ص : 483 هذا تلخيص ما قالوه ، والمعنى حسن في نفسه إلا أن حمل الكلام عليه بعيد ، لأنّ الجدل في لسان العرب هو الخصومة ، وتخصيصه بالقياس المؤلف من المسلمات اصطلاح منطقي حادث ، ولا يسوغ حمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات الحادثة ، ولا يصحّ فهمها إلا مراعى فيها معانيها التي وضعتها لها العرب ، وما أرادوه يصحّ أن يكون داخلا في الحكمة ، فإنّ المراد بها الطريق المحكم في الدعوة ، ولا إحكام في الدعوة إلا إذا خوطب الناس بما يفقهون ، فلا يخاطب العوام بالجدل والبرهان ، ولا كل صنف من الناس إلا بما هو لائق به.
ومن ذلك يعلم أن القائم بالدعوة ينبغي أن يكون على حظّ عظيم من علم النفس وعلم الاجتماع وطبائع الأفراد والأمم ، فإنّه ليس شيء أنجع في الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم ، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يناسبها.
ومن الحمق أن يظنّ أن الناس متساوون في القدرة والأفهام فيما إذا خوطبوا على درجة واحدة من الخطاب ، وكما أن الأمراض مختلفة ، وأدويتها كذلك مختلفة ، وليس دواء واحد نافعا لكل مرض ولكل مريض ، كذلك أمراض النفوس ، تحتاج إلى علاجات مختلفة ، وتركيبات متباينة ، وربّ دواء أفاد إنسانا ، وأضر بآخر ، وربما أفاده في وقت ، وأضر به في آخر ، ومدار الأمر على معرفة الداعي أنّ الغرض من القول الإفهام والتأثير ، فيسلك لذلك سبله ، وعلى أن يكون عنده عقل مفكر ، ولسان مؤثر ، سنذكر حديثا يدل على مقدار رفق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الدعوة ، ومقدار نجاح هذا الرفق.
روى أبو أمامة أنّ غلاما شابا أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا نبي اللّه ، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «قرّبوه إذن» فدنا حتى جلس بين يديه ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «أ تحبه لأمك» قال : لا جعلني اللّه فداك ، قال : «كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك» قال : لا جعلني اللّه فداك. قال : «و كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك» قال : لا جعلني اللّه فداك. قال : «و كذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم» فوضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يده على صدره وقال : «اللهم طهّر قلبه ، واغفر ذنبه ، وحصّن فرجه» فلم يكن شيء أبغض إليه منه «1».
وينبغي أيضا أن يكون الداعي شجاعا في الحق فلا يهن ، صارما في الصدق ، فلا يضعف ، مخلصا فانيا في مبدئه فلا يبيعه بزخارف الدنيا وزينتها.
والمثل الأعلى في ذلك صاحب الدعوة الإسلامية فقد اعترضوا سبيل الدعوة.
بكل أنواع الإيذاء ، وفتنوا المؤمنين. فلم يثن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن عزمه ، وصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 256).(1/483)
ص : 484
ثم جاءت قريش إلى عمه أبي طالب ، وعرضوا عليه أن يأخذ محمد ما شاء من مال ويترك ما يدعو إليه ، فذكر أبو طالب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك فبكى وقال : «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، ما تركته حتى يظهره اللّه ، أو أهلك دونه» «1».
قال اللّه تعالى : وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون (127) عُوقِبْتُمْ بِهِ أصل العقاب المجازاة على الفعل ، فالفعل ابتداء ليس عقابا ، وإنما سمّاه اللّه هنا عقابا على طريق المشاكلة ضَيْقٍ تخفيف الضيق أي في أمر ضيق ، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين كالقيل والقول.
لما أمره اللّه بدعوة الناس إلى الإسلام ، وكان في ضمن الدعوة تسفيه آرائهم ، وإبطال عقائدهم ، وتضليل طرائقهم ، وهذا مما يدعو إلى الحمية والاعتداء على الداعي بأنواع الاعتداء ، وربما حمل ذلك الداعي على مقابلة الشر بأكثر منه ، نهى اللّه هنا عن مقابلة الشر بأكثر منه ، فقال : وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ، ثم دعا إلى الصبر ، وعدم مقابلة الشر بمثله ، وحبب فيه فقال : وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
وقد قيل في سبب نزول هذه الآيات :
إنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما رأى حمزة وقد مثّل به المشركون ، قال : «و اللّه لأمثّلن بسبعين منهم مكانك» «2» فنزل جبريل عليه السلام بخواتيم سورة النحل ، فكف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عما أراد
، وتكون سورة النحل مكية إلا هذه الآيات.
وقيل إنّ هذا كان قبل الأمر بالجهاد العام ، حين كان المسلمون لا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ولا يبدؤون بالقتال ، فتكون كقوله : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190).
وحمل الآية على قصة حمزة غير ظاهر لأنّ ذلك يجعل الآيات مفككة لا ارتباط لها ، فالظاهر ما حملنا الآية عليه ، وقريب منه قول مجاهد وابن سيرين : إن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، قال ابن سيرين : إن أخذ منك رجل شيئا فخذ منه مثله.
والضمير في قوله : لَهُوَ يرجع إلى المصدر في قوله : صَبَرْتُمْ والمصدر إما
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام بيروت ، دار الفكر (1/ 176 - 177).
(2) انظر السيرة النبوية لابن هشام بيروت ، دار الفكر (2/ 610).(1/484)
ص : 485
أن يراد به الجنس أي وللصبر خير للصابرين ، وأنتم منهم إذا صبرتم. وإما أن يراد به صبركم ، أي لصبركم خير لكم ، فوضع الصابرين موضع لكم ثناء عليهم.
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أمر اللّه بالصبر أمرا صريحا بعد أن ذكر حسن عاقبته ، ولما كان الصبر شاقا ذكر ما يعين عليه فقال : وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ فالجأ إليه في طلب الصبر ، والتثبيت في الأمر وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ يدعوه إلى عدم الجزع والهلع بترك الحزن ، والحزن سببه إما فوات محبوب أو توقع مكروه ، فبيّن اللّه ما يستعين به على الصبر ، وهو ترك الحزن ، فقال : وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على إخوانك المسلمين الذين قتلوا ، وهم قتلى أحد ، ولا تك في ضيق مما يمكرون ، أي ولا يضق صدرك من مكرهم ، فإنّ اللّه ينجيك من مكرهم ، لأنّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا بالنصر والمعونة ، أي هو ولي الذين اجتنبوا المعاصي وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم ، ومن التقوى والإحسان الصبر.
وقيل : إن الضمير في قوله : وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يرجع إلى الكافرين ، فيكون كقوله : وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [المائدة : 68] روي عن هرم بن حبان أنه قيل له حين احتضر : أوص ، فقال : إنما الوصية من المال ، ولا مال لي وأوصيكم بخواتيم سورة النحل.(1/485)
ص : 486
من سورة الإسراء
قال اللّه تعالى : أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أصل الدلوك : الميل والزوال ، وهذا المعنى يصح أن يراد منه ميل الشمس عن كبد السماء ، وزوالها عنه وقت الظهيرة ، ويصح أن يراد منه ميلها وزوالها عن الأفق في وقت الغروب ، ولعلّ هذا هو منشأ اختلاف العلماء في تعيين الوقت المأمور فيه بإقامة الصلاة لدلوك الشمس.
فقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، ومنهم ابن عباس وابن مسعود إلى أنّ المراد من دلوك الشمس غروبها.
بل لقد روى ابن جرير «1» عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه كان يقسم على ذلك. فقد أخرج أن أبا عبيدة بن عبد اللّه كتب إلى عقبة بن عبد الغافر أن عبد اللّه بن مسعود كان إذا غربت الشمس صلّى المغرب ، ويفطر إن كان صائما ، ويقسم عليها يمينا ما يقسمه على شيء من الصلوات ، باللّه الذي لا إله إلا هو إنّ الساعة لميقات هذه الصلاة ، ويقرأ فيها تفسيرها من كتاب اللّه أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ.
وأخرج أيضا «2» عن مجاهد عن ابن عباس قال : دلوك الشمس غروبها.
وذهب آخرون إلى أن دلوكها ميلها إلى الزوال ، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر والحسن ، وعليه الجمهور ، قالوا : والصلاة التي أمر بها ابتداء من هذا الوقت هي صلاة الظهر ، وقد أيّدوا هذا القول بوجوه :
منها ما
روي عن جابر أنه قال : طعم عندي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه ، ثم
__________
(1) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (10/ 91).
(2) المرجع نفسه (10/ 91). [.....](1/486)
ص : 487
خرجوا حين زالت الشمس ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «هذا حين دلكت الشمس».
وهذا الحديث إن صحّ كان هو العمدة في الباب وابن جرير «1» وإن كان من أنصار هذا الرأي ينصّ على أنّ الخبر ونحوه في إسناده شي ء ، وإن كان لم يعينه.
ومن الوجوه أيضا النقل عن أهل اللغة ، فقد قالوا : إنّ الدلوك في كلام العرب الزوال ، ولذا قيل الشمس إذا زالت دالكة. قال ابن جرير «2» : وهذا تفسير أهل الغريب أبي عبيدة والأصمعي وأبي عمرو والشيباني وغيرهم ، وقالوا أيضا :
إنّ أصل الدلوك مأخوذ من دلك العين حين تنظر ما لا تقوى على النظر إليه ، وهذا إنما يكون عند الزوال لقوة الشمس فيه ، حتى إنّ الناظر لا يستطيع أن ينظر ، حتى يضع كفه على حاجبه ، يمنع عن عينه شعاع الشمس.
على أنّ الدلوك لو كان اسما لمطلق الميل لكان حمله على ميلها إلى الزوال في وقت الظهر أولى ، وذلك لأنّ الآية تكون قد دلّت على الأمر بإقامة الصلاة ابتداء من الظهر إلى دخول الظلمة ، أو إلى نصف الليل ، فتكون قد انتظمت أربع صلوات.
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ دلت على الصلاة الخامسة ، ولو حملنا الدلوك على الغروب تكون الآية قد دلّت على صلاتي المغرب والعشاء : إن لم نقل إنها تدل على صلاة واحدة هي صلاة المغرب.
وقد قالوا : كلما كان المدلول عليه كثيرا كان الحمل عليه أولى ، فيكون حمل الدلوك على ميل الشمس إلى الزوال في الظهيرة أولى من حمله على الزوال للغروب.
واللام في قوله : لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لام الوقت والأجل ، لأنّ الوقت سبب الوجوب.
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ قيل : غسق الليل سواده وظلمته ، وقال بعضهم : غسق الليل دخول أوله. وأصله من غسقت العين إذا هملت بالدمع ، والغاسق السائل ، فمعنى غسق الليل انصب بظلامه ، وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم.
فمعنى الآية واللّه أعلم : أدم إقامة الصلاة من الظهيرة إلى وقت هجوم الظلمة ، أو إلى غيبوبة الشفق ، أو إلى منتصف الليل على ما قيل في تفسير الغسق. وعلى هذا تكون هذه الآية والتي بعدها على ما يجيء قد دلتا على الأمر
__________
(1) المرجع نفسه (10/ 92).
(2) المرجع نفسه (10/ 92).(1/487)
ص : 488
بالصلاة من الظهيرة إلى العشاء ، وذلك أربع صلوات على حسب البيان الذي وردت به السنة العملية ، وعلى الأمر بالصلاة في الفجر ، وتلك هي الصلاة الخامسة.
ولقد أراد بعضهم أن يفهم من الأمر بإقامة الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل أنّ اللّه قد بين في الآيتين ثلاثة أوقات : وقت الدلوك ، ووقت الغسق ، ووقت الفجر ، ووقت الدلوك فيه صلاتان ، وهما : الظهر والعصر ، ووقت الغسق فيه صلاتان : المغرب والعشاء ، فدلّ ذلك على جواز الجمع بين الظهر والعصر ، لأنّ وقتهما الدلوك ، وجمع المغرب إلى العشاء ، لأنّهما في الغسق ، وهو استدلال عجيب ، إذ إنّ كل ما في الآية أنّها أمرت بإقامة الصلاة من دلوك الشمس إلى الغسق ، فهل هذا أمر يشغل كل هذا الوقت بالصلاة ، أو أمر بفعل الصلاة في بعض أجزائه ، وما مقدار هذا البعض؟ كل هذا خارج عن مدلول الآية ، وقد بينته السنة ، فإن كانت قد ورد فيها جمع الصلاتين ، أو الصلوات من غير عذر ، فبيانها هو الدليل ، وإن كان قد ورد فيها أن الجمع بين الصلاتين لا يجوز إلا بشروط ، وفي أوقات دون أخرى ، كان ذلك هو الدليل على أن الجمع إنما يجوز بهذه الشروط.
وحيث إنه قد انجر الكلام إلى الجمع فنقول : قد روي عن ابن مسعود وابن عباس جواز جمع الظهر إلى العصر ، والمغرب إلى العشاء مطلقا ولو من غير عذر ، والجمهور على خلاف مذهبهما.
فالشافعية : يجيزون جمع التقديم والتأخير بشروط تعلم من كتبهم ، والحنفية يقولون : لا جمع إلا في الظهر والعصر جمع تقديم يوم عرفة ، والمغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة ، ويعرف ذلك من كتبهم أيضا.
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَقُرْآنَ معطوف على الصلاة ، أي وأقم قرآن الفجر ، وقد قال أبو بكر الرازي «1» : إنّ ذلك يدلّ على وجوب القراءة في الصلاة ، ووجه الدلالة أن الآية تدلّ على الأمر بقرآن الفجر ، ولا نعلم قراءة واجبة في الفجر إلا أن تكون القراءة في صلاة الفجر ، وقد حمل بعضهم القرآن في قوله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ على الصلاة في الفجر. قال أبو بكر الرازي : وهو عدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل ، وذلك غريب من أبي بكر ، فإنّ الدليل هو ما قاله : من أنا لا نعلم قرآنا واجبا في ذلك
__________
(1) أحكام القرآن للإمام الرازي (3/ 206).(1/488)
ص : 489
الوقت ، وإن كان له أن يقول : إن الفجر فيه قرآن واجب ، وهو قرآن الفجر ، ولكن هذا إن أثبت له ما أراد فهو يثبت وجوب القراءة في الفجر ، فمن أين وجبت في كل الصلوات ، سيقول من دليل آخر ، فنقول : ذلك هو الدليل على وجوب القراءة.
على أنا لا نرى أنّ حمل القرآن في قوله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ على الصلاة يؤدي إلى الغرض الذي أراده الجصاص من هذا ، وهو أخذ وجوب القراءة في الصلاة ، فإنّ تسمية صلاة الفجر بالقرآن إنما كانت لأن القراءة جزء مهمّ فيها ، كما سميت الصلاة بالركوع والسجود.
وقد أراد الفخر الرازي أن يأخذ من قوله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ دليلا على مذهب الشافعية ، في استحباب التغليس بالفجر ، ويقول في وجه الدلالة : إنّه أمر بإقامة الصلاة في الفجر ، والفجر إنما سمي فجرا ، لأنّ نور الصبح يفجر ظلمة الليل ، قال وظاهر الأمر للوجوب ، فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة الصلاة في أول وقت الفجر ، إلا أنا أجمعنا على أنّ الوجوب غير حاصل ، فيبقى الأمر للندب.
وأنت تعلم أنّ أمر تحديد الصلوات قد ثبت بالسنة في حديث جبريل ، الذي بيّن فيه أول الوقت وآخره ، فدلّ ذلك على الجواز في كل الوقت ، فأفضلية التقديم على التأخير والعكس تحتاج إلى دليل مستقل ، ك :
«أبردوا بالظهر» «1»
، «و لا تزال أمتي بخير : ما عجّلوا المغرب وأخّروا العشاء» «2»
، فالتغليس بالفجر والتنوير والإسفار به يحتاج إلى دليل مستقل ، فالحكم هو ما يدلّ عليه ذلك الدليل.
وقد أخذ الفخر الرازي من تسمية صلاة الفجر بالقرآن الحثّ على تطويل القراءة في الصلاة ، وهو وجيه.
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قالوا : إن معنى ذلك أنّ ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام.
قال الفخر - بعد سوق هذا الكلام - ويحتمل أن يكون المراد من قوله : إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بجماعة ، ويكون المعنى :
كونها مشهودة بالجماعة الكثيرة ، وهو حسن أيضا.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79).
وَمِنَ اللَّيْلِ الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره ، قم ، و(من) للتبعيض ، والمعنى : قم بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ الهجود : النوم ، ولكنه أريد منه هنا
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (1/ 154) ، 9 - كتاب مواقيت الصلاة ، 9 - باب الإبراد حديث رقم (538).
(2) رواه أبو داود في السنن (1/ 172) ، كتاب الصلاة ، باب وقت المغرب حديث رقم (418).(1/489)
ص : 490
التيقظ ، فقال بعضهم : هو من أسماء الأضداد ، حتى قال أبو عبيدة : الهاجد النائم ، والهاجد المصلي بليل.
وذهب بعضهم إلى أن إطلاق المتهجد على المصلي بليل إطلاق شرعي ، كأنه إنما سمّي بذلك لأنه ألقى الهجود ، وهو : النوم عن نفسه ، كما قيل للعابد : متحنث ، لأنّه ألقى الحنث عن نفسه ، ومتحرّج ومتأثمّ ومتحوّب لمن ألقى الحرج والإثم والحوب عن نفسه.
ويرى بعضهم أن التهجد أخصّ من الصلاة بالليل ، فلا يقال لكل من صلّى بالليل : متهجد ، وإنما يقال لمن نام ، ثم قام فصلّى ، ثم رقد ، فقام فصلّى ، وهو مروي عن الحجاج بن عمر المازني قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلّى حتى يصبح أنه قد تهجد ، إنما التهجد الصلاة بعد الرّقاد ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، هكذا كانت صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وحينئذ فلا يكون إطلاق التهجد على المصلي على هذا النحو مجازيا ، لأنّ الهاجد هو النائم ، والمتهجد طالب النوم ، لأنّه كلما صلّى كان طالبا للنوم بعد الصلاة ، فيكون التهجد في هذا المعنى حقيقيا بِهِ بالقرآن نافِلَةً لَكَ النفل الزيادة ، وقد اختلف العلماء في معنى كون التهجد زيادة خاصة بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأن صلاة الليل ما تزال لكلّ من صلّى بليل ، فذهب ابن جرير «1» في جماعة من السلف إلى أنّ معنى زيادتها له ، خاصة أنها فريضة عليه ، زيدت على المكتوبات الخمس بالنسبة له خاصّة.
وذهب جماعة إلى أنّ معنى كونها نافلة له ، أنّ النوافل إنما يحتاج إليها لتكون كفارة لذنوب من يفعلها ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد غفر له ما تقدم من ذنبه ، فهي زائدة له ، لأنّ غيره نافلته تكفّر ذنبه ، وأما نافلة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلا تلاقي ما تكفره ، فمن هذا كانت زائدة ، وهو مروي عن مجاهد وآخرين.
ولم يرتض هذا القول ابن جرير ، وقال : نزلت سورة النصر قبل قبض الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وفيها أمره بالاستغفار وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر : 3].
وقد روي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان يزيد في الاستغفار في اليوم على مئة مرة «2»
، وكلما اشتد قرب العبد من ربه كلما زاد خوفه منه ، وإن كان السيد قد أمنه ، وذلك مقام يعرفه أهله.
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً كلمة (عسى) في كلام العرب تفيد التوقع ، وهي هنا للوجوب ، قالوا : إنما كانت للوجوب لأنّها تفيد الإطماع ، ومن أطمع إنسانا
__________
(1) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (15/ 96).
(2) رواه مسلم في الصحيح (4/ 2075) 48 - كتاب الذكر حديث رقم (4/ 2702).(1/490)
ص : 491
في شي ء ، ثم حرمه منه كان غارّا ، وهذا المعنى مستحيل على اللّه تعالى ، وقد أفاض ابن جرير «1» في بيان هذا المعنى.
والمقام المحمود : قال الواحدي : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة العظمى في إسقاط العقاب.
وقد اختلف العلماء بعد هذا اختلافا يقصد منه إلى الكيفيات والتفاصيل ، والمدار فيها على الأخبار الواردة ، فما ورد منها من طريق صحيح كان المعوّل عليه في بيان كيفية الشفاعة والمقام المحمود ، وكل ما تدلّ عليه الآية أن النبيّ عليه أفضل الصلاة والسلام سيبعثه اللّه مبعثا يحمده الناس عليه حمدا بالغا ، وذلك لأنه منقذهم من هول العذاب.
__________
(1) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (15/ 97).(1/491)
ص : 492
من سورة الحج
قال اللّه تعالى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
ينبغي قبل تفسير هذه الآيات أن نبيّن حكمة الحجّ ، وتاريخ مشروعيته فنقول :
أ- حكمة الحج : لعلّك تكون في حاجة إلى إطالة القول في بيان الحكمة في شرح الحج ، والسرّ الذي من أجله كتب اللّه هذه الفريضة على المسلمين ، بعد ما عملته في دراساتك السابقة في هذا الشأن ، وإذا فيكون تعرّضنا هنا لشيء من هذا البيان إنما نقصد به التذكير على وجه الإجمال ، بما سبق لك من التفصيل.
شرع اللّه الحج إلى بيته الكريم لمنافع عظيمة تعود على المسلمين في دينهم ودنياهم :
1 - فمناسك الحج من أعظم مظاهر الخشية والإخلاص للّه في الذكر والدعاء والعبادة.
2 - وهي كذلك دلائل على التجرّد من زينة الدنيا ، وبواعث على عدم التعلق بشهواتها وزخرفها.
3 - وهي بواعث على الرحمة والإحسان ، والعدل والمساواة ، إذ يكون الناس هناك في مستوى واحد ، لا فرق بين أمير ومأمور ، ولا بين غني وفقير.
4 - هذا إلى ما يعود على سكان مكة ، وجزيرة العرب ، والناس جميعا من المنافع المعيشية والتجارية ، وما يتهيأ لهم هناك من الاجتماع والتعارف ، والاتفاق على ما ينهض بالمسلمين في جميع بقاع الأرض.
ب - تاريخ مشروعية الحج : أما تاريخ مشروعيته فأنت تعلم أنّه كان مفروضا في زمن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والآيات التي معنا من أقوى الدلائل على ذلك.(1/492)
ص : 493
فإذا قلنا : إن فرضيته باقية لم تنسخ في عهد نبي بعده كانت الأوامر الواردة به في شريعتنا تأكيدا لهذه الفرضية ، وإذا علمت أن نبينا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم قد حجّ حجتين قبل الهجرة ، وحج بعد الهجرة حجة الوداع في السنة العاشرة ، علمت أنّ أولى هذه الحجات وقعت عن فريضة الإسلام.
وإن قلنا : إن فرضيته قد نسخت بعد سيدنا إبراهيم ، كان وجوبه علينا ثابتا بقوله تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران : 97] إذ هي الآية الصريحة في هذا الوجوب.
وأما قوله تعالى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة : 196] عام الوفود على الراجح ، وهذا العام هو الذي قدم فيه وفد نجران على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وصالحهم فيه على الجزية ، ومعلوم أنّ مبدأ مشروعية الجزية كان عام غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ، وعلى هذا يكون مبدأ فرضية الحج في السنة التاسعة ، وتكون الحجتان اللتان فعلهما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبل ذلك نافلتين ، تطوّع بهما على دين سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ولقائل أن يقول : فلما ذا لم يبادر النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بأداء الحج في تلك السنة ، وهو أفضل الخلق ، وأسبقهم إلى الخيرات ، وأسرعهم إلى تأدية فرائض اللّه ، وكيف يرسل أبا بكر ليحج بالناس ، ويؤخر هو حجته إلى السنة التي بعدها؟
والجواب على ذلك أنه رؤي أن الوقت الذي خرج فيه أبو بكر ليحج بالناس كان زمن النسي ء ، ولم يكن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض حتى تعود عشر ذي الحجة إلى مركزها الحقيقي من السنة ، وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعلم أنها ستعود إلى مركزها الحقيقي ، وينضبط نظام السنين القمرية في السنة العاشرة فتأخر النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى السنة العاشرة كان لحكمة عظيمة ، كي يقع حجّة الذي سيكون منهاجا للناس جميعا في الوقت الحقيقي الذي فرض اللّه على الناس أن يقوموا فيه بتلك الشعيرة ، وليس على أبي بكر ولا على غيره ممن كانوا معه من حرج في حجهم في ذلك الوقت ما دام أمر الزمان لم يتقرر بعد.
ونعود إلى التفسير :
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ الأذان والتأذين الإعلام برفع الصوت على نحو ما يكون للصلاة. والمراد هنا النداء في الناس بأنّ اللّه قد كتب عليهم الحجّ ، ودعاهم إلى أدائه.
رِجالًا جمع راجل ، كقيام جمع قائم ، أي ماشين.
وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ الضامر النحيف الهزيل ، والمراد به هنا الهزيل من مشقة السفر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يأتين صفة لضامر ، لأنه لما دخلت عليه أداة العموم صيّرته بمعنى ضوامر. والمعنى : وعلى ضوامر يأتين.(1/493)
ص : 494
والفج أصله الطريق بين الجبلين ، ثم استعمل في الطريق الواسع مطلقا. وتوسّع فيه حتى صار يستعمل في طريق.
والعميق أصله البعيد أسفل ، أي بعيد القاع ، فاستعمل في البعيد مطلقا ، لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ المراد بالمنافع ما يصيبون من خير الدنيا والآخرة :
فخير الدنيا ما يصيبون من لحوم الذبائح ، وأنواع التجارات ، وما تكون في ذلك الاجتماع العظيم من التعارف ، وأما خير الآخرة فهو ما يؤدون من تلك الشعائر التي هي سبب رضوان اللّه عليهم ، وشهودها حضورها ونيلها.
فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ قيل : هي عشر ذي الحجة. وقيل : هي العاشر واليومان بعده ، وقيل : والثلاثة بعده.
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ قيل : المراد بذكر اسم اللّه حمده وشكره والثناء عليه ، و(على) حينئذ للتعليل.
واختار الزمخشري «1» أنّ ذكر اسم اللّه على البهيمة كناية عن ذبحها ، و(على) حينئذ للاستعلاء ، والبهيمة في الأصل اسم لكل ما له أربع قوائم ، والمراد بها هنا ما يكون من الإبل والبقر والغنم.
الْبائِسَ الْفَقِيرَ البائس من أصابه بؤس وشدة. والفقير المحتاج ، سواء أكان له بلغة من العيش أم لا.
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ التفث القذر والوسخ ، وقضاؤه إنهاؤه وإزالته ، والمراد ما ينشأ عنه التفث من طول الشعر والأظفار.
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ النذر : ما التزمه الإنسان من أعمال البر.
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ العتيق الكريم ، ومنه عتاق الإبل والخيل كرائمها ، أو هو القديم ، لأنّه أول بيت وضع للناس ، أو هو العتيق بمعنى المعتق المتحرر من تسلط الجبارين واستيلائهم ، فلا يريده أحد بعدوان إلا رده اللّه عنه ، وجعل عاقبة بيته السلامة والحفظ.
المعنى : يأمر اللّه تعالى نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ما فرغ من بناء البيت بأن ينادي في الناس ، ليعلمهم أنّ اللّه قد كتب عليهم الحج إلى هذا البيت العتيق ، ليدركوا فيه منافع وخيرات كثيرة ، تعود عليهم في دينهم ودنياهم ، ويؤدّوا شعائر اللّه ، ويذكروا اسمه الكريم على الذبائح التي يذبحونها شكرا للّه على توفيقه إياهم وإرشادهم إلى ما يصلحهم ، وأنه لا حرج على أصحاب تلك الذبائح أن يأكلوا
__________
(1) في تفسيره : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (3/ 153).(1/494)
ص : 495
منها ، بل ينبغي لهم أن يواسوا الفقراء والبائسين ، وأن يشاركوهم في الأكل منها ، ولا يترفّعوا عليهم ، وأنه يجب عليهم أن يتحلّلوا من قيود الإحرام متى فرغوا من المناسك الواقعة قبل الطواف ، وأنه يجب عليهم أيضا أن يوفوا بما التزموه بالنذر من ذبح وغيره. وأن يطوفوا بالبيت طواف الإفاضة ، أو طواف الوداع على ما قيل.
قد يقال : إنه لم يكن حول الكعبة حينذاك أحد يسمع نداء سيدنا إبراهيم ، فكيف يؤمر بهذا النداء الذي يذهب في الفضاء؟
والجواب أن اللّه سبحانه وتعالى قد أيدّ رسله بالمعجزات الخارجة عن مجرى العادات ، فهو سبحانه قادر على أن يوصل صوت إبراهيم إلى من يشاء في تلك النواحي البعيدة ، والأصقاع المترامية.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس «1» قال : لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قال :
ربّ قد فرغت ، فقال : أذّن في الناس بالحج. قال : يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال تعالى : أذّن وعليّ البلاغ. قال : رب كيف أقول ، قال : قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق ، فسمعه أهل السماء والأرض ، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد ، يلبون.
على أنا نشاهد اليوم آلات الإذاعة تنشر الأصوات في جميع بقاع الأرض ، فلا تحجزها جبال ، ولا تضعفها بحار ولا قفار ، فمن يشاهد هذه الحقائق التي يستطيعها كل من يزاول علومها ، لا يمكنه أن يكابر في معجزات الأنبياء.
هذا ، وقيل إنّ المخاطب بالتأذين والدعوة إلى الحج هو نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأنه أمر بذلك حينما عزم على الحج في السنة العاشرة من الهجرة ، وأن نظم الآية مع التي قبلها لا يأباه ، إذ المخاطب في قوله تعالى قبل هذه الآية : وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويكون المعنى حينئذ : واذكر يا محمد إذ بوأنا لإبراهيم ، وأذن في الناس بالحج ، ولكنك ترى أنّ في الآية الأولى أوامر ونواهي كلها متوجهة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فالظاهر أنّ الأمر بالتأذين أيضا لإبراهيم ، إذ الغرض من تطهير البيت إعداده للطائفين والقائمين والركع السجود ، فيكون دعاؤه الناس بعد ذلك للحج متناسبا غاية التناسب مع إعداد البيت وتطهيره.
وبعض العلماء ردّ احتمال توجيه الخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن سورة الحج مكية ، فنزولها قبل حجة الوداع بالضرورة ، فلا يستقيم أن يكون المأمور بالدعاء هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
__________
(1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/ 355).(1/495)
ص : 496
ولكن هذا الردّ ينهار متى علمت أنّ الراجح هو أن سورة الحج مدنية ، ما عدا آية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى وثلاث آيات بعدها ، كما هو مروي عن قتادة ، وفي رواية ، عن ابن عباس أنّ السورة كلها مدنية ، وهو قول الضحاك أيضا.
ما في الآيات من الأسرار :
إذا كان الغرض من دعاء الناس للحج أن يأتوا إلى البيت الحرام ، فالسرّ في العدول عن ذلك إلى التعبير بالإتيان إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه هو الداعي ، والقدوة لهم فيما يكون بعد.
وقوله تعالى : وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ كلمة (كل) فيه للتكثير لا للإحاطة ، على حد قوله تعالى : وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل : 23] والسر في ذلك إفادة أن الركبان الآتين من الأماكن البعيدة يكونون كثيرين جدا ، حتى كأنّهم يمتطون جميع الضوامر.
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ نكّرت المنافع لإفادة عظمتها وكثرتها ، أو التنكير فيها للتنويع.
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ اختير هذا الأسلوب مع أنّ الذبح هو المعدود من مناسك الحج ، كالذبح للمتعة والقرآن ، ليفيد أن ذكر اللّه وحده خالصا من شوائب الشرك هو المقصود الأعظم ، وتوسيط الرزق لبعثهم على الشكر والتقرب بتلك القربة ، والتهوين عليهم في الإنفاق ، وفي قوله تعالى : فَكُلُوا إلخ التفات إليهم بالخطاب ، ليؤكّد لهم إباحة الأكل من تلك الذبائح ، فلا يتحرّجوا من ذلك ، وليبعثهم على مشاركة البائسين والفقراء ومواساتهم.
ما في الآيات من الأحكام
: 1 - قوله تعالى : يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فيه دليل على جواز كلّ من المشي والركوب في الحج.
2 - استدل بعض المالكية على أنّ المشي في الحج أفضل من الركوب ، بتقديمه عليه في الآية. وإلى هذا ذهب ابن عباس ، فقد أخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، وجماعة عنه أنه قال : ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر : أسمع اللّه تعالى يقول : يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فبدأ بالرجال قبل الركبان.
ولكنّك ترى أنّ مجرد التقديم لا يدل على الأفضلية ، لجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال ، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب ، فإذا كان المشي أفضل ، فإنما هو لأدلة أخرى. من ذلك ما
أخرجه ابن سعد وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «إن(1/496)
ص : 497
للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة ، وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم» قيل : يا رسول اللّه وما حسنات الحرم. قال : «الحسنة مئة ألف حسنة» «1».
3 - وفي قوله جل ذكره : لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ دلالة على جواز التجارة في الحج ، روي عن مجاهد أنه قال : المنافع التجارة ، وما يرضي اللّه من أمر الدنيا والآخرة. وروي مثل ذلك عن ابن عباس ، وقد نص الفقهاء على أنّ التجارة جائزة للحاج من غير كراهة ، إذا لم تكن هي المقصودة من السفر.
4 - استدلّ المالكية بقوله تعالى : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ على أنّ ذبح الهدي لا يجوز ليلا ، لأنّ اللّه جعل ظرف النحر هو الأيام لا الليالي ، وأنت تعلم أنّ اليوم كما يطلق على النهار يطلق على مجموع النهار والليل ، وغير المالكية يرى كراهة الذبح ليلا ، لاحتمال الخطأ فيه بسبب الظلمة.
وقد اختلف العلماء في المراد بالأيام المعلومات ، فذهب الإمام مالك وأبو يوسف ومحمد إلى أنها أيام النحر ، وهي العاشر من ذي الحجة ، واليومان بعده ، وهو مروي عن علي وابن عمر.
وقال الإمامان أبو حنيفة والشافعي : الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة ، وهي معلومات لأنّ شأن المسلمين أن يحرصوا على معرفتها ، ويتحرّوا هلال ذي الحجة لما يقع في ذلك من المناسك العظيمة ، ولعلهم يقولون : إنّ المراد بالذكر ما يشمل التسمية على الذبائح وغيرها من الحمد والشكر والتكبير ، وعلى هذا ينبغي أن تكون (على) في قوله جلّ شأنه عَلى ما رَزَقَهُمْ للتعليل كما في قوله تعالى : وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة : 185].
ثم اختلف في أيام النحر ، فالحنفية والإمام مالك قالوا :
إنها ثلاثة أيام : العاشر وما بعده ، وهو مروي عن جمع من الصحابة ، منهم : عمر وعلي
، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وأنس ، وكثير من التابعين.
وقال الشافعي : إنها أربعة العاشر وما بعده. وقيل : إلى هلال المحرم ، ولعل المذهب الأول أرجح ، لأنّ بقية الأقوال لم ينقل ما يؤيّدها عمن يسامي أولئك الصحابة والتابعين.
وقد احتج لمذهب الشافعي بما
روى البيهقي عن جبير بن مطعم أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال في حديث : «و كلّ أيام التشريق ذبح»
ولا شك أنّ أيام التشريق ثلاثة بعد يوم
__________
(1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/ 355).(1/497)
ص : 498
النحر ، ولكنّ هذا الحديث ضعيف قال فيه الإمام أحمد : لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم ، وأكثر روايته عن سهو.
وقال البيهقي إنه من رواية سليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام ، عن جبير ، ولم يدركه ، ورواه من طرق ضعيفة متصلا.
5 - ظاهر قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْها وجوب الأكل من الهدايا ، لكنّ هذا الظاهر غير مراد ، فإنّ السلف متفقون على أنه لا يجب الأكل من شيء من الهدايا ، إذ غاية ما أفاده هذا الأمر أنه رفع ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج عن الأكل من الهدايا ، فأباح الأكل منها ، أو ندب إليه ، لقصد مواساة الفقراء ، ومواساتهم في الأكل. فالأمر إما للإباحة أو للندب.
ثم إنّ جواز الأكل من الهدايا ليس عاما في كل هدي ، فإنّ دم الجزاء لا يجوز الأكل منه اتفاقا ، ودم التطوع يجوز الأكل منه اتفاقا أيضا. أما دم القران والتمتع فقال الشافعية : إنه دم جبر ، فلا يجوز الأكل منه ، والحنفية يقولون : إنه دم شكر ، فأباحوا الأكل منه ، والظاهر يشهد لهم ، فإنّ الآية فيها ترتيب قضاء التفث على الذبح والطواف ، ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقرآن فإن سائر الدماء يجوز ذبحها قبل هذه الأفعال وبعدها ، فثبت أنّ المراد في الآية دم المتعة والقران. هذا وقد ثبت أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع ، وقد كان قارنا على ما هو الراجح.
ونصّ الفقهاء على أنه يلحق بالأكل الانتفاع بجلودها وأصوافها ، كما أنّه يجوز إطعام الأغنياء منها ، فإنّ الآية أباحت لصاحب الذبيحة أن يأكل منها ، ولو كان غنيا ، ومتى جاز له أن يأكل وهو غني جاز أن يؤكل غنيا.
6 - ظاهر قوله تعالى : وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ وجوب إطعام الفقراء من الهدايا ، وبهذا الظاهر أخذ الشافعيّ ، فأوجبوا إطعام الفقراء منها. وقال أبو حنيفة : إنه مندوب ، لأنها دماء نسك ، فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم ، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام.
7 - في الاقتصار على الأكل والإطعام دلالة على أنّه لا يجوز بيع شيء من الهدايا ، ويشهد لذلك ما
روى البخاري ومسلم عن علي رضي اللّه عنه قال : أمرني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن أقوم على بدنه فقال اقسم جلودها وجلالها ، ولا تعط الجازر منها شيئا «1».
__________
(1) ما رواه مسلم في الصحيح (2/ 954) ، 15 - كتاب الحج ، 61 - باب الصدقة حديث رقم (348/ 1317) ، والبخاري في الصحيح (2/ 226) ، 25 - كتاب الحج ، 120 - باب لا يعطي الجزار من الهدي حديث رقم (1716).(1/498)
ص : 499
فإذا لم يجز إعطاء الجازر أجرته منها فأولى إلا يجوز بيع شيء منها.
8 - في قوله تعالى : ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ دلالة على وجوب التحلل الأصغر ، وذلك بالحلق أو التقصير.
9 - وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ فيه دلالة على وجوب الوفاء بالنذر ، وأداء ما التزمه الإنسان من أعمال البر ، سواء أكان من جنسه واجب أم لا.
10 - وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فيه دلالة على لزوم هذا الطواف ، والمراد به طواف الإفاضة ، كما هو مروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين ، وبهذا قال فقهاء الأمصار.
وقيل : الطواف في الآية هو طواف الصدر. وهو بعيد ، لأنّ الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة الذي اتّفق على أنّه ركن ، فمن البعيد جدا أن تتعرض الآية لطواف الوداع الذي اختلف في عدّه من المناسك ، وتترك ما هو أهم منه وأعظم.
هذا والحكم بأنّ وقت هذا الطواف أيام النحر كلها أو اليوم الأول فقط لا يؤخذ من هذه الآية ، كما أنه لا يؤخذ منها اشتراط الطهارة وستر العورة فيه ، لأنّ اسم الطواف يقع على الدوران حول الكعبة ، فعلى أي حالة حصل هذا الدوران فقد حصل مسمى الطواف ، ومن اشترط شيئا وراء ذلك فإنما طريقه السنة وعمل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه رضوان اللّه عليهم أجمعين.
قال اللّه تعالى : ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) اسم الإشارة في مثل هذا الموطن يؤتى به للفصل بين كلامين ، كما في قول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالشجاعة والكرم :
هذا وليس كمن يعيا بخطبته وسط الندى إذا ما ناطق نطقا
وكما في قوله تعالى : هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) [ص : 55] ويقدر له ما يتم به الكلام ، أي الأمر ذلك ، أو امتثلوا ذلك.
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ الحرمات جمع حرمة ، قيل : هي بمعنى ما حرّمه اللّه من كلّ منهي عنه ، أو من المنهيات في باب الحج فقط ، كما روي عن ابن عباس أنّها فسوق ، وجدال ، وجماع ، وصيد. وتعظيمها يكون باجتنابها.
وقيل : الحرمات الأشياء التي جعل اللّه لها احتراما في الحج وغيره ، وهي جميع التكاليف وقيل : وهي مناسك الحج خاصّة.(1/499)
ص : 500 وقيل : إنها حرمات خمس : المشعر الحرام ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم حتى يحل ، وتعظيم هذه الأشياء ظاهر.
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ الضمير الأول راجع إلى التعظيم المأخوذ من يُعَظِّمْ أي أن تعظيم هذه الأشياء ينال به الإنسان مثوبة قد ضمنها اللّه سبحانه وتعالى له ، وعلى هذا لا يكون خَيْرٌ أفعل تفضيل. أو نقول : إنه للتفضيل والمفاضلة على سبيل التنزل ، وإرخاء العنان ، أي على فرض أن ترك التعظيم فيه شيء من الخير ، فالتعظيم أفضل منه.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ المراد حلّ ذبحها وأكلها ، ثم إنه ليس المقصود بما يتلى (ما ينزل في المستقبل) ما يعطيه ظاهر الفعل المضارع ، بل المراد ما سبق نزوله ، مما يدل على حرمة الميتة ، وما أهل به لغير اللّه أو ما يدل على حرمة الصيد في الحرم أو حالة الإحرام.
وعلى هذا يكون السر في التعبير بالمضارع التنبيه إلى أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه ، والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى ما يكون محرما من خصوص الأنعام. وإن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير كان منقطعا. والظاهر الأول ، والجملة معترضة لدفع ما عساه يقع في الوهم من أنّ تعظيم حرمات اللّه في الحج قد يقضي باجتناب الأنعام ، كما قضى باجتناب الصيد.
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ، الرجس : القذر ، وقوله : مِنَ الْأَوْثانِ بيان له.
والأوثان : الأصنام ، وسمّاها اللّه رجسا تقبيحا لها ، وتنفيرا منها.
والمراد باجتنابها اجتناب عبادتها وتعظيمها. ولتأكيد ذلك أوقع الاجتناب على ذاتها ، وهذه الجملة مرتبطة بما قبل الاعتراض ، مترتبة على حكمه ، أي إذا كان تعظيم حرمات اللّه فيه الخير وفيه رضا اللّه تعالى وكان من تعظيم هذه الحرمات اجتناب ما نهى اللّه عنه ، فاجتنبوا الأوثان ، ولا تعظموها ، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية.
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.
الزور الكذب والباطل ، وسمي زورا لميله عن وجه الحق ، من الزور بفتح الواو وهو الميل والانحراف ، وإضافة القول إليه بيانية.
قيل : المراد بقوله : الزُّورِ خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم ، وقولهم فيها :
لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل.
وقيل المراد به قولهم في البحائر والسوائب إنّها حرام ، وأن تحريمها من اللّه.
والأحسن التعميم في قول الزور حتى يشمل الشهادة الباطلة ،
فقد أخرج أحمد(1/500)
ص : 501
وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود «1» أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه» ثلاثا ، وتلا هذه الآية.
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ الحنيف المائل عن الديانات الباطلة إلى الدين الحق ، مأخوذ من الحنف بالتحريك وهو الميل ، وقد اشتهر عند العرب إطلاق الحنيف على كل متمسك بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
والمعنى : اجتنبوا الرجس من الأوثان ، واجتنبوا قول الزور حال كونكم ثابتين على الدين الحق ، مخلصين للّه في العبادة ، من غير أن تجعلوا لغيره معه شركة فيها. فهما حالان مؤكّدتان لما قبلهما من الاجتناب.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ.
خَرَّ. معناه سقط من علو.
فَتَخْطَفُهُ تختلسه بسرعة وقوة.
وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لوجوب اجتناب الشرك.
والمعنى : أن من جعل للّه شريكا فقد حق عليه الخسار والبوار ، وهو في شركه شبيه به إذا سقط من جو السماء ، فاجتمعت عليه الطيور الجارحة ، فمزقته ، وذهب كل منها بقطعة منه ، فتمّ بذلك هلاكه.
وظاهر على هذا أن التشبيه من باب تشبيه التمثيل ، ويصح أن يكون تشبيها مفرقا.
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ ، هوى يهوي سقط من علو. وهوى به أسقطه.
والسحيق : البعيد ، ماضيه سحق كبعد.
هذا تشبيه ثان لمن أشرك باللّه ، والعطف فيه إما على قوله : خَرَّ مِنَ السَّماءِ أو على فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ والمعنى أنّ حال المشرك في شركه ، وما يؤدي إليه من سوء العاقبة ، شبيهة بحاله إذا أخذته ريح عاصفة ، فقذفت به في مهوى عميق ، لا يكون له منه خلاص ولا نجاة ، أو أنّ حاله في ذلك شبيهة بحاله إذا خرّ من السماء ، فعصفت به الريح ، وهوت به في مكان سحيق.
والتشبيه على هذين الوجهين تشبيه تمثيل ، ويصح أن يكون تشبيها مفرقا أيضا ، فيشبه الشيطان الذي يضله ويغويه بالريح التي تهوي به وترديه ، ويشبه الشرك بالوادي
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (3/ 298) ، كتاب الأقضية ، باب في شهادة الزور حديث رقم (3599) ، وأحمد في المسند (4/ 321) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 475) ، كتاب الشهادات ، باب في شهادة الزور حديث رقم (2300) وابن ماجه في السنن (2/ 794) 13 - كتاب الأحكام ، 32 - باب شهادة الزور حديث رقم (2372).(1/501)
ص : 502
العميق الذي لا ينجو من قذف فيه. ونتيجة هذه التشبيهات واحدة ، والغرض من ذلك كله تقبيح حال الشرك ، والتنفير منه.
ولا يخفى عليك ما يؤخذ من هذه الآية من الأحكام فيما يتعلق بحرمات اللّه ، والانتفاع بالأنعام ، والإشراك باللّه ، وشهادة الزور.
وليس في قوله تعالى : وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ما يدل على تعزير شاهد الزور ، فإنّ غاية ما أفاده تحريم شهادة الزور ، وما روي عن عمر رضي اللّه عنه من أنه كان يعزّر شاهد الزور ، ويأمر فينادى عليه بالأسواق. وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد ، فإنما ذلك شيء يرجع إلى السياسات الشرعية ، فللحاكم أن يفعل من ذلك ما يراه أحفظ لحقوق العامة ، وأردع لأهل الفساد.
قال اللّه تعالى : ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) الشعائر : العلامات التي تعرف بها الأشياء ، فهي تشعر بها وتدل عليها ، وقد اختلف في المراد بها هنا : فقيل : إنها الدين كله أوامره ونواهيه ، فهي شعائر اللّه ، لأنّ امتثالها والوقوف عند حدودها يدل على الطاعة للّه تعالى ، والإخلاص له. وقد اضطر من يقول بهذا أن يفسّر البيت العتيق في قوله جلّ شأنه : ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ بالجنة ، وهو كما ترى بعيد.
وقال ابن عمر رضي اللّه عنهما والإمام مالك والحسن : إنها عرفة ، ومنى والصفا والمروة ، والبيت الحرام ، وغيرها من مواضع الحج ، وهو لا يخلو من شي ء ، فإن اللّه تعالى قال في شأنها : ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ والمحلّ في الحج قد اشتهر في المكان الذي تذبح فيه الهدايا كما سيأتي. فالظاهر أنّ المراد بالشعائر الأنعام التي تساق هديا للكعبة ، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما وسميت بذلك لأنّها تدل على الحج ، أو على طاعة سائقيها للّه تعالى ، وتعظيمها يكون بأن تختار سمينة حسنة غالية الأثمان.
والتقوى هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب المناهي. ولا يخفى عليك أنّ الضمير في كلمة فَإِنَّها عائد على الشعائر ، وهي لا تصلح أن تكون بعضا من التقوى إذا كانت (من) للتبعيض ، ولا أن تكون ناشئة من التقوى إذا كانت (من) للابتداء ، فلا بد من تقدير يصلح لذلك. كما أنك تعلم أنه لا بد من رابط في قوله :
فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ يعود على المبتدأ ، وهو (من) فيكون مآل الكلام هكذا : ذلك ومن يعظّم شعائر اللّه فإنّ تعظيمه إياها من تقوى القلوب.
هذا ويصحّ في ضمير (فإنها) أن يكون راجعا إلى حالة المعظّم التي يدل عليها الفعل السابق في الآية ، وعلى هذا فلا يحتاج إلا إلى الرابط فقط ، والمعنى أنّ من(1/502)
ص : 503
يعظّم الأنعام التي يسوقها للحرم ، فيختارها سمانا حسانا ، فإن تعظيمه إياها لا محالة ناشئ من التقوى الحقيقية ، ودليل على أنه يخشى اللّه خشية تمكّنت من قلبه ، فهو بتعظيمها قد جمع بين مظهر الخشية وحقيقتها ، فعمله هذا هو عمل المخلصين ، وليس كعمل المنافقين ، الذين يأتون بصور الأعمال من غير أن يكون في قلوبهم شيء من الإخلاص. يدل على هذا إضافة التقوى إلى القلوب.
ولا شك أن الإخلاص والتقوى والخشية هي غاية ما يتمنى الإنسان أن يدركه في هذه الدنيا ، ليصل به إلى سعادة الآخرة.
وإخبار اللّه تعالى بثبوت التقوى لمن عظّم تلك الشعائر من شأنه أن يحرك الناس ، ويبعثهم على الاهتمام بأمرها ، والعناية بتخيرها ، والفرح بسوقها.
ويؤكد هذا المعنى إضافة هذه الشعائر إليه تعالى.
روي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أهدى مئة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب أي حلقة من ذهب.
وروي أن عمر رضي اللّه عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. وكان قد سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك ، وقال : بل أهدها ، وكان ابن عمر رضي اللّه عنهما يسوق البدن مجلّلة بالقباطي ، فيتصدق بلحومها وجلالها.
قال اللّه تعالى : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) مَنافِعُ الظاهر أنّ المراد بها المنافع الدنيوية من الركوب والدّر والصوف والوبر ، ليكون قوله تعالى : وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ مفيدا معنى جديدا. فإنّ الخير ظاهر في ثواب الآخرة ، فيكون في الأنعام التي تساق هديا إلى الكعبة منافع دنيوية ومنافع أخروية.
أما الأجل المسمى فقد اختلف في معناه ، فقال الإمام الشافعي : إنّه وقت نحرها ، وهو مروي عن عطاء.
وقال الحنفية : إنه وقت تعيينها وتسميتها هديا ، كما روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد ، وقتادة.
والمحل بالكسر من حلّ الشيء يحلّ بالكسر حلولا إذا وجب ، أو انتهى أجله ، وفي الحديث : «حلّت له شفاعتي» «1»
وجبت. ويقال : حل الدين : انتهى أجله ، فالمحل في الآية مكان الحلول ، أي المكان الذي ينتهي فيه أجل تلك الأنعام ، أو المكان الذي يجب ذبحها فيه.
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (1/ 171) ، 10 - كتاب الأذان ، 8 - باب الدعاء حديث رقم (614). [.....](1/503)
ص : 504
ومعنى أن محلها إلى البيت العتيق أنّ المكان الذي تذبح فيه الهدايا منته إلى البيت العتيق ، ومتصل به ، إذ هو الحرم ، ولا شك أن الأمر كذلك ، فإنّه ليس نفي البيت ، ولا ما حوله من المسجد ، إذ لا يحل الذبح فيهما ، والمحل بهذا المعنى هو المراد في الآيات الأخرى ، منها قوله تعالى : وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة : 196] وقوله جلّ شأنه : وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح : 25] وهو المعين في قوله عزّ اسمه : هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة : 95] وعلى هذا يكون المعطوف بثم في الآية كلاما تاما أريد به بيان المكان الذي تذبح فيه الهدايا ، بعد ما بين حكم تعظيمها والانتفاع بها إلى الأجل المعين ، وقيل : إنّ المراد بالمحل نفس الحلول بمعنى الذبح ، وقيل أيضا :
إنّ المحل زمان الحلول. وعلى هذين القولين يكون محلها معطوفا على منافع ، ويكون قوله تعالى : إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ حالا من الضمير في محلها. والتقدير لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الأخروي ، وهو وجوب نحرها ، أو وقت نحرها ، وفي ذلك مبالغة ، حيث جعل وقت النحر نفسه منفعة ، والظاهر الأول.
ما في الآية من الأحكام وأقوال العلماء في ذلك
: قد علمت أنّ الشافعية فسّروا الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي ، وعلى هذا قالوا بجواز الانتفاع بالشعائر بعد سوقها حتى تنحر ، وقالوا أيضا : إنما يجوز الانتفاع إذا كانت هناك حاجة تدعو إليه ، ولو لم تصل لدرجة الاضطرار :
أما الانتفاع بغير حاجة فلا يجوز ، فلو احتاج لشيء من لبنها ولو لم يصل إلى درجة المخمصة فله أن يشرب منه ، وكذلك إذا كان يعلم أنّ صوفها أو وبرها يضرها ، فله أن يجزّه وينتفع به ، وليس عليه قيمته للفقراء ، قالوا : والأولى أن يتصدق به عليهم. هذا هو المشهور من مذهبهم ، وعندهم رواية أخرى عن الإمام الشافعي أنه لا يجوز الانتفاع إلا للمضطر.
أما الحنفية فإنهم يفسّرون الأجل المسمى في الآية بوقت سوقها. فلا يجيزون الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار.
وقال بعضهم : إنه يجوز الانتفاع بها مطلقا في حالتي الاختيار والاضطرار.
ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر القول بوجوب الركوب.
ولمن أجاز مطلقا حجج :
1 - قد أثبتت الآية منافع في الشعائر ، وأباحت الانتفاع بها ، وهي لا تكون شعائر إلا بعد سوقها هدايا ، وتعيينها لذلك ، فيلزم أن يكون الانتفاع بها بعد السوق أيضا.
2 - ثمّ إنّ الآية لم تقيّد جواز الانتفاع بحالة دون أخرى ، فالتقييد بحالة الاضطرار(1/504)
ص : 505
كما يقول الحنفية ، أو بالحاجة كما هو مشهور مذهب الشافعية زيادة ليست في الآية.
3 - ثم إنّ الأحاديث الواردة في ذلك مطلقة أيضا ،
فقد روي عن أنس رضي اللّه عنه أنه قال : رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا يسوق بدنة ، فقال : «اركبها» قال : إنّها بدنة.
قال : «اركبها» قال : إنّها بدنة قال : «اركبها» ثلاثا. متفق عليه «1».
وروي عن جابر رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول - في البدنة - : «اركبها بالمعروف» «2»
فالحديثان مطلقان كالآية فيجوز الانتفاع بالبدنة على كل حال ، وإذا فلا يكون فرق بين البدنة والناقة التي لم يسقها ، فليس عليه فيما ينتفع به من ذلك ضمان.
حجة الشافعية : استدلّ الشافعية بما أورده المجيزون في دليلهم الأول ، وبأنّ إطلاق الآية يجب أن يقيّد بما ورد من الأحاديث التي تفيد أنّ الإباحة تثبت للحاجة : من ذلك : ما
رواه أحمد والنسائي عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة ، وقد أجهده المشي فقال : «اركبها» قال : إنّها بدنة. قال : «اركبها ، ولو كانت بدنة» «3».
وروي عن جابر أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا» «4»
فهذان الحديثان يدلان على أنّ الإباحة إنما كانت لمسيس الحاجة إلى الانتفاع. قالوا :
وعلى هذا يجب أن تحمل الآية والأحاديث المطلقة جمعا بين الأدلة.
ثم إنه ليس في كل ذلك دليل على وجوب ضمان شيء من منافع الهدي ، فلا يضمن المنتفع شيئا منها للفقراء ، نعم إذا كان الركوب ينقص قيمتها نقصا بينا فعليه ضمان هذا النقص.
حجة الحنفية : قال الحنفية ينبغي أن تحمّل الشعائر في الآية على الأنعام التي يراد سوقها للكعبة ، لا على البدن التي سيقت بالفعل ، فهي مجاز بقرينة إيقاع التعظيم عليها ، فإنّ الآية ندبت إلى تعظيمها. ولا شك أنّ من تعظيمها تخيّرها سمينة حسنة ، وذلك إنما يكون قبل سوقها وتعيينها هديا وهذه الأنعام التي تكون هديا بالسوق هي التي أباح اللّه الانتفاع بها إلى الأجل المسمى.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 960) ، 15 - كتاب الحج ، 65 - باب جواز ركوب البدنة حديث رقم (373/ 1323) ، والبخاري في الصحيح (3/ 219) 25 - كتاب الحج ، 103 - باب ركوب البدن حديث رقم (1690).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 961) ، 15 - كتاب الحج ، 65 - باب ركوب البدنة حديث رقم (375/ 1324).
(3) رواه النسائي في السنن (5 - 6/ 195 كتاب المناسك ، باب ركوب البدنة حديث رقم (2801).
(4) رواه مسلم في الصحيح كتاب الحج حديث رقم (1324) ، وأبو داود في السنن (2/ 81) ، باب ركوب البدن حديث رقم (1761) ، وأحمد في المسند (3/ 348) ، والنسائي (5 - 6/ 194) ، كتاب المناسك باب ركوب البدنة حديث رقم (2801).(1/505)
ص : 506
ثم إنه ينبغي تفسير الأجل المسمى بوقت سوقها لا وقت نحرها ، لأنّ صاحبها قد جعلها بالسوق خالصة للّه تعالى ، فقد خرجت عن ملكه بذلك فلا يجوز له حينئذ أن ينتفع بشيء منها إلا عند الضرورة ، وما انتفع به كان حقا للفقراء يجب أن يعوضهم منه مقدار قيمته.
يشهد لهذا ما ورد من الأحاديث التي قيّدت جواز الانتفاع بحالة الضرورة ، فيجب أن يحمل غيرها عليها جمعا بين الأدلة. من ذلك ما
رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر «1» : أنه سئل عن ركوب الهدي فقال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا»
فمن هذا يعلم أن الجواز خاصّ بحالة الضرورة ، فإنّ الإلجاء إلى ركوبها هو الاضطرار إليه. وقالوا أيضا : إن ركوبها ينافي تعظيمها ، إذ في الركوب امتهان واستهانة ظاهرة ، مع أنّ تعظيمها مطلوب بنفس الآية ، وإذا فلا يركبها إلا إذا ألجئ.
حجة القائلين بالوجوب : استدل القائلون بالوجوب بظاهر الأمر بالركوب فيما سبق من الأحاديث. وقالوا أيضا : إنّ في ركوبه مخالفة لما كان يصنعه أهل الجاهلية من مجانبة البحيرة والسائبة والوصيلة. وهو مردود بأنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يركب هديه ، ولم يركبه غيره ، ولم يأمر الناس جميعا بركوب هداياهم ، إلا ذلك المضطر ، كما تقدم ، فدل ذلك على عدم الوجوب.
أما المالكية فالمشهور من مذهبهم أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها ولبنها ، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها ، والوجه فيه ظاهر ، ومذهبهم على هذا قريب من مذهب الحنفية.
وقال النووي من الشافعية والزيلعي من الحنفية : إنّ الإمام مالكا يقول بجواز ركوب البدن ، ولو من غير حاجة ، فلو صحّ هذا فالحجج المتقدمة ناطقة بخلافه.
هذا والظاهر من قوله تعالى : ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أنّ جميع الهدايا يجب أن تذبح في هذا المحل ، سواء في ذلك ما تعلّق وجوبه بالإحرام ، كما في جزاء الصيد والفدية ودم التمتع ودم الإحصار ، وما التزمه الإنسان كما في الدم الذي يتطوّع به إلى الحرم ، أو ينذره كذلك.
قال اللّه تعالى : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) المنسك : بفتح السين وكسرها : مفعل من النسك ، بمعنى العبادة ، فيصح أن
__________
(1) سبق تخريجه.(1/506)
ص : 507
يراد به النسك نفسه ، ويصح أن يراد به مكان النسك أو زمانه ، وعلى كل حال فالظاهر أنّ المراد بالنسك هنا عبادة خاصة ، وهي الذبح تقرّبا إلى اللّه تعالى.
فَلَهُ أَسْلِمُوا الإسلام للّه الإخلاص له في الطاعة ، وامتثال أوامره ونواهيه.
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الإخبات الخشوع ، وقيل : التواضع. وقيل : الاطمئنان :
مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض ، وهي معان متقاربة ويصحّ أن يكون ما ذكر في الآية بعده تفسيرا له.
ولا يخفى عليك أنّ قوله تعالى : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً معطوف على قوله سبحانه : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وأنّ تقديم المفعول فيه لإفادة الحصر.
والمعنى : أنّ اللّه جلّ شأنه قد شرع نسك الذبح لجميع الأمم التي خلت من قبل ، يتقربون به إليه تعالى ، ويذكرون اسمه الكريم عند الشروع فيه ، وأن ذلك ليس خاصّا بأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولا ببعض الأمم الأولى دون البعض ، أو المعنى أنه تعالى قد خصص لكل أمة من الأمم مكانا أو زمنا يذبحون فيه ، ولعل سرّ الإخبار بشرع هذا النسك لجميع الأمم من قبل هو تحريك النفوس ، وبعثها إلى المسارعة إلى هذا النوع من البر ، والاهتمام بهذه القربة ، حيث إنّها قربة قد وردت بها الشرائع الأولى ، وتتابعت عليها.
وفي هذا الإخبار أيضا إشعار بأنّ أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم ، والذين كانوا يخلطون في التسمية على ذبائحهم - إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم ، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم ، فإنّ شرائع اللّه كلها قد أجمعت على أنّ التقرب بالذبح إنما يكون للّه وحده ، وأنّ الشروع في ذلك إنما يكون باسمه وحده ، إذ ليس للناس إلا إله واحد ، وهو الذي رزقهم ، وشرع لهم ، وكلّفهم ، فليس لهم أن يميلوا بالعبادة إلى غيره ، فقوله تعالى : فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر ، لأنّ تفرده تعالى بالألوهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح غير اسمه ، وإنما قيل : فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل فإلهكم واحد لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته ، كما أنه واحد في ألوهيته.
وقوله تعالى : فَلَهُ أَسْلِمُوا مرتّب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله ، فإنّه متى كان الإله واحدا فقد وجب تخصيصه بالعبادة والإذعان له في جميع الأحكام ، وإفادة التخصيص ظاهرة من تقديم المعمول.
وقوله تعالى : وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ فيه توجيه الخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ما كان متوجها إلى الناس ، فاللّه سبحانه يأمر نبيّه أن يبلغ الناس أنّ من أذعن منهم للّه ، وأخلص له العمل والاعتقاد ، فإنه يكون له أحسن الجزاء.(1/507)
ص : 508 والسرّ في تحويل الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم هو أنّ مقام الأمر والنهي يناسبه أن يتجلّى الإله على العباد بعظمة الألوهية وقهرها وسلطانها ، فيوجه أوامره إليهم كأنه يخاطبهم من غير وسيط ، ليكون ذلك أدخل للهيبة في قلوبهم ، وأبعث على خشوعهم وانقيادهم.
فلما انتهى أمر التكليف عطف الخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأمره أن يبلّغهم وعد اللّه للعاملين المخلصين ، إذ إنّ عملهم بذلك يكفي فيه أن يحدثهم به النبيّ المعصوم الذي هو الواسطة بينهم وبين خالقهم.
ويؤخذ من هذه الآية : وجوب الذكر على الذبيحة حيث كان هو المقصود من الذبح الذي هو واجب ، ووجوب اعتقاد أنّ اللّه واحد ، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص للّه في العمل.
قال اللّه تعالى : الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وصف اللّه في هذه الآية المخبتين بأربع صفات تجد بعضها مرتبا على بعض أحسن ترتيب :
الأولى : الخوف والخشوع عند ذكر اللّه.
والثانية : الصبر على الآلام والمشقات.
والثالثة : إقامة الصلاة.
والرابعة : الإنفاق مما رزقهم اللّه.
فهؤلاء المخبتون إذا سمعوا ذكر اللّه تحرّكت قلوبهم ، وخفقت لما وقع فيها من الهيبة والخوف من عقاب اللّه وانتقامه ، ولا شك أنّ هذا الخوف يحملهم على الرضا بقضاء اللّه تعالى ، والصبر على ما يريده لهم من الآلام والشدائد ، سواء في ذلك ما يكون في التكاليف وأنواع التعبدات ، وما يلاقون من المشقات في أسفارهم لطاعة اللّه كما في الحج ، وكل ما يصابون به في أنفسهم وأموالهم ، ويحملهم كذلك على إحسان الأعمال ، والقيام بما كلفهم اللّه إياه حقّ القيام.
والإنفاق : قيل : إنّ المراد به الزكاة المفروضة ، وقيل : إنه صدقة التطوع ، وقيل : هو عام يشمل النوعين جميعا ، وقد سبق لك شيء من هذا في أكثر من موضع ، كما أنّه سبق لك في مثل هذه الآية بيان السر في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من بين سائر التكاليف ، وأنّ الصلاة أهمّ التكاليف البدنية ، كما أنّ الزكاة أهمّ التكاليف المالية : لما يترتب عليهما من صلاح النفوس واعتدالها ، وسد حاجات الأمة وتقويم فقرائها وضعفائها.
وينبغي أن تعلم أنّ قوله تعالى : وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ معطوف على المقيمي الصلاة باعتبار معناه ، أي والذين يقيمون الصلاة ، وينفقون مما رزقناهم.(1/508)
ص : 509
قد يقال : أنّ وصف المخبتين في هذه الآية بأنّهم الذين يجلون عند ذكر اللّه يخالف ما وصفوا به في قوله عزّ اسمه : الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد : 28] فما هذا ، وكيف يكون التوفيق بين آيتين إحداهما تثبت أنّ ذكر اللّه موجب للخوف والوجل ، والأخرى تصرّح بأن ذكر اللّه يوجب سكون القلوب واطمئنانها ، وزوال ما قد يعتريها من خوف وفزع أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد : 28].
والجواب أن الاطمئنان والوجل أمران يجدهما المؤمن المتقي ، ويشعر بهما في قلبه في حالتين متمايزتين ، ولسببين مختلفين ، فهو إذا استحضر وعيد اللّه امتلأت نفسه هيبة ، واقشعر جلده ، ووجف قلبه ، وخاف عذاب الآخرة ، ثم إذا لمح جانب الوعد الكريم ، واستحضر رحمة اللّه وسعة عفوه اطمأن قلبه ، وسكن روعه ، وصدق قول اللّه تعالى : أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ فالحالة الثانية حالة الوعد والأولى حالة الوعيد ، وأيضا فإنّ المؤمن كثيرا ما تصادفه في هذا الدنيا عقبات وشدائد ، إذا عرضت لضعيف الإيمان واهن العزيمة اضطرب لها قلبه ، وانشعب منها فؤاده ، واستولى عليه الفزع والهلع. أما المؤمن الصادق فإنه يرجع بها إلى اللّه ، ويستعين عليها بذكر اللّه ، فيرتاح لكل ما يجري به قضاؤه وقدره ، فهذه حالة السكون والاطمئنان إلى ذكر اللّه.
أما خوفه ووجله فهو لكون تقصيره فيما عليه من موجبات العبودية للواحد القهار ، وهذا الخوف تلتهب له نفسه ، ويرتجف له جنانه.
يؤخذ من الآية : أن التقوى ، والخشية ، والصبر على المكاره ، والمحافظة على الصلاة ، والرحمة بالفقراء ، والإحسان إليهم ، من أعظم ما ينال به العبد رضا اللّه تعالى ، لما لها من الشأن العظيم ، إذ عليها يقوم صلاح العباد والبلاد.
قال اللّه تعالى : وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) (البدن) جمع بدنة ، وهي اسم للواحد من الإبل ذكرا أو أنثى ، سميت بذلك لعظم بدنها. وقد اشتهر إطلاقها في الشرع على البعير يهدى إلى الكعبة ، وقد تطلق البدنة على البقرة أيضا لما أنها تجزئ في الهدي والأضحية عن سبعة كالبعير.
قال الحنفية : إن البدنة صارت من قبل المشترك في المعنيين ، فمن نذر بدنة أجزأته بقرة. وبذلك قال عطاء وسعيد بن المسيب.
روى مسلم «1» عن جابر رضي اللّه عنه أنه قال : كنّا ننحر البدنة عن سبعة :
فقيل : والبقرة؟ قال : وهل هي إلا من البدن.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 955) ، 15 - كتاب الحج ، 62 - باب الاشتراك حديث رقم (353/ 1318).(1/509)
ص : 510
وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّه قال : لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر.
أما الشافعية فقالوا : لا تطلق البدن بالحقيقة إلا على الإبل ، وإطلاقها على البقر إنما يكون بضرب من التجوّز ، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة ، وبهذا قال مجاهد ، ويشهد له ما
رواه أبو داود «1» عن جابر رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة»
فإنّ العطف يقتضي المغايرة ، والظاهر أنّ اسم البدنة حقيقة فيما يكون من الإبل ، وأن إطلاقها على البقرة لم يصل إلى مرتبة الحقيقة.
فأمّا قول جابر : وهل هي إلا من البدن ، وقول ابن عمر : لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر ، فقد يحمل على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما ، وهذا شيء غير اشتراك اللفظ بينهما ، وعلى كلّ حال فالمراد من البدن في الآية الإبل ، وقوله تعالى :
صَوافَّ ووَجَبَتْ جُنُوبُها يدل على ذلك ، إذ نحر الحيوان قائما لم يعهد إلا في الإبل خاصّة.
ولا يؤخذ من هذا أنّ الهدي خاص بالإبل. بل تخصيصها بالذكر لأنّها الأفضل من غيرها في الهدايا.
صَوافَّ جمع صافة ، وهي ما صفت قوائمها وسوقها واقفة ، وقرئ صوافن جمع صافنة ، قيل : إنها بمعنى صافة ، وقيل : بل بمعنى أنّها قائمة على ثلاث قوائم ، والرابعة مرفوعة ، وهكذا يفعل بالإبل عند نحرها ، مأخوذ من صفن الفرس إذا وقفت على ثلاث وطرف سنبك الرابعة ، وقرئ صوافي جمع صافية بمعنى خالصة للّه تعالى.
وَجَبَتْ جُنُوبُها من معاني الوجوب السقوط ، وجب الجدار سقط ، ووجبت الشمس غربت ، فوجبت جنوبها سقطت على الأرض ، والجنوب : جمع جنب ، وهو الشق ، وسقوط جنوبها كناية عن موتها.
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ : القانع الراضي بما قدّر اللّه له من الفقر والبؤس ، فلا يتعرّض لسؤال الناس ، مأخوذ من قنع يقنع كرضي يرضى وزنا ومعنى.
المعتر المعترض لسؤال الناس ، فإنّ المعترّ كالممعتري هو من يعتري الأغنياء ، ويذهب إليهم المرّة بعد المرّة ، وقيل بعكس هذا : القانع : السائل ، من قنع يقنع بالفتح فيهما. والمعترّ : الذي لا يسأل ، كأنّه يدفع عار السؤال بترك السؤال.
معنى الآية : أن اللّه سبحانه وتعالى يمتنّ على عباده بأن جعل لهم في البدن يسوقونها إلى مكة قربة عظيمة ، حيث جعلها شعيرة من شعائره ، وعلما من أعلام
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (3/ 11) ، كتاب الضحايا ، باب في البقر والجزور حديث رقم (2808).(1/510)
ص : 511
دينه ، ودليلا على طاعته ، ففي سوقها للحرم ، ونحرها هناك ، خير عظيم وثواب كبير ، يناله أصحابها في الآخرة.
وهكذا ترى أننا قد حملنا الخير هنا على الثواب الأخروي. والمنافع فيما تقدم على حظ الدنيا ، ليكون الكلام كما قلنا مفيدا فائدة جديدة ، وقد رتّب اللّه سبحانه وتعالى الأمر بذبحها ، أو الأمر بذكر اسمه الكريم عند الذبح على ما قبله من جعلها شعائر. أو على قوله : لَكُمْ فِيها خَيْرٌ وأنه تعالى يمتنّ أيضا على عباده في هذه البدن ، فأباح لهم إذا نحروها أن يأكلوا منها ، وأن يتصدقوا على الفقراء ، السائل منهم وغير السائل.
ثم ختم اللّه سبحانه وتعالى الآية بقوله : كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ومعناه سخرنا هذه البدن ، وذللناها لكم ، وأخضعناها لتصريفكم مع ضخامتها وقوتها التي بها ، كان يمكن أن تتأبّى عليكم فلا تعطيكم قيادها ، أو تندّ منكم فتتأبد تأبد الوحوش.
فاللّه جلت قدرته قد سخّرها لكم ذلك التسخير العجيب ، وسهل لكم أن تقفوها صواف ، وأن تعقلوها ، وتضربوا في لباتها ، فتقع على جنوبها صريعة ، وعلى هذا تكون الكاف صلة في قوله : كَذلِكَ ، ويكون مآل القول سخرناها لكم ذلك التسخير البديع.
ويصحّ أن تبقى الكاف على معناها مفيدة للتشبيه ، ويكون ذلك من تشبيه الشيء بنفسه مبالغة ، كأن ذلك التسخير بلغ في عظمه وغرابته مبلغا فاق به كلّ عجيب ، حتى إذا أريد تشبيهه بشيء كان لا بدّ أن يردّ إلى نفسه فيشبه بها.
وقيل : إنّ المشبه به هو تسخيرها ، حين تكون صواف معقولة إحدى القوائم ، والمشبه هو تسخيرها من قبل في ركوبها والحمل عليها ، وغير ذلك من سائر وجوه الانتفاع.
وجملة القول : إنّها نعمة جليلة ، ومنّة عظيمة تستوجب من العباد أن يشكروا اللّه عليها ، ويصرفوا ما أنعم به عليهم في الوجوه التي رسمها لهم الدين الحنيف.
فقوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعليل لما قبله. وكلمة (لعل) فيه ليست للرجاء الذي هو توقع الأمر المحبوب ، لأنّه مستحيل على اللّه تعالى من حيث أنه ينبئ عن الجهل بعواقب الأمور. قال ابن الأنباري «1» : إنّ لعلّ ترد بمعنى كي في لسان العرب ، واستشهد على ذلك بقول من يراه حجة :
فقلتم لنا كّفوا الحروب لعلّنا نكفّ ووثقتم لنا كلّ موثق
فإنّ توثيق العهد بإنهاء الحرب لا يستقيم معه أن يكون معنى (لعلنا) الرجاء وتوقع الكف ، إنما الذي يصلح له ذلك أن تكون لعلّ بمعنى كي.
__________
(1) عبد الرحمن بن محمد ، أبو البركات ، مؤرخ ، وأديب ولغوي كان زاهدا عفيفا ، خشن العيش والملبس سكن بغداد وتوفي فيها سنة (577) انظر الأعلام للزركلي (3/ 327).(1/511)
ص : 512
هذا ويؤخذ من الاقتصار في الآية على البدن مع ورود الشرع بجواز الهدي من بهيمة الأنعام أنّ البدن في الهدايا أفضل من غيرها من البقر والغنم.
ويؤخذ من الآية أيضا : الندب إلى نحر الإبل وهي قائمة معقولة إحدى القوائم ، وأنه لا يجوز أن يؤكل منها بعد نحرها حتى تفارقها الحياة.
ومقتضى الأمر في قوله جلّ شأنه : فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ وجوب ذكر اسم اللّه حينئذ ، وهو يؤيّد بظاهره قول من يرى من الأئمة وجوب التسمية على الذبيحة. ومن يرى ندب التسمية يؤوّل الأمر على الندب ، أو يؤول ذكر اسم اللّه على الشكر والثناء.
أما حكم الأكل منها وإطعام الفقراء فقد سبق لك القول فيه.
قال اللّه تعالى : لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) النيل : الإدراك والإصابة.
والتكبير في الآية : قيل : إنه ما يكون عند الذبح : بسم اللّه ، اللّه أكبر ، والأحسن أن يفسّر بالتعظيم والتقديس والشكر.
والإحسان : هو إتقان العمل ، والإتيان به على الوجه المطلوب ، ومنه
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم لما سئل عن الإحسان : «أن تعبد اللّه كأنّك تراه» «1».
المعنى : بأنّ من يريد رضا اللّه تعالى فلا يظن أنه يدرك ذلك باللحوم والدماء من حيث إنها لحوم ودماء ، وإنما ينال ذلك بالتقوى والإخلاص ، في العمل ، فإنّ الأعمال دون التقوى والإخلاص كصور أجسام لا روح فيها ولا حياة.
وللآية وجه آخر من التفسير - إن صح ما قيل في سبب نزولها - ذلك أنّه روي عن ابن عباس ومجاهد أنّ جماعة من المسلمين كانوا هموا أن يفعلوا في ذبائحهم فعل أهل الجاهلية ، يقطعون لحومها ، وينشرونها حول الكعبة ، وينضحون عليها من دمائها ، فنزلت الآية تزجرهم عن هذا الفعل ، وترشدهم إلى ما هو الأجدر بهم والأليق بإيمانهم أن يفعلوه في ذبائحهم ، حتى يدركوا رضا اللّه تعالى.
وعلى هذا يكون المعنى : أن من يريد رضا اللّه تعالى ، ويرجو أن ينال منه المثوبة بما يقرّب من هدي ، فلا يظن أنّه ينال ذلك باللحم يقطعه وينثره ، ولا بالدم يلطخ به الكعبة الطاهرة فعل أهل الشرك من الجاهلية ، وإنما ينال ذلك بتقوى اللّه ، والبعد عن مثل تلك الأعمال التي تجانب روح الإسلام وطهارته ، والتي ليس فيها شيء من الإخلاص للّه.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح كتاب الإيمان حديث رقم (37).(1/512)
ص : 513
فقوله تعالى : لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها هو كما علمت على تقدير الرضا ، أو ما في معناه ، أي لن ينال رضا اللّه لحومها ولا دماؤها ، ولكن ينال رضاه التقوى منكم.
وأنت ترى أنّ الآية قد نفت عن اللحوم والدماء أن تنال رضوان اللّه ، مع أنه ليس من شأنها أن يقال فيها : تنال أو لا تنال ، ولكن قصد المبالغة في الأخبار بأنّ أصحابها لا ينالون الرضا والثواب بها وحدها إذا لم يكن معها التقوى والإخلاص هو الذي قضى أن يكون نظم الآية على هذا النحو البديع ، كأنه قيل : إذا كان يتصور أن تنال الدماء واللحوم نفسها أجر اللّه ورحمته صحّ أن يدرك أصحابها بها وحدها شيئا من ذلك ، ففي الآية نوع من التجوز.
وترى أيضا أنه قد أعيد في الآية حديث تسخير الأنعام ، وتذليلها للناس ، لأن في الإعادة تذكيرا بالنعمة يبعث على شكرها والثناء على اللّه من أجلها ، والقيام له بما يجب لعظمته وكبريائه ، لأنّه تعالى سخر لهم تلك البهائم ، وأخضعها لتصريفهم ، وأراهم ما يصنعون فيها ، وكيف يتقرّبون بها.
ومن هذا تعلم أن (على) في الآية الكريمة للتعليل ، وأنّ (ما) مصدرية ، ويصح أن تكون (ما) نكرة موصوفة ، أو اسما موصولا مع مراعاة أن العائد محذوف ، وفي صرف الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأمره بتبشير المحسنين أعمالهم الآتين بها على الوجه المطلوب ، ووعدهم بأنّ لهم من اللّه الجزاء الطيب على فعلهم ما علمته آنفا.
هذا وفي الآية دلالة على أنّ التقوى وشكر اللّه تعالى والإحسان في العمل له جلّ شأنه من أهمّ المطالب الشرعية التي لا يجوز لأحد إغفالها أو التهاون فيها.
قال اللّه تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) يصحّ أن يكون هذا كلاما متصلا بقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وما وقع في البيت - من ذكر مناسك الحج وشعائره ، وما فيها من منافع الدنيا والآخرة - استطراد لمزيد تعظيم شأن البيت الحرام الذي جعله اللّه مثابة للناس وأمنا ، وتسجيل قبح صدهم للمسلمين عنه ، وإخراج أهله منه ظلما وعدوانا ، وتفويت هذه المنافع عليهم ، لأنّ الجناية يعظم أمرها بعظم ما يترتب عليها من تفويت المنافع والإيقاع في الأضرار. ولأن خطورة الجناية تدلّ على خطر المجني عليه ، وناهيك بجناية تقع على البيت الحرام ، مع ما له من قداسة وحرمة ، وتفوت على الناس منافع الحج مع ما فيها من خيري الدنيا والآخرة ، ويكون قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا رجوعا إلى موضوع السياق ، لبيان عاقبة هؤلاء الصادّين عن سبيل اللّه والمسجد الحرام ، من قهرهم ، وخذلانهم ، وكسر شوكتهم ، ونصر المسلمين عليهم ، وإزالة صدهم ، وتمكين المسلمين من البيت بعد تمكينهم منهم(1/513)
ص : 514
. «إنّ اللّه ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» «1».
ويصحّ أن يكون متصلا بما قبله مباشرة ، وذلك أنه تعالى لما بيّن مناسك الحج ، وما فيه من المنافع ، وكان في ذلك مزيد إلهاب وتشويق لنفوس المسلمين إلى البيت الحرام ، والوقوف بالمشاعر العظام ، ولكن أنّى لهم ذلك ، وقد صدّهم المشركون ، ووقفوا سدا منيعا دون إرواء هذه النفوس المتعطشة إلى رؤية هذا الحرم المقدس ، الذي عاشوا طوال حياتهم في ظلّه وتحت حمايته ، والذي عزّ عليهم فراقه ، ولم ينقطع حنينهم إليه ، والذي كان قلب الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه معلّقا به ، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة وقال : «و اللّه إنّك لأحبّ أرض اللّه إليّ ، وإنك لأحبّ أرض اللّه إلى اللّه ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت» «2»
وإذا ذاك توجهت قلوبهم إلى ربّ هذا البيت ، واستشرفت نفوسهم إلى عون اللّه ونصره وحماية بيته من عدوان المعتدين ، وتخليصه من أيدي الجبابرة الظالمين ، وذلك قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا توطينا لنفوسهم ، وتقوية لعزائمهم ، وإعدادا لهم للجهاد والقتال الذي سيكون به تحقيق آمالهم ، وتحرير أوطانهم وعقائدهم.
وعلى كلّ فهو وعد من اللّه عزّ وجلّ ، وبشارة للمؤمنين بنصر اللّه لهم ، وتمكينهم من عدوهم ، وكف بوائقه عنهم ، وفي ضمنه وعيد شديد ، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم وكسر شوكتهم وزوال دولتهم ، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد.
هذا وصيغة المفاعلة في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ إما للمبالغة في الدفع ، أو للدلالة على تكرره فقط ، لأنّ صيغة المفاعلة تدلّ على تكرر الفعل وحصوله من الجانبين ، وقد تجرّد عن معنى حصوله من الجانبين ، فتبقى دلالتها على التكرر من جانب واحد كالممارسة ، أي أنه تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وبأسهم مبالغة لا تدع لهم غائلة من غوائلهم ، أو أنه تعالى يدفع بأسهم وغوائلهم مرة بعد مرة حسبما يتجدد ذلك منهم ، كقوله تعالى : كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة : 64].
قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ نفي المحبة كناية عن البغض ، وأوثر (لا يحب) على (يبغض) تنبيها على مكان التعريض ، وأن المؤمنين هم أحباء اللّه وأولياؤه.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1997) ، 45 - كتاب البر ، 15 - باب تحريم الظلم حديث رقم (59/ 2583) ، والبخاري في الصحيح (5/ 255) ، 65 - كتاب التفسير ، 5 - باب وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ حديث رقم (4686).
(2) انظر مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي حديث رقم (5499) وقال روى الترمذي بعضه ، ورواه أبو يعلى ورجاله ثقات.(1/514)
ص : 515
ومعنى خَوَّانٍ كَفُورٍ أي خوان في أماناته تعالى ، وهي أوامره ونواهيه ، أو جميع الأمانات ، ونظيره قوله تعالى : لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال : 27] وكفور ، أي لنعمه عزّ وجلّ.
قيل : إنه تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين في الجملة الأولى ، وقيل : تعليل للوعد الكريم نفسه ، وضعّف هذا بأنّ قول القائل : دفعت زيدا عن بكر لبغض زيد ليس فيه كثير عناية ببكر ، وهذا لا يناسب المقام.
وهناك وجه آخر في ربط الجملة الثانية بالأولى ، وحاصله أنك عرفت أنّ الجملة الأولى مشتملة على وعد صراحة ووعيد ضمنا ، وإذا نظرت إلى الجملة الثانية وجدت أنها مشتملة على ثبوت البغض للمشركين صراحة ، وهو يناسب الوعيد الضمني في الجملة الأولى ، فيكون علة له ، وعلى ثبوت المحبة للمؤمنين ضمنا كما هو قضية إيثار (لا يحب) على (يبغض) وهو يناسب الوعد المصرّح به في الجملة الأولى ، فيكون علة له ، وعلى هذا يكون منطوق الجملة الثانية علة لمفهوم الجملة الأولى ، ومفهومها علة لمنطوقها ، ويصير المعنى هكذا : إن اللّه يدافع عن الذين آمنوا لحبه إياهم ، ويخذل المشركين ويقهرهم لبغضه إياهم ، وعلى كلّ فإنّ ربط نفي الحب بالخوان الكفور يدلّ على أنّ علّة النفي هي الخيانة والكفر ، ويدل بمفهومه على أنّ علة ثبوت المحبة في مقابله هي الأمانة والشكر ، اللذان هما من خواص المؤمن.
وهنا أمران جديران بالالتفات :
الأول : أن صيغة المبالغة في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ لبيان الواقع ، وأنهم كانوا كذلك ، لا لتقيد البغض بغاية الخيانة والكفر المشعر بمحبة اللّه تعالى للخائن الكافر ، وكثيرا ما تذكر القيود لبيان الواقع ، حتى قيل : إنّه الأصل في استعمالها ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران : 130] ولا شكّ أنك إذا نظرت إلى هؤلاء المشركين ، وما وقع منهم من الأفاعيل المنكرة ، عرفت أنهم حقيقة بلغوا الغاية في الخيانة والكفر.
الأمر الثاني : أنّ المراد نفي الحب عن كل فرد من الخونة الكفرة ، فالمراد عموم السلب وشموله لجميع الأفراد ، لا سلب العموم ، وقول البيانيين : إنّ تقديم النفي على أداة العموم يفيد سلب العموم فالحق أنه حكم أكثري لا كلي ، بدليل قوله تعالى : وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة : 276] وقوله : وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) [القلم : 10] وقوله :
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [لقمان : 18] وكذلك ما معناه ، فالمعتبر إذا في الحقيقة هو القرائن ، فمتى دلّت على عموم السلب كان الكلام لعموم السلب ، تقدّم النفي أو تأخّر.
ونقل بعضهم عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وجها آخر بناء على أنّ(1/515)
ص : 516 الحكم كلي ، وحاصله أنه قد يعدل بحسب الظاهر عما يدل على عموم السلب إلى ما يفيد سلب العموم ظاهرا ، وإن كان السلب عاما بحسب الحقيقة تعريضا بأنّ المخاطبين شرّ هذا النوع ، كما جاء في الآية الكريمة : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ تعريضا بما نزلت فيهم من الأعداء بأنّ محبة اللّه تعالى لا تنالهم بأي وجه من الوجوه ، وأنّه لو تعلّقت محبة اللّه بخائن كافر فإنّها لا تتعلق بأولئك ، لأنهم شر هذا النوع ، ولا يخفى عليك أن بناء الحكم على أبعد الفروض والاحتمالات أبلغ وأقوى ، لأن بناءه على تلك الصورة يجعل السامع لا يتطرق إليه أي احتمال آخر في خلاف الحكم.
قال اللّه تعالى : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الإذن معناه الترخيص ، فهو للإباحة بعد الحظر ، وقرئ كلّ من أُذِنَ ويُقاتَلُونَ بالبناء للمفعول وبالبناء للفاعل.
هذه هي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية ، على ما روى الحاكم في «المستدرك» عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.
وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري وكذا النسائي بإسناد صحيح عنه موقوفا عن عائشة رضي اللّه عنها.
وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه والنسائي وابن سعد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : لما خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكنّ ، فنزلت :
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا. قال ابن عباس : فهي أول آية نزلت في القتال «1».
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية : أول آية نزلت فيه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة : 190].
وفي «الإكليل» للحاكم أنّ أوّل آية نزلت فيه : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.
والظاهر الأول ، وبه قال كثير من السلف كابن عباس ومجاهد ، والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة وغيرهم ، ويؤيده أيضا ذكرها بعد الوعد بالمدافعة والنصر.
المفردات : أُذِنَ المقصود به إباحة القتال ومشروعيته على القول الأول ، وحكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية وغايتها على القول الثاني.
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 305) ، كتاب التفسير حديث رقم (3171) ، والنسائي في السنن (5 - 6/ 309) ، كتاب الجهاد ، باب وجوب الجهاد حديث رقم (3085) ، وأحمد في المسند (1/ 216) ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 52).(1/516)
ص : 517
لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ المراد بهم المهاجرون ، كما يدلّ عليه وصفهم بالإخراج من الديار بغير حق ، لأنّ هذا الوصف لا ينطبق إذ ذاك إلا عليهم.
والمأذون فيه هو القتال ، وحذف لدلالة المقام عليه.
ووصفهم بالقتال الواقع عليهم على قراءة المبني للمفعول على حقيقته ، سواء قلنا : إنها أول آية نزلت في القتال أم لا ، لأنّ قتال المشركين واضطهادهم لهم كان حاصلا على كل حال.
وأما وصفهم بالقتال الواقع منهم على قراءة المبني للفاعل فعلى أنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون على حقيقته أيضا ، وعلى أنها أول آية نزلت فيه يكون وصفهم عند بدء الإذن بالقتال إما على تقدير الإرادة والحرص ، أي يريدون أن يقاتلوا المشركين ، ويحرصون على ذلك ، وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل ، وحقيقة قد كانوا حريصين كل الحرص على هذا القتال ، فإنّ الدفاع عن النفس والعقيدة والوطن أمر محبب إلى النفوس ، لا سيما إذا كانت تعتقد أنها على الحق ، وأن خصمها على الباطل.
المعنى : لما وعد اللّه عزّ وجلّ في الآية السابقة المؤمنين بالدفاع وكفّ غوائل المشركين عنهم ، وأوعد في ضمن هذا الوعد الكافرين بالقهر والخذلان ، أتبع ذلك ببيان مشروعية الجهاد والإذن لهم في قتال أعدائهم ، مع بيان أسبابه وغايته ، للإيذان بأنّ طريق الدفاع الموعود به عن الأولياء وسبيل القهر والخذلان الموعود به للأعداء هو إذنه تعالى للمؤمنين في القتال ، كما يدل على ذلك قوله تعالى في الآية التالية : وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لأن القتال في سبيل اللّه من أعظم المواطن التي تتجلى فيها رعاية اللّه وعنايته بالمؤمنين بما يفاض عليهم في تلك المواقف الرهيبة من النصر والتأييد ، وتثبيت قلوبهم ، وإمدادهم بالأسباب الحسية والمعنوية على ما عرف وتواتر من نفحات اللّه لهم في مواطن الحرب وميادين القتال.
ثم بيّن اللّه تعالى سبب الإذن في القتال على سبيل الإجمال بقوله : بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا فاللّه تعالى أذن للمسلمين في قتال عدوهم وندبهم للجهاد في سبيله ، لا حبا في إراقة الدماء وإزهاق الأرواح ، ولا لمجرد البطش والقهر ، كما يزعم خصوم الإسلام ، فإنّ الإسلام دين أمن وسلام ، وبشير رحمة وطمأنينة ، ولكنه تعالى أذن لهم لأجل أن يدفعوا ذلك الظلم الذي وقع عليهم من جانب المشركين والذي أصابهم في أوطانهم وأنفسهم ودينهم ، فإنه صلّى اللّه عليه وسلّم ما كاد يصدع بالأمر ، ويجهر بالدعوة ، حتى هاج هائج قريش ، وتذمرت على المسلمين ، وأعلنوا عليهم حربا شعواء ، وأعملوا فيهم يد الانتقام الوحشي ، لا يألون في مؤمن إلّا ولا ذمة ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ(1/517)
ص : 518
الْحَمِيدِ (8)
[البروج : 8] ، ونالوا منهم أشد ما يناله عدوّ من عدوه ، طمعا في ارتدادهم عن دينهم ، والحيلولة بينهم وبين الالتفات حول الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه ، وقد غاب عنهم أن الدين الحق متى خالطت بشاشته القلوب ، واستقر في أعماق النفوس ، كان التعذيب والتقتيل والتنكيل أهون عليها من انتزاع الدين منها.
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أيّ جنب كان في اللّه مصرعي
فكانوا أمام هذه العواصف الهوجاء والمواقف الرهيبة والفتن التي كانت كقطع الليل المظلم أثبت على حبهم لرسولهم صلّى اللّه عليه وسلّم من الجبال الرواسي ، فما استطاعوا فتنة مسلم عن دينه ، ولا تحويل قلبه عن حب اللّه وحب رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم.
لم يقف ظلم هؤلاء الظالمين عند حد الأتباع والأنصار ، بل آذوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأشد أنواع الإيذاء ، رموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، وحثوا على رأسه التراب ، ووضعوا بين كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه سلا «1» جزور وهم يتضاحكون ، وأغرت ثقيف سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويرمون عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء ، وهذا قليل من كثير مما فعلوه معه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو صابر على أذيّتهم ، محتسب عند اللّه ما يناله معهم.
فعلوا كل هذا وأكثر منه بالمسلمين حتى ألجئوهم على الخروج من أوطانهم وترك أموالهم وأهليهم فرارا بدينهم.
فأيّ ظلم أقبح وأشنع من هذا الظلم الذي لم يرتكبوه إلا انتصارا للباطل ، واضطهادا للحق ، وإيثارا لعبادة الأوثان على عبادة اللّه الواحد القهار ، والذي لم يتعفف أهله عن الإسفاف في الخصومة والفجور في الإيذاء.
قال تعالى : وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ذهب كثير من المفسرين إلى أنه وعد بالنصر ، وتأكيد لما مرّ من الوعد بالدفاع عن المؤمنين ، وتصريح بأنّ المراد بالوعد السابق ليس مجرد تخليصهم من أيدي عدوهم ، بل إظهارهم عليهم ، وتمكينهم في الأرض ، وهو إخبار وارد على سبيل العزة والكبرياء ، كما يقول الملك : إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا يريد بذلك حقيقة الإخبار بالقدرة على ذلك ، بل يريد أنه سيفعل على سبيل التأكيد.
وذهب ابن كثير إلى أن المعنى : أنه تعالى قادر على نصر المؤمنين من غير قتال وجهاد ، ولكنه أذن لهم في القتال ، وندبهم إلى الجهاد ، لأنه يريد من عباده بذل جهدهم في طاعته ، كما قال تعالى :
__________
(1) سلا الجزور : هو اللفافة التي يكون بها الجنين عند الولادة ، وهو من الآدمية المستيمة.(1/518)
ص : 519
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد : 4].
وقال : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة : 16] وقال :
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) [محمد : 31].
وقال : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) [العنكبوت : 2].
أقول : وعلى هذا القول يكون المقصود هو تنبيه المسلمين إلى أنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار ، وأنّ الحياة ميدان تسابق وتنافس ، وأن مدار هذا الدين على الإرادة والاختبار ، لا على الإكراه والاضطرار ، وأنّ الجزاء من جنس العمل فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة : 7 ، 8] ولا يكون ذلك كله إلا بفتح أبواب العمل أمام العاملين ، ودعوة الناس إلى الجهاد والكفاح ، وابتلائهم بمواقع الشدائد والمحن ، لكي يتبين المجاهدون من القاعدين ، والمخلصون من المنافقين. ومن آمن حبا في اللّه ورسوله ممن آمن حبا في الإبقاء على نفسه وماله وجاهه ، وإلا فلو كان النصر حليف المسلمين من غير قتال وجهاد ، وكان المؤمن معافى في نفسه وماله وولده ، متقلبا في أحضان النعيم من مهده إلى لحده ، لما كانت الدنيا دار ابتلاء واختبار ولما كان إيمان المؤمن اختيارا وترجيحا للإيمان على الكفر ، وإيثارا لمرضاة اللّه ومحابّه على مرضاة نفسه وشهواته ، ولبطلت التكاليف المبنية على الإرادة والاختيار ومحاربة النفس والهوى ، ولما كان الجزاء ثمرة للعمل ، ونتيجة لازمة للكد والتعب ، فعليهم أن يلتزموا هذه السنن ، وأن يعملوا على مقتضاها ، وفي ذلك بلوغ المأمول وإنجاز الموعود.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
قيل : إن الأمر في هذه الآية بالركوع والسجود والعبادة وفعل الخير متوجه إلى الناس جميعا ، إذ إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، غير أن الخطاب فيها خصّ به المؤمنون لمزيد الاعتناء بهم وتشريفهم ، ولأنهم هم الذين ينتفعون بهذا التكليف.
وقيل : إن هذه الأوامر خاصة بالمؤمنين ، كما أنّ الخطاب متوجه إليهم وحدهم. أما الكفار فإنّهم لما أعرضوا عن قبول دين اللّه ، ولم يستجيبوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأبوا من قبل أن يمتثلوا لهذه الأوامر ، أعرض اللّه عنهم ، وصرف خطابه وأوامره إلى أهل طاعته الذين يعرفون حقه ، ويمتثلون أحكامه. أما أولئك الكفار فإنّهم لا ينفع فيها إرشاد ، ولا يرجى منهم قبول ولا امتثال ، فهم جديرون بالترك والإهدار. وهذا المعنى أحسن وأوجه ، وهو سائر حتى مع القول بتكليف الكفار بالفروع ، وهو الذي(1/519)
ص : 520 يناسبه ما ورد في الآية الآتية من اجتباء المخاطبين ، وتسميتهم بالمسلمين ، وإعلاء شأنهم بقبول شهادتهم على الأمم يوم القيامة.
وقد اختلف في المراد بالركوع والسجود في الآية. فقال الحنفية : إن المراد بهما معا الصلاة ، فالأمر بهما أمر بالصلاة ، وإنما عبّر عن الصلاة بهما لأنهما أهم أركانها وأفضلها. وقيل : إنهما كنايتان عن الذلة والخضوع. وقيل : المراد معناهما الشرعي المعروف. وقد أمر بهما لأنّ الناس في أول الإسلام كانوا يصلون تارة بغير ركوع ، وتارة بغير سجود ، فاللّه أمرهم بإتمام الصلاة والإتيان فيها بالركوع والسجود.
وقال الشافعية إنّ الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها. أما السجود فالمراد به سجود التلاوة. والعبادة : هي كل فعل تتجلى فيه الذلة والاستكانة تحت قهر الإله وسلطانه ، وعلى هذا قيل : إن المراد بها التكاليف التي تربط العبد بربه ، فهي أعمّ مما قبلها.
أما فعل الخيرات فهو عام للتكاليف جميعها ، يشمل ما يصلح علاقة العبد بالرب ، وما يصلح علاقات الناس بعضهم مع بعض ، فأنت تجد هذه الأوامر مرتبة ، بدئ فيها بعبادة خاصة : وهي الصلاة ، ثم ثنّي بما هو أعم منها : وهو جميع العبادات ، ثم أتبع ذلك بما هو أعم من الكل : وهو فعل الخيرات الشامل للعبادات وللإحسان في المعاملات ، وبعضهم حمل العبادة على الفرائض ، وفعل الخير على النوافل.
