته ... كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكما
قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} الآية، وقال ههنا {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآية، أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها، وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه، ولهذا أرادوا كيداً برسول الله صلى الله عليه وسلم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان، وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له: لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطاً في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، كما سيأتي بيانه. قال السدي {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة، فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت، فلم يوافق القرآن فذلك قوله {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وقال قتادة في قوله: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} قال: أن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} الآية، وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه، وقام الناس على الدين كما كان، وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان عليه السلام حدثان ذلك، فظهر الإنس والجن على(1/169)
الكتب بعد وفاة سليمان وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا، فأخذوا به فجعلوه ديناً، فأنزل الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآية واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشياطين، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال: فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} وفال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من نسائه، أعطى الجرادة وهي امرأة خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال: هاتي خاتمي، فأخذه ولبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت لست سليمان، قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين، فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر، فدفنوها تحت كرسي سليمان,ثم أخرجوها وقرؤوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال فبرىء الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران وهو ابن الحارث، قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما، إذ جاء رجل فقال له: من أين جئت ؟ قال: من العراق، قال: من أية ؟ قال: من الكوقة، قال: فما الخبر ؟ قال: تركتهم يتحدثون أن علياً خارج اليهم ففزع، ثم قال: ما تقول لا أبا لك ؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إني سأحدثكم عن ذلك، إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا جُرّب منه وصدق، كذب معها سبعين كذبة، قال: فتشربها قلوب الناس قال: فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام، فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان عليه السلام، قام شيطان الطريق، فقال: هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله ؟ تحت الكرسي. فأخرجوه، فقال: هذا سحر، فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق، فأنزل الله عز وجل { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} الآية، وروى الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري، عن محمد بن عبد السلام عن إسحق بن إبراهيم عن جرير به.
وقال السدي في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك(1/170)
الكتب فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً ؟ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فقالوا له: فادن، فقال: لا ولكنني ههنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: أن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم طار وذهب وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} ، وقال الربيع بن أنس: أن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه، فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا. وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله عز وجل {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان وكان عليه السلام لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد أدحض الله حجتهم، وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} قال: كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها، فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك، فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس وهو السحر، وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا: نعم، قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستشار به الإنس واستخرجوه وعملوا بها، فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعلم بهذا وهذا سحر فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} وقال محمد بن إسحاق بن يسار: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السحر، من كان يحب أن يبلغ كذا فليفعل كذا وكذا حتى إذا صنفوا أصناف السحر، جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا فلما عثروا عليه قالوا: والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا، فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عد من المرسلين، قال من كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم(1/171)
أن ابن داود كان نبياً والله ما كان إلا ساحراً. وأنزل الله في ذلك من قولهم {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} الآية، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا حسين حدثنا الحجاج عن أبي بكر عن شهر بن حوشب، قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان، فكتبت من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا، فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم ثم دفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان عليه السلام، قام إبليس لعنه الله خطيباً فقال: ياأيها الناس أن سليمان لم يكن نبياً إنما كان ساحراً فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحراً هذا سحره بهذا تعبدنا وبهذا قهرنا، فقال المؤمنون: بل كان نبياً مؤمناً، فلما بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم وذكر داود وسليمان فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحراً يركب الريح، فأنزل الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} الآية، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان عليه السلام من كل دابة عهداً فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد خلي عنه، فزاد الناس السجع والسحر، فقالوا: هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما السلام، فقال الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المسعودي عن زياد مولى ابن مصعب عن الحسن {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} قال: ثلث الشعر وثلث السحر وثلث الكهانة، وقال: حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} وتبعته اليهود على ملكه وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان، فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفهم، والله الهادي. وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم، ومخالفتهم لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ما تتلوه الشياطين، أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان، وعداه بعلى لأنه تضمن تتلو تكذب، وقال ابن جرير "على" ههنا بمعنى في، أي تتلوا في ملك سليمان، ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق (قلت) والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم. وقول الحسن البصري رحمه الله وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود - صحيح لا شك فيه، لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآية، ثم ذكر القصة بعدها وفيها {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} وقال قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام لنبيهم صالح إنما {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي المسحورين على المشهور، وقوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى(1/172)
أن "ما" نافية أعني التي في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} قال القرطبي: ما نافية ومعطوف على قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ثم قال {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله وجعل قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} بدلاً من الشياطين، قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أو لكونهما لهما أتباع أو ذكرا من بينهم لتمردهما تقدير الكلام عنده يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يتلفت إلى ما سواه، وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} الآية، يقول لم ينزل الله السحر وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} قال: ما أنزل الله عليهما السحر، قال ابن جرير فتأويل الآية على هذا {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون قوله ببابل هاروت وماروت من المؤخر الذي معناه المقدم قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل وجه تقديمه أن يقال {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام، لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبهم الله بذلك، أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم. هذا لفظه بحروفه، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثت عن عبيد الله بن موسى، أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر، قال ابن أبي حاتم: وأخبرنا الفضل بن شاذان، أخبرنا محمد بن عيسى، أخبرنا يعلى يعني ابن أسد، أخبرنا بكر يعني ابن مصعب، أخبرنا الحسن بن أبي جعفر: أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ داود وسليمان} وقال أبو العالية: لم ينزل عليهما السحر، يقول: علما بالإيمان والكفر، فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي، رواه ابن أبي حاتم، ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن ما بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك، لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً، وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن، كما زعمه ابن حزم، وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} ويقول: هما علجان من أهل بابل، ووجه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الايحاء كما في قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} وفي الحديث "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء" وكما يقال "أنزل الله الخير والشر".(1/173)
وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرؤوا {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ} بكسر اللام، قال ابن أبزى: وهما داود وسليمان، قال القرطبي: فعلى هذا تكون ما نافية أيضاً، وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وما نافية، قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} فقال: الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما، فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت. ثم روى عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أي ذلك كان، إني آمنت به، وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان، وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده أن شاء الله، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصاً لهما فلا تعارض حينئذ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قوله إنه كان من الملائكة لقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى. وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي.
ذكر الحديث الوارد في ذلك أن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: أخبرنا يحيى بن بكير، حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان، قالوا: ربنا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما فسألاها نفسها، فقالت لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك، فقالا: والله لا نشرك بالله شيئاً أبداً، فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي، فقالا: لا والله لا نقتله أبداً فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي، فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئاً أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا". وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن ابن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير - به، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا هو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، وروى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب، وروى له أبو داود وابن ماجه، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولم يحك فيه شيئاً من هذا فهو مستور الحال، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر(1/174)
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى له متابع من وجه آخر عن نافع، كما قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره بطوله وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا القاسم، أخبرنا الحسين وهو سنيد بن داود صاحب التفسير، أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر طلعت الحمراء ؟ قلت: لا، مرتين أو ثلاثاً، ثم قلت: قد طلعت، قال: لا مرحباً بها ولا أهلاً، قلت سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع، قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم، قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا ملكين منكم، قال: فلم يألوا جهداً أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت" وهذان أيضاً غريبان جداً. وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما إني أرسل إلى بني آدم رسلاً وليس بيني وبينكم رسول، انزلا لا تشركا بي شيئاً ولا تزنيا ولا تشربا الخمر، قال كعب: فو الله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به، ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به، ورواه ابن جرير أيضاً حدثني المثنى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار فذكره، فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع، فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل، والله أعلم.
(ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين)
قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد، قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: كانت الزهرة امرأة جملية من أهل فارس وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء فعلماها فتكلمت به، فعرجت إلى السماء فمسخت كوكباً وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جداً - وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل ابن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال هما ملكان من ملائكة السماء، يعني {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} روواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعاً، وهذا لا يثبت من هذا الوجه. ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت" وهذا أيضاً لا يصح وهو منكر جداً، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعاً: لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم(1/175)
والأرض والجبال ربنا لا تمهلهم، فأوحى الله إلى الملائكة إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم ولو نزلتم لفعلتم أيضاً. قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت، قال: فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا أن الله هو الغفور الرحيم، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي أخبرنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد، قال: كنت نازلاً على عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه: انظر هل طلعت الحمراء لا مرحباً بها ولا أهلاً ولا حياها الله هي صاحبة الملكين، قالت الملائكة: يا رب، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض ؟ قال إني ابتليتهم فلعل أن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون، قالوا: لا، قال: فاختاروا من خياركم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا، فأهبطا إلى الأرض وألقى عليهما الشهوة، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها، فقالت: إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله، قالا: وما دينك ؟ قالت المجوسية، قالا: الشرك هذا شيء لا نقر به، فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى، ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها، فقالت: ما شئتما غير أن لي زوجاً وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت، فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ثم صعدا بها إلى السماء، فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين فإذا كان يوم الجمعة أجيب فقالا: لو أتينا فلاناً فسألناه فطلب لنا التوبة، فأتياه فقال: رحمكما الله كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا: إنا قد ابتلينا، قال ائتياني يوم الجمعة فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيء ائتياني في الجمعة الثانية فأتياه، فقال: اختارا فقد خيرتما أن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله، فقال أحدهما: أن الدنيا لم يمض منه إلا القليل. وقال الآخر: ويحك إني قد اطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن أن عذاباً يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال: إننا يوم القيامة على حكم الله فأخاف أن يعذبنا، قال: لا. إني أرجو أن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة أن لا يجمعها علينا، قال: فاختارا عذاب الدنيا فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليهما سافلهما - وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر - وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه، وهذا أثبت وأصح إسناداً ثم هو - والله أعلم - من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه. وقوله: أن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء، وكذا في المروي عن علي فيه غرابة جداً.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا أبو جعفر، حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فميا وقعوا فيه، وركبوا الكفر، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، والزنا والسرقة،(1/176)
وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم فقيل: إنهم في غيب فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما، وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئاً ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زماناً يحكمان بن الناس بالحق وذلك في زمن إدريس عليه السلام، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وإنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكون على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها، فأخرجت لهما صنماً فقالت: هذا أعبده، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فغبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ففعلت مثل ذلك، فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا أحد الخلال الثلاث: إما أن تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن تشربا هذه الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي وأهون هذا شرب الخمر فشربا الخمر فأخذت فيهما، فواقعا المرأة فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه، فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبن ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستعفرون لمن في الأرض فنزل في ذلك {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل فهما يعذبان، وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولاً عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن راهوية عن حكام بن سلم الرازي وكان ثقة عن أبي جعفر الرازي به، ثم قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه، فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا مسلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس: أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون بالمعاصي، فقالوا: يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي، فقال الله: أنتم معي وهم في غيب عني، فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثة فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهما شهوة الآدميين، فأمروا أن لا يشربوا خمراً ولا يقتلوا نفساً ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثن، فاستقال منهم واحد فأقيل، فأهبط اثنان إلى الأرض فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها: مناهية فهوياها جميعاً، ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها فقالت لهما: لا حتى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني، فقالا: لا نسجد ثم شربا من الخمر ثم قتلا ثم سجدا، فأشرف أهل السماء عليهما، وقالت لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما، فأخبراها فطارت، فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة، وأما هما فأرسل إليهما لسليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض، وهذا السياق فيه زيادة كثيرة وإغراب ونكارة، والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق: قال معمر قال قتادة والزهري، عن عبيد الله بن عبد الله {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس، وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني(1/177)
آدم فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر: قال قتادة فكانا يعلمان الناس السحر فأخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وقال أسباط عن السدي أنه قال: كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشراً من الشهوات فبها يعصونني، قال هاروت وماروت: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: أنزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس، فنزلا ببابل ديناوند، فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية الزهرة، وبالنبطية بيدخت، وبالفارسية أناهيد، فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني، قال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك، فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها. قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر إنا لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي فقضيا لها على زوجها ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها فأتياها لذلك، فلما أراد الذي يواقعها قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان منها، فأخبراها فتكلمت فصعدت، فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مكانها وجعلها الله كوكباً، فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت، فلما كان الليل، أرادا أن يصعدا فلم يطيقا فعرفا الهلكة، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فعلقا ببابل وجعلا يكلمان الناس كلامها وهو السحر.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: أما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات، فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض فاختاروا فلم يألوا هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وإنكما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمور ونهاهما، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما فحكما فعدلا، فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم فقضيا عليها، فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل الذي وجدت ؟ قال: نعم، فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك، فلما رجعت قالا: وقضيا لها فأتتهما فكشفا لها عن عورتيهما، وإنما كانت سوآتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها، فلما بلغا ذلك واستحلا افتتنا، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت، فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه فقالا: ادع لنا ربك، فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء، فوعدهما يوماً، وغدا يدعو لهما فدعا لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد وفي الدنيا تسع مرات مثلها ؟ فأمرا أن ينزلا ببابل فتم عذابهما، وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما، وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة(1/178)
وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك، أحببنا أن ننبه عليه، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك تسأله عن أشياء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به، وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، فكانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني فدخلت عليّ عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: أن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخرة، فلم يكن شي حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك ؟ قلت: نتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: أفعلت ؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئاً ؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت ؟ قلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك، ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه، فذهبت إليه فبلت فيه فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت ؟ قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فقالا: صدقت ذلك إيمانك خرج منك اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً وما قالا لي شيئاً، فقالت: بلى لم تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت وقلت: اطلعي فأطلعت، وقلت: احقلي فأحقلت، ثم قلت: افركي فأفركت، ثم قلت: أيبسي فأيبست، ثم قلت: اطحني فأطحنت، ثم قلت: اخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان سقط في يدي، وندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئاً ولا أفعله أبداً، ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولاً كما تقدم وزاد بعد قولها ولا أفعلها أبداً، فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما. قال هشام: فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: عنهم كانوا من أهل الورع والخشية من الله ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم، فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها.
وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال. وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل كما قال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وقال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} استدل به على أن بابل(1/179)
المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره، ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير، فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فملا فرغ قال: أن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي بأرض المقبرة ونهاني أن أصلي ببابل فإنها ملعونة وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علياً مرّ ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: أن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى حديث سليمان بن داود، قال: فلما خرج منها برز، وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود لأنه رواه وسكت عنه ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين. قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل وهي من إقليم العراق عن البحر الميحط الغربي، ويقال له أوقيانوس سبعون درجة ويسمون هذا طولاً، وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبن وسط الأرض من ناحية الجنوب، وهو المسامت لخط الاستواء اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر، قال: فإذا أبى عليهما أمراه يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه، فإذا تعلمه خرج منه النور، فنظر إليه ساطعاً في السماء فيقول: يا حسرتاه، يا ويله ماذا صنع، وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم انزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفروا، رواه ابن أبي حاتم، وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة، فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه، فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه، وكل شيء، وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} الآية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترىء على السحر إلا كافر، وأما الفتنة فهي المحنة والاختيار، ومنه قول الشاعر:
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شراً طويلاً
وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار، حدثنا محد بن المثنى، أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال: "من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر،(1/180)
وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر وما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين، مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف، وهذا من صنيع الشياطين، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، ويجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئاً! ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيقر به ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت" وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة، والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان والله اعلم.
وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله، وقال محمد بن إسحاق: إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد، وقال الحسن البصري {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال: نعم، من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله، كما قال الله تعالى. وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه، وقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم، ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق، قال ابن عباس وكمجاهد والسدي: من نصيب، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ما له في الآخرة من جهة عند الله، وقال عبد الرزاق، وقال الحسن: ليس له دين، وقال سعد عن قتادة {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} قال: ولقد علم أهل الكتاب فيم عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة، وقوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} يقول تعالى: {وَلَبِئْسَ} البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ}.
وقد استدل بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف، وقيل: بل لا يكفر، ولكن حده ضرب عنقه، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل، قالا: أخبرنا سفيان، هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار، أنه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضاً، وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها، فأمرت بها، فقتلت، قال الإمام أحمد بن حنبل: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر. وروى الترمذي من حديث اسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربه بالسيف" ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث، والصحيح عن الحسن عن جندب(1/181)
موقوفاً قلت. قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً. والله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة: كان عنده ساحر يلعب بين يديه فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله يحيي الموتى، ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال: أن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك، فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم. وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد، حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندي مشتملاً على سيفه فقتله، قال: أراه كان ساحراً، وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً والله أعلم.
(فصل) حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده، قال: وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حماراً، والحمار إنساناً إلا أنهم قالوا: أن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم، فلا، خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، وأن السحر عمل فيه وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثير، ثم قال بعد هذا.
(المسألة الخامسة) في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور - اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف، وأيضاً لعموم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزاً واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً، وما يكون واجباً، فكيف يكون حراماً وقبيحاً ؟ هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وهذا الكلام فيه نظر من وجوه أحدها قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح عقلاً، فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعاً، ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر، وفي الصحيح "من أتى عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد" ، وفي السنن "من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر" وقوله: ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك، كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرناه من الآية والحديث واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص إلى هذه المسألة أئمة العلماء أوأكثرهم وأين نصوصهم على ذلك ؟ ثم إدخاله في علم السحر في عموم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فيه نظر، لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ولم قلت أن هذا منه ثم ترقية إلى وجوب تعلمه إنه لا يحصل العلم بالمعجز إِلا به ضعيف بل فاسد، لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم أن العلم بأنه معجزة لا يتوقف على علم السحر أصلاً، ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم، كانوا يعلمون المعجز، ويفرقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه، والله أعلم.(1/182)
ثم ذكر أبو عبد الله الرازي، أن أنواع السحر ثمانية (الأول) سحر الكذابين والكشدانيين، الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة، وهي السيارة، وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم، وأنها تأتي بالخير والشر، وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلاً لمقالتهم ورداً لمذهبهم، وقد استقصى في (كتاب السر المكتوم، في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه، كما ذكرها القاضي ابن خلكان وغيره، ويقال أنه تاب منه، وقيل بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة، لا على سبيل الاعتقاد، وهذا هو المظنون به إِلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به.
قال (والنوع الثاني) سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إِذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه، قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إِلى الأشياء الحمر، والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، وما ذلك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق - وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" - قال فإذا: عرفت هذا فنقول النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانه بالآلات والأدوات، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إِلى الاستعانة بهذه الآلات، وتحقيقه أن النفس إِذا كانت متعلية عن البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات صارت كأنها روح من الأرواح السماوية، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم، وإِذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية، فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إِلا في هذا البدن، ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء، والانقطاع عن الناس والرياء " قلت" وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال، وهو على قسمين، تارة تكون حالاً صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويترك ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة ولا يسمى هذا سحراً في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتصرف بها في ذلك، فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ولا يدل إعطاء الله إِياهم هذه الأحوال على محبته لهم، كما أن الدجال له من الخوارق للعادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعاً لعنه الله، وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وبسط هذا يطول جداً وليس هذا موضعه.
قال (والنوع الثالث) من السحر، الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافاً للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين: مؤمنون، وكفار وهم الشياطين، وقال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينها من المناسبة والقرب، ثم أن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بها أعمال سهلة قليلة من الرقي والدخن والتجريد، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.
قال (النوع الرابع) من السحر التخيلات والأخذ بالعيون والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إِذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديث ونحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة(1/183)
شديدة، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إِلى ضد ما يريد أن يعلمه، ولم تتحرك النفوس والأوهام إِلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله (قال) وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد، كان العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً أو مظلم فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه.
(قلت) وقد قال بعض المفسرين: أن سحر السحرة بين يدي فرعون إِنما كان من باب الشعبذة ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وقال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر، والله أعلم.
(النوع الخامس من السحر): الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد - ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينهما وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية، إِلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل، قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل (قلت) يعني ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من السحر لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها. (قلت) ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد القدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام منهم. وأما الخواص فهم معترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغاً لهم. وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار" وقوله: "حدثوا عني ولا تكذبوا عليّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار " ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إِلى صنعة طائر على شكله وتوصل إِلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت الطائر وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم وعلق على ذلك الطائر في مكان منها فإِذا كان زمان الزيتون فتح باباً من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة، فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضاً، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً، فلا ترى في النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه، ففتنهم بذلك وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
(قال الرازي: النوع السادس من السحر) الاستعانة بخواص الأدوية يعني في هذا الأطعمة والدهانات قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن تأثير المغناطيس مشاهد.(1/184)
(قلت) يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات.
قال (النوع السابع من السحر) التعليق للقلب، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور فإِذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة فإذا ما حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. (قلت) هذا النمط يقال له التنبلة وإِنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم.وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة العقل من ناقصه فإذا كان المتنبل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.
قال (النوع الثامن من السحر) السعي بالنميمة والتقريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس (قلت) النميمة على قسمين تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه، فأما أن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث "ليس بالكذاب من ينم خيراً" أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة، فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث "الحرب خدعة" ، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريق كلمة الأحزاب وبني قريظة: جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاماً، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئاً آخر، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت، وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة والله المستعان.
ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه، (قلت) وإِنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي بسببه، ولهذا جاء في الحديث "إن من البيان لسحراً" ، وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل، والسحر: الرئة، وهي محل الغذاء وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره أي انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} أي أخفوا عنهم علمهم، والله أعلم.
وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل قال ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، والشعوذي البريد لخفة سيره، قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية، قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى وقد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك، قال: وقوله عليه السلام: "إن من البيان لسحراً " يحتمل أن يكون مدحاً كما تقول طائفة، ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة قال: وهذا أصح، قال لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق كما قال عليه الصلاة والسلام: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له" الحديث.
(فصل) وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد ابن هبيرة رحمه الله في كتابه(الإشراف على مذاهب الأشراف) باباً في السحر فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه(1/185)
قال: لا حقيقة له عنده واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال أن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإِن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لايوجب الكفر فإِن اعتقد إباحته فهو كافر، قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ فقال مالك وأحمد نعم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا فأما أن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإِنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإِنه قال: يقتل والحالة هذه قصاصاً قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل، وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لايقتل يعني لقصة لبيد بن الأعصم واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس، وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل، والله أعلم. وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عمر ابن هارون أخبرنا يونس عن الزهري: قال يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله، أنه قال في الذمي يقتل أن قتل سحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما أنه يستتاب فإِن أسلم وإِلا قتل، والثانية أنه يقتل وإن أسلم، وأما الساحر المسلم فإِن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}. لكن قال مالك إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق فإِن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائباً قبلناه، فإن قتل سحره قتل قال الشافعي: فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطىء تجب عليه الدية.
(مسألة) وهل يسئل الساحر حلاً لسحره فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة وكره ذلك الحسن البصري، وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله هلا تنشرت، فقال: "أما الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شراً" وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإِنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته (قلت) أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في ذهاب ذلك وهما المعوذتان، وفي الحديث "لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما" وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشياطين.
{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أن يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مّنْ خَيْرٍ مّن رّبّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يشاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(1/186)
نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقامهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولون راعنا ويورون بالرعونة كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}، وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم ب "وعليكم"، وإِنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً، فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت أخبرنا حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم" . وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي شيبة عن أبي النضير هاشم أخبرنا ابن القاسم به "من تشبه بقوم فهو منهم" ففيه دلالة على: النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن معن وعون أو أحدهما أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال الأعمش عن خيثمة قال ما تقرؤون في القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإِنه في التوراة ياأيها المساكين. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس {رَاعِنَا} أي أرعنا سمعك. وقال الضحاك: عن ابن عباس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أرعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا. وقال ابن أبي حاتم وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس، وعطية العوافي وقتادة نحو ذلك، وقال مجاهد: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} لا تقولوا خلافاً، وفي رواية لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وقال عطاء لا تقولوا {رَاعِنَا} ، كانت لغة تقولها الأنصار، فنهى الله عنها، وقال الحسن: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا}، قال الراعن من القول السخري منه، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدعوهم إليه من الإسلام. وكذا روي عن ابن جريج، أنه قال مثله، وقال أبو صخر: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين، فيقول أرعنا سمعك، فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له. وقال السدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإِذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير صاغر، وهي كالتي في سورة النساء، فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا. قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم راعنا. لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي" وما أشبه ذلك.(1/187)
وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين، ليقطع المودة بينهم وبينهم، ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ}
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} ما نبدل من آية، وقال ابن جريج عن مجاهد {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} أي ما نمحو من آية، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} قال نثبت خطها ونبدل حكمها، حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك، وقال الضحاك {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} ما ننسك، وقال عطاء أما {مَا نَنسَخْ} ، فما نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتم: يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وقال السدي {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها ورفعها، مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" ، وقوله "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً " وقال ابن جرير: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدله ونغيره، وذلك أن نحول الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك، إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأماالأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول، فاختلفت عباراتهم في حد النسخ والأمر في ذلك قريب، لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أن رفع الحكم بدليل شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله، وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة، في أصول الفقه. وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد، أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل، عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها، فكان الزهري يقرؤها: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}، بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضعيف. وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أمامة بن سهل بن حنيف، مثله مرفوعاً، ذكره القرطبي، وقوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} ، فقرىء على وجهين، ننسأها وننسها، فأما من قرأها بفتح النون(1/188)
والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها. قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباس، {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}، يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها، وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: أو ننسأها، نثبت خطها ونبدل حكمها، وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها، نؤخرها ونرجئها. وقال عطية العوفي: أو ننسأها، نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي: مثله أيضاً وكذا الربيع بن أنس، وقال الضحاك: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}، يعني الناسخ والمنسوخ. وقال أبو العالية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} نؤخرها عندنا، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، أخبرنا خلف، أخبرنا الخفاف، عن إسماعيل يعني ابن أسلم، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه، فقال: يقول الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} ، أي نؤخرها، وأما على قراءة {أَوْ نُنْسِهَا} ، فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} ، قال كان الله عز وجل: ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء، وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله، أخبرنا خالد بن الحارث، أخبرنا عوف، عن الحسن أنه قال: في قوله: {أَوْ نُنْسِهَا} قال: أن نبيكم صلى الله عليه وسلم، قرأ علينا قرآناً ثم نسيه، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل، أخبرنا محمد بن الزبير الحراني، عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، قال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل، ليس هو الحجاج بن أرطاة هو شيخ لنا جزري، وقال عبيد بن عمير: {أَوْ نُنْسِهَا} نرفعها من عندكم، وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا هشيم، عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة، قال سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} قال: قلت له فإن سعيد بن المسيب يقرأ {أَوْ نُنْسِهَا} قال: قال سعد: أن القرآن، لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب، قال: قال الله جل ثناؤه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم، وأخرجه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال ابن أبي حاتم وروى عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد. وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري: عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: قال عمر: علي أقضانا وأبي أقرؤنا، وإنا لندع من قول أبي، وذلك أن أبيا يقول: ما أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، قال البخاري: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: قال عمر: أقرؤنا أبيّ وأقضانا علي، وإِنا لندع من قول أبي، وذلك أن أبيا يقول: لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} ويقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال أبو العالية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} فلا نعمل بها {أَوْ نُنْسِهَا} ، أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها، وقال السدي {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يقول: نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه. وقال قتادة: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يقول: آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي، وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ(1/189)
دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} ، يرشد عباده تعالى بهذا، إلى أنه المتصرف في خلقه، بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصحلة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله، في دعوى استحالة النسخ، إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد، أن لي ملك السموات والأرض وسلطانها دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بماأشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير، من أحكامي التي أحكم بها في عبادي، بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء، ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر، عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله، بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته، وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه، (قلت) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى، لأنه يحكم ما يشاء، كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لاَدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح، بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى، إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه، فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل أن الشرائع المتقدمة مغيّاة إلى بعثه عليه السلام، فلا يسمى ذلك نسخاً لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين، لأنه جاء بكتاب وهو آخر الكتب عهداً با لله تبارك وتعالى، ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ، رداً على اليهود عليهم لعنة الله، حيث قال تعالى: {لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء، {لا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وقرىء في سورة آل عمران، التي نزل في صدرها خطاباً مع أهل الكتاب، وقوع النسخ في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} الآية، كما سيأتي تفسيره والمسلمون كلهم متفقون على جواز(1/190)
النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله ضعيف مردود مرذول، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة. عن بيت المقدس لم يجب بشيء، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، والله أعلم.
{أَمْ تُرِيدُونَ أن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ}
نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً، فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، ثم أنزل الله حكم الملاعنة، ولهذا ثبت في الصحيحين، من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال. وفي صحيح مسلم "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم، "أن الله كتب عليهم الحج، فقال رجل أكل عام: يا رسول الله ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ثم قال عليه السلام: "لا، ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم" ، ثم قال "ذروني ما تركتكم" الحديث، ولهذا قال أنس بن مالك: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: أخبرنا أبو كريب، أخبرنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب، قال: أن كان ليأتي عليّ السنة، أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء، فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب. وقال البزار: أخبرنا محمد بن المثنى، أخبرنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ - و - يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ - وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} ، يعني هذا وأشباهه.
وقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} و أي بل تريدون، أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعمّ المؤمين والكافرين، فإنه عليه السلام رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}، قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابنعباس، قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد: يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك، فأنزل الله من قولهم، {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.(1/191)
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} قال: قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كفارتنا ككفارات بني إسرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا نبغيها - ثلاثاً - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل"، قال {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} ، وقال " الصلوات الخمس ومن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن" وقال: "من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك" ، فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} ، وقال مجاهد: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} ، أن يريهم الله جهرة، قال: سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، قال: "نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل" ، فأبوا ورجعوا، وعن السدي وقتادة نحو هذا، والله أعلم، والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء على وجه التعنت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتاً وتكذيباً وعناداً. قال الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} ، أي ومن يشتر الكفر بالإيمان {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال. وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء، واتباعهم والانقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم، والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}، وقال أبو العالية: يتبدل الشدة بالرخاء.
{وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْحَقّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتّىَ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ أن اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ أن اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
يحذر تعالى: عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه، كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: كان حيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب، من أشد يهود للعرب حسداً، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما {وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم} الآية. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، في قوله تعالى: {وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال: هو كعب بن الأشرف، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان(1/192)
شاعراً، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنزل الله {وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم} إلى قوله: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ}، وقال الضحاك: عن ابن عباس، أن رسولاً أمياً يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والاَيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفراً وحسداً وبغياً، وكذلك قال الله تعالى: {كُفّاراً حَسَداً مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْحَقّ} يقول من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئاً، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم، وما أنزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم وقال الربيع بن أنس {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} من قبل أنفسهم، وقال أبو العالية {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} ، من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسداً وبغياً، إذ كان من غيرهم، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس، وقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ، مثل قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} الآية، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ، نسخ ذلك قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} ، إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، فنسخ هذا عفوه عن المشركين، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي، إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتأول من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش، وهذا إسناده صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة، ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد. وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}، يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم، وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} ، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه سواء كان خيراً أو شراً، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. وقال أبو جعفر بن جرير: في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، إنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سراً وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيراً، وبالإساءة مثلها، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعداً ووعيداً وأمراً وزجراً، وذلك أنه أعلم القوم، أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخوراً لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}، وليحذروا معصيته، قال: وأما قوله: {بَصِيرٌ} فإنه مبصر، صرف إلى بصير، كما صرف مبدع إلى بديع، ومؤلم إلى أليم، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا ابن بكير، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم،(1/193)
وهو يقرأ هذه الآية: سميع بصير، يقول "بكل شيء بصير" .
{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تِلْكَ أَمَانِيّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَىَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَىَ عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النّصَارَىَ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى، أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة، أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا، لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من دعواهم، أنه لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة، ورد عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة، فقال: {لْكَ أَمَانِيُّهُمْ} ، وقال أبو العالية: أماني تمنوها على الله بغير حق وكذا قال قتادة والربيع بن أنس ثم قال تعالى: {قُلْ} أي يا محمد {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} قال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس: حجتكم، وقال قتادة بينتكم على ذلك: {إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي فيما تدعونه، ثم قال تعالى: {لَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}، أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} الآية، وقال أبو العالية والربيع {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} يقول: من أخلص لله وقال سعيد بن جبير: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} أخلص {وَجْهَهُ} ، قال دينه {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن للعمل المتقبل شرطين: أحدهما أن يكون صواباً خالصاً لله وحده، والآخر أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، فمتى كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يتقبل، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" ، رواه مسلم من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام، فعمل الرهبان ومن شابههم، وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله، فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} ، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} ، وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي، وأما أن كان العمل موافقاً للشريعة، في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله، فهو أيضاً مردود على فاعله، وهذا حال المرائين والمنافقين، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وقال في هذه الآية الكريمة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}،(1/194)
وقوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما يخافونه من المحذور، {فلا خوف عليهم} فيما يستقبلونه، {ولا هم يحزنون} على ما مضى مما يتركونه، كما قال سعيد بن جبير، {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يعني في الآخرة، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يعني لا يحزنون للموت.
وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} ، بين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم، كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: لما قدم أهل نجران من النصارى، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك من قولهما: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} ، قال: أن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أن يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه، وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} قال: بلى، قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية والربيع بن أنس في تفسير هذه الآية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القول يقتضي، أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه، مع علمهم بخلاف ذلك، ولهذا قال تعالى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} ، أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عناداً وكفراً ومقابلة للفاسد، كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها، والله أعلم، وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} ، بين بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول وهذا من باب الإيماء والإشارة. وقد اختلف فيمن عنى بقوله تعالى: {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فقال الربيع بن أنس وقتادة {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قالا: وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم، وقال ابن جريج: قلت لعطاء من هؤلاء الذين لا يعلمون ؟ قال أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل وقال السدي كذلك {قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، فهم العرب، قالوا ليس محمد على شيء، واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع، وليس ثم دليل قاطع يعين واحداً من هذه الأقوال، والحمل على الجميع أولى، والله أعلم وقوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، أي أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل، الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ(1/195)
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، وكما قال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىَ فِي خَرَابِهَآ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أن يَدْخُلُوهَآ إِلاّ خَآئِفِينَ لّهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ}
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها، على قولين: أحدهما ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس، في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} قال: هم النصارى وقال مجاهد: هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وَسَعَىَ فِي خَرَابِهَآ}. قال هو بختنصر وأصحابه، خرب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى. وقال سعيد عن قتادة: قال أولئك أعداء الله، النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس، وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس، حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا، وروي نحوه عن الحسن البصري، (القول الثاني)، ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىَ فِي خَرَابِهَآ}، قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة، حتى نحر هديه بذي طوى، وهادنهم وقال لهم: "ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل، يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده" فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق، وفي قوله: {وَسَعَىَ فِي خَرَابِهَآ} قال إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ، ثم اختار ابن جرير القول الأول، واحتج بأن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس، (قلت) والذي يظهر، والله يعلم، القول الثاني كما قاله ابن زيد. وروي عن ابن عباس، لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس، كان دينهم أقوم من دين اليهود، وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولاً إذ ذاك، لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وأيضاً فإنه تعالى، لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم: وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ(1/196)
اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} وقال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} ، فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها مصدوداً عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك ؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك. وقوله تعالى: {ولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} ، هذا خبر معناه الطلب، أي لا تمكنوا هؤلاء إذ قدرتم عليهم من دخولها، إلا تحت الهدنة والجزية، ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، أمر من للعام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: "ألا لا يحجّن بعد العام مشرك، ولا يطوفّن بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته" ، وهذا إنما كان تصديقاً وعملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ، وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين، على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين، أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها، والمعنى ما كان إلا الحق والواجب إلا ذلك، لولا ظلم الكفرة وغيرهم وقيل أن هذا بشارة من الله للمسلمين، أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم، حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم، إلا خائفاً يخاف أن يُؤخذ فيعاقب أو يقتل، أن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد، كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى اليهود والنصارى منها، ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام، وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة، بشيراً ونذيراً، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الخزي لهم في الدنيا، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام، صدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله عنده، والطواف به عَرْياً وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله، وأما من فسر بيت المقدس، فقال كعب الأحبار: أن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} الآية، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً، وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية، فهو يؤديها. وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة، (قلت) وهذا لا ينفي أن يكون داخلاً في معنى عموم الآية، فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة، التي كانت تصلي إليها اليهود، عوقبوا شرعاً وقدراً بالذلة فيه، إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضاً، أعظم من عصيان النصارى، كانت عقوبتهم أعظم، والله أعلم. وفسر هؤلاء الخزي في الدنيا. بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود، وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون، والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، كما قال الإمام أحمد: أخبرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا محمد(1/197)
ابن أيوب بن ميسرة بن حلبس، سمعت أبي يحدث عن بشر بن أرطأة، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الاَخرة" وهذا حديث حسن، وليس هو في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطاة حديث سواه، وسوى حديث لاتقطع الأيدي في الغزو.
{وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ أن اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
وهذا، والله أعلم، فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين أخرجوا من مكة، وفارقوا مسجدهم ومصلاهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلما قدم المدينة، وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد، ولهذا يقول تعالى: {وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ}، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء عن ابن عباس قال: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا، والله أعلم، شأن القبلة. قال الله تعالى: {وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ} فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها. فقال {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ، وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقال عكرمة عن ابن عباس {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال: قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً، وقال مجاهد {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة، وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه، وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو ذلك، وقال جرير وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال. وفي قوله وأنه تعالى لا يخلو منه مكان، أن أراد علمه تعالى فصحيح، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذناً من الله أن يصلي المتطوع، حيث توجه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدة الخوف. حدثنا أبو كريب، أخبرنا ابن إدريس، حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه، من طرق عن عبد الملك بن أبي(1/198)
سليمان به، وأصله في الصحيحين، من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة، من غير ذكر الآية. وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر، وأنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك، صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(مسألة) ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه، بين سفر المسافة وسفر العدوى، فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة، وهو قول أبي حنيفة خلافاً لمالك وجماعته، واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري، التطوع على الدابة في المصر، وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه، واختاره أبو جعفر الطبري، حتى للماشي أيضاً. قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت الآية في قوم عميت عليهم القبلة، فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله تعالى: لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية. حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي، أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أبو الربيع السمان، عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً يصلي فيه، فلما أن أصبحنا إذ نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فقلنا يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الآية، ثم رواه عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن أبي الربيع السمان بنحوه. ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع وابن ماجه عن يحيى بن حكيم عن أبي داود عن أبي الربيع السمان، ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن سعيد بن سليمان عن أبي الربيع السمان، واسمه أشعث بن سعيد البصري، وهو ضعيف الحديث، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان، وأشعث يضعف في الحديث. قلت وشيخه عاصم أيضاً ضعيف. قال البخاري منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك، والله أعلم.
وقد روى من طريق آخر، عن جابر فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب، حدثني أحمد بن عبد الله بن الحسن، قال: وجدت في كتاب أبي أخبرنا عبد الملك العزرمي عن عطاء عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطاً فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم فسكت وأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء عن جابر به، وقال الدارقطني قرىء على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو أخبرنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن عطاء عن جابر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: قد أجزأت صلاتكم، ثم قال الدارقطني: كذا قال عن محمد بن سالم، وقال غيره عن محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء وهما ضعيفان، ورواه ابن مردويه أيضاً من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/199)
بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد أن طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة، فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى في هذه الآية {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضاً، وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء وهذه دلائل على عدم القضاء، والله أعلم.
قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي كما حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا هشام بن معاذ حدثني أبي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أن أخاً لكم قد مات، فصلوا عليه، قالوا نصلي على رجلٍ ليس بمسلم ؟ قال: فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} قال قتادة: فقالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وهذا غريب، والله أعلم، وقد قيل: إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة، كما حكاه القرطبي عن قتادة، وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب، قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه - أحدهما - أنه عليه السلام، شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض. الثاني أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه واختاره ابن العربي قال القرطبي: ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه، وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت. وهذا جواب جيد. الثالث أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك، والله أعلم.
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق" وله مناسبة ههنا وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السدي المدني به "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وقال الترمذي وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، ثم قال الترمذي: حدثني الحسن بن بكر المروزي، أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي، عن عثمان بن محمد بن الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" ثم قال الترمذي: هذا صحيح، وحكي عن البخاري أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح، قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من الصحابة "ما بين المشرق والمغرب قبلة " منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة، إذا استقبلت القبلة، ثم قال ابن مردويه: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم، أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وقد رواه الدارقطني والبيهقي: وقال المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله قال ابن جرير ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما حدثنا القاسم، أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال، قال ابن جريج،(1/200)
قال مجاهد لما نزلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا إلى أين، فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال ابن جرير: ومعنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله: {عَلِيمٌ} فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم.
{وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
اشتملت هذه الآية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم أن لله ولداً، فقال تعالى: {سُبْحَانَهُ} أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهنّ وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدّرهم ومسخّرهم ومسيّرهم ومصرّفهم كما يشاء والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولداً من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد ؟ كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد ؟ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي الحسين، حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله أن لي ولداً فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً" انفرد به البخاري من هذا الوجه وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي، أخبرنا محمد بن إسحاق بن محمد الفروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته¹ وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم" وقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: {قَانِتِينَ} مصلين، وقال عكرمة وأبو مالك: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} مقرون له بالعبودية، وقال سعيد بن جبير: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، يقول الإخلاص، وقال الربيع بن أنس: يقول: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي: قائم يوم القيامة، وقال السدي: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي: مطيعون يوم القيامة، وقال خصيف عن مجاهد:(1/201)
{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قال: مطيعون، قال كن إنساناً فكان، وقال: كن حماراً فكان، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: كل له قانتون مطيعون، قال: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره، وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به، كما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يوسف ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة" ، وكذا رواه الإمام أحمد: عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله، ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه، ورفع هذا الحديث منكر، وقد يكن من كلام الصحابي أو من دونه، والله أعلم.
وقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: خالقهما على غير مثال سبق¹ قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث بدعة، كما جاء في صحيح مسلم: فإن كل محدثة بدعة، والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية، كقوله: "فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعمت البدعة هذه، وقال ابن جرير: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} مبدعهما، وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل، كما صرف المؤلم إلى الأليم، والمسمع إلى السميع، ومعنى المبدع المنشىء والمحدث، ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد، قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين، مبتدعاً لإحداثه فيه، ما لم يسبق إليه غيره، وكذلك كل محدث قولاً أو فعلاً، لم يتقدم فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعاً، ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي:
يدعي إلى قول سادات الرجال إذا ... أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
أي يحدث ما شاء، قال ابن جرير: فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد، وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها، من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه، وهذا إعلام من الله لعباده، أن ممن يشهد له بذلك المسيح، الذي أضافوا إلى الله بنوته، وإخبار منه لهم، أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل، وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح عيسى، من غير والد بقدرته، وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة. وقوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قدر أمراً وأراد كونه، فإنما يقول له كن، أي: مرة واحدة فيكون، أي: فيوجد، على وفق ما أراد كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وقال الشاعر:
إذا ما أراد أمراً فإنما ... يقول له كن قوله فيكون
ونبه بذلك أيضاً، على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله، قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(1/202)
{وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيّنّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد أن كنت رسولاً من الله كما تقول، فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه¹ فأنزل الله في ذلك من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} ، وقال مجاهد: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} ، قال النصارى تقوله، وهو اختيار ابن جرير، قال: لأن السياق فيهم، وفي ذلك نظر، وحكى القرطبي: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} ، أي: يخاطبنا بنبوتك يا محمد، (قلت): وهو ظاهر السياق، والله أعلم، وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الآية: هذا قول كفار العرب {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} ، قال: هم اليهود والنصارى، ويؤيد هذا القول، وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب، قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} الآية، قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} ، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} الآية، وقوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً}¹ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} ، وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ، وقوله تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}¹ أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ} الآية، وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل، بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل، وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى، وأما من ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، فأولئك قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}.
{إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا عبد الرحمن بن صالح أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الفزاري، عن شيبان النحوي، أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النّبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أنزلت عليّ {إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً} ، قال: بشيراً بالجنة ونذيراً من النار" ، وقوله: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} قراءة أكثرهم ولا تسأل بضم التاء، على الخبر وفي قراءة أبي بن كعب، وما تسأل، وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم، نقلها ابن جرير، أي: لا نسألك عن كفر من كفر بك كقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} ، وكقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا(1/203)
أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} الآية، وكقوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}¹ وأشباه ذلك من الآيات، وقرأ آخرون: "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" بفتح التاء على النهي، أي: لا تسأل عن حالهم، كما قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ؟" فنزلت: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ، فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة، وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب بمثله، وقد حكاه القرطبي، عن ابن عباس ومحمد بن كعب، قال القرطبي: وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان، أي: قد بلغ فوق ما تحسب، وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا به، وأجبنا عن قوله: "أبي وأباك في النار" ، (قلت): والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام، ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها، وإسناده ضعيف، والله أعلم.
ثم قال ابن جرير: وحدثني القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج، أخبرني داود بن أبي عاصم به، أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "أين أبواي" ؟ فنزلت: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ، وهذا مرسل كالذي قبله، وقد رد ابن جرير هذا القول المروي، عن محمد بن كعب وغيره في ذلك، لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه، واختار القراءة الأولى، وهذا الذي سلكه ههنا فيه نظر، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه، قبل أن يعلم أمرهما، فلما علم ذلك تبرأ منهما، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار، كما ثبت هذا في الصحيح، ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكر ابن جرير، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن¹ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً. انفرد بإخراجه البخاري، فرواه في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح به، وقال تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال: وقال سعيد بن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام، ورواه في التفسير عن عبد الله عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص به فذكر نحوه، فعبد الله هذا هو ابن صالح، كما صرح به في كتاب الأدب، وزعم ابن مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من البقرة، عن أحمد بن الحسن بن أيوب عن محمد بن أحمد بن البراء، عن المعافى بن سليمان عن فليح به وزاد: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته، فما اختلفا في حرف إلا أن كعباً قال بلغته: أعيناً عمومى، وآذاناً صمومى، وقلوباً غلوفاً.
{وَلَنْ تَرْضَىَ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَىَ حَتّىَ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ قُلْ أن هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(1/204)
قال ابن جرير: يعني بقوله جل ثناؤه: {وَلَنْ تَرْضَىَ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَىَ حَتّىَ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ} وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، وقوله تعالى: {قُلْ أن هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ} أي: قل يا محمد أن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل، قال قتادة في قوله: {قُلْ أن هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ} قال: خصومة علمها الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة، قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" ، (قلت): هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} فيه تهديد ووعيد شديد للأمة، عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة، عياذاً بالله من ذلك فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته¹ وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة، كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا، لأنهم كلهم ملة واحدة وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه، وقال في الرواية الأخرى كقول مالك، إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى، كما جاء في الحديث، والله أعلم. وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هم اليهود والنصارى، وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير، وقال سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا إبراهيم بن موسى وعبد الله بن عمران الأصبهاني، قال: أخبرنا يحيى بن يمان حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه عن عمر بن الخطاب {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال: إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار، وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده أن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله، وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة ومنصور بن المعتمر عن ابن مسعود، قال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه¹ قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود نحو ذلك، وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو زرعة أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} يقول: اتبعها قال: وروي عن عكرمة وعطاء ومجاهد وأبي رزين وإبراهيم النخعي نحو ذلك. وقال سفيان الثوري: أخبرنا زبيد عن مرة عن عبد الله بن مسعود، في قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال: يتبعونه حق اتباعه، قال القرطبي: وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النّبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال: "يتبعونه حق اتباعه" ثم قال في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها، قال: وقد روي هذا المعنى عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مرّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية عذاب تعوذ،(1/205)
وقوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} خبر عن {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} أي: من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الآية، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: إذا أقمتموها حق الإقامة وآمنتم بها حق الإيمان وصدقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره وموازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والاَخرة كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} الآية، وقال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} أي: أن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعاً، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وفي الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}
قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة وكررت ههنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم نعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم من النعم الدنيوية والدينية ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم، ولا يحملهم ذلك على الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.
{وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرّيّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ}
يقول تعالى منبهاً على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماماً للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي، ولهذا قال: {وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ} أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي (فأتمهن) أي: قام بهن كلهن كما قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي: وفي جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1/206)
شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تعالى: {بِكَلِمَاتٍ} أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} وتطلق، ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي: كلماته الشرعية، وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل أن كان أمراً أو نهياً، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} ، أي: قام بهن قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} أي: جزاء على ما فعل، كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله الله للناس قدوة، وإماماً يقتدى به ويحتذى حذوه.
وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام، فروي عن ابن عباس في ذلك روايات، فقال عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة قال ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك، وكذا رواه أبو إسحاق السبيعي عن التميمي عن ابن عباس. وقال عبد الرزاق أيضاً، أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} ، قال: ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء، قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي، وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك، (قلت): وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء، ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة". قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط" ، ولفظه لمسلم. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن حنش بن عبد الله الصنعاني عن ابن عباس أنه كان يقول في تفسير هذه الآية: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: عشر ست في الإنسان وأربع في المشاعر، فأما التي في الإنسان حلق العانة، ونتف الإبط والختان، وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة، وتقليم الأظفار وقص الشارب والسواك وغسل يوم الجمعة، والأربعة التي في المشاعر: الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والإفاضة. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم، قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قلت له: وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن ؟ قال: الإسلام ثلاثون سهماً منها عشر آيات في براءة {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} إلى آخر الآية، وعشر آيات في أول سورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، و {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} وعشر آيات في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى آخر الآية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة، قال الله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} هكذا رواه الحاكم وأبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند وهذا لفظ ابن أبي حاتم¹ وقال محمد بن إسحاق(1/207)
عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن، فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمرود في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء، قال الله له: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} على ما كان من خلاف الناس وفراقهم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن، يعني البصري {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه، وابتلاه بالختان فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه¹ وقال ابن جرير: أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: أي والله لقد ابتلاه بأمر فصبر عليه، ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما كان من المشركين، ثم ابتلاه بالهجرة، فخرج من بلاده وقومه، حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك، وابتلاه بذبح ابنه والختان، فصبر على ذلك، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال: ابتلاه الله بذبح ولده وبالنار وبالكوكب والشمس والقمر، وقال أبو جعفر بن جرير: أخبرنا ابن بشار أخبرنا سلم بن قتيبة، أخبرنا أبو هلال عن الحسن {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} ، قال: ابتلاه بالكوكب وبالشمس والقمر، فوجده صابراً، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} فمنهن {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} ومنهن {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ومنهن الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم والرزق الذي رزق ساكنوا البيت، ومحمد بعث في دينهما¹ وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح، أخبرنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال: تجعلني للناس إماماً ؟ قال: نعم، قال: ومن ذريتي ؟ قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، قال: تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال: نعم، قال: وأمناً ؟ قال: نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ؟ قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله ؟ قال: نعم، قال ابن نجيح: سمعته عن عكرمة فعرضته على مجاهد فلم ينكره، وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابتلي بالآيات التي بعدها {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال: الكلمات {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} وقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} الآية، وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} الآية، قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم، وقال السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} وقال القرطبي: وفي الموطأ وغيره، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن وأول من ضاف الضيف، وأول من قلم أظفاره، وأول من قص الشارب، وأول(1/208)
من شاب فلما رأى الشيب، قال: ما هذا ؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقاراً. وذكر ابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم عليه السلام، قال غيره: وأول من برّد البريد وأول من ضرب بالسيف، وأول من استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل، وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" (قلت): هذا حديث لا يثبت، والله أعلم. ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية.
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله: أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع، قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. قال: غير أنه قد روي عن النّبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران أحدهما ما حدثنا به أبو كريب، أخبرنا شدين بن سعد، حدثني زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس قال: كان النّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله، الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إلى آخر الآية" قال: والآخر: ما حدثنا به أبو كريب، أخبرنا الحسن عن عطية، أخبرنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قال: "أتدرون ما وفى ؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "وفى عمل يومه أربع ركعات في النهار" ورواه آدم في تفسيره عن حماد بن سلمة وعبد بن حميد عن يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن جعفر بن الزبير به، ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين، وهو كما قال: فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجوه عديدة، فإن كلاً من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه، والله أعلم. ثم قال ابن جرير: ولو قال قائل: أن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهباً لأن قوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} وقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} الآية، وسائر الآيات التي هي نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم، (قلت): والذي قاله أولاً من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله لأن السياق يعطي غير ما قالوه، والله أعلم.
وقوله قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لما جعل الله إبراهيم إماماً سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه¹ وأما قوله تعالى: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فقد اختلفوا في ذلك. فقال خصيف عن مجاهد في قوله: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال: لا يكون لي إمام ظالم، وفي رواية: لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال: لا يكون إمام ظالم يقتدى به. وقال ابنأبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا مالك بن إِسماعيل أخبرنا شريك عن منصور عن مجاهد في قوله: {وَمِنْ(1/209)
ذُرِّيَّتِي} قال أما من كان منهم صالحاً فأجعله إِماماً يقتدى به، وأما من كان ظالماً فلا ولا نعمة عين. وقال سعيد بن جبير {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} المراد به المشرك لا يكون إِمام ظالم، يقول لا يكون إِمام مشرك، وقال ابن جريج عن عطاء قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} قال ومن ذريتي فأبى أن يجعل من ذريته إِماماً ظالماً، قلت لعطاء ما عهده ؟ قال أمره، وقال ابن أبي حاتم أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إِليّ أخبرنا الفريابي حدثنا إسماعيل حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال الله لإِبراهيم إِني جاعلك للناس إِماماً قال ومن ذريتي فأبى أن يفعل ثم قال {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وقال محمد ابن إِسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي أن يوليه شيئاً من أمره وإِن كان من ذرية خليله، ومحسن ستنفذ فيه دعوته وتبلغ له ما أراد من مسألته. وقال العوفي عن ابن عباس {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال يعني: لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه، وقال ابن جرير حدثنا إِسحاق أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله عن إِسرائيل عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال ليس للظالمين عهد وإِن عاهدته أنقضه وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال ليس لظالم عهد، وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به وأكل وعاش، وكذا قال إِبراهيم النخعي وعطاء وعكرمة، وقال الربيع بن أنس عهد الله الذي عهد إِلى عباده دينه يقول لا ينال دينه الظالمين، ألا ترى أنه قال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} يقول ليس كل ذريتك يا إِبراهيم على الحق، وكذا روي عن أبي العالية وعطاء ومقاتل بن حيان وقال جويبر عن الضحاك لا ينال طاعتي عدوّ لي يعصيني ولا أنحلها إلا ولياً يطيعني. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني، أخبرنا وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال لا طاعة إِلا في المعروف، وقال السدي: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} يقول عهدي نبوتي - فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية، على ما نقله ابن جرير وابن أبي حاتم رحمهما الله تعالى واختار ابن جرير أن هذه الآية وإِن كانت ظاهرة في الخبر، أنه لا ينال عهد الله بالإِمامة ظالماً، ففيها إِعلام من الله لإِبراهيم الخليل عليه السلام، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه كما تقدم عن مجاهد وغيره. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راوياً.
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُواْ مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إِلَىَ عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّآ إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنّكَ أَنتَ التّوّابُ الرّحِيمُ}
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُواْ مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} قال العوفي: عن ابن عباس قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ} يقول: لا يقضون فيه وطراً، يأتونه ثم يرجعون إِلى أهليهم ثم يعودون إِليه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: مثابة للناس يقول يثوبون، رواهما ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا إِسرائيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ} قال: يثوبون إِليه ثم يرجعون، قال وروي عن أبي العالية وسعيد بن جبير، في رواية وعطاء ومجاهد والحسن وعطية والربيع ابن أنس والضحاك(1/210)
نحو ذلك، وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم ابن أبي عمير حدثني الوليد بن مسلم، قال: قال أبو عمرو يعني الأوزاعي، حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ} قال لا ينصرف عنه منصرف، وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً، وحدثني يونس عن ابن وهب قال: قال ابن زيد {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ} قال يثوبون إِليه من البلدان كلها ويأتونه، وما أحسن ما قاله الشاعر في هذا المعنى أورده القرطبي:
جعل البيت مثاباً لهم ... ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال سعيد ابن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة وعطاء الخراساني {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} أي مجمعاً {وأمناً} قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمناً للناس. وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس عن أبي العالية {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} يقول وأمناً من العدو وأن يجعل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون، وروي عن مجاهد وعطاء والسدي وقتادة والربيع بن أنس قالوا: من دخله كان آمناً.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً، من كونه مثابة للناس، أي جعله محلاً تشتاق إِليه الأرواح، وتحن إِليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إِليه كل عام استجابة من الله تعالى، لدعاء خليله إِبراهيم عليه السلام، في قوله فاجعل أفئدة من الناس تهوي إِليهم، إِلى أن قال: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} ويصفه تعالى بأنه جعله آمناً من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمناً، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه، فلا يعرض له، كما وصف في سورة المائدة في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} أي يدفع عنهم بسبب تعظيمها السوء، كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناس هذا البيت، لأطبق الله السماء على الأرض، وما هذا الشرف إِلا لشرف بانيه أولاً، وهو خليل الرحمن، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً}. وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} وفي هذه الآية الكريمة، نبه على مقام إِبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده. فقال {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}، وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو، فقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن شبة النميري، حدثنا أبو خلف، يعني عبد الله بن عيسى، أخبرنا داود بن أبي هند عن مجاهد عن ابن عباس {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال: مقام إِبراهيم الحرم كله وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك، وقال أيضاً أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فقال سمعت ابن عباس قال: أما مقام إِبراهيم الذي ذكر ههنا، فمقام إِبراهيم هذا الذي في المسجد، ثم قال: ومقام إِبراهيم يعد كثير مقام إِبراهيم الحج كله، ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف وصلاتان بعرفة، والمشعر، ومنى، ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة، فقلت أفسره ابن عباس ؟ قال لا. ولكن قال مقام إِبراهيم الحج كله. قلت: أسمعت ذلك لهذا أجمع ؟ قال: نعم سمعته منه. وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال: الحجر مقام إِبرهيم نبي الله قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إِسماعيل الحجار، ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه. وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إِسماعيل تحت قدم إِبراهيم حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي وضعفه ورجحه غيره، وحكاه الرازي في(1/211)
تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الحسن بن محمد ابن الصباح، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن ابن جريج، عن جعفر بن محمد عن أبيه، سمع جابراً يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم، قال له عمر: هذا مقام أبينا ؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله عز وجل {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، وقال عثمان ابن أبي شيبة: أخبرنا أبو أسامة عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: قال عمر: قلت: يا رسول الله هذا مقام خليل ربنا ؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى ؟ فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، وقال ابن مردويه: أخبرنا دعلج بن أحمد، أخبرنا غيلان بن عبد الصمد، أخبرنا مسروق بن المرزبان، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة عن أبي إِسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب، أنه مر بمقام إِبراهيم فقال: يا رسول الله أليس نقوم بمقام خليل ربنا ؟ قال: بلى، قال: أفلا نتخذه مصلى ؟ فلم يلبث إلا يسيراً حتى نزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ،، وقال ابن مردويه: أخبرنا علي بن أحمد بن محمد القزويني، أخبرنا علي بن الحسين، حدثنا الجنيد، أخبرنا هشام ابن خالد، أخبرنا الوليد عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر، قال: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إِبراهيم، قال له عمر: يا رسول الله هذا مقام إِبراهيم الذي قال الله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ،، قال: نعم، قال الوليد: قلت لمالك: هكذا حدثك واتخذوا ؟ قال: نعم هكذا وقع في هذه الرواية وهو غريب، وقد روى النسائي من حديث الوليد ابن مسلم نحوه، وقال البخاري: باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، مثابة يثوبون يرجعون، حدثنا مسدد، أخبرنا يحي عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إِبراهيم مصلى فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، وقلت: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت: أن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن حتى أتت إِحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأنزل الله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الآية، وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني حميد، قال: سمعت أنساً عن عمر رضي الله عنهما، هكذا ساقه البخاري ههنا، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري، وقد تفرد عنه بالرواية البخاري من بين أصحاب الكتب الستة، وروى عنه الباقون بواسطة، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إِسناد الحديث، وإِنما لم يسنده لأن أبي أيوب الغافقي فيه شيء، كما قال الإِمام أحمد فيه هو سيء الحفظ، والله أعلم. وقال الإِمام أحمد: حدثنا هشيم، أخبرنا حميد عن أنس، قال: قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إِبراهيم مصلى، فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ،، وقلت: يا رسول الله، أن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} ، فنزلت كذلك، ثم رواه أحمد عن يحيى وابن أبي عدي كلاهما عن حميد، عن أنس عن عمر، أنه قال: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث، فذكره. وقد رواه البخاري عن عمر وابن عون والترمذي عن أحمد بن منيع والنسائي، عن يعقوب بن إِبراهيم الدورقي وابن ماجه، عن محمد بن الصباح، كلهم عن هشيم بن بشيربه. ورواه الترمذي أيضاً عن عبد بن حميد، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة والنسائي، عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة كلاهما، عن حميد وهو ابن تيرويه الطويل به. وقال(1/212)
الترمذي: حسن صحيح. ورواه الإمام علي بن المديني عن زيد بن زريع، عن حميد به، وقال: هذا من صحيح الحديث وهو بصري، ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر، فقال: أخبرنا عقبة بن مكرم، أخبرنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أساري بدر، وفي مقام إِبراهيم. وقال أبو حاتم الرازي: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: وافقني ربي في ثلاث أو وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إِبراهيم مصلى، فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، وقلت: يا رسول الله لو حجبت النساء، فنزلت آية الحجاب، والثالثة: لما مات عبد الله بن أبي، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، قلت: يا رسول الله تصلي على هذا الكافر المنافق ؟ فقال: إِيهاً عنك ياابن الخطاب، فنزلت {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وهذا إِسناد صحيح أيضاً، ولا تعارض بين هذا ولا هذا بل الكل صحيح ومفهوم العدد إِذا عارضه منطوق قدم عليه، والله أعلم، وقال ابن جريج: أخبرني جعفر عن محمد عن أبيه، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً حتى إِذا فرغ عمد إِلى مقام إِبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وقال ابن جرير: حدثنا يوسف بن سلمان، أخبرنا حاتم بن إِسماعيل، أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر، قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إِلى مقام إِبراهيم فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين، وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث حاتم بن إِسماعيل، وروى البخاري بسنده عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين، فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إِنما هو الحجر الذي كان إِبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إِسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إِلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إِلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم بناء جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إِبراهيم وإِسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
وموطىء إِبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافياً غير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب: أن أنس ابن مالك حدثهم، قال: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، وقال ابن جرير: بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا سعيد عن قتادة {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} إِنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. وقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى، (قلت) وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ومكانه معروف اليوم إِلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إِلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ولهذا، والله أعلم، أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إِبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإِنما أخره عن جدار(1/213)
الكعبة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" وهو الذي نزل القرآن بوفاته في الصلاة عنده، ولهذا لم ينكر ذلك أحد من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، قال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا، قال: أول ما نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال عبد الرزاق أيضاً عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: أول من أخر المقام إِلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضيل القطان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، حدثنا أبو إِسماعيل محمد بن إِسماعيل السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمان أبي بكر رضي الله عنه، ملتصقاً بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا إِسناد صحيح مع ما تقدم، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان، يعني ابن عيينة وهو إِمام المكيين في زمانه: كان المقام من سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحوله عمر إِلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إِياه من موضعه هذا، فرده عمر إِليه، وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، وقال سفيان لا أدري أكان لاصقاً بها أم لا ؟ فهذه الاَثار متعاضدة على ما ذكرناه، والله علم، وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم هو ابن أبي إِياس في تفسيره، أخبرنا شريك عن إِبراهيم بن المهاجر عن مجاهد، قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فكان المقام عند البيت، فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضعه هذا. قال مجاهد: وكان عمر يرىَ الرأي فينزل به القرآن، هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد: أن أول من أخر المقام إِلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم.
{وَعَهِدْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إِلَىَ عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّآ إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنّكَ أَنتَ التّوّابُ الرّحِيمُ}
قال الحسن البصري: قوله: {وَعَهِدْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيء، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده ؟ قال: أمره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {وَعَهِدْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ} أي أمرناه كذا، قال: والظاهر أن هذا الحرف إِنما عدي بإِلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله: {أن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ}(1/214)
قال: من الأوثان، وقال مجاهد وسعيد بن جبير {أن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ} أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال ابن أبي حاتم، وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة {أن طَهّرَا بَيْتِيَ} أي بلا إِله إِلا الله من الشرك، وأما قوله تعالى: {لِلطّائِفِينَ} فالطواف بالبيت معروف وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} يعني من أتاه من غرابة {وَالْعَاكِفِينَ} المقيمين فيه، وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس، أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه، كما قال سعيد بن جبير، وقال يحيى القطان عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان، عن عطاء في قوله: {وَالْعَاكِفِينَ} قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين، وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إِذا كان جالساً فهو من العاكفين، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا موسى بن إِسماعيل، أخبرنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إِلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإِنهم يجنبون ويحدثون. قال: لا تفعل، فإِن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون. ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به، (قلت) وقد ثبت في الصحيح أن الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب، وأما قوله تعالى: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء عن ابن عباس: والركع السجود، قال: إِذا كان مصلياً فهو من الركع السجود، وكذا قال عطاء وقتادة. قال ابن جرير رحمه الله: فمعنى الآية، وأمرنا إِبراهيم وإِسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهير الذي أمرنا به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، ثم أورد سؤالاً فقال: فإِن قيل: فهل كان قبل بناء إِبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه وأجاب بوجهين: (أحدهما) أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إِذ كان الله تعالى قد جعل إِبراهيم إِماماً يقتدى به، كما قال عبد الرحمن بن زيد {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} قال: من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها (قلت) وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إِبراهيم عليه السلام، ويحتاج إِثبات هذا إِلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم. (الجواب الثاني) أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جل ثناؤه: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} قال: فكذلك قوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، كما قال السدي {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} ابنيا بيتي للطائفين، وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به، والعاكفين عنده، والمصلين إليه من الركع السجود، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الاَيات.
وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك رحمه الله، الطواف به لأهل الأمصار أفضل. وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقاً، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام، والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}(1/215)
ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها وركوعها وسجودها، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام، وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى، لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده، وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
وتقدير الكلام إذا {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي طهراه من الشرك والريب، وابنياه خالصاً لله معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود، وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة، ومن قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَاسمه يسبح له فيها بالغدو والاَصال} ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة، ولله الحمد والمنة، وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة، فقيل: الملائكة قبل آدم، روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين، ذكره القرطبي وحكى لفظه، وفيه غربة، وقيل: آدم عليه السلام، رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي، وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه: أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذه إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال الإمام أبو جعفر بن جرير: أخبرنا ابن بشار قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، أخبرنا سفيان عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها" وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار، عن بندار به، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري، وقال ابن جرير أيضاً: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، وأخبرنا أبو كريب، أخبرنا عبد الرحيم الرازي، قالا جميعاً: سمعنا أشعث عن نافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: عضاهها وصيدها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير" وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر، جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم أن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما(1/216)
دعاك لمكة، ومثله معه" ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ "بركة مع بركة" ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان - لفظ مسلم، ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها" إنفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به، ولفظه كلفظه سواء، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل، وقال في الحديث: ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه" فلما أشرف على المدينة قال: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثلما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" وفي لفظ لهما "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم" زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما أيضاً عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة " وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة" رواه البخاري وهذا لفظه، ولمسلم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة" وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اللهم أن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين" الحديث، رواه مسلم، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة، لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة. وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى، والله يعلم.
وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها" فقال العباس: يا رسول الله: إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم، ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك، ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم بن يناق، عن صفية بنت شيبة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح، فقال: "يا أيها الناس، أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يأخذ لقطتها إلا منشد" فقال العباس: إلا الإذخر، فإنه للبيوت والقبور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: إئذن لي أيها الأمير أن أحادثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من(1/217)
يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به - إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: أن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب" فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو ؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، أن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدمٍ ولا فاراً بخربة، رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوباً عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} الآية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن بدء أمرك. فقال: "دعوة أبي إبراهيم عليه السلام، وبشرى عيسى بن مريم، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك، كما سيأتي قريباً أن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها أن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخباراً عن الخليل أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً، كقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} إلى غير ذلك من الآيات، وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه. وفي صحيح مسلم عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح" وقال في هذه السورة {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً} وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} وناسب هذا هناك لأنه، والله أعلم، كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا قال في آخر الدعاء {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}.
وقوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قال: هو قول الله تعالى، وهذا قول مجاهد وعكرمة، وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله. قال: وقرأ آخرون: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً، وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} يقول، ومن كفر فأرزقه قليلاً(1/218)
أيضاً {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قال محمد بن إسحاق: لما عنّ لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعاً إلى الله ومحبته، وفراقاً لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك، قال الله: ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلاً، وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال ابن عباس: كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله: ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير، ثم قرأ ابن عباس {كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} رواه ابن مردويه، وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضاً، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} وقوله تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقوله: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} وقوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير، ومعناه أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} وفي الصحيحين "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم" وفي الصحيح أيضاً "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وقرأ بعضهم {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} الآية، جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة، وتركيب السياق يأبى معناها، والله أعلم، فإن الضمير في قال: راجع إلى الله تعالى في قراءة الجمهور، والسياق يقتضيه، وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائداً على إبراهيم، وهذا خلاف نظم الكلام، والله سبحانه هو العلام.
وأما قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فالقواعد جمع قاعدة وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ويقولان تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، (قلت) ويدل على هذا قولهما بعده {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} الآية، فهما في عمل صالح، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين الخلص في قوله: {وَالَّذِينَ(1/219)
يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي خائفة أن ألاّ يتقبل منهم، كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه. وقال بعض المفسرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل، والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري ههنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك، قال البخاري رحمه الله حدثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً ليعفّى أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفا إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنيس ؟ ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بذا ؟ قال: نعم: قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه، فقال {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ} وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي: رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما" فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت "صه" - تريد نفسها - ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت أن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عيناً معيناً" قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرهَم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: أن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين، فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبرهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس" فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل ليطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل، كأنه أنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ(1/220)
كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك، وطلقها وتزوج منهم بأخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد، فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل، قال: ما طعامكم ؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم ؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه" قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد ؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء ؟ قالت: نعم، وهو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، أن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني ؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولاً، ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبد الله بن حماد الطبراني، وابن جرير عن أحمد بن ثابت الرازي، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصراً.
وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا إسماعيل بن علي، أخبرنا بشر بن موسى، أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي، أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبد الملك بن جريج، عن كثير بن كثير، قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلاً، فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل أن لا تروني، فسألوه عن المقام، فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس، فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة، فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء، نادته من ورائه: يا إبراهيم، إلى من تتركنا ؟ قال: إلى الله، قال: فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فصعدت الصفا، فنظرت هل تحس أحداً، فلم تحس أحداً فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإِذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت هل تحس أحداً فلم تحس أحداً فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة فجعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإِذا هي بصوت(1/221)
فقالت: أغث أن كان عندك خير، فإِذا جبريل عليه السلام، قال: فقال بعقبه: هكذا، وغمز عقبه على الأرض، فانبثق الماء، فدهشت أم إِسماعيل، فجعلت تحفر، قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لو تركته لكان الماء ظاهراً " قال: فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها، قال فمر ناس من جرهم ببطن الوادي، فإِذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون الطير إِلا على ماء فبعثوا رسولهم، فنظر فإِذا هو بالماء، فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إِليها، فقالوا: يا أم إِسماعيل، أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك ؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة، قال: ثم إِنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إِني مطلع تركتي، قال: فجاء فسلم، فقال: أين إِسماعيل ؟ قالت امرأته: ذهب يصيد، قال: قولي له إِذا جاء: غيّر عتبة بابك، فلما أخبرته، قال: أنت ذاك فاذهبي إِلى أهلك، قال: ثم إِنه بدا لإبراهيم فقال: إِني مطلع تركتي، قال: فجاء فقال: أين إِسماعيل ؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب ؟ فقال، ما طعامكم، وما شرابكم ؟ فقالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "بركة بدعوة إبراهيم، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إِني مطلع تركتي، فجاء فوافق إِسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال: يا إِسماعيل، أن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتاً: فقال: أطع ربك عز وجل، قال: إِنه قد أمرني أن تعينني عليه، فقال: إِذن أفعل - أو كما قال - قال: فقام فجعل إِبراهيم يبني وإِسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال: حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء.
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم عن محمد بن سنان القزاز عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عن إِبراهيم بن نافع به، وقال، صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال، وقد رواه البخاري كما ترى من حديث إِبراهيم بن نافع، وكأن فيه اختصاراً فإِنه لم يذكر فيه شأن الذبح، وقال جاء في الصحيح أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة، وقد جاء أن إِبراهيم عليه السلام كان يزور أهله بمكة على البراق سريعاً ثم يعود إِلى أهله بالبلاد المقدسة، والله أعلم، إنما فيه مرفوع أماكن صرح بها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا، كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: أخبرنا مؤمل، أخبرنا سفيان عن أبي إِسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي بن أبي طالب، قال: لما أمر إِبراهيم ببناء البيت خرج معه إِسماعيل وهاجر، قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه قال: يا إِبراهيم، ابن على ظلي، أو قال: على قدري، ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى خرج وخلف إِسماعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إِبراهيم، إِلى من تكلنا ؟ قال: إِلى الله، قالت: انطلق فإِنه لا يضيعنا، قال: فعطش إِسماعيل عطشاً شديداً، قال فصعدت هاجر إِلى الصفا، فنظرت فلم تر شيئاً، حتى أتت المروة فلم تر شيئاً، ثم رجعت إِلى الصفا فنظرت فلم تر شيئاً، ففعلت ذلك سبع مرات، فقالت: يا إِسماعيل مت حيث لا أراك، فأتته وهو يفحص برجله من العطش، فناداها جبريل فقال لها: من أنت ؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إِبراهيم، قال: فإِلى من وكلكما ؟ قالت: وكلنا إِلى الله، قال: وكلكما إِلى كاف، قال: ففحص الغلام الأرض بأصبعه، فنبعت زمزم فجعلت تحبس الماء، فقال: دعيه فإِنها(1/222)
رواء، ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقها، وقد يحتمل أنه كان محفوظاً أن يكون أولا وضع له حوطاً وتحجيراً لا أنه بناه إِلى أعلاه، حتى كبر إِسماعيل فبنياه معاً كما قال الله تعالى.
ثم قال ابن جرير: أخبرنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة: أن رجلاً قام إِلى علي رضي الله عنه، فقال: ألا تخبرني عن البيت، أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال: لا، ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إِبراهيم، ومن دخله كان آمناً، وإِن شئت أنبأتك كيف بني: أن الله أوحى إِلى إِبراهيم أن ابن لي بيتاً في الأرض، فضاق إِبراهيم بذلك ذرعاً فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إِلى مكة فتطورت على موضع البيت كطي الحجفة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فبنى إِبراهيم وبقي الحجر فذهب الغلام يبغي شيئاً، فقال إِبراهيم: أبغني حجراً كما آمرك، قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجراً فأتاه به فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، قال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر ؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل عليه السلام من السماء فأتماه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، أخبرنا سفيان عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار، قال: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عاماً، ومنه دحيت الأرض. قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب: أن إِبراهيم أقبل من أرض أرمينية ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتاً، قال: فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إِلا ثلاثون رجلاً، فقلت: يا أبا محمد فإِن الله يقول {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قال: كان ذلك بعد، وقال السدي: أن الله عز وجل أمر إِبراهيم أن يبني البيت هو وإِسماعيل، ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود. فانطلق إِبراهيم حتى أتى مكة فقام هو وإِسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحاً يقال لها الريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكشفت لهما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حت وضعا الأساس، فذلك حين يقول تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} ، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن، قال إِبراهيم لإسماعيل: يا بني، اطلب لي حجراً حسناً أضعه ههنا. قال: يا أبت إِني كسلان لغب، قال: علىّ بذلك، فانطلق يطلب له حجراً فجاءه بحجر فلم يرضه فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا فانطلق يطلب له حجراً، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إِسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك بهذا ؟ قال: جاء به من هو أنشط منك، فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى إِبراهيم ربه، فقال {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إِبراهيم، وإِنما هدي إِبراهيم إِليها وبوىء لها، وقد ذهب إِلى هذا ذاهبون، كما قال الإمام عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قال، القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك، وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم يأنس إِليهم، فهابت الملائكة حتى شكت إِلى الله في دعائها وفي صلاتها، فخفضه الله تعالى إِلى الأرض، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش، حتى شكا ذلك إِلى الله في دعائه(1/223)
وفي صلاته، فوجه إِلى مكة فكان موضع قدميه قرية، وخطوه مفازة، حتى انتهى إِلى مكة وأنزل الله ياقوته من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إِبراهيم عليه السلام فبناه، ذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء، قال: قال آدم: إِني لا أسمع أصوات الملائكة، فقال: بخطيئتك، ولكن اهبط إِلى الأرض فابن لي بيتاً ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي، وكان ربضه من حراء، فكان هذا بناء آدم حتى بناه إِبراهيم عليه السلام بعد، وهذا صحيح إِلى عطاء ولكن في بعضه نكارة، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن قتادة، قال: وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إِلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إِلى ستين ذراعاً، فحزن آدم إِذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إِلى الله عز وجل، فقال الله: يا آدم إِني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يُصلّى عند عرشي، فانطلق إِليه آدم، فخرج ومدّ له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك، فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء.
وقال ابن جرير: أخبرنا ابن حميد، أخبرنا يعقوب القمىّ، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال، وضع الله البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه إسماعيل وأمه هاجر وإسماعيل طفل صغير يرضع، وحملوا فيما حدثني على البراق، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، خرج معه جبريل، فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل: امضه، حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر، وبها أناس يقال لهم: العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما ؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً، فقال {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} وقال عبد الرزاق: أخبرنا هشام بن حسان، أخبرني حميد، عن مجاهد، قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة، وكذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: القواعد في الأرض السابعة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، أخبرنا عمرو بن رافع أخبرنا عبد الوهاب بن معاوية عن عبد المؤمن بن خالد، عن علياء بن أحمر: أن ذا القرنين قدم مكة، فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل. فقال: ما لكما ولأرضي ؟ فقال: نحن عبدان مأموران، أمرنا ببناء هذه الكعبة. قال: فهاتا البينة على ما تدعيان. فقامت خمسة أكبش فقلن: نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران أمرا ببناء هذه الكعبة. فقال: قد رضيت وسلمت، ثم مضى، وذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم عليه السلام بالبيت، وهذا يدل على تقدم زمانه، والله أعلم.
وقال البخاري رحمه الله: قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} الآية، القواعد:(1/224)
أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة. حدثنا إسماعيل: حدثني مالك عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟" فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال "لولا حدثان قومك بالكفر" فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم عليه السلام. وقد رواه في الحج عن القعنبي، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف ومسلم، عن يحيى بن يحيى، ومن حديث ابن وهب والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم كلهم عن مالك به. ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة، يحدث عبد الله بن عمر عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال: بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر" وقال البخاري: أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود، قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة تسر إليك حديثاً كثيراً، فما حدثتك في الكعبة ؟ قال: قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم - فقال ابن الزبير - بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باباً يدخل منه الناس، وباباً يخرجون منه" ففعله ابن الزبير، انفرد بإخراجه البخاري فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه، وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إِبراهيم، فإن قريشاً حين بنت البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفاً" قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، قالا: أخبرنا ابن نمير عن هشام بهذا الإسناد انفرد به مسلم، قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثني ابن مهدي، أخبرنا سليم بن حيان عن سعيد يعني ابن ميناء، قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول: حدثتني خالتي، يعني عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة لولا قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها باباً شرقياً، وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإِن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة " انفرد به أيضاً.
ذكر بناء قريش الكعبة بعد إِبراهيم الخليل عليه السلام بمدد طويلة,وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم في الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائماً إِلى يوم الدين. قال محمد بن إِسحاق بن يسار في السيرة: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثون سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإِنما كانت رضماً فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة، وإِنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده، ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك، وكان البحر قد رمى بسفينة إِلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية(1/225)
تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدي لها كل يوم تتشدق على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إِلا احزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تتشدّق على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إِليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إِنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إِلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إِلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، قال ابن إسحاق: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، قال: ثم أن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إِليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم، ثم أن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة، أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إِنا لا نريد إِلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإِن أصيب لم نهدم منها شيئاً، ورددناها كما كانت، وإِن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إِذا انتهى الهدم بهم إِلى الأساس، أساس إِبراهيم عليه السلام، أفضوا إِلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاً، قال: فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق: ثم أن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، يعني الحجر الأسود، فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إِلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا "لعقة الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إِنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلهم، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إِلي ثوباً، فأتي به فأخذ الركن، يعني الحجر الأسود، فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بني عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل الوحي الأمين فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:(1/226)
جبت لما تصوبت العقاب
...
إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش
...
وأحياناً يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت
...
تهيبنا البناء وقد تهاب
فلما أن خشينا الرجز جاءت
...
عقاب تتلئب لها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت
...
لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء
...
لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه
...
وليس على مساوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي
...
فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عديٍ
...
ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزا
...
ًوعند الله يلتمس الثواب
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعاً، وكانت تكسى القباطي، ثم كسيت بعد البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف، (قلت) ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذٍ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الحجر، وجعل لها باباً شرقياً وباباً غربياً ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: أخبرنا هناد بن السري، أخبرنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن أبي سليمان عن عطاء، قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يحزبهم أو يجيرهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يأيها الناس، أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهيَ منها ؟ قال ابن عباس: فإني قد خرق لي رأي فيها، أرى أن تصلح ما وهَيَ منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها، وبعث عليها صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم عز وجل ؟ إني مستخير ربي ثلاثاً، ثم عازم على أمري، فلما مضت ثلاث، أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه، وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه" قال: فأنا أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس، قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدي له أساً، فنظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً فلما زاد فيه اسقصره فزاد في أوله عشرة أذرع وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قتل ابن الزبير، كتب الحجاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة: فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه،(1/227)
فنقضه وأعاده إلى بنائه، وقد رواه النسائي في سننه عن هناد، عن يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن الزبير عن عائشة بالمرفوع منه، ولم يذكر القصة وقد كانت السنة إقراراً ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، لأنه هو الذي ودّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك بن مروان، ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنهاروت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: وددنا أنا تركناه وما تولى، كما قال مسلم: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال عبد الله بن عبيد: وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا حبيب، يعني ابن الزبير، سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا ؟ قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه، فهلمي لأريك ما تركوه منه" فأراها قريباً من سبعة أذرع، هذا حديث عبد الله بن عبيد بن عمير، وزاد عليه الوليد بن عطاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض: شرقياً وغربياً، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها" قالت: لا. قال "تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال: نعم، قال فنكت ساعة بعصاه، ثم قال: وددت أني تركته وما تحمل. قال مسلم: وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا أبو عاصم(ح)، وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج بهذا الإسناد مثل حديث أبي بكر، قال: وحدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن أبي قزعة: أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين، يقول سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حتى أزيد فيها من الحجر. فإن قومك قصروا في البناء" فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فإني سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير، فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة، لأنه قد روي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير، فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير، فلو ترك لكان جيداً.
ولكن بعدما رجع الأمر إلى هذا الحال، فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها، فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان، إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" أخرجاه، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً" رواه البخاري، وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: أخبرنا أحمد بن عبد الملك الحراني، أخبرنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله(1/228)
عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله" - الفدع: زيغ بين القدم وعظم الساق - وهذا، والله أعلم، إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليحجن البيت وليعتمرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج ".
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قال ابن جرير: يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، ولا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا إسماعيل عن رجاء ابن حبان الحصني القرشي، أخبرنا معقل بن عبيد الله عن عبد الكريم {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} قال: مخلصين لك، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} قال: مخلصة، وقال أيضاً: أخبرنا علي بن الحسين، أخبرنا المقدمي، أخبرنا سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ} قال: كانا مسلمين، ولكنهما سألاه الثبات. وقال عكرمة { ربنا واجعلنا مسلمين لك} قال الله: قد فعلت، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} قال الله: قد فعلت. وقال السدي {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} يعنيان العرب. قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} ، (قلت) وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي، فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو العرب، ولهذا قال بعده {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} الآية. والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وغير ذلك من الأدلة القاطعة، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له. ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} قال {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وهو قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قال ابن جرير عن عطاء {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أخرجها لنا علمناها، وقال مجاهد {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} مذابحنا. وروي عن عطاء أيضاً وقتادة نحو ذلك. وقال سعيد بن منصور: أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف، عن مجاهد، قال: قال إبراهيم {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} فأراه جبرائيل فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد، فرفع القواعد وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبر وارمه، فكبر ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه، فكبر ورماه، فذهب الخبيث إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئاً، فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، فأخذ بيد(1/229)
إبراهيم أتى به عرفات، قال: قد عرفت ما أريتك ؟ قالها ثلاث مرات، قال: نعم. وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك، وقال أبو داود الطيالسي: أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، قال: أن إبراهيم لما أري أوامر المناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى، قال: هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب فأتى به جميعاً، فقال: هذا المشعر، ثم أتى به عرفة، فقال: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت ؟.
{رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}
يقول تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، أي من ذرية إبراهيم، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولاً في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن، كما قال الإمام أحمد: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين" وكذلك رواه ابن وهب والليث وكاتبه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح وتابعه أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد به، وقال الإمام أحمد أيضاً: أخبرنا أبو النضر، أخبرنا الفرج، أخبرنا لقمان بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا رسول الله: ما كان أول بدء أمرك ؟ قال "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي. ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام، ولم يزل ذكره في الناس مذكوراً مشهوراً سائراً حتى أفصح باسمه خاتم الأنبياء بني إسرائيل نسباً، وهو عيسى بن مريم عليه السلام، حيث قام في بني إسرائيل خطيباً، وقال {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ولهذا قال في هذا الحديث دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم. وقوله: ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، قيل كان مناماً رأته حين حلمت به، وقصته على قومها، فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" وفي صحيح البخاري "وهم بالشام" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: قد استجيب لك، وهو كائن في آخر الزمان، وكذا قال السدي وقتادة، وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} يعني القرآن، {وَالْحِكْمَةَ} يعني السنة، قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن(1/230)
حيان وأبو مالك وغيرهم، وقيل: الفهم في الدين ولا منافاة، {وَيُزَكِّيهِمْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني طاعة الله وقال محمد بن إسحاق {ويعلمهم الكتاب والحكمة} قال الخير فيفعلوه والشر فيتقوه، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته، وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي العزيز الذي لا يعجزه شيء، وهو قادر على كل شيء الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله.
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مّلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَوَصّىَ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيّ أن اللّهَ اصْطَفَىَ لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنّ إَلاّ وَأَنْتُم مّسْلِمُونَ}
يقول تبارك وتعالى رداً على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدعو معه غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه خالف في ذلك سائر قومه حتىَ تبرأ من أبيه، فقال {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} ولهذا وأمثاله قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} عن طريقته ومنهجه فيخالفها ويرغب عنها {إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} ؟ أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلاً، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طريق الضلالة والغيّ، فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا ؟ كما قال تعالى: أن الشرك لظلم عظيم، قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود، أحدثوا طريقاً ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي أمره الله بالإخلاص والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً، وقوله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} أي وصى بهذه الملة، وهي الإسلام لله، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} لحرصهم عليها ومحبتهم لها، حافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقد قرأ بعض السلف ويعقوب بالنصب عطفاً على بنيه، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضراً ذلك، وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح، والظاهر، والله أعلم، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة، لأن البشارة وقعت بهما في قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} وقد قرىء(1/231)
بنصب يعقوب ههنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضاً فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} الآية، وقال في الآية الأخرى {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} وهذا يقضي أنه وجد في حياته، وأيضاً فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول ؟ قال: "المسجد الحرام" قلت: ثم أي ؟ قال "بيت المقدس"، قلت: كم بينهما ؟ قال "أربعون سنة" الحديث، فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس - وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه - وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين، والله أعلم، وأيضاً فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريباً، وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين. وقوله: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأنه من قصد الخير وفق له ويسر عليه، ومن نوى صالحاً ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وقد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
يقول تعالى محتجاً على المشركين من العرب أبناء إسماعيل وعلى الكفار من بني إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام - بأن يعقوب لما حضرته الوفاة، وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال لهم {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وهذا من باب التغليب، لأن إسماعيل عمه، قال نحاس: والعرب تسمي العم أباً، نقله القرطبي، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أباً وحجب به الإخوة، كما هو قول الصديق، حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير، ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف، وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة، وحكي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ولتقريرها(1/232)
موضع آخر، وقوله: {إِلَهاً وَاحِداً} أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئاً غيره، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي مطيعون خاضعون، كما قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، والآيات في هذا كثيرة والأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" وقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي مضت، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} أي أن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم {وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال أبو العالية والربيع وقتادة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط ولهذا جاء في الأثر "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصاري مثل ذلك، فأنزل الله عز وجل {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُواْ} وقوله: {قُلْ بَلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أي لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية بل نتبع {مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أي مستقميا، قاله محمد بن كعب القرظي وعيسى بن جارية، وقال خصيف عن مجاهد مخلصا، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس حاجاً، وكذا روي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي، وقال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى أن حجه عليه أن استطاع إليه سبيلا. وقال مجاهد والربيع بن أنس: حنيفاً أي متبعاً. وقال أبو قلابة: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى أخرهم، وقال قتادة: الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله، يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله عز وجل والختان.
{قُولُوَاْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ وَعِيسَىَ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم كلهم، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} الآية، وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا عثمان بن عمرة، أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل(1/233)
الله". وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم عن سعيد بن يسار عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلي الركعتين اللتين قبل الفجر ب {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية، والأخرى ب {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، وقال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً، ولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسموا الأسباط. وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل، وقال الزمخشري في الكشاف: الأسباط قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط ههنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، كما قال موسى لهم {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} الآية، وقال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} قال القرطبي: وسموا الأسباط من السبط، وهو التتابع، فهم جماعة، وقيل أصله من السبط، بالتحريك، وهو الشجر، أي في الكثرة بمنزلة الشجر الواحدة سبطة قال الزجاج: ويبين لك أصله ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري، حدثنا أبو نجيد الدقاق، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، قال القرطبي: والسبط الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد، وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله. وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوارة والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما. وقال ابن أبي حاتم: اخبرنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري، أخبرنا مؤمل، أخبرنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح، عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن".
{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}
يقول تعالى: فإن آمنوا، يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، بمثل ما آمنتم به يا أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم {فَقَدِ اهْتَدَواْ} أي فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه {وّإِن تَوَلّوْاْ} أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم {فَإِنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ} ، أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم {وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قال ابن أبي حاتم: قرأ عليّ بونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا زياد بن يونس، حدثنا نافع بن أبي نعيم، قال: أرسل إلى بعض الخلفاء مصحف عثمان بن عفان ليصلحه، قال زياد: فقلت له: أن الناس ليقولون أن مصحفه كان في حجره حين قتل فوقع الدم على {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} فقال نافع: بصرت عيني بالدم على هذه الآية، وقد قدم، وقوله {صِبْغَةَ اللّهِ} ، قال الضحاك عن ابن عباس: دين الله، وكذا روي عن مجاهد وأبي العالية وعكرمة وإبراهيم والحسن وقتادة والضحاك وعبد الله بن كثير وعطية العوفي والربيع بن أنس والسدي نحو، ذلك وانتصاب صبغة الله إما على الإغراء كقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ} أي الزموا ذلك عليكموه، وقال بعضهم: بدلاً من قوله: {مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} وقال سيبويه: هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} كقوله: {وَعَدَ اللَّهُ} وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن(1/234)
مردويه من رواية أشعث بن إسحاق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل قالوا: يا رسول الله، هل يصبغ ربك ؟ فقال: اتقوا الله. فناداه ربه: يا موسى سألوك هل يصبغ ربك ؟ فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان: الأحمر والأبيض والأسود، والألوان كلها من صبغي" وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعاً، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف وهو أشبه أن صح إسناده والله أعلم.