والفلاح : هو الفوز بنيل البغية ، ولا شكّ أن بغية كل عابد سائر على نهج الشريعة إنما هي السعادة الدائمة في الآخرة ، وهناءة العيش في الدنيا ، وقد علمت آنفا ما ينبغي أن يقال في كلمة (لعل) الواردة في كلام اللّه تعالى. ويصحّ أن يراد منها هنا أيضا الرجاء الحقيقي.
ولكن على تقدير صدوره من العباد فيكون المعنى عليه : يا أيها الذين آمنوا صلوا ، وأدوا للّه كل ما تعبدكم به ، وافعلوا كلّ ما كلّفكم مما فيه الخير لكم ولأمتكم حالة كونكم راجين الفلاح ، ومتوقعين الفوز ودرك الرغائب ، فاللّه سبحانه يرشد المؤمنين إلى أنّه ليس من شأن العبد الذليل الذي يشعر قلبه الخشية من اللّه والخوف من جبروته أن يقطع بنتيجة في عمل من الأعمال التي كلّفها ، بل ينبغي أن تكون حاله بعد أن يحسن عمله حالة الرجاء ، وتوقع ما يؤمّل من نتيجة صالحة ، إذ إن العواقب مجهولة ، وقد يكون مقصّرا بعض التقصير في أعماله ، فلم يأت بها على الوجه الذي يحبه اللّه ويرضاه.
ظاهر من الآية أنها قد جمعت أنواع التكاليف ، وأحاطت بفروع الشريعة ، فلم يفلت منها فرض ولا ما دون الفرض ، وظاهر أيضا أنها قصدت إلى الصلاة التي هي(1/520)
ص : 521
عماد الدين ، فأمرت بها مستقلا ، ولم تقتصر على طلبها في عموم العبادات ، ولا شكّ أن ذلك يدلّ على تأكّدها وفرضيتها على الناس جميعا.
غير أن الشافعية قالوا : إنّ الآية آية سجدة ، وأخذوا من الأمر بالسجود فيها سجود التلاوة مطلوب لها كغيرها من بقية آيات السجود ، مستندين في هذا إلى ما يأتي :
1 - إنّ السجود حقيقة في المعنى المعروف : وهو وضع الجبهة على الأرض ، فمتى أمكن حمل اللفظ عليه فلا يصح العدول عنه إلا لموجب ، وهو غير موجود في الآية.
2 - وقالوا : أيضا : قد ورد في السنة ما يؤيّد هذا المعنى ، ويكشف عن المراد بالسجود في الآية ، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في «سننه» عن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال : قلت : يا رسول اللّه أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال : «نعم فمن لم يسجدهما ، فلا يقرأهما» «1».
وأخرج أبو داود وابن ماجه والدار قطني والحاكم عن عمرو بن العاص أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصّل ، وفي الحج سجدتان «2».
وكان يقول بهذا علي ، وعمر ، وابنه عبد اللّه ، وعثمان ، وأبو الدرداء ، وابن عباس في إحدى الروايتين عنه ، وبه أخذ أيضا الإمام أحمد ، واللّيث وابن وهب ، وابن حبيب من المالكية رضي اللّه عنهم جميعا.
وقال أبو حنيفة «3» ، ومالك ، والحسن ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وسفيان الثوري رضي اللّه عنهم : إنّ هذه الآية ليست آية سجدة ، واستدلوا بما يأتي :
1 - إنّ اقتران السجود بالركوع دليل أنّ المراد به سجود الصلاة ، كما في قوله تعالى : وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران : 43] فإذا لم يكن هذا الاقتران موجبا لحمل السجود على سجود الصلاة ، وأنه عبر عن الصلاة بمجموع الأمرين ، فلا أقلّ من أن يكون مرجحا ، لذلك فلا يصح أن يؤخذ من الآية أنّ السجود فيها سجود التلاوة.
2 - ما
روي عن أبي رضي اللّه عنه أنه عدّ السجدات التي سمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعدّ في الحج سجدة واحدة «4».
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (2/ 470) ، كتاب الصلاة ، باب السجدة حديث رقم (578) ، وأبو داود في السنن (1/ 521) ، كتاب الصلاة حديث رقم (1402) ، وأحمد في المسند (4/ 151). [.....]
(2) رواه أبو داود في السنن (1/ 521) ، كتاب الصلاة ، باب تفريع أبواب السجود حديث رقم (401) ، وابن ماجه في السنن (1/ 335) ، 5 - كتاب إقامة الصلاة ، 70 - باب عدد سجدات القرآن حديث رقم (1057).
(3) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1 - 2/ 85).
(4) رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 305).(1/521)
ص : 522
وما روي عن ابن عباس وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أنهما قالا : سجدة التلاوة في الحج هي الأولى ، والثانية سجدة الصلاة.
قالوا : وهذا المروي عن ابن عباس وابن عمر هو تأويل ما روي عن عقبة بن عامر على فرض صحته ، مع أنّ فيه مقالا ، وكذا في حديث عمرو بن العاص ، وإليك ما قيل فيهما :
أما حديث عقبة فقال الترمذي وأبو داود وغيرهما : إن إسناده ليس بالقوي ، قالوا : لأنّ فيه عبد اللّه بن لهيعة ، وقال الحاكم : إن عبد اللّه بن لهيعة أحد الأئمة ، وإنما نقم اختلاطه في آخر عمره.
وأما حديث عمرو بن العاص فقيل فيه : إنّه ضعيف أيضا ، لأنّ في سنده عبد اللّه بن منين الذي قال فيه عبد الحق : إنّه لا يحتج به ، وقال ابن القطان : إنه مجهول ، لا يعرف له حال. وقالا أيضا : إنّ الراوي عن ابن منين هو الحارث بن سعيد العتقي المصري وهو لا يعرف أيضا ا ه.
قال اللّه تعالى : وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) الجهاد : هو بذل الطاقة ، واستفراغ الوسع في مدافعة العدو ، وهو قسمان عظيمان ، تحت كل منهما أنواع ، فالقسم الأول جهاد العدو الباطن ، وتحته نوعان :
1 - جهاد النفس.
2 - جهاد الشيطان.
والقسم الثاني : جهاد العدو الظاهر ، وتحته ثلاثة أنواع :
1 - جهاد الكفار.
2 - جهاد المنافقين.
3 - جهاد أهل الظلم والبدع والضلالات الاعتقادية والعملية.
فالجهاد في القسم الأول يكون بمخالفة هوى النفس ، ومدافعة وساوس الشيطان. وهذا هو أصل الجهاد ، وأشدّ أنواعه ، وهو الجهاد الأكبر ، كما
روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لما عاد من غزوة تبوك قال : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «1»
ولهذا كان فرض عين على كل فرد ، لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا ، وفرضيته ثابتة من مبدأ الإسلام.
__________
(1) حديث ضعيف ، انظر الأسرار المرفوعة للملا علي القاري حديث رقم (211).(1/522)
ص : 523
وكذلك جهاد أهل الظلم والبدع ، فهو فريضة على كل مكلف على حسب استعداده ، وبقدر استطاعته ، كما
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» «1».
أما جهاد الكفار والمنافقين ، فإنّه يكون بالحجة والبيان ، كما يكون جهاد الكفار أيضا بالسيف والسنان. فجهادهم بالحجة واجب أيضا من مبدأ البعثة ، كما في الأنواع السابقة ، يشهد لذلك قوله تعالى في سورة الفرقان : وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) [الفرقان : 51 ، 52] فالمجاهدة بالقرآن لا شك أنها من نوع الجهاد بالحجة والبرهان ، وهذا النوع فرض كفاية على الأمة ، يتصدى له أهل القدرة عليه من العلماء الواقفين على أسرار الشريعة ، العارفين بمسالك القول وطرائق الإقناع.
أما الجهاد بالسيف وغيره من آلات القتال فهذا هو الذي لم يشرع إلا بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، وهو فرض كفاية على المسلمين ، يجزئ فيه أن يقوم به بعضهم متى كانوا قادرين على أن يصدوا غارات العدو ، وأن يدفعوه عن بقية المسلمين وبلادهم ، وإلا فعلى حسب ما يرى الإمام ، حتى لو أعلن النفير العام كان فرض عين على كلّ واحد من القادرين على القتال.
وبعد فقد اختلف العلماء في المراد بالجهاد في قوله تعالى : وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فعن ابن عباس أنّ المراد به قتال الكفار والمشركين ، وهو مرويّ عن الضحاك أيضا. وعن عبد اللّه بن المبارك : أنه مخالفة النفس والهوى ، والأولى أن يحمل على المعنى العام الذي يشمل هذا وذاك.
وقد علمت فيما سبق أنّ الراجح في سورة الحج أنها مدنية ما عدا آيات ليست هذه الآية منها ، فلا يكون حينئذ مانع من حمل الجهاد على ما يشمل قتال الكفار وغيره ، أما على اعتبار أنها مكية فيتعين تفسير الجهاد بجهاد النفس والشيطان على ما هو معروف ، إذ إن القتال لم يفرض إلا بعد الهجرة.
والجهاد في اللّه معناه الجهاد في سبيله ، ومن أجل دينه ، وحقّ الجهاد في اللّه أن يكون بقوة وعزيمة صادقة ، وأن يكون خالصا لإعلاء دين اللّه وتأييد شريعته ، فلا ينبغي للمسلم أن يخشى في الانتصار للحق لومة لائم ، كما لا يجوز له في جهاد الكفار أن يقاتل من أجل غنيمة أو غيرها من الشهوات الدنيوية.
وعلى تفسير حق الجهاد بذلك تكون الآية محكمة غير منسوخة بقوله تعالى :
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 69) ، 1 - كتاب الإيمان ، 2 - باب كون النهي عن المنكر حديث رقم (49).(1/523)
ص : 524
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ كما يقول مجاهد والكلبي ، فإنّهما يقولان : إنّ حقّ الجهاد غاية لا يستطيعها عامّة المكلفين ، فإنّها قد تتجاوز الوسع وحد الاستطاعة ، ولكنك قد علمت الصواب في ذلك.
وإضافة (حق) إلى (جهاد) في قوله تعالى : حَقَّ جِهادِهِ من إضافة الصفة للموصوف : كما يقال : حق يقين ، وشبيه به قولهم فلان حق عالم ، وهو جد ذكي ، أما إضافة جهاد للضمير في قوله : جِهادِهِ فهي لأدنى ملابسة. وذلك لأنّ هذا الجهاد لما كان مطلوبا للّه ومن أجل دينه كان خاصّا به سبحانه وتعالى ، فصحّ أن تقع فيه هذه الإضافة التي تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه وأصله : وجاهدوا في اللّه حق جهادكم فيه ، فحذف المضاف إليه ، والجار للضمير فاتصل الضمير بالمضاف.
هُوَ اجْتَباكُمْ الاجتباء : الاصطفاء والاختيار. وهذه الجملة واقعة في مقام التعليل للأمر بالجهاد ، فاللّه وفّق المسلمين لقبول الإسلام ، واختارهم لدينه ، وشرّفهم بأن يكونوا خدام شريعته ، يقيمونها ، ويحفظونها ممن يريدها بتحريف أو عدوان ، فجدير بمن اختارهم اللّه لهذا الأمر العظيم أن يبذلوا كل ما عندهم من استطاعة في حماية دينه ، وألا يهملوا رعايته ، أو يهنوا في حراسته ، ولا شكّ أنّ الحكم بأنه سبحانه قد اجتبى المسلمين لذلك ، من خير ما يبعثهم على أن يجاهدوا في اللّه حق الجهاد.
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ الحرج : الضيق كما فسره بذلك ابن عباس ومجاهد.
أكد اللّه بهذا وجوب الجهاد على الناس ، ولزوم محافظتهم على الدين الذي اختارهم لحمايته ، فإنّه نفى أن يكون في أحكامه شيء من العسر والشدة التي تضيق بها صدورهم ، ولا تتسع لها قدرهم ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون هناك مانع يمنعهم من مراعاتها ، كما لا يكون لهم عذر إذا تهاونوا فيها ، ولم يقوموا بخدمتها حق القيام ، ما دام قد تحقّق المقتضى للجهاد ، وهو اجتباؤهم ، وانتفى المانع ، وهو الحرج في التكاليف ، وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا بين المشقة في الأحكام الشرعية وبين الحرج والعسر فيها ، فإنّ الأولى حاصلة ، قلما تخلو عنها التكاليف ، فإنّ التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة.
أما المشقة الزائدة التي تصل إلى حد الحرج فهي المرفوعة عن المكلفين فقد فرض اللّه الصلاة على المكلف في اليوم خمس مرات ، وأوجب عليه أن يؤديها من قيام ، وهذا شيء لا حرج فيه ، ثم هو إذا لم يستطع الصلاة من قيام فله رخصة أن يصلي من قعود ، أو بالإيماء. وكذلك شريعة الصيام لا تصل فيها المشقة إلى درجة العسر ، إذ إن المفروض على الناس صيام شهر في كل عام ، ومع ذلك فقد رخّص اللّه(1/524)
ص : 525
للمكلّف في حالات تعظم فيها المشقة عليه أن يفطر ، فأباح الفطر لكلّ من المسافر والمريض والهرم والحامل والمرضع ، وهكذا تجد جميع التكاليف في ابتدائها ودوامها مراعى فيها التخفيف والتيسير على العباد ، كما يشهد بذلك قوله تعالى : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف : 157] وقوله تعالى : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة : 185] وغير ذلك في هذا المعنى كثير.
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ الملة والدين والشريعة شيء واحد ، وكلمة مِلَّةَ منصوبة على المصدرية بفعل يدلّ عليه قوله تعالى : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فإنه يفيد معنى التوسعة ، أي وسع عليكم في دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ، فحذف المصدر المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويصحّ أن تكون منصوبة على الاختصاص بفعل تقديره : أعني ملة أبيكم إبراهيم ، وقيل : إنها منصوبة على الإغراء أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وظاهر أنه على الإعراب الأول لا يكون في الكلام دلالة على أنّ شريعتنا هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وحينئذ فلا مانع من تفسير الملة بالأحكام الشرعية كلها الاعتقادية والعملية ، أما الإعرابان الآخران فإنّهما يدلان على اتحاد الشريعتين ، وعلى هذا ينبغي قصر الملة على الأحكام الأصلية المتعلقة بالاعتقاد ، إذ لا شك أنها واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، بل هي واحدة في جميع الشرائع لم تتغير بتغير الأزمان والأقوام ، اقرأ قوله تعالى : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى : 13] وقوله تعالى : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [الأنبياء : 25] وقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «الأنبياء أولاد علّات» «1»
يريد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة ، وعلى هذا يكون تخصيص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالذكر ليقويّ تمسك المؤمنين من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بشريعته إذ إنّ أكثرهم من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فهم يحبونه حب الأبناء للآباء ، ولا شكّ أنّ هذا الحب يقوّي فيهم روح الاستمساك بشريعة نبيهم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، إذ كانت هي شريعة أبيهم إبراهيم من قبل. وقد تبين لك من هذا معنى أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للمؤمنين من هذه الأمة.
ويصحّ أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام أب لنبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم السعيدة في الآخرة.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1837) ، 43 - كتاب الفضائل ، 40 - باب فضائل عيسى حديث رقم (143/ 2365) ، والبخاري في الصحيح (4/ 171) ، 60 - كتاب الأنبياء ، 48 - باب (و اذكر في الكتاب) حديث رقم (3442).(1/525)
ص : 526
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وفي هذا اختلف العلماء في مرجع الضمير من قوله : هُوَ سَمَّاكُمُ فعن ابن زيد والحسن : أن الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، سمانا المسلمين قبل نزول القرآن ، وذلك ظاهر ، وسمانا المسلمين في القرآن لأنه تسبب في هذه التسمية بقوله : رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة : 128] فلما استجاب اللّه دعاءه ، وجعلنا أمة مسلمة من ذريته ، كان إبراهيم كأنّه سمانا مسلمين.
وذهب ابن عباس ومجاهد والضحاك إلى أن المسمّي هو اللّه جل شأنه ، ويؤيد هذا الرأي قراءة أبي بن كعب (اللّه سماكم المسلمين) وابقاء الإسناد على ظاهره خير من التأويل فيه ، وجعله مستعملا في حقيقته ومجازه.
واللام في قوله تعالى : لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ إما لام العاقبة ، وهي متعلقة بسماكم على الوجهين في ضميره ، وشهادة الرسول على أمته معناها الإخبار بأنّه قد بلّغهم رسالة ربه ، وإما لام التعليل.
وعلى في قوله : عَلَيْكُمْ بمعنى اللام ، على حد قوله تعالى : وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة : 3] ومعنى شهادة الرسول لهم أن يزكيهم عند اللّه يوم القيامة ، ويشهد بعدالتهم إذا شهدوا على الأمم السابقين ويكون التعبير بعلى لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمن.
وقد تبين لك أنّه لا بد على هذين الوجهين من التأويل في قوله تعالى : لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ إما في (اللام) وإما في كلمة (على) والسبب في ذلك هو أنه لم يظهر للقائلين بهما الوجه في أن يعلل تعديل هذه الأمة وتسميتها مسلمة بشهادة الرسول عليها ، إذ المستقيم إنما هو تعليل ذلك بقبول شهادتها على غيرها.
والحق أنه لا حاجة لذلك التأويل ، ولا مانع من بقاء كل من : على واللام على أصل معناه ، ويكون قول شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على الأمة علة في الحكم بعدالة ذلك الحكم الذي دلّت عليه تسميته مسلما ، إذ لا شك أنه صلّى الله عليه وسلّم مسلم للّه ، وأنه سيد المسلمين ، فهو داخل في قوله تعالى : هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ دخولا أوليا ، ويكون قبول الشهادة من أمته على الأمم الأخرى علة في تسميتها مسلمة كذلك. ويكون في الكلام تفصيل في الشهادة بعد إجمال في التسمية بالمسلمين ، وهذا وجه وجيه لا خفاء فيه.
قد يقال : إنه بعد هذا كله لا يظهر التعليل إلا إذا كانت التسمية بالمسلمين واقعة من اللّه تعالى ، كما هو أحد الرأيين ، فإنّه واضح جدا أن يقال : سماهم اللّه مسلمين هذه التسمية الدالّة على حكمه بعدالتهم ، ليقبل شهادتهم على غيرهم ، أما إذا كانت(1/526)
ص : 527
التسمية من إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما هو الرأي الآخر ، فلا يظهر ذلك التعليل ، إذ يكون معنى الكلام عليه : سماهم إبراهيم هذه التسمية التي تضمّنت حكمه بعدالتهم ، ليقبل اللّه شهادتهم على الناس يوم القيامة وفيه ما ترى.
والجواب : أنّ تسمية سيدنا إبراهيم إياهم بالمسلمين قد أقرّها اللّه تعالى ، فكأنّ الحكم بعدالتهم صادر منه جل شأنه ، فيكون اللّه هو الذي عدّلهم ليقبل شهادتهم ، وهذا الجواب مستقيم ولا غبار عليه.
وبعد ... فشهادة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وشهادة أمته يوم القيامة يثبت بها شرف عظيم له عليه الصلاة والسلام ولهذه الأمة ، فإنّ اللّه تعالى يصدّق قوله يوم القيامة على أمته في دعوى تبليغه إياها ، لكن سائر المرسلين مع عصمتهم سوف يحتاجون لإثبات ما يدّعون على أقوامهم إلى من يشهد لهم بين يدي اللّه عزّ وجلّ.
وكذلك هذه الأمة شرّفها اللّه بأن جعلها أهلا للشهادة على سائر الأمم ، فهي تشهد على الناس جميعا ، ولا يشهد عليها أحد منهم ، إنما الذي يشهد عليها هو نبيّها الذي هو أشرف الخلق أجمعين. وفي هذا فضل كبير.
وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال للأنبياء : هل بلغتم أممكم ، فيقولون : نعم بلغناهم ، فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنّهم قد بلغوا ، فتقول الأمم لهم : من أين عرفتم ، فيقولون : عرفنا ذلك بإخبار اللّه تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ قد سبق لك معنى إقامة الصلاة. أما الاعتصام فمعناه اتخاذ العصمة ، وهي ما يعصم الشيء ويمنعه مما يضره. فالاعتصام باللّه هو الثقة به ، والالتجاء إليه ، والاستعانة بقوته العظمى على دفع كلّ مكروه ، وقيل : إن الاعتصام باللّه هو الاستمساك بدينه والتزام شريعته.
وهذه الجملة مرتبة بالفاء على ما قبلها ، من اجتباء المخاطبين ، وتسميتهم مسلمين ، وتشريفهم بقبول شهادتهم على الأمم.
وقد ختم اللّه الأوامر في هاتين الآيتين بالأمر بإقام الصلاة مع سبق الأمر بها في قوله تعالى : ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا على ما علمت ، ثم عطف عليه الأمر بإيتاء الزكاة لما تقدم لك كثيرا من أنهما أصل الخير وأسّ الفلاح ، ثم أتبعهما الأمر بالاعتصام به سبحانه وتعالى ، فإن هذا الاعتصام هو مبعث القوة ، وهو سبيل الفوز ، فمن استنصر باللّه نصره ، ومن لاذ بحماه أمّنه ، ومن استعان بقوته يسّر له أمره ، وأمكنه مما يريد.
هُوَ المولى يطلق على معان : منها المالك ، والناصر ، والمعتق ، والجار ، وابن العم ، والحليف. وأولاها الأول ، وفي هذه الجملة هُوَ مَوْلاكُمْ عدة جميلة ، (1/527)
ص : 528 تشدّ العزم ، وتقوّي القلب ، وتوجب الاطمئنان وحسن الاعتماد على اللّه ، وهي في منزلة العلة لما قبلها من الأمر بالاعتصام ، فلذلك فصلت عنه.
والمعنى : ثقوا باللّه ، والجؤوا إليه ، واحتموا بحمايته ، لأنّه هو مالككم وخالقكم ، يغار عليكم ، ويحفظكم ، ويدفع المكروه عنكم.
فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ النصير العظيم النصرة ، الكامل المعونة.
والمخصوص بالمدح ضمير يرجع إلى اللّه تعالى.(1/528)
ص : 529
من سورة النور
قال اللّه تعالى : سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
وَفَرَضْناها الفرض : قطع الشيء الصلب ، والتأثير فيه ، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه ، أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا.
آياتٍ بَيِّناتٍ ترد الآية في القرآن بمعنى الكلام المتصل إلى مقطعه الاصطلاحي وبمعنى العلامة ، وفي هذه السورة آياتٍ بَيِّناتٍ واضحة الدلالة على أحكامها. مثل الآيات التي نيطت بها أحكام الزنى ، والقذف ، واللعان ، والحلف على ترك الخير ، والاستئذان ، وغض البصر ، وإبداء الزينة للمحارم وغير المحارم ، وإنكاح الأيامى ، واستعفاف من لم يجد نكاحا ، ومكاتبة الأرقاء ، وإكراه الفتيات على البغاء ، وطاعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، والسلام على المؤمنين. إلى كثير من الأحكام التي ذكرت في هذه السورة.
وفي هذه السورة أيضا طائفة من الآيات الكونية ، والظواهر الطبيعية ، فيها دلالات واضحة ، وحجج قاطعة ، على توحيد اللّه وكمال قدرته : مثل النور والظلمة ، والتأليف بين السحاب ، وإنزال المطر من خلاله ، ووميض البرق ولمعانه ، وتقليب الليل والنهار ، واختلاف الحيوانات في أشكالها وهيئاتها وطبائعها ، مع اتحاد المادة التي منها خلقت ، إلى غير ذلك من حجج التوحيد وشواهد القدرة.
وإذا علمت أنّ إطلاق الآية على كلّ من المعنيين - الكلام والعلامة - حقيقي علمت أنّ كلمة آية مشترك لفظي ، فمن أجاز استعمال المشترك في معنييه لا مانع عنده من إرادة المعنيين جميعا في قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ومن أبى استعمال المشترك في معنييه يحتّم إرادة أحد المعنيين لا غير ، فيحتمل أن يكون المراد بالآيات الآيات التي نيطت بها الأحكام في هذه السورة ، ومعنى كونها بينات أنها واضحة الدلالة على ما نيط بها من الأحكام ، ويحتمل أن يكون المراد بالآيات ما في هذه السورة من دلائل التوحيد ، وشواهد القدرة ، ومعنى كونها بينات أن دلالتها على ما ذكر واضحة ظاهرة وعلى هذا الاحتمال يكون قوله تعالى : وَفَرَضْناها إشارة إلى الأحكام والحدود المبينة في السورة. وقوله تعالى : وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إشارة إلى آيات التوحيد ، ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإنّ معنى التذكر أن يعاد إلى الذاكرة ما كان معلوما ، والأحكام التي في هذه السورة لم تكن معلومة لهم(1/529)
ص : 530
حتى يتذكروها ، ولكن دلائل التوحيد وشواهده معروفة للناس ، ولكنهم لم يفطنوا لها ، فهم ليسوا في حاجة إلى أكثر من أن يلتفتوا إليها فيتذكروها بعد النسيان.
والمعنى : هذه سورة أنزلناها ، وفرضنا ما فيها من أحكام ، وأنزلنا فيها دلائل وعلامات على توحيد اللّه وكمال قدرته ، لتتذكروها ، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته جلّ شأنه.
ومعلوم أن إنزال السورة كلها يستلزم إنزال هذه الآيات منها ، فيكون التكرار في قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لكمال العناية بشأنها ، كما هي الحال في ذكر الخاصّ بعد العام.
قال اللّه تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزنى مقصور في اللغة الفصحى ، وهي لغة الحجازيين. وقد يمدّ في لغة أهل نجد.
والزنى من الرجل وطء المرأة في قبل من غير ملك ولا شبهة ملك ، والزنى من المرأة تمكينها الرجل أن يزني بها.
والجلد بفتح الجيم : ضرب الجلد بكسرها. وقد جاء صوغ فعل مفتوح العين من أسماء الأعيان يقال : رأسه ، وظهره ، وبطنه ، وفأده ، وحسه : إذا أصاب رأسه وظهره وبطنه وفؤاده وحسه.
وجوّز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد مثل : عصاه ضربه بالعصا ، وسافه ضربه بالسيف ، ورمحه أي طعنه بالرمح.
والرأفة : الشفقة والعطف.
فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته وإقامة حدّه الذي شرعه.
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما شهد كسمع شهودا : حضر.
طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنّث من الطواف ، وهو الدوران ، والإحاطة ، فهي إما صفة مفرد مؤنث أي نفس طائفة ، فتطلق حينئذ على الرجل الواحد. وإما صفة جماعة ، أي جماعة طائفة ، فتطلق على من فوق الواحد.
ويكاد اللغويون يجمعون على أنه يقال للواحد طائفة كما يقال لمن فوقه طائفة.
وفي المراد بها هنا أقوال سنبينها فيما بعد.
وقوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا إلخ شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها في قوله جل شأنه : وَفَرَضْناها والرفع في قوله جلّ شأنه الزَّانِيَةُ عند سيبويه والخليل على أنه مبتدأ ، خبره محذوف ، والكلام على حذف مضاف ، والتقدير : مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني ، ويفهم من كلام سيبويه في «الكتاب» أن النهج المألوف(1/530)
ص : 531
في كلام العرب - إذا أرادوا بيان معنى وتفصيله اعتناء بشأنه - أن يذكروا قبله ما هو عنوان وترجمة له ، وهذا لا يكون إلا بأن يبنى الكلام على جملتين.
وقد يقال : ما الحكمة في أن بدأ اللّه في الزنى بالمرأة وفي السرقة بالرجل؟
والجواب : إن الزنى من المرأة أقبح ، فإنّه يترتب عليه تلطيخ فراش الرجل ، وفساد الأنساب ، وعار على العشيرة أشد وألزم ، والفضيحة بالحمل منه أظهر وأدوم ، فلهذا كان تقديمها على الرجل أهم.
وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال ، وهم عليها أجرأ من النساء وأجلد وأخطر ، فقدّموا عليهنّ لذلك.
حدّ الزنى
كان حد الزنى في أول الإسلام ما قصّه اللّه علينا في سورة النساء من قوله جلّ شأنه : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) [النساء : 15 ، 16] فكانت عقوبة المرأة أن تحبس ، وعقوبة الرجل أن يعيّر ويؤذى بالقول ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي «1» عن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه قال : كان نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا نزل عليه كرب لذلك ، وتربّد وجهه ، فأنزل اللّه تعالى عليه ذات يوم ، فلقي كذلك ، فلمّا سرّي عنه قال : «خذوا عني ، خذوا عني ، فقد جعل اللّه لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم».
معنى تربّد : تغيّر.
وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : قال اللّه تعالى : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى قوله : سَبِيلًا فذكر الرجل بعد المرأة ، ثم جمعهما فقال : وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فنسخ اللّه ذلك بآية الجلد فقال : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وتقدّم لك في تفسير هاتين الآيتين ما يغني عن الإعادة ، فارجع إليه في سورة النساء.
ظاهر قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أنّ أولياء الأمر من
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 316) ، 29 - كتاب الحدود ، 3 - باب حد الزنا ، حديث رقم (13/ 1690) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 32) ، كتاب الحدود ، باب الرجم حديث رقم (1434) ، وأبو داود في السنن (4/ 135) ، كتاب الحدود ، باب في الرجم حديث رقم (4415).(1/531)
ص : 532
الحكام مكلّفون أن يجلدوا من زنى من ذكر أو أنثى مئة جلدة ، سواء المحصن منهم وغيره. لكنّ السنة القطعية فرّقت في الحد بين المحصن وغير المحصن. وأجمع الصحابة رضي اللّه عنهم ومن تقدّم من السلف وعلماء الأمة ، وأئمة المسلمين على أن من زنى وهو محصن فإنّه يرجم حتى يموت ، ولا نعلم خلافا في ذلك لأحد إلا بعض المبتدعة من الخوارج ، فإنّهم قالوا : إن الرجم غير مشروع ، وإنه لا فرق في الحدّ بين المحصن وغير المحصن ، وسنبيّن فساد مذهبهم إن شاء اللّه.
والقائلون بأن الرجم مشروع قد اختلفوا فيه ، أهو تمام ما على المحصن من العذاب ، أم هو والجلد قبله حد المحصن.
فإلى الأوّل ذهب جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وإلى الثاني ذهب علي رضي اللّه عنه وإسحاق وأهل الظاهر ، وهو رواية عن أحمد رحمه اللّه.
فعلى رأي الجمهور يكون المراد بالزانية في الآية الكريمة البكرين ، وتكون الآية مخصوصة بالسنة القطعية ، أو بالآية المنسوخة التلاوة «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه» على كلام فيها.
وعلى رأي أهل الظاهر ، تكون الآية باقية على عمومها ، ويكون الرجم حكما زائدا في حقّ المحصن ثبت بالسنة.
والظاهر أيضا من قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أنّه يشمل الرقيق وغيره ، فيكون الحدّ في الجميع واحدا ، لكن قوله تعالى : فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أخرج الإماء من هذا الحكم ، فإنّ الآية نزلت فيهن ، وكذلك أخرج العبيد ، لأنّه لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط.
وقال بعض أهل الظاهر عموم قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة ، إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة ، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس ، يعني وهم لا يقولون به.
ومن الظاهرية من قال : الأمة إذا تزوجت فحدّها في الزنى خمسون جلدة لقوله تعالى : فَإِذا أُحْصِنَّ إلخ. فإذا لم تتزوج فحدّها مئة جلدة للعموم في كلمة الزَّانِيَةُ.
وجمهور الفقهاء على رد هذين الرأيين بما سلف لك هنا وفي سورة النساء.
وكذلك عموم قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ يشمل المسلم والكافر. غير أن الحربي لما يلتزم أحكامنا ، ولم تنله يدنا كان خارجا من هذا الحكم ، وبقي العموم فيمن عداه من المسلمين وأهل الذمة. وبهذا قال جمهور الفقهاء.
وروي عن مالك رحمه اللّه أن الذمي لا يجلد إذا زنى ، قيل : وهو مبنيّ على أنّ الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة.(1/532)
ص : 533 وظاهر الآية أيضا أنّ مئة الجلدة هي تمام حد البكر ، فإنّ قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ قصد به بيان حكم الزنى ، فكان المذكور تمام حكمه ، لأنّ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر ، فيفهم منه أنّ حكم الزانية والزاني ليس إلا الجلد ، فمن زاد على الجلد تغريب عام عمل بالسنة ، وجعلها حكما على ظاهر الكتاب.
ويرى الفقهاء جميعا ما عدا أهل الظاهر أنّ حد الرقيق مطلقا نصف حد الحر ، لا فرق بين الذكر والأنثى ، ولا بين الثيب والبكر.
ويرى بعض أهل الظاهر أنّ التنصيف خاصّ بالأمة ، أما العبد فهو كالحر البكر في الحد.
ويرى بعض آخر منهم أنّ التنصيف خاص بالأمة المتزوجة. أمّا الأمة غير المتزوجة والعبد فحدّهما حدّ الحر البكر.
أدلة الخوارج والرد عليها
استدل الخوارج على أنّ الرجم غير مشروع بثلاثة أدلة :
الأول : أن اللّه تعالى قال في حق الإماء : فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء : 25] فجعل حد الإماء نصف حد المحصنات من الحرائر. والرجم لا يتنصّف ، فلا يصحّ أن يكون حدّا للمحصنات من الحرائر.
والثاني : أن اللّه تعالى فصّل أحكام الزنى وأطنب فيها بما لم يطنب في غيرها ، والرجم أقصى العقوبات وأشدها ، فلو كان مشروعا كان أولى بالذكر.
والثالث : أن قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ يقتضي وجوب الجلد وعمومه لكل الزناة. وإيجاب الرجم على بعضهم يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وهو غير جائز على مذهبهم.
وأجاب الجمهور على الأول بأن المراد من المحصنات في قوله تعالى : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ الحرائر. والحرائر نوعان : ثيبات وأبكار ، وحد النوعين على التوزيع الرجم وجلد مئة ، ولما كان الرجم لا يتنصّف كان العذاب مخصوصا بغير الرجم للدليل العقلي ، وكان الرجم غير مشروع في حق الأرقاء. وتقدّم لك شيء من هذا في تفسير قوله تعالى : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ في سورة النساء.
وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدّد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات ، وكفى بالسنة ووظيفتها البيان والتكميل - بيانا وتفصيلا.(1/533)
ص : 534
وعن الثالث بأنّ تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا ، لأنّ اللفظ العام في القرآن الكريم وإن كان قطعيا في متنه ظني في دلالته ، فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون ، وإن سلمنا أنّ خبر الآحاد لا يخصص القرآن فلا نسلم أنّ الرجم ثبت بطريق الآحاد ، بل هو ثابت بالتواتر. رواه أبو بكر وعمر وعلي رضي اللّه عنهم وجابر وأبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين فهو على الأقل متواتر المعنى كشجاعة علي وجود حاتم.
والآحاد إنما هي في تفاصيل صوره وخصوصياته. والخوارج كسائر المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنى كالمتواتر لفظا إلا أن انحرافهم عن الصحابة ، وتركهم التردد إلى علماء المسلمين والرواة منهم أوقعهم في جهالات كثيرة.
ولقد عابوا على عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه القول بالرجم ، وقالوا : ليس في كتاب اللّه تعالى فألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا : ذلك من فعله صلّى اللّه عليه وسلّم وفعل المسلمين. فقال : وهذا أيضا كذلك.
وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ألهم أمر هؤلاء الخوارج ، فقد روي عن ابن عباس أنّه قال : سمعت عمر رضي اللّه عنه يخطب ويقول : إن اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وو عيناها ، ورجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ورجمنا بعده ، وأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب اللّه تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه تعالى في كتابه ، فإنّ الرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء ، قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف ، واللّه لو لا أن يقول الناس زاد في كتاب اللّه تعالى لكتبتها. أخرجه الستة «1».
وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال : قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب اللّه تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه تعالى ، وقد قرأنا الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، فرجم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ورجمنا بعده.
دليل الظاهرية والرد عليهم
استدل أهل الظاهر على وجوب الجلد والرجم في حد المحصن بالعموم في الآية مع ما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «و الثيب بالثيب جلد مئة ورمي بالحجارة»
وفي رواية غيره «و رجم بالحجارة».
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1317) ، 29 - كتاب الحدود ، 4 - باب رجم الثيب حديث رقم (15/ 1691) ، والبخاري في الصحيح (8/ 32) ، 87 - كتاب الحدود ، 16 - باب الاعتراف حديث رقم (6829) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 28) ، كتاب الحدود ، باب في تحقيق الرجم حديث رقم (1431) ، وابن ماجه في السنن (2/ 853) ، 20 - كتاب الحدود ، 9 - باب الرجم حديث رقم (2553).(1/534)
ص : 535
وما
رواه البخاري وغيره عن علي كرم اللّه وجهه من قوله حين جلد شراحة ثم رجمها : جلدتها بكتاب اللّه تعالى ورجمتها بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأجاب الجمهور بأن الآية مخصوصة وخبر أبي داود متروك العمل بما
رواه الستة «1» عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي اللّه عنهما أن أعرابيا أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول اللّه أنشدك باللّه إلا قضيت لي بكتاب اللّه تعالى ، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه : نعم فاقض بيننا بكتاب اللّه تعالى وائذن لي.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «قل».
فقال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أنّ على ابني الرجم فافتديت منه بمئة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني جلد مئة وتغريب عام ، وإن على امرأة هذا الرجم. فقال : «و الذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللّه تعالى ، الوليدة والغنم ردّ عليك ، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام ، واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها» ، فغدا عليها فاعترفت فأمر بها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فرجمت. فقد دل هذا الحديث على أنّ الرجم هو تمام الحد على المحصن ، ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وإنّ قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم ، وكذا قصة الغامدية.
وقد تكرر الرجم في زمانه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يرو أحد أنه جمع بينه وبين الجلد ، فقطعنا بأنّ حد المحصن لم يكن إلا الرجم.
وأما جلد علي كرم اللّه وجهه شراحة ، ثم رجمه إياها فهو رأي له لا يقاوم ما ذكر من القطع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وكذلك لا يقاوم إجماع غيره من الصحابة رضوان اللّه عنهم. ولعل عمله هذا محمول على مثل ما رواه أبو داود عن جابر رضي اللّه عنه قال : أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم برجل زنى فجلد الحد ، ثم أخبر أنّه محصن فأمر به فرجم.
وأيضا فإنّ المعنى المعقول يأبى اجتماع الجلد مع الرجم ، لأن الجلد حينئذ يعرى عن المقصود الذي شرع الحد لأجله ، وهو الانزجار أو قصده إذ كان القتل لا حقا له.
وللشافعية قاعدة في مثل هذا وهي أن الفعل إذا كان له جهتا عموم وخصوص ،
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 43) ، 87 - كتاب الحدود ، 33 - باب هل يأمر الإمام حديث رقم (6859) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 3) ، كتاب الحدود ، باب الرجم حديث رقم (1433) ، وأبو داود في السنن (4/ 146) ، كتاب الحدود ، باب المرأة حديث رقم (4445) ، والنسائي في السنن (7 - 8/ 622) ، كتاب القضاة حديث رقم (5412) ، وابن ماجه في السنن (2/ 852) ، 20 - كتاب الحدود ، 7 - باب حد الزنى حديث رقم (2549).(1/535)
ص : 536
وكان لكل من جهتيه حكم فإنّه إذا أوجب أعظم الأمرين بجهة خصوصه لا يوجب أدونهما بجهة عمومه : مثاله خروج المني من القبل لمّا أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوص كونه خروج مني لم يوجب أدونهما وهو الوضوء بعموم كونه خارجا ، كذلك زنى المحصن لما أوجب أعظم الحدين وهو الرجم بخصوص كونه زنى محصن لم يوجب أدونهما وهو الجلد بعموم كونه زنى.
أقوال الفقهاء في النفي
علمت أن الحنفية «1» يقولون : إنّ النفي ليس من الحد في شي ء ، وإنه مفوّض إلى رأي الإمام ، وحجتهم في ذلك ظاهر الآية الكريمة ، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مئة جلدة ، فلو كان النفي مشروعا لكان ذلك نسخا للكتاب ، وجميع ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في النفي لم يخرج عن كونه من أخبار الآحاد ، وأخبار الآحاد لا تقوى على نسخ الكتاب ، ولو كان النفي حدّا مع الجلد لكان من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم توقيف للصحابة ، لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أنّ الجلد هو جميع الحد ، ولوجب أن يكون وروده في وزن ورود نقل الآية وشهرتها. فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة ، بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد.
وقد روى الستة «2» غير النسائي عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي اللّه عنهما قالا : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال : «إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير».
قال مالك : الضفير الحبل ، وفي رواية : «فليجلدها ولا تثريب عليها»
فظاهر الحديث أنّ الجلد هو تمام الحد ، ولو كان النفي من الحد لذكره النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه غرّب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر ، فلحق بهر قل فقال عمر : لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنى.
وروي عن علي كرّم اللّه وجهه أنه قال في البكرين إذا زنيا : إنهما يجلدان ولا ينفيان ، وإنّ نفيهما من الفتنة.
فإذا كانت الأخبار المثبتة للنفي معارضة بما سمعت ، وهي بعد لم تخرج عن كونها أخبار آحاد ، فليس بجائز أن نزيد في حكم الآية بهذه الأخبار ، لأنّه يوجب
__________
(1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1 - 2/ 386).
(2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 328) ، 29 - كتاب الحدود ، 6 - باب رجم اليهود حديث رقم (20/ 1703) ، والبخاري في الصحيح (8/ 37) ، 87 - كتاب الحدود ، 21 - باب إذا زنت الأمة حديث رقم (6839) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 30) ، كتاب الحدود ، باب الرجم حديث رقم (1433) ، وأبو داود في السنن (4/ 155) ، كتاب الحدود ، باب في الأمة تزني حديث رقم (4469) ، وابن ماجه في السنن (2/ 857) ، 20 - كتاب الحدود ، 14 - باب إقامة الحدود حديث رقم (2565).(1/536)
ص : 537
النسخ على ما سمعت ، لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ في الآية ، ولا يدفع حكم الأخبار ، وذلك بإبقاء الآية على حكمها ، وأن الجلد هو تمام الحد ، وجعل النفي على وجه التعزيز ، ويكون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد رأى في ذلك الوقت نفي البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية ، فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد ، كما أمر بشق روايا الخمر ، وكسر الأواني ، لأنّه أبلغ في الزجر ، وأحرى بقطع العادة.
والقائلون بأن النفي من تمام الحد احتجوا بحديث عبادة بن الصامت وقد تقدم ، وفيه تنصيص على أن النفي من الحد ، وقد ورد مثله في قصة العسيف ، وتكرّر ذكر النفي فيها على أنّه من الحد ، ولا مانع من الزيادة على حكم الآية بخبر الآحاد.
على أنّه ليس ذلك زيادة في حكم الآية ، فإنّ إيجاب الجلد المفهوم من الآية مشترك بين إيجاب الجلد مع التغريب ، وإيجابه مع نفي التغريب ، ولا إشعار في الآية بأحد القسمين ، إلا أن عدم التغريب للبراءة الأصلية ، فإيجابه بخبر الواحد لا يدفع حكم الآية ، ولا يزيل إلا محض البراءة الأصلية.
والحاصل أنّ القائلين بالنفي يجعلون الجلد في الآية من قبيل الماهية بلا شرط شي ء ، والقائلين بعدم النفي يجعلون الجلد في الآية من قبيل الماهية بشرط لا شيء.
أقوال الفقهاء في حد الذمي المحصن
ترى الحنفية «1» أنّ حدّ الذمي المحصن هو الجلد لا الرجم ، واحتجوا على ذلك بأمور :
1 - منها ما
رواه إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «من أشرك باللّه فليس بمحصن» «2»
ووجه الدلالة فيه أن الإحصان هنا ظاهر في إحصان الرجم ، فيكون هذا الحديث معارضا لما ثبت من فعله صلّى اللّه عليه وسلّم ، من رجم اليهوديين ، وليس تاريخ يعرف به تقدم أحدهما على الآخر ، فنرجع إلى الترجيح ، والترجيح معنا ، إذ المعلوم أنه إذا تعارض القول والفعل ، ولم يعلم المتقدم من المتأخر ، يقدّم القول على الفعل ، ولأنّ هذا القول موجب لدرء الحد ، والفعل يوجب استيفاءه ، والأولى في الحدود ترجيح الرافع عند التعارض ، لأنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، ورجم الذمي حدّ تمكنت فيه الشبهة ، فيجب درؤه.
2 - وإن النعمة في حق المسلم أعظم ، فكانت جنايته أغلظ ، كقوله تعالى في أمهات المؤمنين : يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب : 30].
__________
(1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1 - 2/ 385).
(2) رواه الدار قطني في سننه (2/ 250 ، 3/ 147) ، كتاب الحدود. عن ابن عمر.(1/537)
ص : 538
3 - وإن إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع ، فكذا إحصان الرجم ، والجامع كمال النعمة.
ويرى الشافعية أنّ حد الذمي المحصن الرجم ، وحجتهم في ذلك عموم
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين».
وما
ثبت في «الصحيحين» «1»
من أنه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رجم يهوديين زنيا
، فإن كان ذلك منه صلّى اللّه عليه وسلّم حكما بشرعه فهو ظاهر ، وإن كان حكما بشرع من قبله فقد صار شرعا له ، وأيضا فإنّ زنى الكافر مثل زنى المسلم في الحاجة إلى الزاجر.
ثم أجابوا عن أدلة الحنفية فقالوا في الحديث : إنه مضطرب ، قال فيه إسحاق :
قد رفع هذا الخبر مرة ووقف على ابن عمر مرة أخرى ، ورواه الدار قطني في «سننه» وقال : لم يرفعه غير إسحاق بن راهويه ، ويقال : إنه رجع عنه ، والصواب تفسير الإحصان في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «من أشرك باللّه فليس بمحصن»
بالتزويج يجعل الحديث في ظاهره مصادما للواقع ، فينبغي أن يكون المراد بالمحصن فيه المحصن الذي يقتصّ له من المسلم ، فيكون الذمي الثيب محصنا إحصان الرجم ، فثبت رجمه لعموم
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «و زنى بعد إحصان».
وأجابوا عن قول الحنفية : أن النعمة في حق المسلم أعظم إلخ بأنه معارض بأن الإسلام من كسب العبد ، وزيادة الخدمة إن لم تكن سببا في تخفيف العقوبة فلا أقل من ألا تكون سببا في زيادتها.
وأجابوا عن القياس على حد القذف بأن حد القذف ثبت لرفع العار كرامة للمقذوف ، والكافر لا يكون محلا للكرامة ، وصيانة العرض.
الكلام فيمن يلي الحد
الخطاب في قوله تعالى : فَاجْلِدُوا لأولياء الأمر من الحكام ، لأنّ هذا حكم يتعلّق باستصلاح الناس جميعا ، وكل حكم من هذا القبيل فإنما تنفيذه على الإمام.
وقد جعل الفقهاء مثل هذا الأمر من الأدلة على وجوب نصب الخليفة ، لأنه تعالى أمر بإقامة الحد ، ولا يقوم به إلا الإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا.
ولا نعلم خلافا في أنّ الذي يلي إقامة الحد على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه.
أما الأرقاء ففيمن يلي حدهم خلاف. فالإمامان مالك والشافعي يجيزان للسيد أن
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1326) ، 29 - كتاب الحدود ، 6 - باب رجم اليهود ، حديث رقم (1699) ، والبخاري في الصحيح (8/ 38) ، 87 - كتاب الحدود ، 24 - باب أحكام أهل الذمة حديث رقم (6841). [.....](1/538)
ص : 539
يحد عبده وأمته في الزنى والخمر والقذف. وللشافعي في السرقة قولان ، والإمام أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر يقولون لا يملك السيد أن يقيم حدا ما.
احتجّ مالك والشافعي بما
أخرجه الستة «1» غير النسائي من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الأمة : «إن زنت فاجلدوها» الحديث ،
وبما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن» «2».
وبما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه ، فجعل يضرب رجليها وساقيها ، فقال له سالم رحمه اللّه : أين قول اللّه تعالى :
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ؟ فقال : أتراني أشفقت عليها ، إنّ اللّه لم يأمرني أن أقتلها.
ولم يكن ابن عمر واليا ولا نائبا عن وال. وبأنّ الإمام لما ملك إقامة الحد على العبد كان السيد بإقامته أولى ، لأن تعلّق السيد بالعبد أقوى من تعلق الإمام بالرعية ، إن الملك أقوى من عقد البيعة ، وإقامة الحد من السيد إنما هي بطريق الملك لغرض الاستصلاح كالحجامة والفصد.
واحتج الحنفية بأنّ قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ عامّ في كل زان وزانية ، والخطاب فيه لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون سائر الناس ، ولم يفرّق في المحدودين بين الأحرار والعبيد «3» ، فوجب أن تكون إقامة الحد على الأحرار وعلى العبيد للأئمة دون سائر الناس.
ثم أجاب الحنفية عن الأحاديث التي يفيد ظاهرها إثبات حد الأرقاء لمواليهم بأن المراد أن الموالي يرفعون أمر عبيدهم إلى الحكام ليجلدوهم ويقيموا الحد عليهم ، وجلد ابن عمر بعض إمائه إن صحّ كان رأيا له لا يعارض العموم في الآية.
حكم اللواط والسحاق وإتيان البهائم
قال اللّه تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فخصّ هذا الحكم بالزنى ، ومعلوم أنّ العرف واللغة يفرّقان بين الزنى واللواط والسحاق وإتيان البهائم ، فليس واحد من هذه الثلاثة الأخيرة داخلا في حكم الآية.
ولما نقل عن الشافعي في أصح قوليه : إن حكم اللواط كحكم الزنى قال بعض أصحابه : إن اللواط زنى ، لأنّه مثل الزنى في الصورة وفي المعنى ، فيكون اللائط زانيا فيدخل في عموم الآية.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 330) ، 29 - كتاب الحدود ، 7 - باب تأخير الحد رقم (1705).
(3) هذا كلام فيه وهم ، انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1/ 384).(1/539)
ص : 540
وهذا القول ليس بسديد لأنّه يصادم العرف واللغة ، ألا تراه لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث ، وكيف يكون اللواط زنى ، وقد اختلف الصحابة في حكمه ، وهم أعلم باللغة وموارد اللسان.
وقال بعض آخر من الشافعية : اللواط غير الزنى ، إلا أنه يقاس عليه بجامع كون الطبع داعيا إليه فيناسب الزاجر ، وهذا أيضا ليس بسديد ، لأنه بعد تسليم أن الطبع يدعو إلى اللواط فإنّ الزنى أكثر وقوعا ، وأعظم ضررا لما يترتب عليه من فساد الأنساب ، فكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد وأقوى.
ولعل أقوى أدلة الشافعي فيما ذهب إليه ما
رواه أبو موسى الأشعري عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» «1»
فإنّ هذا الخبر إن لم يدل على اشتراك اللواط والزنى في الاسم والحقيقة فلا أقل من اشتراكهما في الحكم ، وبقول الشافعي هذا قال أبو يوسف ومحمد.
والقول الثاني من قولي الشافعي في حد اللائط : إنه يقتل : إما بحز الرقبة كالمرتد ، وإما بالرجم ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقول أحمد وإسحاق ، ورواية عن مالك ، وإما بالهدم عليه ، ويروى عن أبي بكر الصديق ، وإما بالرمي من شاهق ، وهو مشهور مذهب مالك.
وقال أبو حنيفة رحمه اللّه : ليس في اللواط «2» حد ، بل فيه تعزير ، لأنه وطء لا يتعلق به المهر ، فلا يتعلق به الحد ، ولأنه لا يساوي الزنى في الحاجة إلى شرع الحد ، لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول به طبعا ، وليس فيه إضاعة النسب ، وأيضا
فقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنى بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس بغير حق» «3»
قد حظر قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث ، وفاعل ذلك خارج عن ذلك ، لأنه لا يسمى زانيا ، وأنت تعلم أنّه لم يثبت عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قضى في اللواط بشي ء ، لأنّ هذا المنكر لم تكن تعرفه العرب ، ولم يرفع إليه صلّى اللّه عليه وسلّم حادثة منه ، ولكن
ثبت عنه أنه قال : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أصحاب السنن الأربعة «4»
وإسناده صحيح ، وقال الترمذي : حديث حسن.
__________
(1) رواه السيوطي في الجامع الصغير والدر المنثور.
(2) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1/ 389).
(3) سبق تخريجه.
(4) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 47) ، كتاب الحدود ، باب ما جاء في حد اللوطي حديث رقم (1456) ، وأبو داود في السنن (4/ 153) ، كتاب الحدود ، باب فيمن عمل قوم لوط حديث رقم (4462) ، وابن ماجه في السنن (2/ 856) ، 20 - كتاب الحدود ، 12 - باب من عمل عمل قوم لوط حديث رقم (2561).(1/540)
ص : 541
وحكم أبو بكر الصديق بقتل اللائط ، وكتب به إلى خالد بن الوليد بعد مشاورة الصحابة.
ونقل بعض الحنابلة إجماع الصحابة على أنّ حدّ اللواط القتل ، وإنما اختلفوا في كيفيته : فمنهم من قال : يرمى من شاهق ، ومنهم من قال : يهدم عليه حائط ، ومنهم من قال : يقتل رميا بالحجارة.
هذا ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في أن السحاق لم يشرع فيه إلا التعزير.
وأما إتيان البهائم ففي رواية عن أحمد أنه كاللواط ، عقوبته القتل ، وهو قول مرجوح عند الشافعية. والصحيح أنّه ليس فيه إلا التعزير.
صفة الجلد
قوله تعالى : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قد تأوّله جماعة على أنّه نهي عن التخفيف في الجلد ، وتأوله آخرون على أنه نهي عن ترك الحد وإسقاطه ، ولا مانع عندنا من أن يكون اللفظ منتظما للمعنيين ، أي لا ترأفوا بهما فتسقطوا الحد عنهما أو تخففوه ، بل الواجب استيفاؤه كاملا غير منقوص وإذا ضم ذلك إلى ما يفهم من قوله تعالى : فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أي اضربوا جلدها ضربا لا يتجاوز الألم فيه الجلد إلى اللحم كان المطلوب بمجموع اللفظين أن يكون الجلد على حد الاعتدال.
روى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال : أتي عمر بسوط فيه شدة ، فقال : أريد ألين من هذا ، فأتي بسوط فيه لين ، فقال : أريد أشدّ من هذا ، فأتي بسوط بين السوطين فقال : اضرب ولا يرى إبطك ، وأعط كل عضو حقه ، وروي مثل ذلك عن ابن مسعود وعلي وأنس بن مالك رضي اللّه عنهم.
واتفق العلماء جميعا على أنّ الضارب يتقي الوجه والفرج. وروي عن علي كرّم اللّه وجهه استثناء الرأس أيضا ، وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وينبغي أن ينزع عن المحدود ما يمنع من الثياب أن يصل إليه ألم الضرب ، كالحشو والفراء ، لأنّ الضرب فوق الحشو والفرو لا يسمّى ضربا في العادة ، ألا ترى أنّه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم أنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه ، ولو وصل إليه الألم كان ضاربا.
تحريم الشفاعة في الحدود
قلنا إن قوله تعالى : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ معناها النهي عن تخفيف الحد وإسقاطه ، فيكون في ذلك دليل على أنّه لا تجوز الشفاعة في إسقاط حد الزنى ، لأنّ فيه تعطيلا لحدود اللّه أن تقام ، وليس ذلك لخصوصية في الزنى ، بل مثله سائر الحدود تحرم الشفاعة فيها ، فقد صحّ أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبّه(1/541)
ص : 542
أسامة بن زيد حين شفع في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية ، وكانت سرقت قطيفة أو حليا ،
فقال له : «أتشفع في حد من حدود اللّه تعالى» ثم قام فاختطب فقال : «إنما أهلك الذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم اللّه لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أخرجه الخمسة «1».
وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه تعالى فقد ضادّ اللّه عزّ وجلّ» أخرجه أبو داود «2».
وكما تحرم الشفاعة في الحدود يحرم على الإمام قبول الشفاعة فيها ، فعن الزبير بن العوام رضي اللّه عنه أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله ، فقال : لا حتى أبلغ به إلى السلطان ، فقال الزبير :
إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان ، فإذا أبلغ السلطان لعن الشافع والمشفع. أخرجه مالك «3» وفي رواية أنّه قال : إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا اللّه عنه إن عفا.
وأما قوله تعالى : إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فالغرض منه التهييج والإلهاب والحث على الامتثال كما يقال للرجل : إن كنت رجلا فافعل كذا ، ولا شكّ في أنه رجل ، كذلك المخاطبون لا شك في أنّهم مؤمنون ، لكن قصد تهييجهم ، وتحريك حميتهم ، ليجدّوا في طاعة اللّه تعالى ، ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها ، وفي ذكر اليوم الآخر تذكير لهم بما فيه من العقاب ليستأصلوا عاطفة اللين في استيفاء حدود اللّه تعالى ، وفي الحديث : «يؤتى بوال نقص من الحد سوطا فيقال له ، لم فعلت ذاك؟ فيقول :
يا رب رحمة بعبادك ، فيقول له : أنت أرحم بهم مني ، فيؤمر به في النار».
حضور الحد
ظاهر الأمر في قوله تعالى : وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يقتضي وجوب الحضور على طائفة من المؤمنين ، لكنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ حضور الجمع
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1415) ، 29 - كتاب الحدود ، 2 - باب قطع السارق ، حديث رقم (1688) ، والبخاري في الصحيح (2/ 21) ، 86 - كتاب الحدود ، 13 - باب كراهية الشفاعة حديث رقم (6788) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 29) ، كتاب الحدود ، باب كراهية أن يشفع في الحدود حديث رقم (1430) ، والنسائي في السنن (7 - 8/ 439) ، كتاب قطع السرقة ، باب ذكر المخزومية حديث رقم (4895) ، وابن ماجه في السنن (2/ 851) ، 20 - كتاب الحدود ، 6 - باب الشفاعة حديث رقم (2547).
(2) رواه أبو داود في السنن كتاب الأقضية ، باب فيمن يعين حديث رقم (3597).
(3) رواه مالك في الموطأ كتاب الحدود ، باب ترك الشفاعة حديث رقم (834).(1/542)
ص : 543
مستحبّ لا واجب ، والمقصود من حضورهم إعلان إقامة الحد للتنكيل وللعبرة والموعظة.
واختلف العلماء في هذه الطائفة : فعن مجاهد والنخعي وأحمد : هي في الآية واحد. وقال عطاء وعكرمة وإسحاق : اثنان فصاعدا ، وهو القول المشهور لمالك وقال قتادة والزهري : ثلاثة فصاعدا ، وعن الشافعي وزيد أربعة بعدد شهود الزنى ، وقال الحسن : عشرة ، وعن ابن عباس الطائفة : الرجل فما فوقه إلى أربعين رجلا من المصدقين باللّه ، وأولى الأقوال بالصواب أنّ المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير والزجر ، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص.
وفي قوله تعالى : وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما .. دليل على أنّ هذا الحد عقوبة لا استصلاح من قبل أنّه سماه عذابا ، ولو كان الغرض منه الاستصلاح لكان الأولى به أن يسمّى تأديبا ، ويمكن أن يراد من العذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال ، فيصح أن يكون الغرض منه الاستصلاح.
الكلام في نكاح الزناة والمشركين
قال اللّه تعالى : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) الظاهر أنّ المراد من النكاح هنا العقد ، لأنّ أكثر استعماله في لسان الشرع بمعنى العقد ، بل قال الزجّاج وغيره : إنه لم يرد في كتاب اللّه إلا بهذا المعنى.
وظاهر أيضا أن كلّا من الجملتين خبر ، وأنّ معناهما أنّ الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة ، وأن الزانية لا يتزوجها إلا زان أو مشرك ، ولو أجرينا هذين الخبرين على ظاهرهما كانا غير مطابقين للواقع ، فإنّا نرى الزاني قد يتزوج المؤمنة العفيفة ، والزانية قد يتزوجها المؤمن العفيف. فكان إجراء الجملتين على ظاهر هما مشكلا ، وللعلماء في حلّ هذا الإشكال تأويلات منها القوي ، ومنها الضعيف ، وسنذكرها مرتبة على حسب ترتيبها في القوة فيما نرى.
1 - إن الكلام نهي جيء به في صورة الخبر للمبالغة ، ويؤيده قراءة عمر بن عبيد لا يَنْكِحُ بالجزم ، ويكون التحريم على ظاهره ، والإشارة إلى النكاح المفهوم من الفعل ، وكان الحكم كذلك في صدر الإسلام ، ثم نسخ.
قال سعيد بن المسيب : كان الحكم عاما في الزناة ألا يتزوج أحدهم إلا زانية ، ثم جاءت الرخصة ، ونسخ ذلك بقوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ والزانية من أيامى(1/543)
ص : 544
المسلمين ، وبهذا القول قال مجاهد والشافعي والجبّائي وغيرهم. وعلى هذا الرأي اعتراضان :
أحدهما : أنّ العام لا ينسخ الخاصّ ، لا سيما على أصل الشافعي ، فإنّ ما تناوله الخاص متيقّن ، وما تناوله العام مظنون ، فالعام المتأخر محمول على الخاص.
والثاني : أنّه يلزم عليه حلّ نكاح المسلم للمشركة الوثنية ، وحلّ نكاح المشرك للمسلمة ، فإنّ الجملة الأولى وردت على سبيل الحصر ، فتنحل إلى جملتين :
أولاهما : تفيد أنّه يحرم على الزاني أن يتزوج المؤمنة العفيفة.
وثانيتهما : تفيد أنّه يباح له أن يتزوج الزانية ، والمشركة وثنية أو من أهل الكتاب.
وكذلك الجملة الثانية تنحل إلى جملتين.
أولاهما : تفيد أنّ الزانية لا يتزوجها المؤمن العفيف. وثانيتهما : تفيد أنّ الزانية يحل لها أن تتزوج الزاني والمشرك.
ولأصحاب هذا التأويل أن يقولوا في دفع الاعتراض الأول : إنّ العام الذي اعتبرناه ناسخا قد انضمّ إليه من الآيات والأحاديث والإجماع ما صيّر دلالته على تناوله متيقنا ، كدلالة الخاص على ما تناوله ، قال اللّه تعالى : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء : 3] وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «الحرام لا يحرّم الحلال»
وأجمع فقهاء الأمصار على جواز أن يتزوج الزاني بالعفيفة ، وأن تتزوج الزانية بالعفيف.
ولهم أيضا في دفع الاعتراض الثاني أن يلتزموا القول بأنّ نكاح المسلم للوثينة كان حلالا في صدر الإسلام ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة : 221] وأن نكاح الكافر كان كذلك حلالا قبل الهجرة وبعدها إلى السنة السادسة سنة صلح الحديبية ، وبعد غزوة الحديبية «1» نزلت آية التحريم : فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة : 10] ولا مانع أن تكون الآية التي معنا نزلت قبل السنة السادسة ، ففي هذه السورة آيات نزلت قبل هذه السنة ، وهي آيات قصّة الإفك : بل فيما روى ابن أبي شيبة عن ابن جبير ما يفيد أنّ هذه الآية التي معنا مكيّة ، وحينئذ يكون النسخ قد تناول الحكمين في الآية جميعا.
2 - إنّ هذه الآية وردت في تقبيح حال الزاني ببيان أنه بعد أن رضي بالزنى لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة ، وإنما يليق به أن ينكح زانية مثله ، أو مشركة أسوأ
__________
(1) انظر ما رواه البخاري في الصحيح (5/ 80) ، 64 - كتاب المغازي ، 36 - باب غزوة الحديبية حديث رقم (4180).(1/544)
ص : 545
حالا منه. وكذلك الزانية بعد أن رضيت بالزنى لا يليق بها أن ينكحها مؤمن عفيف ، وإنما يليق بها أن ينكحها زان مثلها ، أو مشرك أسوأ حالا منها ، فجملة : لا يَنْكِحُ في الموضعين خبر مراد به لا يليق به أن ينكح كما تقول : الشيخ لا يصبو ، والسلطان لا يكذب ، والأب لا يقتل ابنه ، أي لا يليق بهم أن يفعلوا ذلك ، نزّل فيه عدم لياقة الفعل منزلة عدم الفعل ، وهو كثير في الكلام.
ثم الإشارة في قوله تعالى : وَحُرِّمَ ذلِكَ إن كان الزنى المفهوم من قوله :
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلخ فالتحريم على ظاهره ، وإن كانت الإشارة للنكاح المفهوم من الفعل فالمراد من التحريم معناه اللغوي ، وهو المنع ، مثله في قوله تعالى : وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) [الأنبياء : 95].
وعلى هذا التأويل اعتراضان :
أولهما : أنه لا يتمشى مع سبب النزول فإنها نزلت :
إما
في مرثد بن أبي مرثد حين سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن نكاح عناق ، وكانت من بغايا مكة ، فلم يرد عليه النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا حتى نزل : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا مرثد لا تنكحها».
وإما في جماعة من فقراء المهاجرين استأذنوا النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في التزوج ببغايا من الكتابيات والإماء ، كنّ بالمدينة ، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية ، وسواء أكان سبب النزول هو الأول أم الثاني ، فإنّ الظاهر من سياقه أنّ الآية وردت لتحريم العفيفة على الزاني والزانية على العفيف.
وثاني الاعتراضين أنّ الآية على هذا التأويل تفيد أنه يليق بالزاني المؤمن أن يتزوّج بوثنية ، ويليق بالزانية المؤمنة أن يتزوجها مشرك.
ولأصحاب هذا التأويل أن يقولوا في دفع الاعتراض الأول : الآية على هذا المعنى لا تنافي سبب النزول ، فإنّه لا مانع أن يكون
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لمرثد : «لا تنكحها»
معناه : لا يليق بك أن تتزوجها بعد أن علمت أنّ اللّه جعل من صفات المؤمن العفيف أنه لا يليق به من حيث هو مؤمن عفيف أن يرضى بنكاح الزانية ، ولا مانع أيضا أن يكون فقراء المهاجرين كفّوا عن نكاح البغايا لهذا المعنى.
وأن يقولوا في دفع الاعتراض الثاني : إن اللياقة إنما هي بالنظر إلى الزنى ، فلا ينافي أنه لا عتبارات أخرى يحرم على المسلم أن يتزوّج المشركة الوثنية ، ويحرم على المسلمة أن تتزوج مشركا.
3 - إبقاء الخبر على ظاهره وجعل الكلام مخرّجا مخرج الغالب المعتاد ، جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنى. ومعناه أن الفاسق الخبيث الذي(1/545)
ص : 546
من شأنه الزنى والفجور لا يرغب غالبا إلا في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة.
والزانية الخبيثة كذلك لا يرغب فيها في الأعم الأغلب إلا خبيث مثلها أو مشرك.
ونظير هذا الكلام لا يفعل الخير إلا تقي ، وقد يفعل الخير من ليس بتقي ، فيكون جاريا مجرى الغالب.
والإشارة في قوله تعالى : وَحُرِّمَ ذلِكَ إن كانت للزنى فالتحريم على ظاهره ، وإن كانت للنكاح فالتحريم بمعنى التنزيه ، أي ينبغي أن يتنزّه المؤمنون عن ذلك النكاح ، وعبر عن التنزيه بالتحريم للتغليظ ، فإنّ نكاح الزواني يتضمّن التشبّه بالفسّاق ، والتعرّض للتهمة وسوء القالة ، والطعن في النسب ، إلى كثير من المفاسد.
وعلى هذا التأويل اعتراضان :
الأول : أن إطلاق الزاني والزانية على من شأنهما الزنى والفسق لا يخلو عن بعد ، لأنهما فيما تقدم من قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا لم يكونا بهذا المعنى ، والظّاهر اتحاد معنى اللفظ في الآيتين.
والثاني : أنه ليس بمسلّم أن الغالب في الزاني أنه لا يرغب في العفيفة ، فإنّ كثيرا من الزناة يتحرّون في النكاح أكثر مما يتحرّى غيرهم.
4 - إبقاء الخبر على ظاهره ، وتأويل النكاح على معنى الوطء ، ويكون المراد الإخبار بأنّ الزاني لا يطأ حين زناه إلا زانية أو أخس منها ، وهي المشركة.
والزانية لا يطؤها حين زناها إلا زان من المسلمين أو أخس منه ، وهو المشرك. وحرم اللّه ذلك الزنى على المؤمنين.
وهذا القول مروي عن ابن عباس وعروة بن الزبير وعكرمة ، وهو قول أبي مسلم.
وعلى هذا التأويل أيضا اعتراضان :
الأول : أن فيه إجراء لفظ النكاح على غير المعهود في القرآن.
والثاني : أن الزاني قد يزني بغير زانية ، والعكس ، فقد يعلم أحدهما أن هذا زنى ، والآخر جاهل به يظن الحلّ ، فيكون هذا الخبر غير مطابق للواقع ، فإذا قالوا :
إن الغالب في الزنى أن يكون معروفا للطرفين على أنه زنى.
قلنا : إن الكلام يكون حينئذ من قبيل الإخبار بالواضحات ، إذ المآل أن الزاني حين يزني بزانية لا يزني إلا بزانية ، وهذا كلام خال عن الفائدة ، وغاية ما تمحّلوا له أنهم قالوا : إن معنى الآية الإخبار عن اشتراكهما في الزنى ، وأنّ المرأة كالرجل في ذلك ، فإذا كان الرجل زانيا فالمرأة مثله إذا طاوعته وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها ، ففائدة الخبر الحكم بمساواتهما في استحقاق الحد وعقاب الآخرة.
5 - إنّ الخبر بمعنى النهي ، والتحريم على حقيقته ، والحكم مخصوص بسبب(1/546)
ص : 547
النزول ، فتكون الآية واردة في قوم مخصوصين بأعيانهم ، وفي تعيينهم خلاف يرجع إلى الخلاف في سبب النزول.
فعن ابن عباس وابن عمر أنّ جماعة من المسلمين كانوا في جاهليتهم يزنون ببغايا مشهورات متعالنات ، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنى ، فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة ، إذ كان من عاداتهن الإنفاق على من تزوّجهنّ فنزلت الآية فكفوا عن زواجهن «1».
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد رضي اللّه عنه ، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، فكانت امرأة بغيّ بمكة ، يقال لها : عناق ، وكانت صديقة له ، وكان وعد رجلا من أسرى مكة أن يحمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، فجاءت عناق ، فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط ، فلما انتهت إليّ عرفتني ، فقالت : مرثد ، قلت : مرثد ، فقالت : مرحبا وأهلا ، هلمّ فبت عندنا الليلة ، فقلت : يا عناق قد حرم اللّه تعالى الزنى. قالت : يا أهل الخيام ، هذا الرجل الذي يحمل أسراكم. قال : فتبعني ثمانية ، فانتهيت إلى غار فجاؤوا حتى قاموا على رأسي ، وبالوا ، فظلّ بولهم على رأسي ، وأعماهم اللّه تعالى عني. قال : ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي ، فحملته حتى قدمت المدينة ، فأتيت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقلت : يا رسول اللّه! أنكح عناقا؟ فأمسك ولم يرد عليّ شيئا حتى نزل : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا مرثد لا تنكحها» أخرجه أصحاب السنن «2».
فالمراد بالزاني أحد أولئك القوم ، أطلق عليه اسم الزنى الذي كان يفعله في الجاهلية للتوبيخ ، فهو مجاز باعتبار ما كان ، والمراد بالزانية إحدى هؤلاء البغايا ، وهذا التأويل معترض من وجوه :
أولا : جعل سبب النزول حكما على العام ، والمعتمد أنّ سبب النزول لا يخصّص.
ثانيا : أنه يبعد أن يعبّر في أحكام القرآن الكريم بلفظ عام ثم يراد منه قوم مخصوصون ينتهي الحكم بوفاتهم.
__________
(1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/ 19).
(2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 307) ، كتاب التفسير ، حديث رقم (3177) ، وأبو داود في السنن (2/ 180) ، كتاب النكاح ، باب قوله تعالى : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً حديث رقم (1 - 20) ، والنسائي في السنن (5 - 6/ 374) ، كتاب النكاح ، باب تزويج الزانية حديث رقم (3228).(1/547)
ص : 548
ثالثا : أنه يبعد كل البعد أن يصف اللّه بالزنى أحد أولئك القوم وهم مهاجرون قد أسلموا وحسن إسلامهم ، ومحا اللّه عنهم كل أوضار الشرك وآثاره.
رابعا : عدم التوافق بين معنى الزاني والزانية هنا ، ومعناها في الآية السابقة :
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا إلخ وقد قلنا : إنّ الأولى اتحاد المعنى في كلّ من الآيتين.
ولعلّك تفهم من صنيعنا في ترتيب هذه التأويلات أنّ أقواها وأولاها بالصواب فيما نرى الأول والثاني.
وبعد ... فإنا ذاكرون لك هنا خلاف السلف في تزويج الزانية ، فعليّ وعائشة والبراء وابن مسعود في إحدى الروايتين عنه أنّ من زنى بامرأة أو زنى بها غيره لا يحل له أن يتزوجها.
وعن علي إذا زنى الرجل فرق بينه وبين امرأته ، وكذلك هي إذا زنت.
وعن الحسن أنّ المحدودة في الزنى لا يتزوجها إلا محدود مثلها.
وأبو بكر ، وعمر ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن مسعود في الرواية الأخرى عنه ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين ، وفقهاء الأمصار جميعا : على جواز نكاح الزانية ، وأنّ الزاني لا يوجب تحريمها على الزوج ، ولا يوجب الفرقة بينهما.
ويؤيد هذا الرأي ما أخرجه الطبراني والدار قطني «1» من
حديث عائشة قالت : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة ، وأراد أن يتزوجها فقال : «أوله سفاح وآخره نكاح ، والحرام لا يحرّم الحلال».
وما رواه أبو داود والنسائي «2» وغيرهما عن ابن عباس أنّ رجلا قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم :
«إن امرأتي لا تمنع يد لا مس». قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «غربها» قال : أخاف أن تتبعها نفسي قال :
«فاستمتع بها»
وإسناده إسناد صحيح.
قال أبو سليمان الخطابي إمام هذا الفن في «معالم السنن» قوله : «لا تمنع يد لامس» معناه الزانية ، وأنها مطاوعة من أرادها ، لا ترد يده ، قال : وقوله : «غرّبها»
أي أبعدها بالطلاق ، وأصل الغرب البعد ، قال : وفيه دليل على جواز نكاح الفاجرة.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «فاستمتع بها»
أي لا تمسكها إلا بقدر ما تقضي متعة النفس منها ومن وطرها ، والاستمتاع بالشيء الانتفاع به إلى مدة ، ومنه نكاح المتعة ، ومنه قوله تعالى :
إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ [غافر : 39] اه وهكذا فسره المحققون من الفقهاء
__________
(1) انظر كنز العمال للمتقي الهندي ، حديث رقم (47657). [.....]
(2) رواه أبو داود في السنن (2/ 179) ، كتاب النكاح ، باب النهي عن تزويج من لم يلد حديث رقم (2049) ، والنسائي (5 - 6/ 375) ، كتاب النكاح ، باب تزويج الزانية حديث رقم (3229).(1/548)
ص : 549
وأهل الحديث ، فيكون فيه حجة على جواز نكاح الزانية ، وعلى أنّ الزوجة إذا زنت لا ينفسخ نكاحها.
وأما تأويل من تأوّله على أنها سخية تعطي ، ولا ترد من يلتمس منها مالا ، فهو تأويل بعيد عن الصواب ، إذ لو أراد هذا لقال : لا ترد يد ملتمس ، ولقال له النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : أحرز عنها مالك.
وقد يقال : لما ذا بدئ بالزاني هنا وبدئ بالزانية في الآية السابقة ، وما السر في ذلك؟
والجواب : أنه بدئ بالزانية هناك لما علمت آنئذ وبدئ بالزاني هنا لأنّ هذه الآية مسوقة لذكر النكاح ، والرجل فيه هو الأصل ، لأنّ إبداء الرغبة والتماس النكاح بالخطبة إنما يكون من الرجل لا من المرأة في مجرى العرف والعادة.
قد يظن من لا يدقق النظر أنّ معنى الجملتين : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ واحد ، وأنّه لا فرق بينهما ، ولكن هذا ظنّ خاطئ ، لأنّ معنى الجملة الأولى أنّ الزاني لا يرغب إلا في زانية أو مشركة ، ولو اقتصر على هذه الجملة لم يعرف حال الزانية ، فجاءت الجملة الثانية مبينة أنه لا يرغب فيها إلا زان أو مشرك ، فالجملة الأولى تصف الزاني بأنّه لا يرغب في العفيفات المؤمنات ، وإنما يرغب في الفواجر أو المشركات ، والجملة الثانية تصف الزانية بأنّها لا يرغب فيها الأعفاء المؤمنون ، وإنما يرغب فيها الفجار أو المشركون ، وهذان معنيان مختلفان ، لأنّه لا يلزم عقلا من كون الزاني لا يرغب إلا في زانية أنّ الزانية كذلك لا يرغب فيها غير الزاني ، فجاءت الجملة الثانية مبينة لهذا المعنى.
حد القذف
قال اللّه تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) أصل الرمي : القذف بشيء صلب ، يقال : رمى فلانا بالحجر ونحوه : قذفه به ، ورمى الحجر : ألقاه ، واستعمال الرمي في الشتم مجاز ، وهو المراد هنا ، والقرينة قوله تعالى : ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لأنّ الإتيان بالشهادة هنا في مصلحة الرامين ، وليس من المعقول أن يكون من مصلحتهم الإتيان بأربعة يشهدون بأنهم رموا المحصنات بالحجر أو نحوه ، فتعيّن أن يكون المراد أنّهم يشتمون المحصنات ويرمونهم بالعيب ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على صدقهم فيما رموا به المحصنات من العيب. ثم المراد بذلك العيب الزنى ، ويدلّ عليه إيراد الجملة عقيب الكلام في الزنى وأحكامه.
والتعبير عن المفعول بالمحصنات ، وأشهر معاني الكلمة العفيفات المنزّهات عن(1/549)
ص : 550
الزنى ، فكأنه قيل : يرمون المنزهات عن الزنى ، ويكاد هذا يكون صريحا في أنّ المراد يرمونهم بالزنى ، ثم اشتراط أربعة من الشهود مع العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته على شهادة أربعة إلا الزنى يقوّي أنّ المراد الرمي بالزنى.
وأصل الإحصان : المنع ، والمحصن بالفتح يكون بمعنى الفاعل والمفعول ، وهو أحد الكلمات الثلاث التي جاءت نوادر يقال : أحصن فهو محصن ، وأسهب فهو مسهب ، وأفلح - إذا افتقر - فهو مفلح ، والفاعل والمفعول في هذه الأحرف الثلاثة سواء.
والمفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان أربعة : فالمرأة تكون محصنة :
بالعفاف والإسلام ، وبالحرية ، وبالتزوج. وكذلك الرجل.
والصور التي يتحقق بها القذف أربع : فقد يكون القاذف والمقذوف رجلين ، وقد يكونان امرأتين ، وقد يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة ، وقد يكون القاذف امرأة والمقذوف رجلا. فهل نستطيع أن نأخذ من الآية أحكام الصور الأربع؟ لا شك أنّ الآية جعلت الرامي من جنس الرجال ، والظاهر أنّ المراد من المحصنات النساء المحصنات ، وحينئذ تكون الآية تعرّضت بالنص لصورة واحدة من الصور الأربع ، وهي أن يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة.
أما حكم الصور الثلاث الباقية فإنما يثبت بدلالة النص ، للقطع بإلغاء الفارق ، وهو صفة الأنوثة في المقذوف ، وصفة الذكورة في القاذف ، واستقلال دفع العار بالتأثير في شرع الحكم ، وحينئذ يكون تخصيص الذكور في جانب القاذف ، والإناث في جانب المقذوف لخصوص الحادثة.
وقد أخرج البخاري «1» أنّ الآية نزلت في عويمر وامرأته ، وعن سعيد بن جبير أنّها نزلت في قصة الإفك. ومن قال : إنّ المراد بالمحصنات في الآية الفروج المحصنات ، أو الأنفس المحصنات ، لم يخل قوله عن وهن وضعف.
ولم تشرط الآية في القاذف أكثر من عجزه عن الإتيان بأربعة شهداء ، لكنّ قواعد الشرع تقتضي بأنّ المخاطب بمثل هذا الحكم إنما هو أهل التكليف : البالغ العاقل المختار العالم بالتحريم حقيقة أو حكما الملتزم بالأحكام إلى آخر ما هو مبيّن في كتب الفروع.
وكذلك لم تشرط في المقذوف أكثر من أن يكون محصنا ، وقد كان يكفي في تحقق الشرط أن يكون المرمي محصنا بأي معنى من معاني الإحصان الأربعة ، إلا أنه لما كان ثبوت الحد يجب فيه الاحتياط ، فلا يثبت إلا عن يقين : وجب اعتبار سائر
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 3) ، 65 - كتاب التفسير ، 1 - باب الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ حديث رقم (4745).(1/550)
ص : 551
المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره هنا ، وهو كون المرمي زوجا أو زوجة.
وأشهر معاني الإحصان : العفّة عن الزنى ، فمن أجل ذلك كانت العفة عن الزنى ، معتبرة في تحقق الإحصان هنا قطعا ، لا نعلم في ذلك خلافا لأحد ، فمن قذف شخصا غير عفيف لا يحدّ باتفاق.
واشتراط العفة عن الزنى في تحقق الإحصان يستتبع اشتراط البلوغ والعقل في تحققه أيضا ، إذ إن الصبي لا يقال فيه عفّ عن الزنى ، وكذلك المجنون لا يقال فيه :
عفّ عن الزنى ، كما لا يقال للمجبوب : عفّ عن الزنى ، وكما لا يقال للأعمى : عفّ عن النظر إلى المحرمات ، إنما يقال عفّ عن الزنى لمن كان يتصوّر الزنى منه ، ثم كفّ عنه ، وذلك البالغ العاقل الفحل.
ولا بد من اعتبار الحرية ، لأنّها من معاني الإحصان - على ما علمت - والرقيق ليس بمحصن بهذا المعنى ، وإذا كان محصنا من جهة أخرى ، فغاية ما فيه أنّه محصن من وجه ، وغير محصن من وجه ، وذلك شبهة في إحصانه ، فوجب درء الحد عن قاذفه.
وكذلك لا بد من اعتبار الإسلام أيضا في تحقيق الإحصان ، فالكافر ليس بمحصن بهذا المعنى ، وإذا كان محصنا من جهة أخرى ، فغايته أنه محصن من وجه وغير محصن من وجه ، فيكون ذلك شبهة في إحصانه ، فيجب درء الحد عن قاذفه.
ولو لا أنّ الإجماع قائم على عدم اعتبار الإحصان بمعنى التزوج لكان عدم التزوج شبهة في إحصان المقذوف ، فلا يحد قاذفه.
والحاصل أنّه يعتبر في تحقق إحصان المقذوف العفة عن الزنى ، والحرية والإسلام ، وأما البلوغ والعقل فإنّهما من لوازم العفة - كما علمت - وهذا الذي ذكرناه لك هو رأي الجمهور من العلماء وفقهاء الأمصار ، وأصحّ الروايتين عن أحمد ، ولبعض الفقهاء خلاف في شيء من ذلك : فداود الظاهري لا يشترط الحرية في المقذوف ، ويرى أنّ قاذف العبد يحد ، فإن كان يكتفي في الإحصان بالعفة لشهرته فيها لزمه القول بحد من قذف كافرا عفيفا.
وروي عن ابن أبي ليلى أنّ من قذف ذميّة لها ولد مسلم يحدّ. قال بعضهم :
وكذلك يحد قاذفها إذا كانت تحت مسلم. ذهبوا إلى ذلك دفعا للعار الذي يلحق ابنها أو زوجها المسلم.
وعن أحمد في إحدى الروايتين القول بحدّ قاذف الصبي الذي يجامع مثله.
وقال مالك في الصبية التي يجامع مثلها : يحدّ قاذفها ، ألحق مالك وأحمد في هذه الرواية دور المراهقة بالبلوغ ، ونظرهما في ذلك إلى أنّ المراهق يلحقه العار كما يلحق(1/551)
ص : 552
البالغ ، فوجب الحدّ لدفع العار. وكذلك يقول مالك والليث : يحدّ قاذف المجنون لدفع العار الذي يلحقه.
والجمهور يمنعون لحوق العار للصبي والمجنون إذا نسبا إلى الزنى ، ولو فرضنا لحوق العار فليس ذلك على الكمال ، فيندرئ الحد عن قاذفهما ، وليس معنى ذلك أنه لا عقوبة على قاذفهما ، بل يجب على الإمام تعزيره للإيذاء.
وقوله تعالى : ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ قد شرط في تحقق القذف المستوجب للعقوبة عجز القاذف عن الإتيان بأربعة يشهدون أنهم قد رأوا المقذوف يزني ، والتاء في بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ في ظاهرها تفيد اعتبار كونهم من الرجال ، والحكم كذلك ، لأنّه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود باتفاق. ولم يستفد من الآية في صفة هؤلاء الشهداء أكثر من أنهم أربعة رجال من أهل الشهادة. وللعلماء خلاف في أهل الشهادة من هو فالشافعية يقولون : لا بد في أهل الشهادة أن يكون عدلا ، والحنفية يقولون : الفاسق من أهل الشهادة ، فإذا شهد أربعة فسّاق فهم قذفة عند الشافعية يحدون كما يحد القاذف الأول ، إذ لم يأت بأربعة من أهل الشهادة. والحنفية يقولون : لا حد عليه ، لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة ، إلا أنّ الشرع لم يعتبر شهادتهم لقصور في الفاسق ، فثبتت بشهادتهم شبهة الزنى ، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف ، وكذلك عن المقذوف لاعتبار العدالة في ثبوت الزنى.
وظاهر العموم في الآية أنه يكفي أن يكون أحد الأربعة زوج المقذوفة ، وبهذا الظاهر قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك والشافعي : يلاعن الزوج ، ويحدّ الثلاثة ، وحجتهم في ذلك أنّ الشهادة بالزنى قذف ، بدليل أنّ الشاهد يحدّ إذا لم يكمل النصاب ، ولفظ الآية وإن كان عاما إلا أن آية اللعان جعلت للزوج حكما يخصه ، وآية اللعان أخصّ من الآية التي معنا ، والخاصّ مقدّم على العام.
وظاهر الإطلاق في الآية أنّه إذا أتى بأربعة شهداء كيفما اتفق مجيئهم مجتمعين أو متفرقين فهو آت بمقتضى النص ، واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية ، وبهذا الظاهر قال مالك والشافعي ، وأيدا قولهما بالقياس على الشهادة في سائر الأحكام ، بل تفريقهم أولى ، لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ.
وأيضا فليس من الممكن أن يشهدوا معا في وقت واحد ، فلا بد أن يسمع القاضي شهادتهم واحدا بعد آخر ، فكذلك إذا اجتمعوا عند بابه ، ثم دخلوا عليه واحدا بعد آخر.
وقال أبو حنيفة : إذا جاؤوا متفرقين لم يسقط الحد عن القاذف ، وعليهم حد(1/552)
ص : 553
القذف ، وحجته في ذلك أن الشاهد الواحد لما شهد صار قاذفا ولم يأت بأربعة شهداء ، فوجب عليه الحد ، وخرج عن كونه شاهدا ، ولا عبرة بتسميته شاهدا إذا فقد المسمى ، فلا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع.
وظاهر الآية أيضا أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة ، بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد ، ولم تتعرّض الآية لحكم الشهود إذا لم يكملوا النصاب ، والمأثور أنّهم يحدون ، فقد صحّ أنه رفع إلى عمر بن الخطاب حادثة شهد فيها على المغيرة بن شعبة بالزنى : شبل بن معبد وأبو بكرة وأخوه نافع وكان رابعهم زيادا ، فلم يجزم بالشهادة بحقيقة الزنى ، فحد الثلاثة عمر بمحضر من الصحابة رضي اللّه عنهم ، ولم ينكروا عليه.
وقوله تعالى : فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً المخاطب فيه هم أولياء الأمر من الحكام.
وقد سبق الكلام آنفا فيمن يلي الحدّ في تفسير قوله تعالى : فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وظاهر العموم في اسم الموصول في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ إلخ أنّ الزوج وغيره في هذا الحكم سواء ، وأن الزوج إذا قذف زوجته ، وعجز عن البينة فعليه الحد.
لكن آية اللعان قد جعلت للزوج مخرجا إذا هو عجز عن البينة ، فشرعت له اللعان كما يأتي ، فتكون آية اللعان مخصّصة للعموم في الموصول هنا ، وظاهر العموم أيضا أنّ الرقيق والحر في ذلك الحكم سواء ، وأنّ كلا منهما يجلد ثمانين جلدة إذا وقع القذف منه بشرطه ، وبهذا الظاهر قال ابن مسعود والأوزاعي ، وهو أيضا مذهب الشيعة.
لكنّ فقهاء الأمصار مجمعون على أنّ حد الرقيق في القذف أربعون جلدة على النصف من حد الحر ، كما في الزنى ، وعلى ذلك تكون الآية خاصة بالأحرار.
وظاهر قوله تعالى : فَاجْلِدُوهُمْ أنّ الإمام يقيم الحدّ ولو من غير طلب المقذوف ، وبهذا قال ابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي : لا يحد إلا بمطالبة المقذوف.
وقال مالك : إذا سمعه الإمام يقذف حده ولو لم يطلب المقذوف ، إذا كان مع الإمام شهود عدول.
ولا يخفى أنّ القول بتوقف استيفاء الحد على المطالبة ظاهر في أنّ الحد حق العبد ، كما أنّ تنصيفه على الرقيق ظاهر في أنّه حق للّه ، ومما لا شكّ فيه أن في القذف تعديا على حقوق اللّه تعالى ، وانتهاكا لحرمة المقذوف ، فكان في شرع الحد صيانة لحق اللّه ولحق العبد. هذا المقدار لا خلاف فيه لأحد ، إنما الخلاف بين الشافعية والحنفية في الذي يغلب من الحقين على الآخر. فالشافعية يغلّبون حق العبد باعتبار حاجته وغنى اللّه جلّ شأنه. والحنفية يغلبون حق اللّه تعالى ، لأنّ ما للعبد من(1/553)
ص : 554 الحقوق يتولى استيفاءه مولاه ، فيصير حق العبد تابعا لحق اللّه تعالى ، فإذا غلّبنا حق اللّه تعالى كان حقّ العبد مستوفى لا مهدرا ، وليس العكس كذلك. فما لا تعارض فيه من الصور بين حقّ اللّه وحق العبد فأمره ظاهر ، وكذلك ما اتفق فيه الفريقان على تغليب أحد الحقين.
فمثال ما لا تعارض فيه أن يقذف الحرّ ، ويعجز عن البينة ، ويطلب المقذوف إقامة الحد عليه ، فيستوفيه الإمام.
ومن أمثلة ما اتفقا فيه على تغليب حق اللّه تعالى حدّ العبد إذا قذف ، فلو لا تغليب حق اللّه فيه ما تنصف ، ومما اتفقا فيه على تغليب حق العبد أنه إذا لم يطلب المقذوف إقامة الحد فليس للإمام أن يستوفيه.
أما ما تعارض فيه الحقان واختلف الشافعية والحنفية في حكمه فمن أمثلته أنه إذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد ، فالحنفية يقولون بسقوطه تغليبا لحق اللّه تعالى ، ولأنّه ليس مالا ، ولا بمنزلة المال ، بل هو حق محض كخيار الشرط وحق الشفعة.
وقال الشافعية : لا يسقط الحد بموت المقذوف ، بل يقوم ورثته مقامه في المطالبة به ، ويرثونه عنه تغليبا لحق العبد.
ومنها : أنّه إذا قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة فالحنفية يقولون بتداخل الحد ، وعليه للجميع حدّ واحد تغليبا لحق اللّه تعالى ، كمن زنى مرارا أو سرق أو شرب الخمر كذلك ، وقال الشافعية : لا يتداخل الحد ، فعليه لكل منهم حد تغليبا لحق العباد.
ومنها : إذا عفا المقذوف عن الحد ، فإنه يصحّ العفو عند الشافعية ، ويسقط الحد تغليبا لحق العبد. وقال الحنفية : لا يسقط الحد بعفو المقذوف بعد طلبه إقامته.
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ هذه ثلاث عقوبات ترتبت على القذف بشرطه ، وليس في الآية ما يدلّ على أن بعض هذه العقوبات مرتب على بعض ، لأنّ العطف فيها بالواو. بل غاية ما أفادته الآية أنّ المجموع مرتب على القذف بشرط ، فكأنه قيل : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجمعوا لهم هذه العقوبات الثلاث : جلدهم ثمانين جلدة ، ورد شهادتهم ، وتفسيقهم.
فظاهر الآية أنه متى قذف وعجز عن البينة استحق العقوبات الثلاث ، ولا يتوقف رد شهادته على جلده. وبهذا الظاهر قال الشافعي والليث. وقال أبو حنيفة ومالك : لا ترد شهادته إلا بعد جلده ، فما لم يجلد يكون مقبول الشهادة ، وحجتهما في ذلك أنّ الواو ، وإن لم تقتض الترتيب ، لكنّ الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم ، وأنّ الأصل قبول شهادته ما لم يطرأ مانع ، وأنّ
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «المسلمون(1/554)
ص : 555
عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» «1»
صريح في شهادة القاذف لا ترد إلا بعد حده.
والخطاب في قوله تعالى : وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً لأولياء الأمر من الحكام ، لأنّه على نسق الخطاب في قوله تعالى : فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً والمراد بالشهادة الإخبار بحق للغير على الغير أمام الحاكم ، ولفظ (شهادة) نكرة واقعة في سياق النهي ، فيكون عاما ، وظاهر العموم فيه يقتضي أنّ شهادة القاذف مردودة سواء أكانت واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف ، وكذلك شهادة من قذف وهو كافر ، ثم أسلم. ومن قذف وهو عبد ، ثم أعتق : كل هؤلاء لا تقبل شهادتهم بمقتضى العموم في اللفظ. إلا أنّ الحنفية استثنوا الكافر إذا حدّ في القذف ثم أسلم ، فإنّ شهادته بعد إسلامه تكون مقبولة.
نظروا في ذلك إلى أن الكافر الذي أسلم قد استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة من قبل ، فلم تدخل تحت الرد ، والذي دخل تحت الرد إنما هو شهادته التي كان أهلا لها عند القذف ، وهي شهادته على أهل دينه.
واختلف العلماء في ردّ شهادة القاذف : أهو من تمام الحد أم ذلك عقوبة زائدة على الحد؟
فذهب الحنفية «2» إلى أن ردّ شهادته من تمام حده ، ويشهد لهم ظاهر الآية ، فقد رتّبت على القذف بشرطه عقوبتين ، وأوجبت على الإمام استيفاءهما من القاذف ، فكأنّ الظاهر أن مجموعهما حد القذف ، ألا ترى أن الشافعية قد فهموا من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «البكر بالبكر جلد مئة وتغريب سنة»
أنّ مجموع الجلد والتغريب حد الزاني البكر. وقال مالك والشافعي : الحد هو جلد ثمانين فقط ، وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على الحد ، وحجتهم في ذلك أنّ المعروف في الحدود أنها عقوبات بدنية ، ورد الشهادة عقوبة معنوية ، والحدود التي شرعت لحفظ الأرواح والدين والعرض والعقل والمال كلها عقوبات بدنية محسوسة ، وحد القذف شرع لصيانة العرض ، فكان إلحاقه بالأعم الأغلب أولى.
وأيضا
فقوله صلّى اللّه عليه وسلّم لهلال بن أمية : «البينة أو حدّ في ظهرك»
يدلّ على أنّ الجلد هو تمام الحد ، إذ لو كان رد الشهادة من تمام الحد لما صحّ بأن يقول : «أو حد في ظهرك» لأن رد الشهادة لا يكون في ظهره ، بل ولا في سائر جسمه ، واتفاق الصحابة على أنّ حد السكران ثمانون جلدة ، وعلى أنّه مثل حد المفتري يدل على أن حدّ المفتري هو الجلد فقط ، إذ لو كان ردّ الشهادة من الحد في القذف لكان من الحد في السكر ، ولوجب رد شهادة من سكر ، ولم يقل بذلك أحد.
__________
(1) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (3/ 280).
(2) انظر الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 405).(1/555)
ص : 556
وقد عرّفوا الحد بأنه فعل يلزم الإمام إقامته ، وليس الردّ فعلا يلزم الإمام إقامته ، لأنه عمل سلبي.
ويترتب على هذا الخلاف أنّ من قال بأنّ ردّ الشهادة من تمام الحد يلزمه القول بأنّ الحاكم لا يرد شهادة القاذف إلا بطلب المقذوف ، فما لم يطلب المقذوف رد شهادة قاذفه لا ينبغي للحاكم أن يردها ، إذ كانت من الحد ، والحد لا يستوفيه الحاكم إلا بطلب المقذوف ، فهل مذهب الحنفية كذلك؟ ومن قال بأن رد الشهادة ليس من الحد لا يرى رد الشهادة موقوفا على طلب المقذوف.
وقوله تعالى : وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ معناه على ما قال بعضهم الإخبار بأنّهم عند اللّه وفي حكمه فاسقون خارجون عن طاعته ، سواء أكانوا كاذبين في قذفهم - وذلك ظاهر - أم كانوا صادقين فيه. فإنّهم هتكوا عرض المؤمن ، وأوقعوا السامع في الشك والريبة من غير مصلحة دينية. فكانوا فسقة لذلك. ويؤخذ من ذلك أنّ القذف مع العجز عن البينة معصية عظيمة ، سواء أكان القاذف كاذبا أم صادقا.
واختار الزمخشري «1» أنّ الجملة إنشائية في المعنى وإن كانت خبرية في اللفظ ، فمعنى وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فسّقوهم. ولعل مراده اعتبروهم فسقة ، واحكموا بفسقهم ، وعاملوهم معاملة الفساق لأنّ اللّه أخبر بأنهم فاسقون. والأمر قريب.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) قال الشافعي : توبة القاذف إكذابه نفسه ، وفسّره الإصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله ، وقال أبو إسحاق المروزي «2» من أصحاب الشافعي : لا يقول كذبت ، لأنه ربما يكون صادقا ، فيكون قوله كذبت كذبا ، والكذب معصية ، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، وندمت على ما قلت ، ورجعت عنه ولا أعود إليه.
وقال بعض العلماء : توبة القاذف كتوبة غيره ، أمر بينه وبين ربه ، ومرجعها إلى الندم على ما قال ، والعزم على ألا يعود.
والسر في أنّ الشافعي أدخل في معنى التوبة التلفظ باللسان ، مع أن التوبة من عمل القلب ، أنه يرتب عليها حكما شرعيا ، وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب ، فلا بدّ أن يعلم الحاكم توبته حتى يقبل شهادته.
والحنفية لا يقبلون شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح ، لذلك كانت
__________
(1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ، (3/ 214).
(2) إبراهيم بن أحمد المروزي ، فقيه انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق ولد بمرو ، وأقام ببغداد وتوفي بمصر ، انظر الأعلام للزركلي (1/ 28).(1/556)
ص : 557
التوبة عندهم عملا قلبيا بين العبد وربه ، ليس من الضروري اطلاعنا عليه ، لأنّه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة ، ومنشأ الخلاف في ذلك خلافهم في الاستثناء في الآية وإلام يرجع.
ومسألة رجوع الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو مسألة أصولية ذكر الأصوليون الخلاف فيها بين العلماء.
والمشهور عند الأصوليين أنّ أصحاب الشافعي يقولون برجوعه إلى جميع الجمل ، وأنّ أصحاب أبي حنيفة يقولون برجوعه إلى الجملة الأخيرة ، وجماعة من المعتزلة يقولون بالتفصيل ، وآخرون يقولون بالاشتراك ، وآخرون يقولون بالوقف ، وليس هذا محل ذكر الحجج للمختلفين.