{قُلْ أَتُحَآجّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبّنَا وَرَبّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ أن إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يقول الله تعالى مرشداً نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين: {قُلْ أَتُحَآجّونَنَا فِي اللّهِ} أي تناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والإنقياد واتباع أوامره وترك زواجره {وَهُوَ رَبّنَا وَرَبّكُمْ} المتصرف فينا وفيكم المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي نحن براء منكم ومما تعبدون وأنتم براء منا، كما قال في الآية الأخرى {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} إلى آخر الآية، وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} إلى آخر الآية، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} الآية، وقال في هذه الآية الكريمة {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي نحن براء منكم كما أنتم براء منا، ونحن له مخلصون أي في العبادة والتوجه، وثم أنكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من ألأنبياء والأسباط، كانوا على ملتهم إما اليهودية وإما النصرانية، فقال: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} يعني بل الله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى كما قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية والتي بعدها، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} قال الحسن البصري: كانوا يقرءون في كتاب الله الذي أتاهم أن الدين الإسلام وإن محمداً رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، كانوا براء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك، وأقروا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك، وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تهديد ووعيد شديد، أي أن علمه محيط بعلمكم وسيجزيكم عليه. ثم قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي قد مضت، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم {وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله واتباع رسله الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد، فقد كفر بسائر الرسل ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.(1/235)
{سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّن يَنقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أن اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ}
قيل: المراد بالسفهاء - ههنا مشركوا العرب، قاله الزجاج، وقيل: أحبار يهود، قاله مجاهد، وقيل: المنافقون، قاله السدي، والآية عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم. قال البخاري: أخبرنا أبو نعيم، سمع زهيراً عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أن اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ} انفرد به البخاري من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر، وقال محمد بن إسحاق: حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فقال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس، فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وقال السفهاء من الناس، وهم أهل الكتاب: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} إلى آخر الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال: فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} فأنزل الله {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت(1/236)
المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قال ابن عباس والجمهور، ثم اختلف هؤلاء، هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره على قولين ؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري: أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه السلام، والمقصود: أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر، كما تقدم في الصحيحين رواية البراء، ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر، وقال: كنت أنا وصاحبي أول من صلى إلى الكعبة، وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم: أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر، وذلك في مسجد بني سلمة، فسمي مسجد القبلتين، وفي حديث نويلة بنت مسلم: أنهم جاءهم الخبر بذلك وهم في صلاة الظهر، قالت: فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري، وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر اليوم الثاني، كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله وإبلاغه، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء، والله أعلم. ولما وقع هذا، حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب، وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أي قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا ؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي الحكم والتصرف والأمر كله لله {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} و {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة: فنحن عبيده وفي تصرفه، وخدامه حيثما وجهنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وقد روى الإمام أحمد عن علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني في أهل الكتاب: "إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين".
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط ههنا الخيار، والأجود كما يقال: قريش(1/237)
أوسط العرب نسباً وداراً، أي خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها: ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً، خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت ؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك ؟ فيقول: محمد وأمته، قال فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: والوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم" رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش، وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك، فيدعى قومه، فيقال: هل بلغكم هذا ؟ فيقولون: لا فيقال له: هل بلغت قومك ؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك ؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم ؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: عدلاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال عدلاً. وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم، من حديث عبد الواحد بن زياد عن أبي مالك الأشجعي عن المغيرة بن عتيبة بن نباس، حدثني مكاتب لنا عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ود أنه منا وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز وجل" ، وروى الحاكم في مستدركه وابن مردويه أيضاً، واللفظ له من حديث مصعب بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي عن جابر بن عبد الله قال: شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني مسلمة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: والله يا رسول الله لنعم المرء كان، لقد كان عفيفاً مسلماً وكان... وأثنوا عليه خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت بما تقول. فقال الرجل: الله يعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت وجبت" ، ثم شهد جنازة في بني حارثة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله بئس المرء كان أن كان لفظاً غليظاً فأثنوا عليه شراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: أنت بالذي تقول. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت. قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ثم قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود أنه قال: أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتاً ذريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خيراً، فقال: وجبت وجبت، ثم مر بأخرى فأثني عليها شراً،(1/238)
فقال عمر: وجبت. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين قال، قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة" قال: فقلنا وثلاثة قال: فقال "وثلاثة" قال: فقلنا واثنان: قال "واثنان". ثم لم نسأله عن الواحد. وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات به. وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثني أبو الوليد حدثنا نافع بن عمر حدثني أمية بن صفوان عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنباءة يقول: "يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم" قالوا: بم يا رسول الله ؟ قال: "بالثناء الحسن والثناء السيء أنتم شهداء الله في الأرض" ، ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون، ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وعبد الملك بن عمر وشريح عن نافع عن ابن عمر به.
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} يقول تعالى: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك، ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبه، أي مرتداً عن دينه وإن كانت لكبيرة، أي هذه الفعلة وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} ، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وإتباعه في ذلك وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب من سادات الصحابة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقال البخاري في تفسير هذه الآية: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة. وقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري وعنده أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع، وكذا رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مثله، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عز وجل رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس: ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه، وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى،(1/239)
أي ليعطيكم أجرهما جميعاً {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال الحسن البصري {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي ما كان الله ليضيع محمداً صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه" ؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها".
{قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فارتابت من ذلك اليهود وقالوا: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيد الله بن عمر عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، فأنزل الله {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به جبرائيل عليه السلام. وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالساً في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلى هذه الآية، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قال نحو ميزاب الكعبة. ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن هشام عن يعلى بن عطاء به. وهكذا قال غيره وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه، أن الغرض إصابة عين الكعبة، والقول الآخر وعليه الأكثرون: أن المراد المواجهة، كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عمير بن زياد الكندي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال شطره قبله، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم. وكما تقدم في الحديث الآخر "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وقال القرطبي: روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي" وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه قبلته قبل البيت ؟ وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع(1/240)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة، فنزلت {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فصرف إلى الكعبة وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقلت: لقد حدث أمر فجلست، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتبن قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكون أول من صلى، فتوارينا فصليناها. ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذ، وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر: أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر وإنها الصلاة الوسطى، والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر، وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا رجاء بن محمد السقطي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إبراهيم بن جعفر، حدثني أبي عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم قالت: صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتيتن ونحن مستقبلون البيت الحرام، فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أولئك رجال يؤمنون بالغيب" وقال ابن مردويه أيضاً، حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا قيس عن زياد بن علامة عن عمارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع إذ نادى مناد بالباب: أن القبلة قد حولت إلى الكعبة، قال فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة، وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال. وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئاً في نفس الأمر، لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.
(مسألة) وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام، وقال بعضهم: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره. وقال شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره.
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم وانصرافكم عن بيت المقدس، يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن(1/241)
أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً ولهذا تهددهم تعالى بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذَاً لّمِنَ الظّالِمِينَ}
يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} ولهذا قال ههنا {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} وقوله: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم، فهو أيضاً مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ولا كونه متوجهاً إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى، ثم حذر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى، فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره، ولهذا قال مخاطباً للرسول والمراد به الأمة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
{الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنّ فَرِيقاً مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}
يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب، يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا، كما جاء في الحديث. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير "ابنك هذا" ؟ قال: نعم يا رسول الله أشهد به، قال "أما أنه لا يخفى عليك ولا تخفى" عليه " قال القرطبي: ويروى عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمداً كما تعرف ولدك ؟ قال، نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمه (قلت) وقد يكون المراد {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} من بين أبناء الناس كلهم، لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أبناء الناس كلهم. ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، ثم ثبت تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}
{وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً أن اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(1/242)
قال العوفي عن ابن عباس: ولكل وجهة هو موليها يعني بذلك أهل الأديان، يقول لكل قبيلة قبلة يرضونها ووجهة الله حيث توجه المؤمنون. وقال أبو العالية: لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس والسدي نحو هذا، وقال مجاهد في الرواية الأخرى، والحسن أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر الباقر وابن عامر {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مولاها} ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} وقال ههنا {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنّهُ لَلْحَقّ مِن رّبّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلاُتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ}
هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض، قد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات، فقيل، تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص فيه ابن عباس وغيره، وقيل: بل هو منزل على أحوال، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة، والثاني لمن هو في مكة غائباً عنها، والثالث لمن هو في بقية البلدان، هكذا وجهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي: الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار، ورجح هذا الجواب القرطبي، وقيل: إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق، فقال: أولا {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} إلى قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان كان يود التوجه إليها ويرضاها، وقال في الأمر الثاني، {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فذكر أنه الحق من الله وارتقاءه المقام الأول، حيث كان موافقاً لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضاً من الله يحبه ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها الرازي وغيره، والله أعلم. وقوله، {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} أي: أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس، وهذا أظهر، قال أبو العالية: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} يعني به أهل(1/243)
الكتاب حين قالوا: صرف محمد إلى الكعبة. وقالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام، أن قالوا، سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس وقتادة والسدي نحو هذا، وقال هؤلاء في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يعني مشركي قريش. ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة، أن قالوا: أن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم، فلم يرجع عنه والجواب أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس، أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة، فامتثل أمر الله في ذلك أيضاً، فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له، وقوله، {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه، وقوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} عطف على {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ، أي، لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.
{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكّيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}
يذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، ويزكيهم، أي، يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الكتاب، وهو القرآن، والحكمة وهي السنة، ويعلمهم مالم يكونوا يعلمون، فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالعقول الغراء، فانتقلوا ببركة رسالته، ويمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء. فصاروا أعمق الناس علماً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصدقهم لهجة. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} الآية، وذّم من لم يعرف قدر هذه النعمة، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قال ابن عباس: يعني بنعمة الله محمداً صلى الله عليه وسلم، ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره، وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} قال مجاهد، في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} يقول: كما فعلت فاذكروني، قال عبد الله بن وهب: عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك ؟ قال له ربه: " تذكرني ولا تنساني، فإذا ذكرتني فقد شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني" قال الحسن البصري وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس: أن الله يذكر من ذكره ويزيد من شكره ويعذب من كفره، وقال بعض السلف في قوله تعالى، {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال، هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر، وقال ابن أبي حاتم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا عمارة الصيدلاني، أخبرنا مكحول الأزدي، قال: قلت لابن عمر: أرأيت قاتل النفس وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله، وقد قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ؟ قال: إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت، وقال الحسن البصري في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قال: اذكروني فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي، وعن سعيد بن جبير: اذكروني بطاعتي(1/244)
أذكركم بمغفرتي، وفي رواية، برحمتي. وعن ابن عباس في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قال: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه. وفي الحديث الصحيح: "يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" . قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم، أن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، أن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة - أو قال، في ملأ خير منه - وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة" ، صحيح الإسناد أخرجه البخاري من حديث قتادة، وعنده قال قتادة: الله أقرب بالرحمة، وقوله: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} أمر الله تعالى بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا شعبة عن الفضيل بن فضالة - رجل من قيس - حدثنا أبو رجاء العطاردي، قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده، فقال، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه" ، وقال روح مرة: على عبده.
{يَآأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ أن اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ}
لما فرع تعالى من بيان الأمر بالشكر، شرع في بيان الصبر والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها كما جاء في الحديث "عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له: أن أصابته سراء فشكر كان خيراً له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له" ، وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى، والصبر صبران فصبر ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات، والثاني أكثر ثواباً لأنه المقصود. وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب، فذلك أيضاً واجب كالاستغفار من المعايب، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين: الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء، فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله، وقال علي بن الحسين زين العابدين: إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد، أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب ؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين يا بني آدم ؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: قبل الحساب ؟ قالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم ؟ قالوا: نحن الصابرون، قالوا: وما كان صبركم، قالوا: صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله، قالوا: أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين (قلت) ويشهد لهذا قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقال سعيد بن جبير: الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر.
وقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ}، يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون، كما جاء في صحيح مسلم: أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث(1/245)
شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك إطلاعة، فقال: ماذا تبغون ؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفاً وتكريماً وتعظيماً.
{وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ الّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّهِ وَإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده، أي يختبرهم ويمتحنهم كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه، ولهذا قال لباس الجوع والخوف. وقال ههنا: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} أي بقليل من ذلك {وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ} أي ذهاب بعضها {وَالأَنْفُسِ} كموت الأصحاب والأقارب والأحباب {وَالثَّمَرَاتِ} أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها. قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة، وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه، ولهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} وقد حكى بعض المفسرين أن المراد من الخوف ههنا خوف الله، وبالجوع صيام رمضان، وبنقص الأموال الزكاة، والأنفس الأمراض، والثمرات الأولاد، وفي هذا نظر، والله أعلم، ثم بين تعالى من الصابرون الذين شكرهم فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الاَخرة. ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك، فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} أي ثناء من الله عليهم. قال سعيد بن جبير: أي أمنة من العذاب {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: نعم العدلان ونعمت العلاوة {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضاً.
وقد ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} عند المصائب أحاديث كثيرة. فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن(1/246)
عبد الله بن أسامة بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً سررت به. قال: "لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلا فعل ذلك به" ، قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة ؟ فلما انقضت عدتي استأذن عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهاباً لي فغسلت يدي من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما بي أن لا يكون بك الرغبة، لكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال، فقال: "أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عز وجل عنك وأما ما ذكرت من السن قد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي". قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيراً منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح مسلم عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها" قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد وعباد بن عباد قالا: حدثنا هشام بن أبي هشام حدثنا عباد بن زياد عن أمه عن فاطمة ابنة الحسين عن أبيها الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها - وقال عباد قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدد الله له عن ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" . ورواه ابن ماجه في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها. وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون عن هشام بن زياد عن أبيه (كذا) عن فاطمة عن أبيها. وقال الإمام أحمد أنا يحيى بن إسحاق السيلحيني أنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: دفنت ابناً لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة يعني الخولاني فأخرجني وقال لي: ألا أبشرك ؟ قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي ؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال: نعم. قال: فما قال ؟ قال: حمدك واسترجع. قال: "ابنو له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد"
ثم رواه عن علي بن إسحاق عن عبد الله بن المبارك فذكره. وهكذا رواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به، وقال حسن غريب واسم أبي سنان عيسى بن سنان.
{إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَطّوّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوّعَ خَيْراً فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة، قال: قلت أرأيت قول الله تعالى. {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ؟ قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يتطوف بهما فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن(1/247)
أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما أخرجاه في الصحيحين. وفي رواية عن الزهري أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال: أن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: أن الناس - إلا من ذكرت عائشة - كانوا يقولون: أن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء. ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم. ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنساً عن الصفا والمروة، قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله وكانت بينهما آلهة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية. وقال الشعبي: كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونها فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية (قلت) ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافاً ونائلة كانا بشرين، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم حولا إلى الصفا والمروة، فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... لمفضى السيول من إساف ونائل
وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا وهو يقول {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به" وفي رواية النسائي "ابدأوا بما بدأ الله به" وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" ثم رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كتب عليكم السعي فاسعوا" وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج، كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه، ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك. وقيل أنه واجب وليس بركن، فإن تركه عمداً أو سهواً جبره بدم، وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة، وقيل بل مستحب، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين، وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس، وحكي عن مالك في العتبية قال القرطبي: واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" فكل ما(1/248)
فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج، إلا ما خرج بدليل، والله أعلم، وقد تقدم قوله عليه السلام "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج، وقد تقدم في حديث ابن عباس، أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفذ ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك، وليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك، ونفذ ما عندهما، قامت تطلب الغوث من الله عز وجل، فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة، متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها "طعام طعم، وشفاء سقم" فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله، في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه. وأن يلتجئ إلى الله عز وجل، لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي، إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام.
وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} قيل زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب، ثامنة وتاسعة ونحو ذلك، وقيل يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع، وقيل: المراد تطوع خيراً في سائر العبادات، حكى ذلك الرازي، وعزي الثالث إلى الحسن البصري، والله أعلم، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أي يثيب على القليل بالكثير، عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحداً ثوابه، و {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}.
{إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَىَ مِن بَعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التّوّابُ الرّحِيمُ أن الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ}
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاء به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة، والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده من كتبه التي أنزلها على رسله، قال أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء، فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضاً عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار" والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله، ما حدثت أحداً شيئاً {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَىَ} الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي سليم عن المنهال بن عمرو، عن زاذان أبي عمرو، عن البراء بن عازب، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه،(1/249)
يسمعها كل دابة غير الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى، {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} يعني دواب الأرض" ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح، عن عامر بن محمد به، وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة والجن والإنس، وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض، قال البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم، وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة {وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون، وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر، وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضاً، وهم كل فصيح وأعجمي، إما بلسان المقال، أو الحال، أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم. ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه، فقال: {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه: وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأنّ {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة فهم في نار جهنم التي {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} فيها أي لا ينقص عما هم فيه {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك. قال أبو العالية وقتادة أن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون.
(فصل) لا خلاف في جواز لعن الكفار، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره، فأما الكافر المعين، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له، واستدل بعضهم بالآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين، واختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف، واستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده، فقال رجل لعنه الله: ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن، والله أعلم.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاّ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ}
يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية، أنه لا شريك له ولا عديل، له، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو، وأنه الرحمن الرحيم وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول الفاتحة، وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاّ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ} و {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }" ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية بخلق السموات والأرض وما فيهما وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته، فقال: )(1/250)
{إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
يقول تعالى: {إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها - وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع، واختلاف الليل والنهار. هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا يتأخر عنه لحظة، كما قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وتارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان، كما قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا، {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الأقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ - إلى قوله - وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه، لا يخفى عليه شيء من ذلك، كما قال تعال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أي فتارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه، ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية، وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا، وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة، وتارة دبوراً وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتباً كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها، وبسط ذلك يطول ههنا، والله أعلم، {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي سائر بين السماء والأرض، مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن، كما يصرفه تعالى: {لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو سعيد الدشتكي، حدثني أبي عن أبيه، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أتت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً فنشتري به الخيل والسلاح، فنؤمن بك ونقاتل معك، قال: "أوثقوا لي لئن دعوت ربي فجعل لكم الصفا ذهباً لتؤمنن بي" فأوثقوا له، فدعا ربه، فأتاه جبريل فقال: أن ربك قد أعطاهم الصفا ذهباً على أنهم أن لم يؤمنوا بك عذبهم عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين، قال محمد صلى الله عليه وسلم: "رب لا بل دعني وقومي فلأدعهم يوماً بيوم" ، فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} الآية، ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن جعفر بن أبي المغيرة به، وزاد في آخره:(1/251)
وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا ؟ وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} إلى قوله: {لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء، وقال وكيع بن الجراح: حدثنا سفيان عن أبيه، عن أبي الضحى، قال: لما نزلت {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إلى آخر الآية، قال المشركون: أن كان هكذا، فليأتنا بآية، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {يَعْقِلُونَ} رواه آدم ابن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي، عن سعيد بن مسروق والد سفيان، عن أبي الضحى به.
{وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُواْ أَشَدّ حُبّاً للّهِ وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أن الْقُوّةَ للّهِ جَمِيعاً وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الّذِينَ اتّبَعُواْ لَوْ أن لَنَا كَرّةً فَنَتَبَرّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرّءُواْ مِنّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النّارِ}
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا ومالهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أنداداً أي أمثالاً ونظراء، يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له، ولا ندّ له، ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ قال "أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك" وقوله: {وَالّذِينَ آمَنُواْ أَشَدّ حُبّاً للّهِ} ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم، له، لا يشركون به شيئاً بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجأون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك، فقال {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} قال بعضهم: تقدير الكلام، لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعاً، أي أن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} كما قال {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبري المتبوعين من التابعين، فقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فيقول الملائكة: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ، والجن أيضاً تتبرأ منهم، ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ(1/252)
دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} وقال الخليل لقومه {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلاً ولا مصرفاً. قال عطاء عن ابن عباس {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} قال المودة، وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم بل نوحد الله تعالى عنهم بذلك، ولهذا قال: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} أي تذهب وتضمحل كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} الآية، وقال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء} الآية، ولهذا قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.
{يَأَيّهَا النّاسُ كُلُواْ مِمّا فِي الأرْضِ حَلاَلاً طَيّباً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ إِنّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسّوَءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه، فذكر في مقام: الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالاً من الله طيباً، أي مستطاباً في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن إتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضلّ إتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها، مما كان زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمَار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: أن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال - وفيه - وإن خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي، حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم، حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، قال تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم {يَأَيّهَا النّاسُ كُلُواْ مِمّا فِي(1/253)
الأرْضِ حَلاَلاً طَيّباً} فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال "يا سعد أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، أن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به".
وقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تنفير عنه وتحذير منه، كما قال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} وقال قتادة والسدي في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان، وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان، وقال مجاهد: خطاه أو قال خطاياه، وقال أبو مجلز: هي النذور في المعاصي، وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان، وقال أبو الضحىَ عن مسروق أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح، فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم، فقال: لا أريده، فقال: أصائم أنت قال: لا، قال: فما شأنك ؟ قال: حرمت أن آكل ضرعاً أبداً، فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فاطعم وكفّر عن يمينك، رواه ابن أبي حاتم، وقال أيضاً: حدثنا أبي، حدثنا حسان بن عبد الله المصري عن سليمان التيمي، عن أبي رافع، قال: غضبت يوماً على امرأتي، فقالت: هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية، وكل مملوك لها حر أن لم تطلق امرأتك، فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان، وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة، وأتيت عاصماً وابن عمر فقالا مثل ذلك: وقال عبد بن حميد: حدثنا أبو نعيم عن شريك، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين. وقوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضاً.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}
يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل، قالوا في جواب ذلك: بل نتبع ما ألفينا، أي وجدنا عليه آباءنا، أي من عبادة الأصنام والأنداد، قال الله تعالى منكراً عليهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} أي الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم {لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} أي ليس لهم فهم ولا هداية. وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنها نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فأنزل الله هذه الآية، ثم ضرب لهم تعالى مثلاً. كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} فقال {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل(1/254)
كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها بل إذا نعق بها راعيها، أي دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل إنما تسمع صوته فقط. هكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد عكرمة وعطاء والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس نحو هذا. وقيل: إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئاً واختاره ابن جرير، والأول أولى، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً ولا تعقله ولا تبصره ولا بطش لها ولا حياة فيها. وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أي صم عن سماع الحق، بكم لا يتفوهون به، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي لا يعلمون شيئاً ولا يفهمونه.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ أن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ إن اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك أن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس أن الله طيب لا يقبل، إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنىَ يستجاب لذلك ؟" ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من ذلك حديث فضيل بن مرزوق. ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع، وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} على ما سيأتي أن شاء الله، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه السلام في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعاً "أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك أن شاء الله في سورة المائدة.
(مسألة) ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره. لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس، فقال القرطبي في التفسير ههنا يخالط اللبن منها يسير، ويعف عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع وقد روى ابن ماجه من حديث سيف بن هارون عن سليمان التميمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما(1/255)
عفا عنه" وكذلك حرم عليهم لحم الحنزير سواء ذكي أم مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليباً أو أن اللحم يشمل ذلك أو بطريق القياس على رأي وكذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له. وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري: أنه سئل عن امرأة عملت عرساً للعبها فنحرت فيه جزوراً، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم، وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي في أكل ذلك {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقال مجاهد: فمن اضطر غير باغ ولا عاد، قاطعاً للسبيل أو مفارقاً للأئمة، أو خارجاً في معصية الله، فله الرخصة، ومن خرج باغياً أو عادياً أو في معصية الله، فلا رخصة له وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد، بن جبير. وقال سعيد في رواية عنه ومقاتل بن حيان: غير باغ يعني غير مستحله، وقال السدي: غير باغ، يبتغي فيه شهوته، وقال آدم بن أبي إياس: حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء وهو الخراساني، عن أبيه، في قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} قال: لا يشوي من الميتة ليشتهيه، ولا يطبخه، ولا يأكل إلا العلقة، ويحمل معه ما يبلغه الحلال، فإذا بلغه ألقاه، وهو قوله: {وَلا عَادٍ} ويقول لا يعدو به الحلال، وعن ابن عباس: لا يشبع منها، وفسره السدي بالعدوان، وعن ابن عباس {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} قال {غَيْرَ بَاغٍ} في الميتة ولا عاد في أكله، وقال قتادة: فمن اضطر غير باغ ولا عاد، قال: غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة، وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: فمن اضطر، أي أكره على ذلك بغير اختياره.
(مسألة) إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بغير خلاف - كذا قال - ثم قال: وإذا أكله، والحالة هذه، هل يضمن أم لا ؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك، ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية: سمعت عباد بن شرحبيل الغبري قال: أصابتنا عاماً مخمصة، فأتيت المدينة، فأتيت حائطاً، فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل "ما أطعمته إذ كان جائعاً ولا ساعياً، ولا علمته إذ كان جاهلاً" فأمره فرد إليه ثوبه، فأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق، إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة: من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق، فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه" الحديث، وقال مقاتل بن حيان في قوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: فيما أكل من اضطرار، وبلغنا، والله أعلم. أنه لا يزاد على ثلاث لقم، وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام، رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار، وقال وكيع: أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات، دخل النار، وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال، وهذا هو الصحيح عندنا، كالإفطار للمريض ونحو ذلك.
ش(1/256)
{إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ نَزّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
يقول تعالى: {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا - لعنهم الله - أن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك ابقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير، فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله، بذلك النزر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عوناً له على قتالهم، وباءوا بغضب على غضب، وذمهم الله في كتابه في غير موضع فمن ذلك هذه الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وهو عرض الحياة الدنيا {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق، ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"
وقوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذاباً أليماً، وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه، ههنا حديث الأعمش عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" ثم قال تعالى مخبرا عنهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي اعتاضوا عن الهدى، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم {وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب، وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة، وقوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال، عياذاً بالله من ذلك، وقيل معنى قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل، وهؤلاء اتخذوا آيات الله(1/257)
هزوا، فكتابهم أمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه، وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته، فاستهزؤا بآيات الله المنزلة على رسله، فلهذا استحقوا العذاب والنكال، ولهذا قال {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
{لّيْسَ الْبِرّ أن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىَ حُبّهِ ذَوِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصّلاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ}
اشتملت هذه الآية على جمل عظيمة وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبيد بن هشام الحلبي، حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي ذر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان ؟ فتلا عليه {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية، قال: ثم سأله أيضاً، فتلاها عليه، ثم سأله فقال: "إذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك" وهذا منقطع، فإن مجاهداً لم يدرك أبا ذر، فإنه مات قديماً، وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن قال: جاء رجل إلى أبي ذر، فقال: ما الإيمان ؟ فقرأ عليه هذه الآية {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} حتى فرغ منها، فقال الرجل: ليس عن البر سألتك، فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده "المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها، وإذا علم سيئة أحزنته وخاف عقابها" ورواه ابن مردويه,. وهذا أيضا منقطع,والله أعلم.
وأما الكلام على تفسير هذه الآية، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجّه وإتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوي والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة أن لم يكن عن أمر الله وشرعه، ولهذا قال {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا، فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها، وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك، وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله¹ وقال مجاهد ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل، وقال الضحاك ولكن البر والتقوىَ أن تؤدوا الفرائض على وجوهها وقال الثوري: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ(1/258)
بِاللَّهِ} الآية قال: هذه أنواع البر كلها، وصدق رحمه الله، فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله (والكتاب) وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أي أخرجه وهو محب له راغب فيه، نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر" وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أن تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، (قلت) وقد رواه وكيع عن الأعمش، وسفيان عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود موقوفاً، وهو أصح، والله أعلم، وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} نمط آخر أرفع من هذا، وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له وقوله: {ذَوِي الْقُرْبَى} وهم قرابات الرجل وهم أولى من أعطي من الصدقة كما ثبت في الحديث "الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة، فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك" وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز {وَالْيَتَامَى} هم الذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن جويبر، عن الضحاك عن النزال بن سبرة، عن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتم بعد حلم" {وَالْمَسَاكِينَ} وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه" ، {وَابْنَ السَّبِيلِ} وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطىَ ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو جعفر الباقر والحسن وقتادة والضحاك والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان {وَالسَّائِلِينَ} وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا: حدثنا سفيان عن مصعب بن محمد، عن يعلي بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها - قال عبد الرحمن حسين بن علي - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على فرس" رواه أبو داود {وَفِي الرِّقَابِ} وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم، وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة أن شاء الله تعالى، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك عن أبي حمزة عن الشعبي، حدثتني فاطمة بنت قيس،(1/259)
أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت: فتلا علي {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إياس ويحيى بن عبد الحميد كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة" ثم قرأ {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} - إلى قوله - { وَفِي الرِّقَابِ} وأخرجه ابن ماجه والترمذي، وضعف أبا حمزة ميموناً الأعور، وقد رواه سيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي، وقوله: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي، وقوله: {وَآتَى الزَّكَاةَ} يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وقول موسى لفرعون {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} وقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال، كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين، إنما هو التطوع والبر والصلة، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقاً سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} ، كقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" وفي الحديث الآخر: "وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر,وإذا خاصم فجر" وقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} أي في حال الفقر وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء {وَحِينَ الْبَأْسِ} أي في حال القتال والتقاء الأعداء وقاله ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم، وإنما نصب {الصَّابِرِينَ} على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}، أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذا الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَأُولِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}
يقول تعالى: كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون، حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدي من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة والنضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به، بل يفادي بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية قريظة، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم كفراً وبغياً،(1/260)
فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى} وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، يعني إذا كان عمداً الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل العبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} منها منسوخة نسختها النفس بالنفس، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله: النفس بالنفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله النفس بالنفس.
(مسألة) ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم، قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي و الثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده، لعموم حديث الحسن عن سمرة "ومن قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصاه خصيناه" وخالفهم الجمهور فقالوا: لا يقتل الحر بالعبد، لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية,وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر، لما ثبت في البخاري عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا يقتل مسلم بكافر" ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
(مسألة) قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
(مسألة) ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع، وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة، وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير وعبد الملك بن مروان والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت، ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة، وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر، وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فالعفو أن يقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية وأبي الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة مقاتل بن حيان وقال الضحاك عن ابن عباس: {فَمَنْ(1/261)
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} يعني: فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو، {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية، {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يعني من القاتل من غير ضرر ولا معك يعني المدافعة، وروى الحاكم من حديث سفيان عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب بإحسان وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان.
(مسألة) قال مالك رحمه الله في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأحمد في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل: وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض.