والذي ينبغي ذكره هنا أنّ الخلاف بين الشافعية والحنفية إنما هو في الكلام إذا خلا عن دليل يدل على أحد الرأيين ، أما إذا كان في الكلام دليل على أحد الرأيين فإنّه يجب المصير إليه بلا خلاف. فقوله تعالى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء : 92] قد اشتمل على قرينة تعيّن أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها. وتلك القرينة هي امتناع عود الاستثناء إلى تحرير الرقبة ، لأنّه حقّ اللّه تعالى ، وتصدق الولي لا يكون مسقطا لحق اللّه تعالى.
وكذلك قوله تعالى في المحاربين : أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة : 33] إلى قوله سبحانه وتعالى : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة : 34] فيه دليل على رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها ، فإنّ التقييد بقوله تعالى : مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يمنع عود الاستثناء الأخيرة وحدها ، أعني قوله سبحانه : وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة : 114] إذ لو عاد إليها وحدها لم يبق لهذا القيد فائدة ، إذ من المعلوم أنّ التوبة من الذنب تسقط العذاب الأخروي سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها ، فلم يكن للتقييد بقوله : مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فائدة إلا سقوط الحدّ.
ونعود إلى الآية التي معنا قول اللّه تعالى : فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فيه ثلاث جمل متعاطفة بالواو ، ومعقبة بالاستثناء ، ولا خلاف بين الفريقين أنّ الاستثناء غير راجع إلى الجملة الأولى ، أما على رأي الحنفية فظاهر ، وأما على رأي الشافعية فلأنّ المحافظة على حقّ العبد قرينة على عدم رجوع الاستثناء إلى الجلد ، فإنّ حق العبد لا يسقط بتوبة الجاني ، فلم يبق إلا الجملتان الأخيرتان : رد الشهادة ، والفسق ، وإذ لا قرينة تعين أحد الأمرين فقد وقع الخلاف ، ووجب التحاكم إلى الحجة والدليل ، وأنت إذا رجعت إلى أدلة الفريقين - وهي كثيرة في كتب الأصول - فإنّك لا تجد فيها - على كثرتها - دليلا سلم من نقد.(1/557)
ص : 558 وقد حاول بعض أجلاء الحنفية الانتصار لمذهبه فقال : إنّ في الآية قرينة تدل على أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها. وبيان ذلك أن قوله تعالى :
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة بصيغة الإخبار ، منقطعة عما قبلها ، جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف لا يصلح أن يكون سببا لهذه العقوبة ، لأنّه خبر يحتمل الصدق ، وربما يكون حسبة ، فكان ذلك الاحتمال شبهة فيه ، والشبهة تدرأ الحد ، فكان قوله تعالى : وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ دفعا لذلك الوهم ، ومعناه أنّهم - مع قيام هذا الاحتمال - قد فسقوا بهتك عرض المؤمن بلا فائدة ، حيث عجزوا عن الإثبات ، فمن أجل ذلك استحقوا هذه العقوبة ، وإذا كانت الجملة الأخيرة مستأنفة توجّه الاستثناء إليها وحدها.
وأنت خبير بأنّ مآل هذا التأويل أنّ العلة في هذه العقوبة فسقهم ، وإذا كان الفسق الذي هو علة في ردّ الشهادة قد أثرت فيه التوبة فرفعته ، ومحت أثره ، فإنّه يلزم من ذلك أن يرتفع ردّ الشهادة الذي هو معلولة ، وينمحي أثره ، لضرورة زوال الحكم بزوال علته.
وكذلك حاول بعض أجلّاء الشافعية الانتصار لمذهبه ، فجعل جملة تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً مستأنفة منقطعة عن الجملة التي قبلها ، لأنّها ليس من تتمة الحدّ لما علمت آنفا ، ويكون قوله تعالى : وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة ، غير منقطع عما قبله ، ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى منه ، ولا تعلّق للاستثناء به.
ولكنك تعلم أنّ القول باستئناف جملة وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ إلخ بعيد كل البعد.
ولعلّ الأولى في الاستثناء ما ذهب إليه الزمخشري «1» حيث قال : الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط ، والمعنى : ومن قذف فاجمعوا لهم بين الأجزية الثلاثة إلا الذين تابوا منهم ، فيعودون غير مجلودين ، ولا مردودي الشهادة ، ولا مفسقين ا ه. أي لكن هذا الظاهر لم يعمل به في خصوص الجلد للإجماع على أنه لا يسقط بالتوبة لما فيه من حق العبد ، فبقي الاستثناء في ظاهره عائدا إلى ردّ الشهادة والتفسيق.
هذا وقد سبق أبا حنيفة إلى القول بعدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب كثير من علماء التابعين منهم الحسن ، وابن سيرين ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير.
وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته إذا تاب ذهب أكثر التابعين وجميع فقهاء الأمصار غير الحنفية. وفي «صحيح البخاري» أنّ عمر رضي اللّه عنه جلد أبا
__________
(1) انظر الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ، للإمام الزمخشري (2/ 214).(1/558)
ص : 559
بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة بن شعبة. ثم استتابهم وقال : من تاب قبلت شهادته.
وقوله تعالى : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل لما يفيده الاستثناء : أي إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم ، ولا تفسّقوهم ، لأنّ اللّه غفور رحيم ، أو فلا تفسوقهم لأنّ اللّه غفور رحيم.
اللعان
قال اللّه تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) في «القاموس» : الشهادة : الخبر القاطع ... وأشهد بكذا أحلف ا ه وفي قوله تعالى : اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة : 16] بعد قوله جلّ شأنه : إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ دليل على أنّ الشهادة ترد بمعنى اليمين ، وقد أجرت العرب الشهادة : أفعال العلم واليقين مجرى اليمين وتلقتها بما يتلقى القسم ، وأكدت بها الكلام كما يؤكد بالقسم.
وقد شاع في لسان الشرع استعمال الشهادة بمعنى الإخبار بحقّ للغير على الغير ، وتسمّى أيضا بينة.
وقد ذكر مادة الشهادة في آيات اللعان خمس مرات : أما الأولى فالمراد بها البيّنة بلا خلاف وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي وليس لهم بينة أربعة رجال عدول يشهدون بما رموهن به من الزنى.
وأما الثانية فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ فأولى الأقوال بالصواب فيها أنّها بمعنى البينة أيضا ، وأنّ المراد فبينته المشروعة في حقه أن يقول أربع مرات إلخ ، ويكون الكلام على حد «ذكاة الجنين ذكاة أمه» أي الذكاة الشرعية التي تحلّ الجنين هي ذكاة أمه. فذكاة أمه ذكاة له ، كذلك هنا ، قول الزوج الكلمات الخمس بينة له على صدق ما يقول ، وقائمة مقام أربعة رجال عدول يشهدون على صدقه.
وأما الثلاثة الباقية «أربع شهادات باللّه ، أن تشهد أربع شهادات باللّه» فهي محتملة لأن تكون بمعنى الإخبار عن علم ، وبمعنى الحلف والقسم ، لأنّ معنى «أربع شهادات باللّه» أن يقول أربع مرات : أشهد باللّه إلخ وقول القائل : أشهد باللّه على كذا يحتمل أن يكون خبرا مؤكدا بالشهادة ، كما يؤكّد بالقسم ، ويحتمل أن يكون قسما مؤكدا بلفظ الشهادة ، والعلماء مختلفون في المراد هنا بكلمات اللعان في قول أحد المتلاعنين : أشهد باللّه إلخ ، فمنهم من قال : هي شهادات غلبت عليها أحكام(1/559)
ص : 560
الشهادات ، ومنهم من قال : هي أيمان غلبت فيها أحكام الأيمان ، وسيأتي بيان ثمرة الخلاف في ذلك.
وظاهر قوله تعالى : إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أنه استثناء متصل. وقيل : إن (إلا) بمعنى (غير) ظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية ، فإنّ (إلا) و(غير) يتعاوران الاستثناء والوصفية ، فتكون (غير) للاستثناء حملا على (إلا) وصفة حملا على (غير) ومن العلماء من جعل الاستثناء هنا منقطعا لظهور أن الزوج ليس من البينة التي كان يصحّ أن يستشهدها لو وجدها. وأولى الأقوال في هذا الاستثناء أنه متصل ، وأن فيه تغليب الشهداء حتى شملوا الزوج القاذف ، والسر في هذا التغليب الإشارة من أول الأمر إلى اعتبار قوله ، وعدم إلغائه ، ليوافق ما آل إليه اللعان في آخر الأمر من اعتبار قوله في سقوط الحد عنه بكلماته وحدها.
واللعن : الطرد من رحمة اللّه والغضب : السخط ، وهو أشد من اللعن ، فلذلك أضيف الغضب إلى المرأة لما أنّ جريمتها وهي الزنى أشد من جريمة الرجل ، وهي القذف.
والدرء : الدفع ، ومنه فَادَّارَأْتُمْ [البقرة : 72] : تدافعتم. والعذاب : كل مؤلم ، والمراد به هنا حدّ الزنى أو التعزير بالحبس ونحوه ، على اختلاف الرأيين كما ستعلم.
سبب نزول آيات اللعان
ذكر العلماء في سبب نزول هذه الآيات روايات
فأخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس «1» رضي اللّه عنهما أنّ هلال بن أمية رضي اللّه عنه قذف امرأته عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال : يا رسول اللّه! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ، فجعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن اللّه تعالى ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام ، وأنزل عليه.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فانصرف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «اللّه يعلم أنّ أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب؟» ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا لها : إنّها موجبة. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما فتلكأت ونكصت ، وظننا أنها ترجع ، ثم قالت : واللّه لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «أبصروها. فإن
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 5) ، 65 - كتاب التفسير ، 3 - باب (و يدرأ عنها العذاب) حديث رقم (4747) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 309) ، كتاب التفسير ، تفسير سورة النور حديث رقم (3179) ، وأبو داود في السنن (2/ 253) ، كتاب الطلاق ، باب في اللعان حديث رقم (2254).(1/560)
ص : 561
جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، خدلج الساقين ، فهو لشريك بن سحماء» فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «لولا ما مضى من كتاب اللّه تعالى لكان لي ولها شأن».
وقيل : إنها نزلت في عاصم بن عدي ، وقيل : إنها نزلت في عويمر بن نصر العجلاني ، وفي «صحيح البخاري» ما يشهد لهذا القول ، بل قال السّهيلي : إنه هو الصحيح ، ونسب غيره إلى الخطأ.
ونحن ندع الخلاف في سبب النزول جانبا ، والذي يهمنا من ذلك أن جميع الروايات متفقة على ثلاثة أمور :
أولها : أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ ، وأنها منفصلة عنها.
والثاني : أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية أنّ حكم من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء.
والثالث : أنّ هذه الآية نزلت تخفيفا على الزوج ، وبيانا للمخرج مما وقع فيه مضطرا.
ونريد أن نبيّن علاقة آيات اللعان بآية القذف ، فقواعد أصول الحنفية تقضي بأنّ آيات اللعان ناسخة للعموم في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لتراخي نزولها عنها.
وعلى ذلك يكون ثبوت الحد على من قذف زوجته منسوخا إلى بدل بيّنته آيات اللعان ، وليس في هذه الآيات حكم يتعلق بقاذف زوجته أكثر من أنه يلاعن.
وسائر الأئمة غير الحنفية يقولون : إن آيات اللعان جعلت قاذف زوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء - مخيّرا بين أن يلاعن أو يقام عليه الحد ، فتكون آيات اللعان مخصّصة لعموم قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ويكون نظم الآيتين هكذا : كلّ من قذف محصنة ولم يأت بأربعة شهداء. فموجب قذفه الحد لا غير ، إلا من قذف زوجته ، فموجب قذفه إياها الحد أو اللعان.
ولعلّك تقول : لما ذا كان حكم قاذف زوجته مخالفا لحكم قاذف الأجنبية ، وما السرّ في أنه قد جاء هكذا مخففا؟
والجواب ببيان حكمة مشروعية اللعان ، وذلك أنّه لا ضرر على الزوج في زنى الأجنبي ، والأولى له ستره ، وأما زنى زوجته فيلحق به العار وفساد النسب ، فلا يمكنه الصبر عليه ، ومن الصعب عليه جدا أن يجد البينة ، فتكليفه إياها فيه من العسر والحرج ما لا يخفى.
وأيضا فإنّ الغالب أنّ الرجل لا يرمي زوجته بالزنى إلا عن حقيقة ، إذ ليس له الغرض في هتك حرمته ، وإفساد فراشه ، ونسبة أهله إلى الفجور ، بل ذلك أبغض إليه ، وأكره شيء لديه ، فكان رميه إياها بالقذف دليل صدقه ، إلا أنّ الشارع أراد كمال(1/561)
ص : 562 شهادة الحال بذكر كلمات اللعان المؤكّدة بالأيمان ، فجعلها - منضمة إلى قوة جانب الزوج - قائمة مقام الشهود في قذف الأجنبي.
شروط المتلاعنين
شرط الحنفية في الزوج الذي يصحّ لعانه أن يكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم ، وفي الزوجة أن تكون كذلك أهلا لأداء الشهادة على المسلم ، وأن تكون ممن يحد قاذفها ، فلا لعان بين رقيقين ، ولا بين كافرين ، ولا بين المختلفين دينا ، ولا بين المختلفين حرية ورقّا ، أما كون الزوج من أهل الشهادة فلقوله تعالى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فإنّ الاستثناء متصل في ظاهره ، والمعروف في الاستثناء المتصل أنّ يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، فيكون الزوج شاهدا يعتبر فيه ما يعتبر في أهل الشهادة ، وأيضا فكلمات اللعان من الزوج في ظاهرها شهادات مؤكدات بأيمان ، فيجري على قائلها ما يجري على الشهود ، وكذلك جعل اللّه كلمات الزوج الأربع بدلا من الشهود ، وقائمة مقامهم عند عدمهم ، فلا أقلّ من أن يشترط في قائلهن ما يشترط في أحد الشهود.
وأما كون الزوجة من أهل الشهادة فلأن لعانها معارضة للعانه ، فكما اشترطنا في الزوج أن يكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم ، كذل يشترط في الزوجة أن تكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم ، حتى يكون في لعانها قوة المعارضة للعانه.
وأما كون الزوجة ممن يحد قاذفها فلأنّ اللعان كما علمت بدل عن الحد في قذف الأجنبية ، فلا يكون لعان في قذف الزوجة إلا حيث يجب الحد على قاذفها لو كان أجنبيا.
ويشهد للحنفية في اشتراطهم هذه الشروط أيضا ما
رواه ابن عبد البرّ في «1» «التمهيد» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين»
. وما رواه الدار قطني «2» من حديثه أيضا عن أبيه عن جده مرفوعا «أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحر والأمة لعان ، ليس بين الحرة والعبد لعان ، وليس بين المسلم واليهودية لعان ، وليس بين المسلم والنصرانية لعان»
وما
رواه عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن شهاب قال : من وصية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعتّاب بن أسيد أن لا لعان بين أربع
، فذكر معناه ، وهذه الأحاديث الثلاثة وإن كان نقاد الحديث قد
__________
(1) يوسف بن عبد اللّه بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي ، من كبار حفاظ الحديث ، مؤرخ أديب ، بحاثة ، ولد بقرطبة ، وتوفي بشاطبة سنة (463 ه) انظر الأعلام للزركلي (8/ 240).
(2) انظر سنن الدار قطني (3/ 163) ، كتاب النكاح عن عبد اللّه بن عمرو.(1/562)
ص : 563
تكلموا في كل واحد منها ، فإنّ الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه يحتجّ به لما عرف في موضعه.
وهذا الذي ذهب إليه الحنفية قال به الأوزاعي والثوري وجماعة ، وهو رواية عن أحمد رحمه اللّه.
وذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية أخرى إلى أنّ اللعان يصحّ من كلّ زوجين ، سواء أكانا مسلمين أم كافرين ، عدلين أم فاسقين ، محدودين في قذف أم غير محدودين ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وربيعة وسليمان بن يسار. وحجتهم في ذلك عموم قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ قالوا : وقد سمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اللعان يمينا ،
فإنّه لما علم أن امرأة هلال بن أمية جاءت بولدها شبيها بشريك بن سحماء قال فيها : «لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن» رواه أبو داود
بإسناد لا بأس به «1». يريد صلّى اللّه عليه وسلّم بالأيمان ما سبق من لعانها. فقد سمّى كلمات اللعان أيمانا ، فلا يشترط في المتلاعنين إلا ما يشترط في أهل الأيمان.
وقالوا أيضا : إنّ حاجة الزوج الذي تصحّ منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد كحاجة من تصحّ شهادته سواء ، والأمر الذي نزل به مما يدعو إلى اللعان ، كالذي ينزل بالعدل الحر ، وليس من محاسن الشريعة أن ترفع ضرر أحد النوعين وتجعل له فرجا ومخرجا مما نزل به ، وتدع النوع الآخر في الآصار والأغلال لا مخرج مما نزل به ولا فرج.
وأما الاستثناء في قوله تعالى : إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فقد علمت ما فيه من الاحتمالات.
وكذلك علمت ما في حديث عمرو بن شعيب ، فلم يبق إلا الكلام في ألفاظ اللعان : أهي شهادة أم يمين ، فالحنفية وموافقوهم غلّبوا فيها جانب الشهادة ، فشرطوا في المتلاعنين أهلية الشهادة.
والشافعية وموافقوهم غلّبوا فيها معنى اليمين ، فلم يشترطوا في المتلاعنين إلا أن يكونا ممن تصح أيمانهم.
ظاهر قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية يقتضي أنّ الزوج إذا قذف امرأته بعد الطلاق أنه لا لعان بينهما ، لأنها حينئذ ليست زوجة ، وبهذا الظاهر قال عثمان البتي «2».
وقال أبو حنيفة والشافعي : إذا وقع القذف في عدّة طلاق رجعي جرى بينهما اللعان ، لأنّ المطلقة طلاقا رجعيا في حكم الزوجة ما دامت في العدة. وقال مالك
__________
(1) انظر سنن أبي داود (2/ 253) ، كتاب الطلاق ، باب اللعان حديث رقم (2254).
(2) عثمان البتي ، فقيه البصرة ، أبو عمرو ، بيّاع البتوت (الأكسية الغليظة) اسم أبيه مسلم وقيل أسلم وقيل سليمان وأصله من الكوفة ، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (6/ 364) ترجمة (891).(1/563)
ص : 564
رضي اللّه عنه : إن كان هناك نسب يريد أن ينفيه ، أو حمل يتبرأ منه لا عن. وإذا لم يكن هناك حمل يرجى ، ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة ، فلم يحكم به ، وكان قذفا مطلقا داخلا تحت قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية.
كيفية اللعان
كلمات اللعان هي على ما في كتاب اللّه تعالى : أن يقول الزوج أربع مرّات أشهد باللّه إني لمن الصادقين ، وفي المرّة الخامسة يقول : لعنة اللّه عليه إن كان من الكاذبين.
وشهادة الحال قرينة على تعيين متعلّق الصدق والكذب في قوله : لَمِنَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما رميتها به من الزنى ونفي الولد ، وكذلك المرأة تقول في لعانها أربع مرات : أشهد باللّه إنه لمن الكاذبين ، وفي المرة الخامسة تقول : غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين ، وتكتفي بدلالة الحالة عن ذكر متعلّق الصدق والكذب ، هذه كلمات اللعان على ما حكاها اللّه سبحانه تراها قد اكتفي فيها بشهادة الحال عن بيان متعلّق الصدق والكذب.
إلا أنّ بعض العلماء اشترط أن يذكر باللفظ متعلّق الصدق والكذب لقطع احتمال أن ينوي متعلقا آخر للصدق والكذب.
وكذلك ظاهر الآية أنه لا يقبل من الرجل أقلّ من خمس مرات ، ولا يقبل منه إبدال اللعنة بالغضب ، وكذلك لا يقبل من المرأة أقل من خمس مرات ولا أن تبدل الغضب باللعنة.
وظاهر الآية أيضا البداءة بالرجل في اللعان ، وهو مذهب الجمهور من فقهاء الأمصار. وأبو حنيفة رحمه اللّه يعتدّ بلعانها إذا بدئ به. ومرجع الخلاف بين الإمام أبي حنيفة والجمهور من الفقهاء في هذا إلى أن الفقهاء يرون لعان الزوج موجبا للحد على الزوجة ، ولعانها يسقط ذلك الحد ، فكان من الطبيعي أن يكون لعانها متأخرا عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجبا لشيء قبلها ، فليس من الضروري أن يتأخر لعانها عن لعانه ، وسيأتي لهذه المسألة مزيد تفصيل في الكلام على فائدة اللعان.
هذه كيفية اللعان المأخوذة من القرآن ، ويزاد عليها من السنة أنّه إذا كانت المرأة حاملا ، وأراد الزوج أن ينفي ذلك الحمل وجب أن يذكره في لعانه ، كأن يقول : وإنّ هذا الحمل ليس مني ، هذا رأي الأئمة الثلاثة وجمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة : لا لعان لنفي الحمل ، وإذا نفاه في لعانه لم ينتف ، وسبيله إذا أراد نفيه أن ينتظر حتّى تضع حملها ، فيلاعن لنفيه ، لاحتمال أن يكون ما بها نفاخ وليس بحمل.
وكذلك إذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه عنه وجب التعرّض لذلك في اللعان ، وأخذ العلماء من أحاديث اللعان أيضا أنّه يندب أن يقام الرجل حتى يشهد ، والمرأة(1/564)
ص : 565
قاعدة ، وتقام المرأة والرجل قاعد حتّى تشهد ، وأن يعظها القاضي أو نائبه بمثل قوله لكل منهما عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب : اتق اللّه ، فإنّها موجبة ، ولعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، كما يستحب التغليظ بالزمان والمكان ، وحضور جمع من عدول المسلمين ، على خلاف في ذلك بين الفقهاء ، محلّه كتب الفروع.
ما يترتب على اللعان
ظاهر قوله تعالى : فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وقوله جلّ شأنه : وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ أنّ اللعان من الزوج يسقط عنه حدّ القذف ، ويوجب على الزوجة حدّ الزنى ، وبيان ذلك من وجهين :
الأول : أن قوله : فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ إلخ معناه فالشهادة المشروعة في حقه التي تعمل عمل شهادة البينة إذا كان القاذف أجنبيا أن يأتي بكلمات اللعان على الوجه المبيّن في الآية ، ومعلوم أنّ مقتضى شهادة البينة من الأجنبي وموجبها هو سقوط حد القذف عنه ، ووجوب حد الزنى على المقذوف ، وإذ قد أقام اللّه كلمات اللعان من الزوج مقام البينة من الأجنبي وجب أن يكون مقتضى كلمات اللعان وعملها هو شهادة الشهود الأربعة وعملها ، فكما أسقطت الشهادة من الأجنبي حدّ القذف عنه ، وأوجبت حد الزنى على المقذوف ، كذلك كلمات اللعان من الزوج ، تأخذ هذا المقتضى ، وتعمل هذا العمل بعينه ، فتسقط حد القذف عن الزوج ، وتوجب حد الزنى على الزوجة.
والوجه الثاني : أنّ كلمة العذاب في قوله تعالى : وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ .. لا يصح أن يراد منها عذاب الآخرة ، لأن الزوجة إن كانت كاذبة في لعانها لم يزدها اللعان إلا عذابا في الآخرة ، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة حتى يدرأه اللعان ، فتعيّن أن يراد به عذاب الدنيا ، ولا يصحّ أن تكون اللام فيه للجنس ، لأنّ لعانها لا يدرأ عنها جميع أنواع العذاب في الدنيا ، فتعين أن تكون اللام للعهد ، والمعهود هو المذكور في قوله تعالى : وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا هو عذاب حد الزنى. ويشهد لذلك
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم لخولة بنت قيس كما في بعض الروايات «الرجم أهون عليك من غضب اللّه»
فقد فسر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم العذاب المدروء عنها بالرجم. وأيضا
فقوله صلّى اللّه عليه وسلّم على ما في الروايات الأخرى التي بلغت حدّ الشهرة أو التواتر لخولة عند ما أتمت كلمات اللعان الأربع «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» «1»
يشهد بأن المراد بالعذاب الحد ، إذ لو كان المراد به الحبس - وهي إنما تحبس لتلاعن - لما كان لتذكيرها بهذا القول من فائدة ، فثبت من هذا أنّ لعان الزوج يسقط حد القذف عنه ، ويوجب حد
__________
(1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/ 21) ، وابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (18/ 66 - 67).(1/565)
ص : 566
الزنى عليها ، وحينئذ يكون لعانها مسقطا للحد عنها ، وبهذا قال الإمام مالك والشافعي والحجازيون ، وخلائق من العلماء.
وقال أبو حنيفة رحمه اللّه : آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته فليس عليه حد في قذف زوجته فكيف يسقط لعانه حدا لم يثبت عليه وكذلك لا يوجب لعانه حدّ الزنى على الزوجة ، لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود أو بالإقرار أربع مرات ، وليس لعان الرجل في قوة الشهود الأربعة ، وليس نكولها بصريح في الإقرار.
وعلى هذا الخلاف ينبني خلافهم في حكم الممتنع من اللعان من الزوجين فمالك والشافعي ومن وافقهما يقولون : الزوج الممتنع من اللعان يدخل في حكم قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية ، فإذا كانت زوجته ممن يحدّ قاذفها حدّ ، وإلا عزر ، لأنّ اللعان جعل رخصة له ، فلما أبى أن يلاعن فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة ، فكان حكمه وحكم غير الزوج سواء. والزوجة الممتنعة عن اللعان بعد لعان زوجها يقام عليها حدّ الزنى ، وهو مختلف بإحصانها ورقها وحريتها.
والحنفية يقولون : إذا امتنع الزوج من اللعان حبس حتى يلاعن ، لأن اللعان حق توجه عليه ، وحكمه حكم سائر الحقوق التي لا يمكن استيفاؤها إلا بالقهر والتعزير ، فللحاكم حبسه وتهديده حتى يلاعن أو يكذّب نفسه في القذف ، فيقام عليه حده.
ووافق الحنفية الإمام أحمد في حكم الزوجة الممتنعة في إحدى الروايتين عنه ، وفي رواية أخرى عنه لا تحبس ، ويخلى سبيلها كما لو لم تكمل البينة ، وهذا قول غريب جدا ، إذ كيف يخلّى سبيلها ويدرأ عنها العذاب بغير لعان ، وهل هذا إلا مخالفة لظاهر القرآن.
فأولى الأقوال بالصواب هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء ، ودل عليه ظاهر القرآن من أنّ لعان الزوج يسقط عنه حد القذف ، ويوجب على الزوجة حدّ الزنى. وأنّ لعانها يدرأ عنها حد الزنى ، ولم تتعرض آيات اللعان لأكثر من هذه النتائج.
وأما نفي الولد ، والفرقة بين المتلاعنين ، والتحريم المؤبد بينهما ، فإنّما مأخذها من السنة لا من القرآن الكريم. فنفي الولد مصرّح به في حادثة هلال بن أمية وغيرها ، والروايات الدالة على أنه من نتائج اللعان كثيرة تكاد تبلغ حد الشهرة أو التواتر ، وقد صرح العلماء بأنّ المقصود الأصلي من اللعان إنما هو نفي الولد.
وكذلك الفرقة بين المتلاعنين ثبتت بالسنة الصحيحة ، وللعلماء في موجبها خلاف. فقال الشافعي : إنها تقع بمجرد لعان الزوج وحده ، وإن لم تلاعن المرأة ، وحجته في ذلك أنّها فرقة حاصلة بالقول ، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق ، ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، كما قال تعالى : وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ(1/566)
ص : 567
تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ
ففيه دلالة على أنّ كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب عن الزوجة.
وقال مالك وأحمد في إحدى الروايتين وأهل الظاهر : لا تقع الفرقة إلا بلعانهما جميعا ، فإن تمّ لعانهما حصلت الفرقة ، ولا يعتبر تفريق الحاكم. واحتجوا بأنّ الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده ، وأيضا لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لا عنت المرأة وهي أجنبية ، ولكنّه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين.
وقال أبو حنيفة وأحمد في روايته الأخرى : إنّ الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما ، وتفريق الحاكم بينهما ، والحجة في ذلك قول ابن عباس في حديثه ، ففرق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بينهما ، وهذا يقتضي أنّ الفرقة لم تحصل قبله ، وقول عويمر كذبت عليها يا رسول اللّه إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثا ، فقوله هذا يقتضي بقاء العصمة بعد اللعان ، إذ لو وقعت الفرقة باللعان لكان كلامه لغوا ، وتطليقه إياها عبثا ، ولما أقره النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على شيء من ذلك.
وقال عثمان البتي وطائفة من فقهاء البصرة : لا يقع باللعان فرقة البتة ، لأنّ أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه ، وهذا لا يوجب تحريما ، كما لو قامت البينة على زناها. وأما تفريق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بين المتلاعنين في قصة عويمر العجلاني فذلك لأنّ الزوج كان طلقها ثلاثا قبل اللعان.
وأما التحريم المؤبد بينهما فقال به عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وجمع من الصحابة والتابعين ، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف والثوري وأبو عبيد ، والسنة الصحيحة صريحة في أنّ المتلاعنين لا يجتمعان أبدا.
وقال أبو حنيفة ومحمد وسعيد بن المسيّب : إن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من الخطاب ، وقد يحتجّ لهم بعموم قوله تعالى : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء : 3] وقوله جلّ شأنه : وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء : 24].
والذي تقتضيه حكمة اللعان أن يكون التحريم مؤبدا ، فإنّ لعنة اللّه وغضبه قد حلّ بأحدهما لا محالة ، ولا نعلم عين من حلّ به ذلك منهما يقينا ، فوجب التفريق بينهما خشية أن يكون الزوج هو الذي قد وجبت عليه لعنة اللّه ، وباء بها ، فيعلو امرأة غير ملعونة ، وحكمة الشرع تأبى ذلك ، كما تأبى أن يعلو الكافر المسلمة. وأيضا فإنّ النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه لا تزول أبدا ، فإنّ الرجل إن كان صادقا عليها ، فقد أشاع فاحشتها ، وفضحها على رؤوس الأشهاد ، وأقامها مقام الخزي والغضب ، وإن كان كاذبا : فقد أضاف إلى ذلك أنّه بهتها ، وزاد في غيظها وحسرتها.
كذلك المرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد ، وأوجبت عليه(1/567)
ص : 568
لعنة اللّه ، وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه ، وخانته في نفسها ، وألزمته العار والفضيحة ، وأحوجته إلى هذا المقام المخزي ، فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة والإساءة والوحشة ما لا يكاد يلتئم معه شملهما ، وما يبعد معه أن يعود بينهما السكن والمودة والرحمة التي هي سر الحياة الزوجية الهنية الراضية ، فاقتضت حكمة اللّه - وشرعه كلّه حكمة ومصلحة وعدل ورحمة - تأبيد الفرقة بينهما ، وقطع أسباب اتصالهما بعد أن تمحضت صحبتهما مفسدة ، واستحال اجتماعهما إلى ضرر وشقاق.
هذه أحكام مترتبة على قذف الرجل زوجته وحدها ، فأما إذا قذف معها أجنبي فهذا موضع قد اختلفوا فيه ، فقال أبو حنيفة ومالك : لكل منهما حكمه ، فيلاعن للزوجة ويحدّ للأجنبي.
وقال أحمد : يجب عليه حد واحد لهما ، ويسقط هذا الحد بلعانه ، سواء أذكر المقذوف في لعانه أم لم يذكره. وقال الشافعي : إن ذكر المقذوف في لعانه سقط الحد له ، كما يسقط الحد للزوجة ، وإن لم يذكره في لعانه حد له.
والذين أسقطوا حكم قذف الأجنبي باللعان حجتهم ظاهرة ، فإنّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء ، وقد سمّاه صريحا ، وأيضا فإنّ الزوج مضطر إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه ، وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد له على صدقه ، كما استدل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على صدق هلال بشبه الولد بشريك ، فكان قذفه تابعا لقذف الزوجة ، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها.
وأجاب القائلون بأن اللعان لا يسقط حدّ الأجنبي عن عدم إقامة الحد لشريك بجوابين.
الأول : أن شريكا كان يهوديا ، وهو باطل ، والصحيح أن شريك بن عبدة ، وأمه سحماء ، وهو حليف الأنصار ، ولم يكن يهوديا ، وهو أخو البراء بن مالك لأمه.
والجواب الثاني : أنه لم يطالب به ، وحد القذف إنما يقام بعد المطالبة ، وهو غير سديد أيضا ، لأن شريكا لما استقر عنده أنه لا حقّ له في هذا القذف لم يطالب به ، ولم يتعرض لقاذفه. وإلا فغير معقول أن يسكت عن براءة عرضه وله طريق إلى إظهارها بحد قاذفه ، والقوم كانوا أشدّ حميّة وأنفة ، وأقوى تمسكا بالمحافظة على الكرامة.
هذا وقد استدلّ بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معيّن ، لأنّ قول الزوج : لعنة اللّه عليه إن كان من الكاذبين ، دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه ، فإذا كان هذا جائزا فأولى منه بالجواز الدعاء باللعن على شخص مقطوع بكذبه.
وكذلك استدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج : إن الزنى والكذب في القذف كفر ، وذلك لأنّ الزوج الذي قذف زوجته إن كان صادقا كانت زوجته زانية ، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه ، فأحدهما لا محالة كافر مرتد ، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان.(1/568)
ص : 569
وبهذه المناسبة ينبغي أن نذكر حكم قذف الزوج زوجته وحكم نفيه الولد :
قال العلماء : لا يحل للرجل قذف زوجته إلا إذا علم زناها أو ظنه ظنا مؤكدا ، كأن شاع زناها بفلان ، وصدّقت القرائن ذلك. والأولى به تطليقها سترا عليها ما لم يترتب على فراقها مفسدة. هذا إذا لم يكن هناك ولد ، فإن أتت بولد علم أنه ليس منه ، أو ظنه ظنا مؤكدا وجب عليه نفيه ، وإلا كان بسكوته مستلحقا لمن ليس منه ، وهو حرام ، كما يحرم عليه نفي من هو منه. وإنما يعلم أنّ الولد ليس منه إذا لم يطأها أصلا ، أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من الوطء. فإن أتت به لستة أشهر فأكثر ، فإن لم يستبرئها بحيضة حرم النفي ، وإن استبرأها بحيضة كان ذلك في مجال النظر ، فإن قلنا إنّ الحمل لا يمنع الحيض حرم النفي ، وإن قلنا إنّ الحمل يمنع الحيض حل النفي. وإذا وطئ وعزل حرم النفي ، وكذلك إذا علم زناها وجاز كون الولد منه وكونه من الزنى حرم النفي لتقاوم الاحتمالين ، والولد للفراش.
قال اللّه تعالى : وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) فيه التفات من الغيبة إلى خطاب الرامين والمرميات بتغليبهم عليهن ، وسرّ هذا الالتفات أن يستوفي مقام الامتنان حقّه في المواجهة ، وحال الحضور أتم وأكمل منه في الغيبة وعدم المواجهة ، وجواب (لو لا) محذوف ، وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم في تقديره كل مذهب ، فيكون أبلغ في البيان ، وأبعد في التهويل والإرهاب ، على حد قوله تعالى : وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام : 27] والمعنى أن من آثار فضل اللّه عليكم ورحمته بكم وتوبته على عباده وحكمته في أفعاله أن شرع اللعان بين الزوجين ، ولو لا ذلك لحصل لهما من الحرج ما لا يحيط به البيان ، فلو لم يكن اللعان مشروعا لوجب على الزوج حدّ القذف ، مع أن الظاهر كما تقدم صدقه ، وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في العار والخزي ، ولو جعل شهاداته موجبة لحد الزنى عليها لفات النظر لها ، ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له. فكان من الحكمة وحسن النظر لهما جميعا أن جعل شهادات كلّ منهما دارئة لما توجه إليه من عذاب الدنيا ، وآذن الكاذب منهما أن يلج باب التوبة حتى ينجو من عذاب الآخرة ، فسبحانه ما أوسع رحمته ، وأجلّ حكمته.
الاستئذان في دخول البيوت
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
الآيات التي تقدّمت في صدر الصورة كانت في حكم الزنى وبيان أنّه قبيح ومحرّم ، وأنّ صاحبه يستحق العذاب والنكال ، ولما كان الزنى طريقه النظر والخلوة(1/569)
ص : 570 والاطلاع على العورات ، وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مظنة حصول ذلك كلّه أرشد اللّه عزّ وجلّ عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت ، حتى لا يقعوا في ذلك الشر الوبيل ، وأيضا فإنّ أصحاب الإفك لم يكن لهم متكأ في رمي عائشة رضي اللّه عنها إلا أنها كانت مع صفوان في خلوة أو ما يشبه الخلوة ، لذلك نهى اللّه سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتّى لا يؤدي ذلك إلى القدح في أعراض البرآء الأطهار.
روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : يا رسول اللّه إني أكون في بيتي على الحالة التي أحبّ أن لا يراني عليها أحد ، ولا ولد ولا والد فيأتيني آت ، فيدخل عليّ فكيف أصنع؟ فنزل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ.
وكلمة بُيُوتاً نكرة واقعة في سياق النهي فكانت في ظاهرها شاملة البيوت المسكونة وغير المسكونة ، إلا أن مقابلتها بقوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ يقتضي حملها على المسكونة فقط. والمراد بالبيوت المضافة إلى المخاطبين في قوله تعالى : غَيْرَ بُيُوتِكُمْ البيوت التي يسكنونها. فالمعنى : لا تدخلوا بيوتا مسكونة لغيركم حتى تستأنسوا إلخ.
الاستئناس : استفعال. قيل : إنه من آنس بالمد بمعنى علم فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء : 6] فالاستئناس طلب العلم. فالذي يريد أن يدخل بيت غيره مكلّف قبل الدخول أن يستأنس ، أي يتعرّف من أهله ما يريدونه من الإذن له بالدخول وعدمه ، فهو بمعنى الاستئذان. وقد فسّره بذلك ابن عباس كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وابن الأنباري وابن جرير «1» وابن مردويه. وهو أيضا تفسير ابن مسعود وإبراهيم وقتادة رضي اللّه عنهم.
ويدل على أنّ المراد بالاستئناس الاستئذان قوله تعالى : وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور : 59] فإنّ المراد بالذين من قبلهم هم المخاطبون في الآية التي معنا. وقد سمّى اللّه تعالى استئناسهم استئذانا.
وعن ابن عباس من طريق شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف حتى تستأذنوا ويقول : غلط الكاتب. وهذا يوافق ما رواه الحاكم وصححه والضياء في كتابه «الأحاديث المختارة» والبيهقي عن ابن عباس أيضا أنه قال في : حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أخطأ الكاتب. وإنما هي حتى تستأذنوا ومن أجل أنّ هذه الرواية فيها كما ترى دلالة على أن ابن عباس ينكر وجها من وجوه القراءات المتواترة
__________
(1) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (18/ 87). [.....](1/570)
ص : 571
للقرآن الكريم - ولا شك أنّ القول بهذا فيه شر كبير - لهذا أنكر أبو حيان هذه الرواية عن ابن عباس وقال : إنّه رضي اللّه عنه يجل مقامه أن يذهب هذا المذهب الفاسد ، ومن روى عنه ذلك فهو طاعن في الإسلام ، ملحد في الدين «1».
لكن غير أبي حيان ممن لا يرى رأيه في هذه الرواية يجيب عنها بغير ما أجاب ، فابن الأنباري لم ينكرها ، بل قال : إنها ضعيفة ومعارضة بروايات أخرى عن ابن عباس ، منها ما تقدّم لك أنه كان يفسر الاستئناس بالاستئذان ، وهذا يدلّ على أنّه ما كان ينكر قراءة حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا.
وبعض العلماء لم يجادل في صحة الرواية التي يقول فيها ابن عباس بخطأ الكاتب نظرا إلى أنها رويت من عدة طرق في بعضها قوة وجودة لهذا اضطر أن يؤول قوله : «أخطأ الكاتب» بأنه ينبغي أن يكون مراد به أنّ الكاتب الذي عهد إليه أن يكتب القرآن بحرف واحد يجتمع عليه الناس أخطأ في اختيار هذا الحرف حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا دون الحرف الثاني تستأذنوا وكان ينبغي أن يختار الثاني ، لأنّه أبين وأوضح دلالة على المعنى ، ولأنّ معناه محدود ، إذ ليس في اللفظ تجوّز ولا اشتراك.
وهذا الجواب الأخير هو مختار المحققين من العلماء وأئمة التفسير.
ويصح أن يكون الاستئناس مأخوذا من الأنس بضم الهمزة ، وهو سكون النفس واطمئنان القلب وزوال الوحشة ، فإنّ القادم على بيت غيره مستوحش لا يدري أيؤذن له بالدخول أم لا ، فعليه أن يستأنس أولا ، أي يلتمس ما يؤنس ويزيل وحشته ، وذلك الالتماس إنما يكون بالاستئذان.
وقيل : إنّ المراد بالاستئناس إعلام الطارق أهل البيت إعلاما تاما أنه قادم عليهم ، ويدل له ما
روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : قلنا يا رسول اللّه ما الاستئناس؟ فقال :
«يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت» «2».
وقيل : إنّ المراد بالاستئناس فعل ما يؤنس أهل البيت ، ويدفع عنهم الوحشة التي كانت تلمّ بهم لو لم يفعل. وذلك يكون بالتنحنح وما يشبهه ، فهذه معان أربعة للاستئناس :
الأول : أن القادم يطلب العلم برأي أصحاب البيت في دخوله.
والثاني : أنه يطلب منهم ما يؤنسه ويزيل وحشته.
والثالث : أنه يعلمهم إعلاما مؤكدا بقدومه.
والرابع : أنه يؤنسهم بعمل ما ، كأن يسبح أو يكبر ، ومنه ما تعارفه الناس اليوم من دقّ الباب دقا خفيفا دلالة على طلب الإذن.
__________
(1) انظر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (6/ 445).
(2) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 38).(1/571)
ص : 572
وأنت ترى أنّ مآل المعنيين الأولين للاستئناس هو الاستئذان ، فيكون القادم منهيا عن الدخول قبل أن يأتي بعبارة صريحة تدلّ على الاستئذان ، وحينئذ لا يباح له الدخول إلا أن يؤذن له ، إذ لا معنى للاستئذان دون أن ينتظر الإذن ، فيكون تأويل الآية هكذا : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا ويؤذن لكم ، ويدل على هذا المضمر قوله تعالى بعد : فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ.
أما على المعنيين الآخرين فظاهر الآية أنّه لا يتوقف دخول القادم على أن يأذن له بذلك أهل البيت ما دام قد أعلمهم وأزال وحشتهم. وبهذا قال مجاهد وعكرمة ، ولعلّك ترى أنّ هذا الرأي ضعيف ، فإنّ إعلامهم ودفع الوحشة عنهم لا ينبغي أن يكون كافيا في إباحة الدخول ، إذ الحكمة التي من أجلها شرع الاستئذان هي أنّ اقتحام البيوت بغير إذن قد يؤدي إلى أن يقع نظر الداخل على ما لا يحل النظر إليه ، أو يطلع على ما يكره أهل الدار اطلاعه عليه.
وظاهر الآية الكريمة أنّه لا بدّ قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا ، وعليه جمهور الفقهاء ، فكلّ من الاستئذان والسلام مطلوب غير أنّ الطلب فيهما متفاوت ، فالطلب في الاستئناس على سبيل الوجوب ، والطلب في السلام على سبيل الندب ، كما هو حكم السلام في غير هذا الموطن.
وظاهرها أيضا تقديم الاستئذان على السلام ، لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يكون على وفق الترتيب الواقعي ، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان ، وحجتهم في ذلك عموم
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي عن جابر رضي اللّه تعالى عنه : «السلام قبل الكلام» «1».
وما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في «الأدب» «2» عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلّم ، قال : لا يؤذن له حتّى يسلم.
وما أخرجه ابن أبي شيبة وابن وهب عن زيد بن أسلم قال : أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي اللّه عنهما فجئته فقلت أألج؟ فقال : ادخل ، فلما دخلت قال : مرحبا يا ابن أخي ، لا تقل أألج ، ولكن قل : السلام عليكم. فإذا قيل : وعليك ، فقل : أأدخل؟ فإذا قالوا : ادخل ، فادخل «3».
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 56) ، كتاب الاستئذان ، باب ما جاء في السلام حديث رقم (2699).
(2) الأدب المفرد للإمام البخاري صفحة (287) ، 494 - باب الاستئذان غير السلام حديث رقم (1098).
(3) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 464) ، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/ 39).(1/572)
ص : 573
وما أخرجه قاسم بن أصبغ وابن عبد البر عن ابن عباس قال : استأذن عمر رضي اللّه عنه على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : السلام على رسول اللّه السلام عليكم أيدخل عمر؟
وبعض العلماء فصّل في المسألة فقال : إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت سلّم أولا ، ثم استأذن في الدخول ، وإن كانت عينه لا تقع على أحد منهم قدّم الاستئذان على السلام. وهذا قول جيّد ، ولا ينافيه حديث الترمذي والآثار السابقة ، فإنّه يمكن أن تحمل على الحالات التي يكون فيها القادم بحيث يرى أهل البيت. فالأصل أن يقدّم الاستئذان على السلام كما هو ظاهر الآية إلا أن يكون القادم بحيث يرى أهل الدار ، فينبغي أن يحييهم أولا بالسلام ، ثم يستأذن. وفي هذا جمع بين الأدلة.
وظاهر الآية أنّ الاستئذان غير مقيّد بعدد ، فإن استأذن مرة فأجيب بالإذن دخل ، وإن أجيب بالرد رجع ، وإن لم يجب فلا عليه أن يرجع.
وقال بعض العلماء : إنّ الاستئذان ثلاث مرات ، فمن لم يؤذن له بعدهن فليرجع ، إلا إذا أيقن أنّ من في البيت لم يسمع ، فإنّه يجوز له الزيادة على الثلاث.
والحكمة في هذا العدد أنّ المرة الأولى لإسماع من في البيت ، والثانية : ليتهيؤوا ، والثالثة : ليأذنوا ، أو يردوا. واستدلّ هؤلاء بما
روى أبو هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «الاستئذان ثلاث : بالأولى يستنصتون ، وبالثانية : يستصلحون ، وبالثالثة : يأذنون أو يردون»
وبما
روي عن أبي سعيد الخدري «1» قال : كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعا ، فقلنا له : ما أفزعك؟ فقال أمرني عمر أن آتيه فأتيته ، فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي ، فرجعت فقال : ما منعك أن تأتيني؟
فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي. وقد قال عليه الصلاة والسلام : «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» فقال : لتأتيني على هذا بالبينة أو لأعاقبنك ، فقال أبيّ بن كعب : لا يقوم معك إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد : وكنت أصغرهم ، فقمت معه ، فأخبرت عمر أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذلك.
والراجح أنّ الواجب إنما هو الاستئذان مرة ، فأما إكمال العدد ثلاثا فهو حقّ المستأذن ، إن شاء أكمله ، وإن شاء اقتصر على مرة أو مرتين.
فقد روى الزهري عن عبيد اللّه بن أبي ثور عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال :
سألت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اللتان تظاهرتا عليه ، اللتان قال اللّه فيهما : إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم : 4]؟
فقال : حفصة وعائشة ، قال : ثم أخذ يسوق الحديث ، وذكر اعتزال النبي في المشربة ،
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 169) ، 79 - كتاب الاستئذان ، 13 - باب التسليم حديث رقم (6245).(1/573)
ص : 574
قال : فأتيت غلاما أسود فقلت : استأذن لعمر ، فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فرجعت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد ، فرجعت إلى الغلام ، فقلت : استأذن لعمر ، فدخل ، ثم خرج فقال : قد ذكرتك له فصمت. قال :
فوليت مدبرا ، فإذا الغلام يدعوني فقال : ادخل فقد أذن لك. الحديث «1» ... ففي رجوع عمر رضي اللّه عنه بعد المرة الثانية دليل على أنّ إكمال الثلاث ليس مطلوبا ، بل هو حقّ المستأذن.
وهذا ومن الأدب في الاستئذان أنه إذا وقف المستأذن ينتظر الإذن فلا يستقبل الباب بوجهه ، بل يجعله عن يمينه أو شماله.
فقد روي أنّ أبا سعيد الخدري استأذن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو مستقبل الباب ، فقال عليه الصلاة والسلام : «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب».
وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر «2».
قالوا : لأنّ الدّور لم يكن عليها حينئذ ستور. ولكن ينبغي أن يكون الأمر كذلك في الدور الآن ، ولو كانت مغلقة الأبواب عند الاستئذان ، فإنّ الطارق إذا استقبلها فقد يقع نظره عند الفتح له على ما لا يجوز ، أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه.
وظاهر الآية أنّ الاستئذان واجب على كلّ طارق ، ولو كان أعمى ، وبذلك قال العلماء ، لأنّ من عورات البيوت ما يدرك بالسمع ، ففي دخول مكفوف البصر على أهل بيت بغير إذنهم إيذاء لهم. فأما ما
رواه الشيخان من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنما جعل الاستئذان من أجل النّظر» «3»
فهو جار على الغالب ، وليس الحصر فيه على سبيل التحقيق ، بل هو حصر ادعائي مبني على المبالغة ، وكمال العناية بالحث على حفظ النظر ، وسياق القصة التي قال فيها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك يدلّ على ما ذكرناه ، فقد روى سهل بن سعد أنّه اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومع النبي مدرى يحكّ بها رأسه فقال : «لو أعلم أنّك تنظر لطعنت بها في عينك ، إنما جعل الاستئذان من أجل النّظر» وإذا كان الأمر كذلك ، وكان القصد المبالغة والتشديد على ذلك الرجل الذي كان يطّلع على حجرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم علم الغرض من ذلك الحصر ، ولم يكن في الحديث حينئذ دلالة على نفي أنه قد يكون الاستئذان من أجل السمع. فالمقصود إفادة أنّ النظر من أقوى الأسباب التي شرع لها الاستئذان.
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 142) ، 46 - كتاب المظالم ، 25 - باب الفرقة حديث رقم (2468).
(2) رواه أبو داود في السنن (4/ 386) ، كتاب الأدب ، باب كم مرة يسلم حديث رقم (5186).
(3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1698) ، كتاب الآداب ، 9 - باب تحريم النظر حديث رقم (40/ 2156) ، والبخاري في الصحيح (7/ 168) ، 79 - كتاب الاستئذان ، 11 - باب الاستئذان حديث رقم (6241).(1/574)
ص : 575
وظاهر التعبير في الآية باسم الموصول الخاص بجماعة الذكور أنّ النساء ليس عليهن استئذان ، ولكنّك تعلم أنّ الحكمة التي من أجلها شرع الاستئذان متحققة في الرجال والنساء معا ، ولهذا قال العلماء : إنّ في الآية تغليب الرجال على النساء ، كما هو المعهود في الأوامر والنواهي القرآنية المبدوءة بمثل هذا النداء.
وعلى هذا يكون على المرأة إذا أرادت أن تدخل بيت غيرها أن تستأذن قبل الدخول. فإنّ الناس قد يكرهون أن يطلع بعض النساء على بيوتهم ، ويظهرن على ما فيها من أسراره.
أخرج ابن أبي حاتم عن أمّ إياس قالت : كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي اللّه عنها فقلت : ندخل؟ فقالت : فقالت واحدة : السلام عليكم ، أندخل؟ قالت :
ادخلوا. ثم قالت : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الآية.
والظاهر من تخصيص النهي ببيوت الغير في قوله تعالى : لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أنّ بيوتهم لا يثبت فيها هذا الحكم. والحكم كذلك إذا كانت البيوت خاصة بهم ، لا يسكن معهم فيها غيرهم من الأجانب أو المحارم. أما إذا كان فيها أحد من هؤلاء فإنّ الاستئذان يكون مطلوبا أيضا.
فقد أخرج مالك في «الموطأ» «1» عن عطاء بن يسار أنّ رجلا قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أأستأذن على أمي؟ قال : «نعم» قال : ليس لها خادم غيري ، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال : «أ تحب أن تراها عريانة؟» قال : لا.
قال : «فاستأذن عليها».
وأخرج ابن جرير «2» والبيهقي عن ابن مسعود قال : عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم.
وروى الطبري عن طاوس قال : ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم.
وقال اللّه تعالى : وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور : 59] فأوجب على من بلغ من الأطفال أن يستأذن من غير تفرقة بين الأجانب والمحارم ، غير أنه ينبغي أن تعلم أنّ أمر الاستئذان في الدخول على المحارم أيسر منه في الأجنبيات من حيث كان يجوز أن يطّلع من المحارم على ما لا يجوز أن يطّلع من غيرهن : كالشعر ، والصدر ، والساق. وكذلك الاستئذان على الزوجات والمملوكات الأمر فيه أيسر من الاستئذان على المحارم. فقد قال الفقهاء : إنه يستحب أن يستأذن
__________
(1) الموطأ للإمام مالك حديث رقم (963).
(2) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (18/ 87 - 88).(1/575)
ص : 576
الرجل قبل دخوله بيته ، أو يأتي بما يدلّ على قدومه كالتسبيح والتنحنح ، فإنّه قد تكون المرأة في شأن لا تحب أن يطلع عليه زوجها أو سيدها.
وظاهر الآية عموم النهي عن دخول البيوت بغير إذن في جميع الأزمان والأحوال ، ولكن يجب أن يستثنى من ذلك ما تقضي به الضرورة ، كهجوم لصوص على الدار ، أو اشتعال النار فيها ، فإنّ لمن يعلم ذلك أن يدخلها بغير إذن أصحابها.
وبعد فإتماما للفائدة نسوق لك مسألة لها صلة كبيرة بالموضوع ، وقد اختلف في حكمها الفقهاء. وذلك أنّه إذا رأى أهل الدار أحدا يطلع عليهم من ثقب في الباب ، فطعن أحدهم عينه فقلعها ، فهل عليه تبعة هذا الفعل من قصاص وغيره؟
قال الإمامان الشافعي وأحمد ورجال من أهل الحديث : لا شيء عليه ، وحجتهم في ذلك ما
أخرجه الشيخان «1» عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فقد هدرت عينه».
وما رواه سهل بن سعد رضي اللّه عنه أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال لمن اطلع في إحدى حجراته ، وكانت في يده مدرى يحكّ بها رأسه : «لو كنت أعلم أنّك تنظر لطعنت بها في عينك» «2».
وفي رواية أنس بن مالك رضي اللّه عنه : أنّ رجلا اطلع من بعض حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقام إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمشقص أو بمشاقص ، قال : فكأني أنظر إليه يختله ليطعنه «3».
وقال الإمامان أبو حنيفة ومالك : إنّ من قلع عين غيره على هذا النحو كان جانيا وعليه القصاص أو الأرش ، لعموم قوله تعالى : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة : 45].
وأيضا فإنّ الاتفاق على أنّه إذ دخل الرجل الدار بغير إذن أهلها ، فاعتدي عليه من أجل ذلك بقلع عينه فإنّ ذلك يعتبر جناية تستوجب الأرش أو القصاص ، فإذا كان دخول الدار واقتحامها على أهلها مع النظر إلى ما فيها غير مبيح لقلع عين ذلك
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1699) ، 38 - كتاب الآداب ، 9 - باب تحريم النظر ، حديث رقم (43/ 2158) ، والبخاري في الصحيح (8/ 57) ، 88 - كتاب الديات ، 23 - باب من اطلع ، حديث رقم (6902).
(2) سبق تخريجه.
(3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1699) ، 38 - كتاب الآداب ، 9 - باب تحريم النظر حديث رقم (42/ 2157) ، رواه البخاري في الصحيح (7/ 198) ، 79 - كتاب الاستئذان ، 11 - باب الاستئذان حديث رقم (6242). [.....](1/576)
ص : 577
الداخل ، فلا يكون النظر وحده من ثقب الباب مبيحا ذلك بالطريق الأولى.
وأجابوا عن حديث أبي هريرة بأنه ضعيف وعلى فرض صحته ينبغي أن يؤول لمخالفته الأصول ، وتأويله أن من اطلع في دار قوم بغير إذنهم فزجر ومنع من ذلك ، فقاوم فقلعت عينه بسبب المقاومة والمدافعة فهي هدر. كما أنّه إذا حاول دخول الدار فمنع ، فقاوم وغالب ، فذهبت عينه فهي هدر.
لكن الشافعية ومن وافقهم يقولون : إنّ هذه حادثة ورد فيها حكم يخصّها ، فهي مستثناة من عموم قوله تعالى : وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. ويقولون بالفرق بين من يتجسس على أهل الدار ويطلع عليهم وعلى عوراتهم من ثقب الباب وهم لا يشعرون ، وبين من دخل عليهم وبصّرهم بنفسه ، وحملهم على أن يتستروا منه. فلا شك أنّ الأول أعظم جرما من الثاني ، فلو قلعوا عينه فلا شيء عليهم ، وذهبت عينه هدرا.
واسم الإشارة في قوله تعالى : ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عائد على المذكور في الآية ، وهو الاستئناس والسلام ، فإفراد الإشارة إليه باعتبار أنه المذكور ، ويصحّ أن تكون الإشارة للدخول المطلوب شرعا ، وهو الذي دلّ عليه قوله تعالى : لا تَدْخُلُوا.
والظاهر أن كلمة خَيْرٌ أفعل تفضيل ، ولا شك أنّ الاستئذان قبل الدخول مع البدء بتحية الإسلام خير مما كان عليه العرب في الجاهلية من الدمور ، وهو الدخول بغير استئذان ، ومن قولهم في التحية : حييتم صباحا ، أو : حييتم مساء ، فإنّ أحدهم كان يدخل بغير استئذان على صاحبه في داره ، فربما وجده مع امرأته في لحاف واحد ، وكان كثير منهم يشقّ عليه ذلك ، ويتأذّى به. والدمور وإن لم يكن فيه شيء من الخير قد فرض فيه ذلك على سبيل التنزل ، أو مراعاة لاعتبارهم أن فيه خيرا ، إذ كانوا يرون أن الاستئذان مذلة تأباها النفوس.
ويرى بعض المفسرين أنّ كلمة خَيْرٌ صفة عارية عن معنى التفضيل وحينئذ لا تقتضي إثبات الخيرية للدخول بغير إذن ، ولا لتحية الجاهلية.
وكلمة لعلّ في قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ للتعليل ، والحكم المعلّل بها مطوي يدل عليه قوله تعالى : ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي أرشدكم اللّه إلى ذلك الأدب ، وبيّنه لكم لتجعلوه على ذكر منكم ، فتعملوا بموجبه.
قال اللّه تعالى : فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) قد تكون البيوت المسكونة خالية من أصحابها في وقت من الأوقات ، وفي هذه الحال لا يحلّ أيضا لمن يجدها كذلك أن يدخلها ، فإنّ خبيئات البيوت عورات لها ، والدخول من غير إذن قد يؤدي إلى الاطلاع على هذه العورات ، فيجب على الطارق(1/577)
ص : 578 أن يمتنع عن دخولها حتى يأذن له أصحابها ، وليس شيء يبيح الدخول إلا هذا الإذن الذي يصدر ممن يملكه ، فإذن العبد والصبيّ والخادم لا يبيح الدخول في البيوت التي لا يوجد بها أصحابها ، كما لا يبيح الدخول في البيوت التي يكونون فيها إلا أن يكون أحدهم رسولا من قبل صاحب الدار ، وفي هذه الحالة لا يكون الإذن من هؤلاء ، إنما هو من صاحب الدار.
وإنما قيل : فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ولم يقل : فإن لم يكن فيها أحد ، لأنّ التعبير الأول أشمل ، إذ عدم وجود أحد فيها يصدق مع خلو البيوت من أصحابها في الواقع ، كما يصدق مع كونهم فيها. فالمدار على ظن الطارق واعتقاده ، فإن كان يعتقد أنه ليس بها أحد فلا يحلّ أن يدخلها ، سواء أكان الأمر كذلك أم كان على خلاف ما ظنّ.
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي أنّه لا يليق بكم أيها المؤمنون أن تلحوا في الاستئذان ، وأن تقفوا على الأبواب أو تقعدوا أمامها بعد أن تردّوا ، ويقال لكم : ارجعوا ، فإنّ الوقوف حينئذ فيه ذلة ومهانة لكم ، وفيه إيلام لأصحاب البيوت ، فالرجوع أزكى لكم ، وأطهر لأخلاقكم ، وأبعد بكم عن دنس الرذيلة.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ هذا وعيد لمن يعمل على خلاف ما أرشد اللّه سبحانه وتعالى إليه ، فمن دخل تلك البيوت التي لا يجد فيها أصحابها ، أو حاول دخولها بغير إذنهم ، أو لج في الاستئذان ، أو وقف على الباب بعد ما علم أنه لا يراد له الدخول : فاللّه عليم بهذا الذي يعمله. والقصد من هذا الإخبار إفادة لازمه ، وهو المجازاة على هذه الأعمال.
قال اللّه تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) سبب نزول هذه الآية على ما
أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أنّه لما نزل قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا إلخ قال أبو بكر رضي اللّه عنه : يا رسول اللّه فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ، ولهم بيوت معلومة على الطريق - يريد الخانات التي في الطرق - فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها ساكن؟ فرخّص اللّه سبحانه في ذلك ، فأنزل قوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلى آخر الآية
. فتكون هذه الآية مخصّصة لعموم الآية السابقة كما علمت.
وقال ابن عباس فيما أخرجه عنه أبو داود في الناسخ ، وابن جرير «1» ، أنّ قوله سبحانه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قد نسخ بقوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ واستثنى منه البيوت غير المسكونة.
__________
(1) في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن المشهور بتفسير الطبري (18/ 91).(1/578)
ص : 579
وكذلك روي عن عكرمة والحسن ما يدلّ على استثناء البيوت غير المسكونة من عموم البيوت في الآية السابقة.
وقول ابن عباس : إنّ هذه الآية التي معنا قد نسخت الآية السابقة معناه أنها خصصتها. وكثيرا ما يطلب المتقدمون كلمة النسخ على معنى التخصيص.
هذا - والبيوت غير المسكونة تشمل الخربات التي ليست لأحد ، وتشمل البيوت العامرة التي تقصد لمنافع عامة غير السكنى كالحمامات والحوانيت والبيوت التي لا تختص بسكنى أحد ، كالرباطات والفنادق ، فهذه البيوت كلها لا حرج في دخولها بغير إذن ، إذا كان للمرء في دخولها حاجة ، كالاستحمام ، والبيع والشراء ، والاستكنان من الحر والبرد ، وحفظ الرحال والسلع ، فإنّ العرف جرى فيها بالإذن العام.
والتعميم في البيوت غير المسكونة - على ما علمت - لا ينافيه ما روي عن محمد بن الحنفية وابن جبير والضحاك من أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين. ولا ما روي عن غيرهم أنّها الخربات تقصد للتبرز فيها ، إذ ليس الغرض من ذلك الحصر ، وإنما المراد التمثيل.
وقوله تعالى : فِيها مَتاعٌ لَكُمْ يصحّ أن يكون صفة ثانية للبيوت ، ويصحّ أن يكون مستأنفا سيق لتعليل الإباحة ورفع الحرج. وعلى كل حال فإذا لم تكن للإنسان حاجة تدعوه لدخول هذه البيوت فليس له دخولها ، إذ إنّ ذلك يكون ضربا من العبث الذي لا خير فيه.
وقوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لأهل الريبة الذين يدخلون هذه البيوت لمحاولة الاطلاع على العورات أو غيرها من الأغراض السيئة.
حكم النظر وإبداء الزينة
قال اللّه تعالى : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنّ غضّ البصر أمر مستحسن ، وأدب جميل ينبغي للمستأذن أن يتحلّى به عند الدخول ، فإنّ دخول بيت الغير مظنة الاطلاع على العورات. وقد جيء في صورة حكم عام كلف به المؤمنين جميعا ، حتّى يشمل المستأذنين وغيرهم.
وسبب نزول هذه الآية على ما
أخرجه ابن مردويه «1» عن علي كرّم اللّه وجهه أنّ
__________
(1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 40).(1/579)
ص : 580
رجلا مرّ على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في طريق من طرقات المدينة ، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه ، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به ، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط ، وهو ينظر إليها ، إذا استقبله الحائط ، فشقّ أنفه ، فقال : واللّه لا أغسل الدم حتى آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فأخبره أمري ، فأتاه ، فقصّ عليه قصته ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «هذا عقوبة ذنبك» وأنزل اللّه تعالى : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ إلخ.
يأمر اللّه نبيه أن يحث المؤمنين على أن يغضوا أبصارهم عمّا لا يحل ، ويحفظوا فروجهم عن المحرمات ، ويبيّن لهم أن ذلك أطهر لأخلاقهم ، وأبعد بهم عن مظان الريبة وسوء السمعة.
والفعل المضارع يَغُضُّوا مجزوم في جواب قُلْ ومفعول القول محذوف ، والتقدير : قل للمؤمنين غضوا أبصاركم يغضوها. وكذلك التقدير في وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وفي هذا إشارة إلى أنّ شأن المؤمنين أن يسارعوا إلى امتثال الأوامر ، حتى كأنّهم لفرط مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة والسلام.
وغضّ البصر إطباق الجفن على الجفن ، أو هو خفض الجفن الأعلى وإرخاؤه ، ومن الثاني قول كعب بن زهير :
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغنّ غضيض الطرف مكحول
فليس يريد أنها مغمضة عينها مطبقة أجفانها ، بل إنها خافضة الطرف من الحياء والخفر.
وكلمة مِنْ قيل : إنها صلة على مذهب الأخفش «1» ، والراجح أنها أصلية ، وهي على ذلك تحتمل معاني أظهرها أنّها للتبعيض ، أي يغضوا بعض أبصارهم ، وهو كناية عن غض بصرهم عن بعض المبصرات ، وهي التي لا تحلّ ، أو يغضوا بعض أبصارهم عند النظر إلى المحرمات ، فلا يحملقوا بأعينهم في محرّم ، ويكون المعنى على هذا الوجه على إرادة توبيخ من يكثر التأمّل في المحرم ، كما تقول لمن عهدت أنه يأتي نوعا من المنكر ، ورأيته يسترسل فيه : بعض هذا يا فلان. فأنت لا تريد منه أن يقتصر على بعض هذا المنكر ، ولا تفيد بهذا أنك ترضاه له ، وأنك تقرّه عليه ، بل غرضك أن تلومه وتوبخه على التمادي فيه.
وربما ساعد على هذا المعنى ما سبق في نزول الآية ، مما يدل على أنّ الرجل والمرأة كان كل منهما يمعن النظر في صاحبه ، حتى وسوس الشيطان لهما أنّ كلّا منهما معجب بالآخر.
__________
(1) سعيد بن مسعدة ، عالم العربية ، من مصنفاته (معاني القرآن) توفي سنة (215) انظر الأعلام للزركلي (3/ 101).(1/580)
ص : 581
وقد يرشّح هذا المعنى أيضا تغيير النظم في هذه الآية ، وصرف الخطاب فيها عن وجهه بتوجيهه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وتكليفه أن يأمر الناس بغض الأبصار ، فإنّ في هذه الطريقة إشعارا بأنّ هذا الفعل قبيح ، وأنّ صاحبه يستحق أن يعرض عنه ، ويصرف الخطاب إلى غيره.
ولا يلزم من مراعاة هذا المعنى في جانب الأمر بغضّ البصر أن يراعى أيضا في الأمر بحفظ الفروج ، فإنّ أمر الفروج عظيم ينبغي أن يشدد فيه أكثر مما يشدد في غيره ، فلا يستقيم مع ذلك أن يؤتى في جانب الأمر بحفظ الفروج بعبارة توهم صورتها أنّ بعض الفروج قد يتساهل فيه ، [و] لا يشدد في الأمر بحفظه.
وقال صاحب «الكشاف» «1» : إنما دخلت مِنْ في غضّ البصر دون حفظ الفرج للدلالة على أنّ أمر النظر أوسع ، ألا ترى أنّ المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن ، وكذلك الجواري المستعرضات للبيع ، وأنّ الأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها. وأمّا أمر الفرج فمضيّق ، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه ، وحظر الجماع إلا ما استثني منه.
وقد اختلف في المراد بحفظ الفروج ، فقيل : إنّ معناه تجنب الزنى واللواطة ، وقيل : إن المراد سترها ، فلا يحل للمؤمن أن يكشف عن سوءته ، ولا أن يلبس لباسا رقيقا يشفّ عما تحته ، ويبين عورته ، ولا مانع من إرادة المعنيين جميعا.
ثم لا يخفى وجه الجمع بين أمرين :
أحدهما : متعلق بحفظ الأبصار.
والثاني : متعلق بحفظ الفروج فإنّ النظر إلى المحرم من أقوى الدواعي إلى الوقوع في الفجور ، فكان حراما ، لأن من شأنه أن يؤدي إلى الحرام ، فإن وقع القصر على محرم من غير قصد وجب أن يصرف عنه ، وليس على المرء إثم في النظرة الأولى غير المقصودة ،
فقد روى مسلم «2» عن جرير بن عبد اللّه البجلي رضي اللّه عنه قال : سألت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
وروى أبو داود عن بريدة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعلي : «يا علي لا تتبع النظرة النظرة ، فإنّ لك الأولى وليست لك الآخرة» «3».
ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي ما ذكر من غضّ البصر وحفظ الفرج أطهر لقلوبهم ، وأنقى
__________
(1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري (3/ 229).
(2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 699) ، 3 - كتاب الآداب ، 10 - باب نظر الفجأة حديث رقم (2159).
(3) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 94) ، كتاب الآداب ، باب نظر الفجأة حديث رقم (2778) ، وأبو داود في السنن (2/ 214) ، كتاب النكاح ، باب ما يؤمر به حديث رقم (2149).(1/581)
ص : 582
لدينهم ، وأبعد بهم عن الريبة. وأفعل التفضيل هنا للمبالغة في أنّ غضّ الأبصار وحفظ الفروج يطهّران النفوس من دنس الرذائل ، أو أنّ المفاضلة على سبيل الفرض والتقدير ، أو باعتبار ظنهم أنّ في استيفاء اللذة نفعا.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ الخبرة : العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء ، ويكشف عن دخائلها ، فاللّه خبير بما يصنعون. عليم علما تاما بظواهر أعمالهم وبواطنها ، لا تخفى عليه من ذلك خافية ، وهو وعيد وتهديد على مثال ما سبق.
قال اللّه تعالى : وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) جرت عادة القرآن الكريم في التكاليف العامة والآداب التي تشمل نوعي الذكور والإناث أن يوجّه الأمر والنهي ، ويصرف الخطاب إلى جماعة الذكور ، وتكون النساء داخلات في الحكم بطريق تغليب الرجال عليهن ، أو بطريق المقايسة.
وقد يكون للنساء حكم يخصّهنّ ، فيفردن بالذكر من أجله. وعلى هذه الطريقة جاء قوله تعالى : وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الآية ، لأنهن زدن عن الرجال أحكاما تخصهن ، وهي النهي عن إبداء زينتهن إلا ما استثنى اللّه تعالى. والأمر بإرخاء خمرهن على جيوبهن ، والنهي عن كل فعل يلفت النظر إلى زينتهن ، وينبّه الناس عليها.
أمرت هذه الآية الكريمة المرأة بغضّ بصرها ، ولم تعين ما يجب غض البصر عنه ، كما أنّ الآية السابقة لم تعيّن ما يجب على الرجال غض أبصارهم عنه ، وقد تكفّلت السنة ببيان ذلك ، فحظرت على المرأة أن تنظر من غير زوجها إلى ما بين السرة والركبة ، سواء في ذلك الرجال والنساء ، وسواء أكان ذلك بشهوة أم بغير شهوة ، حظرت عليها أيضا أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل بشهوة. كلّ هذا محل اتفاق بين الفقهاء جميعا.
أما نظرها إلى ما تحت الركبة وفوق السرة فقد اختلفت الروايات فيه.
فأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه عن أم سلمة قالت : كنت عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه ، وذلك بعد أن أمر بالحجاب ، فقال(1/582)
ص : 583
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «احتجبا منه» فقلنا : يا رسول اللّه أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟
فقال : «أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه» «1»؟.
وفي «الموطأ» عن عائشة أنّها احتجبت من أعمى فقيل لها : إنّه لا ينظر إليك ، قالت : لكنّي انظر إليه.
فهاتان الروايتان بظاهرهما تحظران على المرأة أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل الأجنبي ، وهو قول أحمد ، وأحد قولي الشافعي ، وصححه النووي ، وهو أيضا ظاهر قوله تعالى : وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ.
وفي «الصحيحين» «2» وغيرهما عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يسترني بردائه وأنا انظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد ، حتى أكون أنا الذي يسأم.
ولأحمد «3» عنها أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في يوم عيد قالت :
فاطلعت من فوق عاتقه ، فطأطأ لي منكبيه ، فجعلت انظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت ، ثم انصرفت.
وقد صحّ أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال :
«إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده» «4»
ولا شكّ أن مساكنتها له تستلزم نظرها إليه.
وصحّ أيضا أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مضى إلى النساء في المسجد يوم عيد ، فذكّرهن ومعه بلال ، وأمرهنّ بالصدقة «5». وبعيد ألا ينظرن إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى بلال حين كن يسمعن الموعظة ويتصدقن ، فدلّ مجموع ذلك على أنه يباح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما عدا ما بين سرته وركبته. وبهذا قال جمع من فقهاء الأمصار ، وهو أحد قولي الشافعي كما علمت.
وأجاب أصحاب هذا الرأي عن حديث أم سلمة ، واحتجاب عائشة من الأعمى :
بأنّ الأعمى قد يبدو من عورته المتفق على حرمة النظر إليها ما لا يشعر به فأمرن بالاحتجاب منه لذلك ، فلا يلزم من ذلك عدم جواز النظر بإطلاق.
كما أجاب أصحاب الرأي الأول عن نظر عائشة إلى الحبشة وهم يلعبون بأنّ
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 95) ، كتاب الأدب ، باب في احتجاب النساء حديث رقم (2779) ، وأبو داود في السنن (4/ 31) ، كتاب اللباس ، باب قوله عزّ وجلّ : وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ حديث رقم (4112) ، وأحمد في المسند (6/ 296).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 607) ، 8 - كتاب العيدين ، 4 - باب الرخصة حديث رقم (892) ، والبخاري في الصحيح (1/ 133) ، 8 - كتاب الصلاة ، 69 - باب أصحاب الحراب حديث رقم (454).
(3) رواه أحمد في المسند (6/ 83).
(4) رواه مسلم في الصحيح (2/ 114) ، 18 - كتاب الطلاق ، 6 - باب المطلقة حديث رقم (1480).
(5) رواه مسلم في الصحيح (2/ 606) ، 8 - كتاب العيدين ، 2 - باب ترك الصلاة ، حديث رقم (13/ 884).(1/583)
ص : 584
ذلك كان قبل نزول الحجاب ، أو أنّها كانت يومئذ جارية صغيرة كما قالت هي عن نفسها. وعن سكنى فاطمة بنت قيس في بيت ابن أم مكتوم بأنه يمكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه.
وكذلك يمكن أن يستمع النساء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع غض أبصارهن عنه عليه الصلاة والسلام وعن بلال رضي اللّه عنه.
ولعل أولى ما جمع به بين هذه الأحاديث المتعارضة أن يحمل الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب ، وكذلك احتجاب عائشة رضي اللّه عنها من الأعمى كان ورعا منها وعملا بما هو أجمل وأولى بالنساء ، وحينئذ لا يكون حراما على المرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما عدا ما بين السرة والركبة ، ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إلى الأسواق وإلى المساجد وفي الأسفار منتقبات حتى لا يراهن أحد من الرجال ، ولم يؤمر الرجال بالانتقاب حتى لا يراهم النساء ، فكان ذلك دليلا على المغايرة بين الرجال والنساء في الحكم. وليس بصحيح ما قيل من أن عائشة كانت صغيرة حينما كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ، ولا أن ذلك كان قبل نزول الحجاب ، لأنّ في بعض روايات الحديث تصريحا بأنّ هذه القصة كانت بعد قدوم وفد الحبشة ، ومعلوم أنّ قدومهم كان سنة سبع وسن عائشة يومئذ ست عشرة سنة ، وكانت هذه الحادثة بعد نزول الحجاب كما هو ظاهر.
وقوله تعالى : وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ يقال فيه ما قيل في نظيره في الآية السابقة ، وحاصله أنّ المراد بحفظ الفروج البعد عن الزنى والسحاق ، أو سترها حتى لا يراها أحد ، أو أنّ المراد الأمران جميعا.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها الزينة في الأصل اسم لكل ما يتزين به ويتجمل من أنواع الحلي والخضاب وغيرها.
وقد اختلف العلماء في المراد بالزينة في الآية ، فحملها بعضهم على معناها الحقيقي ، إذ كان لا يصحّ العدول عنه متى أمكنت إرادته ، وقال : إنّ الكلام دائر حول الزينة نفسها ، والنهي منصبّ على إبدائها ذاتها ، بدليل قوله تعالى فيما سيأتي وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ومعلوم أن ليس المراد أنهن منهيات عن إبداء الزينة مطلقا ، حتى ولو كانت معروضة في منديل للبيع في الأسواق ، بل المراد أنهنّ منهيات عن إبداء الزينة حين التحلي بها ، واستعمالها في مواقعها ، وحينئذ يكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه من باب أولى ، فإنّه ما نهي عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع ، فكان إبداء المواقع نفسها متمكنا في الحظر ، ثابت القدم في الحرمة.
ومنهم من قال : إن المراد من الزينة مواقعها من الأعضاء ، إما بطريق تقدير(1/584)
ص : 585 مضاف ، والأصل : ولا يبدين مواقع زينتهن. وإما بطريق إطلاق الزينة وإرادة مواقعها لقوة الملابسة بينهما. والصارف عن المعنى الحقيقي أنّ الزينة نفسها ليست مقصودة بالنهي ، بدليل أنّ ما استنثني منها في قوله تعالى : إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قد فسره كثير من الصحابة والتابعين بالوجه والكفين ، وظاهر أنّ المستثنى من جنس المستثنى منه ، فيكون المراد من الزينة مواقعها من البدن.
يؤيّد هذا ما
رواه أبو داود «1» عن عائشة أنّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال : «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه
، فإنّ هذا الحديث الشريف في معنى الآية.
وظاهر قوله تعالى : إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أنّ النساء منهيات عن إبداء الزينة إلا الزينة التي ظهرت ، فلسن منهيات عن إبدائها ، وهو معنى لا يكاد يستقيم ، لأنّ ما ظهر بالفعل فقد بدا فلا يقال فيه : إنهن غير منهيات عن إبدائه ، وحينئذ فلا بد من تأويل في الكلام ، وذلك بأحد وجوه ثلاثة :
الأول : أن الاستثناء هنا منقطع ، والمعنى عليه : ولا يبدين زينتهن أبدا ، لكن ما ظهر منها بنفسه ومن غير قصد فهو عفو ، كأن كشفت الريح عن نحرها أو ساقها.
الثاني : أن المستثنى منه محذوف دل عليه النهي ، فكأنه قيل : ولا يبدين زينتهن ، وهنّ مؤاخذات على إبداء زينتهن ، إلا ما ظهر منها بنفسه ، فلسن مؤاخذات عليه.
وعلى هذين التأويلين لا يكون ما ظهر من الزينة شيئا معيّنا.
والثالث : أنّ معنى ما ظهر : ما جرت العادة وقضت الحاجة بظهوره ، وكان في ستره حرج ومشقة في المتعارف بين الناس : أي ولا يبدين شيئا من زينتهن إلا شيئا جرت العادة بظهوره ، فلسن منهيات عن إبدائه ، وذلك هو الوجه والكفّين وما فيهما من زينة كالكحل والخضاب والخاتم ، وعلى هذا التأويل تكون الزينة نوعين : ظاهرة وباطنة ، فاللّه قد حظر إبداء شيء من الزينة الباطنة لغير من استثني فيما يأتي ، ولم يحظر إبداء الزينة الظاهرة ، لأنّ الحاجة تقضي بظهورها كما علمت. وتعميم النهي أولا ، ثم الاستثناء منه ثانيا مشعر بأنّه ينبغي للنساء أن يحتطن في الستر ، ولا يبدين من زينتهن الظاهرة إلا ما تدعو حاجتهن إلى إبدائه.
وعلى الاختلاف في تأويل الآية انبنى خلاف الأئمة في آرائهم ومذاهبهم في عورة المرأة ، فالحنفية والمالكية على أنّ الوجه والكفين ليسا بعورة ، وهو أحد قولي الشافعي ، ويشهد لهم ما تقدم من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (4/ 29) ، كتاب اللباس ، باب فيما تبدي المرأة حديث رقم (4104).(1/585)
ص : 586
المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه «1».
وفي رواية عن أبي حنيفة رضي اللّه عنه : أن القدمين ليستا من العورة أيضا. نظر في ذلك إلى أنّ الحرج في سترهما أشدّ منه في ستر الكفين ، لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء القرى الفقيرات ، اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات.
وعن أبي يوسف أن الذراعين ليستا بعورة كذلك ، لما في سترهما من الحرج ، فأنت ترى أصحاب هذا القول قد نحوا في الآية منحى التأويل الأخير ، وأنّ المراد أنهنّ منهيات عن إبداء زينتهن إلا ما دعت الحاجة إلى ظهوره وجرى عرف الناس في عصر التنزيل على أنه من الزينة الظاهرة التي لم يحظر إبداؤها.
وذهب الإمام أحمد إلى أن بدن الحرة كلّه عورة ، فيحرم إبداء شيء منه للأجنبي ، وهو أصحّ قولي الشافعي ، وأصحاب هذا الرأي تأولوا الآية على أحد الوجهين : الأول والثاني ، وأن المراد ما ظَهَرَ : ما ظهر بنفسه من غير قصد إلى إظهاره ، ويشهد لذلك من السنة :
ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي «2» عن جرير بن عبد اللّه قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فقال : «اصرف بصرك».
وما رواه أحمد وأبو داود والترمذي «3» عن بريدة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعلي : «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى ، وليست لك الآخرة».
وما رواه البخاري «4» عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه - وفيه قصة المرأة الوضيئة الخثعمية - فطفق الفضل ينظر إليها ، فأخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بذقن الفضل ، فحوّل وجهه عن النظر إليها.
وقول اللّه تعالى : وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب : 53] وهو - وإن كان السبب فيه أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم - فإنّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن.
ولعلك إذا نظرت إلى أنّ الشريعة سهلة سمحة لا حرج فيها ولا مشقة ، ترجّح القول بأنّ الوجه والكفين من الأجنبية ليسا من العورة ، فإنّ في تكليف النساء ستر الوجه والكفين حرجا ومشقة عليهن ، لا سيما الفقيرات اللاتي ليس لهن خدم ، فيضطرون إلى قضاء حاجاتهن من الأسواق بأنفسهنّ.
وينبغي أن يكون القول بهذا خاصّا بالحالات التي تؤمن فيها الفتنة ، أما في غيرها من الحالات التي نخشى فيها الفتنة ، وفي الأوقات التي يكثر فيها الفساق في الأسواق
__________
(1) و(2) و(3) سبق تخريجه.
(4) رواه البخاري في الصحيح (7/ 164) ، 79 - كتاب الاستئذان ، 62 - باب قول اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حديث رقم (6228). [.....](1/586)
ص : 587
والطرقات ، فلا يجوز للمرأة أن تخرج سافرة عن وجهها ، ولا أن تبدي شيئا من زينتها.
فأما
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لجرير بن عبد اللّه : «اصرف بصرك»
وقوله لعلي بن أبي طالب : «لا تتبع النظرة ...»
فمعناها النهي عن تعمد النظر إلى شيء من بدن المرأة لغير حاجة ، فإن تعمد النظر إليها حينئذ لا يخلو عن ريبة ، وقد أمرنا بالبعد عن مظانّ التهم والريبة.
وأما صرف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وجه الفضل عن النظر إلى الخثعمية. فإنما كان ذلك لمخافة الفتنة ،
فقد أخرج الترمذي «1»
وصححه : أنّ العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لويت عنق ابن عمك؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة».
فكان في ذلك دليل على جواز النظر عند أمن الفتنة ، ولو لم يفهم العباس أنّ النظر جائز ما قال مقالته ، ولو لم يكن ما فهمه صحيحا ما أقرّه عليه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأما قوله تعالى : وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ فحكمه خاصّ بأزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما أنّ لهن من الحرمة ما ليس لغيرهن من النساء ، فلا يقاس غيرهن عليهن في ذلك.
هذا وقد استثنت الشريعة حالات يباح فيها للأجنبي أن ينظر من بدن المرأة إلى ما تقضي الضرورة بالنظر إليه فللخاطب والشاهد والقاضي والعامل أن يرى الوجه ، حتى على رأي القائلين بأن بدن المرأة كله عورة ، وكذلك للطبيب أن يرى موضع العلاج ، وللشاهد بالزنى أن يرى ما يصحح له الشهادة.
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ. والضرب : معناه السدل والإرخاء.
والخمر : جمع خمار ، وهو ما تغطي به المرأة رأسها ، مأخوذ من الخمر بمعنى الستر والتغطية.
والجيوب : جمع جيب. وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض النحر.
في هذا الأمر إرشاد من اللّه ، وتعليم للنساء كيف يسترن بعض مواضع الزينة الباطنة منهن ، أمرهن أن يرخين الخمر على جيوبهن ، ليسترن الصدور والنحور ، ولا يكنّ كنساء الجاهلية ، إذ كانت إحداهنّ تضع خمارها على رأسها ، ثم تلقي أطرافه وجوانبه من خلفها. وكانت تمشي بين الرجال هكذا ، يظهر منها نحرها وصدرها. وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة. لا يجوز للأجنبي النظر إليهما منها.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ قد تبين مما تقدّم أنّه لا يجوز للمرأة أن تبدي من زينتها خلاف ما استثناه اللّه تعالى بقوله : إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها فحرام عليها أن تبدي معصمها أو ساقها أو جيدها أو شيئا من مواقع الزينة الباطنة منها.
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 232) ، كتاب الحج ، باب ما جاء أنّ عرفة كلها موقف حديث رقم (885).(1/587)
ص : 588
أما قوله سبحانه : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إلخ فالمقصود منه استثناء البعولة ومن عطف عليهم من عموم من نهيت المرأة عن إبداء الزينة الباطنة له.
أما البعولة وهم الأزواج ، ويلحق بهم من له حق التسرّي من السادة ، فالأمر فيهم ظاهر. وأما سائر من استثنى اللّه فللحاجة إلى مخالطتهم مع أمن الفتنة.
استثنت الآية نوعين لأجل المصاهرة : آباء الأزواج وأبناء الأزواج ، وليس وراء هذين النوعين من المحارم بالمصاهرة أحد.
واستثنت من المحارم بالنسب خمسة أنواع : هم آباء النساء ، وأبناؤهن وإخوتهن ، وأبناء إخوتهن وأبناء أخواتهن. ولم تذكر من المحارم الأعمام والأخوال ، كما أنها لم تذكر المحارم بالرضاع. والفقهاء مجمعون على أنّ حكم هؤلاء كحكم المذكورين في الآية. أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فلعلّ السر فيه أنّ العمومة والخئولة بمنزلة الأبوة ، فكان ذكر الآباء مغنيا عن ذكر الأعمام والأخوال ، وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرهم للاكتفاء ببيان السنة :
«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1».
والأنواع الباقية : هي النساء ، والمماليك ، والتابعون غير أولي الأربعة ، والأطفال.
فأما النساء والمماليك فقد قال اللّه تعالى فيهم : أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وللعلماء خلاف في المراد بكل نوع من هذين النوعين ، فذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء ما يعمّ الحرائر والإماء ، وعليه يكون المراد بما ملكت أيمانهنّ خصوص العبيد ، لأنّ الإماء قد دخلن في النساء. وحينئذ يحل للمرأة أن تبدي زينتها الباطنة للنساء الحرائر والإماء ، ولمن تملكه من العبيد ، لأنّهم في ذلك ملحقون بذوي المحارم. وبهذا قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة وكثير من السلف وهو مذهب مالك ، وأحد قولي الشافعي. ويؤيده ما
رواه أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي اللّه عنه أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أتى فاطمة رضي اللّه عنها بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما تلقى قال : «إنّه ليس عليه بأس ، إنما هو أبوك وغلامك» «2».
وذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء خصوص الحرائر ، لأنّ المراد بما ملكت أيمانهن خصوص الإماء ، وذلك لأنّ العبد فحل غير محرم ولا زوج ، والشهوة فيه متحققة ، والحاجة إلى الخلطة به قاصرة ، فكان هو والحر الأجنبي في التحريم سواء ،
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1068) ، 17 - كتاب الرضاع ، 1 - باب ما يحرم من الرضاعة حديث رقم (1444).
(2) رواه أبو داود في السنن (4/ 30) ، كتاب اللباس ، باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته ، حديث رقم (4106).(1/588)
ص : 589
وحرمة النكاح بينه وبين سيدته عارضة كحرمة أخت الزوجة ، وما زاد على الأربع والأمة المزوجة بالغير ، فدلّ ذلك على أنّ قوله تعالى : أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لا يشمل العبيد ، وأنّه لبيان حكم الإماء لا غير ، فوجب أن يكون قوله تعالى : أَوْ نِسائِهِنَّ مقصورا على الحرائر ، لا يتناول الإماء ، وإلا كان قوله تعالى : أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لغوا. وعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تبدي لعبدها من زينتها إلا ما يجوز أن تبديه للأجنبي ، ولا يحلّ له أن ينظر من سيدته إلا ما يحل له أن ينظر إليه من الأجنبية ، وبهذا قال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين ، وكذا ابن المسيّب ، فقد روي أنه رجع إليه وقال : لا تغرنّكم سورة النور فإنّها في الإناث لا في الذكور. وهو مذهب الحنفية وأحد قولي الشافعي ، ويؤيده
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم» «1»
والعبد ليس بذي محرم فلا يجوز لها أن تسافر معه.
وحينئذ لا يجوز لها أن تبدي له من زينتها ما تبديه لمحارمها.
وأجاب أصحاب هذا القول عن حديث أنس السابق بأنّ العبد كان صغيرا إذ إنّ الغلام حقيقة في غير البالغ.
هذا وللعلماء خلاف أيضا في المراد بالنساء مع ناحية أخرى هي ناحية الدين :
فقال جماعة : إنّ المراد بهنّ عموم النساء بلا فرق بين المسلمات والكافرات ، وعلى هذا تكون الإضافة في قوله تعالى : أَوْ نِسائِهِنَّ للإتباع والمشاكلة ، فيجوز للمرأة المسلمة أن تبدي من زينتها للمرأة الكافرة ما يحل لها أن تبديه للمسلمة ، وهذا هو أحد قولين عند كل من الحنفية والشافعية ، وصححه الغزالي من الشافعية ، وأبو بكر بن العربي من المالكية ، وقال آخرون : إنّ المراد بهن خصوص النساء المسلمات ، فتكون الإضافة للاختصاص ، أي النساء المختصات بهن في الصحبة والأخوة في الدين ، وعلى هذا لا يحل للمسلمة أن تبدي شيئا من زينتها الباطنة للكافرة. واعتمده جمع من الشافعية.
وقال أبو السعود من الحنفية : إنّه يصح القولان في مذهبهم ، هو قول أكثر السلف.
أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في «سننه» عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه كتب إلى أبي عيبدة رضي اللّه عنه : أما بعد فإنّه بلغني أنّ نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك ، فإنه من قبلك عن ذلك ، فإنّه لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها.
وأما التابعون غير أولي الإربة فقد قال اللّه فيهم : أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ الإربة والأرب والأرب والمأربة : الحاجة. والمراد بالإربة هنا الحاجة إلى
__________
(1) سبق تخريجه.(1/589)
ص : 590
النساء. والمراد بالتابعين إلخ الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم ، من غير أن تكون لهم حاجة في النساء ، ولا ميل إليهن.
وفي تعيين المراد بغير أولي الأربة من الرجال أقوال كثيرة للسلف : فنقل عنهم أنّه الشيخ الذي فنيت شهوته ، أو الأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئا ، أو المجبوب ، أو الخصي ، أو الممسوح ، أو خادم القوم للعيش ، أو المخنّث. والذي عليه المعول : أن المراد به كل من ليس له حاجة إلى النساء ، وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب ، فتعيين نوع من الأنواع السابقة بخصوصه لا يؤدي الغرض المقصود ، فربّما كان أحد هؤلاء أعرف بالنساء ، وأقدر على وصفهن ممن ليس على مثل حاله.
أخرج مسلم وأبو داود والنسائي «1» وغيرهم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مخنّث ، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوما وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلنّ عليكنّ هذا» فحجبوه
. فأنت ترى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حظر دخول ذلك المخنث على نسائه ، لأنّه وصف امرأة أجنبية بحضرة الرجال الأجانب. وقد نهي الرجل أن يصف امرأته لغيره ، فكيف إذا وصفها غيره من الرجال؟.
وأما الأطفال فقد قال اللّه فيهم : أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ قال الراغب «2» : كلمة طفل تقع على الجمع كما تقع على المفرد ، فهي مثل كلمة ضيف.
وقيل : هي مفرد ، وصحح وصفه بالجمع أنّه محلى بأل الجنسية ، فهو على حد قولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض. فكأنه قيل : أو الأطفال الذين لم يظهروا ... كما هو منقول عن مصحف حفصة. ويقال : ظهر على الشيء إذا طلع عليه. ويقال : ظهر على فلان إذا قوي عليه.
فعلى الأول يكون المعنى : أو الطفل الذين لم يطلعوا على عورات النساء. وهو كناية عن أنّهم لم يعرفوا ما العورة ، ولم يميزوا بينها وبين غيرها.
وعلى الثاني يكون المعنى : أو الطفل الذين لم يقووا على النساء. أي لم يبلغوا حدّ الشهوة والقدرة على الجماع. والعورات جمع عورة ، وأصلها ما يحترز من الاطلاع عليه ، سواء أكان ذلك من بدن الإنسان أم من متاعه. وغلبت في سوأة الرجل أو المرأة. والمراد بها هنا سوأة المرأة.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1716) ، 39 - كتاب السلام ، 13 - باب منع المخنث حديث رقم (2181) ، وأبو داود في السنن (4/ 30) ، كتاب اللباس ، باب في قوله : غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ حديث رقم (4107).
(2) حسين بن محمد بن المفضل ، أبو القاسم ، عالم في التفسير والعربية والأدب ، صاحب كتاب المفردات توفي (502) انظر الأعلام للزركلي (2/ 255).(1/590)
ص : 591
استثنى اللّه ممن لا يصح أن تبدي لهم المرأة زينتها الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء. وقد علمت أنّ عدم الظهور على عورات النساء له معنيان : فعلى المعنى الأول لا ينبغي للمرأة أن تظهر شيئا من زينتها الباطنة للمراهق الذي لم يبلغ الحلم ، لكنه يعرف عورة النساء ، ويميز بين ما للرجل وما للمرأة ، ويلحق به من كان قريبا من المراهقة إذا كان يميز بين العورة وغيرها ، ويستطيع أن يحكي ما يراه ، وعلى المعنى الثاني لا يحرم على المرأة أن تبدي زينتها لمن دون المراهقة ، ولا للمراهق أيضا إلا إذا كان فيه تشوّق للنساء ، والأمر على المعنى الثاني أوسع في الإباحة منه على المعنى الأول.
ويؤيد المعنى الأول أنّ الطفل مأمور بالاستئذان فى أوقات ثلاثة بيّنها اللّه تعالى بقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور : 58].
ولا شك أن المأمور بذلك من الأطفال إنما هو الطفل الذي يعرف عورات النساء ، ويخشى من دخوله في هذه الأوقات التي هي مظنة اختلال التستر أن يحكي ما يراه ، ويصف ما يقع عليه بصره ، سواء أكان مراهقا أم لا ، فالطفل المأمور بالاستئذان في الأوقات الثلاثة ، هو الذي يعرف العورة وهو الذي ينبغي للمرأة ألا تبدي له شيئا من زينتها ، وعليه يكون المراد بالأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء : الأطفال الذين لا يعرفون ما العورة لصغرهم.
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ الضرب بالأرجل الدقّ بها على الأرض في المشي ، والزينة هنا الخلاخل : أي لا يجوز للمرأة أن تدقّ برجليها في مشيتها لتسمع الناس صوت خلاخلها ، فإنّ ذلك يحرك في قلوب الرجال الشهوة ، ويدفعهم إلى التطلع إليها ، ويحملهم على أن يظنوا بها ميلا إلى الفسوق ، وإذا كان السبب في تحريم هذا الفعل هو ما يؤدي إليه من الفتنة والفساد ، كان كلّ ما في معناه مما يجر إلى الفتنة والفساد ملحقا به في التحريم ، كتحريك الأيدي بالأساور ، وتحريك الجلاجل في الشعر. فالتنصيص في الآية على الضرب بالأرجل ليس لقصر النهي عليه ، بل لأنّ هذا هو ما كان عليه نساء الجاهلية ، فقد كانت إحداهنّ تمشي في الطريق ، حتى إذا مرت بمجلس من مجالس الرجال وفي رجلها خلخال ضربت برجلها الأرض ، فصوّت الخلخال. فنهى اللّه سبحانه المؤمنات عن ذلك.
وظاهر الآية أنهنّ منهيات عن الضرب بأرجلهن ، بقصد أن يعلم الناس ما يخفين من زينة ، فيقتضي بمفهومه أنّه لا إثم على المرأة أن تضرب برجلها إذا لم تقصد بذلك تنبيه الناس على زينتها ، ولعلّ هذا غير مراد ، وإنّ تقييد النهي عن الضرب بحالة القصد إنما هو لموافقة سبب النزول ، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.
ويصحّ أن تكون اللام في قوله تعالى : لِيُعْلَمَ لام العاقبة ، ويكون المعنى(1/591)
ص : 592
على ذلك أنهنّ منهيات عن الضرب بأرجلهن أمام الرجال الأجانب مطلقا ، سواء أقصدن إعلامهم أم لم يقصدن. فإنّ عاقبة الضرب بالأرجل وفيها الخلاخل أن يعلم الناس ما يخفين من الزينة فيفتتنوا بهن.
وبالقياس على ما تقدم قال الفقهاء : إنّه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها متعطرة بحيث تشمّ منها الرائحة الطيبة ،
فقد أخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «لا يقبل صلاة امرأة تطيّبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة» «1».
وروى أبو داود والنسائي عن أبي موسى رضي اللّه عنه أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «كل عين زانية ، والمرأة إذا استعطرت ، فمرّت بالمجلس ، فهي كذا وكذا» «2»
يعني زانية.
واستدل الحنفية بهذا النهي على أنّ صوت المرأة عورة ، فإنّها إذا كانت منهية عن فعل يسمع له صوت خلخالها ، فهي منهية عن رفع صوتها بالطريق الأولى.
والظاهر أنّه إذا أمنت الفتنة لم يكن صوتهنّ عورة ، فإنّ نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كنّ يروين الأخبار للرجال ، وفيهم الأجانب من غير نكير ولا تأثيم.
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. ختم اللّه سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بأمر المؤمنين أن يتوبوا من التقصير الذي لا يخلو عنه أحد منهم ، لا سيما ما يتعلّق بإبداء الزينة والنظر إليها. فالآية تشير بهذا الختام إلى أنّه قلّما يسلم أحد من الوقوع في بعض جرائم هذا الباب ، ولهذا فهم محتاجون إلى عفو اللّه ومغفرته. فأرشدهم اللّه تعالى إلى طريق ذلك بقوله : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً وخاطبهم بعنوان الإيمان ، لينبههم إلى أن الإيمان الصحيح هو الذي يحمل صاحبه على الامتثال ، وعلى التوبة والاستغفار مما يكون قد ارتكبه من هفوات ، فإنّ التوبة سبب الفلاح والفوز بالسعادة.
هذا وعن ابن عباس أنّ المراد مما سبق منهم في الجاهلية من النظر وغيره ، والآثام التي وقعت منهم في الجاهلية ، وإن كان الإسلام قد جبّها فهم مأمورون بالتوبة منها كلما تذكّروا. قال بعض العلماء : وهذا هو الحال في كل معصية تاب منها صاحبها أنه يلزمه أن يكرر التوبة منها كلّما ذكرها.
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (4/ 51) ، كتتب الترجّل ، باب ما جاء في المرأة حديث رقم (4174) ، وابن ماجه في السنن (2/ 1326) ، 39 - كتاب الفتن ، 19 - باب فتنة النساء حديث رقم (4002).
(2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 99) ، كتاب الأدب ، باب كراهية خروج المرأة حديث رقم (2787) ، وأبو داود في السنن (4/ 51) ، كتاب الترجّل ، باب ما جاء في المرأة تتطيب حديث رقم (4173) ، والنسائي (7 - 8/ 528) ، كتاب الزينة باب ما يكره من الطيب حديث رقم (5129).(1/592)
ص : 593
الترغيب في النكاح
قال اللّه تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ إن اللّه سبحانه لم يحرّم على الناس نوعا من المتاع في الدنيا إلا جعل له نظيرا من الحلال الطيب ، ليكون ذلك معينا لهم ، ومقويا لعزائمهم على ترك ما حرّمه عليهم ، فقد حرّم الربا وأحلّ البيع ، وحرّم الميتة وأحل المذكّى ، وحرّم الخنزير وأحلّ النعم ، كما أنّه حرّم الزنى وأحلّ النكاح.
فبعد ما زجر اللّه عن الزنى ودواعيه القريبة والبعيدة من النظر وإبداء الزينة ودخول البيوت بغير استئذان رغّب في النكاح ، وأمر بالإعانة عليه ، فالنكاح من خير ما يحقّق العفة ، ويعصم المرء عن الزنى ، ويبعد به عن آثامه.
والْأَيامى : جمع أيم ، وأصله أيايم قدّمت الميم على الياء ، ثم فتحت للتخفيف ، فانقلبت الياء ألفا. والأيم من لا زوج له من الرجال والنساء ، سواء أكان بكرا أم ثيبا ، وليس خاصّا بالنساء ، قال قائلهم :
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي وإن كنت أفتى منكم أتأيّم
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ معناه : زوجوا أياماكم بعضهم من بعض.
وكذلك ليس خاصا بمن يموت عنه زوجه ، بل يقال أيضا لمن فارق بالطلاق.
قال الشماخ :
يقرّ لعيني أن أحدّث أنّها وإن لم أنلها أيّم لم تزوج
قاله في زوجه بعد ما فارقها ، هذا هو المشهور في لسان العرب.
فالمراد بالأيامى في الآية من لا زوج له من الرجال والنساء ، وقوله مِنْكُمْ معناه الذين هم من جنسكم في الحرية ، بقرينة عطف الصالحين من العبيد والإماء عليه.
والمراد بالصلاح معناه الشرعي المعروف ، وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه ، وقيل : المراد به المعنى اللغوي ، وهو الأهلية للنكاح ، والقيام بواجبه ، والعباد :
كالعبيد جمع عبد ، وهو الذكر من الأرقاء. والإماء : جمع أمة ، وهي أنثى الرقيقة ، ففي الصالحين تغليب الذكور على الإناث.
وإنما اعتبر الصلاح في جانب الأرقاء دون الأيامى من الأحرار والحرائر ، لأنّ(1/593)
ص : 594
تزويج العبيد والإماء يفوّت على سادتهم منافع كثيرة ، لا يشجعهم على التغاضي عنها ، والتهاون فيها إلا استقامة أولئك العبيد والإماء وصلاحهم ، أو ظن قيامهم بموجب النكاح وحقوقه.
في الآية أمر بتزويج الأيامى من الأحرار والمملوكين ، وقد اختلف العلماء في المأمورين بهذا الأمر ، فقيل : إنّ هذا أمر موجّه إلى الأمة جميعها. وقيل : إنّ المأمورين هم أولياء الأحرار وسادات العبيد والإماء. ولكنك قد عرفت أنّ اسم الأيامى واقع على الذكور والإناث ، فلا وجه لتخصيص الأولياء بالأمر ، إذ إن الأيم الكبير من الأحرار لا ولاية لأحد عليه.
فالوجه القول الأول : وهو أنّ المأمور الأولياء والسادات ، وغيرهم من سائر الأمة ، فالأمر متوجه إليهم جميعا أن ينكحوا من لا زوج له.
والإنكاح معناه الحقيقي التزويج ، وهو إجراء عقد الزواج. ولو أريد بالإنكاح في الآية هذا المعنى لكان الناس مكلّفين أن يزوّجوا الأيامى ، وفيهم الرجال الكبار ، مع أنّه لا ولاية لأحد عليهم. فكان لا بد من التأويل. إما في كلمة وَأَنْكِحُوا باستعمالها في معنى أعم من إجراء العقد وهو المساعدة في النكاح والمعاونة عليه ، وإما في الْأَيامى بحملها على غير الرجال الكبار ، ولعلّ التأويل الأول أرجح ، فإنّ الآية مسوقة للترغيب في النكاح ، والذي يناسبه إبقاء الأيامى على عمومها.
وظاهر الأمر بالإنكاح أنّه للوجوب ، وبه قال أهل الظاهر ، وقال السلف وفقهاء الأمصار إنّه للندب ، وصرفه عن ظاهره أمور :
- منها : أنه لو كان تزويج من ذكر في الآية واجبا لشاع العمل به في عصر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وعصر الخلفاء الراشدين من بعده ، ولنقل إلينا مستفيضا لعموم الحاجة إليه ، مع أنّه قد كان في عصر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والعصور بعده أيامى كثيرون من رجال ونساء ، ولم ينكر على واحد ترك تزويجهم.
- ومنها : أنّ الأيم الثيب لو أبت الزواج فلا يجبرها أحد ، فلو كان تزويجها واجبا لأجبرها عليه من ثبت عليه الوجوب.
- ومنها : الاتفاق على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده وأمته ، فلا يكون تزويجهما واجبا عليه ، والظاهر أن الحكم في المعطوف عليه ، وهو الأيامى من الأحرار كذلك ، إذ صيغة الطلب واحدة.
واستدل الشافعية بظاهر قوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ على أنّه يجوز للولي أن يزوّج البكر البالغة دون رضاها ، لأنّهم تأوّلوا الآية على أنّ الخطاب فيها للأولياء ، فقد جعلت للولي حقّ تزويج موليته مطلقا ، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة ، وسواء أرضيت(1/594)
ص : 595
أم لم ترض ، ولو لا أنّ أدلة أخرى جعلت الثيب أحقّ بنفسها لكان حكمها حكم البكر الكبيرة ، أنه يجوز تزويجها دون رضاها.
وأنت تعلم أنه ليس في الآية دليل على إهدار رضا الكبيرة ، ولا اعتباره ، لكن
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «و البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها» «1»
يدل على وجوب استئذانها ، واعتبار رضاها ، فكان ذلك مخصصا للآية.
وكذلك استدلّوا بها على أنّ المرأة لا تلي عقد النكاح ، لأنّ المأمور بتزويجها وليّها فلو جاز لها أن تتولى النكاح بنفسها لفوتت على وليها ما جعله اللّه حقا من حقوقه ، ولكنّك قد علمت أنّ الأولى حمل الخطاب في الآية على أنّه خطاب للناس جميعا على معنى ندبهم إلى المساعدة في النكاح ، والمعاونة عليه ، وعلى هذا فحكم مباشرة العقد ينبغي أن يؤخذ من غير هذه الآية.
واستدل بعض الحنفية بظاهر قوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ على أنه يجوز للحر أن يتزوج بالأمة مطلقا ، ولو كان مستطيعا طول الحرة.
ويقول الشافعية : إنّ قوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [النساء : 25] أخصّ من الآية التي معنا ، والخاصّ مقدّم على العام ، فلا يجوز لمن وجد طول الحرة أن يتزوج أمة ، كما تقدم ذلك في سورة النساء مفصّلا.
وقوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ يتناول بظاهره جميع الأيامى ، إلا أنّهم أجمعوا على أنّه لا بد لهذا من شروط : ألا تكون المرأة محرما للزوج بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، ولا أخت زوجته ، ولا عمتها ، ولا خالتها ، ولا بنت أخيها ، ولا بنت أختها ، إلى غير ذلك من الشروط التي تكفّلت بها الآيات والأحاديث الصحيحة.
واستدلّ العلماء بقوله تعالى : وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ على أنه يجوز للمولى أن يزوج عبده وأمته دون رضاهما ، لأنّ الآية جعلت للسيد حقّ تزويج كلّ منهما ، ولم تشترط رضاهما.
إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ اختار بعض المفسرين أنّ الكناية في قوله تعالى : إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ راجعة إلى الأيامى من الأحرار والحرائر والصالحين من العبيد والإماء ، وعلى ذلك يكون المراد من الإغناء التوسعة ودفع الحاجة ، سواء أكان ذلك بملك ما يحصل به الغنى أم لا. واختار آخرون أنّها راجعة إلى الأيامى من الأحرار والحرائر خاصة ، لأنّ قوله تعالى : يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ظاهر في أن يملكهم ما يحصل به الغنى ، وتندفع به الحاجة ، والأرقاء لا يملكون ، فليسوا مرادين في الآية.
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 72) ، 9 - كتاب الإكراه ، 3 - باب لا يجوز نكاح المكره حديث رقم (6946).(1/595)
ص : 596
وظاهر الجملة الشرطية أنها وعد من اللّه تعالى بالغنى للمتزوج.
وقد نقل عن كثير من الصحابة والتابعين ما يدلّ على أنهم أجروا الآية على ظاهرها ، وأنها عدة كريمة من اللّه ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال : أطيعوا اللّه تعالى فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى ، قال تعالى : إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في «المصنف» عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال : ابتغوا الغنى في النكاح ، يقول اللّه تعالى : يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وروي مثل ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف.
والأخبار الدالة على وعد الناكح بالغنى كثيرة.
أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «ثلاثة حقّ على اللّه عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والمجاهد في سبيل اللّه» «1».
وأخرج الخطيب في «تاريخه» عن جابر قال : جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يشكو إليه الفاقة فأمره أن يتزوج «2»
. وقد يقال : كيف تبقى الشرطية على ظاهرها ، وأنها وعد من اللّه بإغناء الفقراء إذا تزوجوا ، مع أننا نرى كثيرا من الفقراء يتزوجون ، ويستمر فقرهم ، ولا يبسط لهم في الرزق ، ووعد اللّه لا يتخلف؟
والجواب : أنّ هذا الوعد مشروط بالمشيئة ، كما هو الشأن في مثله. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة : 28] ويرشد إلى إضمار المشيئة قوله تعالى : وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فإنّ المناسب للمقام أن يقال : (واسع كريم) لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل ليفيد أنه يعلم المصلحة ، فيبسط الرزق لمن يشاء ، ويقدّر لمن يشاء ، حسبما تقضي به الحكمة والمصلحة ،
«إنّ من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر ، ولو أغنيته لفسد حاله».
وذهب كثير من المفسرين إلى أنّ هذا ليس وعدا من اللّه بإغناء من يتزوج ، بل المقصود الحث على المناكحة ، والنهي عن التعليل بفقر المستنكحين ، فالمعنى : لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ، أو فقر من تريدون تزويجها ، ففي فضل اللّه ما يغنيهم ، والمال غاد ورائح ، وليس النكاح مانعا من الغنى ، ولا سببا في الفقر. وما
__________
(1) الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 157) ، كتاب الجهاد ، باب ما جاء في المجاهد حديث رقم (1655) ، والنسائي في السنن (5 - 6/ 369) ، كتاب النكاح ، باب معونة اللّه حديث رقم (3218) ، وأحمد في المسند (2/ 251).
(2) انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، بيروت دار الفكر (1/ 365).(1/596)
ص : 597
استقر في الطباع من أنّ العيال سبب في الفقر إن هو إلا ارتباط وهمي ، فقد ينمّي اللّه المال مع كثرة العيال ، وقد يحصل الإقلال مع العزوبة ، والواقع يشهد بهذا.
وتحقيق ذلك أنّ المراد بيان أنّ النكاح ليس مانعا من الغنى ، فعبّر عن ذلك ببيان أنّه سبب في الغنى مبالغة ، على حدّ قوله تعالى : فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة : 10] فإنّ ظاهره الأمر بالانتشار في الأرض إذا قضيت الصلاة ، والمراد تحقيق زوال المانع وإنّ الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار في الأرض ، فعبّر عن نفي المانع من الانتشار بما يقتضي طلب الانتشار مبالغة.
هذا وقد استدل بعض العلماء بالآية على أنّ النكاح لا يفسخ بالعجز عن النفقة ، لأنّه تعالى لم يجعل الفقر مانعا من الإنكاح ، بل حثّ على إنكاح الفقراء ، ووعدهم بالغنى ، فإذا كان الفقر ليس مانعا من ابتداء النكاح فلأن لا يكون مانعا من استدامته أولى.
وأنت تعلم أنّ غاية ما تفيده الآية أنّه يندب ألا يردّ الخاطب الفقير ثقة بما عند اللّه. وهذا القدر أيضا ثابت في استدامة النكاح ، فإنّه يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصبر وتستأني بها ، وهذا لا يمنعها أن تستوفي حقها من فسخ النكاح إذا كان الشرع قد قرّر لها حق الفسخ للإعسار ، فالمسألة موقوفة على ورود الشرع بالتفريق للإعسار ، فإذا ورد بذلك شرع فالآية لا تنافيه.
واستدل بهذا كثير من العلماء على أنّه يندب للفقير أن يتزوج ، ولو لم يملك أهبة النكاح ، فإنّه من البعيد أن يندب اللّه الولي إلى إنكاح الفقير ، ثم يندب الفقير إلى ترك النكاح ، وتمام البحث في الآية الآتية :
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الاستعفاف : الاجتهاد في العفة وصون النفس. والمراد بالنكاح هنا ما ينكح به ، فإنّ فعالا يكون اسم آلة كركاب لما يركب به. ويجوز أن يراد به حقيقته الشرعية. وبالوجدان : التمكن منه ، ويصح أن يقدّر في الكلام مضاف ، أي لا يجدون أسباب النكاح ومبادئه : كالمهر ، والكسوة ، والسكنى ، والنفقة.
يأمر اللّه الذين لا يجدون ما يتزوجون به أن يجتهدوا في العفة عن إتيان ما حرّم اللّه عليهم من الفواحش إلى أن يغنيهم اللّه من سعته ، ويرزقهم ما به يتزوجون. وفي ذلك عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى تأميلا لهم وتطمينا لقلوبهم.
واستدلّ بعض العلماء بالآية على أنّه يندب ترك النكاح لمن لا يملك أهبته مع التوقان.
وقد تقدّم أن في الآية السابقة دليلا على ندب النكاح له ، فكأنّ بين الآيتين تعارض في ظاهرهما ، وللعلماء في الجمع بينهما طريقان :
فالشافعية يجعلون هذه مخصصة للآية السابقة ، ويقولون : الفقراء قسمان : قسم(1/597)
ص : 598
يملك أهبة النكاح ، وقسم لا يملكها. فالفقراء العاجزون عن أسباب النكاح الذين لا يملكون أهبته قد ندبهم اللّه بهذه الآية إلى ترك النكاح وأرشدهم إلى ما هو أولى بهم وأصلح لحالهم : من الاستعفاف وصون النفس إلى وجدان الغنى ، وحينئذ يتزوجون ، فتعيّن أن يكون الفقراء الذين ندب اللّه إلى إنكاحهم بقوله : إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هم الذين يملكون أهبة النكاح ، ولا شكّ أنّ الفقير الذي يملك أهبة النكاح يندب له أن يتزوج.
والحنفية يبقون الآية السابقة على عمومها ، ويؤوّلون النكاح في هذه الآية على أنّه صفة بمعنى اسم المفعول ، ككتاب بمعنى المكتوب ، فالأمر بالاستعفاف هنا محمول على من لم يجد زوجة له ، وحينئذ لا تعارض بين الآيتين ، ولا يخفى أنّ الغاية في قوله تعالى : حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ تجعل هذا التأويل بعيدا كل البعد.
والكلام فيما يعتري النكاح من الأحكام واختلاف المذاهب فيه مرجعه إلى كتب الفروع.
واستدلّ بعض الناس بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة ، لأنه لو كان صحيحا لم يتعيّن الاستعفاف سبيلا للتائق العاجز عن مبادئ النكاح وأسبابه ، وظاهر الآية أنّه لا سبيل له إلا أن يصبر ويستعفف.
وقد يقال : إذا صحّ هذا كان دليلا على تحريم الوطء بملك اليمين.
والجواب : أن من عجز عن المهر يكون عن شراء الجارية أشد عجزا في المتعارف الأغلب عند الناس ، فلا سبيل له إلا أن يصبر ويستعفف.
مكاتبة الأرقاء
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ.
الكتاب والمكاتبة : مصدرا كاتب كالعتاب والمعاتبة. والكتابة بمعنى العقد الذي يجري بين السيد وعبده على عتقه بعد أن يؤدي مالا يتفقان عليه ، لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية. وسمّي هذا العقد كتابة إما لأنّ العادة جارية بكتابته لتأجيل العوض فيه ، وإمّا لأنّ السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال ، وإما لأنّ العوض فيه يكون منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عامّ في العبيد والإماء إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً للعلماء في تفسير الخير هنا أقوال : منها أنّ المراد به الأمانة والقدرة على الكسب ، وذكر البيضاوي أنّ هذا التفسير قد روي مرفوعا ، وهو مروي عن ابن عباس ، واختاره الشافعي ، لأنّ مقصود الكتابة لا يحصل إلا بأمانة العبد ، وقدرته على(1/598)
ص : 599
الكسب ، وقد يرشّح هذا التفسير قوله تعالى : إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص : 26].
وفسّره بعضهم بالحرفة ، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود في «المراسيل» والبيهقي في «السنن» وتعقب هذا القول ابن حجر بأنّ العبد إذا لم يكن أمينا أضاع ما كسبه ، فلم يحصل المقصود من كتابته.
وعن قتادة وإبراهيم وابن أبي صالح أنهم فسروه بالأمانة ، وضعّفه ابن حجر أيضا بأنّ المكاتب إذا لم يكن قادرا على الكسب كان في مكاتبته ضرر على سيده ، ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة.
وروي عن علي وابن عباس في رواية ثانية ، وابن جريج ومجاهد وعطاء أنهم فسّروا الخير بالمال ، ولعلّ مرادهم القدرة على كسب المال ، كما هو أحد الأقوال السابقة ، وإلّا فهو ضعيف لفظا ومعنى ، أمّا ضعفه من جهة اللفظ فلأنّه لا يقال : فيه مال ، وإنما يقال : عنده مال أو له مال ، وأما ضعفه من جهة المعنى فلأنّ العبد لا مال له ، وفسّر الحسن الخير بالصلاح ، وهو ضعيف ، لأنّه يقتضي ألا يكاتب غير المسلم ، وقريب منه تفسير بعض الحنفية إياه بألا يضر بالمسلمين بعد العتق.
بعد أن أمر اللّه سبحانه وتعالى بإنكاح الصالحين من العبيد والإماء أمر جلّ شأنه بكتابة من يطلب الكتابة منهم ، ليكون حرا ، فيتصرّف في نفسه.
وأخرج ابن السكن في سبب نزول هذه الآية «1» عن عبد اللّه بن صبيح قال :
كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى ، فسألته الكتابة فأبى ، فنزل قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إلخ.
وظاهر الأمر في قوله : فَكاتِبُوهُمْ أنّه للوجوب ، وبه قال عطاء ، وعمرو بن دينار ، والضحاك ، وابن سيرين ، وداود ، وحكاه بعض الناس عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، أخذا مما رواه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير «2» عن أنس بن مالك قال : سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه ، فأتى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فأقبل علي بالدّرة ، وتلا قوله تعالى : فَكاتِبُوهُمْ إلخ وفي رواية أنّه قال :
كاتبه ، أو لأضربنّك بالدّرة ، وفي أخرى أنه حلف عليه ليكاتبنّه.
وجمهور العلماء على أنّ الأمر في قوله تعالى : فَكاتِبُوهُمْ للندب والاستحباب ،
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» «3»
ولأنّه لا
__________
(1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 45).
(2) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (18/ 98).
(3) رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 72). [.....](1/599)
ص : 600
فرق بين أن يطلب الكتابة ، وأن يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة ، فكما لا يجب هذا البيع ، كذلك لا تجب الكتابة ، وهذه طريقة المعاوضات أجمع ، مرجعها إلى رضا الطرفين واختيارهما. وما روي عن عمر في قصة سيرين لا يدلّ على الوجوب ، لأنّها لو كانت واجبة لحكم بها عمر على أنس ، ولم يكن يحتاج أن يحلف عليه ليكاتبنّه ، ولم يكن أنس أيضا يمتنع من شيء واجب عليه. وأما تهديد عمر إيّاه فإنما كان من كمال شفقته على رعيته ، وحبه الخير لهم ، فكثيرا ما كان يأمر الناس بما لهم فيه الحظ في الدين ، وإن لم يكن واجبا على وجه التأديب والمصلحة.
وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله تعالى : فَكاتِبُوهُمْ أمر ورد بعد الحظر ، فهو للإباحة ، لأنّ الكتابة من السيد بيع ماله بماله ، وهذا محظور ، فلما ورد الشرع بطلبه كان مباحا. وحينئذ يكون ندب الكتابة واستحبابها من دليل آخر ، مثل قوله تعالى :
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) [البلد : 12 ، 13] وقوله تعالى : وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ إلى قوله : وَفِي الرِّقابِ [البقرة : 177] إلى غير ذلك من العمومات التي تندب إلى عمل البر وفعل الخير.
وظاهر الإطلاق في قوله تعالى : فَكاتِبُوهُمْ جواز الكتابة ، سواء أكان البدل حالّا أم مؤجلا بنجم واحد أو أكثر ، وإلى ذلك ذهب الحنفية.
ومنع الشافعية الكتابة على بدل حالّ ، قالوا : إنّ الكتابة تشعر بالتنجيم ، فتغني عن التقييد. وأيضا لو عقدت الكتابة حالّة توجهت المطالبة على المكاتب في الحال ، وليس له مال يؤدي منه ، فيعجز عن الأداء ، فيرد إلى الرق ، ولا يحصل مقصود الكتابة.
ونظيره من أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنّه لا يجوز. وكذلك منع الشافعية الكتابة على أهل من نجمين ، وسندهم في ذلك أنها عقد إرفاق ، ومن تمام الإرفاق التنجيم ، ومع أنّ هذا الرأي مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر تراه خلاف ظاهر الآية ، ومستند الشافعية فيه ليس بالقوي.
وقوله تعالى : إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً شرط ، ومشروطه الأمر بالكتابة ، فإن لم يعلموا فيهم خيرا لم تجب ، أو لم تندب مكاتبتهم ، على الخلاف في مقتضى الأمر كما تقدم.
بل ربما تكون الكتابة حين انتفاء الشرط محرمة ، كما إذا علمنا أنّ المكاتب يكتسب بطريق الفسق ، أو يضيّع كسبه في الفسق ، ولو استولى عليه السيد لا متنع من ذلك ، ونظيره الصدقة والقرض إذا علم أنّ من أخذهما يصرفهما في محرم فإنهما يحرمان.
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قد اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطاء المكاتب من هو؟ وفي المال أي الأموال هو؟ فقال أكثر العلماء : المأمور بالإعطاء هو مولى العبد المكاتب ، والمال الذي أمر بإعطائه منه هو مال الكتابة.(1/600)
ص : 601
ثم اختلفوا على أنّ الربع هو المراد بالآية. وعن ابن مسعود والحسن الثلث.
وعن ابن عمر السبع. وعن قتادة العشر.
وقال الشافعي : لم تقدّر الآية الشيء الذي يؤتيه المولى ، فيكفي في الخروج من عهدة الطلب أن يؤتيه أقلّ متمول ، وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة ، بل الحط أولى من الإيتاء ، لأنّه المأثور عن الصحابة ، ولأنه في تحقق المقصود من الكتابة أقرب من الإيتاء.
وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال : قال مالك : سمعت بعض أهل العلم يقول : إنّ ذلك أن يكاتب الرجل غلامه ، ثم يضع عنه من آخر كتابه شيئا مسمّى. قال مالك : وذلك أحسن ما سمعت ، وعلى ذلك أهل العلم وعمل الناس عندنا.
ثم اختلف هؤلا في الإيتاء : أهو على سبيل الفرض والتحتيم أم على سبيل الندب والاستحباب؟
فقال سفيان الثوري وطائفة من العلماء : إنّه ليس بواجب ، وإن يفعل ذلك حسن.
وذهب الشافعي إلى أنّ الإيتاء واجب ، وفي معناه الحط كما تقدم ، لأنّ ظاهر الأمر في الآية الوجوب ، ولا صارف عنه.
وقال جماعة من العلماء : إنما هذا أمر متوجه إلى الناس كافة أن يعطوا المكاتبين سهمهم الذي جعله اللّه لهم من الصدقات المفروضة بقوله تعالى : إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ [التوبة : 60] وهذا هو مذهب الحنفية ، وحكاه أبو بكر بن العربي عن مالك. وظاهر أنّ الأمر حينئذ يكون للوجوب.
وقيل : إنّه أمر ندب للمسلمين عامة بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.
وقيل إنه أمر للموالي أن يقرضوا المكاتبين شيئا من أموالهم لاستثماره في التجارة ونحوها إعانة لهم على أداء مال الكتابة.
الإكراه على البغاء
قال اللّه تعالى : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ الفتيات : جمع فتاة ، وكلّ من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة في أيّ سن كانا.
والبغاء : زنى النساء.
والتحصن : التعفف عن الزنى.(1/601)
ص : 602
والعرض : المتاع سريع الزوال. والمراد به هنا ما يعمّ أجورهنّ التي يأخذنها على الزنى بهن وأولادهن من الزنى.
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي اللّه عنه «1» أنّ جارية لعبد اللّه بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة ، وأخرى يقال لها : أميمة ، كان يكرههما على الزنى ، فشكتا ذلك إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فنزلت هذه الآية.
وقيل : نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنى ، أحدهما عبد اللّه بن أبي.
وقيل : كان له ست جوار أكرههن على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب ، فشكت اثنتان منهن إلخ.
وعن علي وابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنى ، يأخذون أجورهن ، فنهوا عن ذلك في الإسلام ، ونزلت الآية.
وعلى جميع الروايات لا سبيل إلى تخصيص الآية بمن نزلت فيه ، بل هي عامة في سائر المكلّفين ، لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قد يقال : إنّ النهي عن الإكراه هنا مقيّد بأمرين : الأول : أنّهنّ يردن التحصن.
والثاني : أنّهم يبتغون عرض الحياة الدنيا ، فيلزم القائلين بالمفهوم أنّ الإكراه على الزنى جائز إذا لم يردن التحصن ، أو لم يقصدوا به عرض الحياة الدنيا ، والإكراه على الزنى غير جائز بحال من الأحوال إجماعا.
والجواب عن ذلك من وجوه :
الأول : أنّ الشرط لم يقصد به تخصيص النهي بحالة وجوده ، وإخراج ما عداها من حكمه ، بل قصد به النص على عادة من نزلت فيهم الآية ، حيث كانوا يكرهونهنّ على البغاء ، وهن يردن التعفف عنه. ومعلوم أنّه لا يعمل بمفهوم القيد إلا حيث لا يكون له فائدة غير المفهوم ، فإذا ظهر له فائدة غير المفهوم ، فلا اعتبار بمفهومه.
وهنا قد ظهر للشرط فائدة ، وهي أنّ في التنصيص على تعفف الإماء توبيخا لسادتهم ، وتقبيحا لحالهم ، حيث لم يبلغوا في محاسن الآداب والترفع عن الدنيا مبلغ الفتيات المبتذلات ، مع وفور شهوتهن ، ونقصان عقلهن ، وقصور باعهن في معرفة محاسن الأمور. وكذلك قوله تعالى : لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا لم يقصد به التنصيص على هذه الحالة لإخراج ما عداها من الحكم ، وإنما جيء به ليسجّل عليهم عادة كانت
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 2320) ، 54 - كتاب التفسير ، 3 - باب قوله تعالى : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ حديث رقم (26/ 3029) ، وأبو داود في السنن (2/ 278) ، كتاب الطلاق ، باب في تعظيم الزنى حديث رقم (2311).(1/602)
ص : 603
تجري فيما بينهم أيضا ، زيادة في التشنيع عليهم ، وتقبيحا لما كانوا عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير.
والوجه الثاني : أنّ قوله تعالى : إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً شرط في تصور الإكراه وتحققه ، وليس شرطا للنهي ، وهذا الوجه ضعيف ، لأنّ الإكراه قد يتصوّر إذا لم يردن التحصن ، بأن تكره على زنى غير الذي أرادته ، ولو سلّم أن الإكراه لا يتصور إلا إذا أردن التحصن ، فذكر الإكراه مغني عن هذا القيد.
والوجه الثالث : أن المفهوم اقتضى ذلك الحكم ، وهو جواز الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن ، لكن ذلك الذي اقتضاه المفهوم قد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع.
وإيثار إِنْ في قوله تعالى : إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً على (إذا) لأنّ إرادة التحصن من الإماء كالشأن النادر ، أو للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك ، فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع.
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ اختلف أهل التأويل في المغفور له من هو ، أهو المكرهون أم المكرهات؟ فأكثر العلماء من السلف والخلف على أنّ المعنى : فإنّ اللّه من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن ، ويؤيد هذا الرأي قراءة ابن مسعود : مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ورويت هذه القراءة عن ابن عباس أيضا. وأورد على هذا الرأي اعتراضان :
أولهما : أنه يلزم عليه خلو جملة الجزاء من عائد على اسم الشرط.
وثانيهما : أنه لا إثم عليهن حال الإكراه ، لأنهنّ غير مكلفات ، ولا إثم دون تكليف ، فكيف تعلّقت المغفرة بهن؟
والجواب عن الأول : أن خلو الجزاء عن ضمير اسم الشرط لا محذور فيه ، لأن اللازم لانعقاد الشرطية كون الأول سببا للثاني ، وهو هنا ظاهر ، على أنّ التقدير : فإنّ اللّه من بعد إكراههم إياهن ، ففاعل المصدر هو العائد ، والمحذوف كالملفوظ.
والجواب عن الثاني : أن تعليق المغفرة بهن إما لأنهنّ وإن كن مكرهات لا يخلو عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلّة البشرية ، وإما لتشديد المعاقبة على المكرهين ، لأنّ الإماء مع قيام عذرهن إذا كنّ بصدد المعاقبة ، حتى احتجن إلى المغفرة ، فما حال المكرهين؟
واختار بعض العلماء أنّ المعنى : أنّ اللّه من بعد إكراههن غفور رحيم لهم ، أي للمكرهين ، وجعل ذلك مشروطا بالتوبة. وهو تأويل ضعيف لأنّ فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى ، والمقام مقام تهويل وتشنيع على المكرهين.(1/603)
ص : 604
قال اللّه تعالى : وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) يقول اللّه جل ذكره : لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة آيات تبيّن لكم ما بكم الحاجة إلى بيانه من الأحكام والحدود والشرائع ، وأنزلنا لكم فيها مثلا وقصة عجيبة من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم ، وموعظة ينتفع بها المتقون.
فما تقدم من أول السورة إلى هنا يشتمل على آيات ذكر فيها الحدود والأحكام الشرعية ، وعلى قصة الإفك العجيبة المشابهة لقصة يوسف وقصة مريم عليهما السلام ، حيث اتهما بما اتهمت به عائشة رضي اللّه عنها من الإفك ، فبرأهما اللّه ، وعلى مواعظ وزواجر مثل قوله تعالى : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور : 2] وقوله جل شأنه : لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور : 12] إلخ.
وقال بعض العلماء المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن الكريم من الآيات والأمثال والمواعظ.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
روي أنّ أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فيه ، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فنزلت هذه الآية «1».
وروي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي اللّه عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو ، فدخل وعمر نائم قد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر :
لوددت أنّ اللّه عزّ وجلّ نهى آبائنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ، فانطلق معه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية ، فخرّ ساجدا شكرا للّه
. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنّه قال : كان أناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات ، فيغتسلوا ، ثم يخرجون إلى الصلاة ، فأمرهم اللّه تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات
__________
(1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 55).(1/604)
ص : 605
إلا بإذن ، بقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية ، فإذا صحّ أنّ سبب النزول قصة أسماء المتقدمة كان قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطابا للرجال والنساء بطرق التغليب ، لأنّ دخول سبب النزول في الحكم قطعي كما هو الراجح في الأصول.
وقد يقال : الأمر في قوله تعالى : لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ للمملوكين والصغار ، وكيف يؤمر الصبي الذي لم يبلغ الحلم ، ولا تكليف قبل البلوغ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أن الأمر وإن كان كذلك في الظاهر ، لكنّه في الحقيقة للمخاطبين ، فهم أمروا أن يأمروا مماليكهم وصبيانهم بالاستئذان ، وإلى هذا المعنى يرشد كلام السدي في سبب النزول كما سبق.
وأمر المخاطبين صبيانهم بالاستئذان إنما هو من باب التأديب والتعليم ، ولا إشكال فيه ، ومثله ما
روي من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» «1».
والثاني : أنّ الأمر للبالغين من المذكورين على وجه التكليف ، ولغيرهم على وجه التأديب.
وظاهر الأمر في قوله تعالى : لِيَسْتَأْذِنْكُمُ أنّ للوجوب ، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. ولكن الجمهور على أنّه أمر استحباب وندب ، وأنّه من باب التعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب ، فلو دخل المملوك المكلّف على سيده بغير استئذان لم يكن ذلك معصية منه ، وإنما هو خلاف الأولى ، وإخلال بالأدب. نعم إذا كان يعلم أنّ في دخوله بغير إذن إيذاء لسيده كان دخوله حينئذ حراما ، لا من حيث إنه دخل بغير إذن ، بل من حيث أنه آذى غيره ، وعلى كلا القولين حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة الآتية محكم ليس بمنسوخ ولا مؤقّت بوقت قد انتهى على الصحيح.
وزعم بعض الناس أنّه منسوخ ، لأن عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول كان جاريا على خلافه.
وقال آخرون : إنّ طلب الاستئذان كان في العصر الأول إذ لم يكن لهم أبواب تغلق ولا ستور ترخى. تمسّكوا في ذلك بما أخرجه أبو داود «2» عن عكرمة قال : إنّ نفرا من أهل العراق قالوا لابن عباس رضي اللّه عنهما : كيف ترى فى هذه الآية التي أمرنا بها ولا يعمل بها أحد. قول اللّه عزّ وجلّ : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية ،
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (1/ 197) ، كتاب الصلاة ، باب متى يؤمر الغلام حديث رقم (495).
(2) رواه أبو داود في السنن (4/ 388) ، كتاب الأدب ، باب الاستئذان حديث رقم (5192).(1/605)
ص : 606
فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : إنّ اللّه حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال ، فربما دخل الخادم أو الولد أو اليتيمة والرجل على أهله ، فأمرهم اللّه تعالى بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم اللّه بالستور وبالخير فلم أر أحدا يعمل ذلك بعد.
وظاهر قوله تعالى : الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أنّ الحكم خاص بالذكور من العبيد سواء أكانوا كبارا أم صغارا ، وبهذا الظاهر قال ابن عمر ومجاهد.
والجمهور على أنه عام في الذكور والإناث من الأرقّاء الكبار منهم والصغار.
وعن ابن عباس أنه خاص بالصغار ، وهو بعيد. وأبعد منه ما روي عن السلمي من تخصيصه بالإناث.
وقوله تعالى : وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ كناية عن أنهم قصروا عن درجة البلوغ ، ولم يصلوا حدّ التكليف ، فالكلام مستعمل في لازم معناه ، لأنّ الاحتلام أقوى دلائل البلوغ ، وسيأتي لذلك مزيد شرح عند تفسير قوله تعالى : وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ إن شاء اللّه.
والجمهور على أنّ المراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان من الذكور والإناث ، سواء أكانوا أجانب أم محارم ، إلا أنّ قوله تعالى : أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ يجعل اسم الموصول هنا خاصا بالمراهقين. كما أنّ وصفه بقوله تعالى : ومِنْكُمُ يجعله خاصا بالأحرار ويشعر بذلك أيضا ذكره في مقابلة الذين ملكت إيمانكم.
ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ الظهيرة وقت الظهر ، وقل : شدة الحر عند انتصاف النهار.
وقد اختلف العلماء في إعراب ثَلاثَ مَرَّاتٍ تبعا لاختلافهم في المراد بها.
فالجمهور على أنّها منصوبة على الظرفية ، للاستئذان ، لأنّ المعنى : ليستأذنكم المذكورون في ثلاثة أوقات : قبل الفجر ، ووقت الظهيرة ، وبعد صلاة العشاء.
وقال أبو حيان : إنّها مفعول مطلق مبيّن للعدد ، لأنّ المعنى : ليستأذنوكم ثلاث استئذانات كما هو الظاهر ، فإنّك إذا قلت : ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ، ويؤيده
قوله عليه الصلاة والسلام : «الاستئذان ثلاث»
وعليه يكون قوله تعالى : مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إلخ ظرفا لثلاث مرات.
وقد يقال : إنّ رأي أبي حيان يقتضي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات واقعا في كل وقت من الأوقات الثلاثة المذكورة بعده ، وليس هذا بمراد ، ولعلّ هذا هو الذي حمل الجمهور على العدول عن مقتضى ظاهر اللفظ إلى القول بأنه ظرف أبدل منه الأوقات الثلاثة إبدال مفصّل من مجمل. ولأبي حيان أن يقول : إنّ مجموع(1/606)
ص : 607
الاستئذانات الثلاث واقع في مجموع الأوقات الثلاثة ، فلكل وقت استئذانة واحدة ، والأمر قريب.
وقوله تعالى : ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ معناه أنّ هذه الأوقات الثلاثة السالفة الذكر هي ثلاثة أوقات يختلّ فيها تستركم عادة ، فالوقت الأول : مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وقت القيام من المضاجع ، وطرح ثياب النوم ، ولبس ثياب اليقظة ، وذلك مظنة انكشاف العورة.
والوقت الثاني : وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وقت يتجردون فيه عن الثياب لأجل القيلولة. والوقت الثالث : وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وقت يخلعون فيه ثياب اليقظة ويلبسون ثياب النوم ، وقد يتعاطون فيه مقدمات المباشرة.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ الظاهر أنّ المراد من هذه الجملة أنّه لا إثم في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة ، فذلك ترخيص في الدخول بغير استئذان في الأوقات الممتدة بين كل وقتين من الأوقات الثلاثة السابقة.
أما الوقتان الواقعان فيما بين صلاة الفجر والظهيرة ، وفما بين الظهيرة وصلاة العشاء ، فترك الاستئذان فيهما أمر ظاهر ، لأنّهما ليسا من أوقات العورة.
وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر فترك الاستئذان فيه غير ظاهر ، لأن هذا الوقت وقت نوم يختل فيه التستر عادة ، فكان من حقه أن يدخل في أوقات العورة التي لا يباح فيها الدخول بغير استئذان.
وللعلماء في ذلك توجيهات :
منها : أن الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة يفهم منه الأمر بالاستئذان في هذا الوقت من باب أولى ، وعليه يكون حكم هذا الوقت كالمستثنى من قوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ.
ومنها : أنّه مسكوت عن حكمه لندرة الوارد فيه جدا.
ومنها : أن العادة جارية بأنّ من ورد في هذا الوقت لا يرد حتى يشعر أهل البيت ، ويعلمهم بوروده ، لما في الدخول هذا الوقت من دون إعلام من التهمة وإساءة الظن.
ولأبي حيان رأي آخر في معنى الجملة ، وهو أنّ التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهن فيهن ، فتصرّف في الكلام بالحذف والإيصال. فحذف فاعل الاستئذان ، وهو الضمير المضاف إليه ، وحذف حرف الجر ، فصار بعد استئذانهن ، ثم حذف المصدر المضاف ، فصار بعدهن. وحاصل المعنى عليه : فإذا استأذنوكم في الأوقات الثلاثة ، فلا جناح عليكم ولا عليهم. وهذا المعنى وإن كان يدفع الإشكال السابق ، إلّا أنّه خلاف الظاهر ، والتصرف في الكلمة على هذا النحو تأباه جزالة النظم الجليل.
وقد علمت فيما سبق أنّ الأمر في قوله تعالى : لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إلخ(1/607)
ص : 608
في ظاهر اللفظ موجّه لمن لم يبلغ الحلم ، وهو في الحقيقة أمر لأوليائهم أن يعلّموهم الآداب الحسنة ، ويأمروهم بالاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة ، فإذا اعتبر الأمر في ظاهر اللفظ قيل : ليس عليهم جناح بعدهن ، وإذا اعتبر المأمورون في الحقيقة قيل :
ليس عليكم جناح ، واقتصر عليهم. لكنّ النظم الجليل قد روعي فيه الاثنان ، فجمعهما في نفي الجناح مبالغة في الإذن بترك الاستئذان بعد الأوقات الثلاثة.
والظاهر أنّ المراد بالجناح المنفي الإثم الشرعي ، أي لا إثم عليكم ولا إثم عليهم في دخولهم عليكم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة.
ويفهم منه أنّ على المخاطبين وعلى الصغار الذين لم يبلغوا الحلم إثما إذا دخل هؤلاء الصغار في الأوقات الثلاثة من دون استئذان. وهو مشكل من وجهين :
الأول : أن المخاطبين حمّلوا تبعة فعل غيرهم ، مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
والثاني : أنّ الصغار غير مكلّفين ، فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي.
والجواب أنّه لا مانع من تأثيم المخاطبين لتركهم تعليم الصغار ، وتمكينهم إياهم من الدخول بغير استئذان في أوقات العورات. وإنّ الجناح المنفي عن الصغار الجناح العرفي ، بمعنى الإخلال بالأدب والمروءة.
نفت هذه الآية الحرج في دخول المماليك والذين لم يبلغوا الحلم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة ، وقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها يحظر الدخول بغير استئذان في جميع الأوقات ، فكان بين ظاهر الآيتين تعارض. وأصحّ ما دفع به هذا التعارض أنّ الآية السابقة خاصة بالأحرار البالغين ، وفي حكمهم مماليك الأجانب. وهذه الآية في الصبيان ومماليك المدخول عليه ، فلا تعارض.
ويؤخذ من تعليل الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بأنها أوقات عورة ، يختل فيها تسترهم : أن العبرة بتحقق هذا المعنى ، بقطع النظر عن خصوص الوقت ، فلو كان أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين عليهم فيها كانكشاف عورة ومداعبة زوجة. أو أمة. فإنّه ينبغي أن يستأذن مماليكهم وصبيانهم عليهم ولو كان ذلك في غير الأوقات الثلاثة. لأن المعنى الذي من أجله أمروا بالاستئذان ، وهو خشية الاطلاع على العورات متحقق. فالأمر بالاستئذان فيها ، ونفي الجناح بعدها جاريان على العادة الغالبة.
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي وهم يطوفون عليكم بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي بعضكم طائف على بعض ، فحذف متعلّق الجار ، وهو كون خاصّ لدلالة ما قبله عليه.
والجملة الأولى مستأنفة لبيان العذر المرخّص في ترك الاستئذان ، أي إن من(1/608)
ص : 609
شأنهم مخالطتكم ، والتردد عليكم بالدخول والخروج ، فرفع الحرج عنكم وعنهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة. والجملة الثانية مؤكّدة للأولى في بيان الحكمة التي من أجلها رخّص في ترك الاستئذان ، إلا أنها أشمل من الأولى ، فإنّ معناها أن كلّا منكم لا يستغني عن مخالطة الآخر ، فهم طوّافون عليكم ، وأنتم طوّافون عليهم. وفي هذا تسلية للماليك والخدم ، بأنّ التعاون في الحياة أمر مشترك بين المالك والمملوك والخادم والمخدوم.
وكان من حق المقابلة أن يقال : طوافون عليكم ، وأنتم طوافون عليهم. لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ مراعاة لجانب السادة المخدومين ، وتلطفا في التعبير عن حاجتهم إلى المماليك والخدم.
وتدل الآية الكريمة على اعتبار العلل في الأحكام الشرعية ، لأنّ اللّه تعالى نبّه على العلة في طلب الاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله جلّ شأنه : ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ونبّه على العذر المبيح لترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة بقوله عزّ اسمه :
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ.
وتدلّ الآية أيضا على أنّ من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح. على وجه التأديب والتعليم ، وليعتاده ويتمرّن عليه ، ليكون أسهل عليه عند البلوغ. قال تعالى : قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم : 6] روي في تفسيرها أدّبوهم وعلّموهم.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ معنى تبيين الآيات إنزالها مبينة واضحة الدلالة على معانيها وما قصد منها.
يكثر في القرآن أنّ اللّه جلّ شأنه بعد أن يذكر الآيات واضحة الدلالة مبيّنة بيانا يشفي الصدور ، ويعمر القلوب باليقين والاطمئنان ، ويحمل السامع على أن يستيقن أن هذا هو البيان ، لا بيان بعده ، يردف ذلك بقوله عزّ اسمه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ فينبه المخاطبين على أنّ هذه عادة اللّه في آياته كلّها يبينها البيان الشافي لقوم يعقلون.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ ذو علم شامل لكل معلوم ، فيعلم ما يصلح لكم وما لا يصلح حَكِيمٌ فيشرع لكم من الأحكام ما يناسبكم ، ويكفل لكم السعادة في المعاش والمعاد.
قال اللّه تعالى : وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) قد يتوهّم بعض الناس أنّ الصبي وقد اعتاد الدخول والتردد على أهل بيت معين إذا بلغ مبلغ الرجال فلا حرج في دخوله بغير استئذان ، كسابق عادته ، فجاءت هذه(1/609)
ص : 610
الآية لدفع هذا التوهم ، وبيان أنّ الأطفال الذين قد رخّص لهم في ترك الاستئذان في غير العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا ، كما استأذن الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلخ أي فعليهم أن يستأذنوا في كلّ الأوقات ، ويرجعوا إذا قيل لهم ارجعوا.
الكلام في بلوغ الصبي
قال اللّه تعالى : وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ في القاموس الحلم بالضم والاحتلام : الجماع في النوم ، والاسم منه الحلم كعنق. وقال الراغب : الحلم زمان البلوغ سمي بذلك لكون صاحبه جديرا بالحلم وضبط النفس عن هيجان الغضب.
والصّحيح أن الحلم هنا بمعنى الجماع في النوم ، وهو الاحتلام المعروف. وأنّ الكلام كناية عن البلوغ والإدراك كما سبق.
جعلت الآية حدّ التكليف منوطا ببلوغ الصبي الحلم. ومثل الآية في ذلك
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «رفع القلم عن ثلاث ... وعن الصبيّ حتّى يحتلم» «1»
وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «غسل الجمعة واجب على كلّ حالم»
وفي رواية «على كل محتلم» «2»
وفي حديث معاذ «3» رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ، يعني الجزية
. ومعنى هذه النصوص أنّ الصبي إذا بلغ أوان الاحتلام جرت عليه أحكام البالغين ، سواء احتلم أم لم يحتلم وأجمع الفقهاء على أن الغلام إذا احتلم فقد بلغ ، وكذلك الجارية إذا احتملت أو حاضت أو حملت.
لكنّهم اختلفوا في أمارات أخر تدل على البلوغ ، ويناط بها التكليف من غير احتلام ولا حيض. فعن قوم من السلف أنّهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار :
روى ابن سيرين عن أنس قال : أتي أبو بكر رضي اللّه عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبّر فنقص أنملة ، فخلّى عنه.
وعن علي كرم اللّه وجهه أنه قال : إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (4/ 131) ، كتاب الحدود ، باب المجنون يسرق حديث رقم (4403).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 580) ، 7 - كتاب الجمعة ، حديث رقم (5/ 846) ، والبخاري في الصحيح (1/ 239) ، 11 - كتاب الجمعة ، 2 - باب فضل الغسل حديث رقم (879).
(3) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 20) ، كتاب الزكاة ، باب ما جاء في زكاة البقر حديث رقم (623) ، وأبو داود في السنن ، (2/ 14) ، كتاب الزكاة ، باب في زكاة السائمة حديث رقم (1576) ، والنسائي في السنن (5 - 6/ 26) ، كتاب الزكاة ، باب زكاة البقر حديث رقم (2451) ، وأحمد في المسند (5/ 230).(1/610)
ص : 611
الحدود ، يقتص له ويقتص منه.
وفقهاء الأمصار لا يجعلون ذلك من أمارات البلوغ ، فقد يكون دون البلوغ وهو طويل ، وقد يكون فوق البلوغ وهو قصير.
وعن آخرين أنهم اعتبروا الإنبات من أمارات البلوغ ، يقال : أنبت الغلام إذا نبت شعر عانته. ويقال : كناية عن ذلك : اخضرّ إزاره. والشافعي رضي اللّه عنه يجعل الإنبات دليلا على البلوغ في حق أطفال الكفار لإجراء أحكام الأسر والجزية والمعاهدة وغيرها عليهم. واحتجّ له بما
روى عطية القرظي أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بقتل من أنبت من قريظة ، واستحياء من لم ينبت ، قال : فنظروا إليّ فلم أكن أنبت فاستبقاني صلّى اللّه عليه وسلّم «1»
. وفي كتب المغازي والسير المعتمدة أنّ سعد بن معاذ رضي اللّه عنه لما حكم في بني قريظة أن تقتل الرجال ، وتسبى الذرية ، وتقسّم الأموال أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ، ومن لم ينبت ألحق بالذرية «2».
وروى عثمان رضي اللّه عنه أنّه سئل عن غلام فقال : هل اخضرّ إزاره؟
وفقهاء الأمصار مجمعون على اعتبار السن في البلوغ ، إلا أنهم مختلفون في التقدير.
فالمشهور عن الإمام أبي حنيفة رضي اللّه عنه أن الغلام لا يبلغ إلا بعد أن يتم له ثماني عشرة سنة ، وفي الجارية سبع عشرة سنة. وقال صاحباه والشافعي وأحمد : حدّ البلوغ بالسن في الغلام والجارية خمس عشرة سنة ، وهو رواية عن الإمام أيضا وعليه الفتوى.
دليل المشهور عن الإمام قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام : 152] وأقل ما قيل في بلوغ الأشدّ ثماني عشرة سنة ، فيبني الحكم عليه للتيقن ، غير أنّ الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع ، فنقص في حقهن سنة ، لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة.
وللشافعي ومن معه أنّ العادة جارية ألا يتأخر البلوغ في الغلام والجارية عن خمس عشرة سنة ، ولهم أيضا ما
روى ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه عرض على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم أحد ، وله أربع عشرة سنة فلم يجزه ، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه «3»
. واعترض الجصاص عليهم بأنّ هذا الخبر لا دلالة فيه على المدعى ، لأنّ الإجازة في القتال والرد يتبعان القوة والضعف ، لا البلوغ وعدم البلوغ ، فلعلّ عدم
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (4/ 132) ، كتاب الحدود ، باب في الغلام حديث رقم (4404).
(2) مسلم في الصحيح ، 32 - كتاب الجهاد ، 22 - باب حديث رقم (64/ 1768) ، والبخاري في الصحيح (5/ 60) ، 64 - كتاب المغازي ، 31 - باب مرجع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حديث رقم (4121).
(3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1490) ، 33 - كتاب الإمارة ، 23 - باب بيان سن البلوغ حديث رقم (9/ 1868).(1/611)
ص : 612
إجازته عليه الصلاة والسلام لابن عمر أولا إنما كان لضعفه ، وإجازته إياه ثانيا إنما كانت لقوته وقدرته على حمل السلاح لا لبلوغه ، ويشعر بذلك أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما سأله عن الاحتلام والسن.
قال اللّه تعالى : وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) القواعد : جمع قاعد بغير تاء ، لأنه مختص بالنساء كحائض وطامث. قال ابن السكيت «1» : امرأة قاعد : قعدت عن الحيض. وفي «القاموس» أنها هي التي قعدت عن الولد ، وعن الحيض ، وعن الزوج.
لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في النكاح لكبر سنّهنّ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ يخلعنها غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ أصل التبرج : التكلّف في إظهار ما يخفى. ومادة برج تدور على الظهور والانكشاف ، ومن ذلك البرج بالتحريك سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله. والبرج بالضم : الحسن. والبارجة : السفينة الكبيرة للقتال ، والمراد بالتبرج هنا : تكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها.
رخّص اللّه للنساء العجائز اللائي أيسن ، ولم يبق لهن مطمع في الأزواج ، أن يخلعن ثيابهن ، من غير أن يقصدن بخلع الثياب التبرج والتكشف للرجال ، ولم تبيّن الآية الثياب التي رخّص للقواعد أن يخلعنها. وللمفسرين في بيانها رأيان :
الأول : أن المراد بها الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها إلى كشف العورة :
كالجلباب السابغ : الذي يغطي البدن كله ، كالرداء الذي يكون فوق الثياب ، وكالقناع :
الذي فوق الخمار.
وحجة أصحاب هذا الرأي ما أخرجه ابن جرير عن الشعبي أنّ أبي بن كعب قرأ : أن يضعن من ثيابهن.
وما أخرجه ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنّه قال : في مصحف أبي بن كعب ، ومصحف ابن مسعود أن يضعن جلابيبهن وهي قراءة ابن عباس أيضا.
قالوا : والجلباب ما تغطي به المرأة ثيابها من فوق كالملحفة ، فلا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء ، غير متبرجات بزينة.
والرأي لثاني : أنهن يضعن خمرهن وأقنعتهن إذا كنّ في بيوتهن ، أو من وراء الخدور والستور. ويضعّفه أنّ للشابة أن تفعل ذلك في خلوتها ، فلا معنى لتخصيص القواعد بذلك.
__________
(1) يعقوب بن إسحاق ، لغوي ، أديب توفي (424 ه) انظر الأعلام للزركلي (8/ 195).(1/612)
ص : 613
وقد يقال : إذا كان وضع الثوب لا يترتب عليه كشف العورة فما معنى نفي الجناح فيه؟ وهل ينفى الجناح إلا في شيء قد كان يتوهّم حظره ومنعه؟
والجواب : أن اللّه تعالى ندب نساء المؤمنين إلى أن يبالغن في التستر والاستعفاف ، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وجعل ذلك من الحشمة ومحاسن الآداب ، فإنّه أبعد عن الريبة بهن ، وأقطع لأطماع ذوي الأغراض الخبيثة ، فكان إدناء الجلابيب من الآداب التي ندب إليها النساء جميعا ، فرخص اللّه للقواعد من النساء أن يضعن جلابيبهن ، ونفى عنهن الجناح في ذلك ، وخيّرهن بين خلع الجلباب ولبسه ، ولكن جعل لبسه استعفافا وخيرا لهن من حيث إنه أبعد عن التهمة ، وأنفى للظنّة.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وسيجازيهن على ما يجري بينهنّ وبين الرجال من قولهنّ وقصدهنّ.
وقد تخرّج الآية على معنى ثالث يقتضيه ظاهرها : وهو أنّ اللّه تعالى كما رخّص للنساء أن يبدين زينتهن لغير أولي الإربة من الرجال كذلك رخّص للنساء غير أولات الإربة أن يضعن ثيابهنّ التي كان يحرم عليهن خلعها بحضرة الرجال الأجانب ، فلا حرج على العجوز أن تخلع خمارها وقناعها ، ولو أدّى ذلك إلى كشف عنقها ونحرها للأجانب ، ما دامت الفتنة مأمونة ، وقد يساعد على ذلك أنّ نفي الحرج في خلعهنّ ثيابهنّ يدلّ على أنّ خلع هذه الثياب قد كان محظورا قبل أن يقعدن عن الحيض والولد ، أيام كان لهنّ في الرجال مطمع ، وللرجال فيهنّ رغبة. ولا شكّ أن المحظور حينئذ إنما هو خلع الثياب التي يفضي خلعها إلى كشف شيء من العورة ، فما كان محظورا عليهن أيام صباهن هو الذي أبيح لهنّ حين كبرن ، وانقطعت رغبتهن في الرجال.
ولقد كان معروفا في لسان العرب عصر التنزيل أن معنى وضع الرجل ثوبه ، ووضع المرأة ثوبها ، أنّ كلّا منهما يخلع من ثيابه ما يزيد على ما يلبسه في بيته ، وأمام أهله ومحارمه.
ففي «صحيح مسلم» «1» وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها فبتّ طلاقها ، أمرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن تعتدّ في بيت أمّ شريك ثم أرسل إليها أنّ أمّ شريك يغشاها أصحابي ، فاعتدّي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنّه ضرير البصر ، تضعين ثيابك عنده.
وفي رواية : «فإنّك إذا وضعت خمارك لم يرك»
ظاهر أنّ المراد من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «تضعين ثيابك عنده»
أنّها تتحلل مما يجب عليها لبسه بحضرة الرجال الأجانب.
قال اللّه تعالى : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
__________
(1) سبق تخريجه.(1/613)
ص : 614
الحرج : الضيق. ومنه الحرجة للشجر الملتف بعضه ببعض ، لضيق المسالك فيه ، والمراد بالحرج هنا الإثم.
والمفاتح : جمع مفتح أو مفتاح ، وملك المفتاح كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه ، كأن يكون وكيلا عن رب المال ، أو قيمه في ضيعته وماشيته.
والصديق : من يصدق في مودتك وتصدق في مودته ، يقع على الواحد وعلى الجمع ، والمراد به هنا الجمع.
والأشتات : جمع شتّ ، صفة مشبهة على فعل كحق. يقال أمر شتّ أي متفرق.
وأصل معنى التحية طلب الحياة ، كأن يقول : حيّاك اللّه ، ثم توسّع فيه ، فاستعمل في كل دعاء ، وتحية الإسلام : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
مُبارَكَةً بورك فيها بالأجر.
طَيِّبَةً تطيب بها نفس السامع.
اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية اختلافا كثيرا ، نشأ عنه اختلاف أهل التأويل في معنى الآية ، وأوجه اتصال جملها بعضها ببعض ، فذكروا في ذلك أقوالا كثيرة ، نذكر لك منها أقربها للصواب ، وأولاها بالاعتبار :
فمنها : ما اختاره ابن جرير «1» وهو أنّ المراد نفي الحرج عن العمي والعرج والمرضى وجميع الناس في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكر اللّه ، فيكون اللّه قد نفى الحرج عن أهل العذر أولا ، ثم نفى الحرج عن المخاطبين ، ثم جمع المخاطبين مع أهل العذر في الخطاب بقوله : أَنْ تَأْكُلُوا وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب غلّبت المخاطب فقالت : أنت وأخوك قمتما ، وأنت وزيد جلستما ، ولا تقول : أنت وأخوك جلسا.
أخرج ابن جرير «2» عن معمر قال : قلت للزهري في قوله تعالى : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ : ما بال الأعمى ذكر هاهنا والأعرج والمريض؟ فقال : أخبرني عبيد اللّه أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم ، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون :
__________
(1) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (18/ 130).
(2) المرجع نفسه (18/ 129). [.....](1/614)
ص : 615
قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا. وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون : لا ندخلها وهم غيّب ، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.
فالآية وإن كانت نزلت في تحرّج الزمنى من أن يأكلوا من بيوت من خلّفوهم على بيوتهم ، إلا أنها ذكرت حكما عامّا لكل الناس ، فنفت عنهم الحرج في أن يأكلوا من بيوتهم ، أو بيوت آبائهم. إلخ ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا.
وقد يقال : إنّ أكل الناس من بيوتهم قد كان معلوما حكمه ، وأنه كان حلالا لهم ، فما معنى نفي الحرج فيه؟
والجواب : أنّ أكل الناس في بيوتهم لم يذكر هنا لنفي حرج قد كان متوهّما ، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وموكّليهم وأصدقائهم ، وأكلهم من بيوتهم. ونظيره قوله تعالى : وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران : 46] قد كان معلوما أنه لا عجب في أن يتكلّم إنسان في زمان كهولته ، فكان الغرض من ذكره بيان أنّ كلامه في زمن المهد مثل كلامه وهو كهل. كذلك ما معنا : الغرض بيان أنّ أكلهم من بيوت المذكورين كأكلهم من بيوت أنفسهم سواء بسواء.
وبعض العلماء يتأوّل قوله تعالى : أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ على بيوت الزوجات والأولاد.
ومنها ما اختاره الجبّائي وأبو حيان : وهو أنّ الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد ، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم اللّه فالمعنى : ليس على أصحاب العذر حرج في التخلف عن الجهاد ، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا إلخ.
وقد يبدو أنّ في هذا العطف غرابة لبعد الجامع. ولكن إذا علم أنّ الغرض بيان الحكم كفاء الحوادث ، وأن الكلام في معرض الإفتاء والبيان ، وأن الحادثتين قد اشتركتا في ذلك الغرض الذي سبق له الكلام - قرب الجامع بينهما ، وصح عطف إحداهما على الأخرى. قال الزمخشري «1» : ومثاله أين يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر ، فنقول : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر.
فإن قيل : فما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟
قيل : إنّ الترخيص لأهل العذر في ترك الجهاد ، قد ذكر أثناء بيان الاستئذان ليفيد أن نفي الحرج عنهم في التخلف عن الجهاد مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه
__________
(1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 257).(1/615)
ص : 616
صلّى اللّه عليه وسلّم ، فلهم القعود عن الجهاد من غير استئذان ولا إذن ، كما أنّ للمماليك والصبيان دخول البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهلها.
ومنها : أنّ الآية تنفي الحرج عن الناس في أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج والمريض ، وفي أن يأكلوا من بيوتهم أو بيوت آبائهم إلخ. وذلك أنّه روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه لما نزل قوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة : 188] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى ، فإنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لأنّه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستوفي حظّه من الطعام ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية «1». ومن ذهب إلى هذا التأويل جعل كلمة عَلَى بمعنى (في) فقوله تعالى : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إلخ معناه ليس في الأعمى حرج ، أي ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى حرج إلخ.
ومنها ما روي أنّه قد كان أهل الأعذار يتحرّجون أن يأكلوا مع الأصحاء حذرا من استقذارهم إياهم ، وخوفا من تأذّيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت الآية «2». أي ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في أن يأكلوا مع الأصحاء ، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا من بيوتكم إلخ.
وعلى جميع الآراء ترى الآية الكريمة قد أباحت الأكل من بيوت الأقارب : الآباء ، والأمهات ، والإخوة ، والأخوات ، والأعمام ، والعمات ، والأخوال ، والخالات.
وأباحت أيضا الأكل مما كان تحت يد الشخص وتصرفه من مال غيره ، والأكل من بيوت الأصدقاء ، ولم يذكر فيها قيد ما لإباحة الأكل من هذه البيوت ، فهي في ظاهرها تنافي
قوله : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» «3»
وما
في حديث ابن عمر عنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» «4»
وأيضا فإنّ إباحة الأكل من هذه البيوت ، دون شرط ولا قيد ، تدل على أنّ لهم دخولها بغير استئذان ، وهو معارض لقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها وقوله عزّ وجلّ : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب : 53] فإذا كانوا ممنوعين من دخول بيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا بإذن ، وهو عليه الصلاة والسلام أجود الناس وأكرمهم ، وأقلهم حجّابا ، كان دخولهم بيت غيره صلّى اللّه عليه وسلّم بغير إذن أولى بالحظر ، وأدخل في المنع.
__________
(1) رواه ابن جرير في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (18/ 128 - 129).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) سبق تخريجه.
(4) رواه أبو داود في السنن (2/ 386) ، كتاب الجهاد ، باب فيمن قال لا يحلب حديث رقم (2623).(1/616)
ص : 617
من أجل ذلك قال جماعة من المفسرين : إنما كان ذلك في صدر الإسلام ، ثم نسخ بما تلونا ، واستقرت الشريعة على أنّه لا يحل مال امرئ مسلم إلا برضاه ، ولا ينبغي دخول البيت إلا بإذن أهله.
وقال أبو مسلم الأصفهاني : هذه الآية في الأقارب الكفرة ، أباح اللّه سبحانه للمؤمنين ما حظره في قوله تعالى : لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة : 22] وقال قتادة : الآية التي معنا على ظاهرها ، والأكل مباح دون إذن ، لكنه لا يجمل.
والصحيح الذي عليه المعول في دفع هذا التعارض أنّ إباحة الأكل من هذه البيوت مقيّدة ومشروطة بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة ، فإذا دلّ ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وقد يقال : إذا وجد الرضا جاز الأكل من بيت الأجنبي والعدو ، فأي معنى في تخصيص هؤلاء بالذكر؟
والجواب : أن تخصيصهم بالذكر لاعتياد التبسط بينهم ، فإنّ العادة في الأعم الأغلب أنّ الناس تطيب نفوسهم بأكل أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم من بيوتهم.
عن الحسن أنه دخل داره ، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليها يأكلون ، فتهلّلت أسارير وجهه سرورا ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، يريد أكابر الصحابة.
وكذلك يقال في دخولهم هذه البيوت : لا بد فيه من إذن صريح أو قرينة.
ونسب إلى بعض أئمة الحنفية أنّه احتج بظاهر الآية على أنّه لا قطع في سرقة مال المحارم مطلقا ، لأنّها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم ، فلا يكون مالهم محرزا بالنسبة إليهم. وأنت تعلم أنّه لو سلّم أنّ ظاهر الآية يدلّ على إباحة دخول بيوت المحارم بغير إذن ، فهذا الظاهر غير مراد قطعا ، كما سبق على أنه يستلزم أنه لا قطع في سرقة مال الصديق ، ولم يقل بذلك أحد.
والإجابة بأنّ الصديق إذا قصد أن يسرق مال صديقه انقلب عدوا غير سديدة ، لأنّه في الظاهر صديق كما هو الفرض ، ولا عبرة بنيته وقصده ، فمال صديقه على هذا الرأي غير محرز بالنسبة إليه في ظاهر حاله ، والشرائع إنما تجري ما ظهر من الحال ، لا على ما بطن من المقاصد والسرائر.
وأما قوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فللمفسرين فيه رأيان :
الأول : أنّه كلام متصل بما قبله ، ومن تمامه ، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل(1/617)
ص : 618
نفسه أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل ، فالجملة واقعة موقع الجواب عن سؤال نشأ مما قبلها ، كأنّه قيل : هل نفي الحرج في الأكل من بيوت من ذكروا خاصّ بما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت؟ فكان الجواب : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً.
والرأي الثاني : أنّه كلام منقطع عما قبله ، سيق لبيان حكم آخر مماثل لما بيّن من قبل ، وذلك أن قوما من العرب كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين ، وكان الرجل لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفّل ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، قال حاتم الطائي :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا ، فإنّي لست آكله وحدي
وكذلك كان ناس منهم يتحرّجون أن يأكلوا مجتمعين ، يخاف أحدهم إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه.
وكان آخرون إذا نزل بهم ضيف رأوا ألا يأكلوا إلا معه ، ولو ترتب على ذلك لحوق الضرر بهم ، وتعطيل مصالحهم ، فنزلت الآية الكريمة لنفي الجناح عن الناس في أكلهم مجتمعين أو متفرقين ، وتوسيع الأمر عليهم في ذلك ، وبيان أنّ أمر الطعام ليس من العظم بحيث يحتاط فيه إلى هذا الحد وتراعى فيه هذه الاعتبارات الدقيقة المعنتة.
وقد يقال : إنّ الآية حينئذ تسوّي بين أكل الرجل وحده وأكله مع غيره ، مع أن الذي استقرت عليه الشريعة أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة مستحسنة ، وأن تركه بغير داع مذمة. وفي الحديث : «شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده».
والجواب أنّ الحديث محمول على من اعتاد الأكل وحده ، والتزمه بخلا أن يشاركه أحد في طعامه. والآية تنفي الجناح عمن حصل منه ذلك اتفاقا ، لا بخلا بالمشاركة ، ولا كراهة في القرى.
ووجه آخر : وهو أنّ الحديث يذمّ من أكل وحده بأنه آثم ، فهو لا يعارض الآية التي نفت الإثم عن الذي يأكل وحده.
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً هذا بيان للأدب الذي ينبغي أن يراعى عند دخول بيوت الذين ذكروا من قبل. وهذا الحكم وإن كان معلوما من قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلا أنه أعيد هنا لدفع ما عسى أن يتوهّم من أنّ الأقارب والأصدقاء بينهم من المودة ولحمة القرابة ما لا يحتاج معه إلى تبادل السلام والتحية ، فكأنّ الآية تشير(1/618)
ص : 619
إلى أن القرابة والصداقة ليس معناهما إغفال الآداب العامة ، وإهدار الحقوق الإسلامية ، فإذا دخلت بيوت أقاربكم وأصدقائكم فلا بدّ أن تسلموا عليهم ، لأنّهم منكم بمنزلة أنفسكم ، فكأنّكم حين تسلمون عليهم تسلّمون على أنفسكم.
هذا وأخرج جماعة عن ابن عباس أنّ المراد بالبيوت هنا المساجد ، والسلام على الأنفس باق على ظاهره ، ومن دخل المسجد فعليه أن يقول : السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.
وروي عن عطاء أنّ المراد بالبيوت بيوت المخاطبين ، فإذا دخل الرجل بيته قال : السلام علينا من ربنا إلخ.
وعن أبي مسلم أنّ المراد بالبيوت بيوت الكفار ، وداخلها يقول ما تقدم ، أو يقول : السلام على من اتبع الهدى.
وأنت تعلم أنّ الأنسب بالمقام هو الرأي الأول ، وكلمة بيوتا وإن كانت نكرة في سياق الشرط ، إلا أنّ الفاء في قوله تعالى : فَإِذا دَخَلْتُمْ تؤذن بأن المراد بها البيوت المذكورة قبل. ومعنى كون التحية من عند اللّه أنها ثابتة بأمره تعالى ، ومشروعة من لدنه عزّ وجلّ.
قال الضحاك : في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون ، ومع البركات ثلاثون. وظاهر ذلك أنّ البادئ بالسلام يقول السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : ما أخذت التشهد إلا من كتاب اللّه تعالى ، سمعت اللّه تعالى يقول : فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات للّه.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي هكذا يفصّل اللّه لكم معالم دينكم ، فيبينها لكم ، كما فصّل في هذه الآية ما أحل لكم فيها ، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفقهوا عن اللّه أمره ونهيه وأدبه.(1/619)
ص : 620
من سورة لقمان
قال اللّه تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
المختار عند أهل التأويل أنّ قوله تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلى آخر الآيتين كلام مستأنف من اللّه تعالى ، جاء معترضا بين وصايا لقمان لابنه ، ولهذا الاعتراض من البلاغة أحسن موقع ، ذلك لأنّ الفائدة فيه توكيد ما تضمّنته أولى وصايا لقمان ، وهو النهي عن الشرك ، وتقرير أنّه ظلم عظيم ، فإنه قيل : حقّا إنّ الشرك لمنهي عنه ، وإنّه لظلم عظيم مهما كانت أسبابه ، ومهما كان الحامل عليه ، فمع أننا وصّينا الإنسان بوالديه أن يبرّهما ، ويحسن إليهما ، فقد نهيناه عن إطاعتهما في الشرك لو فرض أنهما طلباه منه بإلحاح وجهد.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ هذا اعتراض أيضا بين قوله تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ وقوله تعالى : أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ لبيان العلة في الوصية ، أو في وجوب امتثالها. وقوله تعالى : وَهْناً عَلى وَهْنٍ حال من فاعل حَمَلَتْهُ على التأويل بالمشتق ، أي حملته أمه حال كونها ذات وهن على وهن ، أي ذات ضعف على ضعف متتابع متزايد من حين الحمل إلى الوضع.
وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ الفصال الفطام ، أي وفطامه يكون في انقضاء عامين ، أي في أوّل زمان انقضائهما.
استدل العلماء غير أبي حنيفة بقوله تعالى : وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ على أنّ مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم عامان ، ومثل هذه الآية في ذلك قوله في سورة البقرة : وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة : 233]. وعلم [من ] هذه [الآية] فائدة [فقد] استنبط علي وابن عباس وكثير غيرهما من قوله تعالى في سورة الأحقاف : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف : 15] أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر.
روي أنّ عثمان أمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر ، فقال له علي كرّم اللّه وجهه : قال اللّه تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقال : وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ.(1/620)
ص : 621
وروي أنّ عثمان رضي اللّه عنه سأل الناس عن ذلك فقال له ابن عباس مثل ذلك ، وأنّ عثمان رجع إلى قول علي وابن عباس ، وحكى الجصاص «1» اتفاق أهل العلم على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر.
وذهب أبو حنيفة رحمه اللّه إلى أن مدة الرضاع المحرّم ثلاثون شهرا «2». لقوله تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وسنبينه إن شاء اللّه. ثم إنه رحمه اللّه يحمل الآية التي معنا على الكثير الغالب في الفطام ، إذ إنه لا يتجاوز به في العادة عامين ، ويقول في آية البقرة إنها لبيان المدة التي تستحق فيها المطلقة أجرا على الإرضاع ، إذ إنها لا تستحق أجرا فيما وراء العامين ، وذلك لا ينفي أن يكون ما بعد العامين إلى تمام الثلاثين شهرا من مدة الرضاع المحرّم.
وللحنفية في وجه الدلالة من قوله تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً على مذهب الإمام طريقتان :
الأولى : أنّه ذكر في الآية أمران متعاطفان أعقبا ببيان مدتهما ، فتكون هذه المدة لكلّ من الأمرين استقلالا على ما يشهد به كلام الفقهاء في مثل قول المقرّ : عليّ لكلّ من فلان وفلان مئة إلى سنة أنّ السنة أجل كلّ من الدينين ، فتكون الثلاثون شهرا مدة كل من الحمل والرضاع ، غير أنّه قد ثبت في الحمل ما أوجب نقصه من الثلاثين شهرا ، وهو ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ، ولو بقدر فلكة مغزل ، ومثل هذا لا يقال بالرأي ، فله حكم الحديث المرفوع ، وإذا كان الأمر كذلك بقيت مدة الفصال على ظاهرها.
والطريقة الثانية : في معنى قوله تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً هي أن ليس المراد بالحمل هنا حمل الجنين في البطن ، بل حمل الولد بعد الولادة في مدة الرضاع ، وحينئذ تكون المدة المضروبة في الآية إنما هي لشيء واحد ، هو ذلك الحمل الذي ينتهي بالفصال.
وأنت تعلم أن العلماء ومنهم أبو حنيفة متفقون فيما حكى الجصاص على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وأنهم استنبطوا ذلك من قوله تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقوله تعالى : وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ.
فتأويل الحنفية آية الأحقاف وحملهم لها على الوجهين المتقدمين ينافي ما اتفق عليه الفقهاء جميعا ويلزمهم حينئذ أحد أمرين : إما أن الإمام لم يوافق الجماعة في أنّ أقل
__________
(1) في كتابه أحكام القرآن (3/ 351).
(2) الهداية شرح بداية المبتدي للإمام المرغيناني (1 - 2/ 243).(1/621)
ص : 622
مدة الحمل ستة أشهر ، وإما أن يكون له دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر غير هاتين الآيتين ، ولا أظن شيئا من هذين اللازمين منقولا عن أبي حنيفة رحمه اللّه.
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ أَنِ هنا على ما اختاره الزمخشري «1» وغيره تفسيرية ، فما بعدها بيان لفعل التوصية ، إذ هو متضمّن معنى القول. أي قلنا له : اشكر لي ولوالديك ، وإنما وسّط الأمر بشكر اللّه تعالى مع أنّ الوصية في الآية مخصوصة بالوالدين ، لإفادة أنّ لا يقع شكر الوالدين موقعه إلا بعد الشكر للّه.
فشكر اللّه تعالى حسن رعاية النّعم التي أنعم بها على الإنسان ، وصرفها فيما خلقت له بالطاعة ، وإخلاص العبادة للّه ، وفعل ما يرضيه. وشكر الوالدين إطاعتهما ، وبرهما ، والقيام بكل ما يرضيهما ، إلا أنّ يكون فيه معصية للّه.
وعن سفيان بن عيينة : من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر اللّه ، ومن دعا لوالديه في أدبارها فقد شكرهما. ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي إنّ مرجع الناس جميعا في الآخرة إلى اللّه وحده ، فهو الذي يحاسب العباد ، ويجازيهم على ما قدّموا من أعمال.
وهذا ظاهر في التهديد والتخويف من عاقبة المخالفة والعقوق والعصيان ، كما هو وعد بالجزاء الحسن على امتثال أمر اللّه وطاعته وبر الوالدين وصلتهما.
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما الجهاد والمجاهدة بذل الجهد ، واستفراغ الوسع للوصول إلى الغرض. وهو هنا الإشراك باللّه. وأراد سبحانه بنفي العلم نفي الشريك ، أي لتشرك بي ما ليس بشي ء ، يريد الأصنام ، كقوله سبحانه في شأنها ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت : 42].
وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً قيّد الصحبة بأنها في الدنيا. مع أنّ ذلك معروف ، إذ الدنيا هي دار التكليف ، لتهوين أمر الصحبة ، والإشارة إلى أنّها في أيام قلائل ، سريعة الانقضاء ، فلا يضرّ تحمل مشقتها ، لقلّة أيامها ، ووشك انصرامها.
و(المعروف) هنا ما يعرفه الشرع ويرتضيه ، وما يقضي به الكرم والمروءة في إطعامهما وكسوتهما ، وعدم جفائهما وانتهارهما ، وعيادتهما إذا مرضا ، ومواراتهما إذا ماتا ، إلى ما هو معروف من خصال البر بهما وصلتهما.
أبان قوله تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلى آخر الآيتين أنّ أمر اللّه بالإحسان إلى الوالدين عامّ في الوالدين المسلمين والكافرين ، وأن طاعة الوالدين على أي دين كانا واجبة ، إلّا إذا أمرا بمعصية ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأنّ طلب
__________
(1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 494).(1/622)
ص : 623
الوالدين من ولدهما الإشراك باللّه لا يسوّغ له الشرك ، ولا يعتبر إكراها يبيح النطق بكلمة الكفر تقية.
ودلّ قوله تعالى : وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً على أنّ الولد لا يستحق القود على أحد والديه ، وأنّه لا يحد له إذا قذفه ، ولا يحبس له بدين عليه ، وأن على الولد نفقة كلّ منهما إذا احتاجا إليه ، إذ كان جميع ذلك من الصحبة بالمعروف ، وفعل ضده ينافي مصاحبتهما بالمعروف.
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي اتبع سبيل من رجع إليّ بالتوحيد والإخلاص بالطاعة ، لا سبيل والديك اللذين يأمرانك بالشرك.
أخرج الواحدي «1» عن عطاء عن ابن عباس أنه قال : يريد بمن أناب أبا بكر رضي اللّه عنه. فإنّ قوله تعالى : وَإِنْ جاهَداكَ إلخ نزل في سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه. وإسلام سعد كان بسبب إسلام أبي بكر رضي اللّه عنه. وذلك كما روي عن ابن عباس أنه حين أسلم أبو بكر رآه سعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعيد بن زيد ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، فقالوا لأبي بكر : آمنت وصدّقت محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم؟ فقال أبو بكر : نعم ، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فآمنوا وصدّقوا ، فأنزل اللّه تعالى يقول لسعد : وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يعني أبا بكر رضي اللّه عنه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه كان يقول : من أناب هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، لكنّ جمهور المفسرين على أنّ المراد العموم ، كما هو ظاهر اسم الموصول ، ولذلك قالوا :
إنّ قوله تعالى : وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يدل على صحة إجماع المسلمين ، وأنّه حجة لأمر اللّه تعالى إيانا باتباعهم. وهو مثل قوله تعالى : وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء : 115].
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إليّ مرجع من آمن منكم ، ومن أشرك ، ومن برّ ، ومن عقّ ، فأنبئكم عند رجوعكم بما كنتم تعملون بأن أجازي كلّا منكم بما صدر عنه من الخير والشر.
والجملة مقرّرة لما قبلها ، ومؤكدة لوجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما وطاعتهما فيما يأمران به ، ما دام ليس فيه معصية للّه تعالى ، فإذا أمرا بمعصية فلا طاعة لهما ، لأنّه
«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «2».
__________
(1) انظر أسباب النزول للإمام الواحدي النيسابوري صفحة (363).
(2) سبق تخريجه.(1/623)
ص : 624
من سورة الأحزاب
قال اللّه تعالى : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
المراد بالقلب هنا : المضغة الصنوبرية في داخل التجويف الصدري ، والجعل الخلق ، وإذا كان الرجل لم يخلق له قلبان - والرجل أكمل النوع الإنساني حياة - فأولى ألا يكون للأنثى قلبان ، وأما الصبيان فمآلهم أن يكونوا رجالا ، فالمعنى حينئذ :
ما خلق اللّه لأحد من الناس قلبين في جوفه ، وكانت العرب تزعم أنّ كلّ لبيب أريب له قلبان ، واشتهر أبو معمر الفهري بين أهل مكة بذي القلبين لقوة حفظه.
تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب (ظاهر من زوجته) أنه قال لها : «أنت عليّ كظهر أمّي» فهو نظير (لبّى) إذا قال : (لبيك) و(أفف) إذا قال : (أف) و(سبّح) إذا قال : (سبحان اللّه) و(كبّر) إذا قال : (اللّه أكبر). فجاء الشرع فألحق بهذه الصيغة - «أنت عليّ كظهر أمّي» - في الحكم كلّ ما يدلّ على تشبيه الرجل زوجته أو جزءا منها بأنثى محرّمة عليه على التأبيد.
وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا لا حلّ بعده برجعة ولا بعقد ، لأنهم كانوا يجرون أحكام الأمومة على المظاهر منها ، فأبطل اللّه هذه العادة ، وجعل للظّهار أحكاما سوف يأتي بيانها في تفسير سورة المجادلة إن شاء اللّه.
أَدْعِياءَكُمْ الأدعياء جمع دعي ، وهو الذي يدعى ابنا وليس بابن ، وقد كان التبني عادة فاشية في الجاهلية وصدر الإسلام ، يتبنّى الرجل ولد غيره ، فتجري عليه أحكام البنوّة كلّها. وقد تبنّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زيد بن حارثة ، وتبنّى حذيفة سالما مولاه ، وتبنّى الخطاب - أبو عمر رضي اللّه عنه - عامر بن أبي ربيعة. وكثير من العرب تبنى ولد غيره ، فجاء القرآن الكريم بإبطال هذا العمل وإلغائه.
بيّنت الآية أنّ هذه الأمور الثلاثة باطلة لا حقيقة لها ، فكون الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع. وجعل المظاهر منها أمّا أو كالأم في الحرمة المؤبّدة من(1/624)
ص : 625 مخترعات أهل الجاهلية ، التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي. وجعل المتبنى ابنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في شرع ظاهر.
ولما كان أظهر هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كون الرجل له قلبان قدّم اللّه جل شأنه قوله : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وضربه مثلا للظهار والتبني ، أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهر منها أما ولا المتبنّى ابنا.
وقوله عزّ وجلّ : ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ الإشارة فيه إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من كون الرجل له قلبان ، وكون المظاهر منها أما والدعيّ ابنا. وزيادة قوله تعالى :
بِأَفْواهِكُمْ للتنبيه على أنه قول صادر من الأفواه فقط ، من غير أن يكون له مصداق أو حقيقة في الواقع ونفس الأمر ، فلا يستتبع أحكاما كما يزعمون.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي فدعوا قولكم ، وخذوا بقوله عزّ وجلّ.
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ
أخرج الشيخان والترمذي والنسائي «1» وغيرهم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّ زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن : ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ إلخ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «أنت زيد بن حارثة بن شراحيل»
. وكان من أمره ما
رواه ابن مردويه عن ابن عباس «2»
أنّه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طي ء ، فأصيب في نهب من طي ء ، فقدم به سوق عكاظ.
وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوّق بها ، فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه ، فلما قدم وجد زيدا يباع فيها ، فأعجبه ظرفه ، فابتاعه ، فقدم به عليها ، وقال لها : إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا ، فإن أعجبك فخذيه ، وإلا فدعيه ، فإنه قد أعجبني ، فلما رأته خديجة أعجبها ، فأخذته.
فتزوجها الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وهو عندها ، فأعجب النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ظرفه ، فاستوهبه منها ، فقالت : أهبه لك ، فإن أردت عتقه فالولاء لي ، فأبى عليها الصلاة والسلام ، فوهبته له إن شاء أعتق ، وإن شاء أمسك.
قال : فشب عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ثم إنّه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام ، فمرّ بأرض قومه ، فعرفه عمه ، فقام إليه فقال : من أنت يا غلام؟ قال : غلام من أهل مكة.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 884) ، 44 - كتاب فضائل الصحابة ، 10 - باب فضائل زيد حديث رقم (62/ 2425) ، والبخاري في الصحيح (6/ 6) ، 65 - كتاب التفسير ، 2 - باب ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ حديث رقم (4782) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 330) ، كتاب التفسير ، باب تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (3209).
(2) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 181 - 182).(1/625)
ص : 626
قال : من أنفسهم؟ قال : لا. قال : فحرّ أنت أم مملوك؟ قال : بل مملوك.
قال : لمن؟
قال : لمحمد بن عبد المطلب. فقال له : أعرابي أنت أم أعجمي؟ قال : عربي.
قال : ممن أهلك؟.
قال : من كلب. قال : من أي كلب؟ قال : من بني عبدون. قال : ويحك ابن من أنت؟ قال : ابن حارثة بن شراحيل. قال : وأين أصبت؟ قال : في أخوالي. قال :
ومن أخوالك؟ قال : طيء. قال : ما اسم أمك؟ قال : سعدى. فالتزمه وقال : ابن حارثة! ودعا أباه قال : يا حارثة هذا ابنك ، فأتاه حارثة ، فلما نظر إليه عرفه ، كيف صنع مولاك إليك؟ قال : يؤثرني على أهله وولده ، ورزقت منه حبّا فلا أصنع إلّا ما شئت ، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة ، فلقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال له حارثة : يا محمد أنتم أهل حرم اللّه وجيرانه وعند بيته ، تفكّون العاني ، وتطعمون الأسير ، ابني عبدك ، فامنن علينا ، وأحسن إلينا في فدائه ، فإنّك ابن سيد قومه ، وإنا سندفع إليك في الفداء ما أحببت.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «أعطيكم خيرا من ذلك؟» قالوا : وما هو؟ قال : «أخيره ، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء ، وإن اختارني فكفوا عنه».
فقالوا : جزاك اللّه خيرا فقد أحسنت.
فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : «يا زيد أتعرف هؤلاء»؟ قال : نعم. هذا أبي وعمي وأخي.
فقال عليه الصلاة والسلام : «فهم من قد عرفتهم ، فإن اخترتهم فاذهب معهم ، وإن اخترتني فأنا من تعلم».
فقال زيد : ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا ، أنت معي بمكان الوالد والعم.
قال أبوه وعمه : أيا زيد أتختار العبودية؟ قال : ما أنا بمفارق هذا الرجل.
فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حرصه عليه قال : «اشهدوا أنّه حر ، وأنّه ابني يرثني وأرثه».
فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن : ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعي زيد بن حارثة.
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي دعاؤهم لآبائهم ، ونسبتهم إليهم بالغ في العدل والصدق ، وزائد فيه في حكم اللّه تعالى وقضائه. فأفعل التفضيل ليس على بابه ، بل قصد به الزيادة مطلقا ، ويجوز أن يكون على بابه ، جاريا على سبيل التهكم بهم.
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم في الدين ومَوالِيكُمْ(1/626)
ص : 627
أي وهم مواليكم في الدين أيضا ، فليقل أحدكم : يا أخي أو يا مولاي ، يقصد بذلك الأخوة والولاية في الدين.
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ظاهر السياق أن المراد نفي الجناح عنهم فيما أخطؤوا به من التبني ، وإثبات الجناح عليهم فيما تعمدت قلوبهم من التبني أيضا.
والقائلون بهذا الظاهر مختلفون في المراد بالخطأ ما هو؟
فأخرج ابن جرير «1» وغيره عن مجاهد أنّ المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم الأدعياء أبناء قبل ورود النهي. وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم عليهم هو ما كان من ذلك بعد النهي ، فالخطأ هنا معناه الجهل بالحكم.
وأخرج ابن جرير «2» وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه ، لم يكن عليك بأس ، ولكن ما تعمّدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.
أي فعليك فيه الإثم ، فعلى رأي مقاتل يكون المراد بالخطأ مقابل العمد. وكلا الأمرين بعد ورود النهي.
وأجاز بعض المفسرين أن يراد العموم في فِيما أَخْطَأْتُمْ وفي ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ويكون معنى قوله تعالى : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ نفي الجناح عنهم في الخطأ كله دون العمد ، فيتناول ذلك لعمومه خطأ التبني وعمده. والكلام حينئذ وارد في العفو عن الخطأ ، كما في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ اللّه وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أخرجه ابن ماجه «3» من حديث ابن عباس.
وكما في
حديث عائشة رضي اللّه عنها قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إني لست أخاف عليكم الخطأ ، ولكن أخاف عليكم العمد» أخرجه ابن مردويه «4».
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيغفر لمن تعمّد قلبه الإثم إذا تاب رَحِيماً من رحمته أنّه رفع الإثم عن المخطئ ، ولم يؤاخذه على خطئه.
وظاهر الآية يدلّ على أنه يحرم على الإنسان أن يتعمّد دعوة الولد لغير أبيه ، وذلك محمول على ما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية. وأمّا إذا لم تكن كذلك ، كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة : با بني. وكثيرا ما يقع ذلك ، فالظاهر عدم الحرمة.
__________
(1) و(2) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (21/ 76).
(3) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 659) ، 10 - كتاب الطلاق ، 16 - باب طلاق المكره حديث رقم (2045). [.....]
(4) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي (5/ 182).(1/627)
ص : 628
ولكن أفتى بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه بالكفار. ولا فرق في ذلك بين كون المدعو ذكرا أو كونه أنثى. وإن لم يعلم علم اليقين وقوع التبني للإناث في الجاهلية.
ومثل دعاء الولد لغير أبيه انتساب الشخص إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه ، وعدّ ذلك كثير من العلماء في الكبائر. وهو محمول أيضا على ما إذا كان الانتساب على الوجه الذي كان في الجاهلية ، فقد كان الرجل منهم ينتسب إلى غير أبيه وعشيرته ، وقد ورد في هذا الادعاء الوعيد الشديد.
أخرج الشيخان وأبو داود «1» عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
وأخرج الشيخان «2» أيضا : «من ادعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل اللّه منه صرفا ولا عدلا».
وأخرجا «3» أيضا : «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر».
وأخرج الطبراني في «الصغير» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «كفر من تبرّأ من نسب وإن دقّ ، أو ادعى نسبا لا يعرف» «4».
قال العلماء في معنى «كفر» هنا أنّه إن كان يعتقد إباحة ذلك فقد كفر وخرج عن الإسلام. وإن لم يعتقد إباحته ففي معنى كفره وجهان :
أحدهما : أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل الجاهلية.
والثاني : أنّه كافر نعمة اللّه والإسلام عليه.
وكذلك قوله في الحديث الآخر «فليس منا» أي إن اعتقد جوازه خرج عن الإسلام ، وإن لم يعتقد جوازه فالمعنى : أنّه لم يتخلّق بأخلاقنا.
وليس الاستلحاق الذي أباحه الإسلام من التبني المنهي عنه في شي ء ، فإن من شرط الحل في الاستلحاق الشرعي أن يعلم المستلحق - بكسر الحاء - أن المستلحق - بفتحها - ابنه ، أو يظن ذلك ظنا قويا ، وحينئذ شرع له الإسلام استلحاقه ، وأحلّه له ، وأثبت نسبه منه بشروط مبيّنة في كتب الفروع.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 80) ، 1 - كتاب الإيمان حديث رقم (114/ 63) ، والبخاري في الصحيح (8/ 15) ، 85 - كتاب الفرائض ، 29 - باب من ادعى حديث رقم (6766).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1147) ، 20 - كتاب العتق ، 4 - تحريم تولي العتيق حديث رقم (1370) (بلفظ مختلف) ، والبخاري في الصحيح (2/ 269) ، 29 - كتاب فضائل المدينة ، 1 - باب حرم المدينة حديث رقم (1870).
(3) رواه مسلم في الصحيح (1/ 80) ، 1 - كتاب الإيمان ، 27 - باب حديث رقم (113/ 62) ، والبخاري في الصحيح (8/ 15) ، 8 - كتاب الفرائض ، 21 - باب من ادعى حديث رقم (6768).
(4) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 916) ، 3 - كتاب الفرائض ، 13 - باب من أنكر ولده ، حديث رقم (2744).(1/628)
ص : 629
أما التبنّي المنهي عنه ، فهو دعوى الولد مع القطع بأنّه ليس ابنه ، وأين هذا من ذاك؟
وظاهر الآية أيضا أنّه يباح أن يقال في دعاء من لم يعرف أبوه : يا أخي ، أو يا مولاي ، إذا قصد الأخوة في الدين ، والولاية فيه ، لكنّ بعض العلماء خصّ ذلك بما إذا لم يكن المدعو فاسقا ، وكان دعاؤه بيا أخي أو يا مولاي تعظيما له ، فإنه يكون حراما ، لأننا نهينا عن تعظيم الفاسق ، فمثل هذا يدعى باسمه ، أو بيا عبد اللّه ، أو يا هذا. مثلا.
قال اللّه تعالى : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) لعلّك ترى زيدا قد تصيبه وحشة من أنّه صار لا يدعى بعد الآن زيد بن محمد ، خصوصا بعد أن كان من أمر أبيه وعمه في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، لأنّه قد يرى في تخلّي النبي عن أبوته حطّا من قدره بين الناس ، وقد كان هو يعتز بهذه الدعوة ، لأنها تكسبه جاها عريضا ينفعه في الدنيا والآخرة ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تسلية لزيد ، ولبيان أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن تخلى عن أبوة زيد فإلى الولاية العامة ، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا لا تفريق بين ابن الصلب وغيره ، فهو يرعاهم حق الرعاية ، ويهديهم طريقا إن اتبعوه لن يضلوا بعده أبدا. وما كانت أبوته لزيد أو لأحد غيره بزائدة في ذلك شيئا ، ولن ينقص زيد بتخلّي النبي عن أبوته شيئا فالرسول أولى وأحق بكل المؤمنين من أنفسهم ، فهو الآمر الناهي بما يحقّق للناس سعادتهم في الدنيا والآخرة ، والحفيظ على مصالحهم ، لا يضيّع شيئا ، وقد تأمر النفس بالسوء؟ أما الرسول فهو الذي يوحى إليه ، لا ينطق عن هوى ، ولا يهدي إلا إلى الخير.
ولم يذكر في الآية ما تكون فيه الأولوية ، بل أطلقت إطلاقا ليفيد ذلك أولويته في جميع الأمور ، ثم إنّه ما دام أولى من النفس ، فهو ولى من جميع الناس بطريق الأولى.
وقد روى البخاري «1» وغيره عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني ، فأنا مولاه»
. وقوله تعالى : وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة الأمهات في تحريم نكاحهن ،
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 116) ، 43 - كتاب الاستقراض ، 11 - باب الصلاة على من ترك دينا حديث رقم (2399).(1/629)
ص : 630
واستحقاق تعظيمهن ، وأما في غير ذلك ، فهنّ أجنبيات ، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين ، ولا يحرمن على المؤمنين.
ومن أجل هذا قالت السيدة عائشة لمن قالت لها يا أمه : أنا أمّ رجالكم لا أم نسائكم.
ثم الظاهر ، أنّ المراد من أزواجه كل من وقع عليها اسم الزوج ، سواء من طلّقها ومن لم يطلقها ، فيثبت الحكم للجميع ، فلا يحل نكاح أحد منهنّ حتى المطلقة ، وقيل لا يثبت هذا الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة ، كالمستعيذة «1» ، وصحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط.
وقد روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي اللّه عنه فهم برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف عنه. وفي رواية أنّه همّ برجمها ، فقالت : ولم هذا؟ وما ضرب عليّ حجاب ، ولا سميت للمسلمين أمّا ، فكفّ عنها.
وأما التي اختارت الدنيا منهنّ حين نزلت آية التخيير الآتية فقد ذكر بعض العلماء أنّ الخلاف الذي سمعت يجري فيها كذلك.
واختار الرازي والغزالي القطع بالحل.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الظاهر أنّ المراد بأولي الأرحام ذوو القرابات مطلقا ، سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام. فالمراد من الآية الكريمة أنّ أصحاب القرابة أيّا كان نوعها أولى من غيرهم بمنافع بعض ، أو بميراث بعض ، على ما سيأتي من القول فيه.
وقوله : فِي كِتابِ اللَّهِ المراد منه ما كتبه في اللوح المحفوظ ، أو ما أنزله في القرآن من آية المواريث وغيرها ، كآية الأنفال ، أو المراد بكتاب اللّه ما كتبه وفرضه وقدّره ، سواء أكان ذلك الفرض في القرآن أو في غيره.
قوله : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يحتمل أن يكون راجعا إلى أولي الأرحام والمعنى :
وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض في النفع أو في الميراث ، وقد قال بجواز هذا صاحب «الكشاف» «2». ويحتمل أن يكون قوله : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ متعلقا بأولي ، والمعنى : وأولو الأرحام بعضهم أولى من المؤمنين والمهاجرين بنفع بعض ، أو بميراث بعض ، ويكون هذا إبطالا لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والنصرة ، على نحو ما جاء في آخر سورة الأنفال من
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 200) ، 68 - كتاب الطلاق ، 3 - باب من طلّق حديث رقم (5255).
(2) انظر الكشاف للإمام الزمخشري (3/ 524).(1/630)
ص : 631
قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) [الأنفال : 72 - 75].
فأنت ترى أنّه كان هناك توارث بالهجرة والنصرة ، ثم نسخ ، وتأكّد النسخ
بقوله عليه الصلاة والسلام : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية» «1»
وظاهر أنّ النفي لا يراد منه نفي حقيقة الهجرة ، وترك بلد إلى آخر ، فذلك موجود بعد الفتح ، ويوجد كل يوم ، بل المراد نفي الأحكام التي كانت تترتب على الهجرة كالتوارث بها ، وحينئذ يكون معنى قوله تعالى : وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أنّ التوارث الذي كان سبب الهجرة قد بطل ، وصار التوارث بالرحم.
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يحتمل أن يكون الاستثناء هنا متصلا ، ويحتمل أن يكون منقطعا.
فعلى الأول : يكون استثناء من أعم الأحوال التي تقدر الأولوية فيها كالنفع ، فإنّه يتنوع إلى ميراث وصدقة وهدية ووصية ، وغير ذلك ، ويكون المعنى : أن أولي الأرحام أولى بجميع وجوه النفع من غيرهم من المؤمنين والمهاجرين ، إلّا أن يكون لكم في هؤلاء ولي تريدون أن توصوا إليه ، وتسدوا إليه معروفا ، فذلك جائز ، ويكون هو أولى بذلك المعروف من ذوي الأرحام ، فإنّ الوصية لا تجوز لهم إلا برضاء الورثة.
وعلى الثاني : وهو أن الاستثناء منقطع فتجعل ما فيه الأولوية هو الميراث فقط ، وهو المستثنى منه ، ويكون فعل المعروف وهو المستثنى الوصية.
ولا شك أنّهما جنسان ، وتخصيص ما فيه الأولوية بالميراث مفهوم من الكلام ، إذ المسلمون جميعا بعضهم أولى ببعض في التناصر والتواصل والتراحم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم.