(مسألة) وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي، وخالفهم الباقون، وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفاً من الله عليكم ورحمة بكم مما كان محتوماً على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، أخبرني مجاهد عن ابن عباس قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن يقبل الدية في العمد وقد رواه غير واحد عن عمرو، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار، ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس بنحوه، وقال قتادة {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش، وهكذا روي عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس نحو هذا. وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية، كما قال محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها" رواه أحمد، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية" يعني لا أقبل منه الدية، بل أقتله.
وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم، وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن افصح وأبلغ وأوجز {وَلَكُمْ فِي(1/262)
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان {يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهي، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتّقِينَ فَمَن بَدّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنّمَا إِثْمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ أن اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ أن اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجباً على أصح القولين قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتماً من غير وصية ولا تحمل منة الموصي، ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين، قال: جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى هذه الآية {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فقال: نسخت هذه الآية وكذا رواه سعيد بن منصور، عن هشيم، عن يونس به، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرطهما، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين، فأنزل الله آية الميراث، فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس، في قوله: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}: نسختها هذه الآية {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} ثم قال ابن أبي حاتم، وروي عن ابن عمر وأبي موسى وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعكرمة وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وطاوس وإبراهيم النخعي وشريح والضحاك والزهري: أن هذا الآية منسوخة، نسختها آية الميراث والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله، كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة وإنما هي مفسرة بآية المواريث، ومعناه كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين من قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} قال: وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء: قال: ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث، وهو مذهب ابن عباس والحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد. (قلت) وبه قال أيضاً سعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخاً في اصطلاحنا المتأخر، لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم أية الوصاية، لأن الأقربين أعم ممن يرث ولا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى،(1/263)
وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم: أن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندباً حتى نسخت، فأما من يقول: إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية، فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء، فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع، بل منهي عنه للحديث المتقدم "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" فآية الميراث حكم مستقل ووجوب من عند الله لأهل الفروض والعصبات، يرفع بها حكم هذه بالكلية، بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناساً بآية الوصية وشمولها، ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" قال ابن عمر: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي والآيات والأحاديث بالأمر ببرّ الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جداً، وقال عبد بن حميد في مسنده: أخبرنا عبد الله عن مبارك بن حسان، عن نافع قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يا بن آدم ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيباً في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك به وأزكيك، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك" وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} أي مالاً، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطية العوفي والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم، ثم منهم من قال: الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال: إنما يوصي إذا ترك مالاً جليلاً، ثم اختلفوا في مقداره، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: قيل لعلي رضي الله عنه: أن رجلاً من قريش قد مات وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص ؟ قال: ليس بشيء إنما قال الله {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وقال أيضاً: وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبده يعني ابن سليمان، عن هشام بن عروة عن أبيه: أن علياً دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له: أوصِ ؟ فقال له علي: إنما قال الله {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} إنما ترك شيئاً يسيراً فاتركه لوالدك، وقال الحاكم: أن أبان حدثني عن عكرمة عن ابن عباس {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} قال ابن عباس: من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً، قال الحاكم: قال طاوس: لم يترك خيراً من لم يترك ثمانين ديناراً، وقال قتادة: كان يقال: ألفاً فما فوقها. وقوله: {بالمعروف} أي بالرفق والإحسان، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار، حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} فقال: نعم الوصية حق على كل مسلم أن يوصي إذا حضر الموت بالمعروف غير المنكر، والمراد بالمعروف أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير، كما ثبت في الصحيحين أن سعداً قال: يا رسول الله، أن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال: "لا" قال: فبالشطر ؟ قال "لا" قال: فالثلث ؟ قال "الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يكففون الناس"، وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث والثلث كثير" وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة: أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل، فشق ذلك على بنيه فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حنيفة: إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها المطية، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "لا لا لا، الصدقة خمس وإلا فعشر وإلا فخمس عشرة وإلا(1/264)
فعشرون وإلا فخمس وعشرين وإلا فثلاثون وإلا فخمس وثلاثون فإن كثرت فأربعون" وذكر الحديث بطوله.
وقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقول تعالى: فمن بدّل الوصية وحرفها، فغير حكمها وزاد فيها أو نقص، ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} قال ابن عباس وغير واحد: وقد وقع أجر الميت على الله، وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدّله الموصى إليهم، وقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي: الجنف الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثاً بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعة الشيء الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئاً غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر، أو متعمداً آثماً في ذلك، فللوصي والحالة هذه، أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي، ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق، ليس من التبديل في شيء، ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك، ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل، والله أعلم، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قراءة، أخبرني أبي عن الأوزاعي، قال الزهري: حدثني عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يرد من صدقة الجانف في حياته ما يرد من وصية المجنف عند موته" وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه من حديث العباس بن الوليد به، قال ابن أبي حاتم: وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد، وهذا الكلام إنما هو عن عروة فقط، وقد رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يجاوز به عروة، وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجنف في الوصية من الكبائر" وهذا في رفعه أيضاً نظر، وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق: حدثنا معمر أشعث بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة" قال أبو هريرة: اقرؤوا أن شئتم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} الآية.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لّكُمْ أن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
يقول تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الآية، وآمراً لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الردئية والأخلاق(1/265)
الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} الآية، ولهذا قال ههنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم، لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، يصومون من كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه. وقد روي أن الصيام كان أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد: لم يزل هذا مشروعاً من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان. وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فقال: نعم، والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت، كما كتبه علينا شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً، وروي عن السدي نحوه. وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري، حدثني سعيد بن أبي أيوب، حدثني عبد الله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" في حديث طويل اختصر منه ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال: أنزلت {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام، حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها، قال ابن أبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء والخراساني نحو ذلك، وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني بذلك أهل الكتاب، وروي عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله، ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر، لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعد ذلك من أيام أخر، وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام، أن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف، ولهذا قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ثم أن الله عز وجل أنزل عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} الآية، فوجهه الله إلى مكة هذا حول، قال: وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضاً، حتى نقسوا أو كادوا ينقسون، ثم أن رجلاً من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: "إني رأيت فيما يرى النائم، ولو(1/266)
قلت إني لم أكن نائماً لصدقت، إني بينا أنا بين النائم واليقظان إذا رأيت شخصاً عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة، فقال: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى - حتى فرغ من الأذان، ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك قد قامت الصلاة مرتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علمها بلالاً فليؤذن بها" فكان بلال أول من أذن بها، قال: وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، قد طاف بي مثل الذي طاف به، غير أنه سبقني فهذان حالان، قال: وكانوا يأتون الصلاة سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها، فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى ؟ فيقول: واحدة أو اثنتين فيصليهما، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم، قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبداً إلا كنت عليها، ثم قضيت ما سبقني، قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها، قال: فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوه" فهذه ثلاثة أحوال، وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء، ثم أن الله فرض عليه الصيام، وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا، فأجزأ ذلك عنه، ثم أن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حالان، قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم أن رجلاً من الأنصار يقال له صرمة، كان يعمل صائماً حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام، فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائماً، فرآه رسول الله وقد جهد جهداً شديداً، فقال "ما لي أراك قد جهدت جهداً شديداً ؟" قال: يا رسول الله، إني عملت أمس فجئت حين جئت، فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت صائماً، قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأنزل الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ - إلى قوله - ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وأخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به، وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يصام، فما نزل فرض رمضان، كان من شاء صام ومن شاء أفطر، وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله.
وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كما قال معاذ رضي الله عنه: كان في ابتداء الأمر من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: كان من أراد أن يفطر يفادي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وروي أيضاً من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: هي منسوخة، وقال السدي عن مرة عن عبد الله، قال لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: يقول {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي يتجشمونه، قال عبد الله: فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً {فَمَنْ تَطَوَّعَ} يقول: أطعم مسكيناً آخر {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فكانوا كذلك حتى نسختها {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال البخاري أيضاً: أخبرنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء: سمع ابن عباس: يقرأ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً، وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه، وقال(1/267)
أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً، وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا الحسين بن بهرام المخزومي، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى، قال: دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً ثم نسخت الأولى إلى الكبير الفاني أن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر - فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة ؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه، فلم يجب عليه فدية كالصبي، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي: والثاني، وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء، أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي يتجشمونه، كما قاله ابن مسعود وغيره، هو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاماً أو عامين عن كل يوم، مسكيناً، خبزاً ولحماً وأفطر، وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال: حدثنا عبد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة، قال: ضعف أنس عن الصوم، فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم، ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة، عن عمران وهو ابن حُدير، عن أيوب به. ورواه عبد أيضاً من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه، ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، ففيهما خلاف كثير بين العلماء، فمنهم من قال: يفطران ويفديان ويقضيان، وقيل: يفديان فقط ولا قضاء، وقيل يجب القضاء بلا فدية، وقيل: يفطران ولا فدية ولا قضاء، وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه، و لله الحمد والمنة.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مّنَ الْهُدَىَ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}
يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران أبو العوام عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة يعني ابن الأسقع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن "لأربع وعشرين خلت من رمضان" وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه: أن الزبور أنزل لاثنتي عشرة خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة، والباقي كما تقدم، رواه ابن مردويه، وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل، فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه، كما قال تعالى:(1/268)
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقال {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مباركة} ثم نزل بعده مفرقاً بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس، كما قال إسرائيل عن السدي، عن محمد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس: أنه سأل عطية بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك، قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ مُبارَكةٍ} وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقد أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم وصفر وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام، رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وهذا لفظه، وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال، أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزة، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس، وفي رواية عكرمة عن ابن عباس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر، على هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} وقوله: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه {وَبَيِّنَاتٍ} أي دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق والباطل والحلال والحرام، وقد روي عن بعض السلف: أنه كره أن يقال إلا شهر رمضان، ولا يقال رمضان، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بكار بن الريان، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي وسعيد هو المقبري عن أبي هريرة قال: لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان - قال ابن أبي حاتم وقد روي عن مجاهد ومحمد بن كعب نحو ذلك، ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت، (قلت) أبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن المدني إمام المغازي والسير، ولكن فيه ضعف، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعاً عن أبي هريرة، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي، وهو جدير بالإنكار، فإنه متروك، وقد وهم في رفع هذا الحديث، وقد انتصر البخاري رحمه الله في كتابه لهذا فقال: باب يقال رمضان وساق أحاديث في ذلك منها "من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك، وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة، ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحاً مقيماً أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه، ولما حتّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر أن يفطر بشرط القضاء، فقال {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} معناه: ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه، أو كان على سفر، أي في حالة السفر، فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام، ولهذا قال {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض والسفر مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيراً عليكم ورحمة بكم.
وههنا مسائل تتعلق بهذه الآية (إحداها) أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيماً في أول الشهر ثم سافر في أثنائه، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه لقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر(1/269)
وهو مسافر، وهذا القول غريب، نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى عن جماعة من الصحابة والتابعين، وفيما حكاه عنهم نظر، والله أعلم، فإنه قد ثبت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر، أخرجه صاحبا الصحيح. (الثانية) ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} والصحيح قول الجمهور أن الأمر في ذلك على التخيير وليس بحتم، لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، قال: فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائماً لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى أن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة.(الثالثة) قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقالت طائفة. بل الإفطار أفضل أخذاً بالرخصة ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: "من أفطر فحسن، ومن صام فلا جناح عليه" وقال في حديث آخر "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" وقالت طائفة: هما سواء لحديث عائشة أن حمزة بن عمرو والأسلمي قال: يا رسول الله، إني كثير الصيام أفأصوم في السفر ؟ فقال "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر" وهو في الصحيحين، وقيل: أن شق الصيام فالإفطار أفضل، لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد ظلل عليه فقال: "ما هذا" ؟ قالوا: صائم، فقال "ليس من البر الصيام في السفر" أخرجاه، فأما أن رغب عن السنة ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام، والحالة هذه لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وجابر وغيرهما: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة. (الرابعة) القضاء هل يجب متتابعاً أو يجوز فيه التفريق فيه قولان: (أحدهما) أنه يجب التتابع لأن القضاء يحكى الأداء. (والثاني) لا يجب التتابع بل أن شاء فرق وإن شاء تابع، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان، فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر، ولهذا قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} ثم قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا ابن هلال عن حميد بن هلال العدوي، عن أبي قتادة عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير دينكم أيسره، أن خير دينكم أيسره" وقال أحمد أيضاً: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم بن هلال، حدثنا عامر بن عروة الفقيمي، حدثني أبي عروة، قال: كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل، فصلى، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه: علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دين الله في يسر" - ثلاثاً يقولها - ورواه الإمام أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم عن عاصم بن هلال به وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو التياح سمعت أنس بن مالك يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا وتنفروا" أخرجاه في الصحيحين وفي الصحيحين أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن "بشّرا ولا تنفّرا ويسّرا ولا تعسّرا وتطاوعا ولا تختلفا" وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بالحنيفية السمحة" وقال الحافظ أبو بكر مردويه وتفسيره: حدثنا عبد الله بن اسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا أبو مسعود الحريري عن عبد الله بن شقيق، عن محجن بن الأدرع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي فتراءاه ببصره(1/270)
ساعة، فقال "أتراه يصلي صادقاً ؟" قال: قلت يا رسول الله، هذا أكثر أهل المدينة صلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسمعه فتهلكه" وقال "إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر" ومعنى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أي إنما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم، وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ} وقال {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقال {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير، ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر لظاهر الأمر في قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر، والباقون على استحبابه على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم، وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه وحفظ حدوده فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن عبدة بن أبي برزة السجستاني، عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده، أن أعرابياً قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني استجبت، ورواه ابن جرير عن محمد بن حميد الرازي، عن جرير به، ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث محمد بن أبي حميد عن جرير به، وقال عبد الرزاق أخبرنا جعفر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أين ربنا ؟ فأنزل الله عز وجل {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية وقال ابن جريج عن عطاء أنه بلغه لما نزلت {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال الناس لو نعلم أي ساعة ندعو؟ فنزلت {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، حدثنا خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبط وادياً، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا، فقال "يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، أن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مُلِ عنه بنحوه، وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا(1/271)
شعبة، حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني" وقال الإمام أحمد حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله، أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله عن كريمة بنت خشخاش المزنية، قالت: حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "قال الله تعالى أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ". (قلت) وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، وقوله لموسى وهارون عليهما السلام {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} والمراد من هذا أنه تعالى لا يخيب دعاء داع، ولا يشغله عنه شيء، بل هو سميع الدعاء، ففيه ترغيب في الدعاء، وأنه لا يضيع لديه تعالى، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا رجل: أنه سمع أبا عثمان النهدي، يحدث عن سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبتين" - قال يزيد: سموا لي هذا الرجل، فقالوا: جعفر بن ميمون - وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جعفر بن ميمون صاحب الأنماط به، وقال الترمذي: حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه، قال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله في أطرافه، وتابعه أبو همام محمد بن الزبرقان عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي به، وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو عامر، حدثنا علي بن دؤاد أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذاً نكثر ؟ قال: "الله أكثر" ، وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا ابن ثوبان عن أبيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير: أن عبادة بن الصامت، حدثهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم" ورواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن محمد بن يوسف الفريابي، عن ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به، وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الإمام مالك عن ابن شهاب، عن أبي عبيد مولى ابن أزهر، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي" أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به، وهذا لفظ البخاري رحمه الله وأثابه الجنة، وقال مسلم في صحيحه: حدثني أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، أخبرني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل "قيل: يا رسول الله، وما الاستعجال ؟ قال "يقول قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبو هلال عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل" قالوا: وكيف يستعجل ؟ قال: "يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي"، وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر: أن يزيد بن عبد الله بن قسيط حدثه عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب حتى تعجل له في الدنيا أو تدخر له في الآخرة إذا لم يعجل أو يقنط، قال عروة: قلت: يا أماه كيف عجلته وقنوطه ؟ قالت: يقول: سألت فلم أعط ودعوت فلم أجب. قال ابن قسيط: وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء، وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا بكر بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الحبلىَ عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله أيها الناس، فاسألوه وأنتم(1/272)
موقنون بالإجابة، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل" وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ابن أبي نافع بن معد يكرب ببغداد، حدثني بن أبي نافع بن معد يكرب، قال: كنت أنا وعائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آية {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} قال: " يا رب مسألة عائشة" فهبط جبريل فقال "الله يقرؤك السلام هذا عبدي الصالح بالنية الصادقة وقلبه نقي يقول يا رب فأقول لبيك فأقضي حاجته" وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وروى ابن مردويه من حديث الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، حدثني جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمرت بالدعاء وتوكلت بالإجابة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، أشهد أنك فرد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور" . وقال الحافظ أبو بكر البزار: وحدثنا الحسن بن يحيى الأزدي ومحمد بن يحيى القطعي، قالا: حدثنا الحجاج بن منهال، حدثنا صالح المدي عن الحسن، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى يا ابن آدم واحدة لك واحدة لي وواحدة فيما بيني وبينك، فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فما عملت من شيء وفيتكه وأما الذي بيني وبينك، فمنك الدعاء وعلي الإجابة" ، وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى اجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر، كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا أبو محمد المليكي عن عمرو، هو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة، فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا، وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه: حدثنا هشام بن عمار، أخبرنا الوليد بن مسلم عن إسحاق بن عبد الله المدني، عن عبيد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" قال عبيد الله بن أبي مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي، وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء، يقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين".
{أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرّفَثُ إِلَىَ نِسَآئِكُمْ هُنّ لِبَاسٌ لّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لّهُنّ عَلِمَ اللّهُ أَنّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمّ أَتِمّواْ الصّيَامَ إِلَى الّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ}
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة، والرفث هنا هو الجماع، قاله ابن عباس وعطاء(1/273)
ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس وسالم بن عبد الله وعمرو بن دينار والحسن وقتادة والزهري والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان، وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان: يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن، وقال الربيع بن أنس: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن، وحاصله: أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا، قال الشاعر:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تداعت فكانت عليه لباسا
وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويل، وقال أبو إسحاق عن البراء بن عازب، كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً وكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام ؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته، فلما رأته نائماً قالت: خيبة لك أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } - إلى قوله - {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ففرحوا بها فرحاً شديداً، ولفظ البخاري ههنا من طريق أبي إسحاق سمعت البراء، قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فينزل الله {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء، حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم أن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية، وكذا روى العوفي عن ابن عباس، وقال موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس، قال: أن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم، يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء، فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت. قال: "وما صنعت" ؟ قال: إني سولت لي نفسي، فوقعت على أهلي بعد ما نمت، وأنا أريد الصوم، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما كنت خليقاً أن تفعل" فنزل الكتاب {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وقال سعد بن أبي عروبة عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة في قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }- إلى قوله - {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} قال: كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة، حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وأن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستقيظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فأنزل الله عند ذلك {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يعني بالرفث مجامعة النساء {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يعني جامعوهن {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني الولد {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فكان ذلك عفواً من الله ورحمة، وقال هشام عن(1/274)
حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله، فقالت: إنها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها، فنزل في عمر {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وهكذا رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى به، وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني المثنى، حدثنا سويد، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي لهيعة، حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة، أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت: إني قد نمت، فقال: ما نمت، ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية، وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع، وفي صرمة بن قيس، فأباح الجماع والطعام الشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقاً.
وقوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو هريرة وابن عباس وأنس وشريح القاضي ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والربيع بن أنس والسدي وزيد بن أسلم والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان والحسن البصري والضحاك وقتادة وغيرهم: يعني الولد: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني الجماع، وقال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال: ليلة القدر، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة: ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم، يقول: ما أحل الله لكم، وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح، قال: قلت لابن عباس: كيف تقرأ هذه الآية {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ؟ قال: أيتهما شئت، عليك بالقراءة الأولى، واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله.
و قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أباح تعالىَ الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود، ورفع اللبس بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثني ابن أبي مريم، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد، قال: أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه يعني الليل والنهار. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام، أخبرنا حصين عن الشعبي، أخبرني عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} عدت إلى عقالين: أحدهما أسود والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله فأخبرته بالذي صنعت، فقال "إن وسادك إذا لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل" أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن عدي، ومعنى قوله: أن وسادك إذا لعريض، أي أن كان ليسع الخيطين: الخيط الأسود والأبيض المرادين من هذه الآية تحتها، فإنهما بياض النهار وسواد الليل، فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب، وهكذا وقع في رواية البخاري مفسراً بهذا، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن حصين، عن الشعبي، عن عدي، قال: أخذ عدي(1/275)
عقالاً أبيض وعقالاً أسود، حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال يا رسول الله جعلت تحت وسادتي، قال "إن وسادك إذا لعريض، أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" وجاء في بعض الألفاظ "إنك لعريض القفا" ففسره بعضهم بالبلادة، وهو ضعيف، بل يرجع إلى هذا لأنه إذا كان وساده عريضاً فقفاه أيضاً عريض، والله أعلم. ويفسره رواية البخاري أيضاً حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان ؟ قال: "إنك لعريض القفا أن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا بل هو سواد الليل وبياض النهار".
وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب، ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة" وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور" وقال الإمام أحمد، حدثنا إسحاق بن عيسى هو ابن الطباع، حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السحور أكلة بركة فلا تدعوه، ولو أن أحدكم تجرع جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة ماء تشبهاً بالآكلين، ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر، كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال: قدر خمسين آية. وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن سالم بن غيلان، عن سليمان بن أبي عثمان، عن عدي بن حاتم الحمصي، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور" وقد ورد أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه الغذاء المبارك، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش عن حذيفة، قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النهار إلاَ أن الشمس لم تطلع، وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود، قاله النسائي، وحمله على أن المراد قرب النهار، كما قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي قاربن انقضاء العدة فإما إمساك بمعروف أو ترك للفراق، وهذا الذي قاله هو المتعين حمل الحديث عليه أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر، حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك، وقد روى عن طائفة كثيرة من السلف، أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر، روي مثل هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت، وعن طائفة كثيرة من التابعين منهم محمد بن علي بن الحسين وأبو مجلز وإبراهيم النخعي وأبو الضحى وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحاكم بن عيينة ومجاهد وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وإليه ذهب الأعمش وجابر بن راشد، وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد، ولله الحمد، وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره عن بعضهم: أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها. (قلت) وهذا القول ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه، لمخالفته نص القرآن في قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم، فإنه ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" لفظ البخاري، وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الفجر(1/276)
المستطيل في الأفق ولكن المعترض الأحمر" ورواه الترمذي ولفظهما "كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة عن شيخ من بني قشير، سمعت سمرة بن جندب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر" ، ثم رواه من حديث شعبة وغيره، عن سواد بن حنظلة، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكنه الفجر المستطير في الأفق" ، قال: وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا بن علية عند عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير" رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية مثله سواء، وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره، أو قال نداء بلال، فإن بلالاً يؤذن بليل أو قال ينادي لينبه نائمكم وليرجع قائمكم، وليس الفجر أن يقول هكذا وهكذا حتى يقول هكذا" ، ورواه من وجه آخر عن التيمي به، وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي حدثني أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام" وهذا مرسل جيد وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء: سمعت ابن عباس يقول: هما فجران، فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئاً، ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب، وقال عطاء فأما إذا سطع سطوعاً في السماء، وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً، فإنه لا يحرم به شراب الصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج، ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال، حرم الشراب للصيام وفات الحج، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء، وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله.
(مسألة) ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام يستدل على أنه من أصبح جنباً فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم وفي حديث أم سلمة عندهما: ثم لا يفطر ولا يقضي، وفي صحيح مسلم عن عائشة، أن رجلاً قال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال: لست مثلنا يا رسول الله، فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال "إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ" فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين كما ترى، وهو في الصحيحين عن أبي هريرة، عن الفضل بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سنن النسائي عنه عن أسامة بن زيد والفضل بن عباس ولم يرفعه: فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا، ومنهم من ذهب إليه، ويحكى هذا عن أبي هريرة وسالم وعطاء وهشام بن عروة والحسن البصري، ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنباً نائماً فلا عليه، لحديث عائشة وأم سلمة، أومختاراً فلا صوم له، لحديث أبي هريرة، يحكى هذا عن عروة وطاوس والحسن، ومنهم من فرق بين الفرض فيتم فيقضيه، وأما النفل فلا يضره، رواه الثوري عن منصور، عن إبراهيم النخعي وهو رواية عن الحسن البصري أيضاً، ومنهم(1/277)
من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة، ولكن لا تاريخ معه، وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية وهو بعيد أيضاً إذ لا تاريخ بل الظاهر من التاريخ خلافه، ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال فلا صوم له، لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز، وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها، والله أعلم. {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكماً شرعياً، كما جاء في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم" وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" أخرجاه، وقال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا قرة بن عبد الرحمن عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل أن أحب عبادي إليّ أعجلهم فطراً" ورواه الترمذي من غير وجه عن الأوزاعي به، وقال: هذا حديث حسن غريب، وقال أحمد أيضاً: حدثنا عفان، حدثنا عبيد الله بن إياد، سمعت إياد بن لقيط، سمعت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة، فمنعني بشير وقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: "يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإذا كان الليل فأفطروا" ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال وهو أن يصل يوماً بيوم ولا يأكل بينهما شيئاً، قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا" قالوا: يا رسول الله إنك تواصل، قال "فإني لست مثلكم إني أبيت يطمعني ربي ويسقيني" قال: فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال، فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمنكل لهم، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به، وكذلك أخرجا النهي عن الوصال من حديث أنس وابن عمر، وعن عائشة رضي الله عنهما، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل، قال: "إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني" فقد ثبت النهي عنه من غير وجه وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يقوى على ذلك ويعان، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنوياً لا حسياً، وإلا فلا يكون مواصلاً مع الحسي، ولكن كما قال الشاعر:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني" أخرجاه في الصحيحين أيضاً، وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبو إسرائيل العبسي عن أبي بكر بن حفص، عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة: أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فدعاها إلى الطعام، فقالت: إني صائمة، قال: وكيف تصومين. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أين أنت من وصال آل محمد من السحر إلى السحر" وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى، عن محمد بن علي، عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر، وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف: أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة، وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا(1/278)
أنهم كانوا يفعلونه عبادة، والله أعلم. ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاد من باب الشفقة، كما جاء في حديث عائشة: رحمة لهم، فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه، لأنهم كانوا يجدون قوة عليه، وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولاً، وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم، وقال أبو العالية: إنما فرض الله الصيام بالنهار، فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل. قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان، فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه وقال الضحاك كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع أن شاء، فقال الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره. وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد: أنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية، قال ابن أبي حاتم: روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل، قالوا: لا يقربها وهو معتكف وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الأكل، وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه، وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه، وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام، ولله الحمد والمنة، ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى، الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام، كما ثبتت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده، أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها، وكان ذلك ليلاً، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، وفي رواية: تواريا، أي حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه، فقال لهما صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي" أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، أو قال: شراً" قال الشافعي رحمه الله: أراد عليه السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها، لئلا يقعا في محذور، وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، والله أعلم، ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، قالت عائشة: ولقد كان المريض يكون في البيت، فما أسأل عنه، إلا وأنا مارة، وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما(1/279)
حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه، حدود الله أي شرعها الله وبينها بنفسه، فلا تقربوها أي لا تجاوزوها وتتعدوها، وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي المباشرة في الاعتكاف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني هذه الحدود الأربعة، ويقرأ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }- حتى بلغ - { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} قال: وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
{وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مّنْ أَمْوَالِ النّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام، وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم، وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها" فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فلا يحل في نفس الأمر حراماً هو حرام، ولا يحرم حلالاً هو حلال وإنما هو ملزم في الظاهر، فإن طابق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره، ولهذا قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم، قال قتادة: اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراماً ولا يحق لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطىء ويصيب، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنّ الْبِرّ مَنِ اتّقَىَ وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قال العوفي عن ابن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ} يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم، وقال أبو جعفر عن الربيع، عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} يقول جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم ومحل دينهم،(1/280)
كذا روي عن عطاء والضحاك وقتادة والسدي والربيع بن أنس نحو ذلك¹ وقال عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن أبي رواد به، وقال: كان ثقة عابداً مجتهداً شريف النسب فهو صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه، قال: قال رسول الله: "جعل الله الأهلة، فإذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وكذا روي من حديث أبي هريرة ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية، أتوا البيت من ظهره فأنزل الله {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم، لم يدخل الرجل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية، وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان، إذ خرج من بابه، وخرج معه قطبة بن عامر من الأنصار فقالوا: يا رسول الله، أن قطبة بن عامر رجل تاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: رأيتك فعلته، ففعلت كما فعلت، فقال: إني أحمس، قال له: فإن ديني دينك. فأنزل الله {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} رواه ابن أبي حاتم، ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه، وكذا روي عن مجاهد والزهري وقتادة وإبراهيم النخعي والسدي والربيع بن أنس، وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً، وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره، لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره، فقال الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية، وقال محمد بن كعب: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت، فأنزل الله هذه الآية، وقال عطاء بن أبي رباح: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها، ويرون أن ذلك أدنى إلى البر، فقال الله {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} ولا يرون أن ذلك أدنى إلى البر وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي اتقوا الله، فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} غداً إذا وقفتهم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال.
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ أن اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّىَ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ}
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ(1/281)
يُقَاتِلُونَكُمْ} قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت سورة براءة، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، حتى قال: هذه منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وفي هذا نظر، لأن قوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم، كما قال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} ولهذا قال في الآية: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم، كما ههمتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً. وقوله: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي قاتلوا في سبيل الله، ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي، كما قاله الحسن البصري: من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ، الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم، ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اغزوا في سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد، ولأبي داود عن أنس مرفوعاً نحوه، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان. وقال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام، حدثنا الأحلج عن قيس بن أبي مسلم، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حذيفة يقول: ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالاً واحداً وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة، وأحد عشر، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلاً وترك سائرها، قال: "إن قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة، فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة" هذا حديث حسن الإسناد، ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء فاعتدوا عليهم فاستعملوهم فيما لا يليق بهم، أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً. ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال، نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله، أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل، ولهذا قال: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال أبو مالك: أي ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل. ولهذا قال: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} ، يقول الشرك أشد من القتل، وقوله: {لا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كما جاء في الصحيحين "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل إلا ساعة من نهار وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلي خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" ، يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة، وقيل صلحاً لقوله "من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ} يقول تعالى: ولا تقاتلوهم عند(1/282)
المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} وقال {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه، ثم أمر الله بقتال الكفار {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، أي شرك قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وفي الصحيحين "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".
وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} يقول تعالى فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد أن لا يقاتل إلا من قاتل أو يكون تقديره فإن انتهوا تخلصوا من الظلم وهو الشرك، فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعدوان ههنا المعاقبة والمقاتلة كقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله، وقال البخاري: قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: أن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا: ألم يقل الله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، وحتى يكون الدين لغير الله، وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب، أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمر المغافري، أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع، أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتقيم عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ فقال: يا ابن أخي بني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت. قالوا: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} قال فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه أو عذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، قال فما قولك في علي وعثمان ؟ قال: أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه، وأما علي فابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، فأشار بيده، فقال: هذا بيته حيث ترون.(1/283)
{الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أن اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ}
قال عكرمة: عن ابن عباس والضحاك والسدي وقتادة ومقسم والربيع بن أنس وعطاء وغيرهم، لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، معتمراً في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين، في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان من المسلمين، وأقصه الله منهم، فنزلت في ذلك هذه الآية {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام، إلا أن يغزى وتغزوا، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ. هذا إسناد صحيح: ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل، وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين، بايع أصحابه وكانوا ألفاً وأربعمائة تحت الشجرة، على قتال المشركين، فلما بلغه أن عثمان لم يقتل، كف عن ذلك وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان. وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين، وتحصن فلهم بالطائف، عدل إليها فحاصرها، ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق، واستمر عليه إلى كمال أربعين يوماً كما ثبت في الصحيحين عن أنس، فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح، ثم كر راجعاً إلى مكة واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضاً، عام ثمان صلوات الله وسلامه عليه وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أمر بالعدل حتى في المشركين، كما قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أن قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد، ثم نسخ بآية القتال بالمدينة، وقد رد هذا القول ابن جرير، وقال: بل الآية مدنية بعد عمرة القضية وعزا ذلك إلى مجاهد رحمه الله، وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أمر لهم بطاعة الله وتقواه، وإخباره بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.
{وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ أن اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ}
قال البخاري: حدثنا إسحاق أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة عن سليمان، سمعت أبا وائل عن حذيفة {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة، ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن أبي معاوية عن الأعمش به، مثله قال وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نجياً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا، فنقيم فيهما، فنزل فينا {وَأَنْفِقُواْ(1/284)
فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ} ، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد، في تفسيره، وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به، وقال الترمذي حسن صحيح غريب، وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام رجل يُريدُ فضالة بن عبيد، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم، فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه، فقالوا سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: يا أيها الناس، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه، قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فاصلحناها، فأنزل الله هذه الآية،
وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي، قال: قال رجل للبراء بن عازب، أن حملت على العدو وحدي فقتلوني، أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ قال: لا، قال الله لرسوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} وإنما هذه في النفقة، رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه، من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق به، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن البراء، فذكره وقال بعد قوله: {لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} ، ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، كاتب الليث، حدثني الليث، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر ابن نمير بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث، أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه عمرو فرده، وقال عمرو: قال الله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، قال: ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة، قال حماد بن سلمة، عن داود، عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير، قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله، فنزلت: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال الحسن البصري {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: هو البخل، وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير، في قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، أن يذنب الرجل الذنب فيقول: لا يغفر لي، فأنزل الله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} رواه ابن مردويه، وقال ابن أبي حاتم، وروي عن عبيدة السلماني والحسن وابن سيرين وأبي قلابة نحو ذلك، يعني نحو قول النعمان بن بشير، أنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له، فيلقي بيده إلى التهلكة، أي يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: التهلكة عذاب الله، وقال ابن أبي حاتم وابن جرير، جميعاً حدثنا يونس حدثنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر عن القرظي محمد بن كعب، أنه كان يقول في هذه الآية: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزود الرجل، فكان أفضل زاداً من الأخر، أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء،(1/285)
أحب أن يواسي صاحبه فأنزل الله {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وقال ابن وهب أيضاً: أخبرني عبد الله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وذلك أن رجالاً يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير نفقة، فإما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالاً، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي. وقال لمن بيده فضل {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله، في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده، ثم عطف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
{وَأَتِمّواْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتّىَ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مّن رّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فإذا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أن اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
لما ذكر تعالى أحكام الصيام، وعطف بذكر الجهاد، شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما، ولهذا قال بعده: فإن أحصرتم، أي صددتم عن الوصول إلى البيت، ومنعتم من إتمامهما، ولهذا اتفق العلماء، على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها، كما هما قولان للعلماء، وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا الأحكام، مستقصى ولله الحمد والمنة، وقال شعبة: عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي أنه قال في هذه الآية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، قال: أن تحرم من دويرة أهلك، وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس، وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية: إتمامها أن تحرم من أهلك، لا تريد إلا الحج والعمرة وتهل من الميقات، ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريباً من مكة، قلت لو حججت أو أعمرت، وذلك بجزيء، ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره، وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعاً من الميقات، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري، قال: بلغنا أن عمر قال في قول الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الأخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج، أن الله تعالى يقول: الحج أشهر معلومات، وقال هشام عن ابن عون: سمعت القاسم بن محمد يقول: أن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة، فقيل له: فالعمرة في المحرم ؟ قال: كانوا يرونها تامة، وكذا روي عن قتادة بن دعامة رحمهما الله، وهذا القول فيه نظر لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتمر أربع عمر، كلها في ذي القعدة، عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانئ: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" ، وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه السلام، فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ونص سعيد بن جبير على أنه(1/286)
من خصائصها، والله أعلم.
وقال السدي في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي أقيموا الحج والعمرة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، يقول: من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل، حتى يتمهما تمام الحج، يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة، وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل. وقال قتادة عن زرارة، عن ابن عباس أنه قال: الحج عرفة، والعمرة الطواف، وكذا روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، قال: هي قراءة عبد الله وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لا يجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال كذلك قال ابن عباس. وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت، وكذا روى الثوري أيضاً، عن إبراهيم عن منصور عن إبراهيم، أنه قرأ: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت. وقرأ الشعبي: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} برفع العمرة، وقال: ليست بواجبة. وروي عنه خلاف ذلك، وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة، عن أنس وجماعة من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع في إحرامه بحج وعمرة، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه: "من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة" ، وقال في الصحيح أيضاً: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثاً غريباً، فقال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عبد الله الهروي، حدثنا غسان الهروي، حدثنا إبراهيم ابن طهمان، عن عطاء عن صفوان بن أمية، أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران، عليه جبة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي قال: فأنزل الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين السائل عن العمرة" ؟ فقال: ها أنا ذا، فقال له "ألق عنك ثيابك ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك" هذا حديث غريب وسياق عجيب، والذي ورد في الصحيحين عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، فقال: كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وخلوق ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه الوحي ثم رفع رأسه فقال: أين السائل ؟ فقال ها أنا ذا، فقال "أما الجبة فانزعها، وأما الطيب الذي بك فاغسله، ثم ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك" ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق، ولا ذكر نزول هذه الآية، وهو عن يعلى بن أمية لا صفوان بن أمية، فالله أعلم.
وقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست، أي عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت، وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها، وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي، وكان سبعين بدنة، وأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السلام أن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا، فلم يفعلوا انتظاراً للنسخ، حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس، وكان منهم من قصر رأسه ولم يحلقه، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ فقال في الثالثة "والمقصرين" ، وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك كل سبعة في بدنة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم، وقيل بل كانوا على طرف الحرم، فالله أعلم، ولهذا اختلف العلماء: هل يختص الحصر بالعدو فلا يتحلل إلا من حصره عدو لا(1/287)
مرض ولا غيره على قولين، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس، وابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن ابن عباس، أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو، فأما من أصابه مرض أو وضع أو ضلال فليس عليه شيء، إنما قال الله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فليس الأمن حصراً، قال: وروي عن ابن عمر وطاوس والزهري وزيد بن أسلم نحو ذلك، والقول الثاني: أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال، وهو التوهان عن الطريق أو نحو ذلك، قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا حجاج بن الصواف عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كسر أو وجع أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق، وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير به، وفي رواية لأبي داود وابن ماجه: من عرج أو كسر أو مرض، فذكر معناه. ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن علية، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف به، ثم قال: وروي عن ابن مسعود وابن الزبير وعلقمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومجاهد والنخعي وعطاء ومقاتل بن حيان الإحصار من عدو أو مرض أو كسر وقال الثوري الإحصار من كل شيء آذاه وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله، فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث، وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القول بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث، قال البيهقي وغيره من الحفاظ: وقد صح ولله الحمد.
وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال الإمام مالك: عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، أنه كان يقول: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} شاة، وقال ابن عباس: الهدي من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن، وقال الثوري عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال: شاة، وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وأبو العالية ومحمد بن علي بن الحسين وعبد الرحمن بن القاسم والشعبي والنخعي والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم: مثل ذلك، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة وابن عمر: أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر. قال: وروي عن سالم والقاسم وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير نحو ذلك (قلت) والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة، وإنما ذبحوا الإبل والبقر، ففي الصحيحين عن جابر، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال: بقدر يسارته، وقال العوفي، عن ابن عباس: أن كان موسراً فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم. وقال هشام بن عروة عن أبيه {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال: إنما ذلك فيما بين الرخص والغلاء، والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من(1/288)
الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هدياً، والهدي من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنماً.
وقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} معطوف على قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وليس معطوفاً على قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} كما زعمه ابن جرير رحمه الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة أن كان قارناً، أو من فعل أحدهما أن كان منفرداً أو متمتعاً، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال "إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر".
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعت عبد الله بن معقل قال: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - فسألته عن فدية من صيام، فقال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال "ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة" ؟ قلت: لا، قال: "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك" فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: أتى عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أُوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهي، أو قال حاجبي، فقال: "يؤذيك هوام رأسك" ؟ قلت: نعم، قال "فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو أنسك نسيكة" قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ، وقال أحمد أيضاً: حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون وقد حصره المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر عليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أيؤذيك هوام رأسك" ؟ فأمره أن يحلق قال: ونزلت هذه الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وكذا رواه عفان عن شعبة عن أبي بشر وهو جعفر بن إياس به، وعن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به¹ وعن شعبة عن داود عن الشعبي عن كعب بن عجرة نحوه¹ ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، فذكره نحوه، وقال سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري: أنه سمع كعب بن عجرة يقول: فذبحت شاة، ورواه ابن مردويه، وروي أيضاً من حديث عمر بن قيس وهو ضعيف عن عطاء عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النسك شاة، والصيام ثلاثة أيام، والطعام فرق بين ستة" وكذا روي عن علي ومحمد بن كعب وعكرمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا عبد الله بن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وقال: "صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، مدين لكل إنسان، أو أنسك شاة، أي ذلك فعلت أجزأ عنك" وهكذا روى ليث بن أبي سليم عن(1/289)
مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: إذا كان أو فأيه أخذت أجزأ عنك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاوس والحسن وحميد الأعرج وإبراهيم والنخعي والضحاك نحو ذلك. (قلت) وهو مذهب الأئمة الأربعة، وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام، أن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق، وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء أيّ ذلك فعل أجزأه، ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل {فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل فالأفضل، فقال: أنسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام، فكل حسن في مقامه، ولله الحمد والمنة. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: ذكر الأعمش، قال: سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية {فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فأجابه بقول يحكم عليه طعام، فإن كان عنده اشترى شاة، وإن لم يكن قومت الشاة دراهم وجعل مكانها طعام فتصدق، وإلا صام لكل نصف صاع يوماً، قال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر، قال: لما قال لي سعيد بن جبير: من هذا ما أظرفه ؟ قال: قلت: هذا إبراهيم، فقال: ما أظرفه كان يجالسنا، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال: فلما قلت: يجالسنا انتفض منها، وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا ابن أبي عمران، حدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله: {فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء، والصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، كل مسكين مكوكين: مكوكاً من تمر، ومكوكاً من بر، والنسك شاة، وقال قتادة عن الحسن وعكرمة في قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: إطعام عشرة مساكين، وهذان القولان من سعيد بن جبير وعلقمة والحسن وعكرمة، قولان غريبان فيهما نظر، لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة الصيام ثلاثة أيام لا ستة، أو إطعام ستة مساكين، أو نسك شاة، وأن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن، وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا، والله أعلم. وقال هشام: أخبرنا ليث عن طاوس أنه كان يقول: ما كان من دم أو طعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن، وقال هشام: أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء، وقال هشيم: أخبرنا يحيى بن سعيد عن يعقوب بن خالد، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال: حج عثمان بن عفان ومعه علي والحسين بن علي فارتحل عثمان، قال أبو أسماء وكنت مع ابن جعفر فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلت: أيها النائم، فاستيقظ فإذا الحسين بن علي، قال: فحمله ابن جعفر حتى أتينا به السقيا، قال: فأرسل إلي علي ومعه أسماء بنت عميس، قال: فمرضناه نحواً من عشرين ليلة، قال: قال علي للحسين ما الذي تجد ؟ قال: فأومأ بيده إلى رأسه، قال: فأمر به علي فحلق رأسه، ثم دعا ببدنة فنحرها فإن كانت هذه الناقة عن الحلق، ففيه أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن التحلل فواضح.
وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها أحرم بالحج، وهذا هو التمتع الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء، والتمتع العام يشمل القسمين، كما(1/290)
دلت عليه الأحاديث الصحاح، فإن من الرواة من يقول: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر يقول: قرن ولا خلاف أنه ساق هدياً، وقال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة، وله أن يذبح البقر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر، وقال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح البقر عن نسائه وكن متمتعات، رواه أبو بكر بن مردويه، وفي هذا دليل على مشروعية التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها، حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء. قال البخاري يقال إنه عمر، وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحاً به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول: أن نأخذ بكتاب الله يأمر بالتمام، يعني قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وفي نفس الأمر لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها محرماً لها، إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين، كما قد صرح به رضي الله عنه. وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} يقول تعالى: فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج، أي في أيام المناسك، قال العلماء: والأولى أن يصومها قبل عرفة في العشر، قاله، عطاء، أو من حين يحرم قاله ابن عباس وغيره لقوله في الحج، ومنهم من يجوز صيامها من أول شوال، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد، وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي وعطاء وطاوس والحكم والحسن وحماد وإبراهيم وأبو جعفر الباقر والربيع ومقاتل بن حيان، وقال العوفي عن ابن عباس: إذا لم يجد هدياً فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يوم عرفة الثالث، فقد تم صومه، وسبعة إذا رجع إلى أهله، وكذا روى أبو إسحاق عن وبرة عن ابن عمر قال: يصوم يوماً قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة وكذا روى جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي أيضاً: فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد، فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق ؟ فيه قولان للعلماء وهما للإمام الشافعي أيضاً، القديم منهما: أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي هكذا رواه مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر وقد روي من غير وجه عنهما، ورواه سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي، أنه كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج، صامهن أيام التشريق، وبهذا يقول عبيد بن عمير الليثي عن عكرمة والحسن البصري وعروة بن الزبير، وإنما قالوا ذلك لعموم قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} والجديد من القولين أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق لما رواه مسلم عن قتيبة الهذلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر الله عز وجل".
وقوله: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} فيه قولان: (أحدهم) إذا رجعتم إلى رحالكم، ولهذا قال مجاهد: هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق، وكذا قال عطاء بن أبي رباح. والقول (الثاني) إذا رجعتم إلى أوطانكم، قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن سالم، سمعت ابن عمر قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قال: إذا رجع إلى أهله، وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والزهري والربيع بن أنس، وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع، وقد قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، فأهل(1/291)
بعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: "من كان منكم أهدىَ فإنه لا يحل بشيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله" وذكر تمام الحديث، قال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه، والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري به، وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} قيل: تأكيد، كما تقول العرب: رأيت بعيني، وسمعت بأذني، وكتبت بيدي، وقال الله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ} وقال {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} وقال {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وقيل: معنى كاملة الأمر بإكمالها وإتمامها، اختاره ابن جرير، وقيل معنى كاملة أي مجزئة عن الهدي، قال هشيم عن عباد بن راشد عن الحسن البصري في قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} قال: من الهدي.
وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال ابن جرير: واختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة لهم، فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم، حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان هو الثوري قال: ابن عباس: هم أهل الحرم، وكذا روى ابن المبارك عن الثوري، وزاد الجماعة عليه، وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة، لا متعة لكم، أحلت لأهل الأفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم وادياً، أو قال: يجعل بينه وبين الحرم وادياً، ثم يهل بعمرة، وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه، قال: المتعة للناس لا لأهل مكة، من لم يكن أهله من الحرم. وكذا قول الله عز وجل {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال: وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس، وقال آخرون: هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت، كما قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عطاء، قال: من كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة لا يتمتع، وقال عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال: من كان دون الميقات وقال ابن جريج عن عطاء ذلك لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام قال: عرفة ومزدلفة وعرفة والرجيع، وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر سمعت الزهري يقول من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع، وفي رواية عنه: اليوم واليومين، واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة، لأن من كان كذلك يعد حاضراً لا مسافراً، والله أعلم.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي فيما أمركم ونهاكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي لمن خالف أمره وارتكب ما عنه زجره.
{الْحَجّ أَشْهُرٌ مّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنّ الْحَجّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَىَ وَاتّقُونِ يَأُوْلِي الألْبَابِ}
اختلف أهل العربية في قوله: {الْحَجّ أَشْهُرٌ مّعْلُومَاتٌ} فقال بعضهم: تقديره الحج حج أشهر معلومات،(1/292)
فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام فيما عداها وإن كان ذاك صحيحاً، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وبه يقول إبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد واحتج لهم بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وبأنه أحد النسكين، فصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة. وذهب الشافعي رحمه الله، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره، فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به وهل ينعقد عمرة، فيه قولان عنه. والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مروي عن ابن عباس وجابر، وبه يقول عطاء وطاوس ومجاهد رحمهم الله، والدليل عليه قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة، وهو أن وقت الحج أشهر معلومات فخصصه بها من بين سائر شهور السنة، فدل على أنه لا يصح قبلها كميقات الصلاة، وقال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج، أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج من أجل قول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي عن حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج به، ورواه ابن مردويه في تفسيره من طريقين عن حجاج بن أرطاة، عن الحاكم بن عتيبة، عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، وقال ابن خزيمة في صحيحه: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو خالد الأحمر عن شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم في أشهر الحج، وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي من السنة كذا في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس تفسيراً للقرآن وهو ترجمانه. وقد ورد فيه حديث مرفوع، قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، حدثنا نافع، حدثنا الحسن بن المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج" وإسناده لا بأس به، لكن رواه الشافعي والبيهقي من طرق عن ابن جريج، عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل: أيهلّ بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال: لا، وهذا الموقوف أصح وأثبت من المرفوع، ويبقى حينئذٍ مذهب صحابي يتقوى بقول ابن عباس من السنة: أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره، والله أعلم.
وقوله: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قال البخاري: قال ابن عمر: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وهذا الذي علقه البخاري بصيغة الجزم، رواه ابن جرير موصولاً، حدثنا أحمد بن حازم بن أبي برزة، حدثنا أبو نعيم، حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قال: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، إسناد صحيح، وقد رواه الحاكم أيضاً في مستدركه عن الأصم، عن الحسن بن علي بن عفان، عن عبد الله بن نمير، عن عبد الله عن نافع، عن ابن عمرو فذكره وقال: هو على شرط الشيخين، (قلت) وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود وعبد الله بن الزبير وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وابن سيرين ومكحول وقتادة والضحاك بن مزاحم والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأبي يوسف وأبي ثور رحمهم الله، واختار هذا القول ابن جرير، قال: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب، كما يقول العرب: رأيته العام ورأيته اليوم، وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وإنما تعجل في(1/293)
يوم ونصف يوم، وقال الإمام مالك بن أنس والشافعي في القديم: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، وهو رواية عن ابن عمر أيضاً، قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت عبد الله بن عمر يسمي شهور الحج. قال: نعم، كان عبد الله يسمي شوالا وذا القعدة وذا الحجة، قال ابن جريج: وقال ذلك ابن شهاب وعطاء وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج، وقد حكى هذا أيضاً عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير والربيع بن أنس وقتادة، وجاء فيه حديث مرفوع لكنه موضوع، رواه الحافظ بن مردويه من طريق حصين بن مخارق، وهو متهم بالوضع، عن يونس بن عبيد عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج أشهر معلومات: شوال وذو القعدة وذو الحجة" وهذا كما رأيت لا يصح رفعه والله أعلم، وفائدة مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة بمعنى أنه مختص بالحج، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال عبد الله: الحج أشهر معلومات، ليس فيها عمرة، وهذا إسناد صحيح، قال ابن جرير: وإنما أراد من ذهب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة إنما هي للحج وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى، كما قال محمد بن سيرين: ما أحد من أهل العلم يشك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج، وقال ابن عون: سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج فقال: كانوا لا يرونها تامة. (قلت) وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، أنهما كان يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج، والله أعلم.
وقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي أوجب بإحرامه حجاً، فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه، قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من الفرض ههنا الإيجاب والإلزام، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} يقول: من أحرم بحج أو عمرة، وقال عطاء: الفرض الإحرام. وكذا قال إبراهيم والضحاك وغيرهم. وقال ابن جرير: أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض. قال ابن أبي حاتم: روي عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وعكرمة والضحاك وقتادة وسفيان الثوري والزهري ومقاتل بن حيان: نحو ذلك، وقال طاوس والقاسم بن محمد: هو التلبية. وقوله: {فَلا رَفَثَ} أي من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث، وهو الجماع، كما قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك، كذلك التكلم به بحضرة النساء، قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس: أن نافعاً أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم، قال ابن وهب: وأخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب مثله، قال ابن جرير: وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة، عن رجل، عن أبي العالية الرياحي، عن ابن عباس، أنه كان يحدو وهو محرم، وهو يقول:(1/294)
وهنّ يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
وقال أبو العالية: فقلت: تكلم بالرفث وأنت محرم ؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء. ورواه الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس فذكره. وقال ابن جرير أيضاً، حدثني أبي حصين بن قيس، قال: أصعدت مع ابن عباس في الحاج، وكنت خليله، فلما كان بعد إحرامنا وقال ابن عباس: فأخذ بذنب بعيره فجعل يلويه ويرتجز ويقول:
وهنّ يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
قال فقلت: أترفث وأنت محرم ؟ فقال: إنما الرفث ما قيل عند النساء. وقال عبد الله بن طاوس عن أبيه: سألت ابن عباس عن قول الله عز وجل: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} ؟ قال: الرفث التعريض بذكر الجماع، وهي العرابة في كلام العرب، وهو أدنى الرفث، وقال عطاء بن أبي رباح: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش وكذا قال عمرو بن دينار وقال عطاء: كانوا يكرهون العرابة، وهو التعريض وهو محرم. وقال طاوس: هو أن يقول للمرأة إذا حللت أصبتك، وكذا قال أبو العالية، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك، وقال ابن عباس أيضاً وابن عمر: الرفث غشيان النساء وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم وأبو العالية عن عطاء ومكحول وعطاء الخراساني وعطاء بن يسار وعطية وإبراهيم النخعي والربيع والزهري والسدي ومالك بن أنس ومقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم.
وقوله: {وَلا فُسُوقَ} قال: مقسم وغير واحد، عن ابن عباس هي المعاصي، وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والزهري والربيع بن أنس وعطاء بن يسار وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان، وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، قال: الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيداً أو غيره، وكذا روى ابن وهب عن يونس عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم، وقال آخرون: الفسوق ههنا السباب قال ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومجاهد والسدي وإبراهيم النخعي والحسن، وقد يتمسك هؤلاء بما ثبت في الصحيح "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ولهذا رواه ههنا الحبر أبو محمد بن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري عن زبيد، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" ، وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق ههنا الذبح للأصنام، قال الله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ، وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب، والذين قالوا: الفسوق ههنا هو جميع المعاصي الصواب معهم، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهياً عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد، ولهذا قال {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وقال في الحرم {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} واختار ابن جرير أن الفسوق ههنا ارتكاب ما نهى عنه في الإحرام من قتل الصيد وحلق الشعر وقلم الأظفار ونحو ذلك، كما تقدم عن ابن عمر، وما ذكرناه أولى، والله أعلم، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت، فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"(1/295)
وقوله: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فيه قولان: (أحدهما) ولا مجادلة في وقت الحج في مناسكه، وقد بينه الله أتم بيان، ووضحه أكمل إيضاح، كما قال وكيع عن العلاء بن عبد الكريم: سمعت مجاهداً يقول {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قد بين الله أشهر الحج فليس فيه جدال بين الناس. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال: لا شهر ينسأ ولا جدال في الحج قد تبين ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به. وقال الثوري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد في قوله: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال: قد استقام الحج. فلا جدال فيه، وكذا قال السدي. وقال هشيم: أخبرنا حجاج عن عطاء، عن ابن عباس {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال: المراء في الحج. وقال عبد الله بن وهب: قال مالك: قال الله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فالجدال في الحج - والله أعلم - أن قريشاً كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة، وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن أصوب ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فهذا فيما نرى، والله أعلم، وقال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم، فقطعه الله حين أعلم نبيه بالمناسك، وقال ابن وهب: عن أبي صخر، عن محمد بن كعب، قال: كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم، وقال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم، وقال حماد بن سلمة، عن جبير بن حبيب، عن القاسم بن محمد أنه قال: الجدال في الحج أن يقول بعضهم: الحج غداً، ويقول بعضهم: الحج اليوم، وقد اختار ابن جرير مضمون هذه الأقوال، وهو قطع التنازع في مناسك الحج، والله أعلم.
(والقول الثاني) أن المراد بالجدال ههنا المخاصمة. قال ابن جرير: حدثنا عبد الحميد بن بيان، حدثنا إسحاق عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود في قوله: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه، وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق عن التميمي، سألت ابن عباس، عن الجدال، قال: المراء تماري صاحبك حتى تغضبه، وكذلك روى مقسم والضحاك عن ابن عباس وكذا قال أبو العالية وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء الخراساني ومكحول والسدي ومقاتل بن حيان وعمرو بن دينار والضحاك والربيع بن أنس وإبراهيم النخعي وعطاء بن يسار والحسن وقتادة والزهري وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ولا جدال في الحج، المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك فنهى الله عن ذلك، وقال إبراهيم النخعي {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال: كانوا يكرهون الجدال، وقال محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال الجدال في الحج السباب والمنازعة، وكذا روى ابن وهب عن يونس، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: الجدال في الحج السباب والمراء والخصومات، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن الزبير والحسن وإبراهيم وطاوس ومحمد بن كعب، قالوا الجدال المراء، وقال عبد الله بن المبارك عن يحيى بن بشر، عن عكرمة {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} والجدال الغضب، أن تغضب عليك مسلماً إلا أن تستعتب مملوكاً فتغضبه من غير أن تضربه، فلا بأس عليك أن شاء الله. (قلت) ولو ضربه لكان جائزاً سائغاً، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجاً حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست إلى جانب أبي، وكانت زمالة أبي بكر وزمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه، فأطلع وليس مع بعيره، فقال: أين بعيرك ؟ فقال: أضللته البارحة، فقال أبو بكر: بعير تضلله ؟ فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع" وهكذا(1/296)
أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن إسحاق، ومن هذا الحديث حكى بعضهم عن بعض السلف أنه قال: من تمام الحج ضرب الجمال، ولكن يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر رضي الله عنه: "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع" كهيئة الإنكار اللطيف أن الأولى ترك ذلك، والله أعلم.
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيد الله، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه".
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} لما نهاهم عن إتيان القبيح قولاً وفعلاً، حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة، وقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} قال العوفي، عن ابن عباس: كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا ؟ فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن عكرمة: أن ناساً كانوا يحجون بغير زاد فأنزل الله {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وكذا رواه ابن جرير عن عمرو وهو الفلاس، عن ابن عيينة، قال ابن أبي حاتم: وقد روى هذا الحديث ورقاء عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس، قال وما يرويه عن ابن عيينة أصح. (قلت) قد رواه النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: كان ناس يحجون بغير زاد، فأنزل الله {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري عن يحيى بن بشر، عن شبابة، وأخرجه أبو داود عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ومحمد بن عبد الله المخزومي عن شبابة عن ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن شبابة، ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة به، وروى ابن جرير وابن مردويه من حديث عمرو بن عبد الغفار عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زاداً آخر، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الدقيق والسويق والكعك، وكذا قال ابن الزبير وأبو العالية ومجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي وسالم بن عبد الله وعطاء الخراساني وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان، وقال سعيد بن جبير: فتزودوا الدقيق والسويق والكعك، وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير {وَتَزَوَّدُوا} قال الخشكنانج والسويق، قال وكيع أيضاً، حدثنا إبراهيم المكي عن ابن نجيح، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: أن من كرم الرجل طيب زاده في السفر، وزاد فيه حماد بن سلمة عن أبي ريحانة أن ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجودة.
وقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، كما قال {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشداً إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع والطاعة والتقوى، وذكر أنه خير من هذا وأنفع، قال عطاء الخراساني في قوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} يعني زاد الآخرة، وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبدان، حدثنا هشام بن(1/297)
عمار، حدثنا مروان بن معاوية عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة" وقال مقاتل بن حيان لما نزلت هذه الآية {وَتَزَوَّدُوا}: قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله، ما نجد ما نتزوده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزود ما تكفّ به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى" رواه ابن أبي حاتم، وقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} يقول: واتقوا عقابي ونكالي وعذابي لمن خالفني ولم يأتمر بأمري، يا ذوي العقول والأفهام.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضّآلّينَ}
قال البخاري: حدثنا محمد، أخبرني ابن عيينة عن عمرو، عن ابن عباس، قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فنزلت {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج. وهكذا رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وغير واحد عن سفيان بن عيينة به. ولبعضهم فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، وكذا رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس، قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ ومجنة وذو المجاز، فلما كان الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الآية، وروى أبو داود وغيره من حديث يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج، يقولون: أيام ذكر، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} وقال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس أنه قال {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده، وهكذا روى العوفي عن ابن عباس، وقال وكيع: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرأ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج، وقال عبد الرحمن، عن ابن عيينة، عن عبد الله بن أبي يزيد: وهكذا فسرها مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومنصور بن المعتمر وقتادة وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس وغيرهم، وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا شعبة عن أبي أميمة، سمعت ابن عمر سئل عن الرجل يحج ومعه تجارة، فقرأ ابن عمر {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} وهذا موقوف، وهو قوي جيد، وقد روي مرفوعاً، قال أحمد: حدثنا أسباط، حدثنا الحس بن عمرو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: أن نكري فهل لنا من حج ؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم ؟ قال: قلنا: بلى، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه حتى نزل عليه جبرائيل بهذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال "أنتم حجاج". وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن العلاء بن المسيب، عن رجل من بني تميم، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا نقوم نكري ويزعمون أنه ليس لنا حج، قال: ألستم تحرمون كا(1/298)
يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون ؟ قال: بلى، قال فأنت حاج، ثم قال ابن عمر جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه، فنزلت هذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرزاق به، وهكذا روى هذا الحديث أبو حذيفة عن الثوري مرفوعاً، وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعاً، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عباد بن العوام عن العلاء بن المسيب عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إنا أناس نكري في هذا الوجه إلى مكة، وإن أناساً يزعمون أنه لا حج لنا، فهل ترى لنا حجاً ؟ قال: ألستم تحرمون وتطوفون بالبيت وتقضون المناسك ؟ قال: قلت: بلى، قال "فأنتم حجاج" ثم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألت فلم يدر ما يعود عليه، أو قال: فلم يرد شيئاً حتى نزلت {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فدعا الرجل فتلاها عليه، وقال "أنتم حجاج" وكذا رواه مسعود بن سعد وعبد الواحد بن زياد وشريك القاضي عن العلاء بن المسيب مرفوعاً وقال ابن جرير: حدثني طليق بن محمد الواسطي، حدثنا أسباط هو ابن محمد، أخبرنا الحسن بن عمرو هو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكري، فهل لنا حج ؟ فقال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم ؟ قلنا: بلى، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} إلى آخر الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم حجاج" وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا غندر عن عبد الرحمن بن المهاجر عن أبي صالح مولى عمرو قال: قلت: يا أمير المؤمنين، كنتم تتجرون في الحج ؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟
وقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} إنما صرف عرفات وإن كان علماً على مؤنث، لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات، سمي به بقعة معينة فروعي فيه الأصل فصرف، اختاره ابن جرير، وعرفة موضع الوقوف في الحج، وهي عمدة أفعال الحج، ولهذا روى الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير عن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحج عرفات - ثلاثاً - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك، وأيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه" ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس، وقال "لتأخذوا عني مناسككم" وقال في هذا الحديث "فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، رحمهم الله، وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة، واحتجوا بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبل طيء، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وصححه الترمذي، ثم قيل: إنما سميت عرفات لما رواه عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج، قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: بعث الله جبريل عليه السلام إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فحج به، حتى إذا أتى عرفة قال: عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، فلذلك سميت عرفة وقال ابن المبارك عن(1/299)
عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: إنما سميت عرفة لأن جبريل كان يري إبراهيم المناسك فيقول: عرفت عرفت، فسميت عرفات، وروي نحوه عن ابن عباس وابن عمر وأبي مجلز، فالله أعلم، وتسمى عرفات المشعر الحرام، والمشعر الأقصى، وإهلال على وزن هلال، ويقال للجبل في وسطها: جبل الرحمة، قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له ... لإهلال إلى تلك الشراج القوابل
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حماد بن الحسن بن عنبسة، حدثنا أبو عامر عن زمعة هو ابن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كأنها العمائم على رؤوس الرجال دفعوا، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس ورواه ابن مردويه من حديث زمعة بن صالح وزاد: ثم وقف بالمزدلفة وصلى الفجر بغلس، حتى إذا أسفر كل شيء وكان في الوقت الآخر، دفع، وهذا حسن الإسناد، وقال ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال: أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر، ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجهها، وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها، وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفاً هدينا هدي أهل الشرك" ، هكذا رواه ابن مردويه، وهذا لفظه، والحاكم في مستدركه، كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي عن عبد الوارث بن سعيد عن ابن جريج، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقد صح وثبت بما ذكرناه سماع المسور من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا كما يتوهمه بعض أصحابنا أنه من له رؤية بلا سماع، وقال وكيع، عن شعبة، عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي، عن المعرور بن سويد، قال: رأيت عمر رضي الله عنه حين دفع عن عرفة كأني أنظر إليه رجل أصلع على بعير له يوضع وهو يقول: إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع، وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل الذي في صحيح مسلم، قال فيه: فلم يزل واقفاً - يعني بعرفة - حتى غربت الشمس، وبدت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة" كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد حتى أتىَ المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر، حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه سئل: كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفع ؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. والعنق هو انبساط السير، والنص فوقه، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي فيما كتب إليّ عن أبيه أو عمه، عن سفيان بن عيينة قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وهي الصلاتين جميعاً، وقال أبو إسحاق السبيعي، عن عمرو بن ميمون: سألت عبد الله بن عمرو عن المشعر الحرام، فسكت حتى إذا هبطت أيدي(1/300)
رواحلنا بالمزدلفة، قال: أين السائل عن المشعر الحرام، هذا المشعر الحرام، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، قال: قال ابن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلها. وقال هشيم، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر: أنه سئل عن قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} قال: فقال: هذا الجبل وما حوله. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: فرآهم ابن عمر يزدحمون على قزح، فقال: على ما يزدحم هؤلاء، كل ههنا مشعر. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي والربيع بن أنس والحسن وقتادة أنهم قالوا: هو ما بين الجبلين. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أين المزدلفة ؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر، قال: وليس المأزمان عرفة من المزدلفة، ولكن مفاضاهما، قال: فقف بينهما أن شئت، قال: وأحب أن تقف دون قزح هلم إلينا من أجل طريق الناس. (قلت) والمشاعر هي المعالم الظاهرة، وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام، لأنها داخل الحرم، وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض أصحاب الشافعي منهم القفال وابن خزيمة لحديث عروة بن مضرس ؟ أو واجب كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم ؟ أو مستحب لا يجب بتركه شيء كما هو القول الآخر ؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء لبسطها موضع آخر غير هذا، والله أعلم. وقال عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "عرفة كلها موقف، وارفعوا عن عرنة، وجمع كلها موقف إلا محسراً" هذا حديث مرسل، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز حدثني سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "كل عرفات موقف، وارفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن محسر، وكل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح " وهذا أيضاً منقطع، فإن سليمان بن موسى هذا، وهو الأشدق، لم يدرك جبير بن مطعم، ولكن رواه الوليد بن مسلم وسويد بن عبد العزيز، عن سليمان، فقال الوليد، عن جبير بن مطعم عن أبيه، وقال سويد عن نافع بن جبير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، والله أعلم.
وقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج على ما كان عليه من الهداية إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا قال {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} قيل: من قبل هذا الهدى وقبل القرآن وقبل الرسول، والكل متقارب ومتلازم وصحيح.
{ثُمّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ أن اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
ثم - ههنا - لعطف خبر على خبر وترتبيه عليه، كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يدفع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، كما كان جمهور الناس يصنعون، يقفون بها إلا قريشاً فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل، ويقولون: نحن أهل الله في بلدته وقطان بيته، قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن حازم، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وسائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم، واختاره ابن جرير وحكى عليه الإجماع، وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن مجاهد عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، قال: أضللت بعيراً لي بعرفة فذهبت أطلبه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف، قلت:(1/301)
أن هذا من الحمس ما شأنه ههنا ؟ أخرجاه في الصحيحين، ثم رواه البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس: ما يقتضي أن المراد بالإفاضة ههنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار، فالله أعلم، وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم فقط. قال: والمراد بالناس إبراهيم عليه السلام، وفي رواية عند الإمام، قال ابن جرير: ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح.
وقوله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كثيراً ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا، وفي الصحيحين أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين. وقد روى ابن جرير ههنا حديث ابن عباس بن مرداس السلمي، في استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة، وقد أوردناه في جزء جمعناه في فضل يوم عرفة، وأورد ابن مردويه ههنا الحديث الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة" ، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" والأحاديث في الاستغفار كثيرة.
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُمْ مّن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها، وقوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} اختلفوا في معناه، فقال ابن جريج عن عطاء: هو كقول الصبي أبه أمه، يعني كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك، وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس، وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}، قال ابن أبي حاتم: وروى السدي، عن أنس بن مالك وأبي وائل وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه وسعيد بن جبير وعكرمة في أحد رواياته، ومجاهد والسدي وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وهكذا حكاه ابن جرير عن جماعة والله أعلم، والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل، ولهذا كان انتصاب قوله، أو أشد ذكراً على التمييز، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً، وأو - ههنا - لتحقيق المماثلة في الخبر كقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} وقوله: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}(1/302)
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فليست ههنا للشك قطعاً، وإنما هي لتحقيق المخبر عنه كذلك أو أزيد منه، ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه، فقال {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي من نصيب ولا حظ، وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك، قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل الله فيهم {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فأنزل الله {ولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرى، فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة، فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام، وقال القاسم بن عبد الرحمن: من أعطي قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وجسداً صابراً، فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار، ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء، فقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز، عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" وقال أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: سأل قتادة أنساً: أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: يقول "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها ورواه مسلم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم,حدثنا عبد السلام بن شداد يعني أبا طالوت، قال: كنت عند أنس بن مالك، فقال له ثابت: أن إخوانك يحبون أن تدعو لهم، فقال: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" وتحدثوا ساعة، حتى إذا أرادوا القيام قال: يا أبا حمزة، أن إخوانك يريدون القيام، فادع الله لهم، فقال: أتريدون أن أشقق لكم الأمور إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار، فقد آتاكم الخير كله، وقال أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن ثابت، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟ قال: نعم، كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه، فهلا قلت {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} قال: فدعاه فشفاه، انفرد بإخراجه مسلم، فرواه من حديث ابن أبي عدي به وقال الإمام الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد مولى السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن السائب:(1/303)
أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار} ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وفي سنده ضعف، والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور، حدثنا سعيد بن سليمان عن إبراهيم بن سليمان عن عبد الله بن هرمز، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكاً يقول آمين، فإذا مررتم عليه فقولوا {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}" وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو زكريا العنبري، حدثنا محمد بن عبد السلام، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال. إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحج معهم، أفيجزي ذلك ؟ فقال: أنت من الذين قال الله: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِيَ أَيّامٍ مّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخّرَ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتّقَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوآ أَنّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
قال ابن عباس: الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات أيام العشر، وقال عكرمة {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات الله أكبر الله أكبر. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا موسى بن علي عن أبيه، قال: سمعت عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" ، وقال أحمد أيضاً: حدثنا هشيم، أخبرنا خالد، عن أبي المليح، عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله" ورواه مسلم أيضاً، وتقدم حديث جبير بن مطعم "عرفة كلها موقف، وأيام التشريق كلها ذبح" وتقدم أيضاً حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي "وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم قالا: حدثنا هشيم عن عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيام التشريق أيام طعم وذكر الله" وحدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا روح، حدثنا صالح، حدثني ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منىَ: "لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" وحدثنا يعقوب حدثنا هشيم عن سفيان بن حسين عن الزهري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال "إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله إلا من كان عليه صوم من هدى" زيادة حسنة ولكن مرسلة، وبه قال هشيم عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عمرو بن دينار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بشر بن سحيم فنادى في أيام التشريق فقال: "إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله" وقال هشيم عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، قال: "وهي أيام أكل وشرب وذكر الله" وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحكم الزرقي، عن أمه قالت: لكأني أنظر إلى عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء حتى وقف على شعب الأنصار وهو يقول: يا أيها الناس، إنها ليست بأيام صيام، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر الله، وقال مقسم عن ابن عباس: الأيام المعدودات أيام التشريق أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة بعده، وروي(1/304)
عن ابن عمر وابن الزبير وأبي موسى وعطاء ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك وإبراهيم النخعي ويحيى بن أبي كثير والحسن وقتادة والسدي والزهري والربيع بن أنس والضحاك ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني ومالك بن أنس وغيرهم مثل ذلك. وقال علي بن أبي طالب: هي ثلاثة: يوم النحر ويومان بعده اذبح في أيهن شئت، وأفضلها أولها، والقول الأول هو المشهور، وعليه دلّ ظاهر الآية الكريمة حيث قال {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فدل على ثلاثة بعد النحر ويتعلق بقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} ذكر الله الأضاحي وقد تقدم، وأن الراجح في ذلك مذهب الشافعي رحمه الله وهو أن وقت الأضحية من يوم النحر إلى آخر التشريق ويتعلق به أيضا الذكر المؤقت خلف الصلوات,والمطلق في سائر الأحوال وفي وقته أقوال للعلماء أشهرها الذي عليه العمل أنه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وهو آخر النفر الآخر، وقد جاء فيه حديث رواه الدارقطني لكن لا يصح مرفوعاً، والله أعلم وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكبر في قبته فيكبر أهل السوق بتكبيره حتى ترتج منىَ تكبيراً ويتعلق بذلك أيضاً التكبير وذكر الله عند رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل. ولما ذكر الله تعالى النفر الأول والثاني وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والموقف، قال {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} كما قال {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
{وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَىَ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلّىَ سَعَىَ فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك، وعن ابن عباس، أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خبيب وأصحابه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} وقيل: بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم، وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحد، وهو الصحيح,وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن أبي هلال، عن القرظي، عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب، قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: فعليّ يجترئون وبي يغترون، حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران، قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون فوجدتها {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} الآية، وحدثني محمد بن أبي معشر: أخبرني أبو معشر نجيح، قال: سمعت سعيداً المقبري يذاكر(1/305)
محمد بن كعب القرظي، فقال سعيد: أن في بعض الكتب: أن عباداً ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين، يجترئون الدنيا بالدين، قال الله تعالى، عليّ تجترئون وبي تغترون ؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران، فقال محمد بن كعب هذا في كتاب الله، فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله ؟ قال: قول الله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية ؟ فقال محمد بن كعب، أن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد، وهذا الذي قاله القرظي، حسن صحيح، وأما قوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} فقرأه ابن محيصن {وَيُشْهِدُ اللَّهَ} بفتح الياء وضم الجلالة {عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} ومعناها أن هذا وإن أظهر لكم الحيل لكن الله يعلم من قلبه القبيح كقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} وقراءة الجمهور بضم الياء ونصب الجلالة، {يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} ومعناه أنه يظهر للناس الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق كقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} الآية، هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقيل: معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه، وهذا المعنى صحيح، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس وحكاه عن مجاهد، والله أعلم.
وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الألد في اللغة الأعوج {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} أي عوجاً، وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" . وقال البخاري: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان عن ابن جريج، عن ابن مليكة عن عائشة ترفعه، قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" قال: وقال عبد الله بن يزيد: حدثنا سفيان، حدثنا ابن جريج عن ابن مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر في قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
وقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي هو أعوج المقال سيء الفعال، فذلك قوله وهذا فعله، كلامه كذب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة، والسعي - ههنا - هو القصد، كما قال إخباراً عن فرعون {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار" فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرث، وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل، وهو نتاج الحيوانات الذين لا قوام للناس إلا بهما وقال مجاهد: إذا سعي في الأرض إفساداً، منع الله القطر فهلك الحرث والنسل {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي لا يحب من هذه صفته، ولا من يصدر منه ذلك.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالأِثْمِ} أي إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له(1/306)
اتق الله وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق، امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالإثم، أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ولهذا قال في هذه الآية {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي هي كافيته عقوبة في ذلك وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله,وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة وقالوا له: ربح البيع فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك ؟ فأخبره أن الله أنزل فيه هذه الآية، ويروىَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ربح البيع صهيب" قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الله بن رستة، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي، حدثنا عوف عن أبي عثمان النهدي عن صهيب، قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا، ولا مال لك وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم: أرأيتم أن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا: نعم، فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ربح صهيب ربح صهيب" مرتين، وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب، قال: أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وأنثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ربح البيع" قال ونزلت {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس، فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما، وتلوا هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُوَاْ أن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك، قال العوفي، عن ابن عباس ومجاهد(1/307)
وطاوس والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد في قوله: {ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ} يعني الإسلام. وقال الضحاك، عن ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس {ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ} يعني الطاعة. وقال قتادة أيضاً: الموادعة. وقوله: {كَآفّةً} قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة والضحاك جميعاً، وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر.
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة وطائفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يسبتوا وأن يقوموا بالتوراة ليلاً، فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها، وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر، إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه والتعويض عنه بأعياد الإسلام.
ومن المفسرين من يجعل قوله: {كَآفّةً} حالاً من الداخلين أي ادخلوا في الإسلام كلكم والصحيح الأول وهو أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام وهي كثيرة جداً ما استطاعوا منها، كما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا علي بن الحسين، أخبرنا أحمد بن الصباح، أخبرني الهيثم بن يمان، حدثنا إسماعيل بن زكريا، حدثني محمد بن عون عن عكرمة عن ابن عباس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} كذا قرأها بالنصب، يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمور التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تدعوا منها شيئاً وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها، وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ} أي اعملوا بالطاعات واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، و {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ولهذا قال {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} قال مطرف: أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان، وقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج، فاعلموا أن الله عزيز أي في انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه، ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته حكيم في أمره. وقال محمد بن إسحاق: العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء الحكيم في عذره وحجته إلى عباده.
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور}
يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} يعني يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله أن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولهذا قال تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} كما قال الله تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} وقال {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الآية. وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير - ههنا - حديث الصور بطوله من أوله عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم,وفيه: أن الناس إذا(1/308)
اهتموا لموقفهم في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحداً واحداً من آدم فمن بعده فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا جاؤوا إليه قال "أنا لها أنا لها" فيذهب فيسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي بفصل القضاء بين العباد فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا وينزل من فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة، إلى السابعة، وينزل حملة العرش والكروبيون، قال: وينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبوح قدوس سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه سبحانه أبداً أبداً، وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه - ههنا - أحاديث فيها غرابة، والله أعلم. فمنها ما رواه من حديث المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله بن ميسرة، عن مسروق، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو بكر بن مقدم، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت عبد الجليل القيسي يحدث عن عبد الله بن عمرو {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} الآية. قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب. قال: وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد. قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قال: ظلل من الغمام منظوم من الياقوت، مكلل بالجوهر والزبرجد. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في ظلل من الغمام، قال: هو غير السحاب ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله تعالى يجيء فيما يشاء، وهي في بعض القراءات {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وهي كقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً}.
{سَلْ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ اتّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
يقول تعالى مخبراً عن بني إسرائيل: كم شاهدوا مع موسى من آية بينة أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به، كيده وعصاه وفلقه البحر وضرب الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها وبدلوا نعمة الله كفراً، أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها {وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا(1/309)
{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} الآية، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع فغداً لليهود وبعد غد للنصارى" ثم رواه عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة. وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس فهدى الله أمة محمد للقبلة واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت: النصارى كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه السلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك، وقال الربيع بن أنس في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغوهم، وأنهم قد كذبوا رسلهم، وفي قراءة أبي بن كعب: وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكان أبو العالية يقول في هذه الآية: المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
وقوله: {بِإِذْنِهِ} أي بعلمه بهم وبما هداهم له، قاله ابن جرير {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي من خلقه {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي وله الحكمة والحجة البالغة، وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وفي الدعاء المأثور: "اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا ابتاعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً".
{أَمْ حَسِبْتُمْ أن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إن نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ} قبل أن تبتلوا وتخبروا وتمتحنوا كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم، ولهذا قال {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} وهي الأمراض والأسقام والآلام والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومرة الهمداني والحسن وقتادة والضحاك والربيع والسدي ومقاتل بن حيان {الْبَأْسَاءُ} الفقر {وَالضَّرَّاءُ}(1/310)
{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} الآية، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع فغداً لليهود وبعد غد للنصارى" ثم رواه عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة. وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس فهدى الله أمة محمد للقبلة واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت: النصارى كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه السلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك، وقال الربيع بن أنس في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغوهم، وأنهم قد كذبوا رسلهم، وفي قراءة أبي بن كعب: وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكان أبو العالية يقول في هذه الآية: المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
وقوله: {بِإِذْنِهِ} أي بعلمه بهم وبما هداهم له، قاله ابن جرير {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي من خلقه {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي وله الحكمة والحجة البالغة، وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وفي الدعاء المأثور: "اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا ابتاعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً".
{أَمْ حَسِبْتُمْ أن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إن نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ} قبل أن تبتلوا وتخبروا وتمتحنوا كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم، ولهذا قال {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} وهي الأمراض والأسقام والآلام والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومرة الهمداني والحسن وقتادة والضحاك والربيع والسدي ومقاتل بن حيان {الْبَأْسَاءُ} الفقر { وَالضَّرَّاءُ}(1/311)
السقم {وَزُلْزِلُوا} خوفاً من الأعداء زلزالاً شديداً، وامتحنوا امتحاناً عظيماً، كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت، قال: قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا ؟ فقال: "إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه" ثم قال "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون" وقال الله تعالى: {آلم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله تعالى عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} الآيات. ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه ؟ قال: نعم. قال فكيف كانت الحرب بينكم ؟ قال سجالاً، يدال علينا وندال عليه . قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} أي سنتهم كما قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} وقوله: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} كما قال { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها، ولهذا قال {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} وفي حديث أبي رزين " عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه، فينظر إليهم قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب" الحديث.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
قال مقاتل بن حيان: هذه الآية في نفقة التطوع. وقال السدي: نسختها الزكاة، وفيه نظر، ومعنى الآية: يسألونك كيف ينفقون ؟ قاله ابن عباس ومجاهد فبين لهم تعالى ذلك، فقال {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أي اصرفوها في هذه الوجوه. كما جاء الحديث "أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك" وتلا ميمون بن مهران هذه الآية، ثم قال: هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلاً ولا مزماراً ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان. ثم قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي مهما صدر منكم من فعل معروف، فإن الله يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، فإنه لا يظلم أحداً مثقال ذرة.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام، وقال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أوقعد، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه قعد. (قلت) ولهذا ثبت في الصحيح "من مات ولم يغز ولم يحدث(1/312)
نفسه بالغزو، مات ميتة جاهلية" وقال عليه السلام يوم الفتح: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" وقوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ} أي شديد عليكم ومشقة وهو كذلك، فإنه إما أن يقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء. ثم قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء على بلادهم وأموالهم وذراريهم وأولادهم. {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} وهذا عام في الأمور كلها قد يحب المرء شيئاً وليس له فيه خيرة ولا مصلحة، ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم. ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم، فاستجيبوا له وانقادوا لأمره، لعلكم ترشدون.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ أن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أن الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، حدثني الحضرمي عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فلما ذهب ينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسه فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال "لا تكرهن أحداً على السير معك من أصحابك" فلما قرأ الكتاب استرجع، وقال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان وبقي بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} الآية، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} الآية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء وعامر بن فهيرة وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، وكتب لابن جحش كتاباً وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل بطن ملل فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه "أن سر حتى تنزل بطن نخلة" فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص، فإنني موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار، فتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة، أضلا راحلة لهما فتخلفا يطلبانها، سار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وانفلت وقتل عمرو، قتله واقد بن عبد الله، فكانت أولى غنيمة غنمها(1/313)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجعوا إلى المدينة بأسيرين وما أصابوا من المال، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين عليه. وقالوا: أن محمداً يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب، فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى، وقتل في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى، وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب، وأنزل الله يعير أهل مكة {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لا يحل وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإخراج أهل المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر من القتل عند الله.
وقال العوفي عن ابن عباس {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردوه عن المسجد في شهر حرام، قال: ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام، فقال الله {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} من القتال فيه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى وكانت أول رجب، ولم يشعروا، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه، وإن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك، فقال الله تعالى: {سْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والشرك أشد منه، وهكذا روى أبو سعيد البقال عن عكرمة، عن ابن عباس، أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش وقتل عمرو بن الحضرمي، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، وقال: نزل فيما كان من مصاب عمرو بن الحضرمي {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} إلى آخر الآية، وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة، عن زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني رحمه الله، في كتاب السيرة له، إنه قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رباب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضي كما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً، وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين، ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة حليف لهم، ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان بن جابر حليف لهم ومن بني زهرة بن كلاب سعد بن أبي وقاص ومن بني كعب عدي بن عامر بن ربيعة، حليف لهم، من غير ابن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع، أحد بني تميم حليف لهم، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم، ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء، فلما سار عبد الله بن جحش يومين، فتح الكتاب فنظر فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي في هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم، فلما نظر عبد الله بن جحش الكتاب، قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، أن امضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد(1/314)
نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد، فسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له نُجران، أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد الله بن عباد أحد الصدف وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه، قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال¹ فقال من يرد عليه من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان وقالت اليهود: تفاءلوا بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب، فجعل الله عليهم ذلك لا لهم، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي أن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه وأنتم أهله {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} من قتل من قتلتم منهم {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين، قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشدة، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا" يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم، فقدم سعد وعتبة، ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً، قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كان حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى(1/315)
فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فوضع الله من ذلك على أعظم الرجاء، قال ابن إسحاق، والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة، وقد روى يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قريباً من هذا السياق، وروى موسى بن عقبة، عن الزهري نفسه نحو ذلك، وروى شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة بن الزبير نحواً من هذا أيضاً، وفيه فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين، فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا: أيحل القتال في الشهر الحرام ؟ فأنزل لله {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية، وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة، ثم قال ابن هشام، عن زياد، عن ابن إسحاق: وقد ذكر عن بعض آل عبد الله أن عبد الله قسم الفيء بين أهله، فجعل أربعة أخماسه لمن أفاءه، وخمساً على الله ورسوله، فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير، قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون، قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبد الله بن جحش، ويقال: بل عبد الله بن جحش قالها حين قالت قريش: قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه المال وأسروا فيه الرجال، قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش.
تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقددما
وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غلّ من القيد عائد
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيَا والآخرة وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىَ قُلْ إِصْلاَحٌ لّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ أن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا إسرائيل عن أبي ميسرة، عن عمر أنه قال: لما أنزل تحريم الخمر، قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية التي في البقرة {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فدعي عمر، فقرئت عليه فقال. اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر، فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر، فقرئت عليه فلما بلغ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟} قال عمر: انتهينا انتهينا. هكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن إسرائيل عن أبي إسحاق، وكذا رواه(1/316)
ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق الثوري عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي، عن عمر وليس له عنه سواه، لكن قد قال أبو زرعة: لم يسمع منه، والله أعلم. وقال علي بن المديني: هذا إسناد صالح صحيح، وصححه الترمذي، وزاد ابن أبي حاتم بعد قوله انتهينا، إنها تذهب المال وتذهب العقل، وسيأتي هذا الحديث أيضاً مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضاً عند قوله في سورة المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الآيات، فقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أما الخمر، فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كل ما خامر العقل، كما سيأتي بيانه في سورة المائدة، وكذا الميسر وهو القمار.
وقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية من حيث أن فيها نفع البدن وتهضيم الطعام وإخراج الفضلات وتشحيذ بعض الأذهان ولذة الشدة المطربة التي فيها، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته:
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا لا ينهنهنا اللقاء
وكذا بيعها والانتفاع بثمنها، وما كان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين، ولهذا قال الله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} ، ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرضة، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما قرئت عليه: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ويأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة أن شاء الله تعالى وبه الثقة، قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن هذه أول آية نزلت في الخمر {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ، ثم نزلت الآية التي في سورة النساء، ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر.
قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} قرء بالنصب وبالرفع وكلاهما حسن متجه قريب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله، أن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل الله {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} وقال الحكم عن مقسم عن ابن عباس {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} قال: ما يفضل عن أهلك، كذا روي عن ابن عمر ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والقاسم وسالم وعطاء الخراساني والربيع بن أنس وغير واحد، أنهم قالوا في قوله: {قُلِ الْعَفْوَ} يعني الفضل، وعن طاوس: اليسير من كل شيء. وعن الربيع أيضاً: أفضل مالك وأطيبه والكل يرجع إلى الفضل. وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هوذة بن خليفة، عن عوف، عن الحسن، في الآية {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} قال، ذلك ألا يجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس، ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير: حدثنا علي بن مسلم، حدثنا أبو عاصم عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار، قال "أنفقه على نفسك" قال: عندي آخر، قال: "أنفقه على أهلك" قال: عندي آخر: قال "أنفقه على ولدك" قال: عندي آخر، قال "فأنت أبصر"¹ وقد رواه مسلم في صحيحه وأخرجه مسلم أيضاً عن جابر، أن رسول(1/317)
الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" . وعنده عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" وفي الحديث أيضاً "ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف" ثم قد قيل إنها منسوخة بآية الزكاة، كما رواه علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس، وقاله عطاء الخراساني والسدي، وقيل مبينة بآية الزكاة، قاله مجاهد وغيره، وهو أوجه.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا أبو أسامة عن الصعق العيشي، قال: شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} قال: هي والله لمن تفكر فيها ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء، وهكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا. وفي رواية عن قتادة: فآثروا الآخرة على الأولى.
وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} الآية، قال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا جرير عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن عطاء بن السائب به. وكذا رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذا رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود بمثله، وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد وعطاء والشعبي وابن أبي ليلى وقتادة وغير واحد من السلف والخلف، قال وكيع بن الجراح: حدثنا هشام صاحب الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة، حتى أخلط طعامه بطعامي، وشرابه بشرابي، فقوله: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} أي على حدة، {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم، لأنهم إخوانكم في الدين، ولهذا قال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح، وقوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم، ولكنه وسع عليكم، وخفف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بل جوز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر، أو مجاناً كما سيأتي بيانه في سورة النساء، أن شاء الله وبه الثقة.(1/318)
{وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتّىَ يُؤْمِنّ وَلأمَةٌ مّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتّىَ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيّنُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ}
هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين، أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم أن كان عمومها مراداً، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} : استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب، وهكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومكحول والحسن والضحاك وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وغيرهم. وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية، والمعنى قريب من الأول، والله أعلم. فأما ما رواه ابن جرير: حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا أبي، حدثني عبد الحميد بن بهرام الفزاري، حدثنا شهر بن حوشب، قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وقد نكح طلحة بن عبد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب، عمر بن الخطاب غضباً شديداً حتى هم أن يسطو عليهما فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكني أنتزعهن منكم صغرة قمأة، فهو حديث غريب جداً، وهذا الأثر غريب عن عمر أيضاً، قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات، وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات أو لغير ذلك من المعاني. كما حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن إدريس، حدثنا الصلت بن بهرام عن شقيق، قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: خلّ سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام، فأخلي سبيلها ؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن، وهذا إسناد صحيح، وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل، عن وكيع، عن الصلت، نحوه، وقال ابن جرير: حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا سفيان بن سعيد عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب، قال: قال عمر بن الخطاب: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة، قال: وهذا أصح إسناداً من الأول، ثم قال: وقد حدثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا إسحاق الأزرقي عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا" ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فالقول به لإجماع الجميع من الأمة عليه، كذا قال ابن جرير رحمه الله. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر، أنه كره نكاح أهل الكتاب، وتأول {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}. وقال البخاري: وقال ابن عمر: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول: ربها عيسى، وقال أبو بكر الخلال الحنبلي: حدثنا محمد بن هارون، حدثنا إسحاق بن إبراهيم وأخبرني محمد بن علي، حدثنا صالح بن أحمد، أنهما سألا أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن قول الله {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ(1/319)
حَتَّى يُؤْمِنَّ} قال: مشركات العرب الذين يعبدون الأصنام. وقوله: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قال السدي: نزلت في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها، ثم فزع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهما، فقال له "ما هي ؟" قال: تصوم وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال "يا أبا عبد الله هذه مؤمنة". فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمته وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وقال عبد بن حميد: حدثنا جعفر بن زياد الإفريقي عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال " لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن عن أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، وأنكحوهن على الدين، فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل" والإفريقي ضعيف، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك" ولمسلم عن جابر مثله، وله عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" وقوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} أي لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات، كما قال تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ثم قال تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أي ولرجل مؤمن - ولو كان عبداً حبشياً - خير من مشرك، وإن كان رئيساً سرياً {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي معاشرتهم ومخالطتهم، تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمة {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} أي بشرعه وما أمر به وما نهى عنه {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنّ حَتّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إن اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ الْمُتَطَهّرِينَ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنّىَ شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لأنْفُسِكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ مّلاَقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس، أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} حتى فرغ من الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً، إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله، أن اليهود قالت: كذا وكذا، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلنهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما، رواه مسلم من حديث حماد بن زيد بن سلمة، فقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} يعني الفرج، لقوله "اصنعوا كل شيء(1/320)
إلا النكاح" ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم، إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج، قال أبو داود أيضاً: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد عن أيوب، عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا أراد من الحائض شيئاً يلقي على فرجها ثوباً، وقال أبو داود أيضاً: حدثنا القعنبي، حدثنا عبد الله يعني ابن عمر بن غانم، عن عبد الرحمن يعني ابن زياد، عن عمارة بن غراب أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة قال: إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد، قالت: أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل فمضى إلى مسجده، قال أبو داود: تعني مسجد بيتها فما انصرف حتى غلبتني عيني فأوجعه البرد فقال "ادني مني" فقلت: إني حائض، فقال "اكشفي عن فخذيك" فكشفتُ فخذي، فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى دفىء ونام صلى الله عليه وسلم، وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة، أن مسروقاً ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهله، فقالت عائشة: مرحباً مرحباً، فأذنوا له فدخل فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي، فقالت: إنما أنا أمك وأنت ابني، فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالت له: كل شيء إلا فرجها. ورواه أيضاً عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، عن مروان الأصفر، عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً ؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة، وروى ابن جرير أيضاً عن أبي كريب عن ابن أبي زائدة، عن حجاج، عن ميمون بن مهران، عن عائشة، قالت له: ما فوق الإزار. (قلت) ويحل مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف، قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض، وكان يتكىء في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن. وفي الصحيح عنها، قالت: كنت أتعرق العرق وأنا حائض فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه، وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن جابر بن صبح، سمعت خلاساً الهجري قال: سمعت عائشة تقول: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعار الواحد وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شيء غسل مكانه لم يعده وإن أصابه - يعني ثوبه - شيء غسل مكانه لم يعده وصلى فيه، فأما ما رواه أبو داود حدثنا سعيد بن الجبار، حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد، عن أبي اليمان، عن أم ذرة، عن عائشة أنها قالت: كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر، فهو محمول على التنزه والاحتياط. وقال آخرون: إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار، كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض، وهذا لفظ البخاري، ولهما عن عائشة نحوه، وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث العلاء، عن حزام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال: ما فوق الإزار. ولأبي داود أيضاً عن معاذ بن جبل، قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال: ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل" وهو رواية عن عائشة كما تقدم وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح. فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق(1/321)
الإزار منها، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم، ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل الذي أجمع العلماء على تحريمه وهو المباشرة في الفرج، ثم من فعل ذلك فقد أثم، فيستغفر الله ويتوب إليه، وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا ؟ فيه قولان: (أحدهما) نعم، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، يتصدق بدينار أو نصف دينار، وفي لفظ للترمذي "إذا كان دماً أحمر فدينار، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار" وللإمام أحمد أيضاً عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل في الحائض تصاب ديناراً، فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل، فنصف دينار. (والقول الثاني) وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور أنه لا شيء في ذلك، بل يستغفر الله عز وجل لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث، فإنه قد روي مرفوعاً كما تقدم، وموقوفاً وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث، فقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} تفسير قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجوداً، ومفهومه حله إذا انقطع. قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فيما أملاه في الطاعة: وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} الآية، الطهر يدل على أن يقربها، فلما قالت ميمونة وعائشة: كانت إحدانا إذا حاضت اتزرت ودخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعاره، دل ذلك على أنه إنما أراد الجماع.
وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} وليس له في ذلك مستند، لأن هذا أمر بعد الحظر. وفيه أقوال لعلماء الأصول منهم من يقول إنه على الوجوب كالمطلق، هؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم، ومنهم من يقول: إنه للإباحة، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له من الوجوب، وفيه نظر، والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد عليه الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي، فإن كان واجباً، فواجب كقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} أو مباحاً فمباح كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} وعلى هذا القول تجتمع الأدلة، وقد حكاه الغزالي وغيره، فاختاره بعض أئمة المتأخرين وهو الصحيح، وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم أن تعذر ذلك عليها بشرطه، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول، فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيام عنده: أنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل، والله أعلم، وقال ابن عباس {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي من الدم {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي بالماء، وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن ومقاتل بن حيان والليث بن سعد وغيرهم.
وقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني الفرج. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يقول: في الفرج ولا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى. وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أي تعتزلوهن، وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر، كما سيأتي تقريره قريباً أن شاء الله تعالى. وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يعني طاهرات غير حيّض، ولهذا قال {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ(1/322)
التَّوَّابِينَ} أي من الذنب وإن تكرر غشيانه {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أي المتنزهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتى.
وقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} قال ابن عباس: الحرث موضع الولد {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي كيف شئتم، قال: سمعت جابراً قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان الثوري به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري: أن محمد بن المنكدر حدثهم: أن جابر بن عبد الله أخبره أن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول، فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال ابن جريج في الحديث: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج" وفي حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده، أنه قال: يا رسول الله، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال: "حرثك ائت حرثك أنى شئت، غير أن لا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" الحديث، رواه أحمد وأهل السنن.
(حديث آخر) - قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن عامر بن يحيى، عن حنش بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس، قال: أتى ناس من حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن أشياء، فقال له رجل: إني أحب النساء فكيف ترى في ؟ فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ورواه الإمام أحمد، حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رشدين، حدثني الحسن بن ثوبان عن عامر بن يحيى المغافري عن حنش، عن ابن عباس، قال: أنزلت هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} في أناس من الأنصار أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ائتها على كل حال إذا كان في الفرج".
(حديث آخر) - قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه مشكل الحديث: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، حدثنا يعقوب بن كاسب، حدثنا عبد الله بن نافع عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رجلاً أصاب امرأة في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية، ورواه ابن جرير عن يونس، عن يعقوب، ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن الحارث بن شريح، عن عبد الله بن نافع به.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا عبيد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الله بن سابط، قال: دخلت على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت: إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك، قالت: فلا تستحي يا ابن أخي، قال: عن إتيان النساء في أدبارهن ؟ قالت: حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا يحبون النساء وكانت اليهود تقول: إنه من أحبى امرأته، كان ولده أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فأحبوهن، فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك، فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، استحت الأنصارية أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت فسألته أم سلمة، فقال: ادعي "الأنصارية" فدعتها، فتلا عليها هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} "صماماً واحداً". ورواه الترمذي عن بندار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي خثيم به، وقال حسن. (قلت) وقد(1/323)
روي من طريق حماد بن أبي حنيفة عن أبيه، عن ابن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة أم المؤمنين أن امرأة أتتها، فقالت: أن زوجي يأتيني مجبية ومستقبلة فكرهته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال "لا بأس إذا كان في صمام واحد".
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا يعقوب يعني القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله هلكت، قال ما الذي أهلكك ؟ قال: حولت رحلي البارحة، قال، فلم يرد عليه شيئاً. قال: فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} "أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة". ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن حسن بن موسى الأشيب به، وقال: حسن غريب. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن شريح، حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قال: أثفر رجل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أثفر فلان امرأته، فأنزل الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ، قال: حدثني محمد يعني ابن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد عن ابن عباس، قال: أن ابن عمر قال - والله يغفر له - أوهم وإنما كان الحي من الأنصار، وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب، وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون كثيراً من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف، فأصنع ذلك، وإلا فاجتنبني، فسرى أمرهما فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضوع الولد، تفرد به أبو داود، ويشهد له بالصحة ما تقدم له من الأحاديث ولا سيما رواية أم سلمة، فإنها مشابهة لهذا السياق، وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، قال، عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها، حتى انتهيت إلى هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال ابن عباس: أن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة ويتلذذون بهن، فذكر القصة بتمام سياقها، وقول ابن عباس أن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم، كأنه يشير إلى ما رواه البخاري: حدثنا إسحاق حدثنا النضر بن شميل، أخبرنا ابن عون عن نافع، قال، كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عنه يوماً فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال: أتدري فيم أنزلت ؟ قلت: لا. قال: أنزلت في كذا وكذا، ثم مضى، وعن عبد الصمد قال، حدثني أبي، حدثنا أيوب عن نافع، عن ابن عمر {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال: أن يأتيها في... هكذا رواه البخاري، وقد تفرد به من هذا الوجه. وقال ابن جرير، حدثني يعقوب، حدثنا ابن عون عن نافع، قال قرأت ذات يوم {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال ابن عمر أتدري فيم نزلت ؟ قلت: لا. قال: نزلت في إيتان النساء في أدبارهن. وحدثني أبو قلابة. حدثنا(1/324)
عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال: في الدبر. وروي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ولا يصح. وروى النسائي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، أن رجلاً أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك وجداً شديداً، فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. قال أبو حاتم الرازي، لو كان هذا عند زيد بن أسلم عن ابن عمر، لما أولع الناس بنافع، وهذا تعليل منه لهذا الحديث. وقد رواه عبد الله بن نافع عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عمر، فذكره، وهذا الحديث محمول على ما تقدم وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها، لما رواه النسائي عن علي بن عثمان النفيلي عن سعيد بن عيسى، عن الفضل بن فضالة عن عبد الله بن سليمان الطويل، عن كعب بن علقمة، عن أبي النضر، أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر، أنه قد أكثر عليك القول، أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن، قال: كذبوا عليّ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر، أن ابن عمر عرض المصحف يوماً وأنا عنده حتى بلغ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال: يا نافع، هل تعلم من أمر هذه الآية ؟ قلت: لا. قال، إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردن منها مثل ما كنا نريد، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وهذا إسناد صحيح، وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني، عن الحسين بن إسحاق، عن زكريا بن يحيى الكاتب العمري، عن مفضل بن فضالة، عن عبد الله بن عياش، عن كعب بن علقمة، فذكره، وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحاً، وأنه لا يباح ولا يحل كما سيأتي، وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم، وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر، وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه الله. وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه، فقال الحسن بن عرفة: حدثنا إسماعيل بن عياش عن سهيل بن أبي صالح، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا أن الله لا يستحي من الحق، لا يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن" . وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن عبد الله بن شداد، عن خزيمة بن ثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها.
(طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا يعقوب، سمعت أبي يحدث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، أن عبيد الله بن الحصين الوالبي حدثه أن عبد الله الواقفي، حدثه أن خزيمة بن ثابت الخطمي، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "استحيوا أن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن" رواه النسائي وابن ماجه من طريق عن خزيمة بن ثابت وفي إسناده اختلاف كثير.
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي والنسائي: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان عن كريب، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر" ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه ابن حزم أيضاً، ولكن رواه النسائي أيضاً عن هناد، عن وكيع، عن الضحاك به موقوفاً. وقال عبد: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، أن رجلاً سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها، قال: تسألني عن الكفر، إسناده صحيح، وكذا رواه النسائي من طريق ابن المبارك عن معمر به نحوه، وقال عبد أيضاً في تفسيره: حدثنا إبراهيم بن الحاكم عن أبيه عن عكرمة، قال، جاء رجل إلى(1/325)
ابن عباس وقال: كنت آتي أهلي في دبرها، وسمعت قول الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فظننت أن ذلك لي حلال، فقال: يا لكع إنما قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في أقبالهن لا تعدوا ذلك إلى غيره.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا قتادة عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى" وقال عبد الله بن أحمد: حدثني هدبة، حدثنا همام، قال: سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها، فقال قتادة: أخبرنا عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "هي اللوطية الصغرى" . قال قتادة: وحدثني عقبة بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قوله، وهذا أصح، والله أعلم. وكذلك رواه عبد بن حميد عن يزيد بن هارون، عن حميد الأعرج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً من قوله.
(طريق أخرى) قال جعفر الفريابي: حدثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ويقول ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل، والمفعول به، والناكح يده، وناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، وجامع بين المرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره، ومؤذي جاره حتى يلعنه" ابن لهيعة وشيخه ضعيفان.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان عن عاصم، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلام، عن علي بن طلق، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤتى النساء في أدبارهن، فإن الله لا يستحي من الحق، وأخرجه أحمد أيضاً عن أبي معاوية وأبي عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضاً، عن عاصم الأحول به، وفيه زيادة، وقال: هو حديث حسن، ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل، والصحيح أنه علي بن طلق.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن سهيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه" . وقال أحمد أيضاً حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة يرفعه، قال "لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها" ، وكذا رواه ابن ماجه من طريق سهيل وقال أحمد أيضاً: حدثنا وكيع عن سهيل بن أبي صالح. عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأته في دبرها" ، وهكذا رواه أبو داود والنسائي من طريق وكيع به.
(طريق أخرى) قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا هناد ومحمد بن إسماعيل واللفظ له، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأة في دبرها" ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي، وإنما الذي فيه عن سهيل عن الحارث بن مخلد كما تقدم، قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا السند، وهم منه وقد ضعفوه.
(طريق أخرى) - رواها مسلم بن خالد الزنجي عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ملعون من أتى النساء في أدبارهن" ومسلم(1/326)
ابن خالد فيه كلام، والله أعلم.
(طريق أخرى) - رواها الإمام أحمد وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد" وقال الترمذي: ضعف البخاري هذا الحديث، والذي قاله البخاري في حديث الترمذي عن أبي تيمية: لا يتابع على حديثه.
(طريق أخرى) - قال النسائي: حدثنا عثمان بن عبد الله، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من كتابه عن عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن أبي سلمة رضي الله عنه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "استحيوا من الله حق الحياء لا تأتوا النساء في أدبارهن" تفرد به النسائي من هذا الوجه. قال حمزة بن محمد الكناني الحافظ: هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ومن حديث أبي سلمة ومن حديث سعيد فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد، فإنما سمعه بعد الاختلاف، وقد رواه الترمذي عن أبي سلمة أنه كان ينهي عن ذلك، فأما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا، انتهى كلامه، وقد أجاد وأحسن الانتقاد، إلا أن عبد الملك بن محمد الصنعاني لا يعرف أنه اختلط، ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة عن الكناني وهو ثقة، ولكن تكلم فيه دحيم وأبو حاتم وابن حبان، وقال: لا يجوز الاحتجاج به، والله أعلم. وقد تابعه زيد بن يحيى بن عبيد عن سعيد بن عبد العزيز. وروي من طريقين آخرين عن أبي سلمة، ولا يصح منها كل شيء.
(طريق أخرى) - قال النسائي: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن أبي هريرة، قال: إتيان الرجال النساء في أدبارهن كفر، ثم رواه النسائي من طريق الثوري عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة مرفوعاً، وكذا رواه من طريق علي بن نديمة عن مجاهد، عن أبي هريرة موقوفاً، ورواه بكر بن خنيس عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من أتى شيئاً من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر" والموقف أصح، وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد من الأئمة، وتركه آخرون.
(حديث آخر) - قال محمد بن أبان البلخي: حدثنا وكيع، حدثني زمعة بن صالح عن ابن طاوس، عن أبيه، وعن عمرو بن دينار، عن عبيد الله بن يزيد بن الهاد، قالا: قال عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن" وقد رواه النسائي، حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن عثمان بن اليمان عن زمعة بن صالح، عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن الهاد، عن عمر، قال: لا تأتوا النساء في أدبارهن وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي حكيم عن زمعة بن صالح، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن عبد الله بن الهاد الليثي، قال: قال عمر رضي الله عنه: استحيوا من الله فإن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن، والموقوف أصح.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا غندر ومعاذ بن معاذ، قالا: حدثنا شعبة عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلام، عن طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أستاههن" وكذا رواه غير واحد عن شعبة، ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن عاصم الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلام، عن طلق بن علي، والأشبه أنه علي بن طلق كما تقدم، والله أعلم.
(حديث آخر) - قال أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا أبو مسلم الحرمي، حدثنا أخو أنيس بن إبراهيم، أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره عن أبيه أبي القعقاع، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "محاش(1/327)
ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فأما أن وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفس منها، فقد قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وأما إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، ولهذا قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} الآية، فأما إذا لم يكن لها عذر، وسألت الافتداء منه، فقد قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب ح وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، قالا جميعاً: حدثنا أيوب عن أبي قلابة، عمن حدثه عن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة" . وهكذا رواه الترمذي عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به، وقال حسن: قال ويروى عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، ورواه بعضهم عن أيوب بهذا الإسناد ولم يرفعه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة، قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة". وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه وابن جرير من حديث حماد بن زيد به.
(طريق أخرى) - قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث بن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس حرم الله عليها رائحة الجنة" وقال: "المختلعات هن المنافقات". ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعاً، عن أبي كريب، عن مزاحم بن داود بن علية، عن أبيه، عن ليث هو ابن أبي سليم، عن أبي الخطاب، عن أبي زرعة، عن أبي إدريس، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المختلعات هن المنافقات" . ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي.
(حديث آخر) - قال ابن جرير: حدثنا أيوب، حدثنا حفص بن بشر، حدثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات" غريب من هذا الوجه ضعيف.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب عن الحسن، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات".
(حديث آخر) - قال ابن ماجه: حدثنا بكر بن خلف أبو بشر، حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان، عن عمه عمارة بن ثوبان، عن عطاء عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه، فتجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً". ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف: إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية، واحتجوا بقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قالوا: فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عدمه، ممن ذهب إلى هذا ابن عباس وطاوس وإبراهيم وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئاً وهو مضار لها، وجب رده إليها، وكان الطلاق رجعياً قال مالك: وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في(1/328)
قال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم، قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك أنه حلال، يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ثم قال: فأي شيء أبين من هذا ؟ هذه حكاية الطحاوي، وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن الإمام مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك، ولكن في الأسانيد ضعف شديد، وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه في ذلك، والله أعلم. وقال الطحاوي: حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب عن أبي سعيد الصيرفي عن أبي العباس الأصم سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول، فذكره، قال أبو نصر الصباغ: كان الربيع يحلف بالله لا إله إلا هو، لقد كذب - يعني ابن عبد الحكم - على الشافعي في ذلك، لأن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه، والله أعلم.
وقوله: {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} أي من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات، ولهذا قال {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي فيحاسبكم على أعمالكم جميعها {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي المطيعين الله فيما أمرهم، التاركين ما عنه زجرهم. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني محمد بن عبد الله بن واقد، عن عطاء، قال: أراه عن ابن عباس {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} قال: تقول باسم الله التسمية عند الجماع، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله، قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه أن يقدر بينهما ولد في ذلك، لن يضره الشيطان أبداً" .
{وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أن تَبَرّواْ وَتَتّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لاّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِالّلغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
يقول تعالى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، كقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير، كما قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" وقال رسول صلى الله عليه وسلم: "والله لأن يلجّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه" وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به، ورواه أحمد عنه به، ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا معاوية هو ابن سلام، عن يحيى وهو ابن أبي كثير، عن عكرمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استلجّ في أهله بيمين فهو أعظم إثماً، ليس تغني الكفارة" وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} قال: لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير، وكذا قال مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي رحمهم الله، ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن(1/329)
أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله أن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وثبت فيهما أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لعبد الرحمن بن سمرة "يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك أن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير" وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا خليفة بن خياط، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فتركها كفارتها" ورواه أبو داود من طريق أبي عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها" ثم قال أبو داود: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها "فليكفر عن يمينه" وهي الصحاح.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سعيد الكندي، حدثنا علي بن مسهر عن حارثة بن محمد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين قطيعة رحم ومعصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه" وهذا حديث ضعيف، ثم روى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب ومسروق والشعبي أنهم قالوا: لا يمين في معصية ولا كفارة عليها.
وقوله: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد، كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله" فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد، فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون هذه بهذه، ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} الآية، وفي الآية الأخرى {بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ}. قال أبو داود (باب لغو اليمين) حدثنا حميد بن مسعدة الشامي، حدثنا حيان يعني ابن إبراهيم، حدثنا إبراهيم يعني الصائغ، عن عطاء: في اللغو في اليمين، قال: قالت عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله" ثم قال أبو داود: رواه داود بن الفرات عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء عن عائشة موقوفاً، ورواه الزهري وعبد الملك ومالك بن مغول كلهم عن عطاء عن عائشة موقوفاً أيضاً. (قلت) وكذا رواه ابن جريج وابن ليلى عن عطاء عن عائشة موقوفاً، ورواه ابن جرير عن هناد عن وكيع وعبدة وأبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} لا والله وبلى والله، ثم رواه عن محمد بن حميد عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه عنها، وبه عن ابن إسحاق عن الزهري عن القاسم عنها، وبه عن سلمة عن ابن أبي نجيح عن عطاء عنها، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة في قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قالت: هم القوم يتدارؤون في الأمر، فيقول(1/330)
هذا: لا والله، بلى والله، وكلا والله، يتدارؤون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قالت: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله. وحدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، قال: كانت عائشة تقول: إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله، ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر وابن عباس في أحد قوليه، والشعبي وعكرمة في أحد قوليه، وعروة بن الزبير وأبي صالح والضحاك في أحد قوليه، وأبي قلابة والزهري نحو ذلك. (الوجه الثاني) قرىء على يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني الثقة عن ابن شهاب عن عروة، عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية، يعني قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وتقول: هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه، ثم قال: وروي عن أبي هريرة وابن عباس في أحد قوليه، وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه، وإبراهيم النخعي في أحد قوليه، والحسن وزرارة بن أوفى وأبي مالك وعطاء الخراساني وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة وحبيب بن أبي ثابت والسدي ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيع نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثنا محمد بن موسى الحرشي، حدثنا عبد الله بن ميمون المرادي، حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي الحسن قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون، يعني يرمون، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، قال: "كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة" هذا مرسل حسن عن الحسن. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عائشة القولان جميعاً، حدثنا عصام بن رواد، أنبأنا آدم، حدثنا شيبان عن جابر، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة، قالت: هو قوله: لا والله، وبلى والله، وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك. (أقوال أخر) - قال عبد الرزاق، عن هشيم عن مغيرة، عن إبراهيم: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه. وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل أعمى الله بصري أن لم أفعل كذا وكذا، أخرجني الله من مالي أن لم آتك غداً، فهو هذا. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا مسدد بن خالد، حدثنا خالد، حدثنا عطاء عن طاوس، عن ابن عباس، قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وأخبرني أبي: حدثنا أبو الجماهر، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني أبو بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك فذلك ما ليس عليك فيه كفارة، وكذا روي عن سعيد بن جبير. وقال أبو داود (باب اليمين في الغضب) حدثنا محمد بن المنهال، أنبأنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: أن عدت تسألني عن القسمة فكل ما لي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: أن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك". وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، قال مجاهد وغيره، وهي كقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} الآية.(1/331)
{وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي غفور لعباده حليم عليهم.
{لّلّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَآئِهِمْ تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطّلاَقَ فَإِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
الإيلاء الحلف، فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة، فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها، فإن كانت أقل، فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، آلى من نسائه شهراً فنزل لتسع وعشرين، وقال "الشهر تسع وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه، فأما أن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر، إما أن يفيء أي يجامع، وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا، وهذا لئلا يضر بها، ولهذا قال تعالى: {لّلّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَآئِهِمْ} أي يحلفون على ترك الجماع عن نسائهم، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور {تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق، ولهذا قال {فَإِنْ فَآءُوا} أي رجعوا إلى ما كانوا عليه وهو كناية عن الجماع، قاله ابن عباس ومسروق والشعبي وسعيد بن جبير وغير واحد ومنهم ابن جرير رحمه الله {فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ} لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين، قوله: {فَإِنْ فَآءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ} فيه دلالة لأحد قولي العلماء، وهو القديم عن الشافعي أن المولى إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه، ويعتضد بما تقدم في الحديث عند الآية التي قبلها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراُ منها، فتركها كفارتها" كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي، والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه التكفير لعموم وجوب التكفير على كل حالف، كما تقدم أيضاً في الأحاديث الصحاح، والله أعلم.
وقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر، كقول الجمهور من المتأخرين، وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقة، وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت، وبه يقول ابن سيرين ومسروق والقاسم وسالم والحسن وأبو سلمة وقتادة وشريح القاضي وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن طرخان التيمي وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس والسدي، ثم قيل: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية، قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ومكحول وربيعة والزهري ومروان بن الحكم، وقيل: إنها تطلق طلقة بائنة، روي عن علي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت، وبه يقول عطاء وجابر بن زيد ومسروق وعكرمة والحسن وابن سيرين ومحمد بن الحنفية وإبراهيم وقبيصة بن ذؤيب وأبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح، فكل من قال: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عيها العدة، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء: أنها أن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها، وهو قول الشافعي، والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب إما بهذا وإما بهذا ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق، وروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإما أن يطلق وإما أن يفيء،(1/332)
وأخرجه البخاري. وقال الشافعي رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقف المولى، قال الشافعي: وأقل ذلك ثلاثة عشر، ورواه الشافعي عن علي رضي الله عنه أنه يوقف المولى، ثم قال: وهكذا نقول، وهو موافق لما رويناه عن عمر وابن عمر وعائشة وعثمان وزيد بن ثابت وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا قال الشافعي رحمه الله. قال ابن جرير: حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: سألت اثني عشر رجلاً من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق، ورواه الدارقطني من طريق سهيل. (قلت) وهو يروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن عباس، وبه يقول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وطاوس ومحمد بن كعب والقاسم، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم رحمهم الله، وهو اختيار ابن جرير أيضاً، وهو قول الليث وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور وداود، وكل هؤلاء قالوا: أن لم يفىء ألزم بالطلاق، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم، والطلقة تكون رجعية، لها رجعتها في العدة، وانفرد مالك بأن قال، لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جداً.
قد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر، الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس رحمه الله في الموطأ، عن عبد الله بن دينار، قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل، فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألا عبه
فو الله لولا الله أني أراقبه ... لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك وقال محمد بن إسحاق، عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما زلت أسمع حديث عمرانه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيراً إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها، تقول:
تطاول هذا الليل وازور جانبه ... وأرقني أن لا ضجيع ألا عبه
ألا عبه طوراً وطوراً كأنما ... بدا قمراً في ظلمة الليل حاجبه
يسر به من كان يلهو بقربه ... لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه
فو الله لولا الله لا شيء غيره ... لنقض من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيباً موكلا ... بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه
مخافة ربي والحياء يصدني ... وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
ثم ذكر بقية ذلك، كما تقدم أو نحوه، وقد روي هذا من طرق وهو من المشهورات.
{وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلّ لَهُنّ أن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِيَ أَرْحَامِهِنّ أن كُنّ يُؤْمِنّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ أن أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ}(1/333)
هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء، ثم تتزوج أن شاءت، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت، فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على نصف من الحرة، والقرء لا يتبعض فكمل لها قرآن، ولما رواه ابن جرير عن مظاهر بن أسلم المخزومي المدني، عن القاسم، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية، وقال الحافظ الدارقطني وغيره: الصحيح أنه من قول القاسم بن محمد نفسه، ورواه ابن ماجه من طريق عطية العوفي عن ابن عمر مرفوعاً، قال الدارقطني: والصحيح ما رواه سالم ونافع عن ابن عمر قوله، وهكذا روي عن عمر بن الخطاب. قالوا: ولم يعرف بين الصحابة خلاف، وقال بعض السلف: بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية، ولأن هذا أمر جبلي، فكان الحرائر والإماء في هذا سواء، حكى هذا القول الشيخ أبو عمر بن عبد البر، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر وضعفه. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل، يعني ابن عياش، عن عمرو بن مهاجر، عن أبيه، أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، قالت: طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله عز وجل حين طلقت أسماء العدة للطلاق، فكانت من هذا الوجه فيها العدة للطلاق يعني {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين: حدهما) أن المراد بها الأطهار، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة، وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: أن الله تعالى يقول في كتابه {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}. فقالت عائشة: صدقتم، وتدرون ما الأقراء ؟ إنما الأقراء الأطهار، وقال مالك، عن ابن شهاب: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحداً من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك، يريد قول عائشة، وقال مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته، فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرىء منها، وقال مالك: وهو الأمر عندنا وروى مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسالم والقاسم وعروة وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري وبقية الفقهاء السبعة وهو مذهب مالك والشافعي وغير واحد وداود وأبي ثور، وهو رواية عن أحمد واستدلوا عليه بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي في الأطهار ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسباً، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ولهذا قال هؤلاء: أن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان، واستشهد أبو عبيد وغيره على ذلك بقول الشاعر وهو الأعشى:
ففي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالاً وفي الأصل رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
يمدح أميراً من أمراء العرب آثر الغزو على المقام، حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيه. القول الثاني) - أن المراد بالأقراء، الحيض، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة، زاد(1/334)
آخرون: وتغتسل منها، وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوماً ولحظة، قال الثوري: عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاءته امرأة فقالت: أن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي، فقال عمر لعبد الله بن مسعود: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة قال: وأنا أرى ذلك، وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ، وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبي والربيع ومقاتل بن حيان والسدي ومكحول والضحاك وعطاء الخراساني أنهم قالوا: الأقراء الحيض وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام. أحمد بن حنبل، وحكى عنه الأثرم أنه قال: الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: الأقراء الحيض، وهو مذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح ابن حي وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من طريق المنذر بن المغيرة عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "دعي الصلاة أيام أقرائك" فهذا لو صح لكان صريحاً في أن القرء هو الحيض، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن جرير: أصل القرء في كلام العرب الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركاً بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض الأصوليين، والله أعلم. وهذا قول الأصمعي أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمي الحيض قرءاً، وتسمي الطهر قرءاً وتسمي الطهر والحيض جميعاً قرءاً. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض، ويراد به الطهر، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين. - وقوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} أي من حبل أو حيض، قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي والحكم بن عيينة والربيع بن أنس والضحاك وغير واحد، وقوله: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} تهديد لهن على خلاف الحق، دل هذا على أن المرجع في هذا إليهن لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ويتعذر إقامة البينة غالباً على ذلك، فرد الأمر إليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالاً منها لانقضاء العدة أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد، فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان. - وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} أي وزوجها الذي طلقها أحق بردها، ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير، وهذا في الرجعيات، فأما المطلقات البوائن، فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن، وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية، فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات، صار للناس مطلقة بائن، وغير بائن وإذا تأملت هذا، تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين من استشهادهم على مسألة عود الضمير، هل يكون مخصصاً لما تقدمه من لفظ العموم أم لا بهذه الآية الكريمة،(1/335)