وقد يكون بعض وجوه النفع الأجانب فيها أولى من ذي الرحم ، فإنّ الصدقات يأخذها الفقراء وإن كانوا أجانب ، ويحرم منها الأغنياء وإن كانوا أقارب.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1488) ، 33 - كتاب الإمارة ، 20 - باب المبايعة حديث رقم (86/ 1864).(1/631)
ص : 632
والشيء الوحيد الذي يكون فيه ذو الرحم أولى من غيره هو الميراث ، ويكون المعنى على هذا كأنه قيل : لا تورثوا غير ذي رحم ، لكن أن تسدوا إلى أوليائكم المؤمنين والمهاجرين معروفا ، فذلك جائز : بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام.
وترى أنّا قد فسرنا الأولياء في قوله تعالى : إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً بالأولياء من المؤمنين والمهاجرين ، وذلك جريا على ما ذهب إليه كثير من المفسرين من أن الآية في ترك التوارث بالهجرة والمؤاخاة ، ويكون هذا تمشيا مع ما أسلفناه من أنّ (من) في قوله : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ داخلة في المفضل عليه.
وروي عن بعضهم أن الآية نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني ، ويكون معنى الآية أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض ، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم ، فيجوز أن توصوا إليهم ، وهذا الوجه مروي عن محمد بن الحنفية وغيره.
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً كان هذا الحكم الذي دلت عليه الآيتان مثبتا بالأسطار في القرآن ، أو حقا مثبتا عند اللّه لا يمحى.
ترى مما تقدم أنّا قد فسرنا (أولي الأرحام) بذوي القرابة مطلقا ، أيا كان نوعهم ، وقد نقل الفخر الرازي أنّ الإمام الشافعي رضي اللّه عنه فسّرها بذلك ، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي من الحنفية. ثم هو بعد ذلك يردّ فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام من حيث إنّ الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين ، بل من حيث إنّ الآية اقتضت أنّ ذا القرابة مطلقا أولى من غيره. وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض فهذا به أدلته الخاصة ، ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم وهو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى أولى من بيت المال ، فتكون الآية حجة على من قدّم بيت المال عليهم.
وقد اختلف العلماء في تقديم ذوي الأرحام على مولى العتاقة. فذهب بعضهم إلى أنّ ذا الرحم أولى ، وهو يروى عن ابن مسعود ، وظاهر الآية يساعده.
ويرى بعضهم أنّ مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام ، وهو مرويّ عن كثير من الصحابة ، بل زعم الجصاص أنّه مذهب سائر الصحابة ، وقد روي عن ابنه حمزة أعتقت عبدا ومات ، وترك بنتا ، فجعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نصف ميراثه لابنته ، ونصفه لابنة حمزة ، ولم يقل لنا الرواة هل كان للميت ذو رحم حتى يتم الدليل؟
وهذا إن صح يدلّ أيضا على أن مولى العتاقة أولى من الرد ، وهذا لا يكون إلا إذا كان مولى العتاقة محسوبا من العصبات ، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم ، وقد روي أنّ النبي جعل ابنة حمزة عصبة لمولاها ، وقد ورد أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «الولاء لحمة كلحمة النّسب».(1/632)
ص : 633
وللمخالف أن يقول : إن التشبيه يقتضي مطلق الاستحقاق ، فأين تقديمه على غيره.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49)
لا خلاف بين العلماء في أنّ المراد بالنكاح هنا العقد ، ولا خلاف بينهم أيضا في أنّ قيد الإيمان هنا ليس للاحتراز ، بل لمراعاة الغالب من حال المؤمنين أنّهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات ، وللإشارة إلى أنه ينبغي أن يقع اختيارهم في الزواج على المؤمنات.
وكذلك اتفقوا على أنّه ليس المراد بالمس هنا حقيقته ، وهي إلصاق اليد بالجسم ، وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده من غير جماع ولا خلوة.
ولم يقل بذلك أحد. بل المراد بالمس الجماع ، لشهرة الكناية به وبالمماسة والملامسة ونحوها عن الجماع في لسان الشرع.
والعدة شرعا المدة التي تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها من الحمل ، أو للتعبّد ، أو للتفجّع على زوج مات.
ومعنى تَعْتَدُّونَها تعدونها عليهن ، أو تستوفون عددها عليهن.
والمتعة في الأصل الاستمتاع ، وما يتمتع به ، وفي لسان أهل الشرع ما يعطيه الزوج لمطلقته إرضاء لها ، وتخفيفا من شدة وقع الطلاق عليها. وبيان مقدار المتعة ونوعها قد تكفّلت به كتب الفروع.
وأصل التسريح إرسال الماشية لترعى السرح ، وهو شجر عظيم ذو ثمر. ثم توسع في التسريح ، فجعل لكل إرسال في الرعي ، ثم لكل إرسال وإخراج. والمراد به هنا تركهن وعدم حبسهن في منزل الزوجية ، إذ لا سبيل للرجال عليهن بعد طلاقهن.
والسراح الجميل يكون بمجاملتهن بالقول اللين ، وترك أذاهن ، وعدم حرمانهن مما وجب لهن من حقوق.
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى : إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ أنّه لا طلاق قبل النكاح ، فقول الرجل : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق ، لا يعدّ طلاقا ، فإذا تزوج لم تطلق زوجته بهذه الصيغة التي صدرت منه قبل النكاح ، سواء أخصّ أم عمّ ، وسواء أنجز أم علّق.
وقد أخرج جماعة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه سئل عن ذلك فقال : هو ليس بشي ء ، فقيل له : إنّ ابن مسعود كان يقول : إن طلق ما لم ينكح فهو جائز ، فقال : رحم اللّه أبا عبد الرحمن ، لو كان كما قال لقال اللّه تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن ولكن إنما قال : إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وقد ذكر في «الدر المنثور» وغيره من رواية علي وجابر ومعاذ وغيرهم رضي اللّه عنهم(1/633)
ص : 634
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «لا طلاق قبل نكاح» «1»
وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ، وهو مذهب الشافعي وأحمد.
وقال الحنفية : الطلاق يعتمد الملك أو الإضافة إليه ، لكنه في حال الإضافة إلى الملك يبقى معلّقا ، حتى يحصل شرطه الذي هو الملك ، فإذا قال للأجنبية : إن تزوجتك فأنت طالق ، كان هذا تعليقا صحيحا للطلاق على شرط النكاح ، فإذا حصل هذا الشرط وقع الطلاق على فوره ، وكان طلاقا في الملك بالضرورة ، فكأنّه أنجزه عليها حينذاك.
والفرق واضح بين تنجيز الطلاق على الأجنبية ، وبين تعليق طلاقها على نكاحها ، فإنّ الأول طلاق لم يحصل في الملك ، ولم يكن مضافا إليه. أما الثاني فإنّ وقوعه لا بد أن يصادف الملك حيث كان معلقا عليه. والحنفية لا يشترطون في التعليق على الملك أن يكون صريحا بصيغة من الصيغ المعهودة في التعليق ، بل المعوّل عليه عندهم أن يكون المعنى على التعليق ، فلا فرق عندهم بين التعليق اللفظي كأن يقال :
إن تزوجت فلانة فهي طالق. والتعليق المعنوي مثل : كل امرأة أتزوجها طالق. غير أنّهم يشترطون في التعليق المعنوي ألا تكون المرأة معيّنة بالاسم أو بالإشارة مثل :
فلانة التي أتزوجها طالق ، وهذه المرأة الحاضرة التي أتزوجها طالق ، فإنّ تعيين المرأة بالاسم أو بالإشارة يضعف معنى التعليق ، فتلتحق هاتان الصورتان وما أشبههما بالطلاق الناجز ، والطلاق الناجز لا يقع في غير الملك بالاتفاق.
وقد حكي عن مالك رضي اللّه عنه أنّه إن عمّ لم يقع ، وإن سمّى شيئا بعينه امرأة أو جامعة إلى أجل وقع.
وحكي عنه أيضا أنه إذا ضرب لذلك أجلا يعلم أنه لا يبلغه كأن قال : إن تزوجت امرأة إلى مئة سنة لم يلزمه شي ء ، وهذا الذي حكيناه عن الحنفية والمالكية منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضوان اللّه عليهم أجمعين ، على اختلاف في التفصيل ، ليس هذا محل ذكره.
ويقول أصحاب هذا الرأي : إنّ قوله تعالى : إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ لا ينافي ما ذهبنا إليه ، بل إنه ظاهر الدلالة على صحة قولنا ، لأنّ الآية حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح. ومن قال لأجنبية : إذا تزوجتك فأنت مطلّقة ، فهي طالق بعد النكاح ، فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه ، وإثبات حكم لفظه.
__________
(1) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 660) ، 10 - كتاب الطلاق ، 17 - باب لا طلاق قبل النكاح حديث رقم (2048).(1/634)
ص : 635
وأما
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا طلاق قبل نكاح» «1»
- فبعد تسليم صحته - لا ينافي ما ذهبنا إليه ، لأنّ من ذكرنا مطلّق بعد النكاح.
وقد روي عن الزهري في هذا الحديث إنما هو أن يذكر للرجل المرأة ، فيقال له : تزوجها. فيقول : هي طالق البتة ، فهذا ليس بشىء. فأمّا من قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق البتة فإنما طلقها حين تزوجها.
ثم إنّ عطف الطلاق في الآية على النكاح ب ثُمَّ لا يدل على أنّ الحكم خاص بالحالة التي يتراخى فيها الطلاق عن النكاح ، فإنه لا فرق بين أن يقع متراخيا ، وأن يقع على الفور ، بل عدم الاعتداد في صورة الفورية أولى منه في صورة التراخي.
وعلى هذا يكون التعبير ب ثُمَّ للتنصيص على الحكم في الصورة التي قد يتوهم فيها وجوب العدة ، لطول المدة التي هي مظنة الملاقاة والمباشرة. وهذا ظاهر إذا كانت كلمة ثُمَّ باقية على معناها الوضعي ، مفيدة للتراخي الزماني.
ويصحّ أن يراد منها التراخي في الرتبة وبعد المنزلة ، فيستفاد منها أنّ مرتبة الطلاق بعيدة عن مرتبة النكاح ، إذ إنّ النكاح تترتب عليه منافع كثيرة ، ويثمر ثمرات طيبة. فأما الطلاق فإنّه يحل العقدة ، ويفصم العروة ، ويبطل ما بين الزوجين وأقاربهما من روابط وصلات. ولهذا قال بعض الفقهاء : إنّ الآية ترشد إلى أنّ الأصل في الطلاق الحظر ، وأنّه لا يباح إلا إذا فسدت الزوجية ، ولم تفلح وسائل الإصلاح بين الزوجين.
وظاهر التقييد بعدم المس - الذي عرفت أنّه كناية عن الجماع - أنّ الخلوة ولو كانت صحيحة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدة بعد الطلاق ، وهو قول الشافعي في الجديد. أما الحنفية والمالكية الذين يقولون بأنّ الخلوة الصحيحة كالجماع فمن العسير جدّا أن تحمل الآية على محمل يساعدهم. وقد حاول بعضهم أن يجعل المس كناية عن الخلوة أو عما يشمل الخلوة والجماع ، ولكنّ ذلك بعيد ، إذ لم يعرف ، ولم يشتهر إطلاق المس على الخلوة.
وإذا فوجوب العدة بالخلوة عند من يقول بذلك لا بد له من دليل آخر ، وذلك
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيما رواه الدار قطني والرازي في «أحكام القرآن» «من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق ، دخل بها أو لم يدخل».
وقال ابن المنذر : إنّ هذا قول عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت ، وعبد اللّه بن عمر ، وجابر ، ومعاذ ، وروي عن زرارة بن أبي أوفى أنّه
__________
(1) سبق تخريجه.(1/635)
ص : 636
قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور ، وأغلق الباب ، فلها الصداق كاملا ، وعليها العدة ، دخل بها أو لم يدخل.
هذا وقد اختلف علماء الحنفية بعد الاتفاق على وجوب العدة بالخلوة ، فمنهم من يقول : إنّها واجبة قضاء وديانة ، وإنّه لا يحل للمرأة أن تتزوج بزوج آخر قبل أن تعتدّ ما دامت الخلوة بالأول صحيحة ، ولو من غير وقاع. ومنهم من يقول : إنّه يحل لها ذلك متى كان الزوج لم يواقعها ، فأما في القضاء فلا اعتبار إلا بالظاهر.
وظاهر الآية أيضا أنه لا عدة على المرأة المدخول بها إذا طلّقها زوجها رجعيا ، أو أبانها بينونة صغرى ثم راجعها ، أو عقد عليها قبل انقضاء عدتها ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، إذ إنّ هذا الطلاق الثاني يصدق عليه أنه طلاق قبل المس ، وبذلك قال أهل الظاهر. فليس عليها عدة جديدة للطلاق الثاني لأنّه طلاق قبل المس ، كما أنّه ليس عليها أن تكمّل العدة الأولى ، لأنّ الطلاق الثاني قد أبطل الطلاق الأول. ثم يكون لها نصف الصداق في صورة البينونة ، والوجه فيه ظاهر.
وقال بعض الفقهاء ومنهم عطاء والشافعي في أحد قوليه : إنّه يجب على المرأة في الصورتين أن تبني على عدة الطلاق الأول ، وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة ، إذ الطلاق الثاني لا عدة له ، ولكن لا ينبغي أن يبطل ما وجب بالطلاق الأول ، فإنّه طلاق بعد دخول ، يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب الاعتداد ، وعلى الزوج نصف الصداق في صورة البينونة ، كما يقول أهل الظاهر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي : أنّه يجب على المرأة أن تستأنف عدة جديدة في الصورتين ، لأنّ الطلاق الثاني - وإن كان لم يفصل بينه وبين الرجعة أو العقد الثاني مسّ ولا خلوة - لا يصدق عليه أنه قد حصل قبل الدخول على الإطلاق ، إذ المفروض أنّ المرأة كان مدخولا بها من قبل ، وعلى الرجل في صورة البينونة مهر كامل لهذا الاعتبار.
وأما المالكية فإنّهم يفرقون بين صورتي الرجعيّ والبائن.
فيقولون في الأولى : إنّه يجب على المرأة أن تستأنف عدة كاملة ، إذ أنّها في حكم الموطوءة بعد المراجعة.
أما في صورة البائن فإنّ النكاح بعد البينونة عقدة جديدة ، فالطلاق بعدها يصدق عليه أنه طلاق قبل الدخول ، فلا يوجب عدة ، لكنّه لا يصحّ أن يهدم ما وجب على المرأة بالطلاق ، فعليها أن تكمل العدة الأولى ، ولها على المطلّق نصف المهر. فهم يوافقون أبا حنيفة في صورة الطلاق الرجعي ، فيوجبون عدة كاملة ، ويخالفونه في صورة البائن فيوجبون نصف المهر ، وإكمال عدة الطلاق الأول.(1/636)
ص : 637 وظاهر قوله تعالى : فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أنّ العدة حيث تجب تكون حقا للمطلّق ، وقد يقول بعض من يسير مع الظواهر : إنّ العدة حقّ خالص للمطلق ، فإنّه يغار على ولده ، ويعنيه ألا يسقى زرعه بماء غيره ، وكون العدة لا تسقط إذا أسقطها المطلّق لا يدل على أنها لسيت حقه ، إذ قد عهد في الشريعة حقوق لا يملك أصحابها إسقاطها كحق الإرث وحق الرجوع في الهبة وحق خيار الرؤية.
لكن المشهور عند الفقهاء أنّ العدة ليست حقا خالصا للعبد ، فإنّ منع الفساد باختلاط الأنساب من حقّ الشارع أيضا.
فالراجح أن العدة تعلّق بها حقّ اللّه وحقّ العبد ولما كانت منفعتها عائدة على العبد ، وكانت غيرة الرجل مظنة أن تدفعه إلى أن يحول بين المرأة وحريتها في أن تلتمس غيره من الأزواج ، حتى في هذه الحالة التي لم يحصل فيها خلوة ولا وقاع ، لما كان ذلك كذلك خاطبه اللّه سبحانه وتعالى بأنه لا سبيل له على هذه المرأة ، وأنه يجب عليه أن يخلي سبيلها بالمعروف ، فلا يكون في الآية دلالة على أنّ العدة حق خالص للمطلق.
وظاهر أنّ الضمير في قوله تعالى : فَمَتِّعُوهُنَّ راجع إلى المؤمنات اللاتي طلّقن قبل أن يمسسن ، سواء أكن مفروضا لهنّ أم لا. فيكون ظاهر قوله تعالى : فَمَتِّعُوهُنَّ إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول ، سواء أفرض لها مهر أم لم يفرض ، وبهذا الظاهر كان يقول الحسن وأبو العالية.
وقد أخرج عبد بن حميد عن الحسن أيضا أنّ لكل مطلقة متاعا ، سواء أدخل بها أم لم يدخل ، وسواء أفرض لها أم لم يفرض.
وظاهر هذه الرواية الوجوب في الكلّ عملا بظاهر قوله تعالى : وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) [البقرة : 241]. ولكنّ قوله تعالى في سورة البقرة :
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة : 237] لم يجعل للتي طلقت قبل الدخول وقد فرض لها مهر إلا نصف ما فرض لها ، ولم يجعل لها متعة ، لأنّ وروده في مقابلة قوله تعالى : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) [البقرة : 236] يجعله كالبيان لمفهوم القيد الذي هو عدم الفرض ، فيكون كالصريح في أنّ التي طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر ليس لها متعة.
وقد علمت أنّ ظاهر الآية التي معنا يوجب لها المتعة ، فكان بين الآيتين تعارض في ظاهرهما : وللعلماء في دفع هذا التعارض طرق :
فمنهم من جعل آية البقرة مخصّصة لآية الأحزاب التي معنا ، أو ناسخة(1/637)
ص : 638
لعمومها ، ويكون المعنى : فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهم [مهر عند عقد] النكاح.
فوجوب المتعة المستفاد من قوله تعالى : فَمَتِّعُوهُنَّ خاصّ بمن لم يفرض لها من المطلقات قبل الدخول ، دون من فرض لها ، وبهذا قال ابن عباس ، وهو مذهب الحنفية والشافعية. ويؤيّد ذلك أن المتعة إنما وجبت للمطلقة ، لإيحاش الزوج إياها بالطلاق ، فإذا وجب للمطلقة قبل الدخول نصف المهر كان ذلك جابرا للإيحاش ، فلم تجب لها المتعة.
ومنهم من حمل المتعة في آية الأحزاب على العطاء مطلقا ، فيعم نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه ، وتكون الآية قد تعرّضت لحكم المطلقة قبل الدخول في صورتيها ، فأوجبت لها على المطلّق شيئا تتمتّع به ، وتزول به وحشتها ، إلا أن ذلك الشيء في صورة الفرض مقدّر بنصف المفروض بالنص ، وفي صورة عدم الفرض غير مقدّر ، فإن اتفقا على شيء فذاك ، وإلا قدّرها القاضي بنظره واجتهاده ، معتبرا حالهما إيسارا وإعسارا ، وما يليق بنسب المرأة وكرامتها.
ومنه من حمل الأمر في قوله تعالى : فَمَتِّعُوهُنَّ على الإذن الشامل للوجوب والندب ، مع بقاء المتعة على معناها المعروف ، فتكون الآية قد تعرّضت لحكم المطلقة قبل الدخول في صورتيها أيضا ، إلا أنّه في صورة عدم الفرض يكون التمتيع واجبا ، لقوله تعالى في هذه الصورة بخصوصها : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ ... وفي صورة الفرض الصحيح يكون التمتيع مستحبّا ، لأنّه من الفضل المندوب إليه بقوله تعالى في هذه الصورة بخصوصها : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وقد تقدّم لك ما في ذلك في تفسير سورة البقرة.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) الكلام على ربط الآية بما قبلها واضح بيّن. فقد كان الكلام هناك في أنكحة المؤمنين. وأحكامها. وهنا في نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اللاتي يحلّ له نكاحهن ، وأحكام أخرى تتبع النكاح.
والمراد من الأجور هنا : المهور والصدقات. وسميت الصدقات أجورا في هذا الموضع وغيره من القرآن الكريم لما يظهر للناس بادئ الرأي أنّ في العقد تقابلا بين(1/638)
ص : 639
المنفعة والمهر. وذلك كاف في تصحيح إطلاق اسم الأجر على المهر ، وقد قلنا في بادئ الرأي ، لأنّ اللّه تعالى يقول : وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) [النساء : 4] والنحلة العطية.
وإنك لترى الفقهاء قاطبة في مواضع كثيرة يقولون : المهر ليس في مقابلة البضع ، ولا في مقابلة المنفعة ، ولا هو في مقابلة الانتفاع ، إنما هو بدل وعطية لإظهار خطر المحل وشرفه. على أنّك ترى أنّ حقيقة الأجرة لا تمشي مع المهر خطوات كثيرة ، فالأجرة في مقابلة المنفعة تنقسم عليها ، وتتجزأ معها بحسب الزمن ، وليس كذلك المهر ، حيث يجب نصفه بالطلاق بعد العقد قبل المس ، ويجب كله في غير هذه ، ولا عبرة بمرات الانتفاع كثرة وقلّة ، بل المرة الواحدة كالذي لا يتناهى من المرات. وأنت تعرف أنّ الخلوة الصحيحة مرة واحدة توجب المهر كاملا عند الحنفية ، فهل ترون أن الرجل انتفع ، وأنّ انتفاعه تكرّر.
وقد جاء في الآية الكريمة عدة قيود ، ما أريد بواحد منها إلا التنبيه على الحالة الكريمة الفاضلة :
منها ، وصف أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم باللاتي آتى أجورهن ، فإنه تنبيه على الحالة الكاملة ، فإن الأكمل إيتاء المهر كاملا دون أن يتأخر منه شيء. وما الذي عليه الناس من تأخير بعض المهر إلا شيء أحدثه العرف ، واقتضاه الحذر بعد أن فسد حال الناس ، واقتضاه التغالي في المهور أو الظهور بمظهر المغالاة فيها. وإذا كان الفقهاء قد جعلوا للمرأة حقّ الامتناع من تمكين الزوج حتى تأخذ المهر كاملا. فلا يكون الأليق أن يدفع المهر كاملا حتى لا يظهر الرجل بمظهر من يريد استحلال الفروج بالمجان. ويقول العلماء : إنّ تعجيل المهور كان سنة السلف ، لا يعرف منهم غيره ، وقد شكا بعض الصحابة عدم قدرته على التزوج
فقال له صلّى اللّه عليه وسلّم : «أين درعك الحطمية» «1».
ومنها أن تخصيص المملوكات بأن يكنّ من الفيء من هذا القبيل ، فإنّ المملوكة إذا كانت غنيمة من أهل الحرب كانت أحلّ وأطيب مما يشترى من الجلب ، لأن تلك ظاهرة الحال ، معروفة النشأة.
ومن تلك القيود قيد الهجرة في قوله : اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ولا شك أن من هاجرت مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أولى بشرف زوجية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ممن عداها.
وإنما قلنا الذي قلنا حتى لا نخوض فيما خاض فيه المفسرون من أشياء لا تغني من الحق شيئا ، فقد حاولوا أن يأخذوا من قوله تعالى : اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أن الممهورات من نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد أخذن مهرهنّ كلّه معجلا وأن تعجيل المهر كان
__________
(1) رواه النسائي في السنن (5 - 6/ 440) ، كتاب النكاح ، باب تحلة الخلوة حديث رقم (3375).(1/639)
ص : 640
واجبا عليه. لما ذا؟ لأن الفقهاء قالوا : إن المراد في حل من عدم التمكين حتى تأخذ المهر. ولو لم يعجّل النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مهور نسائه لكنّ في حل من حق الامتناع ، وهو لو طلبهن ما كان لهن حق الامتناع ، لأنه عصيان لأمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم هكذا يقرر المفسرون حكما : هو الوجوب على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، لأن الفقهاء قالوا ، وبعد تسليم الذي قالوا ، كيف يكون الامتناع في هذه الحالة معصية؟!! وهو مقرر بقاعدة شرعية هي التي نقلتموها عن الفقهاء!! وكذلك نريد أن نخرج مما خاضوا فيه من بحث أن المملوكات من غير الفيء هل كنّ حلالا له أو لا؟ وإنك لتعجب حين تراهم يقولون : هل كانت تحته مملوكات من غير هذا النوع أو لم يكن؟ ثم يقررون أنه لم يكن!! وإذا سئلوا عن مارية قالوا : إنّ هدية الحربيين بمنزلة الفيء. وكان خيرا لهم من هذا أن يبحثوا المسألة من الوجهة التاريخية ، ولا يكتفوا بسرد رواية لا يعلم مدى صحتها إلا اللّه.
وأعجب من هذا أنّك تسمعهم يروون أن من بين أزواجه زينب بنت خزيمة الأنصارية ، وهي التي كانت تعرف بأمّ المساكين. ثم يخوضون في أنّ غير المهاجرات كنّ محرّمات عليه أولا قبل التحريم والتحليل.
ابحثوا الذي وقع واعرفوه ، ثم قولوا : هل الذي وقع كان واجبا لا معدى عنه :
أم كان التزاما للحالة الفضلى؟ هذا إذا ثبت أن جميع نسائه كن مهاجرات.
وأشد عجبا من ذلك كله خوضهم في المراد بالأزواج اللاتي أحلّهن اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فيقولون : هنّ من كنّ في عصمته : كعائشة وحفصة ممن تزوجها بمهر.
ويزعمون أن الذي يلجئهم إليه هو دفع التعارض بين هذا ، وبين قوله تعالى بعد ذلك :
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.
ولو أنهم حملوا الإحلال على الإذن العام بالنكاح من هذه الأصناف الأربعة :
الممهورات ، والمملوكات ، والأقارب ، والواهبات أنفسهن من غير مهر ، ثم يجيء قوله تعالى : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ملزما بالوقوف عند ما انتهى إليه من الزوجات لا يعدوهنّ ، كما أباح النساء للناس ، ثم بيّن لهم الوقوف عند الأربع من غير المحرمات بأسباب التحريم ، لو أنهم فعلوا ذلك لما كان للذي ظنوه من التعارض أي أثر. ولما كانوا في حاجة إلى أن يحملوا بنات العم وبنات العمات على القرشيات ، وبنات الخال وبنات الخالات على أقاربه من بني زهرة.
ولكنّ الذي ألجأهم إلى ذلك هو أنهم لم يجدوا في نسائه واحدة من بنات عمه ، وبنات عماته لم يكن منهن إلا زينب ، وهذا الذي ذهبوا إليه إن نفعهم في بنات العمومة لا(1/640)
ص : 641 يجدون له أثرا في بنات الخئولة ، فهو لم يتزوج واحدة من بنات خاله وخالاته.
ولقد كان يغني عن هذا كله ذكر وصف القرابة ، لكن الأمر ليس كما ذهب إليه المفسرون وإنما هو تعداد للأصناف التي يباح له أن يتزوج منها على الوجه الكامل.
كما بيّن للناس ما فرضه عليهم في أزواجهم في غير هذا الموضع.
ولو تمشينا معهم إلى آخر الآية لما استطعنا أن نمشي في الواهبات أنفسهن ، فقد نصوا على أنّ الصحيح أنه لم يكن فيمن كان تحته من النساء من وهبت نفسها ، قال أبو بكر ابن العربي : وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا : لم يكن عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم امرأة موهوبة. وقد بيّنا الحديث الصحيح في مجيء المرأة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ووقوفها عليه ، وهبتها نفسها له من طريق سهل وغيره في «الصحاح» وهو القدر الذي ثبت سنده وصحّ نقله. والذي يتحقق أنها لما قالت للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : وهبت نفسي لك ، فسكت عنها ، حتى قام رجل فقال : زوجنيها يا رسول اللّه ، إن لم تكن لك بها حاجة «1». إلخ القصة انتهى ما أردنا نقله عن ابن العربي «2».
وإلى هنا يتضح أنّ المراد بالإحلال : الإذن العام ، والتوسعة في الزواج من هذه الأصناف ، والإباحة له في أن يختار منهنّ من تقتضي الحكمة الزواج منها.
ولعلك بهذا الذي ذكرنا تستغني عن الكلام في تفسير الآية من جديد. فهو أن هناك أشياء تكلّم فيها المفسرون ، لا نرى بأسا من التعرض لها قبل الكلام فيما ذكروا من أحكام ، قالوا إنها تتصل بالآية :
فقد عرض المفسرون للحكمة في إفراد العم والخال ، وجمع العمة والخالة.
- كما تكلموا عن الشرط الثاني إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها هل هو شرط في الشرط الأول ، أو في مشروط الشرط الأول : وهو الإحلال.
- ولقد تكلموا في قوله تعالى : خالِصَةً فقالوا : هل يرجع إلى المرأة المؤمنة ، أو لما قبله جميعا ، وسنذكر هذا على الترتيب فنقول.
قال المفسرون : إن المراد من بنات العم والعمة : القرشيات ، فإنّه يقال للقرشيين قربوا أن بعدوا أعمامه عليه الصلاة والسلام ، ويقال للقرشيات قربن أم بعدن عماته.
والمراد من بنات الخال والخالة البنات من بني زهرة. إطلاق العم والعمة :
على أقارب الشخص من جهة أبيه ، والخالة والخال على الأقارب من جهة الأم ، أمر جرى به العرف.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1040) ، 16 - كتاب النكاح ، 13 - باب الصداق حديث رقم (76/ 1425) ، والبخاري في الصحيح (6/ 168) ، 67 - كتاب النكاح ، 51 - باب التزويج حديث رقم (5149).
(2) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1546). [.....](1/641)
ص : 642
وقد كان تحت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ست من القرشيات ، ولم تكن تحته زهرية قط. وذلك يرشد إلى أنّ المراد من الإحلال الإذن في العقد على هؤلاء ، دون أن يستدعي وقوعه.
وإذا حمل العم والعمة على ما هو المعروف ، وكذا الخال والخالة كان الإحلال أيضا مراد منه ذلك. لأنّه لم يكن من بنات أعمامه تحته أحد ، وكذا من بنات خؤولته ، ولم يكن من بنات عمته معه إلا زينب بنت جحش.
ثم قالوا في الحكمة في إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة كلاما كثيرا ، بل إنّ من العلماء من ألف في ذلك كتابا برأسه ، فمنهم من زعم أن العم والخال لم يجمعا لوقوعهما على وزن المصدر ، وهو لا يجمع.
وقيل : بل إن عدم الجمع في العم والخال جاء على الأصل من إرادة العموم عند الإضافة ، وأما العمة والخالة وإن كانتا مضافين فجمعا لمكان تاء الوحدة فيهما ، وهي تأبى العموم في الظاهر وجمع الكل في سورة النور في قوله تعالى : أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ [النور : 61] لا يسأل عن علته ، لمجيئه على الأصل في نسق واحد.
ويرى بعضهم أنّ الخطاب لما كان للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولم يكن له إلا عمّ واحد تحل بناته له ، وهو أبو طالب ، أما حمزة والعباس فقد كانا أخويه من الرضاعة ، فقد أفرد العم من أجل ذلك ، وجمعت العمات لأنهنّ كثيرات.
ويرى البعض أن الذي جرى هنا من الإفراد في العم جرى على نحو مألوف العرب ، فإنك لا تكاد تجد في كلام العرب العم مضافا إليه الابن أو البنت مفردين أو مجموعين إلا مفردا ، كما قيل :
إن بني عمك فيهم رماح.
وكما قيل :
قالت بنات العمّ يا سلمى.
وجاء الكلام في الخال والخالة على مثاله ، وفي هذا القدر كفاية.
وأما الشرطان في قوله تعالى : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها فقد قالوا : إنّ الشرط الثاني شرط في الأول ، فتكون هبة المرأة نفسها لا تستلزم الحل إلّا إذا وجدت إرادة الاستنكاح ، ويقولون : إنّ هذه الإرادة تكون جارية مجرى القبول ، وإذا كانت السين والتاء للطلب ، فتكون الإرادة بمعنى الرغبة التي تسبق العقد ، ثم الهبة والاستنكاح يكون بعد.
ثم إنّهم يقرّرون هنا قاعدة حاصلها : أنّه إذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر عنه في اللفظ متقدم عليه في الوجود ، وهذه القاعدة لو سلمت لهم لكان ذلك مخلّا بتفسير الإرادة بالقبول ، لأن القبول لا يكون إلا بعد الإيجاب ، وعلى ذلك يلزم(1/642)
ص : 643
أن يقال : إن القاعدة أغلبية ، وأن الآية جرت على خلاف الغالب ، ولكن من أين لهم هذه القاعدة؟ وما الذي يضرّ لو أنّ مجموع الشرطين جعلا قيدين في الإحلال ، سبق الثاني في الوجود أو تأخر ، خصوصا وقد ذهب إلى هذا الذي نقول طائفة كبيرة من العلماء في مقدمتهم إمام الحرمين.
ونحب أن نقول : إنّ أكثر العلماء على أنّ الهبة وقعت من كثير من النساء ، وقد وردت روايات كثيرة في أشخاص الواهبات. غير أنّهم مع ذلك يصحّحون أنّه لم يكن تحته صلّى اللّه عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها.
وقد أخرج ابن سعد أنّ ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ووهب نساء أنفسهنّ ، فلم نسمع أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبل منهن أحدا.
وقد روى ابن جرير «1» وغيره عن ابن عباس أنه قال : لم يكن عند النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها.
وأما قوله تعالى : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فقد ذهب بعضهم إلى أن (خالصة) منصوب على المصدرية. وقد جاء المصدر على هذا الوزن كثيرا : كالعافية ، والكاذبة. ثم هو يرجع إلى إحلال الواهبة ، أي أحللنا لك الواهبة يخلص لك ذلك خلوصا. وذهب بعضهم إلى أن (خالصة) حال من امرأة ، أي أحللنا لك امرأة وهبت نفسها حال كونها خالصة لك ، لا تحل لأحد بعدك.
ويرى البعض أنه راجع إلى جميع المحللات ، والمعنى أحللنا لك كلّ ما تقدم على أن تختص بهن ، لا يكون لأحد بعدك أن ينكحهن.
وأما قوله تعالى : قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فهو جملة اعتراضية جيء بها لتوكيد مضمون الجملة قبلها. والمعنى : أن ما ذكرناه حكمك مع نسائك ، وأما حكم أمتك مع نسائهم ، فعندنا علمه ، نبينه لهم على حسب ما تقضي به الحكمة والمصلحة في شأنهم.
واحتيج إلى هذا هنا حتى لا يظنّ أنّ ما جاز للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في أزواجه من الشؤون يجوز لأمته ، وقد كان للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في النكاح وفي التسري خصائص ليست لغيره ، فهو يزيد في النساء إلى التسع ، وغيره لا يباح له الزيادة على الأربع ، واختص النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بنكاح الواهبات دون الناس.
والذي فرضه اللّه على الناس في أزواجهم ألا يجاوزوا أربعا من النساء ، والولي ، والشهود ، والمهر ، والنفقة ، والكسوة ، على ما في بعض ذلك من خلاف بين الفقهاء.
__________
(1) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (22/ 17).(1/643)
ص : 644
وضّحته كتب الفروع ، إلى غير ذلك مما فرض اللّه للناس في شأن الأزواج والمملوكات ، مما اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون غير شأن النبي في النساء ، وما علم اللّه أن فيه صلاح العباد في هذا الشأن أيضا.
لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ قيل متعلّق بأحللنا ، وهو راجع إلى جميع ما ذكر.
والمعنى : أحللنا لك من آتيت أجورهنّ من النساء والمملوكات والأقارب والواهبة لندفع عنك الحرج الذي يلحقك فتتفرّغ لتبليغ الرسالة.
وقيل : هو متعلق بخالصة ، أو بعاملها ، أي خصصناك بنكاح من وهبت نفسها لك ، لكيلا يكون عليك حرج ، فلا تبحث عن مهر ، ولا تسعى في تدبيره.
ويروي بعض المحققين أنه متعلق بمحذوف ، أي بينا هذا البيان حتى تخرج من الحرج ، ومما يظن الناس تأثيمك فيه ، ومتى علموا أنّك تصدر في الذي تفعل عن وحي ربك اندفع الذي ظنوا ، وكفيت الاعتراض والتأثيم.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر للناس ما لا يمكنهم التحرز عنه ، رحيما بهم ، يدفع عنهم الحرج والعنت.
الأحكام
أحلّ اللّه تعالى لنبيه توسعة عليه ، وتيسيرا له في نشر الرسالة ، صنوفا من النساء ، صنفا يدفع له المهر ، وصنفا يتمتع به بملك اليمين ، وصنفا من أقاربه ، وصنفا رابعا ينكحه دون مهر ، بعد أن تهب المرأة نفسها للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويتم القبول ، وهذا خاصّ بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يجوز له ، ولا يجوز لأحد من المؤمنين.
ذلك هو محصول الآية الكريمة على ما رجّحه العلماء من جعل الخصوصية في نكاح الهبة ، وإن اختلفوا في مرجح الخصوصية في هذا النكاح على ما يأتي بيانه.
وقد أراد الكرخي أن يأخذ من تسميته المهر أجرا في قوله تعالى : آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ حجة في عقد النكاح بلفظ الإجارة ، ولم يتابعه سائر الحنفية في هذا الذي ذهب إليه. ولعلّ مستند الكرخي في هذا أنّ اللّه قد سمّى المهر أجرا ، والأجر يجب بعقد يتحقّق بلفظ الإجارة ، فيصح النكاح بلفظ الإجارة.
وليس هذا يصح مستندا ، فالحنفية وهم الذين يقولون : إنّ العبرة في العقود للمعاني ، يقولون : إنّ معنى الإجارة يتنافى مع عقد النكاح ، إذ النكاح مبني على الإطلاق ، والتوقيت يبطله ، وعقد الإجارة مبني على التوقيت ، حتى لو أطلق المتعاقدان العقد عن التوقيت كان مؤقتا ، ويتجدد العقد ساعة فساعة ، فكيف يصحّ جعل ما هو موضوع للتوقيت دالا على ما يبطله التوقيت.(1/644)
ص : 645 وشيء آخر : وهو أنّ الإجارة عقد على المنافع بعوض. وبعبارة أخرى هي تمليك المنافع بعوض.
ويقول الحنفية وقد فرّعوا الفروع على ما قالوا : إنّ النكاح ليس عقد تمليك ، وإنما هو استباحة ، وهما مختلفان في الآثار.
وفرق آخر : هو أنّ «1» الحنفية يصرّحون بأنّ المهر في النكاح ليس عوضا ، وإنما هو عطية أوجبها اللّه تعالى إظهارا لخطر المحل ، ولذلك صحّ النكاح مع النص فيه على ترك المهر ، ويجب مهر المثل بالدخول ، ولو كان عوضا لما صح تركه ، فضلا عن النص عن الإسقاط ، ولو سلّم أن النكاح يقتضي التمليك فلا يصح أن يعقد بلفظ الإجارة ، حتى لا يلتبس الأمر بعقد المتعة الباطل ، وما ينشأ اللبس إلا من لفظ الإجارة الدالّ على التوقيت.
وما كانت تسمية المهر أجرا لتستلزم هذا الذي ذهب إليه الكرخي ، وقد بينا لك فيما تقدم المسوّغ لهذا ، وهو ما يبدو من شبه بين الأجر والمهر ، والمسألة في هذا سهلة ، فالحنفية كلهم على غير ما يرى الكرخي.
ومما جرى الخلاف فيه بين الفقهاء عقد النكاح بلفظ الهبة لغير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وزفر ، ومحمد ، والثوري ، والحسن بن صالح : يجوز ، ولها ما سمّى في العقد. ومهر المثل إن لم يسمّ شيء.
وروى ابن القاسم عن مالك أنّ الهبة لا تحل بعد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن كانت هبة نكاح ، وقال الشافعي رضي اللّه عنه : لا يصحّ النكاح بلفظ الهبة.
وخلاف الفقهاء تابع لنزاع العلماء في معنى قوله تعالى : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فذهب جماعة إلى أن الخصوصية والخلوص الوارد في الآية هو خلوص عقد النكاح بلفظ الهبة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ألا ترى كيف قال اللّه تعالى : لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، وكيف قال : إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها وقبل ذلك : إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ وفي جميع ذلك من الإشارة ما يدلّ على أن إحلال المرأة من طريق الهبة كان خاصا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وذهب آخرون إلى الخلوص والخصوصية الواردة في الآية كان في نكاح الواهبة بغير مهر. أما عقد النكاح بلفظ الهبة فكان جائزا للنبي وأمته معه ، لا خصوصية فيه ، وهو مروي عن مجاهد ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وزعم الذاهبون إليه أنّ الآية تدلّ عليه ، وذلك أنّ اللّه تعالى يقول : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1 - 2/ 206).(1/645)
ص : 646
جعل اللّه العقد خالصا للنبي ، وأضاف لفظ الهبة إلى المرأة ، وأضاف إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إرادة الاستنكاح ، فدلت المخالفة بين الجانبين على أنّ المراد مدلول اللفظ الذي فيه جانب المرأة ، وهو ما يدل عليه لفظ الهبة من ترك العوض.
وأيضا فلو كانت الخصوصية راجعة للفظ الهبة لجاء في اللفظ الذي يكون في جانبه ، أما خصوصية أن يكون عقده بلفظ الهبة من جانب المرأة دون أن يكون فيه إسقاط العوض فيكاد يكون غير مقبول.
ووجه آخر هو أن اللّه تعالى قال بعد ذلك : لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وذلك يشير ظاهرا إلى أن الخصوصية دفعت حرجا. وقصر النكاح على لفظ النكاح أو التزويج لا حرج فيه ، إنما الحرج يكون في إلزام المهر ، لأن ذلك يلزمه مشقة السعي في التحصيل ، وهو مشغول بشؤون الرسالة ، ويرجّح هذا الذي نقوله قول اللّه تعالى في أول الآية : آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ حيث يكون إحلال الهبة مقابلا له ، فيكون المعنى أحللنا لك الممهورات وغير الممهورات.
ثم هم يسوقون في ذلك حديثا رواه عبد اللّه بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، عن محمد بن بشر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، قالت : ألا تستحي أن تعرض نفسها بغير صداق؟ أنزل اللّه عزّ وجلّ : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قالت : إني أرى ربّك عزّ وجلّ يسارع لك في هواك «1».
ويقولون بعد ذلك أنه قد ورد أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عقد على امرأة بلفظ التمليك لرجل على ما معه من القرآن ،
فقال : «ملكتكها بما معك من القرآن»
، وذلك يدل على صحة عقد النكاح بلفظ يدل على التمليك ، ولفظ الهبة يدل على التمليك ، فصح عقد النكاح به.
ذلك مجمل ما يقال في الاستدلال للمجيزين على ما ذهبوا إليه ، وما نراه يدل لهم.
وإنا لنسألهم : أين وجدتم في الآية أنّ النكاح كان دون مهر؟ أليس في لفظ الهبة؟ فكيف يكون ما يدل عليه اللفظ خاصا به صلّى اللّه عليه وسلّم ، وليس شيء يدل عليه إلا اللفظ ومع ذلك فأنتم لا تقولون بجواز عقد النكاح بلفظ الهبة مع بقاء معناه ، وهو ترك العوض. والذي في الآية ترك العوض مدلولا عليه بلفظ الهبة.
فمن أين لكم الخصوصية في المعنى دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه يجوز عقد النكاح لغير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بلفظ الهبة مع إيجاب المهر؟ فإن كنتم تريدون أنّ عقد النكاح بلفظ الهبة يصحّ من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومن غيره ، وتريدون أن تأخذوه من الآية فخذوا جواز
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 28) ، 65 - كتاب التفسير ، 7 - باب تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ... حديث رقم (4788) ، وأحمد في المسند (6/ 158).(1/646)
ص : 647
ذلك للناس جميعا بكل ما دلّ عليه ، وهو العقد بلفظ الهبة من غير مهر.
أما أن تقولوا : إنّ العقد بلفظ الهبة جائز للناس جميعا ويجب المهر ، فهو الذي لا نجد لكم سندا فيه.
وكيف يكون السند ، واللّه تعالى يقول : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ولا يمكن رجوع الخصوصية للمعنى إلا بعد أن يكون مستفادا من اللفظ ، مدلولا عليه به ، ولو أسقط لفظ الهبة من العقد استبعد إسقاط المهر ، فالحقّ أنّ الخصوصية راجعة إلى ما كان من عقد النكاح بلفظ الهبة ، مع ما يحمل من المعنى ، وهو تمليك البضع بغير عوض.
وما سقتم من حديث عائشة لا ينفعكم ، فليس فيه إلا أنّ نكاح الواهبة كان بغير عوض ، وعائشة إنما فهمت ذلك من لفظ الهبة.
ونحن نقول : إنّ الخصوصية كانت في عقد النكاح بلفظ الهبة ومعناه ، أما عقده بلفظ الهبة وحده دون المعنى فلا نقول : إنّ الخصوصية راجعة إليه.
وأما ما قلتم من أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عقد النكاح بلفظ التمليك ، فهو بعد تسليم حجية الحديث المروي فيه لا يدلّ [على ما ذهبتم إليه ].
وهناك رواية أخرى تدل على أن العقد كان بلفظ : «زوجتكها» «1» ولا دلالة فيما رويتم ، فعقد النكاح بلفظ التمليك لا يفيد أن كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح ، ألا ترون أن لفظ الإجارة يدل على التمليك ، وأنتم لا ترون النكاح ينعقد به ، لما فيه من معنى يتنافى مع المقصود من النكاح ، وهو أن الإجارة مبينة على التوقيت.
وكذلك نحن نقول بعد أن نسلّم لكم أنّ صيغ العقود يصحّ القياس فيها : إنّ لفظ الهبة نصّ على ترك العوض ، والنكاح لا بدّ فيه من العوض ، وإن لم يذكر في العقد ، فلا يصح أن يدل عليه بلفظ صريح في ترك العوض.
هذا ما رأينا أن نذكره مما تكلم فيه المفسرون من الأحكام ، وهناك أشياء أخرى عرض لها المفسرون : كالكلام على أعمام النبي ، وعمّاته ، وأخواله ، وخالاته ومن وهبت نفسها من النساء ، وما نرى أن نتابعهم فيه ، لأنّ ذلك حتى بعد صحة ما يروى لا فائدة من ذكره [هاهنا].
قال اللّه تعالى : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) الإرجاء : التأخير والتنحية.
__________
(1) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 608) ، 9 - كتاب النكاح ، 17 - باب صداق النساء حديث رقم (1889).(1/647)
ص : 648
والإيواء : الضم والتقريب.
والابتغاء : الطلب.
والعزل : الإبعاد.
اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فروى أبو رزين العقيلي أنّ نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا أشفقن أن يطلقهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قلن : يا رسول اللّه! اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئت فكانت منهن : سودة بنت زمعة ، وجويرية ، وصفية ، وميمونة ، وأم حبيبة غير مقسوم لهنّ.
وكان ممن آوى : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة : يضمهن ويقسم لهن.
وقيل كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا خطب امرأة لم يكن الرجل أن يخطبها حتى يتزوجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، أو يتركها.
ويكون المعنى على ما روى أبو رزين : اعزل من شئت من القسم ، وضمّ إليك من تشاء.
ويرى ابن العربي «1» أنّ القولين غير صحيحين ، أما ما روي عن أبي رزين فلم يرد من طريق صحيح.
وأما الآخر ، فلأنّ امتناع الخطبة بعد خطبة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لا ذكر له ، ولا إشعار به ، وهو مع كونه غير خاص بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا يكاد يتسق مع باقي الآية.
وقد اختلف العلماء في المراد من الإرجاء والإيواء :
فقد روي عن ابن عباس أنّ معنى الآية : تطلّق من تشاء ، وتمسك من تشاء.
وروي عن قتادة : أنّ المعنى : تترك من تشاء ، وتنكح من تشاء ، وقد أسلفنا لك. عن أبي رزين ما يفيد أن المعنى : تترك من تشاء من غير قسم ، وتقسم لمن تشاء.
ويرى ابن العربي «2» أنّ الصحيح في سبب نزول الآية وفي معناها هو ما روي من طريق صحيحة عن عائشة أنها قالت : كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأقول : أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل اللّه تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قلت : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وثبت في «الصحيح» «3» أيضا عنها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يستأذن في يوم المرأة منّا بعد أن نزلت هذه الآية : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فقيل لها : فما كنت تقولين؟ قالت : كنت أقول : إن كان الأمر إليّ فإني لا أريد يا رسول اللّه أن أوثر عليك أحدا أبدا.
__________
(1) أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1554).
(2) المرجع نفسه (3/ 155).
(3) رواه البخاري في الصحيح (6/ 28) ، 65 - كتاب التفسير ، 7 - باب ترجي من تشاء حديث رقم (4789).(1/648)
ص : 649
ويرى ابن العربي «1» أنّ المعنى بعد ذلك هو : أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد أذن له في غير إلزام أن يكون مردّ الأمر في القسم إليه ، إن شاء قسم ، وإن شاء لم يقسم ، لكنّه كان يقسم بينهن من غير أن يكون القسم فرضا عليه.
وذلك خاصّ به دون المؤمنين. وقد ظلّ شأن النبي مع نسائه وشأن نسائه معه على هذا ، حتى أدرك الكبر سودة بنت زمعة ، فوهبت قسمها لعائشة ، وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك.
ولنرجع بعد ذلك إلى تفسير الآية بتمامها ، حتّى يتبين من التفسير أيّ المعاني أجدر بأن يكون مقصودا من الآية.
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قد عرفت مما سقناه لك آنفا أنّ الإرجاء التأخير ، وأن الإيواء الضم ، وعرفت آراء العلماء في المراد بذلك.
ونزيد هنا أنهم اختلفوا أيضا في مرجع الضمير في (منهن) ، فرآى بعضهم أنه يرجع إلى نساء الأمة جميعا ، وأنّ المعنى أن لك أن تترك نكاح من تشاء من نساء الأمة ، وأن تنكح من تشاء.
وهذا القول بعينه قدمناه لك في جملة الأقوال.
ونقول : إنه لم يفد فائدة جديدة ، فالمقصود منه قد استفيد من آية إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قول اللّه تعالى : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ على ما تقدم بيانه ، وهو بعد ذلك لا يتسق مع قول اللّه تعالى : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ.
ويرى البعض أنّ الضمير للواهبات ، ويكون المعنى إنّ لك أن تقبل هبة من تشاء ، وتترك هبة من تشاء ، ويروون في ذلك من الروايات ما يستندون إليه ، إذ يفيد أنّ بعض الواهبات قبلهنّ الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ودخل بهن ، وأرجأ البعض الآخر ، ولم يدخل بهن ، ويقولون : إنّ منهن أمّ شريك.
وأنت تعلم مما سبق أن العلماء اختلفوا في وقوع الهبة ، وعلمت أنّ الصحيح أنّها وقعت ، وعلمت كذلك أنهم اختلفوا في قبوله صلّى اللّه عليه وسلّم الهبة منهن ، وأن الصحيح أنه لم يكن تحته امرأة وهبت نفسها ، ومتى علمت هذا كان لك أن تحكم بضعف هذا القول ، خصوصا إذا نظرت إلى أن ضمير (منهن) للجمع ، ولم يرد للواهبات ذكر بالجمع حتى يكون مرجعا ، فخير أن يكون مرجع الضمير لنسائه اللاتي هنّ تحته : وأنّ المراد ترك أمر القسم إليه ، إن شاء قسم ، وإن شاء لم يقسم توسعة عليه ، حتى تطمئن نفوس زوجاته ، على ما يأتي بيانه.
__________
(1) أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1556).(1/649)
ص : 650
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي أنّه لا حرج ولا إثم إذا عنّ لك أن تطلب إحدى المرجئات والمعزولات ، فتضمها ، وتؤويها إليك بعد عزلها وإرجائها ، ويجوز حمل الإرجاء والعزل هنا على الطلاق ، ويكون المعنى : ومن طلبت رجوعها ممن تكون قد عزلت فلا جناح عليك في طلب رجوعها إلى العصمة.
ويجوز أن يراد منه التأخير في القسم ، أو ترك القسم ، ويكون المعنى : ومن طلبت إيواءها وإدخالها في القسم ممن أخرت القسم لها أو تركته ، فلا جناح عليك.
وأما أن يراد بالابتغاء طلب النكاح ، وبالعزل والإرجاء تركه ، على أن يكون المعنى : ومن طلبت نكاحها من اللاتي تركت فبعيد ، لأنّ العزل مشعر بأن تكون المعزولة كانت في زمرة ثم عزلت ، وفصلت عنها. والتي رفض نكاحها لا يقال :
إنها كانت في زمرة فصلت وعزلت منها. ومَنْ عل كلّ هذا شرطية جوابها فلا جناح عليك.
وروي عن الحسن أنّ معنى الآية : إنّا جعلنا لك أمر الإرجاء والإيواء ، وجعلنا لك أيضا أن تطلب نكاح من تشاء عوضا ممن عزلتها بالطلاق أو بالموت. وهو في هذا يحمل الإرجاء على الطلاق ، ويكون المعنى : أن اللّه أحلّ لك صنوفا من الأزواج ، تطلق من تشاء منهن ، وتعتاض عمن عزلت بالطلاق أو بالموت منهن ، وعلى هذا (فمن) في قوله : مِمَّنْ عَزَلْتَ للبدل ، مثلها في قوله تعالى : أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل الآخرة.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً اسم الإشارة يرجع إلى ما تضمّنه الكلام السابق من تفويض أمر الإرجاء والإيواء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، أي إنّ تفويضنا الأمر - في إبقاء من تشاء ، وترك من تشاء ، أو في القسم وتركه إليك - أقرب أن تكون أعينهن قريرة. وذلك كناية عن سرورهن بذلك ، فلا تحزن من كان لهن الإرجاء ، ويرضين بما تصنع معهن. لأنّه متى علمن أنّ الأمر صار إليك ، صار في مرجو المعزولة أن تكون يوما صاحبة فراش ، فلا تيأس من قربك ، ولا تقنط من رحمة اللّه.
وأما قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فهو خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولأزواجه رضي اللّه عنهن ، وجمع بجمع الذكور للتغليب ، وتعقيب الكلام السابق بهذا يراد منه الحثّ على إصلاح ما عساه يكون في القلوب جميعا بالقدر المستطاع ، فيخفف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما عساه يكون منه من أثر للميل في معاملة نسائه ، ويذهب من النساء ما عساه يكون من أثر للغيرة التي تغلب النساء عادة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً يعلم خفيّات الصدور ، وما يكون لها من آثار ظاهرة وباطنة. ولا يعجل العقاب قبل الإرشاد والنصح.(1/650)
ص : 651
قال اللّه تعالى : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) لا يزال الكلام متصلا في خطاب الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في شأن أزواجه ، فلا تبحث عن الربط. و(بعد) في قوله : مِنْ بَعْدُ ظرف مبني على الضم لحذف المضاف إليه.
وقد اختلف في تعيين هذا المحذوف على ثلاثة أقوال ترجع في الحقيقة إلى اثنين.
1 - روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنّه قال : المراد من (بعد) من عندك من النساء اللواتي اخترنك على الدنيا ، ويكون ذلك قصرا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم على أزواجه مجازاة لهنّ ، وشكرا على هذا الاختيار ، كما قصرهن اللّه عليه إكراما له في قوله :
وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.
2 - روي عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه أنه قال : المراد من (بعد) من أحللنا لك في الآية المتقدمة ، وهن الأصناف الأربعة.
3 - روي عن مجاهد أن المعنى : لا يحل لك نكاح غير المسلمات.
وهذا الرأي الأخير في الحقيقة يرجع إلى الثاني ، لأنّ المروي عن أبيّ يدل عليه ، إذ ليس في الأصناف التي أحلّت للنبي غير مسلمة ، فيكون ما روي عن مجاهد داخلا في الذي روي عن أبيّ ، ويكون المعنى : لا يحل لك من عدا من آتيت أجورهن ، وقرابتك المؤمنات. المهاجرات وما ملكت يمينك ومن وهبت نفسها إليك.
ويقول ابن العربي «1» : ويقوى في النفس قول ابن عباس ، واللّه أعلم كيف وقع الأمر.
وسيأتي لنا كلام في هذا عند الكلام على آراء العلماء في نسخ الآية.
وقد اختلف العلماء أيضا في قوله تعالى : وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ فروي عن ابن عباس أنّ المراد : لا يحلّ لك أن تطلّق أحدا من أزواجك لتنكح غيرها.
وروي عن مجاهد أن المعنى : لا يحل لك أن تبدل المسلمة التي عندك بمشركة ، ونقل عن ابن زيد أن المعنى : لا تعطي زوجك بدلا من زوج رجل آخر.
أما قول مجاهد فهو مبنيّ على رأيه في صدر الآية ، ولو تأملت وجدت صدر الآية مغنيا عنه على حسب تأويله هو ، فإنّ صدر الآية معناه عنده : لا يحل لك نكاح غير المسلمات ، وذلك يقتضي تحريم العقد عليهن مطلقا ، سواء أكان العقد مبتدأ ، أم على وجه الإتيان بالمشركة بعد اطراح المسلمة من العصمة ، وحينئذ يخلو وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ من الفائدة.
__________
(1) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1559).(1/651)
ص : 652
وأما قول ابن زيد فباطل أيضا ، فإنّ نكاح الاستبدال الذي يدّعيه حرام على كل الناس ، فلا يكون هناك محلّ لتوجيه الخطاب إليه وحده.
وأما إعراب قوله تعالى : وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ فيرى البعض أنّها في موضع الحال ، والمعنى : لا يحل لك أن تتبدل بهن أزواجا على أي حال ، حتى حال إعجابك بحسنهن. ويرى البعض أنّ هذه جملة شرطية حذف جوابها ، لفهمه من الكلام ، والمعنى : ولو أعجبك حسنهنّ لا يحل لك نكاحهن.
إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ رأيت في الذي سبق أنّ تقييد حلّ المملوكة بكونها فيئا لا يقصد منه الاحتراز ، وقد جاء استثناء المملوكات من المحرمات مطلقا ، فهو متفق مع الذي قلنا هناك.
وأما من يرى أنّ القيد هناك للاحتراز ، فلعله يحمل المطلق هنا على المقيد هناك ، أو لعلّه يقول : إنّ العموم هنا أبطله الخصوص هناك ، وما نريد أن نعرض إلى أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم هل كان يحل له الكافرات ، أو هن كنّ محرمات عليه؟ فالواقع أنّ النبي لم ينكح كافرة بعد الرسالة ، والبحث في حلهن وحرمتهن غير مجد بعد ذلك.
بقي أنّ العلماء اختلفوا في الآية : أبقيت محكمة لم يدخلها النسخ ، أم نسخت؟
والذين قالوا بالنسخ اختلفوا في الناسخ : أهو الكتاب أم السنة؟ فذهب جماعة إلى أنّها محكمة ، وأنّ ذاك كان تكريما للمختارات ، وجزاء على إحسانهن.
ويرى البعض أنها منسوخة ، ويروون في ذلك حديثا عن عائشة : «ما مات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا وقد أحلّ اللّه له من شاء من النساء إلا ذات محرم» «1» ويقول ابن العربي «2» في هذا : إنه حديث ضعيف شديد الضعف.
والذين ذهبوا إلى النسخ اختلفوا في الناسخ ، فيرى بعضهم أنّ الناسخ هو قوله تعالى : إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى آخر الآية ، ويقولون : إنّ الترتيب في التلاوة ليس دليل الترتيب في النزول.
وهذا عجيب من قائليه ، فإنّ النسخ في الحقيقة يعتمد ثبوت تأخر الناسخ عن المنسوخ ، وأن يكون بينهما تعارض ، وأين هذا مما يقولون؟ هل مجرد احتمال أن تكون الآية التي معنا متقدمة في النزول كاف لإثبات النسخ فيها؟
أما الذين قالوا : إن الآية منسوخة بالسنة ، وإن ذلك دليل على جواز نسخ الكتاب بالسنة ، فأمرهم أعجب ، فإن الذين يجيزون نسخ الكتاب بالسنة لا يقولون إنّه
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 332) ، كتاب التفسير ، باب تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (3216) ، والحاكم في المستدرك (2/ 437).
(2) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1559).(1/652)
ص : 653
ينسخ بكل سنة ، بل كان متواترا معنى ، وهو المشهور ، فكيف يكون النسخ هنا بقول عائشة ، وهي لم ترفعه ، وفوق ذلك يقول ابن العربي فيه : إنّه حديث ضعيف.
ثم كيف جاز لهم أن يجعلوا النسخ هنا دليلا على القاعدة الأصولية : نسخ الكتاب بالسنة ، والأصول لا تثبت إلا بقاطع كما يقولون. وحديثهم الذي يستدلون به على النسخ قد علمت قيمته.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً يطلع على ما يكون من كل أحد فيجازيه بحسابه.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) روي في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة سنذكرها ، ونبيّن الصحيح منها بعد أن نقول لك : إنّ الكلام هنا بيان لما يكون عليه حال المؤمنين مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في البيت ، وذلك ينتظم أحوالا كثيرة بينت الآية الكريمة أحكامها : منها لزوم عدم الدخول إلا بعد صدور الإذن ، وهذا يكون بعد الاستئذان. ومنها أن الدخول إذا كان لطعام فيلزم أن يكون المجيء إليه في إبانه لا قبله. وأن ينتشروا على فور الطعام ، ولا يمكثوا سامرين.
وسيأتي عند الكلام على تفسير الآية ما يراه العلماء في معنى الآية ، وإنما نذكر هنا أن الآية سيقت لبيان آداب الناس في بيت الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، والآية بعد هذا اشتملت على أحكام دخول البيت ، وعلى حجاب النساء ، ومنع المؤمنين من مخالطتهن ، ولو من طريق المسألة إلا من وراء حجاب.
وقد ذكر العلماء أسبابا كثيرة يرجع بعضها إلى مسألة دخول البيت ، ويرجع بعضها الآخر إلى مسألة حجاب نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
ونرى أن لا مانع من أن يكون كلّ ما روي بعد أن يكون صحيحا سببا للنزول ، وقد علمت مرارا أنّ الآية نزلت على أسباب كثيرة.
روى البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له «1» عن أنس بن مالك قال : تزوج
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1042) ، 16 - كتاب النكاح ، 13 - باب الصداق حديث رقم (80/ 1428) ، والبخاري في الصحيح (6/ 29) ، 65 - كتاب التفسير ، 7 - باب لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا ... حديث رقم (4791 ، 4792) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 333) ، كتاب التفسير ، تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (3218).(1/653)
ص : 654
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فدخل بأهله ، فصنعت أمّ سليم حيسا ، فجعلته في تور ، وقالت لي : يا أنس اذهب بهذا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقل : بعثت إليك بها أمي وهي تقرئك السلام ، وتقول : إنّ هذا لك منا قليل يا رسول اللّه. قال : فذهبت بها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقلت : إنّ أمي تقرئك السلام ، وتقول : إنّ هذا منا لك قليل يا رسول اللّه. فقال :
«ضعه» ، ثم قال : «اذهب فادع لي فلانا وفلانا ، ومن لقيت» فسمّى رجالا. قال :
فدعوت من سمّى ومن لقيت ، قال : قلت لأنس : عددكم كما كانوا؟ قال : زهاء ثلاثمائة ، قال : قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا أنس هات التّور» قال : فدخلوا حتى امتلأت الصفّة والحجرة ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «ليتحلّق عشرة عشرة ، وليأكل كلّ إنسان مما يليه» قال : فأكلوا حتى شبعوا ، قال : فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم قال : قال لي : يا أنس ارفع ، قال : فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت! قال : وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ورسول اللّه جالس ، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط ، فثقلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسلّم على نسائه ، ثم رجع. فلما رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد رجع ظنّوا أنّهم قد ثقلوا عليه ، قال : فابتدروا الباب ، فخرجوا كلّهم ، وجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أرخى الستر ، ودخل ، وأنا جالس في الحجرة ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى خرج عليّ ، وأنزلت هذه الآيات ، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقرأهن على الناس : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ إلى آخر الآية [53] ،
قال أنس : أنا أحدث الناس عهدا بهذه الآيات ، وحجبن نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
ورويت روايات كثيرة قال فيها أبو بكر بن العربي «1» : إنها ضعيفة كلّها ما عدا الذي ذكرنا ، وما عدا الذي روي أنّ عمر قال : قلت يا رسول اللّه يدخل عليك البرّ والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين أن يحتجبن ، فنزلت آية الحجاب «2». وما دامت الروايات لم تصح فلنعرض عن ذكرها.
وهناك رواية أخرى في «الصحيح» «3» أيضا تعيّن الزوجة ، وذلك على نحو ما روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس قال : لما تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زينب بنت جحش ، دعا القوم ، فطعموا ، ثم جلسوا يتحدثون ، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام. فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء
__________
(1) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1575).
(2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 29) ، 65 - كتاب التفسير ، باب لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا ...
حديث رقم (4790). [.....]
(3) سبق تخريجه.(1/654)
ص : 655
النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليدخل فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا ، فجئت فأخبرت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل اللّه تعالى :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ.
ولعلّك بعد الذي قدّمنا في غير حاجة إلى إعادة القول في إضافة البيوت مجموعة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فهي بيوته ، اختصّ بها ، وأعدها لسكنى أزواجه المتعددات ، وقد نهى اللّه المؤمنين أن يدخلوا هذه البيوت إلا دخولا مصحوبا بالإذن ، والاستثناء في قوله تعالى : إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالإذن لكم ، وتكون باء المصاحبة مقدرة في الكلام.
وذهب بعضهم إلى أن الباء المقدّرة باء السببية ، والاستثناء من عموم الأسباب.
وذهب الزمخشري إلى عدم تقدير الباء ، وإلى أن الاستثناء من عموم الأوقات ، أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت الإذن ، وهذا متوقف على صحة وقوع المصدر المؤول مع الظرف. ويرى أبو حيان أنّ وقوع المصدر موقع الظرف خاصّ بالصريح دون المؤول ، والمسألة خلافية من خلافيات النحاة ، والأشهر أنه لا يجوز.
وقوله تعالى : إِلى طَعامٍ متعلّق بيؤذن ، وكان الظاهر أن يعدّى (بفي) بدل (إلى) إلّا أنّ الفعل يُؤْذَنَ ضمّن معنى الدعوة ، فعدّي بما يتعدى به فعلها ، وتضمينه معنى الدعوة للإيذان بأنه لا ينبغي الدخول للطعام إلا بدعوة إليه ، وإن وجد صريح الإذن بالدخول ، ويرى البعض أنّ إِلى طَعامٍ تنازعه تدخلوا ويؤذن.
غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ إناه مصدر مضاف إلى الضمير ، نقول : أنى الطعام يأنى إذا نضج إنى ، أي نضجا.
ويرى بعضهم أنّه ظرف بمعنى حين ، وهو مقلوب آن ، فجاءت النون قبل الألف ، وغيرت فتحة الهمزة كسرة ، والمعنى على الأول : غير منتظرين نضجه ، وعلى الثاني غير منتظرين وقته ، أي وقت إدراكه ونضجه ، وهما متقاربان.
ثم إن (غير) منصوب على الحالية ، وهي حال مترادفة ، أي لا تدخلوا في حال من الأحوال ، إلا حال الإذن لكم ، غير منتظرين النضج أو وقته ، وصاحب الحال على هذا هو واو الجماعة في لا تَدْخُلُوا.
ويرى بعضهم أنه حال من فاعل فعل محذوف ، أي ادخلوها غير ناظرين إناه.
وجوّز بعضهم أن يكون حالا من الضمير المجرور في لَكُمْ ، ويكون المعنى : لا تدخلوا إلا حال الإذن ، حال كونكم غير ناظرين. ويكون هذا إشارة إلى أنّ الإذن ينبغي أن يكون لمن كانت عادته لمن يسبق وقت الطعام ، فإنّ ذلك يكون إثقالا على من في البيت.(1/655)
ص : 656
ويرى البعض أنّ قوله : غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ حال من الواو في تَدْخُلُوا ويكون المعنى : نهيهم عن الدخول في هذه الحال ، وهي حال عدم انتظار الطعام. وهم يروون في ذلك أنّ بعض أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم كان يدخل في وقت الطعام من غير سابق دعوة ، وكانوا يسمّون الثقلاء من أجل ذلك ، وبعد تسليم ما رووا فكيف تفيد الآية النهي عن الذي كان منهم؟ لعلهم يقولون : إنّ المعنى : لا تدخلوا حال كونكم غير منتظرين وقت الطعام ، إلّا أن يؤذن لكم. ويكون المراد نهيهم أن يدخلوا على الفجاءة ، وأما إذا جاؤوا ومكثوا انتظارا للطعام ، فلا يكون ذلك منهيا عنه وهم بهذا يدفعون ثقيلا بأثقل منه ، إذ إنهم يجوز لهم حينئذ أن يدخلوا البيت ، ويمكثوا ما طاب لهم المكث حتى يجيء الطعام ، ويهيّأ لهم.
وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا هذا استدراك على ما فهم من النهي عن الدخول بغير إذن ، وهو مشعر بأنّ الإذن متضمّن معنى الدعوة ، وهو بعد هذا تصريح بما علم قبل.
فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أمر بالتفرّق بعد الفراغ من الطعام ، بعدية يرجع في تحديدها إلى ما يجري به العرف.
وأنت بعد الذي اطلعت عليه من سبب نزول ترى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان قد ثقل عليه أن يمكث هؤلاء الأضياف بعد أن فرغوا من الطعام ، ولم يدعوه يتفرّغ لبعض شأنه في بيته ، وكان يمنعه الحياء أن يأمرهم بالتفرّق.
وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ الاستئناس للحديث طلب الأنس به ، والطمأنينة والسرور والارتياح له ، وقد أطلق نفي الاستئناس للحديث من غير بيان صاحب الحديث ، للإشارة إلى أنّ المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق ، أيا كان الاستئناس ، سواء كان لحديث بعضهم بعضا ، أو لحديث غيرهم ، فإنّ الأمر كان أمر وليمة ، وقد انتهت ، ولم يبق إلا أن يفرغ من البيت لبعض شأنهم ، والبقاء بعد ذلك نوع من الثقل غير محمود.
ويرى بعض المفسرين أنّ قوله تعالى : مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ معطوف بالجر على (ناظرين) وتكون (لا) لتأكيد النفي ، ويجوز أن تكون (لا) بمعنى (غير) معطوفة على (غير ناظرين).
ويرى البعض أنّ (مستأنسين) حال من فاعل فعل محذوف دلّ عليه الكلام ، أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث ، واللام في قوله : (لحديث) إما تعليلية داخلة على محذوف ، أي لأجل استماع الحديث ، أو هي للتقوية.
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ هذا بمثابة التعليل لما قبله ، أي إنما نهيتم عن دخول بيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا في الحدود المبينة ، لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يتأذّى من الدخول على غير هذه الحدود وإيذاء النبي لا يصح أن يكون من المؤمنين ، من أجل(1/656)
ص : 657 ذلك بيّنا لكم الحدود ، ورسمنا الطرق ، حتى لا يلحقه أذى ، وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ضجرا على ما عرفت من أسباب النزول. من بقاء من بقي عنده بعد انتهاء الطعام ، بل لقد همّ بالقيام لينتبهوا فيقوموا فأقاموا ، ولقد كان يمنعه الحياء أن يأمرهم بالانصراف.
وقد كان من عادات العرب ألّا يطلبوا إلى الضيف الانصراف بعد القرى مهما طال المكث ، وكان الناس من أجل ذلك في حاجة لأن يتعلموا آداب المنازل ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم شديد الحياء ، فنزل القرآن إرشادا لهم وتعليما.
واسم الإشارة على ما ترى راجع إلى ما يكون منهم من الدخول على غير الوجوه المبيّنة ، وقيل : بل هو راجع إلى مفهوم من الكلام ، وهو المكث قصد الاستئناس للحديث ، أو راجع إلى الاستئناس المفهوم من مستأنسين.
والاستحياء على الحقيقة لا يكون منهم ، وإنما يكون من شيء يتصل بهم ، ويلحقهم من جهته ، وهو إخراجهم أو منعهم من البقاء والمكث ، وإلا فالذات لا يستحيا منها ، إنما يكون الاستحياء من الأفعال.
انظر إلى قوله تعالى : وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فإنّه يدل على أنّ الذي كان يستحي منه النبي هو الحق ، وهل يتصف بالحقيقة إلا الأفعال؟ ولو كان المراد الاستحياء من ذواتهم لقال تعالى في مقابله واللّه لا يستحي منكم.
وأطلق استحياء اللّه من الحق وأريد منه عدم السكوت عن بيانه ، فسمّى السكوت عليه استحياء على طريق المشاكلة ، لوقوعه بجانب استحياء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم من إخراجهم.
و[يفيد] ظاهر الآية منع مكث المدعو إلى الطعام بعد تناول الطعام إذا كان ذلك مؤذيا لصاحب البيت ، وإذا كانت الآية التي معنا خاصة بآداب دخول بيت الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فقد تكفّلت سورة النور ببيان آداب دخول المنازل على الإطلاق في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) [النور : 27] وفي غيرها من الآيات ، فارجع إليها إن شئت.
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.
لا يزال الكلام كما ترى متصلا في ذكر آداب الدنو من بيوت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ترى ذلك ماثلا في ضمير النساء في قوله تعالى : سَأَلْتُمُوهُنَّ فهو راجع إلى نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقد فهم اشتمال الكلام عليهن من النهي عن دخول البيوت ، وعن إطابة المكث تلذذا بالحديث ، وعن الأمر بالدخول إن كانت هناك دعوة ، والانتشار عقب الطعام ، ومن أن مخالفة ذلك تؤذي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو ما كان ليتأذّى لو لا وجود النساء في البيوت ، فإرجاع الضمير إلى مفهوم من الكلام السابق مؤذن بأنّه متصل بالكلام(1/657)
ص : 658
السابق ، متمّم له في ذكر آداب البيوت ، واقع على ما وقع عليه من سبب ، فهو في غير حاجة إلى ربط جديد ، ولا إلى سبب خاصّ يقع عليه ، وأنه ليكفي أن يوجد شأن من الشؤون يتصل بالبيوت ، لنذكر كل الأحكام التي تكفل حياطة البيوت من الأذى.
ويرى بعض المفسرين تنزيل هذه الآية على سبب خاص روي هنا من طريق صحيح ، ويعدون الآية إحدى موافقات القرآن لعمر رضي اللّه عنه ، وذلك على نحو ما قدمنا مما
روى البخاري «1» وغيره عن أنس رضي اللّه عنه أنه قال : يا رسول اللّه يدخل عليك البرّ والفاجر ، ولو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل اللّه آية الحجاب.
وليس هناك ما يمنع أن يكون ذلك أحد الأسباب التي نزلت من أجلها الآيات في شأن بيوت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويكون قد جاء في بعضها أو كلها ما يوافق رأي عمر ، وحرصه على كرامة نساء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فتكون الأسباب قد تجمّعت فنزلت الآيات متصلا بعضها ببعض في صيانة بيوت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وحرمة أزواجه.
والمتاع ما يستمتع به حسيا كالماعون ، أو معنويا كتعرّف الأحكام ، والحجاب :
الساتر ، وتكليف الرجال سؤال النساء المتاع من وراء حجاب مؤذن بتكليف من في البيوت ضرب الحجاب ، لأنّه من غير المعقول أن يكون ضرب الحجاب على غير أصحاب البيوت.
ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ الإشارة راجعة إلى السؤال من وراء حجاب ، أو إلى كلّ ما تقدم من الأحكام ، ومعنى كونه أطهر أنّه أكثر تنزيها لقلوب الرجال والنساء من الهواجس التي تتولّد فيها عند اختلاط الرجال بالنساء ، فإنّ الرؤية بريد الفتنة.
هكذا كفل القرآن بيوت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بهذه الأحكام ، وأبعد عنها الريبة. واجتث أصول المخاوف والفتنة ، فالآيات كما ترى خاصّة بآداب الاتصال ببيوت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة بلفظها ، وبتوجيه الخطاب فيها ، وبأسباب نزولها ، وبما ذكر فيها من علة.
وأما بيوت المؤمنين فقد تكفلت بآدابها سورة النور كما قلنا لك وآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ الآية في سورة الأحزاب وستعرف فيها آراء العلماء في الحجاب.
وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.
والمعنى : أنّه لا يكون من شأن المؤمنين أن تقع منهم أذية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أيا كان نوعها ، سواء أكانت من النوع الذي ذكر في الآية مما يتصل بالبيوت ، أم من غيرها ، وهذا التعميم يرشد إليه إطلاق الفعل. تُؤْذُوا عن التقييد بكونه في البيوت ،
__________
(1) سبق تخريجه.(1/658)
ص : 659
أو في غيرها ، فدلّ ذلك على أنّ شأن المؤمنين ألا يكون منهم للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إلّا ما يكون إكراما وشكرا على ما أسدى إلى الأمة من خير ، فلا معنى لتقييد الأذى هنا بنوع منه ، كاللبث في بيوته صلّى اللّه عليه وسلّم ، والاستئناس للحديث فيها ، وكون الآية وردت في هذا السياق لا يقتضي تقييدها به ، بل يقتضي دخولها في العموم الذي دلّت عليه الآية.
وذكر النبي بوصف الرسالة هنا مشعر بتوبيخ من تحدّثهم نفوسهم بأذيته ، إذ ذلك يكون كفرانا بنعمة الرسالة الواجب شكرانها.
وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ ذكر هذا بعد النهي عن الأذى بصيغة الخبر من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، للاهتمام به ، فإنّ امتهان فراش الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم من أكبر الأذى.
وقد عرض المفسرون هنا للكلام في المراد من الأزواج ، وقد سبق لك عند الكلام على آية التخيير شيء من هذا.
فقد ذهب بعضهم إلى أنّ الأزواج اللائي لا ينكحن هن من ثبت لهن هذا الوصف ، ولو من طريق العقد من غير أن يدخل بها. وإطلاق الأزواج هنا ظاهر في هذا.
ويرى بعضهم كإمام الحرمين قصره على المدخول بها ، ونحيلك هنا على ما ذكرناه عند الكلام على المختارات ، لتقف على أرجح الأقوال في ذلك.
وقد عرض المفسّرون أيضا إلى البعدية من قوله تعالى : مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً هل هي بعدية الوفاة ، أو بعدية الفراق مطلقا. وما دام أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يثبت أنّه طلق أحدا من نسائه من طريق صحيح ، وحتى التي قيل : إنها اختارت الدنيا قيل : إنها جنّت ، وقد منعه اللّه من أن ينكح أزواجا بعد اللائي كنّ معه ، وأن يطلقهن ليتزوج غيرهن.
فما نرى معنى لهذا الذي خاض فيه المفسرون ، ونرى أنّ البعدية بعدية الوفاة.
وأما الكلام في حلّ المطلقة ، ومن فسخ نكاحها فهو كلام مبني على الفرض والتقدير ، ولا شأن للآية به ، وإن كان لنا أن نقول شيئا فذلك أنّ إضافة البعدية إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلّم ظاهر في بعدية الوفاة. وأيضا فإنّ منع المؤمنين من نكاح أزواجه إنما هو لكفّ الأذى عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأي أذى يلحقه من أن تنكح امرأة نبذها ، ولم تنل شرف أمومة المؤمنين. إنّ منع زواجها فيه أذاها هي ، ولا يليق أن يكون مقصدا من مقاصد الشريعة إلحاق الأذى بالناس ، على أنّ منعها من الزواج فيه تسوية بينها وبين من نلن رضاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، واللازم عدم التسوية.
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً اسم الإشارة راجع إلى إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، ونكاح أزواجه من بعده.
قال اللّه تعالى : إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لما كان مقام البيوت خصوصا بيوت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقتضي حيطة شديدة ، حتى يكون(1/659)
ص : 660
الامتثال للأحكام الواردة فيه يتفق فيه الظاهر والباطن ، أعقب اللّه الآيات الواردة فيه بما يجعل الناس في تمام اليقظة ، وعلى أشد ما يكون من الحذر ، ذلك أنه نبههم إلى أنّ علمه قد أحاط بخفيات النفوس ، فضلا عما يظهر منها ، وذلك تهديد شديد يقطع ما يخالج النفوس من الوساوس ، وما يحيط بها من دوافع الشهوات ، فيعمل الناس على الإقلاع عن مجاراة الوساوس ، واستئصال نوازع الشهوات ، فإنّ اللّه مطّلع على ما ظهر وما خفي ، ومجاز كلّ إنسان بحسب ذلك العلم ، ومن ذا الذي يستطيع بعد هذا أن تحدثه نفسه بالدنو من الأذى ، واللّه القادر على الجزاء قد أحاط بكل شيء علما.
قال اللّه تعالى : لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) قد فهم مما تقدّم أنّ على نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يحتجبن عن الرجال ، ولا يظهرن عليهم ، وقد يفهم النصّ على عمومه ، فيتناول أقرب الناس إليهنّ ، وفي ذلك ما فيه من حرج ، بل قد يكون فيه قطع الرحم التي أمر اللّه أن توصل ، فجاءت هذه الآية الكريمة لبيان الأقارب الذين لا يحرم ظهور نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمامهم من غير حجاب.
وقد ذكر اللّه من ذلك ستة أصناف هم : الآباء ، والأبناء ، والإخوان ، وأبناء الإخوان ، وأبناء الأخوات ، والنساء المضافات إليهن ، وما ملكت أيمانهنّ.
وقد بقي من المحارم : الأعمام والأخوال من غير ذكر ، وقد ذهب العلماء في ذلك مذاهب :
فمنهم من يرى أنه اكتفي عنهم بذكر الآباء ، وقد جرى العرف بإطلاق الأب على العم والخال.
ومنهم من رأى أنّ في ذكر أبناء الإخوان رمزا إلى قرابة العمومة ، وفي ذكر أبناء الأخوات رمزا إلى قرابة الخئولة ، وذلك أن من يكون ابن أخي المرأة تكون المرأة عمته ، ومن يكون ابن أختها تكون هي خالته.
وعجب أن يرى بعض العلماء أنّ عدم التنصيص على الأعمام والأخوال يقتضي وجوب الاحتجاب منهم ، ويذهب في التعليل مذهبا أعجب ، فيقول : إنّ الأعمام والأخوال لو اطلعوا على النساء فربّما وصفوهنّ لأبنائهم؟
يا هؤلاء! أنتم تتكلمون في نساء متزوجات ، هن أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فهل يريد العم أن يفسد ابنة أخيه على زوجها - وهو المصطفى - ليزوجها لابنه ، وهل تقولون :
إنّ الحكم كذلك في سائر النساء ، ولا تعدون الأخوال والأعمام محارم في حق النظر ، أو تقولون إن ذلك خاص بنساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم؟! وإذا كان خوف الوصف يصلح علّة للحجاب ، فالوصف ممكن في الجميع ، لا للأقارب فحسب ، بل للأجانب ، فكلّ من(1/660)
ص : 661 أبحتم له النظر يمكن أن يصفها لكل من تحلّ له ، سواء أكان قريبا أم أجنبيا ، والعمة والخالة تريان من المرأة كل شيء إلا العورة ، ويمكن أنّ كلّ واحدة منهما تصف لابنها ما رأت من ابنة أخيها أو من ابنة أختها.
وكيف يمكن أن يكون إمكان الوصف علة في الحجاب ، وقد أباح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نظر المرأة لمن أراد أن يخطبها وقال : «انظر إليها ، فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما» «1».
وقد اختلف العلماء في تعيين المراد من النساء في قوله تعالى : وَلا نِسائِهِنَّ فروي عن ابن عباس ومجاهد أنّ المراد منهنّ المؤمنات ، وتكون إضافتهن إليهن باعتبار أنهن على دينهن ، ويكون ذلك دليل احتجاب نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من الكافرات.
ويرى بعضهم أنّ المراد منهن النساء القريبات ، وتكون إضافتهنّ إليهن لمزيد اختصاصهن بهن ، لما لهنّ من صلة القرابة ، وكذلك من يكون من النساء مضافا إليهن لأي صلة أخرى ، كالمتصرفات الخادمات.
وأما ما ملكت الأيمان فهو بظاهره ، ويعمّ الذكور منهم والإناث ، وتخصيص بعض العلماء له بالإماء يحتاج إلى دليل يدلّ على أنّ المرأة تحتجب من عبدها ، ويبقى ظاهر الآية معمولا به حتى يقوم الدليل.
وقد تكلم بعضهم بعد ذلك في دخول المكاتب ، وعدم دخوله ، وهو رقيق ما بقي عليه درهم ، فمن نظر إلى هذه الجهة قال : إنّ الآية تتناوله بظاهرها ، وإخراجه يحتاج إلى الدليل ، ومن نظر إلى أنّ اللّه إنما أباح الظهور للعبد لحاجة المرأة إلى خدمته ، ومن حيث إنه حرّ يدا ، وهو مشغول بسعيه في أداء بدل الكتابة ، فهو لا يقوم بخدمة سيدته ، ومن أجل ذلك لا يوجد المعنى الذي من أجله رفع الجناح في العبيد ، فلا يكون مما تتناوله الآية.
وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لما كان أمر الحجاب عن الأجانب ، والترخيص في تركه للأقربين المحارم يحتاج إلى كثير من الحذر والتقوى ، فقد يجر دخول الأقارب بيوت الأزواج إلى مفاسد ومنغّصات ، وقد يكون في الكلام مع الأجانب من وراء الحجب ما لا يقل عن تلك المفاسد. وتلك أشياء قد ترتكب مع التظاهر بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وليس من علاج لهذه الحال ، إلّا أن يلزم النساء خشية ربهنّ وتقواه.
وجه اللّه الخطاب للنساء بعد أن كان الحديث عنهنّ حديثا عن الغائبات ، حتى
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 397) ، كتاب النكاح ، باب النظر إلى المخطوبة حديث رقم (1087) ، وابن ماجه في السنن (1/ 599) ، 9 - كتاب النكاح ، 9 - باب النظر إلى المرأة حديث رقم (1865) ، والنسائي في السنن (5 - 6/ 378) ، كتاب النكاح ، باب إباحة النظر حديث رقم (3235).(1/661)
ص : 662
يكون لهنّ من علمهن بمراقبة اللّه وعلمه ما قد تنطوي عليه نفوسهن وقاية ودرعا يقيهن من الوقوع في مهاوي الفساد. وانظر كيف عقّب اللّه أمرهنّ بالتقوى بقوله : إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً يعلم علم شهود وحضور ومعاينة ، فيجازي على ما يكون ، وفي ذلك منتهى التحذير من مخالفة الأوامر والنواهي ، ولقد بلغ من المبالغة في تكريم أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن قال بعض العلماء بحرمة نظر نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهنّ مستترات. قال القاضي عياض «1» : فرض الحجاب مما اختصصن به ، فهو فرض عليهنّ بلا خلاف في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهنّ كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ، ولا إظهار شخوصهن وإن كنّ مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة. واستدلّ لذلك بما روي أنّ حفصة لما توفي عمر رضي اللّه عنه كان يسترها النساء أن يرى شخصها. ويرى ابن حجر بحق أنّ ذلك إن صحّ فلا دلالة فيه.
وقد كان نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يؤدين الحج بعد وفاته. ، ويطفن بالبيت ، ويسعين بين الصفا والمروة ، ولو قيل : إنّ الستر وعدم النظر إلى الشخوص أفضل ومندوب لكان شيئا يصح أن يصار إليه ، ويشهد له ما روي أنّ عمر رضي اللّه عنه أمر يوم وفاة زينب بنت جحش ألا يشهد جنازتها إلا ذو رحم محرم منها ، عملا بالحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليها ، وقالت : إنها رأت ذلك في بلاد الحبشة ، فصنعه عمر.
قال اللّه تعالى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) قد بين اللّه تعالى فيما سبق أنّ شأن المؤمنين ألا تكون منهم أذية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وذلك بعث على تكريمه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وحياطة لمقامه الشريف ، وهنا بيّن اللّه تعالى أنّ اللّه يكرم نبيّه على وجه التأكيد ، فكان ما هنا بمثابة العلة لما قبله ، فكأنه قيل : ما كان لكم أن تؤذوه ، لأنّ اللّه يصلّي عليه والملائكة ، وما دام الأمر كذلك فهو لا يستحق إلا الإكرام والتمجيد ، وأكّد الخبر اهتماما به ، وجيء به جملة اسمية لإفادة الدوام ، وكانت الجملة اسمية في صدرها فعلية في عجزها للإشارة إلى أنّ هذا التمجيد الدائم يتجدّد وقتا فوقتا على الدوام.
وقد ذكر في الآية أنّ اللّه وملائكته يصلّون على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأمر المؤمنين بأن يصلوا عليه ، وبأن يسلّموا تسليما. وقد عرض المفسّرون لبيان معنى صلاة اللّه على نبيه ، وصلاة الملائكة عليه ، وكذا صلاة الخلق وتسليمهم. ونحن متابعوهم فيما قالوا.
__________
(1) عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي أبو الفضل عالم المغرب ، وإمام أهل الحديث ، ولي قضاء سبتة توفي بمراكش مسموما قيل سمه يهودي ، انظر الأعلام للزركلي (5/ 99).(1/662)
ص : 663
فقيل : الصلاة من اللّه على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه ، هو مروي عن البخاري عن الربيع بن أنس ، ثم تعظيم اللّه له في الدنيا بإعلاء ذكره ، وإظهار دينه ، وإبقاء العمل بشريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته ، وإجزال الأجر والثواب له ، وإعطائه المقام المحمود. وهل من الملائكة الدعاء له. وقيل : هي من اللّه الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء.
وعلى القولين : فالصلاة من اللّه غير الصلاة من الملائكة ، وقد عبّر عنها بلفظ واحد أضيف إلى واو الجماعة يُصَلُّونَ فمن ذهب إلى منع الجمع بين الحقيقة والمجاز ذهب إلى أنّ في الآية حذفا تقديره هكذا : إنّ اللّه يصلّي ، وملائكته يصلون ، فتكون واو الجماعة خاصّة ، وذهب بعضهم إلى أنّ تعدّد الفاعل مؤذن بتعدّد الفعل ، فيكون الفعل مسندا إلى كلّ من الفاعلين.
وذهب جماعة إلى القول بأنّه من باب عموم المجاز ، لا من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، فيقدّرون معنى مجازيا عاما ، ينتظم أفرادا كثيرة ، ويكون كلّ فرد منها فردا حقيقيا من أفراد المعنى المجازي للعام ، ويقولون : إنّ هذا المعنى العام هو الاعتناء بالمصلّى عليه ، وهذا الاعتناء له أفراد ، فهو يكون من اللّه على وجه ، ويكون من الملائكة على وجه آخر.
وأما صلاة المؤمنين عليه ، فهي تعظيمهم لشأنه ، وذلك يكون بوجوه كثيرة : منها الدعاء له باللفظ الوارد في ذلك ، وقد جاءت كيفية الصلاة عليه من المؤمنين من طرق كثيرة ، وفيها صور من الصلاة مختلفة ، واختلافها يشعرك بأنّ الغرض ليس تحديد كيفية خاصّة ، وإنما هي ألوان من التعظيم ، وسنقتصر على بعض ما صحّ من هذه الكيفيات لأنّ استيعابها يطول.
روى الشيخان «1» وغيرهما عن كعب بن عجرة رضي اللّه عنه قال : قال رجل : يا رسول اللّه أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ قال : «قل اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد».
وأخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم «2» عن أبي حميد الساعدي أنهم
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 305) ، 4 - كتاب الصلاة ، 17 - باب الصلاة على النبي حديث رقم (66/ 406) ، والبخاري في الصحيح (6/ 32) ، 65 - كتاب التفسير ، 10 - باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ ... حديث رقم (4798).
(2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 356) ، 4 - كتاب الصلاة ، 17 - باب الصلاة على النبي حديث رقم (69/ 407) ، والبخاري في الصحيح (7/ 252) ، 8 - كتاب الدعوات ، 32 - باب الصلاة على النبي حديث رقم (6360) ، ومالك في الموطأ (1/ 165) ، وأحمد في المسند (5/ 424).(1/663)
ص : 664
قالوا : يا رسول اللّه كيف نصلّي عليك؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «قولوا : اللّهم صلّ على محمّد وأزواجه وذريّته ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وأزواجه وذريّته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».
وأخرج الجماعة «1» عن أبي سعيد الخدري قلنا : يا رسول اللّه هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال : «قولوا : اللهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك ، كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم».
وهناك روايات أخرى دون هذه في الصحة ، وتخالفها بالزيادة والنقص في مواضع كثيرة ، وما دام المراد تعظيم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأيّ عبارة تكون واردة من طريق صحيح كان لك أن تأخذ بها.
وأما التسليم : فقد قيل : إنّ المعنى أن اللّه أمر المؤمنين أن يقولوا السلام عليك يا رسول اللّه ، وقد اختلف في معنى السلام عليك فقيل : إنّ معناه دعاء له بالسلامة من الآفات والنقائص [أن ] تحيط به وتلازمه.
وقيل : بل السلام اسم من أسماء اللّه ، ومعنى كونه عليه : أنه حافظه ، حتى إن بعض من قال بهذا قال : إنّ الكلام على حذف مضاف ، والتقدير حفظ السلام عليك.
وقيل : بل السلام الانقياد وعدم المخالفة ، ومعنى كونه عليك : ملازمته ، وهو حينئذ دعاء للمسلم عليه بانقياد الناس له انقيادا ملازما بحيث لا يخالفونه.
قالوا : إنما أكّد التسليم بالمصدر ، ولم يؤكد الصلاة ، لأن الصلاة قد قرنت بما يؤكدها ، وهو الإخبار بأنّها تكون من اللّه ومن الملائكة ، فكان ذلك أبعث على أن تكون من الناس.
وخص المؤمنين بالتسليم ، لأنّ الآية وردت بعد الكلام في أذية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، والأذية المحدّث عنها إنما تكون من البشر.
وقيل : بل صلاة اللّه مشتملة على تسليمه ، وأما صلاة الناس فلا تشتمل عليه ، فلذلك طلب التسليم منهم.
ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر ، بل
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 32) ، 65 - كتاب التفسير ، 10 - باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ ...
حديث رقم (4798) ، وابن ماجه في السنن (1/ 292) ، 5 - كتاب إقامة الصلاة ، 25 - باب الصلاة على النبي حديث رقم (903) ، والنسائي في السنن (3 - 4/ 56) ، كتاب السهو ، باب نوع آخر من الصلاة على النبي حديث رقم (1291).(1/664)
ص : 665
لقد حكى القرطبي «1» الإجماع على ذلك ، وذلك عملا بما يقتضيه الأمر صَلُّوا من الوجوب ، وتكون الصلاة والسلام في ذلك ككلمة التوحيد ، وذلك أنك تعلم أنّ الصحيح أنّ الأمر لا يقتضي التكرار ، وإنما هو للماهية المطلقة عن قيد التكرار والمرّة ، وحصوله بالمرة ضرورة من ضرورات الحصول.
وذهب بعضهم إلى القول بوجوب الصلاة والتسليم في التشهد ، وقيل : هي واجبة في الصلاة من غير قيد بمكان. وقيل : يجب الإكثار منها من غير تقيّد بعدد ، وقيل : تجب في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره فيه ، وقيل : تجب كلما ذكر.
ولعل هذا القول من قائليه مبنيّ على أنّ الأمر يفيد التكرار ، ولعلهم يستدلون بالأحاديث الترغيبية والترهيبية الواردة في فعلها وتركها ، وأنت لو اطلعت على هذه الأحاديث لفهمت من صيغتها أنّها لمجرد الترغيب ، وأنّها ككل الحسنات تتضاعف ، انظر إلى
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «من صلّى عليّ واحدة صلّى اللّه عليه عشرا» «2» و«من صلّى عليّ عشرا صلّى اللّه عليه مائة»
فإنك واجد أنّه متفق مع قوله تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام : 160] وما قال أحد إلا أن هذا ترغيب في الإحسان.
وعلى كلّ فالآية لا دلالة لها إلا على الوجوب مرة ، فمن زاد على هذا فعليه الدليل ، ونحن لما يدل عليه ملتزمون.
وأخيرا فليلتمس القائلون بغير ما تدل عليه الآية دليلهم في غيرها ، فإن قام دليل على وجوب الصلاة والسلام في التشهد وجب ، وإن دلّ على ختام الصلاة وجب ، وإلا فالآية بمنأى عن هذا كله.
قال اللّه تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) هذا عود إلى تأكيد النهي عن أذى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، بعد الأمر بالصلاة والتسليم عليه اقتضته العناية الكاملة بشأن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقد قيل : إنّ المراد بأذى اللّه ورسوله ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر والعصيان ، وقيل : بل إيذاء اللّه تعالى : ما يكون من قبيل قول اليهود والنصارى يد اللّه مغلولة ، والمسيح ابن اللّه ، وعزير ابن اللّه ، وجعل الأصنام شركاء للّه ، وإيذاء الرسول : انتقاصه بوصفه بالشّعر والسّحر والجنون. وقيل : إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم المراد هنا هو ما كان من طعنهم في نكاح صفية بنت حيي ، إلى غير ذلك ، ولا مانع أن يكون كلّ ذلك مرادا.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن المشهور بتفسير القرطبي ، طبعة تصوير ، بيروت دار المعرفة (14/ 232 - 233).
(2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 306) ، 4 - كتاب الصلاة ، 17 - باب الصلاة من النبي حديث رقم (408).(1/665)
ص : 666
وقيل : إن المقصود هنا إيذاء الرسول خاصة صلّى اللّه عليه وسلّم وذكر اللّه عزّ وجلّ معه للتشريف ، والإشارة إلى أنّ ما يؤذي الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لخليق به أن يؤذي اللّه تعالى ، ولا يرضيه ، كما جعلت طاعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ومحبته طاعة اللّه تعالى ومحبته.
واللعن الطرد والإبعاد من رحمة اللّه ، وبعد ذلك فهناك العذاب المهين المحقّر ينتظر في الآخرة.
قال اللّه تعالى : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) لما أنهى الكلام في شأن الذين يؤذون اللّه ورسوله ناسب ذلك أن يقرن به ذكر الذين يتعرّضون للمؤمنين بالأذى ، والأذى هنا مطلق كالأذى في الآية السابقة ، يتناول كل ما يصدق عليه اسم الأذى ، سواء أكان بالقول أم بالفعل ، وسواء أكان إيذاء للعرض أو الشرف أو المال ، فإنّ الذين يلحقون بالمؤمنين أيّ نوع من أنواع الأذى يستحقون الجزاء الذي ذكر في الآية الكريمة ، لا يخصّ منه شيء إلا ما خصّه اللّه تعالى ، وهو أن يكون الإيذاء جزاء على الاكتساب ، كالإيذاء بالقصاص ، والإيذاء بقطع اليد في السرقة ، وكالإيذاء بالتعزيرات المختلفة ، وكالحقّ الوارد في
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا اللّه ، فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها» «1».
وقد فهم أبو بكر رضي اللّه عنه أنّ الزكاة حقّ المال ، فقاتل مانعيه من أجله ، وقال : واللّه لو منعوني عناقا كانوا يعطونه لرسول اللّه لقاتلتهم عليه. وحاجّه في ذلك عمر ، فقال له : إلا بحقها ، والزكاة حق الأموال ، فانشرح صدره لما رآه أبو بكر.
وقد يخطر لك أن تقول : لما ذا قيل : بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا هنا ، ولم يقل في الآية المتقدمة مثله؟
ونقول : لأنّ اكتساب الأذى هناك لا يكون ، أما العباد فكل يوم يعدو بعضهم على بعض.
والمراد بالبهتان الفعل الشنيع ، والإثم المبين البيّن الظاهر. واحتماله : حمله وفي التعبير بالاحتمال إشارة إلى ثقل ما يحملون من أوزار.
ويذكر المفسّرون هنا أسبابا لنزول الآية «2» ، فيقولون : هي في قوم آذوا عليا أو
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 5) ، 1 - كتاب الإيمان ، 8 - باب حديث رقم (20 و21) ، و(1/ 53) ، 8 - باب الأمر بقتال الناس حديث رقم (36/ 22) ، والبخاري في الصحيح (1/ 14) ، 2 - كتاب الإيمان ، 17 - باب حديث رقم (25) و(1/ 118) ، 8 - كتاب الصلاة ، 28 - باب فصل استقبال القبلة حديث رقم (392).
(2) انظر تفصيله في الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 220 - 521).(1/666)
ص : 667
عائشة ، وقيل في شأن النبي وصفيّة ، وقيل : في قوم كانوا يتّبعون النساء إذا برزن لحاجتهنّ. وهي بعد ثبوتها لا تقتضي حمل الآية على واحد منها ، وقد تكون الآية نزلت بعد تجمّع الأسباب.
وقد روى البيهقي في «شعب الإيمان» عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأصحابه : «أيّ الرّبا أربى عند اللّه» قالوا : اللّه ورسوله أعلم. قال :
«أربى الربا عند اللّه استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا الآية.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) جرى حكم العرف بتخصيص النساء بالحرائر ، وسبب النزول الآتي يقتضيه ، وآخر الآية ظاهر فيه.
والإدناء : التقريب ، أدناني منه : قرّبني منه. وهو هنا مضمّن معنى الإرخاء والسدل ، ولذا عدّي بعلى ، يقال : إذا زلّ الثوب عن وجه المرأة : أدني ثوبك على وجهك ، أي أرخيه واسدليه. والجلابيب جمع جلباب ، وقد اختلف أهل التأويل في الجلباب على ألفاظ متقاربة عمادها أنه الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كله ، ويتأتى معه رؤية الطريق إذا مشت.
روى جماعة من المفسرين أنّه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء ، وكان في المدينة فسّاق لا يزالون على عاداتهم في الجاهلية ، يتعرّضون للإماء ، وربما تعرضوا للحرائر ، فإذا قيل لهم يقولون : حسبناهن إماء فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي ، فيستترن ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهنّ مراض القلوب.
واختلف أهل التأويل في كيفية هذا التستر ، فأخرج ابن جرير «1» وغيره عن ابن سيرين أنه قال : سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فرفع ملحفة كانت عليه ، فتقنّع بها ، وغطّى رأسه كلّه حتى بلغ الحاجبين ، وغطّى وجهه ، وأخرج عينه اليسرى من شقّ وجهه الأيسر ، وروي مثل ذلك عن ابن عباس.
وفي رواية أخرى عنه أنها تلوي الجلباب فوق الجبين ، وتشدّه ، ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها ، لكن تستر الصدر ومعظم الوجه.
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية
__________
(1) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (22/ 33).(1/667)
ص : 668
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء من الأنصار كأن على رؤوسهنّ الغربان من أكسية سود يلبسنها.
ومعنى الآية : أنّ اللّه جلّ شأنه يأمر الحرائر إذا خرجن لحاجة أن يتقنّعن ويستترن ، حتى يميّزن من الإماء ، فلا يتعرّض لهنّ أحد بالإيذاء. هذه طريق الجمهور في تأويل الآية.
ومن المعروف أن هذه الآية نزلت بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب ستر العورة ، فلا بد أن يكون الستر المأمور به هنا زائدا على ما يجب من ستر العورة ، ولذلك ترى عبارات المفسرين على اختلاف ألفاظها متحدة في أنّ المراد بالجلباب الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كلّه من فوق ثيابها ، كالملاءة المعروفة في عصرنا.
وعلى ذلك يكون الأمر بإدناء الجلابيب من الأدب الحسن ، زيادة في الاحتياط ، ومبالغة في التستر والاستعفاف ، وبعدا عن مظان التهمة والارتياب.
ولا يعدّ في إجراء الأمر على ظاهره من وجوب لبس الجلباب إذا كان خروج المرأة بدونه - وإن كانت مستورة العورة - مدعاة للفتنة ، وسببا في تعرّض الفساق لها ، وإيذائها بالرفث وفحش القول.
وقد يقال : إنّ تأويل الآية على هذا الوجه ، وقصرها على الحرائر ، قد يفهم منه أنّ الشارع أهمل أمر الإماء ، ولم يبال بما ينالهنّ من الإيذاء ، وتعرض الفسّاق لهن في الطرقات ، مع أنّ في ذلك من الفتنة ما فيه : فهلا كان ذلك التصون والتستر عامّا في جميع النساء؟
الجواب : أنّ الإماء بطبيعة عملهن يكثر خروجهن ، وترددهنّ في الأسواق ومحالّ البياعات في خدمة سادتهن ، وقضاء مصالحهم ، فإذا كلّفن أن يتقنّعن ، ويلبسن الجلباب السابغ كلّما خرجن ، كان في ذلك حرج ومشقة عليهن ، وليس كذلك الحرائر ، فإنهنّ مأمورات بالاستقرار في البيوت ، وعدم الخروج منها إلا في أوقات الحاجة الشديدة ، فلم يكن عليهنّ من الحرج والمشقة في التقنّع والتستر ما على الإماء.
ولقد راعى الشارع هذه الحال ، فنهى الناس أن يؤذوا المؤمنين والمؤمنات جميعا ، سواء الحرائر والإماء ، وتوعّد المؤذين بالعذاب الأليم والعقاب الشديد.
ومع هذا فإنّ الشرع لم يحظر على الإماء التقنع والتستر ، ولكنّه لم يكلفهن ذلك دفعا للحرج والعسر. فللأمة أن تتقنع وتلبس الجلباب السابغ متى تيسر لها ذلك. وأما نهي عمر رضي اللّه عنه الإماء في زمانه ، وزجره إياهنّ عن التقنع ، فإنما كان ذلك من السياسات الشرعية ، لأنّه كان يخشى إذا هنّ تشبهن بالحرائر في لباسهن وزيهنّ أن يعتدن الرقة ، ويضعفن عن الخدمة والعمل ، وتكثر مؤنهنّ على سادتهنّ.(1/668)
ص : 669 وبعد فقد اختار أبو حيان «1» في تأويل الآية الكريمة وجها غير الوجه الذي سلكه الجمهور ، فجعل الأمر بإدناء الجلابيب موجها إلى النساء جميعا ، سواء الحرائر والإماء ، وجعل معنى قوله تعالى : ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أنهنّ يعرفن بالعفة والتصون ، فلا يتعرّض لهنّ ، ولا يتلقين بما يكرهن ، فإنّ المرأة إذا بالغت في التستر والتعفف لم يطمع فيها أهل السوء والفساد ، وهو رأي تبدو عليه مخائل الجودة.
وفي «الطبقات الكبرى» أنّ أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية - على رأي الجمهور في تأويلها - أنّ ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن ، وإن لم يفعله السلف ، لأن فيه تمييزا لهم ، حتى يعرفوا ، فيعمل بأقوالهم.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيغفر لمن امتثل أمره ما عسى أن يصدر منه من الإخلال بالتستر رَحِيماً بعباده ، حيث راعى في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات ، وأرشدهم إلى هذه الآداب الحسنة الجميلة.
__________
(1) في تفسيره البحر المحيط (7/ 250).(1/669)
ص : 670
من سورة سبأ
قال اللّه تعالى في قصة سليمان عليه السلام : يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)
هذا شيء من قصة نبي اللّه سليمان عليه السلام المذكورة في هذه السورة ، ولتعلم سياق الحديث فيها نذكر لك ما قبل هذه الآية. قال اللّه تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) [سبأ : 10 - 12].
فضمير يَعْمَلُونَ عائد على الجن ، وضمير (له) يعود على سليمان. فكما سخّر اللّه لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، وسخّرها عاصفة تجري إلى مسافات بعيدة ، سخّر له الجن ، وجعلهم طوع أمره ، ورهن مشيئته ، يعملون صنوفا مما يشاء من أصناف يتعذّر عملها على البشر في ذلك الوقت ، وبالسرعة التي يعملها بها الجن ، ومن هذه الأشياء المحاريب : وهي جمع محراب ، وهي القصور الشامخات ، أو البيوت المرتفعة ، أو أماكن العبادة ، وقد ذكر اللّه المحراب في القرآن في مواضع في سورة آل عمران وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمران : 37] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آل عمران : 39] وفي سورة ص وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) [ص : 21].
ويقول الذين يفسرون المحراب بالقصر : إنه سمّي بذلك لأنه يحارب من أجله.
وقد يبدو من قوله تعالى : يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أنّه المكان المعدّ للصلاة. وأما المحاريب المعروفة الآن بما يدخل في الحائط على سمت القبلة ليتبيّن الناس منها جهة القبلة. فيقول المفسرون : إنها شيء لم يكن قد عرف في الصدر الأول.
غير أنّه قد يرجّح كون المحاريب بمعنى القصور الشامخات أنها ذكرت على أنها مما كان يعمله الجنّ لسليمان ، وقد يكون عمل القصور مما يستعصي على الناس في ذلك الزمن ، لجهلهم بفن العمارة. والتماثيل جمع تمثال بكسر التاء ، وهو بوزن تفعال ، ولم يرد هذا الوزن في القرآن إلا في لفظين (تلقآء) و(تبيان).(1/670)
ص : 671
وتمثال الشيء مثاله وصورته أيا كان المثال والصورة ، ذات جسم أو ليست ذات جسم ، فمثال الشيء ما يماثله ويحكيه.
والجفان جمع جفنة : إناء يوضع فيه الطعام ، وقيل : إناء عظيم.
والجواب أصله الجوابي جمع جابية ، وهي الحوض العظيم. والقدور جمع قدر ، وهو ما يطبخ فيه الطعام ، وراسيات : ثابتات ، إشارة إلى أنها قدور عظيمة لا تنقل من مكانها من ثقلها.
وقوله تعالى : اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً إمّا جملة مستأنفة بتقدير القول ، أي قلنا :
اعملوا يا آل داود شكرا ، أو حالية من فاعل (سخّرنا) أي سخّرنا قائلين اعملوا ، و(شكرا) مصدر وقع موقع الحال ، أي اعملوا شاكرين ، وقيل : هو مفعول لأجله ، وقيل غير ذلك.
والشكور هو الذي يشكر في جميع أحواله من الخير والضر ، قيل : هو المتوفّر على أداء الشكر ما وسعه بقلبه ولسانه لا يني.
هذا وقد جاء ذكر سليمان في القرآن الكريم ست عشرة مرة في ست من سوره :
في البقرة ، وفي النساء وفي الأنعام ، وفي الأنبياء ، وفي النمل ، وفي سبأ ، وفي ص.
ولم يجئ هذا الذكر لتوفية قصة بتمامها أو قصص ، وإنما هو تعداد لآلاء اللّه على سليمان :
منها ذكاؤه وبصره النافذ في القضاء والحكم وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء : 78].
ومنها تعليمه منطق الطير وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل : 16]. ومنها تسخير الرياح له ، تجري بأمره رخاء حيث أصاب.
ومنها إسالة عين القطر وهو النحاس المذاب ، والقرآن في هذا يحدّث عن عملية صهر المعادن.
ومنها تسخير الجن ، وقد جاء الكلام عن تسخير الجن في القرآن الكريم بالآية التي معنا ، وفي قوله : وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) [ص : 37]. وفي قوله : وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [النمل : 17] وقد صرّح القرآن الكريم في الآية التي معنا بأنّهم كانوا يعملون بين يديه بإذن ربه ، لا يستطيعون أن يحيدوا عن ذلك وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ثم تحدّث عما كانوا يعملون فقال : يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ إلخ.
هذا وقد يفهم من الآية - بل هي صريحة في ذلك - أنّ نبي اللّه سليمان كان(1/671)
ص : 672
يتخذ التماثيل ، فالقرآن صريح في امتنان اللّه على سليمان بأنّه سخّر له الجن لتعمل له ما يشاء عمله ، من المحاريب والتماثيل ، والجفان ، والقدور الراسيات. صحيح أنّه لم يذكر في القرآن صراحة أنّ الجن عملت له المحاريب والتماثيل والجفان ، ولكنّ تخصيص هذه الأشياء بالذكر في معرض الامتنان دليل على أنّ سليمان كان يبغي صنع هذه الأشياء ، وهو قد لا يجد من يصنعها ، أو يحذق صنعها ، فسخّر له الجن لعملها ، وأنّه يمتن عليه بذلك ، وعلى هذا ففي تسخير اللّه الجن لعمل ما يشاء سليمان من التماثيل إذن من اللّه لسليمان باتخاذها ، وهذا دليل على أنّ اتخاذها مشروع عند سليمان ، فهل الأمر كذلك في شريعتنا ، ذلك هو الذي يجمل بنا أن نتكلم فيه فنقول :
إنّ القرآن نعى على التماثيل يعكف لها ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الأنبياء : 52] وندّد بمن يتخذون الأصنام والأوثان آلهة ، وفي القرآن من قصص إبراهيم في تحطيم الأصنام ما هو معروف ، وقد ورد أنّ رسولنا الأعظم حطّم الأصنام التي كانت حول الكعبة «1» ، والتي كانت على الصفا والمروة ، والدين الإسلامي دين التوحيد ، وعدوّ الشرك ، وليس في الإسلام ذنب أعظم من الشرك إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء : 48 و116].
والسنة قد جاءت بالنعي على التصوير والمصورين ، وبالنهي عن اتخاذ الصور ، وبالتنفير منها : وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة في الموضوع على وجوه كثيرة من الاختلاف. ولكنّها ترجع إلى خمس أمهات ننقلها لك عن القاضي أبي بكر بن العربي ، وقد كنا أحببنا أن ننقلها عن البخاري ، لكنّا وجدنا إرجاعها إلى الأمهات الخمس ويرجع الفضل فيه للقاضي أبي بكر ، فآثرنا الأخذ عنه ، فإنّ البخاريّ ذكرها في أبواب على عادته. قال القاضي رضي اللّه عنه «2» : إنّ أمهات الأحاديث خمس أمهات :
الأم الأولى : ما روي عن ابن مسعود وابن عباس «أنّ أصحاب الصور يعذّبون ، أو هم أشدّ الناس عذابا» «3». وهذا عامّ في كل صورة.
الأم الثانية :
روي عن أبي طلحة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 109) ، 64 - كتاب المغازي ، 49 - باب أين ركز النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حديث رقم (4287). [.....]
(2) انظر أحكام القرآن لابن العربي ، بيروت دار الفكر. (4/ 1589).
(3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1670) ، 37 - كتاب اللباس ، 26 - باب تحريم تصوير صورة حيوان حديث رقم (98/ 2109) ، والبخاري في الصحيح (7/ 85) ، 71 - كتاب اللباس ، 89 - باب عذاب المصورين حديث رقم (5950).(1/672)
ص : 673
ولا صورة» «1» زاد زيد بن خالد الجهني : «إلا ما كان رقما في ثوب» «2».
وفي رواية عن أبي طلحة نحوه ، فقلت لعائشة : هل سمعت هذا؟ فقالت : لا ، وسأحدثكم ، خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في غزاة ، فأخذت نمطا فسترته على الباب ، فلما قدم ورأى النّمط عرفت الكراهة في وجهه ، فجذبه حتى هتكه ، وقال : «إنّ اللّه لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين» قالت : فقطّعت منه وسادتين ، وحشوتهما ليفا ، فلم يعب ذلك عليّ «3».
الأم الثالثة :
قالت عائشة : كان لنا ستر فيه تمثال طائر ، وكان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «حوّلي هذا ، فإني كلّما رأيته ذكرت الدنيا» «4».
الأم الرابعة :
روي عن عائشة قالت : دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا مستترة بقرام فيه صورة ، فتلوّن وجهه ، ثم تناول الستر فهتكه ، ثم قال : «إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبّهون خلق اللّه» «5» قالت عائشة : فقطّعته ، فجعلت منه وسادتين.
الأم الخامسة : قالت عائشة : كان لنا ثوب ممدود على سهوة فيها تصاوير ، فكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يصلي إليه ، ثم قال : أخّريه عني ، فجعلت منه وسادتين فكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يرتفق بهما «6».
وفي رواية في حديث النمرقة. قالت : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسّدها ، فقال : «إنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون يوم القيامة ، وإنّ الملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة» «7».
هذه هي الأمهات الخمس التي جمعها ابن العربي ، ومن الحقّ أن نذكر لك ما
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1669) ، 37 - كتاب اللباس ، 26 - باب تحريم تصوير صورة حيوان حديث رقم (84/ 2106) ، والبخاري في الصحيح (7/ 84) ، 71 - كتاب اللباس ، 88 - باب التصاوير حديث رقم (5949).
(2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1665) ، 37 - كتاب اللباس ، 26 - باب تحريم تصوير الحيوان حديث رقم (83/ 2106) ، والبخاري في الصحيح (71/ 87) ، 77 - كتاب اللباس ، 92 ، باب من كره القعود ، حديث رقم (5958).
(3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1666) ، 37 - كتاب اللباس ، 26 - باب تصوير الحيوان حديث رقم (2107).
(4) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1666) ، 37 - كتاب اللباس ، 26 - باب حديث رقم (2107) و(88/ 000).
(5) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1666) ، 37 - كتاب اللباس حديث رقم (92/ 000) ، والبخاري في الصحيح (7/ 87) ، 77 - كتاب اللباس ، 95 - باب من لم يدخل بيتا حديث رقم (5961).
(6) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1166) ، 37 - كتاب اللباس ، 26 - باب حديث رقم (92/ 000) ، والبخاري في الصحيح (7/ 86) ، 77 - كتاب اللباس ، 93 - باب كراهية الصور حديث رقم (5954).
(7) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1666) ، 37 - كتاب اللباس ، 26 - باب حديث رقم (96/ 000) ، والبخاري في الصحيح (7/ 87) ، 77 - كتاب اللباس ، 95 - باب من لم يدخل حديث رقم (5961).(1/673)
ص : 674
جمع به بين هذه الأحاديث قال : تبين بهذه الأحاديث أنّ الصور ممنوعة على العموم ، ثم جاء إلى ما كان رقما في ثوب ، فخصّ من جملة الصور ، ثم
يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعائشة في الثوب المصور : «أخّريه عني ، فإني كلّما رأيته ذكرت الدنيا»
فثبتت الكراهة فيه.
ثم بهتك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الثوب المصوّر على عائشة منع منه ، ثم بقطعها لها وسادتين ، حتى تغيرت الصورة ، وخرجت عن هيئاتها ، بأنّ جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز ، لقولها في النمرقة : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها. فمنع منه ، وتوعّد عليها.
وتبين بحديث الصلاة إلى الصورة أنّ ذلك كان جائزا في الرقم في الثوب ، ثم نسخة المنع ، فهكذا استقرّ فيه الأمر واللّه أعلم.
هكذا يرى ابن العربي أنّ المنع في الأول كان عاما ، ثم استثنيت منه أشياء رخّص فيها ، ثم زال ذلك بالرجوع إلى المنع في الكل ، ونحن نرى أنّ هذه الطريقة في الجمع بعيدة. إذ فيها إثبات النسخ لجواز اتخاذ بعض الصور ، والرجوع إلى الحظر الذي ادعى أنه عام.
ومعلوم أنّ النسخ يشترط فيه العلم بالتاريخ ، وإلا إذا كان يكفي الإمكان فلقائل أن يقول : إن أحاديث المنع يحتمل أن تكون متقدمة ، ثم جاءت أحاديث الترخيص.
ومن أجل ذلك نرى أنّ الذي يذهب إليه ابن العربي بعيد ، وأنّ الأولى في الجمع أن يقال : تحمل النصوص التي فيها الحظر بإطلاق على ما كان منها مجسّدا لذي روح ، ويستأنس له
بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في بعضها : «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق اللّه»
وروي من طريق آخر : «يقال لهم : أحيوا ما خلقتم»
بل في بعضها ما هو تحد قوي بنفخ الروح
«يعذّب حتّى ينفع فيه الروح ، وما هو بنافخ» «1».
وبهذا يكون
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون»
مرادا منه الذين يصوّرون صور الأجسام ذوات الروح إذا كانت على حالة بحيث يمكن أن يقال :
إن صاحبها يضاهي بها خلق اللّه ، وهذا أيضا إنما يكون إذا كانت كاملة الخلق بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح ، وإذا يكون تصوير الجمادات كالجبال والأنهار والكائنات النامية التي ليست بذات روح خارجة من الحظر ، لأنّها ليست مما تناولها النصّ بإشارة
«يشبهون خلق اللّه»
، وبإشارة
«يقال لهم أحيوا ما خلقتم»
وحتى
«ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ»
إذ كل هذه الجمادات والنباتات لا تجتمع فيها كلّ هذه الصفات ، فتكون
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1671) ، 37 - كتاب اللباس ، 26 - باب حديث رقم (100/ 2110) ، والبخاري في الصحيح (3/ 54) ، 34 - كتاب البيوع ، 104 - باب بيع التصاوير حديث رقم (2225).(1/674)
ص : 675
خارجة من الحظر ، وتبقى التماثيل المجسّمة للحيوان على هيئته الكاملة محظورات ، وهي التي تكون مرادة من النص.
وهذا تأويل قريب بالنسبة للتأويلات الأخرى ، كتأويل من يحمل
«لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة»
على بيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة ، وكتأويل من يقول : إنّ معنى
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «المصورون يعذّبون»
وما ماثله في المعنى : أن المراد من يجعلون للّه صورة ، فإن هذه تأويلات بعيدة ، فلا دليل على التخصيص بالنسبة للأول ، ولا يتفق مع بقية الأحاديث والأخبار بالنسبة للثاني.
بقيت الأحاديث المتعارضة فيما كان رقما في ثوب ، وما ماثله من الرسوم التي لا ظلّ لها ، فقد روي في بعض الروايات عدم دخول الملائكة بيتا يحوي الكلب أو الصورة بإطلاق ، وفي بعضها استثناء الرقم في الثوب ، وفي بعضها أنه رأى صورة الطائر في ثوب اتّخذ ساترا ، فهتكه ، أو فغضب ، وقال : إنا لم نؤمر بكسوة الحجر والطين ، وفي بعضها أنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون ، وكل هذه الروايات تعارض الرواية التي فيها استثناء الرقم في الثوب ، وتوافق الروايات التي جائت بالإطلاق ، ولكنّا نقول : إنّ الجمع بينها ممكن ، إذ من الممكن أن يقال : إنّه غضب لمّا رأى الصورة معلقة أمام المارّة يستقبلونها ، فربما أشعر وضعها هذا بتعظيمها ، ولو كانت على غير هذا الوضع ، ووضعت للاستعمال فلا بأس. وقد ارتفق بها وسادة.
وأما تأويل ابن العربي التوسد بأن الصورة خرجت عن هيئتها ، فلم يوجد في الأحاديث ما يدلّ عليه.
ويؤيّد هذا المعنى حديث الصورة التي كانت أمامه في الصلاة ، فأمر بإزاحتها قائلا : «كلّما رأيتها تذكّرت الدنيا» يعني أنّ هذا نوع من الزينة التي تشغل البال.
وكذلك يدلّ استعماله للوسادة التي اتّخذت من الساتر الذي كان فيه الصورة ، وأمر بإزاحته ، على أنّ المدار في النهي عن الصور والتنفير منها : ألا تتّخذ فتعظّم ، فإنّ ذاك قد يجرّ إلى عبادتها ، فالنهي عنها من باب سد الذرائع ، فإن انتفى أن تكون الصورة في وضع يشعر بالتعظيم ، وانتفى قصد التعظيم ، فقد زال النهي ، كما دلّ على ذلك فعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وارتفاقه بالوسائد التي فيها الصور.
ولعلّك تقول : ما دام الأمر كذلك فلنطرد الباب على وتيرة واحدة ، فنجري الكلام في التماثيل المجسمة لذي الروح على هذا الوجه ، فنقول : فرق بين هذه وهذه ، فإنّ الصورة المجسّمة تبقى عصورا طويلة ، وقد يفضي التقادم إلى نسيان المعنى الأصلي من اتخاذها ، وينقلب الناس يعبدونها ، ويعكفون عليها.
قال ابن العربي : والذي أوجب النهي في شريعتنا - واللّه أعلم - ما كانت عليه(1/675)
ص : 676
العرب من عبادة الأوثان والأصنام ، فكانوا يصوّرون ويعبدون ، فقطع اللّه الذريعة وحمى الباب.
وقد ورد في كتب التفسير في شأن يغوث ، ويعوق ، ونسر ، وود ، وسواع : أنّهم كانوا قوما صالحين ، ثم صوّروا بعد موتهم تذكيرا بهم وبأعمالهم ، ثم انتهى الحال آخر الأمر إلى عبادتهم.
قال ابن العربي : وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات ميت صوّروه من خشب في أحسن صورة ، وأجلسوه في موضعه من بيته ، وكسوه بزّته إن كان رجلا ، وحليتها إن كانت امرأة ، وأغلقوا عليه الباب ، فإذا أصاب واحدا منهم كرب ، أو تجدّد له مكروه فتح الباب عليه ، وجلس عنده يبكي ، ويناجيه بكان وكان ، حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه ، ثم يغلق الباب عليه ، وينصرف عنه ، وإن تمادى بهم الزمان تعبّدوها من جملة الأصنام والأوثان «1».
بعد هذا نقول : إنه ليس لأحد أن يحتجّ بقصة سليمان في التماثيل ، فإنّها وإن كانت في شريعة من قبلنا ، فقد وجد المغيّر في شريعتنا ، وشريعة من قبلنا إنما تكون شريعة لنا إذا لم يوجد الناسخ ، وقد وجد ، على أنّ من الممكن أن يقال : إن التماثيل التي كانت في ذلك العهد يحتمل أن تكون مما أباحت شريعتنا اتخاذه ، فإن لم يصلنا من طريق قاطع أنّ التماثيل التي كانت ، إن كانت هناك تماثيل اتخذت ، كانت تماثيل لذي روح ، وحينئذ يزول الإشكال.
وإننا لننقل لك عن العلامة ابن حجر في شرحه للبخاري آراء العلماء في اتخاذ الصور تتميما للفائدة قال رحمه اللّه : نقلا عن ابن العربي : حاصل ما في اتخاذ الصور أنّها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع ، وإن كانت رقما فأربعة أقوال :
الأول : يجوز مطلقا ، عملا
بحديث : «إلا رقما في ثوب».
الثاني : المنع مطلقا.
الثالث : إن كانت الصورة باقية بالهيئة ، قائمة الشكل حرم ، وإن كانت مقطوعة الرأس ، أو تفرّقت الأجزاء جاز ، قال : وهذا هو الأصح.
الرابع : إن كانت مما يمتهن جاز ، وإن كان معلقا لم يجز.
ونقل عن النووي أنّ جواز اتخاذ الصور إنما هو إذا كانت لا ظلّ لها ، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس ، أو يمتهن بالاستعمال ، كالمخاد والوسائد. والقول بجواز ذلك مروي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي.
__________
(1) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (4/ 1588).(1/676)
ص : 677
ونقل عن ابن العربي أيضا أنّ ذات الظل حرّمت بالإجماع ، سواء كانت مما يمتهن أم لا. قال ابن حجر : واستثني من ذلك لعب البنات.
ولعلك تريد بعد ذلك أن تعرف حكم ما يسمى بالتصوير الشمسي أو الفتوغرافي فنقول : يمكنك أن تقول : إنّ حكمها حكم الرقم في الثوب ، وقد علمت استثناءه نصا. ولك أن تقول : إن هذا ليس تصويرا ، بل حبس للصورة ، وما مثله إلا كمثل الصورة في المرآة ، لا يمكنك أن تقول : إن ما في المرآة صورة ، وأن أحدا صوّرها ، والذي تصنعه آلة التصوير هو صورة لما في المرآة ، غاية الأمر أنّ مرآة الفتوغرافية تثبت الظلّ الذي يقع عليها ، والمرآة ليست كذلك. ثم توضع الصورة أو الخيال الثابت في العفريتة في حمض خاص ، فيخرج منه عدة صور. وليس هذا بالحقيقة تصويرا فإنّه إظهار واستدامة لصور موجودة ، وحبس لها عن الزوال ، فإنّهم يقولون : إنّ صور جميع الأشياء موجودة ، غير أنها قابلة للانتقال بفعل الشمس والضوء ما لم يمنع من انتقالها مانع ، والحمض هو ذلك المانع.
وما دام في الشريعة فسحة بإباحة هذه الصور كاستثناء الرقم في الثوب فلا معنى لتحريمها ، خصوصا وقد ظهر أنّ الناس قد يكونون في أشد الحاجة إليها.
ولعلنا بعد هذا نكون قد وفّينا الموضوع ما يستحقّ ، واللّه الهادي إلى سواء السبيل.(1/677)
ص : 678
من سورة ص
قال اللّه تعالى : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
وهذه قصة من قصص حياة نبي اللّه أيوب عليه السلام ، ولقد عرض القرآن الكريم لذكر أيوب عليه السلام في أربعة مواضع منه. فقد جاء ذكره في سورة النساء [163] في عداد الأنبياء الذين أوحي إليهم.
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163).
وجاء ذكره في سورة الأنعام [83 ، 84] في عداد الأنبياء من ذرية نوح عليه السلام : وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84).
وجاء ذكره وذكر كشف الضرّ عنه في سورة الأنبياء [83 ، 84] بعد ذكر تسخير الريح عاصفة لسليمان ، وعمل الجن له في قوله تعالى : وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84).
وجاء ذكره في سورة ص [41 - 44] في قوله تعالى : وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) إلى وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44).
فأنت ترى أنّ أيوب قد ذكر مرّة في عداد النبيين الذين أوحي إليهم ، ومرّة في عداد من كان من ذرية نوح من النبيين ، ومرّة ثالثة في سورة الأنبياء حيث ذكر بعض ما أصابه من ضرّ مسه ، وقد سأل أرحم الراحمين كشفه ، فاستجاب له ، فكشف ما به من ضرّ ، وآتاه أهله رحمة من عنده وذكرى للعابدين.
وقد جاء ذكره في سورة ص تفصيلا بعض التفصيل لهذا الضر الذي أصابه ، وبيانا لطريق كشف الضرّ عنه ، فقد جاء في تفصيل الضرّ أنّ الشيطان مسّه بنصب(1/678)
ص : 679
وعذاب ، والنصب : بضم النون وإسكان الصاد : التعب ، كالنّصب بالفتح فيهما ، والعذاب : النكال.
وجاء في بيان كشف الضر عنه أمره أن يركض برجله ، والقول له : هذا مغتسل بارد وشراب. والمغتسل : مكان الغسل ، والشراب : ما يشرب. ثم جاء في هذا البيان أيضا أنه وهبه أهله ومثلهم معهم ، وأنّ ذلك كان رحمة منه وذكرى لأولي الألباب ، على نحو ما جاء في سورة الأنبياء تماما بفارق بسيط ، ذلك أنّه قيل في الأنبياء :
وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وقيل في ص : وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وقيل في الأنبياء : رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وقيل في ص [43] رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ.
وقد جاء في سورة ص زيادة لم تظهر في (سورة الأنبياء) ذلك هو قول اللّه تعالى : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ وإنما جعلنا هذه زيادة لم تظهر ، مع أنّها طريق من طرق كشف الضر الذي أصاب أيوب ، لأنا رأينا القرآن قد فصل بين الضّرّ الذي أصاب أيوب في شخصه ، وبين ما أصابه في أهله.
فقال في الأول : فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ.
وقال في الثاني : وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ. فدلّ ذلك على أنه أصابه ضران : ضرّ في النفس ، وضرّ في الأهل ، وقد جاء إيتاء الأهل في السورتين نصا ، وجاء كشف الضّرّ في الأنبياء بلفظه ، وفي ص بالأمر بالرّكض بالرجل.
أما الأمر بأخذ الضّغث ، والضرب به ، فشيء جديد ، جاءت به آية مستقلة ، وهي في شأن من شؤون أيوب كان من الخير ألا يفعله حتّى لا يتأذّى به غيره.
ويكاد القرآن الكريم يكون صريحا في أنّ الضرّ الذي مسّ أيوب عليه السلام ضر حسيّ ، تلمسه من قول أيوب : مسني الضر ، وقوله في سورة ص : مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وفي قول اللّه : فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وقوله لأيوب : ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وليس بلازم في ثبوت صبر أيوب أن يكون الضر الذي أصابه قد وصل إلى الحدّ الذي عصم منه الأنبياء ، وعلى الوجه الذي ينقله المفسرون من الإسرائيليات التي لا يكاد يثبت منها شيء. بل يكفي أن يكون مرضا من الأمراض المستعصية التي ينوء بحملها الناس عادة ، ويضجرون من ثقلها ، وخصوصا إذا امتدّ الزمن بها ، وإنّك لتفهم من التعبير عنها بمس الشيطان أنها مما لا يؤلف عادة ، وكلّ غريب غير مألوف يقال فيه : إنّه من فعل الشيطان.
وقد يكون التعبير عنها بأنها مس الشيطان للتأدب ، على حد ما يقال : (إن كان خيرا فمن اللّه ، وإن كان شرّا فمني ومن الشيطان).(1/679)
ص : 680
فإذا احتملها الإنسان وصبر عليها صحّ أن يقال فيه : إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.
وأما اللجوء إلى القول بأن ذلك الضّرّ هو إعراض قوم أيوب عن دعوته فرارا مما رواه المفسرون من خرافات لا تصح ، فهو ظنّ لا يغني من الحق شيئا.
فالقرآن الكريم في المواضع الأربعة التي جاء فيها ذكر أيوب لم يذكر فيها شيئا عن دعوته في قومه ، ولا شيئا مما كان من قومه ، ولو أنّ الذي أصاب أيوب من قومه في دعوته كان شيئا يصحّ أن يذكر لذكره اللّه في عبارة صريحة واضحة جلية ، كما هو الشأن في الذين لقوا عنتا في سبيل دعوتهم ، على أنّا لا نعتقد أنّ أحدا من الرسل لقي عنتا مثل الذي لقي إبراهيم ونوح وموسى.
لقد بلغ من عداوة قوم إبراهيم له أن قالوا : حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء : 68].
وبلغ من عناد قوم نوح أن قال فيهم : قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (6) [نوح : 5 ، 6] وأن اضطر إلى أن يسأل اللّه : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27) [نوح : 26 ، 27].
وحتى ابنه كان في معزل عنه ، ولم يستمع لأبيه حتى في طلب النجاة من الغرق.
ولم يكن شأن موسى مع قومه بأقلّ من هذا ، فقد أخرجه عنادهم إلى التيه ، كلّ هذا وغيره أصاب الأنبياء في دعوتهم ، ولم يحك القرآن أن أحدا منهم قال : مسني الضر ، ولا مسني الشيطان بنصب وعذاب.
وقد أمر اللّه نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ولم يقل أحد :
إنّ أيوب كان من أولي العزم ، مع أنّ اللّه يقول فيه : إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ولقد كان صبر أيوب مضرب الأمثال ، وأولو العزم من الرسل هم الذين أصابهم عنت معارضة الدعوى ، فصبروا ، وأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يتأسّى بهم.
ترانا قد أطلنا في غير ما هو مقرّر علينا ، ولكن جرّنا إليه أنّا أردنا أن نبيّن المخاطب في قوله تعالى : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ.
والضغث : في اللغة قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس. وقال ابن عباس :
وهو عثكال النخل.
والحنث : يطلق على الإثم ، وعلى الخلف في اليمين ، وعلى هذا فقد أمر اللّه أيوب أن يأخذ قبضة من حشيش ، أو حزمة حطب ، فيضرب بها ، ونهاه أن يحنث.
وإذن لقد كان أيوب حلف ليضرب ، وكان هذا الضرب مؤذيا وإذا تركه أيوب يكون حانثا مخالفا ليمينه ، فنهاه اللّه أن يحنث ، وأوجد له المخرج من إيقاع الذي(1/680)
ص : 681 يترتب على البر باليمين ، وهو أن يأخذ الضغث فيضرب به ، فلا يتأذّى المضروب ، فيكون قد برّ بيمينه ، وابتعد من الحنث ، وتجنّب إيقاع الأذى بالغير.
وقد جعل المفسرون يعيّنون من كان سيلحقه الأذى ، ويذكرون السبب الذي انبنى عليه عزم إيقاع الأذى ، وأخذوا يصوّرون الذي كان من أيوب تارة على أنه كان يمينا ، وتارة على أنه كان نذرا ، وقد ذكروا في كل ذلك روايات لم تثبت صحتها ، فرووا أنّ امرأة أيوب هي المحلوف عليها ، وقالوا في سبب الحلف إنّها كانت تخدمه ، وضجرت من طول مرضه ، فتمثّل لها الشيطان طبيبا ، فقالت له :
هل لك أن تشفي هذا المريض؟ فقال : بشرط أن يقول كلمة واحدة هي : أني شفيته : فقالت لأيوب : كلمة واحدة تقولها ، وتشفى ، ثم تستغفر اللّه ، فحلف أو نذر لئن شفي ليضربنّها مئة جلدة.
وقيل بل كانت تأتي له بالطّعام ، فأتت يوما بطعام أكثر من المعتاد ، وكانت قد باعت ذوائبها ، فارتاب في أمرها ، فحلف أو نذر.
وقيل : بل طلبت إليه أن يسأل ربّه أن يشفيه ، فظنّ ذلك منافيا للصبر فحلف.
وقالوا في الضر الذي أصابه أقوالا كثيرة ينافي ما ثبت للأنبياء من العصمة من المنفّرات.
وقد فهمت قبلا أنّ القرآن يدلّ على أنّ الضرّ حسي تناول البدن بإشارة (مسّني الضّرّ) ومَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وبإشارة فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وبإشارة ارْكُضْ بِرِجْلِكَ إذ هو ظاهر في أنّه إنما أمر بذلك كطريق من طرق العلاج ، وكذلك قول اللّه هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فهو ظاهر في أنّ المراد أن يغتسل من المغتسل ، وأن يشرب من الشراب فيشفى.
وكذلك يدلّ القرآن على أنّه قد أصيب في أهله بغير تعيين لنوع الإصابة ، أكانت بالموت أم بالمرض ، أم بهما معا ، فكشف عنه هذا الضر ، فآتاه أهله ومثلهم معهم ، واللّه يعلم كيف كان هذا الإيتاء ، أبإحياء من مات؟ أم بمباركة من بقي وزيادة نسله؟
وقد كان منه حلف بضرب كان من الخير ألا يفعله ، فنهاه عن الحنث ، وأوجد له المخرج من شرّ الأذى ، فأمره بأخذ الضّغث والضرب به. ذلك كلّ ما يدل عليه القرآن الكريم ، وهو ليس في حاجة إلى ما جاء في الإسرائيليات ، ولو علم اللّه في البيان أكثر من هذا خيرا لبيّنه.
ثم قال اللّه تعالى : إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ صبر على ما أصابه من أذى في بدنه وأهله وماله ، والأواب : كثير التأويب والرجوع إلى اللّه في كلّ أموره.
فأنت ترى أنّ أيوب كان قد حلف على ضرب يتكرّر مرارا ، وذلك يؤذي(1/681)
ص : 682
المضروب ، فأوجد له تحلّة القسم ، وذلك بالضرب بالضغث ، ويظهر أنّه لم يكن عنده كفارة اليمين.
وبناء على رأي بعض الأصوليين الذين يقولون : إنّ شرع من قبلنا شرع لنا قال الحنفية : إنّ من حلف ليضرب مئة ضربة ، فأخذ حزمة من حطب عدد عيدانها مئة ، فضرب بها برّ بيمينه ، ولا كفارة عليه ، لأنّ اللّه قد رخّص لأيوب هذا ، وجعله غير حانث به ، وما دام غير حانث فهو بار ، لأنّه لا واسطة بين الحنث والبر ، ومن أجل أنّه برّ لا تجب الكفارة ، لأن الكفارة في شريعتنا إنّما تجب عند الحنث.
والمالكية - وإن كانوا يقولون بهذه القاعدة الأصولية - ويقولون : هي رخصة خاصة بأيوب ، بدليل توجيه الخطاب له ، وبما ذكر للترخيص من العلة. ويقول ابن العربي «1» : إنّما انفرد مالك عن القاعدة لتأويل بديع هو أنّ مجرى الأيمان عند مالك في سبيل النية والقصد أولى ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّما الأعمال بالنيات» «2» ، وقصة أيوب عليه السلام ولم يصح فيها شيء يبيّن كيفية اليمين حتى نلتزم شريعته فيها. انتهى ملخصا فلا معنى لترك ما دلت عليه شريعتنا لشيء لا نعرف ما هو ، وشريعتنا تقضي بحمل الأيمان على اللغة ، أو على العرف ، واللغة لا تجعل الضارب مرة بسوط ذي شعب ضاربا مرات بعدد الشعب ، وكذا العرف ، فوجب أن نجري على ما هو الحكم عندنا بموجب العرف واللغة.
ولذلك لا يجوز هذا فيمن وجب عليه الحد إذا كان صحيحا ، وأما إذا كان مريضا فهذه رخصة في حدّ المريض خاصّة ، وإن شئت فقل : إنّها حدّ المريض إذا كان لا يقوى على احتمال الحد ، ولذلك نرى أنّ الأولى الأخذ برأي مالك في المسألة خصوصا وأنّ الكفارة شرعت عند إرادة العدول عن مقتضى اليمين إلى ما هو خير ، بل لقد قال بعضهم : إنّ المخالفة إلى الخير كفارة.
بقي أنّ بعض العلماء يريد أن يأخذ من هذه الآية مشروعية الحيلة ، وسنسمعك شيئا من حججهم ، وشيئا من ردّ ابن القيم في كتابه «أعلام الموقعين» عليهم ، ونوصيك بقراءته في هذا الموضوع ، فهو نفيس.
وقبل أن ننقل لك عن ابن القيم نقول : إنّ الحيلة - كما هو ظاهر من اسمها - ما يقصد به الاحتيال لدفع شيء عن وجهه الذي هو عليه ، أو جلبه من غير وجهه الذي
__________
(1) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (4/ 1640).
(2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1515) ، 33 - كتاب الإمارة ، 45 - باب قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنما الأعمال» حديث رقم (155/ 1907) ، والبخاري في الصحيح (1/ 3) ، 1 - كتاب الوحي ، 1 - باب كيف بدء الوحي حديث رقم (1).(1/682)
ص : 683
هو عليه ، كأولئك الذين يتظاهرون أنّهم يؤدون الزكاة ، فيجيئون بفقير يعطونه شيئا من المال ، وقد تواضعوا على أن يهبه لهم ، ثم وثم ، حتى ينتهي ما عليهم من الزكاة ، عدّا على الفقير ، وهبة من الفقير لهم.
ومثل آخر ذلك الذي أسماه الحنفية إسقاط الصلاة ، وقاسوها على الحج عن الغير ، وعلى فدية الصوم ، ولسنا نريد أن نقول لهم شيئا في القياس والجامع والفارق ، وإنما هو شيء أوجدوه ، قصدوا منه الإحسان إلى الفقراء ، ثم أجازوا الحيلة في إسقاط ما يسقط الصلاة ، فقالوا : يعطى الفقير نصف صاع ، ثم يهبه ، وتتكرّر العملية بعدد الصلوات المتروكة ، أو بعدد الأيام المتروكة ، فيكونون قد أحسنوا إلى الفقراء ، وتسقط الصلاة عن ميتهم.
وهناك أمثلة كثيرة ، فقد أدخلوا الحيلة في كلّ شي ء : أدخلوها في التحليل في المطلق ثلاثا ، وأدخلوها في الزكاة ، وفي الاستبراء ، وفي كفارة الصيام. وما ندري لما ذا شرعت الأحكام بعد إذ جاءت الحيل ، وانفتح بابها لعدم التزام الأحكام ، وللعلماء آراء في مشروعية الحيلة ، فبعضهم يمنعها مطلقا ، وبعضهم يجيزها مطلقا ، وبعضهم يقول : إن عطلت مصلحة شرعية كالتحيّل في الزكاة لا تقبل ، وإلا قبلت.
ونحن ننقل لك طرفا من أدلة المجيزين وأدلة المانعين عن العلّامة ابن القيم رحمه اللّه قال :
قال أرباب الحيل : قد أكثرتم من ذمّ الحيل ، وأجلبتم بخيل الأدلة ورجلها ، وسمينها ومهزولها ، فاستمعوا الآن تقريرها ، واشتقاقها من الكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام ، وأنّه لا يمكن لأحد إنكارها.
قال اللّه تعالى لنبيه أيوب : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ فأذن لنبيه أيوب أن يتحلّل من يمينه بالضرب بالضّغث ، وقد كان نذر أن يضربها ضربات معدودة. وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقة ، فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين ، فنقيس عليه سائر الباب ، ونسميه وجوه المخارج من المضائق ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها.
وأخبر تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام أنّه جعل صواعه «1» في رحل أخيه ، ليتوصل بذلك إلى أخذه من إخوته ، ومدحه بذلك ، وأخبر أنّه برضاه وإذنه ، كما قال :
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف : 76].
__________
(1) إناء يشرب فيه ، انظر لسان العرب لابن منظور (8/ 215) مادة صوع. [.....](1/683)
ص : 684
وقال تعالى : وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) [النمل : 50] فأخبر اللّه أنّه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله.
وكثير من الحيل هذا شأنها ، يمكر بها على الظالم والفاجر ، ومن يعسر تخليص الحق منه ، فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم ، وقهر ظالم ، ونصر حق ، وإبطال باطل ، واللّه تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن ، ولكن جازاهم بجنس عملهم ، وليعلّم عباده أنّ المكر الذي يتوصّل به إلى إظهار الحق ، ويكون عقوبة للماكر ، ليس قبيحا.
وقد ساق ابن القيم بعد ذلك آثارا ، عن الصحابة ، وأحاديث من السنة ، وأقوالا عن السلف والأئمة ، يتمسك بها القائلون بمشروعية الحيلة ، يطول المقام بذكرها ، فنحيلك على «أعلام الموقعين» «1» إن أردتها.
ثم أخذ يرد على هذا الذي تمسّك به القوم ، فأطال في إبداع ، ونحن نذكر هنا طرفا منه.
قال : ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها ، ونبيّن ما فيه ، متحرّين العدل والإنصاف ، منزّهين لشريعة اللّه وكتابه وسنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم عن المكر والخداع والاحتيال المحرم ، ونبيّن انقسام الحيل والطرق إلى ما هو كفر محض ، وفسق ظاهر ، ومكروه ، وجائز ، ومستحب ، وواجب عقلا أو شرعا ، ثم نذكر فصلا نبيّن فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة ، فنقول وباللّه التوفيق ، وهو المستعان وعليه التكلان :
أما قوله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ فقال شيخنا : الجواب : أنّ هذا ليس مما نحن فيه ، فإنّ للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين : يعني إذا حلف ليضربنّ امرأته أو عبده مئة ضربة :
أحدهما : قول من يقول موجبها الضرب مجموعا أو مفرقا ، ثم منهم من لا يشترط مع الجمع الوصول إلى المضروب ، فعلى هذا تكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق ، وليس هذا بحيلة ، إنما الحيلة بصرف اللفظ عن موجبه عن الإطلاق.
والقول الثاني : أن موجبه الضرب المعروف ، وإذا كان هذا موجبه لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا من شرائع من قبلنا ، لأنّا إن قلنا : «ليس شرعا لنا مطلقا» فظاهر ، وإن قلنا : «هو شرع لنا» فهو مشروط بعدم مخالفته شرعنا ، وقد انتفى الشرط.
وأيضا فمن تأمّل الآية علم أنّ هذه الفتيا خاصة الحكم ، فإنّها لو كانت عامة الحكم في حقّ كلّ أحد لم يخف على نبي كريم موجب يمينه ، ولم يكن في قصّها علينا كبير عبرة ، فإنما يقصّ علينا ما خرج عن نظائره ، لنعتبر به ، ونستدل به على حكمة اللّه فيما قصّه علينا.
__________
(1) انظر أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم بيروت ، دار الجيل (3/ 290 - 403).(1/684)
ص : 685
ثم قال : ويدل عليه اختصاص قوله تعالى : إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل ، كما في نظائرها ، فعلم أنّ اللّه سبحانه إنما أفتاه بذلك جزاء له على صبره ، وتخفيفا عن امرأته ورحمة بها.
وأيضا فإنّه تعالى إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث ، كما قال : وَلا تَحْنَثْ وهذا يدلّ على أنّ الكفارة لم تكن مشروعة في شريعته : بل ليس في اليمين إلا البرّ أو الحنث ، وقد كان ذلك مبررا في شريعتنا قبل شروع الكفّارة «لم يكن أبو بكر يحنث في يمين حتّى أنزل اللّه كفارة اليمين».
وإذا كان كذلك ، يكون كأنّه نذر ضربها ، وهو نذر لا يجب الوفاء به ، لما فيه من الضرر عليها. ولا يغني عنه كفارة يمين ، لأنّ تكفير النذر فرع عن تكفير اليمين ، فإذا لم تكن كفارة النذر مشروعة إذ ذاك ، فكفارة اليمين أولى : وقد علم أنّ الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع وإذا كان الضرب الواجب بالشرع. يجب تفريقه إلّا إذا كان المضروب ميؤوسا من شفائه ، فيكون الواجب أن يجتمع الضرب ، لمكان العذر.
وبعد كلام طويل قال في قصة يوسف : نحن نسأل القائلين بجواز الحيل : هل تجيزون أنتم مثل هذا في شريعتنا حتى يكون لكم أن تحتجّوا بمثله؟ وأما مجرد وجوده في شريعة يوسف فليس ينفعكم.
قال شيخنا : ومما قد يظنّ أنّه من جنس الحيل التي بيّنا تحريمها ، وليس من جنسها قصة يوسف ، حين كاد اللّه له في أخذ أخيه ، كما قصّ ذلك في كتابه [يوسف : 70] ، فإن فيه ضروبا من الحيل الحسنة :
منها : جعله بضاعتهم في رحالهم ، ليرجعوا بعد المعرفة.
ومنها : جعل السقاية في رحل أخيه ليظهره بمظهر السارق ، فيحتجزه. وقد ذكروا أنّ ذلك كان بمواطأة بينه وبين أخيه ، وعلى ذلك فليس هناك حيلة.
ثم أطال في بيان الموضوع ، ونحن نجتزئ منه بهذا.
وبعد فإنّ التحايل على إسقاط التكاليف الشرعية أمر تنفر منه الطباع ، وما ندري هل علم المحتالون أنّ حيلهم تنطلي فتسقط التكاليف أو هم قد اتخذوا عند اللّه عهدا أنه لا يجازيهم على هذا التحايل؟ ثم من يخادعون!!! التحايل في الحرب في اتقاء الظالمين أمر مقبول إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ [آل عمران : 28] أما التحايل لإسقاط التكاليف ، ولأكل الأموال من غير وجهها فما نظنّ أحدا يقول به.
وفي هذا القدر كفاية ، ونكرر الوصية بمطالعة الموضوع في مراجعه ، فإنّه نفيس ، ويكفي أن نبهناك إليه ، واللّه وليّ التوفيق.(1/685)
ص : 686
من سورة الأحقاف
قال اللّه تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
قدمنا لك في سورة لقمان [14] ما فيه كفاية في تفسير الآية الأولى وفي بيان ما تشتمل من أحكام ، وخلاف العلماء في مدة الرضاع ، ومستندهم الذي يستندون إليه في تدعيم آرائهم ، ونحن من أجل ذلك لا نعيده ، وإن احتجت إلى شيء منه فارجع إليه هناك ، وإنما نذكر هنا ما لم يرد له ذكر هناك.
الكره : بفتح الكاف وضمها المشقة كالضّعف والضّعف بالفتح والضم. ومن ظريف ما يقولون في بيان المفردات هنا : أنّ المشقة تكون بعد الحمل بقليل لا وقت الحمل ، بل حين يثقل الولد في بطنها ، وكأنّهم ظنّوا أنّ القرآن يحدّد وقت المشقة.
وهذا الموضع لبيان المتاعب التي تتجشمها الأمّ أثناء الحمل ، حتى يكون ذلك مرقّقا للولد على أمه ، فالمدار أن يكون تعب في أثناء الحمل. وقد يسبق الكره ثقل الولد ، بل هو الواقع الكثير ، فإنّ الوالدات يتحمّلن كثيرا من المتاعب في أيام الوحم ، فيمتنعن من الطعام ومن الشراب ، ويعفن كل شيء.
وقوله تعالى : حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً غاية لمحذوف ، تقديره فعاش أو طالت حياته ، حتى إذا بلغ أشده.
والأشد : القوة ، وبلوغه استحكامه ، وذلك يكون بكماله في القوة المادية والعقلية. وبلوغ الأربعين سنة قيل : هو وقت بلوغ الأشد ، وذلك هو الوقت الذي يكتمل فيه الخلق ، وتقوى متانته ، ولذلك قيل : إنّه لم ينبأ نبيّ قبل الأربعين ، وإن كان بعض العلماء على خلافه ، مستدلا بما ورد في شأن عيسى ويحيى من مثل : قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) [مريم : 30]. ومن مثل : وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم : 12].(1/686)
ص : 687
ويرى ابن العربي أنّه يجوز بعث الصبي ، ولكنه لم يقع ، وتأوّل الأدلة على أنّها إخبار عمّا سيكون ، لا عمّا وقع بالفعل ، قال : ومثله كثير في القرآن.
على أنّه لا مانع من أن تبقى الآيات على ظاهرها ، ويكون ذلك على خلاف الغالب في الأنبياء.
قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ.
أوزعه بالشي ء : أغراه به ، فأوزع فهو موزع ، أي مغرى إذا أغراه غيره ، والمراد هنا حمله على سلوك سبيل الشكر والتوفيق إلى السير فيه.
والمراد بالنعمة التي أنعم اللّه بها عليه وعلى والديه ، قيل : نعمة الدين ، وقيل :
كلّ ما في الإنسان من نعمة وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ [النمل : 19] معطوف على أَنْ أَشْكُرَ والعمل الصالح المرضي ما يكون سالما من غوائل عدم القبول وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعل الصلاح يسير فيها ، ويمشي خلالها ، ويتفشّى فيها ، ويرسخ ، حتى يكون لها خلقا وطبعا. وأصلح : أصله يتعدى بنفسه ، وإنما عدّي بالحرب (في) لإفادة الرسوخ والسريان إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ من جميع الذنوب والآثام وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنفسهم إليك ، المنقادين لك ، الخاضعين لربوبيتك.
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا. هذا إشارة إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ وجمعه باعتبار أفراده الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف المذكورة ، من معرفة حقوق الوالدين ، والرجوع إلى اللّه بسؤال التوفيق للشكر ، إلى آخر ما في الآية ، وهو إيذان بأنّ هذه الأوصاف هي صفات الإنسانية الكاملة ، من اتصف بها فهو الإنسان ، وأصحابها هم الذين يكرمهم اللّه ، فيتقبل عنهم ما قدموا من صالح العمل وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فيعفو عنها ، إذ هي تتلاشى بجانب الحسنات إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود : 114] وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ الذي وعدهم اللّه به في كتبه وعلى لسان أنبيائه ، واللّه منجز ما وعد.(1/687)
ص : 688
من سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم
قال اللّه تعالى : فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)
أثخن في العدو - بالغ في الجراحة فيهم ، وأثخن فلانا أوهنه. وحَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي غلبتموهم ، وكثرت فيهم الجراح.
والمعنى : أنهم صاروا لا قبل لهم بالحرب ، ولا قدرة لهم على قتالكم من شدة ما أصابهم.
والوثاق : ما يشد به ، وأوثقه به : شده فيه.
ومن عليه منّا : أنعم ، واصطنع عنده صنيعة.
وفداه يفديه فداء ، وافتدى به ، وفاداه : أعطي شيئا فأنقذه ، والفداء ككساء : ذلك الشيء المعطى.
والأوزار ، جمع وزر بكسر الأول : الإثم ، والثقل ، والسلاح ، والحمل الثقيل.
هذا هو بيان المفردات التي تحتاج إلى بيان في الآية الكريمة.
ومعنى الآية بعد هذا : أنّ اللّه تعالى يأمر المؤمنين عند لقاء الكفار في الحرب ألا تأخذهم في قتال الكفار شفقة ، بل عليهم أن يعملوا فيهم السلاح ، فيضربوا به رقابهم ، وأن يستمر ذلك حتى يهنوا ويضعفوا ، وتخضد شوكتهم ، فلا يبقى لهم بعد ذلك قدرة على قتال المسلمين ، فإذا انتهت الحرب بإثخانهم وقهرهم ، فعلى المؤمنين أن يشدّوا وثاق من قدروا عليه منهم ، وذلك كناية عن قيد الأسر ، ووقوعهم أسرى في يد المؤمنين هنالك بعد الأسر ، واستقرارهم في قبضة المؤمنين يكون لنا أن نبقيهم كذلك أسرى أرقاء ، يقتسمهم الغانمون على ما ورد في قسمة الغنائم ، وأن ننعم عليهم بالإطلاق من غير مقابل ، فيكون ذلك يدا لنا عليهم ، ومنة نمنّ عليهم بها ، حيث أصبح الأعداء لا يخشى بأسهم. وأن نأخذ الفداء في مقابل إطلاقهم ، لنسد بالفداء ما عساه يكون عند المؤمنين من حاجة إليه ، وقد جعل اللّه تعالى غاية هذه الأوامر وضع الحرب أوزارها وآثامها وشرورها ، التي تلحق الناس منها ، أو وضع الأثقال والتبعات(1/688)
ص : 689 التي تلحق الناس في الحروب ، أو وضع الحرب سلاحها ، فلا يكون قتال بعد.
ثم قال اللّه تعالى : (ذلك) وقد كثر في لغة العرب استعمال اسم الإشارة عند الفصل بين كلامين ، والانتهاء من الأول وإرادة الانتقال إلى الثاني.
كأنه قيل : ذلك هو ما نريد أن نقوله في هذا الشأن ، ونقول بعده كذا وكذا. أو احفظ ذلك والأمر بعده كذا وكذا ، فاسم الإشارة للفصل بين كلامين ، والكلام في الإعراب بعد ذلك سهل يسير.
والكلام الذي بعده يقصد منه بيان الحكمة في شرع القتال مع قدرة اللّه أن ينتصر على أعدائه من غير أن تكون حرب بينهم وبين أوليائه ، وتلك الحكمة هي امتحان الناس ، واختبار صبرهم على المكاره ، واحتمالهم للشدائد أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [آل عمران : 142].
ثم بيّن اللّه تعالى بعد ذلك أنّ الذين يكون من حظّهم أن يقتلوا في سبيل اللّه ستحفظ أعمالهم ، وتخلّد لهم ، ثم هم بعد ذلك في روضات الجنات يحبرون.
والآية الكريمة بعد هذا متفقة مع آية الأنفال ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال : 67] غير أنّ آية الأنفال لم يذكر فيها ما يكون بعد الإثخان ، والآية التي معنا بيّن فيها أنّ المؤمنين عليهم بعد غلبة الأعداء وقهرهم أن يشدوا الوثاق ، ثم لهم بعد ذلك أن يمنّوا على من أوثقوهم من غير فداء ، ولهم أن يفادوهم ، وقد تسأل بعد هذا وأين استرقاقهم؟ فنقول : إن الاسترقاق قد فهم من الأمر بشدّ الوثاق. وبعد هناك حالان أذن لنا فيهما الشارع الكريم : هما المن والفداء.
وإنا نذكر لك هنا آراء العلماء في المن على الأسرى وأخذ فدائهم ثم نعقب عليه بما يفتح اللّه به :
قد اختلف العلماء فيما دلّت عليه الآية الكريمة في مواضع : منها المراد بالذين كفروا ، فذهب بعضهم إلى أنهم المشركون ، وهو مروي عن ابن عباس ، وذهب بعضهم إلى أن المراد كلّ من ليس بيننا وبينهم عهد ولا ذمة ، ويظهر أنّ هذا هو الصحيح ، إذ الآية عامة ، والتخصيص لا دليل عليه.
وقد اختلف أيضا في المراد من ضرب الرقاب ، فذهب السدي إلى أنّ المراد منه القتال ، وذهب جماعة على أن المراد منه قتل الأسير صبرا ، والظاهر الأول ، فإنّه الذي ينساق إليه الذهن من قول اللّه : فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ إذ جعل الإثخان وهو الإضعاف - غاية لضرب الرقاب ، فأين قتل الأسير صبرا ، وهو إنما يقع في الأسر بعد إثخانه وضعفه.
وكذلك اختلف العلماء في المراد من الفداء ، فقال بعضهم : المراد من المفاداة(1/689)
ص : 690
العتق : وقال بعضهم : إنّ المراد إطلاق سراحهم في مقابل ما يأخذه المسلمون منهم ، وقد يكون المقابل أسرى من المسلمين عند الكفار ، من طريق التبادل ، حسبما يتيسر عند المفاداة ، وقد يكون المقابل مالا ، أو عتادا يأخذه المسلمون في نظير أسرى الحرب.
واختلفوا كذلك في المراد من وضع الحرب أوزارها ، بعد الذي علمت من معاني الأوزار ، فقال بعضهم : إنّ وضع الأوزار كناية عن الإيمان ، والمعنى حتى يؤمنوا ويذهب الكفر ، وقال بعضهم : بل المراد حتى ينزل عيسى عليه السلام ، وأنت لو نظرت إلى قول اللّه تعالى : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة : 193] رجحت الأول على الثاني ، نعم إنّ نزول عيسى قد ورد فيه أنّه حين يكون لا يكون على ظهر الأرض كافر ، ولكنّ نزول عيسى أمر لا شيء في الآية ، ولا في غيرها مما جاء في القرآن ، يشعر به.
بقي بعد كلّ هذا خلاف العلماء في الأحكام التي دلّت عليها الآية من التخيير بين الاسترقاق والإطلاق دون مقابل والفداء ، ألا تزال هذه الأحكام معمولا بها ، أم نسخ العمل بها ، وتغيّرت الأحكام.
فذهب بعضهم إلى أنّها منسوخة بقوله تعالى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة : 5] وذهب البعض إلى أنّ النسخ إنما هو في بعض ما تناولته فقط ، فهي منسوخة في حقّ عبّاد الأوثان ، فهؤلاء لا يمنّ عليهم ، ولا يفادون ، لأنّنا منهيون عن معاهدتهم ، وقال الضحاك : لا نسخ فيها ، بل هي باقية الحكم في كل ما دلّت عليه.
ويرى سعيد بن جبير ، أنّ الكفار بعد أن يثخنوا ويضعفوا فالحكم فيهم باق لا يتغير ، أما قبل أن يضعفوا فلا يجوز أن يكون هناك منّ ولا فداء ، وهذا يتفق مع ما أشير إليه في قوله تعالى : ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال : 67] وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا.
قال الجصاص «1» : اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير ، لا نعلم بينهم خلافا فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في قتل الأسير. منها قتله عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث [و هو الذي قالت أخته :
أمحمّد ها أنت صنو كريمة في قومها ، والفحل فحل معرق
ما كان ضرّك لو مننت وربّما منّ الفتى ، وهو المغيظ المحنق
قتل بعد الأسر يوم بدر.
وقتل النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم أحد أبا عزّة الشاعر ، بعد ما أسر.
__________
(1) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (3/ 391).(1/690)
ص : 691
وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية. ومنّ على الزبير بن باطا من بينهم.
وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا ، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله «1».
وفتح مكة ، وأمر بقتل هلال بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح وآخرين. وقال : «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة».
واختلف الفقهاء في فداء الأسير ، فقال الحنفية جميعا : لا يفادى الأسير بالمال ، ولا يباع السّبي لأهل الحرب ، فيرجعون حربا علينا ، وقال أبو حنيفة : لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا ، وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس أن يفادى أسرى المؤمنين بأسرى المشركين ، وهو قول الثوري والأوزاعي.
ونقل المزني عن الشافعي : أن للإمام أن يمنّ على الرجال الذي ظهر عليهم ، أو يفادي بهم.
أما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال ، فيستدلّون بقوله تعالى : فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً فقد أجازت الآية الكريمة الفداء مطلقا غير مقيّد ، وبأن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فادى أسرى بدر بالمال.
ويحتجون للفداء بأسرى المسلمين بما
روى ابن المبارك عن معمر عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين : قال أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأسر أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا من بني عامر بن صعصعة ، فمرّ به على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال الأسير : علام أحبس؟ فقال : «بجريرة حلفائك» فقال : «إني مسلم» فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كلّ الفلاح». ثم مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فناداه أيضا ، فأقبل ، فقال : إني جائع فأطعمني ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «نعم هذه حاجتك» ثم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما «2».
وروي أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين
، ولم يذكر في هذه الرواية إسلام الأسير.
والذين يقولون بعدم الجواز يقولون : إنّ هذه الآية نسختها آية فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة : 5]
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (3/ 92) ، كتاب الخراج ، باب ما جاء في حكم أرض خيبر حديث رقم (3006).
(2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 2262) ، 26 - كتاب النذر ، 3 - باب لا وفاء لنذر ، حديث رقم (8/ 1641) ، وأبو داود في السنن (3/ 200) ، كتاب الأيمان حديث رقم (3316).(1/691)
ص : 692
وبقوله تعالى : قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) [التوبة : 29].
ويقولون :
إنّ ما كان من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في صلح الحديبية : «إنّ من جاءنا منهم رددناه عليهم» «1»
قد نسخ. ونهى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الإقامة بين أظهر المشركين ، وقال : «من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذّمة» «2»
وما روي في أسارى بدر منسوخ بما تلونا.
هذه حجج الفريقين قد سقناها لك ، وإنك لترى فيها أنّ النبي فعل أشياء كثيرة مختلفة ، فمنّ وقال : «اذهبوا فأنتم الطّلقاء»
وقال : «من دخل دار فلان فهو آمن».
وفي الوقت نفسه قتل جماعة من الأسرى ، وقال : «اقتلوهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة»
وقتل يهود بني قريظة نزولا على حكم سعد بن معاذ ، وكانوا قد رضوا حكمه ، ومنّ على واحد منهم ، وفادى بالمال والمسلمين ، وترى أنّ كلّ ذلك قد كان تبعا للمصلحة الحربية ، وقد أرشد اللّه تعالى في القرآن الكريم إلى أنّ المصلحة الحربية فوق كلّ اعتبار ، انظر إلى قوله تعالى : ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) [الأنفال : 67] فقد عاتب اللّه نبيه على اتخاذ الأسرى قبل أن تقوى شوكة الإسلام ، وقبل أن يتمّ خذلان العدو وقهره.
وقد يكون في إباحة الأسر قبل الغلبة تقوية قلوب الأعداء ، إذ يقولون : ما دمنا سنكون أحياء نأكل ونشرب ، فما لنا نخضع لدعوتهم ، فيستمرّون في مناوشة المسلمين ، ومداومة حربهم كلّ يوم. أما إذا علموا أنّه لا هوادة في الحرب ، وأنهم مقتولون إن لم يؤمنوا ، وأنهم لا ملجأ لهم من اللّه إلا إليه أسلموا ، وقبلوا الدعوة ، أو أسلموا أمورهم ، وانقادوا ، وذلوا ، فلا يقومون بحرب ، ولا يقلقون راحة المسلمين ، فما لنا لا نوادعهم ، ونأسر منهم ، فنسترقّ ، ونمنّ ، ونفادي ، فانظر عظمة الإسلام ومكارمه.
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 115) ، كتاب السير ، باب الأسارى حديث رقم (1568) ، وابن ماجه في السنن (1/ 689) ، 1 - كتاب الكفارات ، 16 - باب النهي عن النذر حديث رقم (2124).
(2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 132) ، كتاب السير ، باب كراهية المقام حديث رقم (1604) ، وأبو داود في السنن (2/ 394) ، كتاب الجهاد ، باب النهي حديث رقم (2645).(1/692)
ص : 693
وقد جاء القرآن بالترخيص في هذا صريحا في الآية التي معنا.
والقول بالنسخ لا حاجة إليه ، وقواعد النسخ تأباه ، إذ النسخ مشروط - بعد المعارضة - بعدم إمكان الجمع بعد ثبوت التأخر في الناسخ ، والتقدم في المنسوخ.
وحيث إنه لا معارضة فإنّ لنا أن نقول : إنّ آيات القتال كانت في أولئك الذين كانوا حربا على المسلمين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وظاهروا على إخراجهم ، وعاهدوا ، ونقضوا عهدهم ، أو نقول : إن المصلحة الحربية والتمكين لقاعدة المسلمين (جزيرة العرب) ألا يبقى فيها دينان ، قضت بالقتل حتى تطهر الجزيرة.
انظر إلى قول اللّه تعالى : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة : 28].
وبعد فإنّا نرى أن يفوّض إلى أهل الذكر والبصر بالحرب أمر الحرب ، ووضع خططها ، والتصرف في الأسرى وغيرهم ، بحسب ما تقضي المصلحة الحربية ، فإن رأوا إبادتهم خيرا أبادوهم ، وإن رأوا استرقاقهم استرقوهم ، وإن رأوا المفاداة بالمال وبالأسرى فعلوا ، فيترك لهم أمر تقدير المصلحة.
وما نحسبنا مخطئين إذا قلنا : إنّ الذي كان من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من الأعمال المختلفة كان نزولا على مقتضى المصلحة ، ولذلك نراه كان يجتهد في تعرّف وجوه المصلحة ، فيستشير أبا بكر وعمر ، ويختلف أبو بكر وعمر ، ويجيء القرآن مؤيدا لأحد الرأيين ، وكذلك نزوله على تحكيم سعد بن معاذ ، ولو كان الأمر أمر خطة مرسومة ، وحدا لا يتخطّى ، لما كان هناك معنى للاستشارة ، ولا للنزول على الرضا بالتحكيم ولما خالف في الحرب الواحدة بين أسير وأسير ، فقتل هذا ومنّ على غيره. فالمصلحة العامة وحدها هي المحكّمة ، وهي الخطة التي تتّبع في الحروب ، خصوصا والحرب مكر وخديعة ، وما دامت مكرا وخديعة فليترك للماكرين وضع خطط المكر والخديعة ، ولا يرسم لهم كيف يمكرون ، وإلا ما كانوا ماكرين.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)
إطاعة اللّه ورسوله امتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما.
وقد نهى اللّه المؤمنين في الآية الكريمة عن إبطال أعمالهم ، وذلك يدل بظاهره على أنّ من شرع نافلة ، ثم أراد تركها ، ليس له ذلك.
واختلف العلماء :
فذهب الشافعي رحمه اللّه إلى أنّ له ذلك ، قال الشافعي هو تطوّع : و«المتطوّع(1/693)
ص : 694
أمير نفسه» «1» وإلزامه إياه مخرج عن وصف التطوع ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة : 91].
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه ليس له ذلك. وقال المالكية والحنفية : هو أمير نفسه ، ولا سبيل عليه قبل أن يشرع ، أمّا إذا شرع فقد ألزم نفسه ، وعقد عزمه على الفعل ، فوجب عليه أن يؤدي ما التزم ، وأن يوفي بما عقد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة : 1] واللّه أعلم.
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 109) ، كتاب الصوم ، باب ما جاء في إفطار الصائم حديث رقم (732).(1/694)
ص : 695
من سورة الحجرات
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
اشتملت سورة الحجرات على إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وبيّنت لهم أقوم الطرق التي يسلكونها في حياتهم الدنيا ، وخير المناهج التي ينتهجونها في معاملتهم ، فبيّنت لهم أنواعا من الأدب ، تختلف باختلاف من تكون المعاملة معه.
وذلك أنه إمّا أن تكون المعاملة : مع اللّه تعالى ، أو مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، أو مع غيرهم من بني آدم وهؤلاء على قسمين ، لأنهم إما مؤمنين ملتزمين الطاعة ، أو خارجين عن حدودها وهؤلاء هم الفاسقون. والمؤمن الذي التزم حدود الطاعة إما أن يكون حاضرا أو غائبا ، فهذه خمسة أصناف.
وقد جاء خطاب المؤمنين ب (يا أيها الذين آمنوا) في هذه السورة خمس مرات ، بيّن تعالى في كلّ مرّة مكرمة تتناسب مع من تكون المعاملة معه.
- فقال في جانب اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وذكر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إنما جيء به هنا لأنه الذي يوضّح طريق طاعة اللّه تعالى.
- وقال في جانب المعاملة مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ.
- وقال في جانب المؤمن الخارج عن حدود الطاعة (الفاسق) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.
- وقال في جانب المعاملة مع المؤمنين الحاضرين : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ.
- وقال في جانب الغائب : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ.(1/695)
ص : 696
ومن أراد أن يقف على المكرمتين الأوليين فليطلبهما في كتب التفسير. ولنبدأ بالآية التي معنا.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6).
يحذّر اللّه المؤمنين في هذه الآية ، ويرشدهم إلى وجوب عدم الاعتماد على أقوال الكذبة الفاسقين ، فإنّ الاستماع إليهم يوقع الفتنة بين المؤمنين ، فيفشلوا ، وتذهب ريحهم ، وتتمكن العداوة والبغضاء من نفوسهم ، وحينئذ يعضّون أصابعهم ندما ، ولا ينفع الندم.
وقد يبدو أنّ مقتضى الترتيب أن تؤخّر آية الفاسق بعد آيات المؤمنين ، ولكن لما كان الاستماع إلى الفاسق والاعتماد عليه قد يؤدي إلى فتنة وفساد كبير قدّم الكلام فيه ، اعتناء بأمر المسلمين ، واهتماما بأمر سلامتهم من الفتن ، التي يجرّها الاعتماد على من يوضعون خلال المؤمنين ، يبغونهم الفتنة.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهم «1» بسند جيّد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه ، وأقررت به ، فدعاني إلى الزكاة ، فأقررت بها ، وقلت : يا رسول اللّه أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وترسل إليّ يا رسول اللّه رسولا لإبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبعث إليه ، احتبس عليه الرسول فلم يأت ، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطة من اللّه عزّ وجلّ ورسوله ، فدعا بسروات قومه ، فقال لهم : بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان وقّت لي وقتا يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت ، فانطلقوا فنأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وبعث رسول اللّه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وهو أخو عثمان رضي اللّه عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق ، فرجع ، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : إنّ الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم البعث إلى الحارث ، فأقبل الحارث بأصحابه حتّى استقبله البعث ، وقد فصل عن المدينة ، قالوا : هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم :
إلى من بعثتم؟
__________
(1) انظر المسند للإمام أحمد بن حنبل (4/ 279).(1/696)
ص : 697
قالوا : إليك ، قال : ولم؟ قالوا : إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنّك منعته الزكاة ، وأردت قتله قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ، ما رأيته بتة ، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «منعت الزكاة ، وأردت قتل رسولي؟» قال : لا والذي بعثك بالحق ، ما رأيته ولا رآني ، ولا أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خشية أن تكون سخطة من اللّه عزّ وجلّ ورسوله ، قال :
فنزلت الحجرات : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ.
ولم يختلف الذين رووا أسباب النزول في أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان الشخص الذي جاء بالنبإ ، إنما اختلفوا في أسباب قوله ، فمنهم من روى أنّه خاف وفرق حين رأى جماعة الحارث وقد خرجت في انتظاره ، فظنها خرجت لحربه ، ومنهم من
روى أنّه كان بينه وبينهم موجدة في الجاهلية ، فجاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقال :
إنّهم قد تركوا الصلاة ، وارتدوا ، وكفروا باللّه ، فلم يعجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وبعث خالد بن الوليد إليهم ، وقال : «ارمقهم عند الصلاة ، فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم ، وإلا فلا تعجل عليهم».
وهنا يختلف الذين رووا سبب النزول مرة أخرى ، فيروي بعضهم ما قدمنا من أنّهم قدموا ، وقابلوا البعث حيث فصل من المدينة.
ويروي بعض آخر أنّ خالد بن الوليد رضي اللّه عنه خرج إليهم ، ودنا منهم عند غروب الشمس ، فكمن حيث يسمع الصلاة ، فرمقهم ، فإذا هو بالمؤذن قد قام حين غربت الشمس ، فأذّن ثم أقام الصلاة ، فصلوا المغرب.
فقال خالد : ما أراهم إلّا يصلون ، فلعلهم تركوا غير هذه الصلاة ، ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذّن مؤذنهم ، فصلوا. فقال : فلعلهم تركوا صلاة أخرى ، فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدّم حتى أطل الخيل بدورهم ، فإذا القوم تعلّموا شيئا من القرآن ، فهم يتهجدون به من الليل ، ويقرؤونه. ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذّن ثم أقام ، فقاموا فصلوا ، فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم ، فقالوا : ما هذا؟ قال : خالد بن الوليد.
قال : يا خالد ما شأنك؟
فقال : واللّه أنتم شأني ، أتي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقيل له : إنكم كفرتم باللّه وتركتم الصلاة ، فجعلوا يبكون ، فقالوا : نعوذ باللّه أن نكفر باللّه أبدا ، فصرف الخيل وردّها عنهم ، حتى أتى النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأنزل اللّه قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا «1».
وقد عرفت مرارا أنّ الآية تكون عامة ، وإن نزلت على سبب خاص ، ما دام
__________
(1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (6/ 89).(1/697)
ص : 698
لفظها عاما ، وقد قال الحسن : فو اللّه لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنّها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء.
والفاسق : الخارج من حدود الشرع ، من قولهم : فسق الرطب : إذا خرج عن قشره ، وسمي به الفاسق لانسلاخه عن الخير ، والفسق أعمّ من الكفر ، لأنه يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ، ولكن تعورف فيما كان بكثيره ، يكثر ما يقال لمن كان مؤمنا ، ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها.
والتبين : طلب البيان ، وقد قرئ (فتثبتوا) بدل فَتَبَيَّنُوا وهما متقاربان ، إذ التثبت طلب الثبات ، وما كان ثابتا كان قريب المعرفة. ويرى بعض اللغويين أنّه لا يقال للخبر نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة ، ويكون معنى الآية : إن جاءكم أيّ فاسق بنبإ عظيم ، له نتائج عظيمة ، فلا تقبلوه بادئ الأمر ، بل توقّفوا فيه ، وتثبتوا ، حتى تأمنوا العاقبة.
والتعبير بكلمة (إن) التي هي (للشك) للإشارة إلى أنّ الغالب في المؤمن أن يكون يقظا ، يعرف مداخل الأمور ، وما يترتّب عليها ، وإذ يكون هذا شأن المؤمنين فلا يجيئهم كاذب يكذب عليهم ، وإن وقع ذلك يكون على ندرة وقلّة.
وقوله تعالى : أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ تعليل للأمر بالتبين ، وهو إمّا مقدّر فيه لام التعليل قبل (إن) و(لا) النافية بعدها ، أي فتبينوا لئلا تصيبوا ، وإما مقدر فيه (الكراهة) أي كراهة أن تصيبوا. وقوله : بِجَهالَةٍ أي متلبسين بجهالة ، أي جاهلين حالهم ، أو تصيبوهم بسبب جهالتهم أمرهم وما هم عليه.
و(أصبح) هنا بمعنى (صار) والمعنى : فتصيروا من بعد تبيّن الأمر نادمين ، ويستمر معكم هذا الندم.
والندم ضرب من الغم ، وهو أن يلحق النادم الغمّ على ما وقع منه ، يتمنى أنه لم يقع ، وهو غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزوم ، لأنه كلما تذكر فعله راجعه الندم.
وقد استدلّ بالآية على أنّ الفاسق أهل للشهادة ، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة ، قاله الآلوسي ، وقال الأثري : إنّ العبد إذ شهد لا تقبل شهادته ، ولا يحتاج فيها إلى التبيّن.
ومذهب الحنفية «1» أنّ الفاسق لا تقبل شهادته وإن كان أهلا لها ، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا ، وينفذ قضاؤه ، وتقبل شهادته عندهم في النكاح ، لأنّ الشهادة من باب الولاية ، وهو لمّا جاز أن يكون وليا على الزوجة في مالها ، جاز أن يلي عليها في بضعها ، وعبارته في النكاح عبارة ، وتعبير عن ثبوت العقد لا إلزام فيها ، ومن مذهبهم ألا تقبل الشهادة من الفاسق فيما فيه إلزام ، والإلزام الذي في النكاح لم يجئ من الشهادة ، وإنما جاء من التزام المتعاقدين في العقد.
__________
(1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1 - 2/ 131).(1/698)
ص : 699
واستدلّ بالآية أيضا على قبول خبر الواحد العدل ، وتقرير الاستدلال بها من وجهين :
الأول : أنه قد رتب الأمر بالتبين على مجيء الفاسق لنبأ ، فيفيد ذلك أن الفسق علة للتبين ، ومعنى كون الشيء علة لشيء آخر ، أن يكون له تأثير في وجوده ، لا يوجد إلا معه ، وإلا فلو وجد دونه لما كان علة له ، والفرض أنّه العلة.
وقد رد هذا بأنّ إثبات العلية بطريق ترتّب الحكم على الوصف إثبات بظني ، ولا ينهض حجة في إثبات أصل من الأصول ، ولأنّ الاقتصار على شيء لا ينفي ثبوت الحكم فيما عداه.
والثاني أن التبين مشروط بمجيء الفاسق ، ومفهوم هذا الشرط انعدام الأمر بالتبين عند عدم الشرط ، فيثبت انعدام التبين في خبر الواحد العدل فيكون مقبولا ، وهو مردود ، بأنّ ذلك قول ناشىء من اعتبار مفهوم المخالفة حجة ، وهو مختلف فيه ، فلا يثبت به أصل من الأصول ، لأنّ الظواهر لا تكفي في إثبات المسائل العلمية.
واستدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال ، لأنّها دلت على أنّ الفسق شرط وجوب التثبت والتبين ، فيقتصر فيه على محل وروده ، ويبقى ما وراءه على الأصل ، وهو القبول.
وأنت ترى أنّ هذا استدلال مبني على أنّ الأصل العدالة. والخصم ينازعهم فيه ، ويقول : بل الأصل عدمها ، والظاهر أنّ مسألة قبول المجهول مبنية على هذا ، فإن صحّ أنّ الأصل العدالة ، فهو باق على عدالته ، حتى يتبين خلافها ، وإن كان الأصل عدمها ، فهو داخل في الفسق ، ويكون المراد منه من لم تتبيّن عدالته.
واستدلّ بالآية أيضا على أنّ من الصحابة من ليس بعدل ، لأن اللّه تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة ، فإنّها نزلت فيه ، وسبب النزول لا يمكن إخراجه من اللفظ العام ، وهو صحابي بالاتفاق ، وتكون الآية ردّا على قول من ذهب إلى أنهم كلهم عدول ولا نبحث عدالتهم في رواية ولا شهادة.
والمسألة خلافية ، وفيها أقوال كثيرة :
أحدها ، هذا وعليه أكثر العلماء سلفا وخلفا.
والثاني : أنّهم كغيرهم ، فيبحث على العدالة فيهم كما يبحث عنها في غيرهم رواية وشهادة ، إلا من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخين أبي بكر وعمر رضي اللّه تعالى عنهما.
وثالثها : أنهم عدول إلى زمن عثمان ، ويبحث عن عدالتهم من مقتله.
ورابعها : أنهم عدول إلا من قاتل عليا والمسألة لها موضع غير هذا ، ولكل أدلته وبراهينه.(1/699)
ص : 700
ثم إنّ الفاسق قسمان :
قسم فاسق غير متأوّل ، وهذا لا خلاف أنه لا يقبل خبره.
وقسم فاسق متأوّل : كالجبرية والقدرية ، ويقال له : المبتدع بدعة واضحة ، وهذا قد اختلف فيه ، فمن الأصوليين من ردّ شهادته وروايته ، ومنهم من قبلهما.
فأما الشهادة فلأنّ ردها لتهمة الكذب ، والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه ، بل قد يكون أمارة الصدق ، لأنّ الذي جعله يذهب مذهبه هو تعمقه في الدين ، والكذب حرام في كلّ الأديان ، ومن المبتدعة من يقول : بكفر الكاذب.
وأما الرواية : فلأنّ من احترز عن الكذب على غير الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فهو على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أشدّ تحرّزا ، فهذا يجب أن يكون حالهم ما لم يظهر منهم ما ينافيه ، وعلى هذا جمهور أهل الفقه والحديث.
وذهب الشافعي وبعض العلماء إلى الأول ، لأنّ الآية إنما دلّت على التثبت من قول يقوله الفاسق ، وظاهر أنّ ذلك إنما كان لأنّ الغالب في الفاسق أن يكذب ، فإذا ظهر أنه ممن لا يكذب ، فالآية لم تعرض له ، والذين تقبل شهادتهم من المبتدعة قوم يتشدّدون في الدين ، لا يبيحون الكذب ، فلم يكونوا ممن تناولته الآية الكريمة.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8).
يرى الزمخشري أنّ الجملة المصدّرة (بلو) لا تكون كلاما مستأنفا ، لأدائه إلى تنافر النظم. ولكن تكون كلاما متصلا بما قبله ، وهي هنا (حال) من أحد الضميرين في (فيكم) المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور.
والمعنى : أنّ فيكم رسول اللّه على حال يجب عليكم تغييرها ، وهي أنّكم تحاولون معه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأي ، وينزل على إرادتكم فعل المطواع لغيره ، التابع له فيما يرتئيه. وهو لو فعل ذلك لعنتم ، ووقعتم في العنت والهلاك ، يقال : فلان يتعنّت فلانا ، أي يطلب ما يؤديه إلى الهلاك. ويقال :
أعنت العظم إذا هيض بعد الجبر. وقد يستفاد من هذا أنّ بعض المؤمنين كانوا يزيّنون للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم الإيقاع بقوم الحارث وتصديق الوليد في نبئه ، وأنه كانت تفرط منهم نظائر ذلك من الهنات ، وأنّ فريقا منهم كان يتصوّن ، ويزعم إيمانهم ، وجدّهم في التقوى فلا يجسرون على ذلك ، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى : وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.(1/700)
ص : 701 ويرى بعضهم أنه يجوز أن يكون قوله : لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ كلاما مستأنفا ، وذلك أنّه لما قال اللّه تعالى : إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ثم قال : وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ كان ذلك بمثابة أنّ طريق الكشف والتبيّن سهل وممكن ، وهو الرجوع إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم. لأنه فيكم ، يبيّن لكم ، ويرشدكم ، وفي ذلك تنزيل لهم منزلة الجاهلين بمكان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم ، وبوظيفته من البيان والإرشاد بينهم.
فاتجه من ذلك : أن يسأل سائل : ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط ، وقرّعوا بجهل منزلة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم؟
فجاء قوله تعالى : لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ مومئا إلى ما كان منهم من محاولة أن ينزل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم على رأيهم في الذي يرون ، واتباع إشارتهم فيما يقولون.
وذلك أنّه بيّن لهم النتيجة التي تترتب على نزوله على إرادتهم ، والخضوع لإشارتهم ، فقال : لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وأنت ترى أن هذا القول وإن كان حسنا من حيث المعنى ، إلّا أن فيه تغاضيا عن أنّ قوله تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ معطوف (بالواو) وهو مرتبط بما قبله ، وفيما ذهب إليه هذا البعض ما يفضي بترك العطف.
وظاهر كذلك أنّ ما ذهبوا إليه فيه إضمار لا حاجة إليه ، ولا ضرر في جعل الجملة لَوْ يُطِيعُكُمْ حالا من أحد الضميرين ، على ما ذهب إليه الزمخشري «1». والمعنى على أحد الوجهين : هو جعلها حالا من الضمير المستتر ، وأمّا الوجه الآخر فالمعنى : (و اعلموا أنّ فيكم رسول اللّه) حال كونكم على حال تتنافى مع مقامه بينكم ، تلك الحال هي إرادتكم أن ينزل على إرادتكم ، وذلك ضارّ بكم ، يترتب عليه عنتكم وهلاككم.
وجاء قوله : (لو يطيعكم) على صيغة المضارع بدل الماضي للدلالة على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لهم إطاعة مستمرة ، بدليل قوله تعالى : فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار ، تقول : فلان يقري الضيف ويحمي الحريم ، تريد أنّ ذلك شأنه ، وأنّه مستمر على ذلك.
وقوله تعالى : وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ استدراك على ما يقتضيه الكلام من وقوع العنت بهم. والمعنى : أنّ ما هم عليه كان يقتضي هلاكهم ، ولكن منع من ذلك أنّ اللّه هدى فريقا منهم ، وحبّب إليه الإيمان ، فآمن ، وزينه في قلبه ، فأقام عليه ، فلم يكن شأنه شأن أولئك الذين يريدون قلب الأوضاع ، بأن يتّبعهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في الذي يرون.
__________
(1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 361).(1/701)
ص : 702
وكان الظاهر على هذا المعنى أن يقول : ولكنّ اللّه حبّب إلى بعضكم الإيمان ، ولكنّه عمّم الخطاب تعريضا بمن فرط منه ذلك ، وإشارة إلى أنهم وقد دخلوا في الإيمان واستقر الإيمان في قلوبهم ما كان ينبغي أن يكون ذلك شأنهم ، فاستغني عن التنصيص على خطاب البعض لذلك ، وأيضا فإنّه لما ذكر الصفة التي تميز هذا الفريق اكتفى بها عن التنصيص على الموصوف ، مراعاة لما في تعميم الخطاب من فائدة التعريض.
ويرى بعضهم أنّ الخطاب لجميع المؤمنين ، والمعنى عليه : أنّه لم يلحقكم العنت ، لأنّه يعلم أنّه لم يدفعكم إلى ما أنتم فيه إلا حبّكم الإيمان ، ومقامه في قلوبكم ، وكرهكم الكفر ، ونفرتكم من الفسوق والعصيان.
ومعنى تحبيب الإيمان إليهم تقريبه لهم ، وإدخاله في قلوبهم ، ومعنى تزيينه في قلوبهم إقامته فيها ، بحيث لا يفارقها ، وذلك أنّ من أحبّ شيئا فقد يفارقه ، ولكن إذا زيّن له يستمر في الإقامة عليه والمكث فيه.
وقد ذكر اللّه الإيمان ، وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم ، وهي : الكفر ، والفسوق ، والعصيان. والإيمان اسم لثلاثة أشياء : التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح. فالكفر هو الإنكار ، وهو يقابل الإذعان بالجنان. والفسوق يقابل الإقرار باللسان ، وقد سبق إطلاق الفسق على المجيء بالنبإ الكاذب ، وسيجيء إيراده بهذا المعنى في قوله : بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وذلك يدلّ على استعمال الفسق في الأمر القولي.
وهو في هذا المعنى مناسب لاشتقاق كلمة الفسق ، فإنّها في أصل وضعها تدلّ على الخروج ، مأخوذة من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، فهو يدلّ على الظهور والكذب يظهر ويعرف ، فمن ثمّ صحّ إطلاق الفسق عليه. وأما العصيان فهو ترك العمل. ويرى بعضهم أنّ الكفر : الشرك ، والفسوق : الكبيرة ، والعصيان : الصغيرة.
وقوله تعالى : أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ الإشارة فيه إلى الفريق الذي حبّب إليه الإيمان ، وزيّن في قلبه ، والخطاب فيه للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ووقفوا عند إرشاده ، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم ، فاستحقوا الرشد وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) قوله : (فضلا) إما منصوب على أنه مفعول له ، والعامل فيه فعل مفهوم من قوله (الراشدون) أي وفّقهم اللّه إلى الرشد ، فضلا ، منه ونعمة ، والعامل فيه حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ويكون قوله : أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ جملة اعتراضية ، وإما منصوب عل أنّه مصدر من غير لفظ العامل ، وهو الراشدون ، (1/702)
ص : 703
وذلك أن الرشد فضل ، فكأنه قيل : هم الراشدون رشدا ، أو هو مصدر ، وعامله محذوف ، أي تفضل فضلا ، وأنعم نعمة. والفضل : ما في خزائن اللّه ، وهو مستغن عنه ، والنعمة : ما يصل من الفضل إلى العبد.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يعلم من يتحرّى الخبر ومن لا يتحراه ، ومن يريد الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم على ما تقتضي به الحكمة ومن لا يريده ، وهو فوق هذا يعلم الأشياء ، ويعلم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بها ، ويأمره منها بما تقضي به الحكمة ، فيجب أن تقفوا عند أمره ، وأن تجتنبوا الاقتراح عليه.
قال اللّه تعالى : وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) لما حذّر اللّه المؤمنين نتائج الاستماع لنبأ الفاسق ، أراد أن يبيّن ما يتدارك به الأمر لو وقع ، فقال : وَإِنْ طائِفَتانِ الطائفة : أقل من الفرقة ، بدليل قوله تعالى : فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة : 122] كذا قيل ، ولك أن تقول : لولا تقدّم الفرقة ما فهم منه هذا المعنى ، فالطائفة الجماعة ، والفرقة الجماعة ، وقد تكون الجماعة قليلة ، وقد تكون كثيرة.
والتعبير (بإن) للإشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين ، وأنه إن وقع فإنما يقع من الندرة والقلة ، التي يشكّ في وجودها ، وجاء اقْتَتَلُوا بلفظ الجمع ، مع أنّ الظاهر مجيئه بلفظ التثنية ، لأن الطائفة وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع في المعنى ، فروعي فيه المعنى أولا ، ثم روعي اللفظ ثانيا ، في قوله : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.
(و اقتتلوا) بمعنى تقاتلوا ، والمراد بالإصلاح في قوله : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما الأولى بذل النصح والإرشاد ، وإزالة الشبه التي تكون عند إحداهما ، أو عند كليهما ، ودعوتهما إلى النزول على حكم اللّه.
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى البغي : العدوان ، والمراد الغلو بغير الحق ، وعدم الإذعان للنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي استمرّوا في قتالها حتى ترجع إلى حكم اللّه ، أو إلى ما أمر اللّه به من عدم البغي.
فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما من أسباب الخصومة ونتائجها ، ولا تكتفوا بمجرد المتاركة والموادعة ، خشية أن تكون إحداهما أو كلاهما تركته تقية ، وانتظارا للفرصة تسنح ، وتقييد الصلح بالعدل هنا لأنه بعد القتال ، وذلك مظنة الحيف ، أي لا يحملنكم ما كان منهم من عناد وبغي على أن تظلموهم ، ولا على أن(1/703)
ص : 704
تظلموا عدوّهم لضعفه ، بل يجب أن تعدلوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى .
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي اعدلوا ، والزموا العدل في كل الأمور ، فإنّ اللّه يحب المقسطين ، فيجازيهم أحسن الجزاء.
سبب النزول : أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير «1» وغيرهم في سبب نزول هذه الآية عن أنس رضي اللّه عنه قال : قيل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لو أتيت عبد اللّه بن أبي ، فانطلق إليه ، وركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما انطلق إليه ، قال : إليك عنّي ، فو اللّه لقد آذاني ريح حمارك ، فقال رجل من الأنصار :
واللّه لحمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد اللّه رجال من قومه ، وغضب للأنصاري آخرون من قومه ، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فأنزل اللّه فيهم : وَإِنْ طائِفَتانِ.
وقيل : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه ، فمر على عبد اللّه بن أبي بن سلول ، فقال ما قال ، فرد عليه عبد اللّه بن رواحة ، فتعصّب لكل أصحابه ، فتقاتلوا ، فنزلت ، فقرأها صلّى اللّه عليه وسلّم فاصطلحوا ، وكان ابن رواحة خزرجيا ، وابن أبي أوسيا.
وقيل : إنّها نزلت في رجل من الأنصار يقال له عمران ، وكان تحته امرأة يقال لها :
أم زيد ، وقد أرادت أن تزور أهلها ، فحبسها زوجها ، وجعلها في علية له ، لا يدخل عليها أحد من أهلها ، فبعثت المرأة إلى أهلها ، فجاء قومها ، فأنزلوها لينطلقوا بها ، واستعان الرجل بقومه ، فجاؤوا ليحولوا بين المرأة وأهلها ، فتدافعوا ، وكان بينهم معركة ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأصلح بينهم ، وفاؤوا إلى أمر اللّه «2».
والخطاب في الآية الكريمة لولاة الأمور ، والأمر فيها للوجوب ، فيجب الإصلاح بالنصح ، فإن أبت إحداهما إلا البغي ، وجب قتالها ما قاتلت ، فإن رجعت عن بغيها ، والتزمت حكم اللّه تركت.
هذا وقد تمسّك جماعة بما جاء في سبب النزول ، وقالوا : يقتصر في قتال الفئة الباغية على ما دون السلاح ، ولا يجوز مقاتلتهم بالسلاح ، وهو لا يصح أن يتمسّك به. فأنت تعلم أنّ اللّه قال : فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ وهو أمر بالمقاتلة إلى
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1424) ، 32 - كتاب الجهاد ، 40 - باب حديث رقم (117/ 1799) ، والبخاري في الصحيح (3/ 221) ، 53 - كتاب الصلح ، 1 - باب ما جاء في الإصلاح ، حديث رقم (2691) ، وأحمد في المسند (3/ 157).
(2) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (26/ 81).(1/704)
ص : 705
الفيئة ، فإذا كانوا لا يفيئون إلا بالسيف وجب قتالهم به ، لأن الغرض من المقاتلة هو الفيئة ، وهي لا تحصل إلا به ، وقد وقع من الصحابة قتال البغاة بالسيف ، وكفى بهم قدوة ، ونزول آية عامة على واقعة خاصة لا يخصص العام ، على أنّ القتال إنما شرع عند البغي قمعا للفتنة بين المسلمين ، والمفروض أنّ العلاج قد استعصى بالنصح ، ويراد اتخاذ علاج حاسم ، فليترك الأمر لمن يباشر الحسم ، فإن رأى أنّ الدواء يستأصل بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة ، وإن رأى أنّ الفتنة لا تدفع إلا بالسلاح فعل حتى الفيئة.
واختلفت أقوال الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم ، فعن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة : أن أموالهم لا تكون غنيمة. وإنما يستعان على حربهم بكراعهم وسلاحهم عند الاستيلاء عليه ، فإذا وضعت الحرب أوزارها ردّ المال عليهم ، وكذا يردّ الكراع والسلاح إذا لم يبق أحد باغيا.
وروي عن أبي يوسف : أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح فهو فيء يقسّم ويخمس ، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه.
وروي عن الإمام مالك رضي اللّه عنه : ما استهلكه الخوارج من مال ودم ثم تابوا لم يؤخذوا به ، وما كان قائما بعينه ردّ ، وهو مروي عن الأوزاعي والشافعي.
وقال الحسن بن صالح : إذا قوتل اللصوص المحاربون فقتلوا ، وأخذ ما معهم ، فهو غنيمة لمن قاتلهم بعد إخراج الخمس ، إلا أن يكون شيء قد علم أنّهم سرقوه من الناس ، وعرف أصحابه ، فإنّه يردّ عليهم.
وما استهلك من أموالهم أثناء التجمع للقتال ، والتفريق عند وضع الحرب أوزارها ، لا ضمان فيه بالإجماع.
وقد جاء في حديث أخرجه الحاكم «1» ما يوضّح الحكم في المسألة ، فقد جاء فيه قال عليه الصلاة والسلام : «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمة».
فقال : اللّه ورسوله أعلم. قال : «لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا يقسّم فيئها».
وقد روى عكرمة بن عمار بسنده عن ابن عباس أنّ الخوارج نقموا على علي رضي اللّه عنه أنّه لم يسب ولم يغنم ، فحاجّهم قائلا : أفتسبون أمّكم عائشة ، ثم تستحلون منها ما تستحلّون من غيرها؟ فإن فعلتم لقد كفرتم.
وقد سئل أبو وائل : أخمّس علي أموال أهل الجمل؟ قال : لا.
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 155). [.....](1/705)
ص : 706
وإنما ذكر اللّه العدل في الإصلاح بعد الفيئة ، لأنّ هذا وقت قد غلبت فيه الفئة الباغية على أمرها ، ويغلب أن تظلم ، وتصادر أموالها ، وما أخذ منها لا يردّ إليها.
فالعدل وذكره هنا بمثابة أن يقال : لا يحملنّكم قهركم إياهم على ظلمهم ، فهم طائفة من المؤمنين عصمت دماؤهم ، وعصمت أموالهم ، وما حصل منهم يكفي فيه قهرهم ، وما نالهم من الهزيمة ، فتكون الآية حينئذ ظاهرة في أنّه لا يجوز أسرهم بعد الفيئة ، ولا يكون مالهم فيئا ولا يضمّنون شيئا.
قال اللّه تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) بيّن اللّه تعالى في الآية السابقة أنّه لو ظهرت بوادر القتال بين طائفتين من المؤمنين ، فالواجب إصلاح ذات البين بالنصح والإرشاد ، فإن جنحا للسلم ، فقد كفى اللّه المؤمنين القتال ، وإن جنحت إحداهما ، وبغت الأخرى ، فالواجب قتال الباغية حتّى تفيء إلى أمر اللّه ، فإن فاءت ورجعت فالواجب الإصلاح بالعدل ، لا يجهز على جريح ، ولا يسبى أحد ، ولا يقسم الفي ء ، وهنا بيّن اللّه تعالى أنّ الإصلاح كما يجب بين الجماعات فهو واجب بين الأفراد ، حتّى لا يظنّ ظانّ أنّ الإصلاح إنما يجب عند اختلاف الجماعات والطوائف ، لأنّ اختلاف الجماعات شديد البلاء ، يخشى منه على المسلمين أن تذهب ريحهم ، ويتمكّن منهم عدوّهم. فأمّا إذا كان الخلاف بين فردين فليست له هذه الأهمية ، فلا يجب الإصلاح ، فدفعا لهذا الوهم قال اللّه تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وقد ذهب بعض أهل اللغة ، إلى أنّ إخوة جمع الأخ من النسب ، وأما الأخ بمعنى الصديق فجمعه إخوان ، فجعل اللّه الإخوة في الإسلام إخوة في النسب ، فأعطاها اسمها توكيدا لأمر المحافظة عليها ، وإشارة إلى أنهم في الإسلام إخوة ، وأن الإسلام ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين ذيّل اللّه الأمر به بالأمر بالتقوى ، لأنّه لما لم يكن عاما فقد لا يخشى ضرره ، فلا يتسارع الناس إلى إزالته ، فقال : وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني واللّه أعلم : فأصلحوا بينهما ، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح تقوى اللّه وخشيته ، والخوف منه ، فالتزموا الحق العدل ، ولا تحيفوا ، ولا يكن منكم ميل لأحد الأخوين ، فإنّهم إخوانكم ، وليس أحدهما بالنسبة إليكم فاضلا والآخر مفضولا ، إذ الذي جمع بينكم وبينهما الإسلام ، وفي الإسلام تذهب الفوارق وتتلاشى.
الحصر (بإنما) يفيد أنّ أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الإخوة في الإسلام ، فأما بين الكفار فلا ، وأما بين المسلم والكافر ، فللمسلم علينا النصرة(1/706)
ص : 707
والإعانة مطلقا إن كان خصمه حربيا. ونصره وإعانته عند وقوع ظلم عليه إن كان خصمه ذميا أو صاحب أمن.
وأما إن كان خصمه ذميا والمسلم ظالم له ، فالواجب علينا وضع الظلم ، فقد استحق بعقد الذمة أن يكون له ما لنا وعليه ما علينا.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) السخر : الهزء ، قيل : وهو النظر إلى المسخور بعين النقص ، وقال القرطبي : إنّ السخرية وهي اسم منه ، الاستحقار والاستهانة ، والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه. والأكثر تعدية فعله (بمن) وهي لغة الكتاب العزيز ، كما تدل عليه الآية التي معنا ، وقوله تعالى : إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ [هود : 38] ويقال : فلان سخرة ، بوزن همزة.
إذا كان يهزأ به الناس ، وقد تكون السخرية بمحاكاة الفعل بالقول والإشارة ، أو الضحك على كلام المسخور منه إذا بدا منه تخبط أو غلط ، أو على صنعته ، أو قبح صورته ، ويرى بعضهم أن السخرية ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته. ويرى البعض أنّ المراد منها احتقار القول أو الفعل بحضور صاحبه.
والآية نزلت في قوم بني تميم ، سخروا من بلال وسلمان وعمّار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة «1».
وقد ذكر فيها النهي عن السخرية بالنساء تتميما لبيان الحكم.
وروي أنّها في شأن أمّ سلمة حين سخر منها بعض الصحابيات ، وقيل غير ذلك.
وقوله عزّ وجلّ : عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي ، أي عسى أن يكون المسخور منه عند اللّه خيرا من الساخر ، ف «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على اللّه لأبرّه» وقيل : بل المعنى عسى أن يبدّل اللّه الحال ، ويعكس الأمر ، فيصير المسخور منه عزيزا رفيع الجانب ، والساخر ذليلا مهانا ، وهو حينئذ على حد قوله :
لا تهن الفقير علّك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
وقد ذكر اللّه تعالى النساء مع القوم في الآية ، فكان ذلك قرينة على أنّ المراد
__________
(1) انظر ما رواه السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 91).(1/707)
ص : 708
بالقوم الرجال. ويرى بعضهم أنّ القوم اسم خاصّ بالرجال لا يدلّ على النساء إلا من طريق التغليب ، ومنه ما جاء في بيت زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وكأنّ هذا المعنى يرجع إلى أنّ لفظ القوم مأخوذ من أنّ الرجل قوّام على المرأة ، وهو في الأصل : إما مصدر بمعنى القيام ، ثم استعمل في جماعة الرجال ، وإما اسم جمع لقائم.
وقد جاء النهي عن السخرية موجها إلى جماعة الرجال والنساء ، وإن كان حكم الفرد من الفريقين كذلك ، جريا على ما كان حاصلا ، وما هو الأغلب من وقوع السخرية في المجامع والمحافل. وما دامت علة النهي عامة ، فهو يفيد عموم الحكم لعموم العلة.
وكلمة (عسى) في مثل هذا التركيب الذي أسندت فيه إلى (أن ، والفعل) قيل :
تامة ، لا تحتاج إلى خبر ، و(أن) وما دخلت عليه في محل رفع على الفاعلية. وقيل ناقصة ، وسد ما بعدها مسد جزءيها.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعب بعضكم بعضا ، وقد جعل اللّه لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس ، لأنهم كنفس واحدة ، فمتى عاب المؤمن أخاه ، فكأنّه عاب نفسه.
وقد ذكر اللّه في الآية النهي عن ثلاثة أشياء : عن السخرية ، وعن اللمز ، وعن التنابز بالألقاب.
أما التنابز بالألقاب : وهو التعاير بها ، فمغايرته للسخرية واللمز ظاهرة.
وأما السخرية واللمز ، فقد ذهب العلماء في المغايرة بينهما إلى وجوه ، فمنهم من يرى أنّ السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته ، واللمز التنبيه على معايبه ، سواء أكان على مضحك أم غيره ، وسواء أكان بحضرته أم لا ، وعلى هذا اللّمز أعم من السخرية ، ويكون من عطف العام على الخاص ، لإفادة الشمول.
ومنهم من يرى السخرية الاحتقار واللمز والتنبيه على المعايب ، أو تتبعها ، وهو يرى أنّ العطف من قبيل عطف العلة على معلولها. كأنّه قيل : لا يحقّر أحد لعيبه ، وهذا الوجه لا يكاد يظهر له كبير معنى.
ومنهم من يرى أنّ اللمز خاص بما كان من السخرية على وجه الخفية ، وعليه العطف من عطف الخاص على العام ، مبالغة في النهي عنه ، كأنه جنس آخر.
ويرى بعضهم أن المعنى : ولا تأتوا من الأفعال ما يكون سببا لأن يلمزكم الناس ، ويكون المعنى لا يسخر أحد من أحد ، ولا يفعلنّ أحد ما يقتضي أن يلمزه الناس.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ التنابز : التعاير ، والتداعي بالألقاب ، وخصّ في العرف(1/708)
ص : 709 بالمكروه منها ، وقد نقل عن العلماء النصّ على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره ، سواء أكان صفة له ، أم لأبيه ، أم لأمه ، أم لكلّ من ينتسب إليه.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ تعليل للنهي ، والاسم هنا المراد منه الذكر ، والمراد : ذم أن يجتمع اسم الفسوق الذي يلحق الناس بسبب التنابز مع الإيمان ، وذلك تغليظ شديد ، حيث جعل التنابز فسقا ، وفيه من التنفير منه ما لا يخفى.
وقيل : بل المعنى : لا ينسبن أحدكم غيره إلى الفسق الذي كان فيه بعد اتصافه بالإيمان ، كأنّه قيل : لا تشهّروا بالناس بذكر ما كانوا عليه من فسق بعد ما حصلوا على الإيمان ، ويكون ذلك نهيا عن أن ينادى من دخل الإسلام بصفته التي كان عليها ، وقد استثني من النهي دعاء الرجل بلقب قبيح لا على سبيل الاستخفاف والإهانة ، بأن يكون على قصد التمييز ، كقول المحدّثين : سليمان الأعمش.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي من لم يتب عما نهي عنه من الأمور الثلاثة فهو ظالم ، وكأنه لا ظالم سواه ، لأنه وضع العصيان موضع الطاعة ، وعرّض نفسه للعذاب.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يقال اجتنب الشيء أي كان منه على جانب ، ثم استعمل في التباعد مطلقا ، فمعنى قوله تعالى : اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ تباعدوا عن كثير من الظن ، وجيء بلفظ (كثير) منكّرا ، ليحتاط فيه ، فيكون بعيدا عن بعض الظن الذي هو إثم إذا ابتعد عن الكثير منه.
والظن أنواع : منه ما هو محرّم ، ومنه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب ، ومنه ما هو مباح.
فالمحرم : كسوء الظن باللّه والعياذ باللّه. وسوء الظن بالمسلم مستور الحال ، ظاهر العدالة ،
فقد ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ باللّه عزّ وجلّ» «1».
وعنه أنه قال : «إيّاكم والظنّ ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث» «2».
وقد جاء في القرآن الكريم : إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس : 36] وقال اللّه تعالى : وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح : 12] وفي الحديث : «إنّ اللّه تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء».
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 2205) ، 51 - كتاب الجنة ، 19 - باب الأمر بحسن الظن حديث رقم (2877).
(2) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (6/ 92).(1/709)
ص : 710
وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «من أساء بأخيه الظنّ فقد أساء الظنّ بربّه ، إن اللّه تعالى يقول :
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ.
وقد قدمنا أنّ الممنوع إساءة الظن بالمسلم المستور ظاهر العدالة ، وأما من يتعاطى الرّيب ، والمجاهرة بالخبائث ، فلا يحرم إساءة الظن به ، فليس الناس أحرص منه على نفسه ، وقد أمر أن يتجنب الريب ، وألّا يقف مواقف التّهم ، فمن وقف مواقف التهم اتّهم.
والظن الواجب : يكون فيما تعبّدنا اللّه تعالى بعلمه ، ولم ينصب عليه دليلا قاطعا ، فهنا يجب الظن للوصول إلى المعرفة التي تعبّدنا اللّه بها ، وما غلب على ظنه فهو الذي تعبّدنا اللّه به. ومن ذلك قبول شهادة العدل ، وتحرّي القبلة ، وتقويم المستهلكات ، وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها نصّ عن الشارع.
والمندوب من الظن : ظنّ الخير بالمسلم ، وقد تقول : ما دام سوء الظن محرّما ، فما بال حسن الظن مندوبا؟
ولكن إذا علمت أنّ هناك واسطة ، وهو ألا يظن شيئا علمت أنّه لا يلزم التقابل في الحكم.
والظنّ المباح : قد مثّلوا له بالشك في الصلاة ، وكأنهم يريدون من الظنّ استواء الطرفين ، ومثّلوا له أيضا بالظن الذي يعرض في القلب ، مما يوجب الريبة ، وقد قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «إذا ظننتم فلا تحققوا»
أي لا توجدوا أثرا لهذا الظن.
وحرمة الظن بالناس إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدّى إلى الغير ، وأمّا أن تظنّ شرا لتتقيه ، ولا يتعدّى ذلك إلى الغير ، فذلك محمود غير مذموم ، وهو محمل ما
ورد من أنّ (من الحزم سوء الظن)
. و(احترسوا من الناس بسوء الظن)
. وما جاء في الحكم : (حسن الظنّ ورطة ، وسوء الظنّ عصمة).
وقوله تعالى : إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل للأمر باجتناب الظنّ. والإثم الذنب الذي يستحقّ فاعله العقوبة عليه.
وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم ، وتستكشفوا ما ستروه. والتجسس : تفعل من الجس ، وهو بمعنى التحسس على ما قيل ، وبعضهم يرى أنهما متغايران ، وأن التجسس معرفة الظاهر ، وبالحاء تتبع البواطن ، وقيل :
بالعكس ، والأمر مرجعه إلى اللغة. وقد عدّ العلماء التجسس من الكبائر. وقد أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنّه(1/710)
ص : 711
من يتّبع عوراتهم يتّبع اللّه عورته ومن يتّبع اللّه عورته يفضحه في بيته» «1».
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره.
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي «2» وغيرهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «أ تدرون ما الغيبة؟» قالوا : اللّه ورسوله أعلم. قال : «ذكرك أخاك بما يكره». قيل :
أفرأيت لو كان في أخي ما أقول؟ قال : «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه».
ومعلوم أنّ المراد من هذا النهي النهي عن الإيذاء بتفهيم الغير معايب المغتاب ، وذلك يتناول كلّ طرق الإفهام ، وهو يتناول أيضا كلّ ما يكره ، سواء في دينه أو دنياه ، وفي خلقه أو خلقه ، وفي ماله ، أو ولده ، أو زوجته ، أو مملوكه ، أو خادمه ، أو لباسه ، وخصّه بعضهم بما لا يذمّ شرعا من الصفات ، فمن ذكر الزاني بأنّه زان لا يكون مغتابا ، ولا يحرم عليه هذا الذكر عنده. واستدل لذلك
بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «اذكروا الفاجر بما فيه ، يحذره الناس».
ولم يرفض الجمهور ذلك ، وقالوا : الحديث ضعيف لا ينهض حجة : قال أحمد : وهو منكر ، وقال البيهقي : ليس بشي ء ، ولو صحّ فهو محمول على فاجر متهتّك يعلن فجوره وتهتكه.
ويرى بعضهم أنّ الذكر بالمكروه يحرم مطلقا في الغيبة والحضور ، ونصّ بعض المفسرين على أنه المعتمد ، ويكون التقييد بالغيبة خارج مخرج الغالب ، إذ إنّ الغالب أن الناس تستحي من أن تذكر أحدا بمعايبه في حضرته.
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ هذا مثال ذكره اللّه تنفيرا من الغيبة ، وتبعيدا منها ، وهو مثل بالغ النهاية في تأدية المراد ، قد وضّح فيه ما يصدر من المغتاب من حيث صدوره عنه ، ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه تستقبحه العقول ، وتنفر منه الطباع ، وتنكره الشرائع ، وقد ذكر المثل على سبيل الاستفهام التقريري ، وهو لا يقع إلّا في كلام مسلّم عند السامع ، حقيقة أو ادّعاء ، وقد أسند في المثل الفعل إلى أحد إيذانا بأنّه لا يستقر في طبع أحد كائنا من كان أن يقدم على أن يأكل لحم إنسان ، فضلا عن أن يحبه ، وما بالك به إذا كان المأكول لحم أخيه؟ لا
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (4/ 292) ، كتاب الأدب ، باب في الغيبة حديث رقم (4880) ، وأحمد في المسند (4/ 421).
(2) رواه مسلم في الصحيح (4/ 2001) ، 45 - كتاب البر ، 20 - باب تحريم الغيبة حديث رقم (70/ 2589) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 290) ، كتاب البر ، باب الغيبة حديث رقم (1934) ، وأبو داود في السنن (2/ 290) ، كتاب الأدب ، باب في الغيبة حديث رقم (4874).(1/711)
ص : 712
شك أنه يكون أشنع ، وماذا تكون الشناعة إذا كان الأخ ميتا؟ إنّها تكون شناعة ما فوقها شناعة.
فقد بيّن اللّه بهذا المثل أوضح بيان أنّ وقوع المغتاب في عرض الناس بذكر معايبهم يشبه أن يكون أكلا للحومهم ، وهم إخوته ، وليتهم كانوا حاضرين ، بل هو إنما ينهش أعراضهم وهم غائبون ، فهو كالكلب ينهض لحوم الجيف. ولو عقل الناس هذا المثل ، وما استعمل فيه من طرق التنفير ما أقدموا على الغيبة.
والفاء في قوله تعالى : فَكَرِهْتُمُوهُ فإن الفصيحة مقدّر معها (قد) وهي واقعة في جواب شرط مقدّر ، أي إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه ، ولا يمكنكم إنكار كراهته.
وبعضهم : إنّ المعنى فأنتم تكرهونه ، ويكون الكلام تصريحا بجوابهم عن الاستفهام ، كأنّهم قالوا : لا نحب ، فقال اللّه تعالى : فأنتم كرهتموه ، وعبر بالماضي للمبالغة.
وَاتَّقُوا اللَّهَ عطف على مقدّر ، كأنه قيل : امتثلوا ما أمرتم به ، ونهيتم عنه ، واتقوا اللّه إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر بالتقوى ، وتوّاب : معناه كثير القبول لتوبة من تاب.
والغيبة محرّمة بنص إلهيّ في الآية الكريمة ، وقد نقل القرطبي «1» الإجماع على أنها من الكبائر. والغزالي : يرى أنّها من الصغائر ، وهو عجيب من عمدة الأخلاق الغزالي ، ولعلّه أراد أن يخفف على الناس لمّا رأى فشوها فيهم ، لا يخلو منهم من لا يرتكبها إلا النادر ، ولكنّا ما علمنا أنّ إطباق الناس على منكر يكون سببا في تخفيفه ولو لم يرد فيها من دلائل التحريم غير ما ذكر في هذه الآية وأنّها من أشنع القبائح لكان ذلك كافيا في كونها من الكبائر.
وليس لأحد أن يتعلّق بما ورد من
قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد «2» عن أبي بكرة أنّه قال : بينما أنا أماشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو آخذ بيدي ، ورجل عن يساري ، فإذا نحن بقبرين أمامنا ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير» وبكى إلى أن قال : وما يعذبان إلا في الغيبة والبول
إذ المراد أنهما ما كان يكبر عليهما أن يتجنّبا سبب هذا العذاب ، فكان أحدهما لا يستنزه من البول ، وإنّه ليسير ، وكان الآخر لا يبتعد عن الغيبة ، وما هو عليه بعسير.
ولو أنّ الإمام الغزالي رحمه اللّه ذهب إلى أنّ بعضها ليس بكبيرة ، بل هو من الصغائر لكان الأمر هينا فإنّك عرفت أنّ الغيبة إنما نهي عنها من أجل الإيذاء ، وهو مراتب ، فلن يكون ذكر معايب الثوب أو القربة مثلا ببالغ حدّ الخوض في العرض من جهة الإيذاء ، فالغيبة حرام ، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة والاستغفار منها.
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي (16/ 337).
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 39).(1/712)
ص : 713
وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة فيما إذا كان العيب لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا به.
فمن ذلك التظلم : فلمن ظلم أن يشكو لمن يظنّ منه القدرة على إزالة ظلمه.
ومنه الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على تغييره.
ومنه الاستفتاء : كأن يقول للمفتي ظلمني فلان بكذا ، فما طريق الوصول إلى حقي؟
ومنه أن يكون صاحب العيب مجاهرا بالمعصية ، كشربه الخمر - للذين يتظاهرون - .
ومنه جرح الرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية ، وكلّ ما فيه تحذير المسلمين من الشر ، إذا تعين ذلك طريقا له.
هذا وقد اشتملت الآية الكريمة على الأمر باجتناب الظنّ باجتناب أثره ، ثم النهي عن طلب تحقيق ذلك الظن بقوله : ولا تجسسوا ثم النهي عن ذكر ما عسى أن يكون المتجسس قد وقف عليه ، فهذه ثلاثة مترتبة : ظنّ ، فعلم من طريق التجسس ، فاغتاب.(1/713)
ص : 714
من سورة الواقعة
قال اللّه تعالى : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
قبل أن نتكلّم عن تفسير الآيات نقول : قد ورد القسم على هذا النحو في القرآن الكريم كثيرا ، منه قوله تعالى : فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) [الانشقاق : 16 ، 17] وفَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) [التكوير : 15 ، 16] ولا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) [القيامة : 1] وفَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) [الحاقة : 38] وفَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ [المعارج : 40] ولا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) [البلد : 1].
وقد جاء على غير هذه الصورة ، أي من غير (لا) النافية ، ومن غير الفعل (أقسم). وقد جاء القسم على أنواع : إمّا قسم اللّه بنفسه موصوفا بالربوبية فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات : 23] والقسم هنا على مضمون جملة خبرية فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر : 92 ، 93].
وإمّا قسم بالذّات معنونة بلفظ الجلالة : وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء : 57] وتارة يكون القسم بأشياء من خلقه : (كالصافّات) (و الطور) (و الذاريات) (و النجم) و(مواقع النجوم) و(الشمس وضحاها) و(الفجر) و(البلد) و(القيامة) و(التين والزيتون).
وتارة يكون القسم بالقرآن موسوما باسمه يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس : 1 ، 2] ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص : 1] ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) [ق : 1] أو موسوما باسم الكتاب حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) [الزخرف : 1 ، 2 والدخان : 1 ، 2].
ومهما يكن المقسم به فالمقسم عليه لا يعدو أن يكون من أصول الإيمان التي يجب على الخلق معرفتها ، فهو تارة يكون قسما على التوحيد ، كقوله تعالى : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) [الصافات : 1 - 4].
وتارة يكون قسما على أنّ القرآن حقّ ، كقوله تعالى : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) وقوله : حم (1)(1/714)
ص : 715
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ
[الدخان : 1 - 3] وقوله : حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف : 1 - 3] على بعض الوجوه في جواب القسم.
وتارة يكون المقسم عليه أنّ محمدا رسول يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) [يس : 1 - 3].
وتارة يكون المقسم عليه نفيا لصفة ذميمة عن الرسول الأكرم ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) [القلم : 1 ، 2] ووَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) [النجم : 1 ، 2] ومن هذا قوله تعالى : فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) [الحاقة : 38 - 41].
وتارة يكون المقسم عليه الجزاء والوعد والوعيد مثل قوله تعالى : وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) [الذاريات : 1 - 5] ومنه قوله : فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) [الذاريات : 23] ومنه :
إلى قوله : إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) [المرسلات : 1 - 7] ومنه وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) إلى قوله : إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) [الطور : 1 - 8].
هذا وقد أمر اللّه نبيّه أن يقسم على الجزاء والمعاد في ثلاثة مواضع ، قال : زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن : 7] وقال تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ : 3] وقال تعالى : وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس : 53].
وقد جاء المقسم عليه أحوالا من أحوال الإنسان التي هو عليها : وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) [الليل : 1 - 4].
ووقع القسم على صفة الإنسان : وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) [العاديات : 1 - 6].
وجاء القسم على عاقبة الإنسان : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التين : 1 - 6] وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [العصر : 1 - 3].
قد أردنا بهذا الذي ذكرنا أن نريك فنون القسم في القرآن ، سواء في المقسم به والمقسم عليه ، ولو لا الإطالة في غير الموضوع المقرّر لذكرنا لك شيئا من فنون القرآن(1/715)
ص : 716
الكريم في جواب القسم ، وإنّه تارة يكون إنشاء ، وتارة يكون خبرا ، وتارة يكون مذكورا ، وتارة يكون محذوفا ، لكنّ ذلك يحتاج إلى الشرح والإيضاح ، فيطول ، ونريد أن نرجع إلى القول في الذي معنا.
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76).
قد أطلعناك على أمثلة كثيرة من هذا النوع من القسم في القرآن الكريم ، ويمتاز ما معنا بأنه قيل فيه صراحة وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) فكان هذا دليلا على أنّ هنا قسما وحلفا مثبتا ، وأنّ الكلام إثبات قسم لا نفي قسم.
ولقد كانت الصورة الظاهرة صورة نفي القسم مجالا فسيحا للعلماء ، أجهدوا فيه قرائحهم ، وأبدوا آراءهم في بيان المراد ، والجمع بينه وبين قوله تعالى : وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) فذهب بعضهم إلى أنّ (لا) زائدة ، مثلها في قوله تعالى : لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد : 29] معناه ليعلم ، والمعنى هنا : فأقسم بمواقع النجوم ، والقول بالزيادة يكاد لا يرتضيه أحد.
وذهب بعضهم إلى أن (لا) هي لام القسم بعينها ، أشبعت فتحتها ، فتولدت منها الألف ، نظير الألف في قول الشاعر :
أعوذ باللّه من العقراب
حيث أشبعت فتحة الراء ، فتولّدت منه الألف ، وحينئذ تتحد القراءتان ، قراءة مدّ اللام وعدم مدها في المعنى ، ويكون المد مدّ إشباع ، ويكفي في ضعف هذا القول اعتراف قائليه بقلّة هذا التوليد في لغة العرب. على أنّ هذا يوقعنا في شيء آخر ، لا يقرّه النحويون ، وهو خلوّ فعل القسم إذا كان مستقبلا من النون ، فإنّ النحاة يقولون : إذا وقع الفعل مستقبلا مقرونا باللام في حيّز القسم وجب اتصال الفعل بنون التوكيد ، وحذفها ضعيف جدا ، حتى لقد اضطروا إلى تخريج القراءة الأخرى لاقسم على أنّ اللام للابتداء ، وليست للقسم ، وقالوا : إنّها داخلة على مبتدأ محذوف ، والمعنى :
فلأنا أقسم ، وإن كان هذا التخريج لا يخلو من شيء.
وقيل : بل النفي على حاله ، و(لا) نفي لمحذوف ، هو ما كان يقوله الكفار في ذم القرآن ، من أنّه سحر وشعر وكهانة. ثم استؤنف الكلام بعد ذلك ، ويكون حاصل المعنى : فلا صحة لما يقولون ، أقسم بمواقع النجوم إلخ وفوق أن الحذف لا دليل عليه ، فهو لا يتفق مع ما يقول النحاة من أنّ اسم لا وخبرها لا يصحّ حذفهما ، إلا إذا كانا في جواب سؤال ، كما تقول : هل من رجل في الدار؟ فنقول : لا.
على أنّ علماء المعاني يقولون في مثل هذا الموضع : إنّ العطف بالواو متعيّن ، كما يقال : هل شفي فلان من مرضه فيقال : لا ، وأطال اللّه بقاءك.(1/716)
ص : 717 ويرى الفخر الرازي «1» أن كلمة (لا) هي نافية على معناها ، غير أن في الكلام مجازا تركيبيا ، وتقديره أن نقول : (لا) في النفي هنا مثلها في قول القائل : لا تسألني عما جرى عليّ ، يشير إلى أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فلا ينبغي أن يسأله ، فإن غرضه من السؤال لا يحصل ، ولا يكون غرضه من ذلك النهي إلّا بيان عظمة الواقعة ، ويصير كأنه قال : جرى عليّ أمر عظيم ، ويدل عليه أن السامع يقول له : ماذا جرى عليك ، ولو فهم من حقيقة كلامه النهي عن السؤال لما قال : ماذا جرى عليك ، فيصحّ منه أن يقول : أخطأت حيث منعتك عن السؤال ، ثم سألتني وكيف لا ، وكثيرا ما يقول ذلك القائل الذي قال : لا تسألني عند سكوت صاحبه عن السؤال ، أو لا تسألني ، وتقول : ماذا جرى عليك؟ ولا يكون للسامع أن يقول : إنك منعتني عن السؤال : كل ذلك تقرّر في أفهامهم : أنّ المراد تعظيم الواقعة لا النهي.
إذا علم هذا فنقول في القسم : مثل هذا موجود من أحد وجهين :
إما أن لكون الواقعة في غاية الظهور ، فيقول : لا أقسم بأنه على هذا الأمر ، لأنه أظهر من أن يشهر ، وأكثر من أن ينكر ، فيقول : لا أقسم ، ولا يريد به القسم ونفيه ، وإنما يريد الإعلام بأن الواقعة ظاهرة ، وإما لكون المقسم به فوق ما يقسم به ، والمقسم صار يصدق نفسه فيقول : لا أقسم يمينا بل ألف يمين ، ولا أقسم برأس الأمير برأس السلطان ، ويقول : لا أقسم بكذا ، مريدا لكونه في غاية الجزم.
والثاني : يدل عليه أنّ هذه الصيغة لم ترد في القرآن ، والمقسم به هو اللّه تعالى أو صفة من صفاته ، وإنما جاءت أمور مخلوقة ، والأول لا يرد عليه إشكال إن قلنا :
إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء ، كما في قوله : وَالصَّافَّاتِ المراد منه رب الصافات ، فإذا قوله : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه وأن يتطرّق الشك إليه.
ولعلك بعد كلام الفخر تكون قد فهمت أن نفي القسم استعمل في القسم من طريق أوكد.
وقبل أن نتكلم على معنى القسم من اللّه بذاته ، أو بأشياء من خلقه ، نتكلم على تفسير الآية التي معنا ، لنفرغ إلى القول في هذه النواحي باستفاضة.
أُقْسِمُ أحلف بِمَواقِعِ النُّجُومِ المواقع جمع موقع ، وموقع الشيء ما يوجد فيه ، وما يسقط فيه إن كان من أشياء مرتفعة. وعليه ، فمواقع النجوم قيل : المشارق والمغارب جميعا ، لأنها موجودة فيها. وقيل : المغارب فقط ، لأنّ عندها تسقط النجوم. وقيل : بل مواقعها مواضعها من بروجها في السماء ومنازلها منها. وقيل : بل
__________
(1) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (29/ 187).(1/717)
ص : 718
المراد مواقعها يوم القيامة إذا الكواكب انتثرت ، وسنتكلّم بعد على حكمة القسم بمواقع النجوم خاصة.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) عظيم خبر (إن) وقوله : لَوْ تَعْلَمُونَ اعتراض بين إنّ وخبرها. والضمير في قوله : (إنه) يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام على ما تقدّم توضيحه. ولَوْ تَعْلَمُونَ شرط ، جوابه : إمّا محذوف بالكلية ، لأنه لا يتعلق بذكره غرض ، إذ المقصود هو نفي ما دخلت عليه (لو). وكأن المعنى : إنّه لقسم عظيم. لو تعلمون. وذلك أنّ (لو) حرف يدلّ على امتناع شيء لامتناع غيره ، وعلى ذلك فهي تدلّ على نفي مدخولها لانتفاء شيء آخر ، فإذا قد أفاد دخول (لو) على (تعلمون) انتفاء علمهم ، وهذا هو الذي يعنينا ، أما الجواب فعلمه بعد ذلك كأنّه لا يعني.
ويقول الفخر الرازي «1» : إنّ فائدة مجيء النفي على هذه الصورة بدل قوله :
(و إنه لقسم عظيم) ولا تعلمون أنّ النفي على الصورة التي معنا أوكد ، لأنّ إتيانه عليها ذكر للشيء بدليله. أما الصورة الأخرى فليس فيها إلا إثبات عظم القسم مقترنا بنفي علمهم من غير تعرّض للإشعار بسبب نفي العلم عنهم. أما هنا فكأنّه قيل : لو كان عندكم أثارة من علم لثبت عندكم عظم القسم ، فإن كان أحد يشكّ في ذلك ، فمنشأ الشك ليس لعدم العظم في نفس الأمر ، بل لأنّه لا يعلم ، وأين هذا من ذاك.
وإما أن يكون جواب (لو) مقدّرا مفهوما من خبر (إن) أي لو كان عندكم علم لعظّمتموه ، لكنكم لم تعظّموه فلا علم عندكم ، وترى أنّا لم نقدّر لتعلمون مفعولا ، بل جعلناه منزّلا منزلة اللازم ، ويصحّ أن يقدّر له مفعول يدلّ عليه خبر (إن).
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80).
الضمير في (إنّه) يرجع إلى معلوم للمخاطبين ، وهو الكلام العربي الذي أنزله اللّه على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وكان الكفار يقولون فيه : إنه شعر ، إنه سحر إنّه كهانة وافتراء.
فقال اللّه في الرد عليهم : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) ، وقال بعضهم : هو الكلام من أول سورة الواقعة إلى هنا مما جاء فيها من التوحيد ، والحشر ، والدلائل التي سيقت لإثباتها ، وذلك أنهم كانوا يقولون : هذا كلام من عند محمد لم ينزل عليه من عند اللّه ، فقال اللّه في الردّ عليهم : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78).
والقرآن مصدر أريد منه اسم المفعول ، فهو بمعنى المقروء ، على حد قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد : 31] وهو
__________
(1) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (29/ 189).(1/718)
ص : 719
من باب هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان : 11] وقيل : بل هو اسم لما يقرأ من الكلام المنزّل إلخ كالقربان اسم لما يتقرّب به ، والمشركون وإن كانوا لا يجهلون أنّه مقروء إلا أنهم كانوا ينازعون في أنه قرآن كريم ، وأيضا كانوا يقولون : هو من عند محمد ، وكانوا ينكرون تنزيله وأنّ محمدا يتلو عليهم ما سمع من الوحي.
ومعنى كونه كريما : أنّه طاهر الأصل ، ظاهر الفضل ، يجد فيه كلّ الناس ما يريدون من خير :
«إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا أبدا كتاب اللّه» «1»
وقد وصف اللّه القرآن بأوصاف كثيرة ، وصفه بكونه حكيما ، وبكونه عزيزا ، وبكونه كريما ، وبكونه مجيدا ، وهو كريم ، من أقبل عليه أخذ منه ما أراد ، وهو عزيز من أعرض عنه ذلّ ، وهو حكيم بما اشتمل عليه من كنوز الحكمة ، وهو مجيد بما اشتمل عليه من شريف المقاصد.
وقوله : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) أفاد شيئين : الأول : أنه مظروف في كتاب والثاني : أنّه مكنون. فأما ظرفيته في الكتاب فلنا أن نقول : إنّه على حد فلان كريم في نفسه ، حيث لا يراد إنّ المظروف شيء والمظروف فيه شيء آخر ، فإنّ الشيء لا يكون ظرفا لنفسه ، فالقرآن - وهو كتاب - كريم ، في كتاب أي نفسه ، أو كريم ثبت كرمه في كتاب ، هو اللوح المحفوظ ، أو يقال : إنّ المظروف هو جملة إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) والمظروف فيه هو كتاب ، ويكون المعنى : إنّ مضمون هذه الجملة ثابت في كتاب هو اللوح المحفوظ ، وقد قيل : الكتاب هو اللوح المحفوظ ، وقيل : هو المصحف ، وقيل : بل هو كتاب من الكتب المنزلة : كالتوراة ، والإنجيل. وأما كونه مكنونا : فالمكنون هو المستور ، فإن كان الكتاب اللوح المحفوظ فمعنى كونه مكنونا أنّه مستور عن الأعين ، لا يطّلع عليه إلا نفر مخصوص من الملائكة ، ويصحّ أن نقول : إن المكنون أريد منه المحفوظ ، ويكون الكن كناية عن الحفظ ، لأنّ الشيء إذا كان شريفا عزيزا لا يكتفى في صونه وحفظه بطرق الحفظ المعتادة ، بل يستر عن العيون ، وكلّما ازدادت عزته ازداد ستره ، زيادة في الصون. فقد استعمل الكن والستر وأريد منه المبالغة في الحفظ والصيانة ، وقيل : إنّ معنى كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التبديل والتغيير ، فهو على حد قوله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر : 9].
وأما قوله تعالى : لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) فإما أن نجعله من صفة الكتاب بمعنى اللوح المحفوظ ، وإما أن يكون صفة أخرى للقرآن الكريم.
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 621) ، كتاب المناقب ، باب مناقب أهل بيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حديث رقم (3786).(1/719)
ص : 720
وعلى الأول : فالمطهرون الملائكة ، وطهارتهم نزاهتهم عمّا في طبيعة الإنسان من الشهوة التي هي من مقتضيات المادة ، ونفي مسه إلا من هؤلاء يراد منه أنّه لا يطّلع عليه إلا هؤلاء.
وعلى الثاني : فالمراد من المطهرين يحتمل أن يكون الخالين عن الحدثين الأصغر والأكبر ، وتكون الطهارة مرادا منها الطهارة الشرعية. ويكون المعنى : لا يمس القرآن إلا من كان على طهارة من الحدثين. والنفي على معنى أنّه لا ينبغي ، كمثله في قوله تعالى : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور : 3].
ويرى البعض فرارا من كون الجملة خبرية أنّ (لا) ناهية ، والضمة التي في (يمسه) ضمة اتباع ، لا ضمة إعراب ، وقد صرّح الفخر الرازي «1» بضعف هذا القول وإن روي عن ابن عطية. ومع كون الجملة صفة للقرآن فيحتمل أن يكون المراد من المطهرين الملائكة ، وهو مروي من عدّة طرق : فعن قتادة أنّه قال في الآية : ذاك عند ربّ العالمين ، لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة ، فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس ، وقد روي عن الإمام مالك رضي اللّه عنه : أحسن ما سمعت في الآية : الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا المطهرون. أنّها بمنزلة الآية التي في عبس كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [عبس : 11 - 16].
وقيل : الآية صفة القرآن حقا ، والمراد من المطهرين الخالون من الشرك ، والمراد من المس الطلب ، مثله في قوله تعالى : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الجن : 8] وقد عرفت أنّ المسّ بمعنى اللمس ، والمعنى : أن القرآن لا يطلبه للعمل به إلا المطهّرون من دنس الشرك.
وأما قوله : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) فهو وصف آخر للقرآن الكريم ، والتنزيل بمعنى منزل أو يقال : وصف به لأنّ القرآن ينزل نجوما على خلاف سائر الكتب.
وقد أنهينا القول في تفسير الآيات ، وهنا أشياء لا بدّ أن نتعرض لها ، لأن بعضها من الأحكام التي أراد الفقهاء أن يأخذوها من الآية. وبعضها الآخر وعدناك به ، وهو ما يتعلّق بالقسم. ولنشرع في البعض الأول ، وهو ما يتعلّق بالأحكام.
قد رأيت أثناء التفسير أنّ من المفسرين من يريد إرجاع الضمير في لا يَمَسُّهُ إلى القرآن الكريم ، وأنّ من الآراء في (المطهرين) رأيا يقول : هم المطهرون من الناس وأنّ طهارتهم هي الطهارة الشرعية من الحدثين. على هذين الاعتبارين يقوم الاستدلال بعض الفقهاء بالآية على عدم مس المحدثين للمصحف ، وعدم مس المحدث
__________
(1) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (29/ 193).(1/720)
ص : 721
للمصحف أمر يكاد يجمع عليه ، ومن أجازه من الفقهاء أجازه لضرورة التعلم ، أو التعبد عند بعضهم ، وقد يكون الحكم مسلّما لا اعتراض عليه ، إنما الذي لا يسلّم هو أن يكون الحكم مأخوذا من هذه الآية ، فإنّك لمست ما فيها من احتمالات كثيرة ، بل ويرجّح بعض العلماء أن الكتاب هو اللوح المحفوظ ، وأنّ الضمير في (يمسه) راجع إليه ، وأنّه حتى على فرض أن الكتاب القرآن ، فليس هو المصحف ، بل هو المصحف الذي بأيدي الملائكة ، ولئن كان هو المصحف فالمطهرون يحتمل أن يراد منهم المؤمنون ، ويراد من المس الإدراك ، ويكون المعنى لا تفهمه إلا القلوب الطاهرة ، وحرام على القلوب الملوثة أن تجد نور الإيمان. قال البخاري في هذه الآية : لا يجد طعمه إلا من آمن به.
وقد رجّح العلماء أنّ المراد من الكتاب الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى : فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [عبس : 13 - 16] والكتاب بهذا المعنى هو الذي يصحّ وصفه بأنه لا يمسه إلا المطهرون ، إذ هو بأيديهم ، وأما غيرهم فهم لا يمسونه ، لأنه ليس في متناولهم ، وقد ذكروا في ترجيح ذلك وجوها كثيرة.
منها أن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزيل به الشياطين ، وأنّه في محل مضمون لا يصل إليه فيمسه إلّا المطهرون ، وأما الأخبثون من خلقه ، فلا يصلون إليه ، ويكون ذلك على حد قوله تعالى : وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) [الشعراء : 210 ، 211] أفرأيت كيف نفى اللّه ابتغاء مجيئهم به ، ونفى استطاعتهم أن ينزلوا به ، وكذلك آية عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) [عبس : 1] التي أسلفنا لك ذكرها.
ومن وجوه الترجيح : أنّ السورة مكية ، ومعلوم أنّ القرآن في مكة أكثر عنايته كان موجها إلى أصول الدين : من تقرير التوحيد ، والمعاد والنبوة. وأما الأحكام ، وبخاصّة ما يتعلق منها بمس الأشياء في تفاصيل جزئية فمردّه إلى المدني من السور.
ومن وجوه الترجيح : أن القرآن في أول نزوله لم يكن جمع في مصحف ، بل لم يكن تمّ نزولا حتى يكون الناس في حاجة إلى بيان حكم مس المصحف ، نعم إنه يحتمل أن يكون خبرا عما يكون.
ومن الوجوه أيضا : أنّ اللّه تعالى قال في وصف الكتاب : مَكْنُونٍ وذلك كناية عن الصون والستر عن الأعين ، لا تناله أيدي البشر. اسمع قول الكلبي في تفسير الآية ، قال : هو مكنون من الشياطين. وقال مجاهد : مكنون لا يصيبه تراب ولا غبار ، هل ترى أنّ المصحف لا يمسه غبار ، أم ذاك خبر عن شيء في السماء؟ قال أبو إسحاق : مصون في السماء.(1/721)
ص : 722
على أنّ ذلك يتفق تماما مع قوله تعالى : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) ولو نظرت إلى أنّ الآية سيقت للرد على المكذبين لوجدت الذي نقول أبلغ في الرد عليه من وصفه بأنه لا يمسه المحدثون.
على أنّ الآية خبر ، وتأويلها على الوجه الذي ذكرنا يبقيها على خبريتها ، أمّا تأويلها على الوجه الآخر ، فيحتاج إلى إخراجها عن الخبرية إلا الإنشاء ، والأصل إبقاء الخبر على خبريته حتى يوجد المقتضى ، ونحن نبحث عنه فلا نجده.
على أنّه لو كان المعنى ما ذهبوا إليه لقيل : لا يمسه إلا المتطهرون بدل إلا المطهرون ، فالمطهرون من تكون طهارتهم من غيرهم ، أما المتطهرون فطهارتهم مسندة إليهم ، وحيث أراد اللّه هذا المعنى قال فيه : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة : 222]. وفي الحديث : «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» «1».
ومن وجوه الترجيح أنّه لو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا ذا فائدة كبيرة ، إذ ما فائدة أن يقال : إنّ القرآن في مستور ، وكل الكتب كذلك.
إنما سيقت الآية الكريمة لمدحه وتشريفه ، وبيان الخصال التي اختص بها ، والتي تدلّ على أنّه منزل من عند اللّه ، وأنّه محفوظ مصون ، لا تصل إليه الشياطين ، ولا يمسه إلا السفرة الكرام البررة.
نعم إذا كان المفسرون تبعا للفقهاء يستدلّون بالآية من وجهها الذي استدل بها منه ابن تيمية على الحكم كان حسنا ، حيث قال : إنّ الآية تدلّ على الحكم من باب الإشارة والتنبيه ، لأنّه ما دامت صحف القرآن في السماء لا يمسها إلا المطهرون ، فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألا يمسها إلا الطاهر.
على أنّهم لو ذهبوا إلى السنة لوجدوا بها الذين يطلبون ،
فقد روى أصحاب السنن «2» من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أنّ في الكتاب الذي كتبه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات :
«ألا يمسّ القرآن إلا طاهر»
وقد رجّح العلماء صحة ما رواه ابن حبان في «صحيحه» ومالك في «الموطأ» ثم الآثار بعد ذلك كثيرة.
ولعل هذا يغنيك عن الرجوع إلى ترجيح أحد الآراء على غيره في التفسير ، أما الحكم فنحن نسلم به من دليله إذا كان في غير الآية ، والآثار عليه كثيرة : منها ما ورد
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (1/ 78) ، كتاب الطهارة ، باب فيما يقال بعد الوضوء ، حديث رقم (55).
(2) انظر صحيح ابن حبان (14/ 501 - 515) ، وموطأ مالك حديث رقم (199).(1/722)
ص : 723
في حديث إسلام عمر أنّه قال لأخته : أعطوني الكتاب الذي تقرءون ، فقالت : لا يمسه إلا المطهرون ، فقام ، واغتسل ، وأسلم ومسّ المصحف.
وعن كثير من الصحابة أنهم كانوا يأمرون أبناءهم بالوضوء لمس المصحف.
وعن الحسن والنخعي كراهة مس المصحف على غير وضوء. ثم اسمع رأي الجصاص بعد أن نقل الخلاف الذي عرفت آنفا ، قال أبو بكر «1» : إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند اللّه ، والمطهرون الملائكة. وإن حمل على النهي وإن كان في صورة الخبر ، كان عموما فينا ، وهذا أولى ، لما
روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كتب لعمرو بن حزم «و لا يمس القرآن إلا طاهر»
فوجب أن يكون نهيه هذا بالآية إذ هي تحتمله.
ولننتقل بعد ذلك للكلام في القسم وفاء بالذي وعدناك ، وسيكون كلامنا في الموضوع من ناحيتين :
ناحية القسم من اللّه.
وناحية بمواقع النجوم خاصّة لأنه معنا ، ومن حقك أن تعرف وجه القسم بها ، واختصاصها بالموضع الذي وردت فيه. فنقول :
قد رأيت أول ما كتبنا أنّا سقنا لك أنواعا من القسم الوارد في القرآن ، فعرفت أنّه أقسم بذاته ، وأنّه أقسم بأشياء غير الذات ، ومنها القرآن الكريم ، وأريناك أمثالا كثيرة فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الذاريات : 23] يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس : 1 ، 2] وَالصَّافَّاتِ وَالطُّورِ (1) إلخ ، وقد كان العلماء فرقتين في قسمه بغير ذاته ، فمنهم من سلك طريق التأويل ، وصرف العبارات عن ظاهرها ، فقالوا مثلا يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) : أي وربّ القرآن الحكيم ، وَالضُّحى (1) : ورب الضحى. وهلم جرا.
وزعموا أن الذي حملهم على هذا التأويل أنهم :
1 -
قد رأوا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن الحلف بغير اللّه ، وقال : «من كان حالفا فيحلف باللّه أو ليذر» «2»
، والنهي يقتضي قبح المنهي عنه ، فإذا ورد في الشرع ما ظاهره أنّه حلف بغير اللّه وجب تأويله ، وردّه إلى أن يكون حلفا باللّه.
2 - أنّ الحلف بالشيء يقتضي أن يكون المقسم به معظما ، والتعظيم لا يكون إلا للّه ، فوجب أن تحمل الأقسام على ذلك.
3 - أنه قد ورد مصرّحا به على هذا النحو في قوله تعالى :
__________
(1) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر العربي (3/ 416). [.....]
(2) رواه النسائي في السنن (7 - 8/ 7) ، كتاب الأيمان ، باب التشديد في الحلف حديث رقم (3773).(1/723)
ص : 724
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) [الشمس : 5 - 7] حيث جاء الحلف بالذات بعد الحلف بالسماء وبالأرض وبالنفس ، فلا بدّ أن يكون القسم في الجميع على هذا المعنى.
أما الفرقة الأخرى من العلماء فذهبت إلى أنّ القسم وقع بأعيان الأشياء المقسم بها ، وقد قالوا في الاحتجاج على صحة ما ذهبوا إليه :
1 - أن القسم هو بهذه الأشياء في الظاهر ، والعدول عنه عدول عن الظاهر ، ولا يكون إلا لدليل ، وما ذكرتم لا يصلح دليلا ، لأن ما منع من العباد لا يلزم أن يكون ممنوعا صدوره من اللّه. إذ المانع في حق العباد أن في القسم بغير اللّه تعظيما لذلك الغير ، والعباد يجب ألا يشركوا مع اللّه أحدا في التعظيم. وهذا المعنى غير مدرك في جانب اللّه تعالى ، فهو إذ يعظّم ، فإنما يعظّم أشياء دانت له بالربوبية ، ولا يمكن في العقل أن تتعاظم على من هي في قبضة يده وبسطة سلطانه.
وهو إذا يعرّف الناس بعظمتها ، فإنما يرشدهم إلى عظمة خالقها ، وأنه إذ يقسم بها فإنما يقسم لأنّ لها شأنا بديعا ، ومنفعة عند العبد يدركها ، وينتقل من إدراك إتقان صنعها إلى أنه لا بد أن تكون صادرة عن المدبر الحكيم ، اللطيف الخبير ، ثم هي فوق ذلك نعمة من نعمه على عباده ، والحلف بها تذكير بالنعمة لتقابل بالشكر.
2 - إنه قال تعالى : وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فأقسم بالسماء ، ثم عطف عليها ما بناها ، وذلك على طريقتكم قسم بالباني ، فلو كان القسم على تقدير مضاف لتكرر القسم في الموضع الواحد من غير موجب ، إذ يصير المعنى وباني السماء وبانيها ، وطاحي الأرض وطاحيها ، ومسوّي نفس ومسويها.
ومثل هذا ينزّه عنه القرآن الكريم.
ولو قلنا على طريقتنا إنّ هذا قسم بالسماء وببانيها ، أو ببنايتها لم يلزم هذا المحذور ، فتعيّن أن يكون القسم قسما بأعيان هذه الأشياء.
3 - أنّه لا يبعد أن يقسم بهذه الأشياء تنبيها إلى شرفها ، وما حوت من إبداع وإتقان ، ليكون ذلك دليلا على عظمة خالقها ، وأنّه إله واحد. ويكون ذلك من تضافر الحجج على المدعى الواحد ، فهو قسم واستدلال بما في المقسم به من وجوه الدلالة المختلفة ، ومن أجل ذلك نقول : لا داعي إلى التأويل ، والقسم قسم بأعيان الأشياء وحقيقتها.
وهنا سؤال يتردّد كثيرا ، حاصله أن يقال : ما فائدة القسم؟ والمخاطب أحد رجلين : مؤمن بالقرآن ، ومكذب به ، وما كان المؤمن محتاجا وهو مؤمن إلى قسم ، فهو مصدّق من غير يمين. وإن كان من المكذبين الذين لم تغنهم الآيات والنذر ، فكيف يصدّق لمجرد القسم بعد أن لم يؤثّر فيه الدليل؟(1/724)
ص : 725 ويقول العلماء جوابا عن هذا : إنّ هذه الأيمان والأقسام لم تجئ لإثبات الدعاوى ، فالدعاوى لها ما يثبتها ، وقد اقترنت من دلائل الإثبات بما لا يدحض ، إنما جاءت هذه الأقسام لتوكيد ما ثبت من طريق الحجة والبرهان على منهاج العرب وأسلوبهم في توكيد الكلام بالحلف ، وقد كان القسم أحد أساليب التوكيد عندهم ، والقرآن بلغتهم نزل.
على أننا نحيلك إلى التبصر في كل الأقسام الواردة في القرآن ، وبالتأمل فيها تجدها أشياء في مواضعها أقسم بها ، وقد حوت من الدلائل ما يجعل القسم ليس قسما في الواقع ، وإنما هو تذكير بالدليل الذي يشتمل عليه المقسم به ، فهو يذكر في معرض القسم ، وهو مخلوق من المخلوقات ، فتتوجه النفس إلى سر القسم بهذا المخلوق متسائلة : ما القسم بهذا؟ وما معناه؟ وما مغزاه؟ وما سره؟ ثم تتوجه من ذلك إلى ما في القسم به ، باعتبار ما ينبعث منه من بواعث التعظيم ، ويكون حاصل المعنى ، وحق هذه الأشياء التي ينطق صنعها ووجودها بالعظمة أنّ المقسم عليه لحق.
وما دمنا قد وصلنا إلى هذا فلنتكلم على القسم بمواقع النجوم :
يقول اللّه تعالى : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) والحديث قبل القسم من أول سورة الواقعة في شأن الواقعة والقيامة الكبرى ، وما يكون فيها من أشياء جسام إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) ثم ذكر اللّه أقسام الخلق يومئذ ، ثم ذكر الأدلة القاطعة على عموم قدرته ، وعلى المعاد. فذكر النشأة الأولى دليلا : أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62).
ثم ذكر إخراج النبات من الأرض ، وإنزال الماء من السماء. وخلق النار ، وسأل الناس أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) ثم ذكر أنّه جعل ذلك تذكرة ومتاعا ، وأمر نبيه أن يسبّح باسم ربه العظيم ، ثم أقسم بمواقع النجوم على إثبات القرآن ، وكرمه وصونه ، وحفظه ، وأنه تنزيل من رب العالمين.
وقد عرفت طرفا من أقوال العلماء في المراد بالمواقع ، وما دام الكلام سيكون في سر القسم بها نذكر شيئا مما قيل فيها غير ما سمعت :
فقد روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال : النجوم آيات القرآن ، ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء. وقد روي مثل هذا عن سعيد بن جبير ، ومقاتل ، وقتادة.(1/725)
ص : 726
وقيل : النجوم الكواكب ، ومواقعها مساقطها عند الغروب ، وهو قول أبي عبيدة ، وقد تقدم قول كهذا.
وقيل : بل مواقعها انتثارها وانكدارها يوم القيامة ، وهو مروي عن الحسن.
ويقول الذي يقول المواقع المساقط عند الغروب : إنّ اللّه تعالى يقسم بالنجوم وطلوعها ، وجريانها وغروبها ، إذ فيها ، وفي أحوالها الثلاث آية وعبرة ودلالة.
والنجوم متى ذكرت في القرآن الكريم فالمراد منها الكواكب ، انظر إلى قوله تعالى :
وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطور : 49] وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ [الأعراف : 54] ومن هنا يمكن أن يقال - بل هو قد قيل : إنّ المناسبة بين المقسم به وهو النجوم ومواقعها ، وبين المقسم عليه وهو القرآن ، أنّ النجوم جعلها اللّه يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الجهل والغواية ، وتلك ظلمات حسية ، وهذه ظلمات معنوية ، تلك يؤمن جانبها بالنجوم ، وهذه تتوقى بهداية القرآن ، فالقسم هنا قد جمع فيه بين هدايتين.
هداية ومنافع ، ليدير الناس وجوههم إلى القرآن ، ويتبصّروا ما فيه جيدا ، فيعلموا أنّه هاديهم الذي لا يضلون معه. ولا تنس كذلك أنّ اللّه قد جعل النجوم رجوما للشياطين ، وفي آيات القرآن من رجوم الشياطين ما تجعل الشياطين يولّون عند سماعه ، وما نريد أن نترك هذا الموضع حتى نسمعك رأي الفخر الرازي «1» في هذا :
قال رحمه اللّه بعد سؤال حاصله : هل في القسم بمواقع النجوم خاصة فائدة؟
قلنا : نعم ، فائدة جليلة ، وبيانها أنّا قد ذكرنا أنّ القسم بمواقعها ، وأن المواقع كما هي مقسم به ، هي من الدلائل ، وقد بيّناه في الذاريات ، وفي الطور ، وفي النجم ، وفي غيرها ، فنقول هي هنا كذلك.
وذلك من حيث أنّ اللّه تعالى لما ذكر خلق الآدمي من المني وموته ، بيّن بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس ، قدرته واختياره ، ولما كان هذا دليلا من دلائل الأنفس ذكر أيضا من دلائل الآفاق على قدرته واختياره فقال : أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ إلى غير ذلك ، وذكر قدرته على زرعه ، وجعله حطاما. وخلقه الماء عذبا فراتا ، وجعله أجاجا ، إشارة إلى أنّ القادر على الضدين مختار ، ولما لم يكن قد ذكر من الدلائل السماوية شيئا ، ذكر الدليل السماوي في معرض القسم ، وقال : بِمَواقِعِ النُّجُومِ فإنها أيضا دليل الاختيار ، لأنّ كون كلّ واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل على أنّ الفاعل مختار. فقال :
__________
(1) انظر كتابه مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (29/ 188).(1/726)
ص : 727
بِمَواقِعِ النُّجُومِ ليشير إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر ، كما قال تعالى :
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت : 53] وهذا كقوله : وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) [الذاريات : 20 - 22] حيث جمع بين الأنواع الثلاثة كذلك هنا اه.
وهو جميل كما ترى ، غير أنّ للباحث أن يقول : ظاهر كلام الفخر أنّ القسم بمواقع النجوم لإثبات القدرة والاختيار لفاعل مختار ، لكن الآية تقول : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) وظاهر ذلك أنّ المراد إثباته هو هذا الذي سيق مساق المقسم عليه ، فمن أين إثبات القدرة والفاعل المختار في القسم بمواقع النجوم؟
وفي النفس من كلام الفخر روعة ، ومن آثارها أن نقول : إنّ هذا استدلال على القدرة والفعل من طريق القسم على القرآن وكرمه وصونه ، وأنّه تنزيل من رب العالمين بمواقع النجوم من طريق أبلغ ، وكأنّه بعد أن سيقت الدلائل السابقة ، والتي كان ختامها القسم بمواقع النجوم ، وذكرت في القرآن كأنه قيل : اذكروا هذه الدلائل ، وتعرّفوا نتائجها ، واذكروا معها مواقع النجوم ، وتعرّفوا نتيجة الاستدلال بها ، تعلموا أنّ القرآن - الذي جاء بهذا - كريم ، وأنّه مصون ، وأنّه تنزيل من رب العالمين.
وقبل أن نختم الموضوع نقول : إنّ قوله تعالى : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) توكيد لما قبله ، وتقرير له. وكما أنّه لازم لكونه قرآنا كريما بهذا في كتاب مكنون ، فهو ملزوم له ، فهو دليل وهو مدلول ، وكفى هذا خاتمة للموضوع.(1/727)
ص : 728
من سورة المجادلة
قال اللّه تعالى : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
ثبت في السنن والمسانيد «1»
أنّ أوس بن الصامت قال لزوجته خولة بنت ثعلبة بن مالك في شيء راجعته فيه : أنت عليّ كظهر أمّي وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك حرمت عليه ، فندم من ساعته ، فدعاها ، فأبت ، وقالت : والذي نفس خولة بيده ، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : يا رسول اللّه إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما خلا سنّي ، ونثرت بطني ، جعلني عليه كأمه ، وتركني إلى غير أحد ، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول اللّه تنعشني بها وإياه فحدثني بها ، فقال عليه الصلاة والسلام :
«ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية : «ما أراك إلا قد حرمت عليه».
قالت : ما ذكر طلاقا ، وجادلت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مرارا ، ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك فاقتي ، وشدّة حالي ، وروي أنها قالت : إنّ لي صبية صغارا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء ، وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك ، وما برحت حتى نزل القرآن فيها.
فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا خولة أبشري» قالت : خيرا ، فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.
قال النحاة : إنّ قد الداخلة على الماضي لا بدّ فيها من معنى التوقع ، يعنون أنه لا يقال : قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل ، أو يسأل عنه ، ولذلك قال سيبويه : وأما قد فجواب هل فعل ، لأنّ السائل ينتظر الجواب ، وقال الخليل : هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر ، يريد أنّ الإنسان إذا سئل عن فعل ، أو علم أنّ المحدّث يتوقع أن يخبر به قال : قد فعل. وإذا كان المخبر مبتدئا قال : فعل كذا وكذا.
و(قد) هنا فيها معنى التوقع ، فإنّ السماع في قوله تعالى : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (2/ 241) ، كتاب الطلاق ، باب الظهار حديث رقم (2214).(1/728)
ص : 729
مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية. ولا شكّ أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يتوقع أن يجيب اللّه دعاءها ويفرّج كربها.
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أي تراجعك الكلام في شأن زوجها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ الشكوى أن تخبر عن مكروه أصابك ، وهي من الشكو ، وأصله فتح الشكوة ، وإظهار ما فيها ، والشكوة وعاء كالدلو ، أو القربة الصغيرة ، يتخذ للماء واللبن ونقع الزبيب والتمر ، ثم شاع استعمال الشكوى في إظهار البثّ ، وما انطوت عليه النفس من المكروه.
وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما السمع هنا على حقيقته المعروفة ، وهي أنّه صفة يدرك بها الأصوات ، غير صفة العلم ، أو أنه نوع من الإدراك يرجع إلى صفة العلم. والتحاور :
المرادّة في الكلام ، وهو قريب من معنى المجادلة.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات ، ويبصر كل المبصرات ، على أتم وجه وأكمله ، ومن لازم ذلك أن يسمع تحاورهما ، ويبصر هيئة المجادلة حين رفعت رأسها إلى السماء مبتهلة ضارعة.
قالت عائشة رضي اللّه عنها : الحمد للّه الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا في كسر البيت يخفى عليّ بعض كلامها ، فأنزل اللّه تعالى : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) أخرجه البخاري والنسائي «1».
قال اللّه تعالى : الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) الظهار لغة مصدر ظاهر ، مفاعلة. يقال : ظاهر زيد عمرا ، إذا قابل ظهره بظهره حقيقة ، وظاهره غايظه ، وإن لم يكن هناك تقابل حقيقة ، باعتبار أنّ المغايظة تقتضي هذه المقابلة ، وظاهره : ناصره باعتبار أنّه يقال قوّى ظهره إذا نصره ، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر ، باعتبار ما يلي به كل منهما الآخر ظهر الثوب. وظاهر من امرأته قال لها : أنت علي كظهر أمي. وكان ذلك طلاقا في الجاهلية كما تقدم ، وقال بعض العلماء : وكان طلاقا أيضا في أوّل الإسلام ،
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الرواية السابقة : «ما أراك إلا قد حرمت عليه»
. وحكى بعضهم أنّه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه. وقيل : لم يكن طلاقا من كل وجه ، بل كانت الزوجة تبقى معلقة ، لا ذات زوج ،
__________
(1) رواه البخاري (8/ 212) ، 98 - كتاب التوحيد ، 9 - باب وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً والنسائي كتاب الطلاق ، باب الظهار حديث رقم (3460).(1/729)
ص : 730
ولا خلية تنكح غيره ، وكان الظاهر أن يقال : ظاهر زوجته ، كما يقال طلق زوجته ، إلا أنّه لتضمنه معنى التبعيد عدّي بمن.
وقوله تعالى : ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ليس خبر المبتدأ ، إنما هو دليله ، والخبر محذوف ، والتقدير : الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون ، لسن أمهاتهم ، ما أمهاتهم على الحقيقة إلا اللائي ولدنهم ، فلا يشبّه بهن في الحرمة إلا من ألحقها اللّه بهن.
وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وصف اللّه الظهار بأنه منكر وزور ، باعتبار أنّ قول الرجل لامرأته (أنت عليّ كظهر أمي) يتضمّن إخبارا وإنشاء ، فالأول من جهة إخباره بأنها تشبه أمه ، والثاني من جهة أنه أنشأ طلاقها وتحريمها ، فهو خبر زور ، وإنشاء منكر ، ينكره الشرع ، ولا يعرفه.
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ كثير العفو والمغفرة ، فيغفر لهم ما سلف من الظهار ، ويعفو عمن ارتكبه إذا تاب.
تمسّك المالكية بظاهر قوله تعالى : مِنْكُمْ في أنّ الذمي إذا قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي لم يعتبر ذلك ظهارا ، ولم تترتب عليه أحكام. وهذا هو المنقول عن الحنابلة ، وهو المعول عليه عند الحنفية ، إلا أنّ الحنفية لم يستدلوا عليه بمفهوم قوله تعالى : مِنْكُمْ ، بل حجتهم في ذلك أنّ الذمي ليس من أهل الكفّارة.
وقال الشافعية كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه ، يصحّ ظهار الذمي وتترتب عليه أحكامه ، وقوله تعالى : مِنْكُمْ إنّما ذكر للتصوير والتهجين ، لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب ، فليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة الظهار من الذمي.
واعترض قول الشافعية بصحة ظهار الذمي مع اشتراطهم النية في الكفارة بخصالها الثلاث والإيمان في الرقبة. والذمي ليس من أهل النية ، ويتعذّر ملكه للرقبة المؤمنة.
وأجابوا عن ذلك بأنّ خصال الكفارة منها ما هو عبادة بدنية وهو الصوم ، ومنها ما هو من قبيل الغرامات وهو العتق والإطعام ، والنية فيما كان من قبيل الغرامات إنّما هي للتمييز ، فلا يشترط فيها الإسلام ، كما في قضاء الديون. فالذمي يكفّر بالإعتاق والإطعام ، ولا يكفّر بالصوم ، لأنه لا يصح منه ، كما أنّ العبد المظاهر لا يكفّر بغير الصوم ، لأنه لا يملك. ويتصور ملك الذمي للعبد المسلم بإسلام قنّه ، أو بقوله لمسلم : أعتق عبدك عن كفارتي فيجيبه ، فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو موسر ، منع الوطء لقدرته على ملك الرقبة المسلمة ، بأن يسلم فيشتريها ، وكذلك لا ينتقل من الصوم إلى الإطعام لقدرته عليه بالإسلام. فإن عجز عن الصوم لكبر ونحوه انتقل إلى الإطعام ، ونوى للتمييز أيضا.(1/730)
ص : 731
قال العلماء : لفظ النساء المضاف إلى الرجال حقيقة في الزوجات دون الإماء ، لأنّ المتبادر من كلمة نساء الرجل إنما هو زوجاته دون إمائه ، فلا يقال فيهن نساؤه ، إنما يقال جواريه وإماؤه وسراريه. والتبادر من أمارات الحقيقة ، وحينئذ يكون ظاهر قوله تعالى : مِنْ نِسائِهِمْ أنّ الظهار إنما يكون في الزوجات ، فلو قال لأمته :
الموطوءة ، أو غير الموطوءة : أنت عليّ كظهر أمي ، لم يعتبر ذلك ظهارا ، ولم تترتب عليه أحكام الظهار ، وهو منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضي اللّه عنهم ، وإليه ذهب الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة.
وقد نقل عن مالك والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقا.
وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الأمة الموطوءة ، ذهبوا إلى التعميم في قوله تعالى : مِنْ نِسائِهِمْ كما عمّ قوله تعالى : وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ [النساء : 23] الزوجات والإماء ، فحرّم بنت الأمة كما حرّم بنت الزوجة.
واقتضى قوله تعالى : الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ أنه ليس للنساء ظهار ، فلو ظاهرت امرأة من زوجها لم يلزمها شي ء ، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة ، وقال أبو بكر بن العربي : وهو صحيح معنى ، لأنّ الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ، ليس بيد المرأة منه شيء.
ونقل أبو حيان عن الحسن بن زياد أنّها تكون مظاهرة ، ويلزمها التكفير قبل التماس.
وعن الأوزاعي وعطاء وإسحاق أنّ عليها كفارة يمين ، وعن الزهري : أنها تكفّر كفارة الظهار ، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها.
وكذلك اقتضى عموم الموصول في قوله تعالى : الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ صحة ظهار العبد من زوجته ، لأنّ أحكام النكاح في حقه ثابتة. وإن تعذّر عليه العتق والإطعام ، فإنه قادر على الصيام. وحكى الثعلبي عن مالك أنّه لا يصح ظهار العبد.
ولكنّ الذي عليه المعوّل عند المالكية هو صحة ظهاره.
ويؤخذ من قوله تعالى : وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أنّ الظهار حرام ، بل اعتمد فقهاء الشافعية القول بأنه كبيرة ، لأنّ فيه الإقدام على إحالة حكم اللّه تعالى وتبديله دون إذنه سبحانه. ولأنّ من أقدم على الظهار بعد أن أخبر اللّه بأنه منكر من القول وزور يعتبر كاذبا معاندا للشرع ، فمن ثمّ كان كبيرة.
قال اللّه تعالى : وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا(1/731)
ص : 732
ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
رتب اللّه الكفارة على الظهار الذي يعقبه العود ، وقد اختلف أهل التأويل في العود ما هو؟
فحكى عن مجاهد أنّ الظهار في الإسلام عود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية ، ومعنى الآية عنده : والذين كان من عادتهم أن يظاهروا من نسائهم ، فقطعوا ذلك بالإسلام ، ثم يعودون لمثله ، فعلى من عاد منهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا .. إلخ فالكفارة تجب بنفس الظهار في الإسلام. وقد روي مثل ذلك عن طاوس والثوري وعثمان البتّي.
وقال أبو العالية وأهل الظاهر : العود تكرار لفظ الظهار وإعادته ، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار.
واختلفت الروايات عن الأئمة الأربعة ، فأصحّ الروايات عن أبي حنيفة أنّ العود هو العزم على الوطء.
وروى ابن الجلّاب عن مالك روايتين : أولاهما : أنه العزم على الوطء. وثانيتهما : أنه العزم على الإمساك. وابن العربي ينقل عن «الموطأ» أنه العزم عليهما معا.
وقال الإمام أحمد في قوله تعالى : ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قال : هو الغشيان إذا أراد أن يغشى كفّر. اه.
وقال الشافعي : الذي عقلت مما سمعت في يَعُودُونَ لِما قالُوا أنّ المظاهر حرم مس امرأته بالظهار ، فإذا أتت على المظاهر مدة بعد القول بالظهار ولم يحرّمها بالطلاق الذي يحرّم به ، ولا شيء يكون له مخرج من أن تحرم عليه به ، فقد وجب عليه كفارة الظهار ، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرّم على نفسه عاد لما قال فخالفه ، فأحل ما حرّم ، ولا أعلم له معنى أولى به من هذا.
فأمّا مجاهد ومن يرى رأيه ، فلم يخف عليهم أنّ العود شرط في الكفارة ، ولكنّ العود عندهم هو العود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من المظاهرة من الزوجات ، وهكذا استعملوا العود في معناه الحقيقي ، كما قال اللّه تعالى في جزاء الصيد : عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة : 95] أي ومن عاد للاصطياد بعد نزول تحريمه ، وكما قال تعالى : عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء : 8] أي وإن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة ، وقد أخبر اللّه عن الظهار أنه منكر وزور ، فهو معصية منهيّ عنه ، والعود إلى المنهي عنه فعله بعد النهي عنه.(1/732)
ص : 733 ولا يخفى أنّ حمل الكلام على تأويل مجاهد ومن يرى رأيه خروج بالآية عن مقتضى الفصاحة ، وتفكيك لنظمها. فإنّهم جعلوا الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار يَظْهَرُونَ بمعنى الماضي المنقطع. وجعلوا العائد غير المظاهر ، إذ المظاهرون على رأيهم أهل الجاهلية ، والعائدون أهل الإسلام ، فإذا ساغ فهم ذلك في رجل ظاهر في الجاهلية ، ثمّ ظاهر في الإسلام ، فكيف يسوغ في رجل لم يظاهر في الجاهلية ، أو لم يدرك الجاهلية أصلا؟
ومعلوم أنّ مساق الآية لبيان حكم المظاهر في الإسلام ، وعليه ينطبق سبب النزول ، وأيضا فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر أوس بن الصامت بالكفّارة ، ولم يسأله أظاهر في الجاهلية أم لا؟
وأما أبو العالية وأهل الظاهر فقد استدلوا على رأيهم بأنّ الذي يعقل من لغة العرب في العود إلى الشيء إنما هو فعل مثله مرّة ثانية ، كما قال تعالى : وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام : 28] والفعل معدّى باللام كآية الظهار سواء بسواء ، واتفق أهل التأويل على أن عودهم لما نهوا عنه هو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أول مرة.
وكذلك قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وهو في سورة المجادلة بعد ذكر الظهار بآيات ، والعهد قريب.
وقالوا أيضا : أصحّ خبر في الظهار حديث عائشة رضي اللّه عنها أنّ أوس بن الصامت كان به لمم ، فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته ، فأنزل اللّه فيه كفّارة الظهار. فهذا الحديث يقتضي التكرار.
وقالوا أيضا : فما عدا تكرار اللفظ : إما إمساك وإما عزم وإنما فعل ، وليس واحد منها عودا لما قال ، فلا يكون الإتيان به عودا ، لا لفظا ولا معنى.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ هذا الرأي يقتضي أنّ الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة ، وقصة خولة تدفعه ، لأنّه لم ينقل التكرار ، ولا سأل عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وكذلك لم يسأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سلمة بن صخر حين ظاهر من زوجته فألزمه الكفارة : أهذا ظهار مكرّر ، أم هو أول ظهار؟
وأما حديث عائشة فما أصحّه ، وما أبعد دلالته على ما قالوا ، فإنّ غاية ما أفاده أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته مرات كثيرة ، وأن زوجته جاءت آخر مرة تجادل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتشتكي إلى اللّه ، فأنزل اللّه تحريم الظهار ، ورتّب عليه وجوب الكفارة قبل التماس ، فكان الذي أخذ هذا الحكم هو المرة الأخيرة ، وأما ما قبلها من مرات المظاهرة فإنّها لغو لا حكم لها ، أو أنها كما في بعض الآراء كانت طلاقا.
أما الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين فلم يخف عليهم أنّ الظاهر من قوله تعالى : (1/733)
ص : 734
ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أنّهم يكررون ما قالوا ، إلّا أنّه منع من هذا الظاهر أن التكرار لم ينقل في قصة خولة وزوجها أوس ، ولا في قصة سلمة بن صخر ، وأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يسأل أوسا ولا سلمة عنه.
وقد قال أهل اللغة إذا قال قائل : (عاد لما فعل) جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى ، وهذا ظاهر. وجاز أن يريد أنه نقض ما فعل وتداركه. لأنّ التصرف في الشيء بنقضه وتداركه لا يمكن إلا بالعود إليه ، فلما منع من إجراء اللفظ على ظاهره ما تقدم ، وجب المصير إلى المعنى الثاني وهو النقض والتدارك.
إلا أنّ الأئمة مختلفون في العمل الذي ينقضه المظاهر ويتداركه ، فيرى غير الشافعي أنّ الظهار يوجب تحريما للزوجة لا يرفعه إلا الكفارة ، فالذي يريد المظاهر نقضه وتداركه هو تحريمها عليه ، ونقض ذلك التحريم وتداركه إنما يكون بوطئها ، أو بالعزم على وطئها ، أو باستباحة وطئها ، على خلاف بينهم تقدم بيانه.
ويرى الشافعي أنّ كلمة الظهار فيها تشبيه الزوجة بالأم ، وهذا التشبيه يقتضي فراقها ، فالذي يريد المظاهر نقضه والرجوع عنه هو فراقها ، فإن مضت مدة تتسع للفراق الشرعي ولم يفارق صار ناقضا لمقتضى ما قال راجعا عنه. وإن اتصل بلفظ الظهار فرقة فليس بعائد.
واعترض القول بأن العود هو الوطء بأنّ الآية ناصّة على وجوب الكفارة قبل الوطء ، فيكون العود سابقا عليه ، فكيف يكون هو الوطء؟
وأجاب بعض من يرى هذا الرأي بأنّ المراد من قوله تعالى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا من قبل أن يباح التماس شرعا ، والوطء أولا حرام ، موجب للتكفير ، وهذا الجواب خروج باللفظ عن مقتضى ظاهره ، من غير أن يقوم عليه دليل سوى التزام هذا المذهب.
وأجاب آخرون : بأنّ قوله تعالى : ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا معناه ثم يريدون العود ، كما قال تعالى : فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل : 98] وكما قال : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة : 6] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها ، وهذا معنى قول الإمام أحمد وقد تقدّم : إذا أراد أن يغشى كفّر.
واعترض القول بأنّ العود هو العزم على الوطء بأنّ الآية لما نزلت ، وأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المظاهر بالكفارة ، لم يسأله هل عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك ، والوقائع القولية كهذه يعمّها الاحتمال ، فتكون الكفارة واجبة ، سواء أعزم على الوطء أم لم يعزم.
والجواب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ترك السؤال عن ذلك ، لعلمه به من خولة ، فقد أخرج(1/734)
ص : 735
الإمام أحمد وأبو داود «1» وغيرهما من طريق يوسف بن عبد اللّه بن سلام قال :
حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت : فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل اللّه تعالى صدر سورة المجادلة ، كنت عنده شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، فدخل عليّ يوما ، فراجعته بشي ء ، فغضب ، فقال : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم رجع ، فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل عليّ ، فإذا هو يريدني عن نفسي ، قلت : كلا والذي نفس خولة بيده ، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت ، حتّى يحكم اللّه ورسوله فينا. ثم جئت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فذكرت له ذلك ، فما برحت حتّى نزل القرآن ... الخبر. فإنّ ظاهر قولها : فذكرت له ذلك أنّها ذكرت كلّ ما وقع. ومنه طلب أوس وطأها ، المكنّى عنه ب : يريدني عن نفسي. وذكرها ذلك له عليه الصلاة والسلام أهمّ لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد اللّه بن سلام.
واعترض القول بأنّ العود هو إمساكها زمنا يتّسع للفراق الشرعي ولم يفارق ، بأن اللّه تعالى قال : ثُمَّ يَعُودُونَ وكلمة (ثم) تقتضي التراخي الزماني ، والإمساك المذكور معقب لا متراخ ، فلا يعطف بثم ، بل بالفاء.
والجواب أن زمن الإمساك ممتدّ ، ومثله يجوز فيه العطف بثم ، والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه.
وقوله تعالى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مبتدأ ثان ، خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة ، والجملة خبر الموصول ، ولتضمنه معنى الشرط زيدت الفاء في خبره ، والمراد بالرقبة المملوك من تسمية الكل باسم الجزء فتحرير الرقبة إعتاق المملوك ، وجعله حرّا.
وقد أطلق اللّه الرقبة هنا ، ولم يقيّدها بالإيمان ، فاقتضى ذلك إجزاء عتق الرقبة في الكفارة ، وبهذا الظاهر قال الحنفية وأهل الظاهر ، وقالوا : لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحان ، كما بينه في كفارة القتل ، فوجب أن يطلق ما أطلقه اللّه ، ويقيد ما قيده ، فيعمل بكلّ منهما في موضعه ، وزاد الحنفية أنّ اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص ، وهو نسخ ، والقرآن لا ينسخ إلّا بالقرآن أو الخبر المشهور ، ولا يحمل المطلق على المقيّد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة ، ولا يلزم من التقييد في كفارة القتل الذي هو أعظم ، ثبوت مثله في كفارة الظهار الذي هو أخف ، فلا يصحّ أن تكون آية القتل بيانا لآية الظهار.
وذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه إلى اشتراط الإيمان في كفارة غير القتل ، كما هو شرط في كفارة القتل ، قالوا في بيان ذلك واللفظ للشافعي : شرط اللّه سبحانه في الرقبة في القتل أن تكون مؤمنة ، وأطلق هنا ، كما شرط العدالة في
__________
(1) سبق تخريجه.(1/735)
ص : 736
الشهادة ، وأطلق الشهود في مواضع ، فاستدللنا به على أنّ ما أطلق على معنى ما شرط.
على أنّه سبحانه إنما ردّ زكاة المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض اللّه الصدقات ، فلم تجز إلا لمؤمن ، وكذلك ما فرض من الرقاب ، لا يجوز إلا لمؤمن.
قال الشافعي : وإنّ لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه ، فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم. قال : ولو نذر رقبة مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة ، وهذا بناء على هذا الأصل ، وأن النذر محمول على واجب الشرع ، وواجب العتق لا يتأدّى إلا بعتق المسلم. ومما يدلّ على هذا
أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال لمن استفتى في عتق رقبة منذورة : «ائتني بها» ، فسألها : «أين اللّه»؟ فقالت : في السماء.
فقال : «من أنا»؟ فقالت : أنت رسول اللّه. فقال : «أعتقها فإنّها مؤمنة» «1»
قال الشافعي : فلما وصفت بالإيمان أمر بعتقها اه.
والضمير في قوله تعالى : مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا للمظاهر والمظاهر منها معلومين من السياق ، والتماسّ كناية عن الجماع ، فدلّت الآية على حرمة الجماع قبل التكفير.
وألحق الحنفية بالجماع دواعيه من التقبيل ونحوه ، لأنّ الأصل أنه إذا حرّم الشيء حرّم بدواعيه ، إذ طريق المحرم محرم ، وأظهر القولين عند الشافعية الجواز ، لأن حرمة الجماع ليست لمعنى يخل بالنكاح ، فلا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه ، فإنّ الحائض يحرم جماعها دون دواعيه ، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه ، والمسبية يحرم وطؤها دون دواعيه.
أوجبت الآية الكفارة قبل المسيس ، وقد يذهب من يتمسّك بالظواهر إلى أنّه إذا وطئ قبل أن يكفّر أثم ، وسقطت عنه الكفارة ، لأنه قد فات وقتها ، ولم يبق له سبيل إخراجها قبل التماس ، وهذا الحكم منقول عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف.
ولكنّك تعلم أنّ الآية مع أنّها وقتت للكفارة ميقاتا هو ما قبل المسيس ، فإنّها مع ذلك حرّمت على المظاهر العائد المسيس حتى يكفر ، فما لم يكفر لا يحل له وطؤها ، ولو وطئها مئة مرة ، وفوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة ، كالصلاة والصيام وسائر العبادات. فلا يزال المظاهر مطالبا بالكفّارة.
وقد دلت على ذلك السنة الصحيحة
أخرج أبو داود والترمذي «2» وغيرهما أنّ سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته ، فوقع عليها قبل أن يكفّر ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 381) ، 5 - كتاب المساجد ، 7 - باب الكلام في الصلاة حديث رقم (33).
(2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 503) ، كتاب الطلاق ، باب كفارة الظهار حديث رقم (1200) ، وأبو داود (2/ 240) ، كتاب الطلاق ، باب الظهار حديث رقم (2213) ، وابن ماجه في السنن (1/ 665) ، 10 - كتاب الطلاق ، 25 - باب الظهار حديث رقم (2062).(1/736)
ص : 737
حملك على ذلك»؟ فقال : رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :
«فاعتزلها حتى تكفّر»
فحكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بوجوب الكفارة على من وطئ قبل أن يكفّر ، وإلى ذلك ذهب الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين.
ويروى عن مجاهد في الرجل يطأ قبل أن يكفّر أنّ عليه كفارتين ، وصحّ مثله عن ابن عمر وعمرو بن العاص رضي اللّه عنهم ، ووجه قولهم : أنّ إحدى الكفارتين للظهار الذي اقترن به العود. والثانية للوطء المحرم ، كالوطء في نهار رمضان ، وكوطء المحرم. وعن الحسن وإبراهيم أنّ عليه ثلاث كفارات ، ولا يعلم لذلك وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه على الحرام ، وحكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدلّ على خلاف هذه الأقوال.
ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أي الحكم بالكفارة ، تزجرون به عن مباشرة ما يوجبه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بجميع أعمالكم ، ظواهرها وبواطنها ، ومجازيكم عليها كلها ، فحافظوا على حدود ما شرع لكم ، ولا تخلّوا بشيء منه.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4).
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا.
والمراد بمن لم يجد الرقبة من لم يملك الرقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته ، واختلفت مذاهب الفقهاء في بيان قدر الكفاية ، ومحلّ ذلك كتب الفروع ، وكذلك اختلفوا في اعتبار وقت اليسار والإعسار. فذهب مالك والشافعي في أظهر أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء ، لأنّ الكفّارة عبادة لها بدل من غير جنسها ، كالوضوء والتيمم ، والقيام من الصلاة والقعود فيها ، فاعتبر وقت أدائها.
وذهب أحمد والشافعي في أحد أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب ، تغليبا لشائبة العقوبة ، كما لو زنى قنّ ثم عتق ، فإنّه يحدّ حدّ القنّ.
وقد جرى عرف الشارع على اعتبار الشهور بالأهلة ، فلا فرق بين التام والناقص ، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر كمّل الشهرين بالهلال ، ولو اتفق أنهما ناقصان أجزأه ذلك إجماعا. ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر - فقد اختلفوا فيه ، فقال الشافعية : بحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه ، ويتم الأول من الثالث ثلاثين يوما ، لتعذّر الهلال فيه. وقال الحنفية : لا بدّ من ستين يوما.
أوجبت الآية التتابع في صيام الشهرين ، فلو أفطر يوما منهما ولو الأخير من غير عذر ، انقطع التتابع ، ولزمه الاستئناف اتفاقا. ومن صور الفطر بغير عذر أن(1/737)
ص : 738
يتخللها يوم يحرم صومه كيوم النحر ، لأنّه لو ابتدأ صوم الشهرين وهو يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما فسد صومه ، لأنّه نيته لصوم الكفارة مع علمه بطروء المبطل تلاعب منه ، فهو كالإحرام بالظهر قبل وقتها ، مع العلم بذلك. ولو ابتدأ صومهما وهو لا يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما صحّ صومه ، لكنّه لا يعتدّ به في الكفارة ، لأنّه قطع التتابع بتقصيره.
أما الإفطار بعذر فقد اختلفت مذاهب الفقهاء فيه ، فذهب الحنفية إلى وجوب الاستئناف لزوال التتابع المشروط ، وهو قادر عليه عادة.
وذهب مالك والشافعي في أحد قوليه إلى أنه لا يقطع التتابع ، لأنّ التتابع لا يزيد على أصل وجوب رمضان ، وهو يسقط بالعذر.
وفرّق بعض العلماء بين العذر الذي يمكن معه الصوم : كالسفر والمرض ، والعذر الذي لا يمكن معه الصوم : كالجنون والإغماء جميع النهار ، فجعل الأول قاطعا للتتابع ، والثاني غير قاطع له.
وأوجبت الآية أن يكون صوم الشهرين المتتابعين قبل المسيس ، وقد رأى بعض الظاهرية أنّ من وطئ قبل أن يصوم شهرين متتابعين أثم بالوطء ، وسقطت عنه الكفارة لفوات وقتها وعدم التمكن من إيقاع الصيام المتتابع قبل المسيس. كما قالوا ذلك فيمن وطئ قبل العتق ، وقد تقدم. والجواب هنا هو الجواب هناك.
واختلف الفقهاء فيمن وطئ التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا متعمدا ونهارا ناسيا.
فذهب أبو حنيفة ومحمد ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه إلى وجوب استئناف الصوم عملا بظاهر الآية ، فإنها أمر بصيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما. فإذا جامعها في خلال الشهرين لم يأت بالمأمور به.
وذهب أبو يوسف والشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه إلى عدم وجوب الاستئناف ، لأنّ هذا الوطء لم يفسد الصوم ، فلم يتخلّل الشهرين إفطار ، فلم ينقطع التتابع ، وليس من شرط التتابع ألا يتخلل الشهرين جماع.
وكما أنّ ظاهر الآية وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس فيهما ، كذلك ظاهرها وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس قبلهما ، فلو كان الواطئ في خلالهما غير آت بالمأمور به ، لكان الوطئ قبلهما غير آت بالمأمور به ، ولفات الامتثال بالوطء قبلهما ، ولا قائل به غير أهل الظاهر ، فوجب حينئذ حمل قوله تعالى : مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا على تحريم المسيس قبل أن يتمّ صيام الشهرين المتتابعين ، لا على أنّ عدم المسيس شرط في الاعتداد بالصوم.(1/738)
ص : 739
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع الصيام : أو لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ، كهرم ، ومرض لا يرجى زواله ، أو يطول زمانه ، أو لحوق مشقة شديدة لا تحتمل عادة ، فعليه إطعام ستين مسكينا.
أطلقت الآية إطعام المساكين ، ولم تقيده بقدر ولا تتابع ، فاقتضى ذلك أنّه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك جاز ، وكان ممتثلا لأمر اللّه تعالى ، وهذا قول الجمهور أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين ، وليس معنى هذا [أن ] تمليك المساكين لا يجزئ ، بل المراد أنّ الآية أمرت بالإطعام الذي هو حقيقة في إعطاء الطعام ، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإباحة ، فأيهما وقع من المكفر أجزأه.
وأوجب الشافعية تمليكهم ، قالوا : نحن لا ننكر أنّ الآية تحتمل التمليك والإباحة ، إلا أنّ السنة وردت بالتمليك ، وجرى عرف الشرع في الصدقة الواجبة أنّها مقدرة مشروط فيها التمليك ، فكما أنّ الزكاة وصدقة الفطر لا بدّ فيهما من التمليك ، كذلك الكفارة لا بدّ فيها من التمليك ، ولا تجزئ فيها الإباحة. وذلك لأن التمليك أدفع للحاجة ، فلا تقوم مقامه الإباحة.
ثم اختلفت المذاهب في المقدار الذي يملّك لكل مسكين. فقال الحنفية : يعطى لكل مسكين نصف صاع من برّ ، أو صاع من شعير أو تمر ، ومستندهم في ذلك أخبار ذكرها صاحب «فتح القدير».
وقال الشافعية : لكل مسكين مدّ من غالب قوت محل المكفّر ، لأنّه صحّ في رواية عنه صلّى اللّه عليه وسلّم تقدير الكفارة بستين مدا ، وصحّ في رواية أخرى تقديرها بستين صاعا ، والنسخ هنا متعذّر للجهل بالتاريخ ، ولإمكان الجمع بين الروايتين ، فكان ذلك الجمع متعينا ، فحملت رواية الستين صاعا على بيان الجواز الصادق بالندب.
ومذهب مالك فيما روى عنه ابن وهب مدان ، وقيل : مد وثلثا مد ، وقيل : ما يشبع من غير تحديد.
وظاهر قوله تعالى : فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أنّه لا بدّ من استيفاء عدد الستين ، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن واحد. هذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه ، والثانية إن وجد غيره لم يجزئه ، وإن لم يجد غيره أجزأه. وهو ظاهر مذهبه. والثالثة : أنّ الواجب إطعام طعام ستين مسكينا ، ولو لواحد في ستين يوما ، وهو مذهب أبي حنيفة «1» رحمه اللّه ، قالوا : لأنّ المقصود سدّ خلة
__________
(1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1 - 2/ 301).(1/739)
ص : 740
المحتاج ، والحاجة تتجدد كل يوم ، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إلى غيره ، وكالدفع إليه في اليوم الأول ، وأنت تعلم أنّ الآية نصّت على ستين مسكينا ، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا ، فكان التعليل بأنّ المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلا لمقتضى النصّ فلا يجوز.
ألا ترى الحنفية حين قالوا : لا يجزئ الدفع لمسكين واحد طعام ستين دفعة واحدة ، علّلوا ذلك بأنّ التفريق واجب بالنص ، مع أنّ تفريق الدفع غير مصرّح به ، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين ، فالنص على العدد أولى بالاعتبار ، لأنّه المستلزم ، وغاية ما يعطيه كلامهم أنّه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما ، فكان تعدّدا حكما. وحينئذ يلزم أنّ يكون المراد بالستين مسكينا في الآية مسكينا حقيقة أو حكما ، من باب عموم المجاز الذي يشمل تعدد المساكين حقيقة ، وتعددهم حكما ، فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة ، وهو أعم من كونها حاجات ستين مسكينا ، أو حاجات واحد في ستين يوما. ولا يخفى أنّه لا مقتضى للعدول عن الحقيقة إلى هذا المجاز ، وأن ظاهر الآية إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين ، وتعدد الذوات مما يصح أن يكون مقصودا معقول المعنى لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة ، وشمول المنفعة ، واجتماع القلوب على المحبة والدعاء.
وظاهر الاقتصار في الآية على المساكين أنّه لا يجزئ دفع الكفارة إلّا إلى المساكين ، ويدخل فيهم الفقراء ، كما يدخل المساكين في لفظ الفقراء عند الإطلاق.
وقد قالوا : كما علمت المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، هذا مذهب الجمهور.
وعمّم أصحاب أحمد وغيرهم الحكم في كلّ من يأخذ من الزكاة لحاجته ، وهم الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب ، ولكنّ ظاهر القرآن اختصاصها بالمساكين على ما علمت.
وقد أطلقت الآية المسكين هنا ، ولكنّ الفقهاء شرطوا فيه اعتبارا بمسكين الزكاة ألّا يكون ممن تلزم المكفر نفقته ، وألا يكون هاشميا ولا مطلبيا ولا كافرا على خلاف في ذلك بين الفقهاء ، منشؤه اختلاف أقوالهم في مسكين الزكاة.
واستنبط بعض الشافعية من التعبير في جانب تحرير الرقبة بعدم الوجود ، وفي جانب الصيام بعدم الاستطاعة ، أنّه لو كان له مال غائب ينتظره ليعتق منه ولا يصوم ، ولو كان مريضا يرجى برؤه ، ولكنه يدوم في ظنه مدة شهرين يطعم ، ولا ينتظر البرء ليصوم ، ووافقهم الحنفية في عدم الصوم لا في الإطعام.
ثمّ إنّ اللّه سبحانه قيّد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام ، وأطلقه في(1/740)
ص : 741 الإطعام ، فكان ذلك ظاهرا في أنّه لو وطئ قبل الإطعام أو في خلاله لم يأثم ، ولا يستأنف ، ونقل عن هذا بعض الناس عن أبي حنيفة ، ولكنّه توهم ، والذي عليه المعول عنده رحمه اللّه أنّه يأثم ، ولا يستأنف الإطعام ، وبهذا قال جمهور الفقهاء.
أما عدم استئناف الإطعام فوجهه ظاهر ، وأما حرمة الوطء فدليل الفقهاء عليها مختلف بحسب اختلافهم في قواعد الأصول ، فمن يرى حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة يقول : استفيد حكم ما أطلقه اللّه مما قيّده ، إما بيانا ، وإما قياسا قد ألغي فيه الفارق بين الصورتين ، فإنّ المعروف عن الشرع في الأعم الأغلب ألا يفرّق بين المتماثلين ، وقد ذكر اللّه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا مرتين ، ونبّه بذلك على تكرّر حكمه في الكفارات الثلاث ، ولو ذكره في آخر الكلام مرة واحدة لأوهم اختصاصه بالإطعام ، ولو ذكره في أول مرة فقط لأوهم اختصاصه بالعتق ، وإعادته في كل مرة تطويل ، فكان أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه ما جاء به النظم الجليل.
وأيضا فإنّه نبه بوجوب التكفير قبل المسيس في الصوم مع تطاول زمنه وشدة الحاجة إلى المسيس فيه ، على أن اشتراط تقدم الإطعام الذي لا يطول زمنه أولى.
على أنّ قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الخبر الحسن. وقد تقدّم
«اعتزلها حتّى تكفّر عنك» «1»
يشمل التكفير بالإطعام.
وأما الحنفية الذين لا يرون حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة ، فلهم على حرمة الوطء قبل الإطعام دليلان.
الأول : أنّ إباحة الوطء قبل الإطعام قد تفضي إلى الممتنع ، والمفضي إلى الممتنع ممتنع ، بيان ذلك : أنّه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الإطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه ، فلو أبيح للعاجز عنهما القربان قبل الإطعام ثم اتفق أنّه قدر على العتق فوجب التكفير به ، لزم أن يقع العتق بعد التماس ، وهو ممتنع.
واعترض على هذا الدليل بأنّ القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم ، والأمور الموهومة لا تراعى في إثبات الأحكام ابتداء ، بل غايتها أن تراعى في ثبوت الاستحباب ورعا.
والدليل الثاني : ما تقدم من
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «اعتزلها حتى تكفّر»
وقد يقال : إن هذا الحديث ليس نصا في الموضوع ، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذلك للمظاهر قبل أن يتبين عجزه
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 503) ، كتاب الطلاق ، باب في المظاهر حديث رقم (1199) ، وأبو داود في السنن (2/ 242) ، كتاب الطلاق ، باب في الظهار حديث رقم (2221) ، والنسائي (5 - 6/ 479) ، كتاب الطلاق ، باب الظهار حديث رقم (3458) ، وابن ماجه في السنن (1/ 666) ، 10 - كتاب الطلاق 26 - باب المظاهر حديث رقم (2065).(1/741)
ص : 742
عن الإعتاق والصوم ، فجاز أن يراد اعتزلها حتى تكفّر بالعتق ، أو حتّى تكفّر بالصوم.
بقي أن يقال : لم تذكر الآية حكم من عجز عن الخصال الثلاث ، أتسقط الكفارة عنه أم تستقر في ذمته ويحرم عليه المسيس حتى يكفر؟
والذي استظهره العلماء أنّها لا تسقط ، بل تستقر في ذمته ، حتى يتمكن ، قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات ، كجزاء الصيد وغيره. ولأنّ أصحاب السنن رووا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أعان أوس بن الصامت بعذق من تمر ، وأعانته زوجته بمثله فكفّر ، وأمر سلمة بن صخر أن يأخذ صدقة قومه فيكفّر بها عن نفسه ، ولو سقطت بالعجز لما أمرهما بإخراجها.
وقد أطلنا هنا بذكر الفروع ، لأننا نراها كلها متعلقة بتفسير الآية ، واللّه الموفق.
ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الإشارة إلى ما سبق من البيان وتفصيل الأحكام ، وتعليمهم إياها. أي ذلك الذي بيّنا فيما مرّ واقع وحاصل لتؤمنوا باللّه ورسوله ، وتعملوا بما شرع لكم ، وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي الأحكام المذكورة حدود اللّه فالزموها ، وقفوا عندها لا تتعدوها وَلِلْكافِرِينَ الذين يتعدونها عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم. وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا وزجرا ، نظير قوله تعالى : وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران : 97].
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
التناجي : التسار والمناجاة المسارّة. مأخوذ من النجوة ، وهي ما ارتفع من الأرض ، وسمّيت بذلك ، لأن المتسارين يكونان بخلوة في نجوة من الأرض ، بعيدا عن المتسمعين ، أو سمّيت بذلك لأنّ السرّ يصان ، فكأنه ارتفع عن الناس ، ومن هذا قال الشاعر :
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم على سرّ بعض غير أني جماعها
يظلّون شتّى في البلاد وسرّهم إلى صخرة أعيا الرّجال انصداعها
وقيل : إنّ التناجي من المناجاة ، وهي الخلاص ، وكأنّ المتناجيين يتعاونان على أن يخلّص أحدهما الآخر.
والآية التي معنا خطاب المؤمنين ، وأريد من النهي هنا التعريض بأولئك الذين كانوا يدورون في المجالس يشيعون السوء ويتناقلونه ، حتى يؤثّر ذلك في أقارب(1/742)
ص : 743
الغائبين في الغزو من المؤمنين الخلص ، فكانوا يقولون : تم كيت وكيت ، فكانت تنخلع قلوب أقارب المؤمنين من سوء ما يشاع عن أهليهم ، وكان يكاد يؤثّر ذلك فيهم لولا أن الكذب حبله غير طويل ، فلم يلبث الغائبون أن يعودوا منصورين على خير ما يكون النصر ، ويفتضح أمر أولئك الذين لا تخلو منهم أمة ، أولئك دعاة التردد والهزيمة ، ضعفاء النفوس ، لا تقوى نفوسهم على مجالدة أعدائهم ، فيلجؤون إلى مقالة السوء يرددونها ، يرجون من وراء ذلك الفتّ في عضد خصومهم ، ولقد كان اليهود والمنافقون يلجأون إلى هذه الحال دائما ، فكانوا يتناجون دون المؤمنين.
وكلّما مروا بهم يتغامزون ، فلما كثر ذلك ، شكا منهم المؤمنون إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فنهاهم عن ذلك ، ولكن الضعيف دائما يجد في هذا التناجي سلوة يستر بها ضعفه ، فلم ينتهوا ، فأنزل اللّه فيهم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ.
وكانت هذه الحال حالا ذميمة مؤذية ، فنهى المؤمنين أن يفعلوا هذا ، فيكون فيهم هذا الصنف من الناس ، فهم لم يكن منهم هذا التناجي المذموم حتى ينهوا عنه ، إنما نهوا عنه تعريضا بأولئك الذين لا يعيشون إلّا في الظلام ، ويصطادون في الماء العكر ، أرأيت الآية التي سقنا لك فيهم ، وهذا الآية كيف نهي المؤمنون فيها أن يتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهذا هو الذي كان منهم ، ثم هو تحذير للمؤمنين أن يفعلوا فعلهم ، فيستحقوا ما استحق أولئك من العاقبة.
وقيل : بل الخطاب للمنافقين ، وسمّاهم مؤمنين باعتبار ثوبهم الذي يظهرون فيه ، والظاهر الأول ، فإنّ الآية نهت المؤمنين أن يتناجوا بالإثم والعدوان ، أي بما هو إثم في ذاته ، ثم هو عدوان على منصب الرسالة ، إذ يجعل الناس ينفضّون من حول الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، ثم أمرتهم إذا كان لا بدّ لهم من التناجي أن يتناجوا بما هو برّ وخير ، وبما هو وقاية لهم ، وحفظ من عذاب اللّه ، ثم أمرتهم بأن يتقوا اللّه الذي إليه يحشرون ، فيحاسبهم على ما كان منهم بعد أن يطلعهم عليه ، لا تخفى عليه منه خافية ، ثم قال اللّه في تعليل ما تقدّم إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا.
وأسندت النجوى إلى الشيطان باعتبار أنّه الذي يوسوس بها ويزينها للناس فيرتكبونها ، وغايته منه إدخاله الحزن على الذين آمنوا ، ولكنّهم ما داموا مؤمنين فلن يضرّهم منه شيء وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ واسم ليس إمّا الشيطان ، وإمّا التناجي ، وما دام الأمر كلّه للّه ، فإن قدّر اللّه مكروها فهو لا بدّ كائن ، وإن أراد خيرا فلا رادّ لفضله ، يصيب به من يشاء.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا يبالوا ما يكون من نجوى الشيطان ، لأن الذي(1/743)
ص : 744
يتناجى به المنافقون إن وقع فهو بقضاء اللّه ومشيئته ، وما شاء لا بدّ أن يكون.
والقصد من هذا إزالة ما عساه يدخل في نفوس المؤمنين بتأثير هذه المناجاة.
ثم إنّ التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه ، روى البخاريّ ومسلم «1» وغيرهما عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر ، حتى تختلطوا بالناس ، من أجل أنّ ذلك يحزنه».
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) كان المؤمنون يتنافسون في القرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويتسابقون إلى ذلك ، لا يكاد أحد يؤثر غيره بمجلسه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، واتفق أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم جلس يوم الجمعة في الصّفة ، وفي المكان ضيق ، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر ، منهم ثابت بن قيس بن شماس ، وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ، فردّ النبي عليهم. ثم سلّموا على القوم ، فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ، ينتظرون أن يوسع لهم ، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ويا فلان ، فأقام نفرا مقدار من قدم ، فشقّ ذلك عليهم ، وعرفت كراهيته في وجوههم.
واتخذ المنافقون من ذلك طريقا عسى أن يصلوا منه إلى قلوب المؤمنين ، فقالوا : ما عدل رسول اللّه بإقامة من أخذ مجلسه وأحبّ قربه لمن تأخر عن الحضور ، فأنزل اللّه قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآية.
أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.
والتفسّح في المجلس : التوسع فيه ، أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان :
توسعوا ، فليفسح بعضكم عن بعض ، ليأخذ القادم مكانه في المجلس ، فإنّ ذلك سبب المودة والمحبة بينكم ، ومدعاة للألفة وصفاء النفوس.
ولئن كانت الآية نزلت في خصوص التوسع في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإنّها لمرسلة عامة في كل المجالس التي يكون فيها خير للناس ، مجالس العلم ، ومدارسة القرآن ، ومجالس القتال إذا اصطفوا للحرب ، ومجالس الرأي والشورى ، ومجالس الناس في مجتمعاتهم للأغراض الدينية.
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 183) ، 79 - كتاب الاستئذان ، 46 - باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة حديث رقم (2690) ، ومسلم في الصحيح (4/ 1718) ، 39 - كتاب السلام ، 15 - باب تحريم المناجاة حديث رقم (37/ 2184).(1/744)
ص : 745
يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ في رحمته ، أو في منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو في دوركم ، أو في رزقكم ، وفي كل ما تحبّون التوسعة فيه.
وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا النشز : الارتفاع في مكان ، والمراد هنا النهوض من المجلس ، أي : وإذا قيل لكم انهضوا للتوسعة على المقبلين فانهضوا ، ولا تباطؤوا.
وقال الحسن وقتادة والضحاك : إنّ المعنى : وإذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا.
وقيل : إذا دعيتم للقيام عن مجلس الرسول فقوموا ، لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان أحيانا يؤثر الانفراد في أمر الإسلام أو لبعض شأنه ، ولا مانع من تعميم الحكم في كل مجلس ، فإذا دعت الحاجة إلى أن ينفرد صاحب المجلس في أمر ، أو إلى أن يخلو ببعض الجالسين ، فله أن يطلب في رفق إلى الجالسين أن يقوموا ، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم ضررا من فوات المصلحة التي دعت إلى الانفراد.
وهذا مما لا نزاع لأحد في جوازه.
نعم لا يجوز للقادم أن يقيم أحدا ليجلس هو في مجلسه ،
فقد روى مالك والبخاريّ ومسلم «1» وغيرهم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ، ولكن تفسّحوا أو توسّعوا».
وقد جرى الحكم أنّ من سبق إلى مباح فهو أولى به ، والمجالس من هذا المباح ، وعلى القادم أن يجلس حيث انتهى به المجلس ، إلا أنّ مكارم الأخلاق تقضي على الجالسين بتقديم أولي الفضل وأهل الحجى والحلوم ، بذلك جرى عرف الناس وعوائدهم في القديم والحديث.
ولقد كان هذا هو الشأن بين الصحابة في مجلس الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فكانوا يقدّمون بالهجرة وبالعلم وبالسن.
روى أبو بكر بن العربي «2» بسنده عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه : بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد وقد طاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب ، فوقف وسلّم ، ثم نظر مجلسا يشبهه ، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في وجوه أصحابه أيهم يوسّع له ، وكان أبو بكر جالسا على يمين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فتزحزح له عن محله ، وقال : هاهنا يا أبا الحسن ، فجلس بين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبين أبي بكر ، فقال : «يا أبا بكر! إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل».
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1714) ، 39 - كتاب السلام ، 11 - باب تحريم إقامة الإنسان ، والبخاري في الصحيح (7/ 177) ، 79 - كتاب الاستئذان ، 31 - باب لا يقيم الرجل الرجل حديث رقم (6269).
(2) انظر أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1747).(1/745)
ص : 746
وثبت في «الصحيح «1» أنّ عمر بن الخطاب كان يقدّم عبد اللّه بن عباس على الصحابة ، فكلّموه في ذلك ، فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) [النصر : 1] فسكتوا. فقال ابن عباس : هو أجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم ، ثم قال : بهذا قدمت الفتى.
وكان التقدم في مجلس الجمعة بالبكور ، إلا ما يلي الإمام ، فإنّه لذوي الأحلام والنّهى.
وكان التقدم في مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب لذوي النجدة والمراس من الناس ، والتقدم في مجلس الرأي والشورى لمن له بصر بالشورى ، وخبرة بالأمور.
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ. اختلف المفسرون في المراد بالموصول هنا الَّذِينَ آمَنُوا ووَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فقال جماعة : المراد من (الذين آمنوا) كلّ المؤمنين ، سواء من أوتوا العلم منهم ، ومن لم يؤتوه. والمراد من (الذين أوتوا العلم) العلماء من المؤمنين خاصة ، وعلى ذلك يكون العطف من عطف الخاص على العام ، تعظيما للعلماء بحسبانهم ، كأنهم جنس آخر.
وقال قوم : المراد بالذين آمنوا : المؤمنون الذين لم يؤتوا العلم ، بدليل مقابلته بالذين أوتوا العلم ، وهذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عباس رضي اللّه عنهم ، وعليه يكون العطف عطف متغايرين بالذات ، ويكون الموصول الثاني معمولا لفعل محذوف دلّ عليه المذكور ، ويكون معمول الفعل المذكور محذوفا ، دلّ عليه المعمول المذكور ، ويكون الكلام من عطف الجمل ، والتقدير : يرفع اللّه الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات تليق بهم ، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات.
وقال آخرون : المراد بالموصولين واحد ، والعطف لتنزيل التغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات. والمعنى : يرفع اللّه الذين آمنوا العالمين درجات.
وعلى هذه الأوجه يكون رفع الدرجات جزاء لامتثالهم لأمر النهوض من المجالس ، وفي هذا الجزاء مناسبة للعمل المأمور به ، وهو ترك ما كانوا يتنافسون فيه من الجلوس في أرفع المجالس وأقربها من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه تواضعا للّه ، وامتثالا لأمره جوزي على تواضعه برفع الدرجات و«من تواضع للّه رفعه» وذهب آخرون إلى أنّ جملة يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ كالتعليل للأمر السابق ، أي إذا قيل لكم انهضوا للتوسعة على القادمين فانهضوا ، لأنّ
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 113) ، 65 - كتاب التفسير ، 40 - باب قوله تعالى : (فسبح بحمد ربك) حديث رقم (4970).(1/746)
ص : 747
منهم مؤمنين علماء رفعهم اللّه درجات على غيرهم ، فأوسعوا لهم في المجالس وأكرموهم كما أكرمهم اللّه.
ثم الآية بعد هذا دليل على فضل العلماء ، ولا يقلّ ما روي من الآثار والأخبار في ذلك عن دلالة الآية في الظهور والوضوح ،
فقد أخرج الترمذي وأبو داود «1» وغيرهما عن أبي الدرداء مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
وأخرج الدارمي «2» عن عمر بن كثير عن الحسن قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام ، فبينه وبين النبيين درجة»
وعنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «بين العالم والعابد مئة درجة ، بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعون سنة» «3».
وعنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء» «4».
وحسب العلماء أن يلوا الأنبياء ، ويتقدّموا الشهداء.
والمراد بالعلم الذي أوتوه هو العلم النافع في الدنيا والدين ، ولن يكون العلم نافعا يرفع صاحبه حتى يكون هو من العاملين ، وإلا كان من الذين يقولون ما لا يفعلون ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3).
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) قد علمتم فيما سبق أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مجلسه ، ويتسابقون عليه ، وأنه صعب على بعضهم أن يقوم للمتأخر ، وقد كان بعضهم يناجي الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في بعض شأنه ، وكانوا يكثرون من هذه المناجاة ، فكان ذلك يشقّ على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقد يستثقله الحاضرون ، فأراد اللّه أن يحدّ من هذه المناجاة ، وهي لا يمكن منعها ، فقد يكون لبعض الناس شأن لا يحبّ الكلام فيه إلا مناجاة ، وشؤون الناس لا يمكن ضبطها ، ولا معرفة مقدار الأهمية فيها ، إلا بعد
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 47) ، كتاب العلم ، باب ما جاء في فضل الفقه حديث رقم (2682) ، وأبو داود في السنن (3/ 313) ، كتاب العلم ، باب الحث على طلب العلم حديث رقم (3641). [.....]
(2) رواه الدارمي في السنن (1/ 100) ، باب فضل العلم والعالم.
(3) المرجع نفسه.
(4) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 1443) ، 37 - كتاب الزهد 37 - باب ذكر الشفاعة حديث رقم (4313).(1/747)
ص : 748
حصول المناجاة بالفعل ، فأمر اللّه المؤمنين أن يقدّموا صدقات عند مناجاة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، بهذا ترى أنّ الآية متصلة بما قبلها تمام الاتصال ، فكلّ منهما متعلّق بما يكون في مجلس الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وما يفعله الجالسون في المجلس الشريف.
أمر اللّه المؤمنين بذلك حدّا للمناجاة التي تكون لغير حاجة ومنعا منها ، ونفعا للفقراء الذين يكونون في مجلس الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وقد تدعو المناجاة إلى أن يقوموا من مجلسهم لهذا الذي يريد أن يناجي الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإذا كان هذا القيام سيعود بالفائدة على الفقراء اطمأنت قلوب القائمين ، فقراء كانوا أو أغنياء ، فإنّ الأغنياء يطيب خاطرهم لنفع الفقراء.
والتعبير بقوله تعالى : بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً يراد منه أن تكون الصدقة حاضرة عند النجوى ، على طريق تمثيل النجوى بمن له يدان ، أو هو استعارة مكنية تقوم على تشبيه النجوى بالإنسان ، وإثبات اليدين تخييل.
ويقول المفسرون : إن هذا الأمر اشتمل على فوائد كثيرة :
منها : تعظيم أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وإكبار شأن مناجاته ، كأنها شيء لا ينال بسهولة.
ومنها : التخفيف عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالتقليل من المناجاة.
ومنها : تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإنهم إذا علموا أنّ قرب الأغنياء من الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومناجاتهم له تسبقها الصدقة لم يضجروا.
ومنها : عدم شغل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بما لا يكون مهما من الأمور ، فيتفرغ للرسالة فإنّ الناس وقد جبلوا على الشحّ بالمال يقتصدون في المناجاة التي تسبقها الصدقة.
ومنها : تمييز محبّ الدنيا من محبّ الآخرة ، فإنّ المال محكّ الدواعي.
هذا وقد اختلف العلماء في مقتضى هذا الأمر ، أهو الوجوب أم هو الندب.
فقال بعضهم بالوجوب ، مستدلا بأنّ الآية فيها أمر بتقديم الصدقة عند النجوى ، والأمر للوجوب ، ثم قال اللّه في آخر الآية : فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومثل هذا لا يقال إلا في الواجبات التي لا تترك.
وقال بعضهم : إن الأمر هنا للندب والاستحباب ، وذلك أنّ اللّه قال في الآية :
ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ومثل هذا قرينة تصرف الأمر عن ظاهره ، وهو إنما يستعمل في التطوع دون الفرض.
وأيضا قال اللّه تعالى في الآية التي بعد هذه مباشرة : أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ وهذا يزيل ما في الأمر الأوّل من احتمال الوجوب ، انظر إلى قوله : فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ.(1/748)
ص : 749 وقد أجاب القائلون بالوجوب : بأنه كما يوصف التطوع بأنّه خير وأطهر ، كذلك يوصف الفرض ، بل هو أولى.
وأما آية أَأَشْفَقْتُمْ فهي ناسخة للوجوب الذي ثبت بالأمر ، ولا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة اتصالهما في النزول.
وهؤلاء القائلون بالوجوب وبالنسخ اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ ، فقال بعضهم : ما بقي المنسوخ إلّا ساعة من نهار ، وينسب ما روي عن تأخّر كبار الصحابة عن تقديم الصدقة إلى ضيق الوقت ، وروي أنه بقي الأمر عشرة أيام ثم نسخ.
وقد روى عن علي بن أبي طالب أنه أول من عمل بهذا الأمر ، وآخر من عمل به ، وأنه كان عنده دينار فصرفه إلى عشرة دراهم ، فكلما ناجى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم قدّم درهما.
ويرى أبو مسلم الأصفهاني عدم وقوع النسخ ، ويقول في هذه الآية : إنّه كان يوجد بين المؤمنين جماعة من المنافقين ، كانوا يمتنعون من بذل الصدقات ، وإنّ فريقا منهم عدل عن نفاقه ، وصار مؤمنا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا. فأراد اللّه تعالى أن يميزهم عن المنافقين الذين لا يزالون على نفاقهم ، فأمر بتقديم الصدقة ، ليتميز هؤلاء من هؤلاء ، وإذا كان هذا التكليف لهذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت ، لا جرم يقدر التكليف بذلك الوقت.
قال الفخر الرازي : وحاصل قول أبي مسلم أنّ ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة ، فلا يكون هذا نسخا.
ثم قال : وهذا كلام حسن لا بأس به ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله تعالى : أَأَشْفَقْتُمْ ومنهم من قال : إنه منسوخ بوجوب الزكاة.
ونحن نرى مع الفخر الرازي أنّ كلام أبي مسلم كلام حسن ، لكنّا نبحث عن أولئك الذين حسن إيمانهم ، الذين أريد تمييزهم من المنافقين ، فلا نجد أنّ أحدا تصدّق.
بل لقد روي أنّه لم يعمل بهذه الآية إلا الإمام علي بن أبي طالب ، ولقد عجب الناس كيف لم يعمل كبار الصحابة بهذا التكليف ، وصاروا يعتذرون عنه بأنه لم يبق إلا ساعة من نهار ، ومنهم من قال : إنّه استمر عشرة أيام ، ومنهم من قال : نسخ قبل أن يعمل به أحد.
ويعجبنا قول الفخر في الدفاع عن عدم عمل الصحابة : أنه على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت ولم يفعلوا فهذا لا يجر إليهم طعنا ، وذلك أن الإقدام على هذا العمل مما يضيق به قلب الفقير ، ويوحش قلب الغني ، لأنه إن لم يفعل جرّ ذلك إلى الطعن فيه ، فهذا العمل لما كان سببا لحزن الفقير ، ووحشة الغني ، لم يكن في تركه كبير مضرة ، بل لقد بينا أنهم إنما كلّفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة. ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة ، لم يكن تركها سببا للطعن.(1/749)
ص : 750
والذي أعجبنا من كلام الفخر هو الجزء الأخير منه ، وأما ما قبله فهو قابل للمناقشة ، وما نرى في عدم فعل الصحابة طعنا ولا شينا ، بل إنّهم فهموا أنّ شرعية هذا الحكم قصد منها الحد من المناجاة الكثيرة ، فيضيع وقت الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقد سبق أن قلنا : إن المناجاة لا يمكن منعها ، فمنها الضروري ، ومنها ما يكون فيه مصلحة عامة للمسلمين.
وأما الصدقة فلم تطلب لأنّها صدقة ، فالصدقات مطلوبة ، ومرغب فيها من غير توقف على المناجاة ، ولو أنّ الصحابة فهموا أن المقصود التوسل بالمناجاة لتكون بابا من أبواب الصدقة ما تأخروا ، فمنهم من نزل عن جميع ماله ، ومنهم من كان يريد أن يتصدّق بالثلثين ، لأنه لا يرثه إلا ابنة واحدة. وما دام المقصود القصد من المناجاة التي تشغل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فليحرصوا على القصد ، على أنّهم وجدوا في قوله تعالى :
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فسحة. فمن ذا الذي كانت دراهمه ودنانيره حاضرة معه في مجلس الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم حتى يتصدق بها ، أو يقال : إنه لم يمتثل الأمر؟
ونظنّ أنّا بما قدمنا نجدك في غنى عن تفسير الآية الأولى ، وأما قوله : أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) فمعناه أخفتم تقديم الصدقات لما فيها من إنفاق المال ، فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به ، وتاب عليكم ، ورخّص لكم في الترك ، فأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، ولا تفرّطوا فيها وفي سائر الطاعات.
وليس يشتمّ من هذه الآية أنه وقع منهم تقصير ، فإنّ التقصير إنما يكون إذا ثبت أنه كانت مناجاة لم تصحبها الصدقة ، والآية قالت : فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من التصدق ، وقد يكون عدم الفعل لأنهم لم يناجوا ، فلا يكون عدم الفعل تقصيرا.
وأما التعبير بالإشفاق من جانبهم فلا يدل على تقصيرهم ، فقد يكون اللّه علم أنّ كثيرا منهم استكثر التصدق عند كل مناجاة في المستقبل لو دام الوجوب ، فقال اللّه لهم : أَأَشْفَقْتُمْ.
وكذلك ليس في قوله : وَتابَ اللَّهُ ما يدل على أنهم قصّروا ، فإنّه يحمل على أنّ المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا ، ومثل هذا يجوز أن يعبّر عنه بالتوبة ، ولذلك عقب عليه بما يكون شكرا على هذا التخفيف فقال : فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني أنّه إذا تاب عليكم ، وكفاكم هذا التكليف ، فاشكروه بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ومداومة الطاعة ، لأنه المحيط بأعمالكم ونياتكم.(1/750)
ص : 751
من سورة الحشر
قال اللّه تعالى : وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
أفاء : قال المبرّد : يقال : فاء إذا رجع ، ومنه قوله تعالى في الإيلاء : فَإِنْ فاؤُ [البقرة : 226] ، وأفاءه اللّه ردّه ، وقال الأزهري «1» : الفيء ما ردّه اللّه على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال : إمّا بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين ، أو يصالحوا على جزية يؤدونها من رؤوس أموالهم ، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم ، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، على أنّ لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاؤوا ، سوى السلام ، ويتركون الباقي ، فهذا المال الذي تركوه هو الفي ء ، وهو ما أفاء اللّه على المسلمين ، أي رده من الكفار إلى المسلمين.
ولابن العربي في تسمية أيلولة هذه الأموال فيئا معنى لطيف لا بأس أن نطلعك عليه ، قال رحمه اللّه : ما أَفاءَ يريد ما ردّ ، وحقيقة ذلك ، أنّ الأموال في الأرض للمؤمنين حقا ، ولعله يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى : أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء : 105] فيستولي عليها الكفار مع ذنوبهم عدلا ، فإذا رحم اللّه المؤمنين ردّها عليهم من أيدي الكفار رجعت في طريقها ذلك ، فكان ذلك فيئا.
والضمير في (منهم) للذين كفروا من أهل الكتاب المذكورين في أول السورة :
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ وهم يهود بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ يقال : وجف الفرس والبعير : يجف وجفا ووجيفا ، أسرع في السير ، وأوجفه صاحبه : حمله على السير السريع ، والضمير في (عليه) يرجع إلى ما في قوله : ما أَفاءَ اللَّهُ والركاب : ما يركب ، وهو اسم جمع ، وقد خصّ في لسان العرب
__________
(1) محمد بن أحمد ، إمام في اللغة ، توفي (370 ه) ، من مصنفاته تهذيب اللغة ، انظر الأعلام للزركلي (5/ 311).(1/751)
ص : 752
بما كان من الإبل خاصة ، لا يكادون يطلقون اسم الراكب إلّا على راكب البعير ، وإن كانت التسمية للاشتقاق من الركوب ، ويوجد هذا المعنى في غير راكب البعير ، لكنّ العرب كثيرا ما يقصرون اللفظ على بعض ما يوجد فيه مبدأ الاشتقاق.
وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ المعنى : أنّ هذه الأموال وإن كانت فيئا فإنّ اللّه جعلها لرسوله خاصّة ، لأن رجوعها له لم يكن من طريق قتالكم لهم ، بل كان عن طريق إلقاء الرعب في قلوبهم ، ولم يتكلف الناس فيه سفرا ، ولا تجشّموا رحلة ، ولا أنفقوا مالا ، وما كان من عمل الناس في حصارهم فهو عمل يسير لا يعتد به في جانب إلقاء الرعب فيهم ، ومن أجل ذلك كان الفيء للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
ولعلك من هذا استشعرت أنّ في الآية محذوفا دلّ عليه الكلام ، وهو خبر (ما) في قوله : وَما أَفاءَ اللَّهُ تقديره فلا شيء لكم فيه ، دلّ عليه قوله : فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يظهركم على أعدائكم من غير حاجة إلى حرب هذا هو تفسير هذه الآية.
وقد جاء الكلام فيما يؤخذ من الأعداء في ثلاثة مواضع من القرآن :
الأول : في قوله تعالى في سورة الأنفال : وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [الأنفال : 41].
والموضع الثاني : هو الآية الأولى التي معنا : وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ الآية.
والموضع الثالث : هو الآية التي بعدها : ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ.
وقد نقلنا لك من الآيات ما يفهم منه أنّ الآيات تبدو متخالفة الحكم ، فآية الأنفال تقول : وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ فأسندت الغنم لهم ، ثم قالت : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ إلخ فدلّ ذلك على أنّ الغنيمة توزّع أخماسا ، على حسب ما فهمته في الفقه ، وما عرفته في تفسير الآية في الأنفال.
والآية التي معنا تقول : وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ومعنى هذا على ما علمت : أن ما ردّه اللّه على رسوله من أموال الكفار لا شيء لكم فيه ، لأنّكم لم توجفوا عليه ، وإنما هو للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة ، يصرفه كيف شاء.
والآية الثالثة خالفت هذه الآية ، فلم تقل منهم ، بل قالت : مِنْ أَهْلِ الْقُرى ووزّعت الفيء كتوزيع الغنيمة ، مع فرق واحد هو أنّ آية الأنفال وزعت فيها الغنيمة وقيل فيها : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وآية الحشر جعلت الفيء بين الذين ذكروا في الأنفال ، ولم يشر فيها إلى الخمس.(1/752)
ص : 753 ولقد كان ما بدا من خلاف بين الآيات مثار الخلاف بين العلماء في مدلول الآيات ، فمنهم من يرجع آية الحشر الثانية إلى آية الأنفال ، ويجعل آية الحشر الأولى منسوخة ، ومنهم من يقول : الآيات الثلاث لثلاثة معان متباينة :
فآية الأنفال في الأموال تؤخذ عنوة.
وآية الحشر الأولى [6] فيما يتركه الكفار فرارا ويأخذه المسلمون بعدهم من غير قتال.
وآية الحشر الثانية [7] فيما يؤخذ صلحا من جزية وخراج ، وما شابه ذلك.
والأحكام في الآيات مختلفة بحسب ذلك ، فما يكون غنيمة يقسّم بين الغانمين ، وما يؤخذ فرارا فهو للرسول ، يأكل منه ، ويصرفه بعد ذلك في مصالح المسلمين ، وما يؤخذ صلحا فهو لمن ذكر اللّه في آية الحشر الثانية ، وسنزيدك بعض الإيضاح فنقول :
إنّ من العلماء من جعل الغنيمة غير الفي ء ، وقال : الغنيمة : ما أخذه المسلمون من أموال الكفار في الحرب ، والفي ء : ما أخذ من غير حرب ، وجعل آية الأنفال في الغنيمة ، وقال : إن آية الحشر الأولى في الكفار من أهل الكتاب من بني النضير ، لم يتكلّف المسلمون عناء في مقاتلتهم ، ولم يكن للمسلمين يومئذ خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافات كثيرة ، إذ لم يكن بينها وبين المدينة سوى ميلين ، ولم يركب إلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكان راكبا جملا ، فلما كانت المقاتلة قليلة ، ولم يكن للمسلمين فيها خيل ولا ركاب ، جعل ما أخذ من الكفار كلّه للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، يعول منه أهله ، وينفق الباقي في مصالح المسلمين ، ثم جعل الآية الثانية من الحشر بيانا لما أفاء اللّه على المسلمين من أموال سائر الكفار ، ويجعل الآية الثانية كأنّها جواب سؤال نشأ من الآية الأولى كأنّه قيل : قد علمنا حكم الفيء من بني النضير ، فما حكم الفيء من غيرهم ، فقال : ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ولذلك ترى العطف.
وقد نقل الآلوسي الفرق بين الغنيمة والفيء عن بعض الشافعية ، وقال : إن الحنفية قالوا بالتفرقة أيضا ، ونقولها عن «المغرب» وغيره من كتب اللغة ، قالوا : الغنيمة :
ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة. وحكمها أن تخمّس ، وباقيها للغانمين خاصة.
والفي ء : ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها ، وصيرورة الدار دار الإسلام ، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ، ولا يخمّس بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين.
ونقل هذا الحكم الإمام ابن حجر عمّن عدا الإمام الشافعي من الأئمة الأربعة :
وقال : إن الشافعي خمّس الفيء قياسا على الغنيمة التي ثبت التخميس فيها بالنص.
بجامع أنّ كلّا منهما مال الكفار ، استولى عليه المسلمون ، واختلاف سبب الاستيلاء بالقتال وغيره لا تأثير له.
وقد روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه صنع بأرض العراق ما حكمت به الآية ، (1/753)
ص : 754
وكان بعض الصحابة قد طلب إليه قسمته بين المسلمين كالغنيمة ، فاحتجّ عليهم بالآية ، ووافقه علي وعثمان وطلحة والزبير ، بل إنّ المخالفين أيضا رجعوا إليه بعد ما حكّم الآية.
والذي يعنينا هنا هو اختلاف العلماء في الفيء يخمّس أو لا يخمّس؟ أما توزيع الخمس فليس لنا به تعلق ، لأنه ليس في الآية ، ولأنّه تقدّم خلاف العلماء فيه في سورة الأنفال [28] فارجع إليه إن شئت ، ولنأخذ في تفسير الآية الثانية.
قال اللّه تعالى : ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
قد ذكر اللّه تعالى أنّ ما ردّه على رسوله من أهل القرى هو لمن ذكرهم في النظم الكريم ، وهم ستة ، وقد اختلف العلماء - الذين قالوا بالقسمة أخماسا ، أربعة أخماس للغانمين ، وخمس لمن ذكر اللّه تعالى في قسمة هذا الخمس بين الذين ذكروا - فقال جماعة : يقسّم خمسة أسهم للخمسة الذين ذكرهم اللّه ، وهم الرسول ، وذو القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل وأما اللّه سبحانه وتعالى فإنّما كان ذكره معهم افتتاح كلام تيمّنا بذكره ، وإلا فهو مالك السموات والأرض.
وذهب بعضهم إلى أنّ الخمس ستة أسهم ، منها سهم اللّه يصرف إلى حاجة بيته ، وهو الكعبة ، إن كانت قريبة ، وإلا فإلى مسجد كلّ بلدة ثبت فيها الخمس ، ويقول الجمهور : إنّ جعل السهام ستة خلاف المعهود عن السلف في تفسير ذلك.
وأما سهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فقد كان له في حياته ، ينفق منه على نفسه وعياله ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
ثم اختلف العلماء في هذا السهم بعد وفاته صلّى اللّه عليه وسلّم ، فذهب الحنفية إلى سقوطه ، وقالوا في تعليل ذلك : إنّ الخلفاء الراشدين ذهبوا فيه هذا المذهب ، ولو كانوا يعلمون انتقاله للخلفاء ما أسقطوه ، ثم إنّه جعل للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو مشتق من الرسالة ، وذلك مؤذن بأنّ الرسالة علة في هذا الجعل. وقد انتهت الرسالة ، فينتهي ما نيط بها من الحكم.
ونقل عن الشافعي رضي اللّه عنه : أنّه يصرف للخليفة ، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يستحقه لإمامته لا لرسالته ، ولكنّ الأكثر من الشافعية على أنّ السهم باق ، ولكنه يصرف في مصالح المسلمين العامة ، وهذا معنى
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «مالي مما أفاء اللّه عليكم إلّا الخمس ، والخمس مردود عليكم» «1».
وأما سهم ذي القربى فهو لذي قرباه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهم معروفون في الفقه ، وقد مرّ
__________
(1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 186).(1/754)
ص : 755
الخلاف فيهم في سورة الأنفال ، فلا نعيده ، وكذا بيان اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، فارجع إليه إن شئت.
هذا وممّن قال بأن الفيء كلّه للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في حياته الإمام الغزالي رضي اللّه عنه ، وممن ذهب إلى أنّ الفيء يصرف مصرف الغنيمة الإمام الزمخشري «1» رضي اللّه عنه ، فقد جعل آية الحشر الثانية بيانا للآية الأولى ، مستدلا بترك العطف على ما مرّ.
وذهب أيضا إلى أنّ المراد بأهل القرى ، هو المراد بالضمير في بني النضير في مِنْهُمْ وهم بنو النضير.
وذهب المحقق ابن عطية إلى أنّ الآية الأولى في بني النضير خاصة. وإلى أنّ الفيء فيها للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة ، وأما الآية الثانية فالمراد من أهل القرى فيها غير بني النضير ، وهم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمّى قرى عرينة ، والحكم في أموال هؤلاء هو ما قال اللّه : إنها فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى .
كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ الدولة بضم الدال وفتحها ما يدول ويدور للإنسان من الغنى والغلبة ، وفرّق بعضهم بين مضموم الدال ومفتوحها ، فقالوا : إنّها بضم الدال ما يدول للإنسان من المال ، وبفتحها ما يكون له من النصر.
وقال بعضهم : هي بالضم اسم لما يتداول ، وبالفتح مصدر بمعنى التداول ، وقال بعضهم : بل هما لفظان لمعنى واحد.
والجملة بعد هذا تعليل لتقسيم الفي ء ، والضمير في يكون للفيء. والمعنى. أنا قسمنا الفيء هذا التقسيم كي لا يختص به الأغنياء ، أو كي لا يكون دولة وغلبة جاهلية بينكم ، كما كان الأغنياء منهم يستأثرون بالغنيمة ، وكانوا يعتزّون به.
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
ذهب بعض المفسرين إلى أنّ معنى (آتاكم) أعطاكم من الفي ء ، وأنّ ما نهاكم أي عن أخذه ، فانتهوا عن أخذه ، وكأنّه يستعين على ذلك بالمقام.
وذهب بعضهم إلى أنّها في كلّ ما أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم به ونهى عنه ، وفي جملة ذلك الفيء استدلالا بما في الآية من ألفاظ العموم ، ولأنّه قال بعدها : وَاتَّقُوا اللَّهَ حيث يتناول كل ما يجب فيه التقوى.
والآية بعد هذا توجب امتثال أوامر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ونواهيه أيضا ، واللّه أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الكشاف للزمخشري (4/ 502).(1/755)
ص : 756
من سورة الممتحنة
قال اللّه تعالى : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
واختلف العلماء في المراد من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فذهب بعضهم إلى أنّهم مؤمنون ، قعدوا عن الهجرة ضعفا منهم عن القيام بها. وقيل : بل هم مؤمنون من مكة ، أقاموا بين الكفرة ، وتركوا الهجرة مع القدرة ، وزاد مجاهد على أن المهاجرين والأنصار كانوا يريدون برّ هؤلاء القاعدين عن الهجرة ، ولكنهم تحرّجوا من برهم ، لتركهم فرض الهجرة.
وعلى هذين القولين تكون الآية باقية الحكم ، وأنّه ليس ما يمنع المسلمين في دار الإسلام من بر إخوانهم المسلمين الذين بقوا في دار الحرب.
وقال بعضهم : إنّ المراد النساء والصبيان من الكفرة ، الذين لا يقاتلون ، وهو مروي عن عبد اللّه بن الزبير.
وقال الحسن : هم قوم من خزاعة وبني الحرث بن كعب ، وكنانة ، ومزينة :
كانوا صالحوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على ألا يقاتلوه ، ولا يعينوا عليه ، وعليه فالآية خاصة بعدم النهي عن برّ من بينه وبين المسلمين عهد ، وهي باقية الحكم.
وقد أخرج البخاريّ وأحمد «1»
، وجماعة أنها في أم أسماء بنت أبي بكر ، وكانت قد قدمت على بنتها أسماء بهدية ، وهي مشركة ، وقيل : بل جاءت تطلب صلتها ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها ، حتّى أرسلت إلى عائشة رضي اللّه عنها لتسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن هذا ، فسألته ، فأنزل اللّه قوله تعالى : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الآية.
قال الآلوسي : والأكثر على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة ، سواء في
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 192) ، 5 - كتاب الهبة ، 29 - باب الهدية حديث رقم (2620) ، وأحمد في المسند (6/ 344).(1/756)
ص : 757
ذلك النساء والصبيان والمعاهدون ، ومجيئها بعد آية لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ يقرّب هذا ، فقد بيّن اللّه تعالى أنّه لا ينهانا عن برّ أحد من الناس ، إلا من قاتلنا ، وظاهر على قتالنا ، وأخرجنا من ديارنا ، وظاهر على إخراجنا. وأما من عدا هؤلاء من الكفار فلم ينهنا عن برهم والإقساط إليهم ، إذ علّة النهي عن البرّ أنّهم آذونا ، فلا يكونون أهلا لبرنا ، فإذا انتفت العلة انتفى النهي.
ومعنى قوله : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أنّه لا ينهى المسلمين عن الإحسان إلى من اتصفوا من الكفرة بهذه الصفات المذكورة ، وهي عدم المقاتلة في الدين ، وعدم إخراج المسلمين من ديارهم ، ومعنى الإقساط الإفضاء بالقسط ، وهو العدل ، فمعنى تقسطوا إليهم تفضوا إليهم بالقسط والعدل ، فالإقساط مضمّن معنى الإفضاء ، ولذلك عدّي بإلى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين.
وقد استدلّ بالآية بعض العلماء على جواز التصدّق على أهل الذمة دون أهل الحرب على وجوب النفقة للأب الذمي دون الحربي ، لأنّه يجب قتله والاستدلال على هذا الأخير استدلال عجيب ، إذ كلّ ما في الآية عدم النهي عن البرّ ، وهل عدم النهي عن البرّ يستلزم وجوب البر ، والشهاب الخفاجي قد نقل أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة : 5] وإن كان القول بالنسخ لا يكاد يظهر.
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ.
أي ليس النهي عن موالاة الأعداء نهيا عن البر بمن لم يقاتلكم ، ولم يخرجكم من دياركم ، إنما ينهاكم اللّه عن أعدائه وأعدائكم ، الذين قاتلوكم من أجل دينكم ، وألجئوكم إلى الخروج من دياركم ، وظاهروا على إخراجكم ، وأعانوا عليه ، هؤلاء هم الذين نهاكم اللّه وينهاكم أن تتولوهم ، وتلقوا إليهم بالمودة.
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم بتعريضها للعذاب ، حيث فعلوا ما يوجبه ، وهو اتخاذ الأعداء أولياء وهم ظالمون ، لأنّهم وضعوا الولاية وضع العداوة ، وكأنه لا يستحق وصف الظلم إلّا هؤلاء.
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) غير المؤمنين فريقان :
أحدهما : كافر ، عدو للّه وللمؤمنين ، لا يألو جهدا في أذاهم ، والإيقاع بهم ما(1/757)
ص : 758
استطاع إلى ذلك سبيلا ، وهؤلاء قد نهانا اللّه عن برّهم ، وتوليهم ، وموادتهم ، بل أمرنا أن نقعد لهم كل مرصد ، وأن نعدّ لقتالهم ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل.
والفريق الثاني : قوم كافرون ، ولكنهم لم يقاتلونا ، ولم يخرجونا من ديارنا ، ولم يظاهروا ، إما لعهد بيننا وبينهم ، وإما لأنهم قوم ضعاف لا يستطيعون حربا ، ولا قتالا ، ولا إخراجا ، ولا مظاهرة على إخراج ، وهؤلاء قد بيّن اللّه أنه لا ينهانا عن برّهم والإقساط إليهم.
وهناك فريق لا يعلم المؤمنون حالهم على الجزم ، وهم يظهرون الإيمان ، فهؤلاء بيّن اللّه حكمهم في الآيات التي معنا ، فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ إلخ نزلت هذه الآية بعد صلح الحديبية ، وقد روي أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر عليا رضي اللّه عنه أن يكتب عقد الصلح ، فكتب : باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض ، على أنّ من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه ردّه عليه ، ومن جاء قريشا من محمّد لم يردوه عليه ، وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنّه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
وقد نفّذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم العهد ، فجاءه أبو جندل بن سهيل فرده ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في مدة العهد ، وإن كان مسلما.
ثم جاءت المؤمنات مهاجرات ، وكانت أمّ «1» كلثوم بنت عقبة بن معيط إحدى المؤمنات الجائيات ، فخرج أخواها عمّار والوليد ، حتى قدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فكلّماه في أمرها ليردها إلى قريش ، فنزلت الآية ، فلم يردها صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقيل : نزلت الآية في امرأة تسمّى سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، جاءت مؤمنة مهاجرة ، وطلبوا ردّها. فنزلت «2» الآية.
وقيل : نزلت في غيرها ، ولعل سبب النزول متعدّد ، وعلى أي حال فالآية في امرأة أو نساء جئن مهاجرات بعد صلح الحديبية.
وقد منعت الآية إرجاع هؤلاء النسوة إلى الكفار. فقيل : نزلت الآية بيانا لنص العقد ، وأنه ما تناول إلّا الرجال ، غير أنّ هذا يكون من تخصيص العام بالمتأخر ، لأنّ نصّ عقد الصلح كان عاما «من جاء إلى محمد من قريش دون إذن وليه ردّه عليه»
__________
(1) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (7/ 376) ترجمة (7585).
(2) رواه البخاري في الصحيح (5/ 80) ، 64 - كتاب المغازي ، 36 - باب غزوة الحديبية حديث رقم (4180).(1/758)
ص : 759
ومن العلماء من لا يجيز التخصيص بالمتأخر ، فلعلّ هذا القائل يلتزم الذهاب إلى قول الجبّائي ومن وافقه في جواز تخصيص العام بالمخصّص المتأخر ، وقد نسب إلى الزمخشري أنّ هذا ليس من باب التخصيص ، وإنما هو من بيان المجمل ، ذلك أنه يرى أنّ هذه الصيغ لا تفيد العموم من طريق الوضع ، بل هي من باب المطلق ، وتدلّ على العموم بالقرائن. وعلى هذا (فمن) التي في عقد الصلح كانت مجملة ، وجاءت الآية مبينة لها ، وليس هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة ، بل هو تأخيره لوقت الحاجة ، فإنّ الحاجة إليه إنما كانت عند مجيء المؤمنات مهاجرات ، وقد نزلت الآية عنده بيانا للإجمال الذي في العقد.
وقد ذهب جماعة إلى أنّ التعميم في عقد الصلح لم يكن من طريق الوحي ، بل كان اجتهادا منه صلّى اللّه عليه وسلّم أثيب عليه بأجر واحد ، وجاءت هذه الآية بعدم إقراره على هذا الاجتهاد ، ومسألة اجتهاده صلّى اللّه عليه وسلّم في الأحكام مسألة مختلف فيها ، ومن يجيزها يقول : ما دام أنه يجيء الوحي بعدم التقرير على الخطأ فلا ضير فيها ، وقد جاءت الآية بعدم التقرير على التعميم.
وذهب جماعة إلى أنّ العهد كان بوحي ، وجاءت الآية ناسخة ، ومن لا يجيز نسخ السنة بالكتاب يقول : نسخ العهد بالسنة ، وهي امتناعه صلّى اللّه عليه وسلّم من الرد ، وجاءت الآية مقرّرة لهذا الامتناع.
ومن العلماء من يرى أن العهد كان على غير الصيغة المتقدمة ، وأنه كان يشتمل على نصّ خاص بالنساء ، صورته أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج ردّت على زوجها ما أنفق ، وللنبي صلّى اللّه عليه وسلّم من العهد مثل ذلك ، وعلى هذا فالآية موافقة للعهد مقرّرة له.
وهذا هو الذي عليه المعوّل ، وأما الأقوال قبله فإنّها تنافي روح التشريع الإسلامي من جهة أنّ الوفاء بالعهد واجب ، ولا ينبغي لأحد الطرفين أن يستبدّ بتخصيص نصوصه أو إلغائها دون موافقة الطرف الثاني.
وأنت تعلم أنّ عهد الحديبية ما نسخ إلا بعد أن نقضته قريش ، ونكثوا أيمانهم ، يوضّح ذلك ما جاء في سورة التوبة : وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) [التوبة : 12 ، 13]. وما دام العهد قد نسخ فنسخه نسخ لما اشتمل عليه من الحكم.
ولنرجع إلى تفسير الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ.(1/759)
ص : 760
المراد إذا جاءكم النساء اللائي يظهرن الإيمان ، وإنما كان هذا هو المراد لأنّ اللّه تعالى يقول : فَامْتَحِنُوهُنَّ ثم قال : فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فدل ذلك على أنّ الغرض من الامتحان علم إيمانهن ، وقوله تعالى : مُهاجِراتٍ منصوب على الحالية ، وجيء به بعد قوله تعالى : إِذا جاءَكُمُ لبيان العلة في عدم إرجاعهن ، إذ هنّ ما هجرن مكة وانتقلن منها إلا حبا في اللّه ، وفرارا بدينهن من أذى الكفار ، وهنّ الضعيفات اللاتي لا جلد لهنّ على الإيذاء ، فإذا قضى نصّ العهد أن يبقي الرجال ، فهم يتحمّلون الأذى ، أما هؤلاء اللاتي اضطررن إلى الهجرة ، فكيف يلزمهنّ البقاء ، وهنّ لا يستطعن حماية أنفسهنّ فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن بما ترونه موصلا إلى غلبة الظن بإيمانهنّ.
وقد روي عن ابن عباس في كيفية امتحانهن أنه قال : كانت المرأة إذا جاءت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حلّفها عمر رضي اللّه عنه باللّه بأنها ما خرجت رغبة بأرض عن أرض ، وباللّه ما خرجت من بغض زوج ، وباللّه ما خرجت التماس دنيا ، وباللّه ما خرجت إلا حبا للّه ورسوله.
وعن ابن عباس أيضا أنّ امتحانهنّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر عمر بن الخطاب فقال :
قل لهن إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بايعكن على ألا تشركن باللّه شيئا إلخ ما في الآية الآتية ، وسيأتي أنّ آية مبايعة النساء لها سبب غير هذا.
وقوله تعالى : اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ جملة اعتراضية جيء بها لإفادة أنّ الامتحان الغرض منه الوصول إلى غلبة الظن ، وإلا فالحقيقة لا يعلمها على ما هي عليه إلا اللّه وحده سبحانه ، فإنه المطلع على ما في القلوب ، يعلم السرّ وأخفى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي فإن تبيّن بعد الامتحان إيمانهنّ ، وغلب على ظنكم هذا ، فلا ترجعوهنّ إلى أزواجهنّ الكفار ، وإنما أقحمنا لفظ الأزواج أخذا من قوله بعد : لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فإنّه استئناف قصد منه بيان علّة النهي عن إرجاعهن إلى الكفار ، وجملة لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ أفاد الفرقة ، وتحقيق زوال النكاح الأول على الثبوت والاستقرار ، والجملة الثانية : وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أفادت أنّ النكاح في المستقبل لا يستأنف للكفار ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي أعطوا أزواجهنّ مثل ما أنفقوا عليهن من المهر ، وقد قيل : إنّ ذلك واجب ، وقيل : إنّه مندوب ، وقد فعل ذلك في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقد روي أنّ ربيعة الأسلمية لما جاءت تزوجها عمر ، وأعطى زوجها ما أنفق. وقيل : إنّ هذا الحكم غير باق ، لأنّ ذلك كان في المهاجرات ، وقد ذهبت الهجرة
«و لا هجرة بعد الفتح»
على أنك قد سمعت ما روي من أنّ العهد كان فيه نصّ جاءت الآية مقرّرة له ، وقد انتهى العهد بما فيه ، فلا بقاء لهذا الحكم الآن.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي إنه لا تثريب عليكم في نكاحهن(1/760)
ص : 761 عند إيتاء الأجور ، فمتى أعطيت الأجور ، فليس شيء وراء ذلك يمنع من الحلّ.
وأنت تعلم أنّ هذا الحكم وإن كان قد بطل العمل به بالنسبة لمن جرى بينه وبين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عهد الحديبية من قريش ، فإنّه لا مانع أن يكون معمولا به في العهود التي تجري بين المسلمين والكفار في مثل تلك الحالة التي كان عليها المسلمون يومئذ. فإذا عاهدناهم على أنّ من جاءتنا مؤمنة من أزواجهم رددنا عليهم ما أنفقوا وجب الوفاء بذلك العهد.
هذا وقد اختلف العلماء في الحربية تخرج إلى المسلمين مسلمة ، فقال أبو حنيفة : إذا خرجت الحربية مسلمة ، ولها زوج كافر في دار الحرب ، وقعت الفرقة بينهما ، ولا عدّة عليها. وقال أبو يوسف ومحمد : تقع الفرقة ، وعليها العدة. وإن أسلم الزوج بعد ذلك لم تحل له إلا بنكاح جديد ، وإليه ذهب سفيان الثوري.
وقال مالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي : إن أسلم الزوج قبل أن تحيض ثلاث حيض فهي امرأته. ولا تحل الفرقة إلا إذا انقضت العدة ، فإذا انقضت فلا سبيل له عليها إن اجتمع معها في الإسلام بعد ذلك ، ولا تحل له إلا بعقد جديد.
والخلاف بين الحنفية وغيرهم إنما هو في الحربيين إذا أسلمت المرأة وخرجت مهاجرة إلى دار الإسلام ، فإنّ الحنفية يقولون في هذه الصورة بالخروج من دار الحرب وهي مسلمة : وقعت الفرقة ، فسبب الفرقة اختلاف الدارين ، والمراد به عندهم أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب ، والآخر من أهل دار الإسلام ، ولا اعتبار لمضي العدة وعدمه. وغيرهم يقول : لا عبرة باختلاف الدار ، فإذا أسلمت المرأة انتظر إسلام زوجها زمن العدة ، سواء أبقيت في دار الحرب أم خرجت وحدها مهاجرة.
وأما إذا كانا ذميين ، فأسلمت المرأة ، فمذهب الحنفية «1» أنّه لا تقع الفرقة حتى يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم ، وإلا فرّق بينهما ، وكذلك إذا بقيا في الحرب.
والجماعة يقولون كما قالوا في الصورة الأولى ، أي أنها تنتظر زمن العدة ، فإن جمعها وإياه الإسلام ، في العدة فهي امرأته ، وإلّا حصلت الفرقة.
وقد استدل الحنفية لمذهبهم بقوله تعالى : فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
وقالوا في وجه استدلالهم بالآية : إنّ المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام ، وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب ، فقد اختلفت داراهما وحكم اللّه بوقوع الفرقة بينهما بقوله : فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ولو كانت
__________
(1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1/ 239).(1/761)
ص : 762
الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها ، وقد قال اللّه : لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
وأيضا قوله تعالى : وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا يدلّ على ذلك ، لأنه لو كانت الزوجية باقية لما استحقّ الزوج ردّ المهر ، لأنه لا يستحق البضع وبدله.
قالوا : ويدل عليه أيضا قوله تعالى : وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لأنه لو كان النكاح باقيا لما جاز لأحد أن يتزوجها.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى : وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ لأنّ معناه عندهم لا تتمسكوا بها ، ولا تعتدوا بها ، ولا تمنعكم عصمة الكافرين السابقة من التزوج بهنّ.
وقال الحنفية أيضا : اتفق الفقهاء على جواز وطء المسبية بعد الاستبراء ، وإن كان لها زوج في دار الحرب إذا لم يسب زوجها معها ، ولا سبب يجوّز هذا في نظرهم إلا اختلاف الدارين ، لأنه ليس معنا إلا طروء الملك ، واختلاف الدارين وطروء الملك من حيث هو لا يقتضي فساد النكاح ، بدليل أنّ الأمة التي لها زوج لو بيعت لا تقع الفرقة بينهما ، وكذلك إذا مات السيد عن أمة لها زوج ، لم يكن انتقال الملك إلى الوارث سببا للفرقة.
والجماعة يقولون : إنّ سبب الفرقة هو الإسلام ، لأنها لم تعد صالحة لأن تكون فراشا لكافر ، وهذا المعنى متحقّق ، سواء أبقيت في دار الحرب ، أم خرجت ، والعدة لازمة شرعا في كل ذات زوج ما دامت حرة ، وقد عرفت عدة الحرة في الشرع ، وقد كان موجب الفرقة بينهما من قبل الزوج ، وهو بقاؤه على الكفر ، فإذا أسقط الزوج هذا الموجب في وقت يمكنه فيه التدارك ، فهي امرأته ، لأن المانع من بقاء زوجية قد زال قبل فوات الأوان.
وقد روي عن مجاهد قال : إذا أسلم وهي في العدة فهي امرأته ، وإن لم يسلم فرّق بينهما. وعن عطاء مثل هذا ، وكذلك عن الحسن ، وابن المسيّب. وأيضا قد روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : ردّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة ، وبقي زوجها بمكة مشركا ، ثم ردها عليه بعد إسلامه.
والحنفية ردّوا الاستدلال بهذا الحديث من وجوه ، قالوا : إنّ هذه الرواية فيها أنّه ردها بعد ست سنين ، وذلك لا يعمل به عندكم. وقالوا : إن رواية ابن عباس ومذهبه يخالف مرويّة ، على أنّه قد روي هذا الحديث من طريق آخر جاء فيه أنه ردها عليه بنكاح ثان. والكلام في هذا الحديث محله كتب الحديث ، والذي يعنينا إنما هو الآية.
يقول الجماعة : إنّ هذه الآية بل الآيات لا دليل فيها ، فإنّ عدم الإرجاع إلى الكفار مبني على مجيء المؤمنات مهاجرات ، فلم جعلتم العلة هي الهجرة وحدها ، (1/762)
ص : 763
وهي دون الإيمان لا تصلح علة ، إذ إنّها لو صلحت لكان خروج الحربية إلينا بأمان موجبا للفرقة ، وهو لا يوجبها اتفاقا ، وكذلك المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان ، أو أسره أهل الحرب لا يبطل نكاح امرأته التي في دار الإسلام.
وجواب الحنفية عن هذا - بأنّ المراد أن يكون من أهل دار الإسلام - جواب لا ينفع ، فإنّه تستر وراء الألفاظ ، وإلّا فأهليتها لدار الإسلام موجودة وهي في دار الحرب إذا أسلمت قبله ، فلما ذا تنتظرونه حتى يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم ، وإلا فرّق بينهما. فالأهلية فوجودة من اللحظة الأولى ، فلو كانت الأهلية هي الموجبة لحصلت الفرقة بالإسلام لمجرده ، وهو ما نقول به ، غاية الأمر أننا نخالفكم في العدة ، أنتم تقولون بعدم وجوبها ، ونحن نقول بوجوبها ، لأننا نرى أن العدة شرعت لتعرف براءة الرحم ، ولحقّ الزوج ، حتى لا يضيع نسب ولده ، فإذا أسلم وامرأته في العدة فهو أحقّ بها ، لأن المانع من بقاء الزوجية قد زال ، والعدة واجبة على الزوجة غير المسبية ، وهذه زوجة غير مسبية ، فتلزمها العدة.
قال الحنفية في مسألة العدة : إنّ قوله تعالى : وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ظاهر في عدم وجوب العدة ، لأنّه لم يشترط في رفع الجناح في النكاح إلا إيتاء المهر ، ولو كان هناك شيء غير هذا لبينه.
وللجماعة أن يقولوا في هذا الدليل : إنّه متروك الظاهر ، وإلا لا قتضى أن يصحّ النكاح بغير شهود ، وهو لا يصحّ بالاتفاق ، بل هو لا يصح إلا مستوفيا كلّ شرائطه ، فلو كان تحته أختها لا يحل له أن ينكحها مهما دفع من المهر.
نعم قد يقال في هذا : إن اللّه تعالى يقول : وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ والنكاح حقيقة شرعية معروفة الأركان والشرائط ، فالمفروض استيفاؤها ، والآية سيقت لدفع ما كان يظنّ من أنّ للنكاح الأول حرمته ، وأنّه باق ، فنفت الآية هذا الظن ، ورفعت الجناح في النكاح مع استيفاء الشرائط والأركان وانتفاء الموانع.
وأما استدلال الحنفية بقوله تعالى : وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فتأويله عند الجماعة : ولا تمسكوا بعصم نسائكم المشركات الباقيات في دار الحرب ، وتكون الآية لمنع بقاء نكاحهن ، كما منع ابتداء نكاح المشركات وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة : 221]. ويكون المراد منع المؤمنين من أن يكون بينهم وبين نسائهم الباقيات على الشرك علقة من علق الزوجية أصلا ، وعدم الاعتداد بذلك النكاح ، فهو لا يمنع خامسة ولا نكاح أختها.
وقد يساعد على هذا التأويل قوله تعالى : وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا. فإن معناه : اسألوا الكفار مهور نسائكم ، ولهم من السؤال مثل ذلك ، وعليكم الإجابة.(1/763)
ص : 764
وأما قياس الحنفية طروء الملك في المسبية على بيع الأمة المزوّجة في أنّ كلّا لا يقتضي فساد النكاح ، فهو قياس مع الفارق. فإنّ الذي حصل للمسبية إنما هو استرقاق واستحداث رق بعد حرية ، والذي حصل في الأمة المبيعة إنما هو انتقال ملك من شخص إلى شخص.
ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ فاتبعوه ، ولا تحيدوا عنه ، وقد روي أنّ الصحابة أدوا إلى المشركين ما أنفقوا من مهور المهاجرات ، وأبى المشركون أن يدفعوا مهور من بقي عندهم من نساء المؤمنين ، فنزل قوله تعالى : وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11).
والمعنى : إن انفلت منكم شيء من أزواجكم وانحاز إلى جانب الكفار وجاء دوركم ونوبتكم في استيفاء ما أنفقتم من المهور على أزواجكم ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم من المسلمين مثل ما أنفق هؤلاء الأزواج من مهور المهاجرات اللاتي هاجرن إليكم وتزوجتموهنّ ، ولا تدفعوا إلى أزواجهنّ الكفار ، ويكون ذلك قصاصا.
إباء عن الدفع منكم بإباء عن الدفع منهم.
وقد روي عن الزهري ما يوافق هذا المعنى قال : يعطي من لحقت زوجته بالكفّار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجات الكفّار ، وعلى هذا تكون المعاقبة بمعنى العقبى والنوبة ، وعن الزجاج أنّ المعنى : فقاتلتم الكفار وأصبتم منهم الغنائم ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الغنائم.
وقد روي عن ابن عباس أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمّس المهر ، لا ينقص منه شيئا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فلا يزد أحدكم عن الذي أنفق ، ولا ينقص المعطى منه شيئا ، وذلك شأن المؤمن ، فإيمانه يدفعه إلى أن يخشى اللّه ، ويتقيه في كل أعماله وأحواله.(1/764)
ص : 765
من سورة الجمعة
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
المراد بالنداء الأذان والإعلام ، والمراد بالصلاة المنادى لها صلاة الجمعة ، بدليل قوله : مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إذ غيرها من الصلوات التي يؤذّن لها لا مزية لها في يوم الجمعة عن غيره.
والأذان الذي يجب السعي عنده اختلف فيه ، فقال بعضهم : المراد به الأذان الذي بين يدي الخطيب ، ووجه هذا أنّه الأذان الذي كان على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأبي بكر وعمر ، فقد كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مؤذّن واحد ، وكان إذا جلس النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم على المنبر أذّن على باب المسجد ، وإذا نزل من على المنبر أقام الصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر كذلك ، ويرى بعضهم أنّ السعي إنما يجب عند الأذان الأول الذي على المنارة ، وهو الأذان الذي زاده عثمان رضي اللّه عنه ، وذلك حين رأى كثرة الناس وتباعد مساكنهم ، فأمر بالأذان الأول على داره التي تسمّى الزوراء ، فإذا جلس على المنبر أذّن المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام الصلاة ، وفي بعض الروايات زاد الأذان الثالث ، وكونه ثالثا ، لأنّ الإقامة تسمّى أذانا ، كما في
قوله عليه الصلاة والسلام : «بين كلّ أذانين صلاة» «1».
وهذا القول هو الظاهر من مذهب الحنفية ، وهم قد نظروا فيه إلى المعنى.
وذلك أنّ المراد من النداء الإعلام ، والسعي إنما يجب عند الإعلام ، وقد فهم عثمان رضي اللّه عنه هذا المعنى ، وزاد النداء الثاني ليتمكّن الناس من حضور الخطبة والصلاة من أماكنهم البعيدة ، ولم تكن بالمسلمين حاجة إلى هذا في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لقرب مساكنهم من المسجد ، ولأنّهم كانوا يحافظون على أن يجيئوا في أوّل الوقت - إن لم يكن قبله - محافظة على أخذ الأحكام عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فكان النداء الذي بين يدي الخطيب يسمعهم
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 573) ، 6 - كتاب المسافرين ، 56 - باب بين كل أذانين حديث رقم (304/ 838) ، والبخاري في الصحيح (1/ 175) ، 10 - كتاب الأذان ، 16 - باب بين كل أذانين صلاة حديث رقم (627).(1/765)
ص : 766
فيحضرون سراعا ، ويدركون الخطبة من أولها ، لقرب المساكن من المسجد.
والسعي عند الأذان الثاني يفوّت على الناس سماع الخطبة التي خفّضت من أجلها الصلاة ، ويفوّت عليهم السنة القبلية.
ومن يرى أنّ السعي إنما يجب بالأذان الذي بين يدي الخطيب يقول : إنّه النداء الذي كان في زمنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو أحرص الناس على أن يؤدّي المؤمنون الواجب عليهم في وقته ، فلو كان السعي واجبا قبل ذلك لبيّن لهم ، ولجعل بين الأذان والخطبة زمنا يتّسع لحضور الناس ، ومسألة السنة القبلية فيها كلام ، وربّما كان في عمل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والأذان بين يديه وهو على المنبر ما يدل على أنّ السنة القبلية التي كانت في الظهر لم تعد مطلوبة في الجمعة ، ومع ذلك فهي سنة ، وهل يمكن أن يقال : إن السعي يجب قبل وقته لتحصيل سنة لم تثبت ، ومع ذلك فالمصلي يندب له أن يجيء مبكّرا لفوائد جمة ، منها أداء السنّة.
هذا وقد تكلّم المفسرون هنا في لفظ (من) وأنّها بمعنى (في) وتبعيضية ، كما تعرّضوا لحركة (ميم) الجمعة ، وما فيها من لغات ، وفي أصل مدلولها قبل أن تكون علما ، والمناسبة عند النقل ، وذلك بحث لا طائل تحته بعد أن صارت الجمعة في لغاتها جميعا علما على اليوم المعروف من أيام الأسبوع.
وقد اختلف العلماء في أول جمعة صلّيت في الإسلام ، فقد أخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار : لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه ، فنذكر فيه اللّه تعالى ونشكره ، فقالوا : يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة ، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك ، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة ، فصلّى بهم يومئذ ركعتين ، وذكّرهم ، وسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا ، وذبح لهم شاة ، وغدّاهم ، وعشّاهم منها «1».
وهذا الخبر مرويّ عن غير ابن سيرين أيضا فقد أخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء ترحّم على أسعد بن زرارة ، فقلت : يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلّما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال : لأنّه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات في هزم من حرّة بني بياضة ، قلت : كم كنتم يومئذ؟ قال : أربعين رجلا «2».
__________
(1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (6/ 218).
(2) رواه أبو داود في السنن (1/ 402) ، كتاب الصلاة ، باب الجمعة حديث رقم (1069) ، وابن ماجه في السنن (1/ 343) ، 5 - كتاب إقامة الصلاة ، 78 - باب فرض الجمعة حديث رقم (1082).(1/766)
ص : 767
قال الكمال بن الهمام : الظاهر من هذه الروايات أنّ صلاة أسعد بن زرارة للجمعة كانت قبل أن تفرض «1».
ويرى العلامة ابن حجر أنّ الجمعة فرضت في مكة ، ولم تقم بها ، إما لعدم تكامل العدد ، وإما لأنّ أمرها كان على الإظهار ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان في مكة غير متمكن من الإظهار.
وقال : إنّ أول من أقامها بالمدينة أسعد بن زرارة ، بقرية على ميل من المدينة ، فلعلّها فرضت ، ثم نزلت الآية ، ولكن يمنع من هذا ما
روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه خطب فقال : «إن اللّه فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا ، في يومي هذا ، في شهري هذا ، في عامي هذا ، إلى يوم القيامة ، فمن تركها استخفافا بها ، أو جحودا لها ، فلا جمع اللّه شمله ، ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة له ، ولا حج له ، ولا صوم له ، ولا برّ له حتى يتوب ، فمن تاب تاب اللّه عليه» «2»
. حيث ذكر في هذا الحديث أنّه لا حج له ، والحج وإن كان قد اختلف في مبدأ افتراضه ، إلا أنّهم صححوا أنه في السنة السادسة من الهجرة ، فالظاهر أنّ الجمعة كانت بعد ذلك.
ويرى بعض آخر من العلماء أنّ أول من جمع بالناس مصعب بن عمير ،
فقد أخرج الدار قطني عن ابن عباس قال : أذن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالجمعة قبل أن يهاجر ، ولم يستطع أن يجمع بمكة ، فكتب إلى مصعب بن عمير : «أما بعد ، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور ، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة ، فتقرّبوا إلى اللّه بركعتين» قال : فهو أول من جمع ، حتى قدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة.
وقد جمع بين هذين بأنّ جمع أسعد كان بغير أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وجمع مصعب كان بأمره ، وأول جمعة صلّاها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كانت بعد مقدمه بأربعة أيام حيث أدركه وقتها في بني سالم بن عوف ، فصلّاها في بطن واد لهم ، حيث خطب صلّى اللّه عليه وسلّم ، وصلّى بالناس.
وقوله تعالى : فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ السعي المراد منه المشي دون إفراط في السرعة.
أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وأنتم تمشون ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم ، فصلّوا ، وما فاتكم فأتموا» «3».
__________
(1) انظر فتح القدير للإمام كمال الدين السيواسي المعروف بابن الهمام الحنفي بيروت ، دار الفكر (2/ 51). [.....]
(2) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 343) ، 5 - كتاب إقامة الصلاة ، 78 - باب فرض الجمعة حديث رقم (1081).
(3) رواه مسلم في الصحيح (1/ 420) ، 5 - كتاب المساجد ، 27 - باب ما يقال في تكبيرة الإحرام رقم (151/ 602) ، والبخاري في الصحيح (1/ 246) ، 11 - كتاب الجمعة ، 18 - باب المشي إلى الجمعة حديث رقم (908).(1/767)
ص : 768
والمراد من ذكر اللّه الخطبة والصلاة جميعا ، لاشتمالهما عليه ، واستظهر بعضهم أنّ المراد به الصلاة ، وقصره بعضهم على الخطبة.
وقد ورد الذكر في الآية مطلقا غير محدود ، ومن أجل ذلك قال الحنفية : إنه لا يشترط في الخطبة اشتمالها على ما يسمّى خطبة عرفا ، لأنّ اللّه تعالى ذكر الذكر من غير تفضيل بين كونه طويلا أو قصيرا ، يسمى خطبة أو لا يسمى خطبة ، فكان الشرط هو الذكر مطلقا ، وما ورد من الآثار مشتملا على بيان الكيفية فهو يدل على السنية أو الوجوب ، ولا ينتهض دليلا على أنه لا يجوز إلا ذلك. ودونه تبطل الخطبة ، ولا تصح الصلاة ، بل هو اختيار للفرد الكامل من أفراد المطلق.
والشافعية يشترطون أن يأتي الخطيب بخطبتين مستوفيتين لشروط خاصة ، واستدلوا على ذلك بآثار وردت فيها ، فإن ثبتت هذه الأدلة ، وانتهضت دليلا لإثبات الشرطية ، فهي الدليل.
وقد جاء في الآية الأمر بالسعي ، والأمر للوجوب ، فيكون السعي واجبا ، وقد أخذوا من هذا أنّ الجمعة فريضة ، وذلك أنّه قد رتّب الأمر للذكر على النداء للصلاة ، فإذا كان المراد بالذكر هو الصلاة ، فالدلالة ظاهرة ، لأنه لا يكون السعي لشيء واجبا حتّى يكون ذلك الشيء واجبا.
وأما إذا كان المراد بالذكر الخطبة فقط فهو كذلك ، لأن الخطبة شرط الصلاة ، وقد أمر بالسعي إليه ، والأمر للوجوب ، فإذا وجب السعي للمقصود تبعا ، فما ذلك إلا لأن المقصود بالذات واجب ، ألا ترى أن من ارتفع عنه وجوب الجمعة لا يجب عليه السعي لها ، إذا فالسعي تابع لوجوب الجمعة ، والجمعة جاء طلبها والنكير على تركها في السنة ، وقد انعقد الإجماع على وجوبها بشروطها.
وقد أجمعوا على اشتراط العدد فيها ، بل هي ما سميت جمعة إلا لما فيها من الاجتماع ، وقد اختلف في أقلّ عدد تنعقد به الجمعة على أقوال كثيرة : ابتدأت من الاثنين إلى الثمانين ، ولقد قيل : إنه قد زادت الأقوال فيها على ثلاثة عشر قولا.
والكلام فيها من حيث التحديد ومن حيث الأدلة يرجع [فيه ] إلى كتب الفقه وكتب السنة ، فإنّ الآية لم تعرض لشيء منها.
وَذَرُوا الْبَيْعَ المراد من البيع المعاملة ، فهو مجاز عن ذلك ، فيعم البيع والشراء والإجارة ، ولقد ذهب جماعة إلى أنّ الأمر للوجوب ، فيكون الاشتغال بهذه الأشياء محرّما.
وقال بعضهم : هو مكروه تحريما ، بل لقد زعم بعضهم أنّ الكراهة تنزيهية ، بناء على أنّ الأمر للندب ، ولم يرتضه كثير من العلماء ، وقد قالوا : إنّ التحريم يستمرّ إلى فراغ الإمام من الخطبة.(1/768)
ص : 769 وأما مبدأ التحريم فهو مبنيّ على الخلاف الذي قد علمته في المراد بالنداء ، وظاهر أنّ المأمور بالسعي هو المأمور بترك البيع ، وأما من عداهم فلا يشملهم الأمر ، فإنّ الأمر بترك البيع إنما كان لوجوب السعي.
وقد روي عن بعض السلف أنّ ترك البيع وقت النداء واجب على الناس جميعا من وجب عليه السعي ومن لم يجب.
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي السعي إلى ذكر اللّه ، وترك أعمالكم من أجل ذلك خير لكم وأنفع ، والتفضيل باعتبار ما في المعاملة من المنافع الدنيوية ، وقوله : إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ معناه : إن كنتم من أهل العلم عرفتم أنّ امتثال أوامر اللّه في الذهاب إلى الجمعة ، والانتفاع بما يلقى على الناس من مواعظ خير لكم في الدنيا والآخرة.
في الدنيا حيث يبصّركم الإمام بما فيه خيركم ونجاتكم من الأذى ، وفي الآخرة برضا اللّه عنكم ، حيث امتثلتم أمره.
قال اللّه تعالى : فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10).
أي إذا فرغتم من أداء الصلاة فتفرّقوا في الأرض إلى حيث تؤدّون أعمالكم التي كنتم تركتموها من أجل الذكر ، واطلبوا الربح من فضل اللّه وفيض إنعامه.
وقد قالوا : إن هذا أمر ورد بعد الحظر فهو للإباحة ، وعليه فليس يطلب من الإنسان أن يخرج من المسجد بعد الصلاة ، لا وجوبا ولا ندبا.
ولقد روي عن بعض السلف أنّه كان إذا انتهت الصلاة خرج من المسجد ، ودار في السوق ساعة ، ثم رجع إلى المسجد فصلّى ما شاء أن يصلّي ، فقيل له : لأي شيء تصنع هذا؟ قال : إني رأيت سيّد المرسلين يصنع هذا ، وتلا قوله تعالى : فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ رضي اللّه عن أصحاب رسول اللّه ، فقد كانوا يتأسون بالمصطفى حتى في حركاته وسكناته.
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً وفي وقت اشتغالكم بأعمالكم ، ولا تكتفوا بالذكر الذي سعيتم من أجله ، لكي تفوزوا بخير الدارين.
وقد عرض المفسرون هنا لأحكام كثيرة تتعلق بالجمعة ، كاشتراط المصر ، وكون الخطبة قبل الصلاة أو بعدها ، وهل هناك سنن قبلية ، أو بعدية؟ ونحن نرى أن هذه الأحكام لا تدل عليها الآية ، ولا من طريق الإشارة ، فيرجع إليها في السنة والفقه.(1/769)
ص : 770
قال اللّه تعالى : وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي «1» وغيرهم عن جابر بن عبد اللّه قال :
بينما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة قائما ، إذ قدمت عير المدينة ، فابتدرها أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا ، أنا فيها وأبو بكر وعمر ، فأنزل اللّه تعالى : وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً إلى آخر السورة.
بهذا تضافرت الروايات على اختلاف بينها في التفاصيل ، وفي بعض الروايات أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا»
وفي بعضها :
كان الباقي ثمانية ، وفي بعض آخر : بقي أربعون رجلا ، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف تحمل طعاما ، وكان قد أصاب المدينة جوع وغلاء سعر.
ولما كانت الآية نزلت بعد أن ترك من ترك رسول اللّه في موقفه ، قال العلماء :
إن إِذا مستعملة في الماضي ، ولما كان العطف بين قوله : تِجارَةً أَوْ لَهْواً ب أَوْ صحّ مجيء الضمير في إليها مفردا ، ورجع الضمير إلى التجارة دون اللهو ، لأن الانفضاض كان لها بالأصالة ، ولهوهم كان للفرح بمجيء التجارة التي أنقذتهم مما هم فيه من الجوع وغلاء السعر ، وقد روي أنّه حين جاءت العير استقبلها الناس بالفرح وضرب الدفوف ، فخرج المنفضون على ذلك.
وقد استدل العلماء بقوله تعالى : وَتَرَكُوكَ قائِماً على مشروعية القيام أثناء الخطبة ، والمشروعية أمر متفق عليه بين العلماء ، وقد ثبت في السنة أنّ النبي ما خطب إلا قائما ، وكذلك الخلفاء من بعده ، استمرّ الأمر هكذا إلى زمن بني أمية ، حيث وجد منهم من استهان بأمر الخطبة فخطب جالسا.
نعم قد روي أن أول من خطب جالسا معاوية رضي اللّه عنه ، وقد حمل العلماء هذه الرواية على فرض صحتها على أنّه كان عاجزا عن القيام ، وإلا فمقام معاوية أجلّ من أن يخالف ما كان عليه الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
أخرج البخاري ومسلم «2» عن ابن عمر أن النبيّ كان يخطب خطبتين يجلس بينهما.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 590) ، 7 - كتاب الجمعة ، 11 - باب قوله تعالى : إِذا رَأَوْا تِجارَةً حديث رقم (39/ 863) ، والبخاري في الصحيح (2/ 75) ، 65 - كتاب التفسير ، 2 - باب وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً حديث رقم (4899) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 386) ، كتاب التفسير ، باب تفسير سورة الجمعة ، حديث رقم (3311) ، وأحمد في المسند (3/ 370).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 589) ، 7 - كتاب الجمعة ، 10 - باب ذكر الخطبتين حديث رقم (33/ 861) ، والبخاري في الصحيح (1/ 251) ، 11 - كتاب الجمعة ، 3 - باب القعدة بين الخطبتين حديث رقم (928).(1/770)
ص : 771
وحكم القيام في الخطبة أنّه سنة عند الحنفية «1» ، ويرى الشافعية أنّه أحد شروطها ، وأنت تعلم أنّ الحنفية لا يثبتون الشرط إلا بقطعي ، وهو غير موجود هنا.
والشافعية يتمسكون بما في الآية من إشارة ، وبما ثبت من السنة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية على ما عرفت قبلا.
قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ قدمت التجارة على اللهو عند الرؤية ، لأنها كانت الباعث الأقوى على الخروج ، وأخّرت هنا لأنّه أقوى في الذم ، والغرض التنفير ، فكان من المناسب تقديمه.
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فهو الذي يقدّر الأقوات وييسرها ، وهو الذي بيده ملكوت كل شي ء ، وما يمسك فلا مرسل له ، وما يرسل فلا ممسك له ، إلا من بعد إذنه ، وما ينبغي لأحد أن يهجر عبادة اللّه من أجل شي ء ، إن كان له فسوف يأتيه ، وإذا لم يكن له فلن يفيد فيه الإسراع إليه ، والجري وراءه ، وهو لو شاء الحرمان منه لحرمه وهو في البيت ، بل وفي اليد إلى الفم.
وقد حاول العلماء أن يستدلوا بما روي في أسباب النزول من أعداد الباقين والمنفضين على العدد في الجمعة ، فمن صحّ عنده أن الباقين كانوا اثني عشر قال : إنّ العدد المعتبر في الابتداء هو العدد المعتبر في البقاء ، فلو كان العدد الباقي لا تصحّ به الجمعة لما صحت الجمعة ، ولم يرو أنّهم أعادوها.
وقد ردّ هذا الاستدلال من وجوه :
أولا : قد روي أنّ الباقي كان أربعين ، وروي أنه كان ثمانية ، ولو سلّم أنهم كانوا اثني عشر ، فلا دلالة فيه ، لأنّه لا يدل إلا على أنّها تصح باثني عشر ، وهو لا يفيد أنها لا تصح بما دون ذلك ، فأين التحديد باثني عشر.
وقد سبق أن قلنا : إن الآية لا يؤخذ منها شيء من هذه الأحكام التي يثبتها الفقهاء في الجمعة ، ولا دلالة لها على أكثر من وجوب السعي عن الجمعة ، وعلى وجوب ترك البيع وشؤون الدنيا من أجل الصلاة ، وعلى أنّه لا يجوز أن يترك الناس الخطيب يخطب وينصرفوا إلى أي شأن آخر.
__________
(1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1/ 89).(1/771)
ص : 772
من سورة الطلاق
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ إنما كان النداء خاصا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، والخطاب بالحكم عاما له ولأمته تكريما له عليه الصلاة والسلام ، وإظهارا لجلالة منصبه ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهارا لمقامه فيهم ، واعتبارا لترؤسه ، وإنه المتكلّم عنهم ، وإنه هو الذي يصدرون عن رأيه ، ولا يستبدّون بأمر دونه.
وقيل الجمع في قوله : إِذا طَلَّقْتُمُ للتعظيم ، مثل قوله تعالى : قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون : 99] وقول القائل :
ألا فارحموني يا إله محمد.
وقيل : أراد يا أيها النبيّ ويا أيها المؤمنون ، فحذف لدلالة الخطاب عليه.
وقيل : أراد يا أيها النبيّ قل للمؤمنين إذا طلقتم النساء إلخ.
وقد اتفق المفسّرون على اعتبار التجوّز في قوله تعالى : إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ لأن الكلام لا يستقيم دونه ، لما فيه من تحصيل الحاصل ، أو كون المعنى إذا طلقتموهن فطلقوهنّ مرة ثانية ، وهو غير مراد قطعا ، فلا بدّ من التجوّز ، إما بإطلاق المسبب وإرادة السبب ، وإما بتنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه ، والمعنى : إذا أردتم تطليقهن تطلقوهن لعدتهنّ.
واللام في قوله تعالى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ لام التوقيت كاللّام الداخلة في التاريخ ، نحو كتبته لثلاث مضين من المحرم ، أي فطلّقوهن في عدتهن ، أي في وقتها. والمراد بالأمر بإيقاع الطلاق في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض ، وردت بذلك السنة الصريحة ، فالمعنى : إذا أردتم تطليقهنّ ، فلا تطلقوهن في الحيض ، فهو مثل
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «1» : «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 226) ، 22 - كتاب المساقاة ، 24 - باب الرهن ، حديث رقم (1604) ، والبخاري في الصحيح (3/ 59) ، 35 - كتاب السلم ، 1 - باب السلم في الوزن حديث رقم (2240).(1/772)
ص : 773
ليس معناه إيجاب السلم ، بل معناه النهي عن السلم فيما لم يعلم كيله أو وزنه أو أجله.
وكذلك
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «1» : «كل مما يليك»
ليس معناه إيجاب الأكل. بل معناه : النهي عن أن يجيل يده في الإناء ، وهكذا جرى عرف اللسان العربي في كل ما كان من هذا القبيل ، فكانت الآية دليلا على حرمة الطلاق في الحيض.
واتفق الفقهاء على أنّ ذلك طلاق بدعي محرّم. والمعنى : فيه الإضرار بالزوجة بتطويل المدة التي تتربصها ، فإنّ بقية الحيض لا تحسب من العدة عند من يرى أنّ الأقراء الأطهار ، وكذلك لا تحسب هي ولا الطهر بعدها من العدة عند من يرى أنّ الأقراء الحيض.
وأيضا ليس من الوفاء ولا من المروءة أن يطلقها في وقت رغبته عنها ، لسبب لا دخل لها فيه.
وألحق الفقهاء بذلك في الحرمة الطلاق في النفاس ، لما ذكر من المعنى.
وأتت السنة الصحيحة بصورة ثالثة للطلاق البدعي المحرم ، وهي أن يطلّقها في طهر جامعها فيه ، والمعنى في ذلك أنه ربما يندم على الطلاق إذا ظهر الحمل ، إذ الإنسان قد يسمح بطلاق الحائل لا الحامل ، وقد لا يتيسّر له ردها ، فيتضرر هو والولد.
واستثنى كثير من الفقهاء من الطلاق المحرّم خلعها في الحيض بعوض منها ، لأنّ بذلها المال يشعر بحاجتها إلى الخلاص ، وبرضاها بتطويل المدة ، وقد قال تعالى : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وأذن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لثابت بن قيس في الخلع على مال من غير استفصال عن حال زوجته «2».
استدلّ أهل الظاهر بقوله تعالى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ على أنّ الطلاق في الحيض لا يقع ، ولا يترتب عليه حكم ، لأن الآية ظاهرة في النهي عن الطلاق في غير العدة.
وقد بينت السنة ذلك ، بأنه الطلاق في الحيض.
وثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من حديث عائشة رضي اللّه عنها أنه قال : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» «3»
وفي رواية : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1599) ، 36 - كتاب الأشربة ، 135 - باب آداب الطعام حديث رقم (107/ 2022) ، والبخاري في الصحيح (6/ 241) ، 70 - كتاب الأطعمة ، 2 - باب التسمية حديث رقم (5376).
(2) رواه أبو داود في السنن (2/ 244) ، كتاب الطلاق ، باب في الخلع حديث رقم (2227) ، والنسائي في السنن (5 - 6/ 481) ، كتاب الطلاق ، باب في الخلع حديث رقم (3462).
(3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1343) ، 30 - كتاب الأقضية ، 8 - باب نقض الأحكام حديث رقم (17/ 1718) ، والبخاري في الصحيح (3/ 222) ، 53 - كتاب الصلح ، 5 - باب إذا اصطلحوا على صلح جور حديث رقم (2697).(1/773)
ص : 774
ردّ»
قالوا : وهذا صريح في أنّ هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره صلّى اللّه عليه وسلّم مردود وباطل. قالوا : وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي ، فما الفرق بينه وبين الطلاق؟ وكيف أبطلتم ما نهى اللّه عنه من النكاح ، وصححتم ما حرّمه ونهى عنه من الطلاق؟ وليس لكم متمسك في ذلك إلا رواية عن ابن عمر قد خالفها ما هو مثلها أو أحسن منها عن ابن عمر أيضا ، فقد أخرج أبو داود «1» عن أبي الزبير أنّه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر ، قال أبو الزبير : وأنا أسمع : كيف ترى في رجل طلّق امرأته حائضا فقال : طلّق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فسأل عمر عن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : إنّ عبد اللّه بن عمر طلّق امرأته وهي حائض.
قال عبد اللّه : فردها عليّ ولم يرها شيئا. وليست رواية نافع عن ابن عمر : «مره فليراجعها» «2» بأصحّ من رواية أبي الزبير عنه : «فردها عليّ ولم يرها شيئا». وحينئذ يتعيّن الجمع بينهما بحمل المراجعة في قوله : «مره فليراجعها» على الارتجاع والرد إلى حالة الاجتماع كما كانا من قبل ، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق البتة.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ الاستدلال بالآية على عدم وقوع الطلاق في الحيض موقوف على أنّ النهي عن الشيء يقتضي الفساد ، وهي مسألة أصولية كثرت فيها المذاهب والآراء ، وصحّح الحنفية منها أنه لا يقتضي الفساد مطلقا. وقال الشافعية : إنّه يدلّ على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد ، أو إلى أمر داخل فيه ، أو لازم له.
فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت نداء الجمعة ، فلا يدل على الفساد ، والنهي فيما نحن فيه لأمر مقارن ، وهو زمان الحيض ، فهو عندهم لا يدل على الفساد أيضا.
وأيّد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة ، إذ لو لم يقع الطلاق لم يؤمر بها ، وقد قال اللّه تعالى : فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة : 230] وهذا يعمّ كلّ طلاق. وكذلك قوله : وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة : 228] وقوله : الطَّلاقُ مَرَّتانِ [البقرة : 229] وقوله : وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ [البقرة : 241] وهذه كلها عمومات لا يجوز تخصيصها إلا بنص أو إجماع ، والمطلقة في الحيض داخلة في هذه العمومات.
وأما
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ»
فما أصحه وما أبعده
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (2/ 228) ، كتاب الطلاق ، باب في طلاق السنة حديث رقم (2185).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1093) ، 18 - كتاب الطلاق ، 1 - باب تحريم طلاق الحائض حديث رقم (1/ 1471) ، والبخاري في الصحيح (6/ 199) ، 68 - كتاب الطلاق ، 1 - باب قول اللّه تعالى :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حديث رقم (5251).(1/774)
ص : 775
عن محل النزاع ، فإنّ وقوع طلاق الحائض مشروع ، فلا يقال فيه : إنه عمل ليس عليه أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فهو مردود ، وتحريم الطلاق في الحيض لا يمنع ترتيب أثره وحكمه عليه ، كالظهار ، فإنّه منكر من القول وزور ، ولا شكّ في ترتيب أثره وحكمه عليه ، وهو تحريم الزوجة إلى أن يكفّر ، فهكذا الطلاق البدعي محرّم ، ويترتب عليه أثره ، إلى أن تراجع ، وكذلك القذف محرّم ، ويترتب عليه أثره من الحدود والشهادة.
وكذلك وطء الزوجة في الحيض محرّم ، ويترتب عليه أثره وحكمه ، حتى ولو دخل بزوجته وهي حائض اعتبر ذلك وطأ يقرّر المهر ويوجب العدة.
وكذلك الإيمان وهو أصل العقود وأجلها وأشرفها يزول بالكلام المحرّم إذا كان كفرا ، فكيف لا يزول عقد النكاح بالطّلاق المحرم ، الذي وضع لإزالته؟ وكذلك طلاق الهازل يقع مع تحريمه ، لأنّه لا يحلّ الهزل بآيات اللّه ، فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه فطلاق الجادّ أولى أن يقع مع تحريمه.
والفرق بين النكاح المحرّم والطلاق المحرّم أنّ للنكاح عقد يتضمن حلّ الزوجة ، وملك بضعها ، فلا يكون إلا على الوجه المأذون فيه شرعا ، فإنّ الأبضاع في الأصل على التحريم ، ولا يباح منها إلا ما أباحه الشارع بخلاف الطلاق ، فإنه إسقاط لحقه ، وإزالة لملكه ، وذلك لا يتوقف على كون السبب المزيل مأذونا فيه شرعا. على أن من النكاح ما يكون محرما ويقع عقده صحيحا ، كمن عقد على مخطوبة الغير ، فإنّ الإقدام على هذا النكاح حرام ، ومع ذلك إذا وقع العقد كان صحيحا.
وأما رواية أبي الزبير عن ابن عمر فردّها عليّ ، ولم يرها شيئا ، فهي مردودة لمخالفة أبي الزبير فيها من هو أوثق منه ، قال أبو داود : والأحاديث كلّها على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال الشافعي : ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير عنه ، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا تخالفا ، وكذلك قال الخطابيّ. وقال ابن عبد البر : تفرّد بهذه الرواية أبو الزبير ، وقد روى الحديث عن ابن عمر جماعة أجلة ، فلم يقل ذلك أحد منهم ، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله ، فكيف بخلاف من هو أثبت منه.
وقال بعض أهل الحديث : لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا.
واستدل الشافعيّ بقوله تعالى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ على أن الأقراء الأطهار ، ووجه الاستدلال به أنّ اللام هي لام الوقت ، أي فطلقوهن وقت عدتهن ، وفد فسر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية بهذا التفسير ،
ففي «الصحيحين» «1» عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه طلّق امرأته وهي حائض في عهد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فسأل عمر النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك ، فقال
__________
(1) سبق تخريجه.(1/775)
ص : 776
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ ، فتلك العدة التي أمر اللّه أن تطلّق لها النساء»
فبيّن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ العدة التي أمر اللّه أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة ، ولو كان القرء هو الحيض كان قد طلقها قبل العدة ، لا في العدة ، وكان ذلك تطويلا عليها. ويشهد لهذا الذي ذهب إليه الشافعي قراءة ابن مسعود فطلقوهن لقبل طهرهن.
وقال الذاهبون إلى أن الأقراء الحيض : إنّ أهل العربية يفرّقون بين لام الوقت وفي التي للظرفية ، فإذا أتوا باللام لم يكن الزمان المذكور بعدها إلا ماضيا أو منتظرا ، ومتى أتوا بفي لم يكن الزمان المجرور بها إلا مقارنا للفعل ، واعتبر ذلك في قولك :
(كتبته لثلاث خلون) و(كتبته بثلاث بقين) و(كتبته في ثلاث) ففي المثال الأول تكون الكتابة بعد مضي الثلاث ، وفي المثال الثاني تكون الكتابة قبل حلول الثلاث ، وفي المثال الثالث تكون الكتابة في نفس الثلاث وفي أثنائها. إذا تقرر ذلك يكون قوله تعالى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ معناه فطلقوهن لاستقبال عدتهن ، لا في عدتهم ، إذ من المحال أن يكون الطلاق وهو سبب العدة واقعا في العدة ، وإذا كانت العدة التي تطلّق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق ، فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض ، فإنّ الطاهر لا تستقبل الطهر ، إذ هي فيه ، وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها.
ولكن المعروف أن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التوقيت ، واختصاص بذلك الوقت على الاتصال ، لا استقبال الوقت ، فلا تقول : كتبته لثلاث بقين إلا إذا كنت حين الكتابة متلبسا بأولها ، فيكون معنى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فطلقوهنّ للوقت الذي يشرعن فيه في العدة على الاتصال بالطلاق.
واستدل بعض الناس بالآية على أنّ نفس الطلاق مباح ، فإنّه إنما نهي عنه إذا كان سببا في تطويل مدة التربص ، فاقتضى ذلك أنه إذا خلا عن هذا لم يكن منهيا عنه ، بل كان مأذونا فيه ، ولا يخفى على المنصف أنّ الآية لم تدل على أكثر من حرمة الطلاق في الحيض.
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أصل الإحصاء العد بالحصا ، كما كانت عادة العرب قديما ، ثم توسع فيه ، فاستعمل في ضبط العدد وإكماله ، فمعنى إحصاء العدة ضبطها وإكمالها ثلاثة قروء كوامل.
وإحصاء العدة واجب لإجزاء أحكامها فيها : من حق الرجعة للزوج ، والإشهاد عليها ، ونفقة الزوجة وسكناها ، وعدم خروجها من بيتها قبل انقضائها ، والإشهاد على فراقها إذا بانت ، وتزوج غيرها من النساء ممن لمن يكن يجوز له جمعها إليها.(1/776)
ص : 777 وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في الإضرار بهنّ بتطويل العدة عليهن.
لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ نهي للأزواج عن إخراج المطلقات المعتدات من مساكنهنّ عند الطلاق إلى أن تنتهي العدة ، ونهي للمعتدات عن الخروج منها ، وفيه دليل على وجوب السكنى لهنّ ما دمن في العدة ، وستطلع على كلام في ذلك.
وأضاف البيوت إليهنّ وهي لأزواجهنّ لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها ، كأنّها ملك لهنّ.
واختلفت آراء الفقهاء في ملازمة المعتدة بيت الفراق ، أهو خالص حقّ الزوجين أم هو حقّ لهما وللشرع؟
فالصحيح عند الحنفية أنّ للشرع في ذلك حقا لا يملك الزوجان إسقاطه. وعلى ذلك يكون قوله تعالى : لا تُخْرِجُوهُنَّ دالّا على حرمة إخراجهنّ بمنطوقه ، وعلى حرمة الإذن لهنّ في الخروج بإشارته ، لأنّ الإذن في المحرّم محرّم. كأنه قيل لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهم في الخروج إذا طلبن ذلك وَلا يَخْرُجْنَ بأنفسهم إن أردن.
وذهب الشافعية إلى أن ملازمتها بيت الفراق خالص حقهما ، فلو اتفقا على الانتقال جاز ، لأنّ الحقّ لا يعدوهما ، وعليه يكون المعنى : لا تستبدّوا بإخراجهنّ ، ولا يخرجن باستبدادهنّ.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ اختار بعض المفسّرين أنّ الفاحشة المبيّنة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة. وأنّ هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى : وَلا يَخْرُجْنَ والمعنى : لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو معصية وفاحشة ، ومعلوم أنه لا يطلق لهن في المعصية والفاحشة ، فيكون ذلك منعا عن الخروج على أبلغ وجه.
ومنه ما روى مسلم في «صحيحه» عن ابن عباس ، وقد عرض عليه بعض الناس كتابا كانوا يزعمون أنّ فيه قضاء عليّ كرم اللّه وجهه ، فقال : ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضلّ. يريد : أنه لم يقض بهذا أبدا ، لأنه لا يقضي به إلا إذا كان قد ضلّ ، ومعلوم أنّ عليا لم يضل ، فهو لم يقض به ، وهذا أسلوب من أساليب العربية البديعة البليغة ، تقول : لا تسب أخاك إلا أن تكون قاطع رحم ، ولا تزن إلا أن تكون فاسقا فاجرا. روي هذا الوجه من التأويل عن ابن عمرو والسدي وابن السائب والنخعي ، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه اللّه.
وقال ابن عباس : إلّا أن تبذو على أهله ، فإذا فعلت ذلك حلّ لهم أن يخرجوها.
وقد أمر النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فاطمة بنت قيس بالانتقال حين بذت على أحمائها.
وقال الحسن وزيد بن أسلم : الفاحشة المبيّنة الزنى ، فإذا زنت أخرجت لإقامة الحد.(1/777)
ص : 778
وقيل : الفاحشة المبينة تطلق على النشوز.
قال الجصاص «1» : هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ ، وجائز أن يكون جمعها مرادا ، فيكون خروجها فاحشة ، وإذا زنت أخرجت للحد ، وإذا بذت على أهله أخرجت أيضا ، قال : وما ذكرنا من التأويل المراد يدل على جواز انتقالها للعذر ، لأنّ اللّه تعالى قد أباح لها الخروج للأعذار التي وصفنا.
ولكنّك تعلم أننا إذا خرّجنا الآية على المعنى الأول فإنّها تدلّ على أنه لا يباح خروجها بحال ، فكيف يقول الجصاص : وجائز أن يكون جميع هذه المعاني مرادا؟
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي الأحكام السابقة حدود اللّه التي حدّها وعيّنها لعباده ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي ومن يتجاوز هذه الحدود المذكورة فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فقد حمّل نفسه وزرا ، وأكسبها إثما ، فصار بذلك لها ظالما وعليها متعديا. أو فقد ظلم نفسه بتعريضها للضرر الدنيوي ، كما سيأتي تفصيله.
لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً هذه جملة مستأنفة مسوقة لتعليل مضمون الشرطية السابقة.
والخطاب فيها للمتعدي بطريق الالتفات ، لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي.
والمعنى : من يتعدّى حدود اللّه فقد عرّض نفسه للضرر ، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر ، لعل اللّه يحدث في قلبك بعد الذي فعلت من التعدي أمرا يقتضي خلاف ما فعلت ، فامتثل أمر ربّك ، ولا تطلّق في الحيض ، ولا تهمل في إحصاء العدة ، ولا تخرج المعتدة من بيتها ، لا يحملنك البغض والغضب على أن تفعل شيئا من ذلك ، فإنّ الكراهة والمحبة بيد اللّه مقلب القلوب ، فعسى أن ينقلب البغض محبة والمقت مقة ، والطلاق رجعة ، فانظر لنفسك ، وأبق للصلح بابا ، ولا تبتّ حبل المودة بتا ، فتندم حين لا ينفع الندم ، والواقع يصدّق ذلك ، فإن الغالب في الطلاق أن يكون نتيجة كراهة كاذبة ، أو ثورة غضب جامحة تغمر العقل ، وتقوى عليه ، حتى إذا تمّ الانفصال ، وهدأت الأعصاب ، وثاب الرجل إلى رشده ، انتابته عوامل القلق والحنين إلى صحبة مضت أن تعود ، وتذكّر من زوجته خلالا كان يرضاها ، وقلما يخلو أحد من ذلك ، كما
قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي خلقا»»
وقد يكون بينهما ولد ، أو يظهر بها حمل ، فتتأكد الرغبة فيها ، والندم على طلاقها.
__________
(1) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (3/ 462).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1091) ، 17 - كتاب الرضاع ، 18 - باب الوصية بالنساء حديث رقم (61/ 1469). [.....](1/778)
ص : 779
قال اللّه تعالى : فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ هذا من مجاز المشارفة ، بقرينة ما بعده ، لأنّه لا يؤمر بالإمساك بعد انقضاء العدة ، أي فإذا شارفن آخر عدتهنّ فأمسكوهنّ بمعروف ، أو فارقوهنّ بمعروف ، والإمساك بالمعروف مراجعتهن مع حسن المعاشرة ، والإنفاق المناسب ، والمفارقة بالمعروف تخليتهنّ حتى تنقضي عدتهن مع إيفائهن حقهن ، واتقاء الضّرار بهن.
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي وأشهدوا عند الرجعة إن اخترتموها ، أو الفرقة إن اخترتموها ، لأنّ الإشهاد يقطع النزاع ، ويدفع الريبة.
وهذا أمر ندب واستحباب في الرجعة والفرقة ، كما في قوله تعالى : وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة : 282] وللشافعي قول في القديم بوجوب الإشهاد في الرجعة ، وأنه شرط في صحتها. والجديد أنه لا يشترط لصحتها الإشهاد عليها ، بناء على الأصح أنّها في حكم استدامة النكاح لا ابتدائه ، ومن ثمّ لم يحتج فيها لولي ولا لرضاها ، وإنما يندب فيها الإشهاد لقوله تعالى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وصرفه عن الوجوب إجماعهم على عدم الوجوب عند الطلاق ، فكذلك عن الإمساك.
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي أدوا الشهادة أيها الشهود خالصة لوجه اللّه ، وفيه دليل على وجوب إقامة الشهادات عند الحكام على الحقوق كلها ، لأنّ الشهادة هنا اسم للجنس ، وإن كان مذكورا بعد الأمر بإشهاد ذوي عدل على الرجعة أو الفرقة ، لأنّ ذكرها بعده لا يمنع استعمال اللفظ على عمومه.
ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الإشارة إلى ما تقدّم من الحث على إقامة الشهادة للّه ، أو إلى ما تقدّم من الأحكام كلها ، من إيقاع الطلاق على وجه السنة ، وإحصاء العدة ، والكف عن الإخراج والخروج ، والإشهاد على الرجعة أو الفرق ، وإقامة الشهادة للّه ، أي هذه الأحكام يوعظ بها من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ، لأنه المنتفع بها.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ هذا اعتراض جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام ، أي وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في كل عمله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من هموم الدنيا ومضارها ، وغمرات الموت وأهوال الآخرة وشدائدها ، ويرزقه الفوز بخيري الدارين ، من وجه لا يخطر بباله ، وإذا كان هذا وعدا لعامة المتقين ، تناول بعمومه الزوج الذي اتقى اللّه في الطلاق للسنة ، ولم يخرج المعتدة من مسكنها ، وأمسك(1/779)
ص : 780
بمعروف أو فارق بمعروف ، واحتاط فأشهد على ما اختار ، يعد اللّه هذا الزوج بالخلاص مما عسى أن يقع فيه من الهموم ومشاكل الزوجية ، ويفرّج عنه ما يعتريه من الكروب ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وكذلك يتناول الزوجة التي اتقت اللّه فيما عليها من حق ، فلم تخرج من منزل عدتها ، ولم تكتم ما خلق اللّه في رحمها ، فاللّه يعدها على هذه التقوى بتفريج كربها ، ورزقها من حيث لا تحتسب.
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي فهو كافيه جل شأنه في جميع أموره ، لأنّ اللّه هو القادر على كل شي ء ، الغني عن كل شي ء ، الجواد بكل شي ء ، فإذا فوّض العبد الضعيف أمره إليه كفاه لا محالة ما أهمّه.
إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ إنّ اللّه يبلغ ما يريده سبحانه ، ولا يفوته مراد.
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي إنّه عزّ وجلّ قدّر الأشياء قبل وجودها ، وعلم مقاديرها وأوقاتها ، وإذا كان كلّ شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى ، ولا يقع إلا حسبما علم ، لم يسع العاقل إلا التسليم للقدر ، وفي هذه الجملة كسابقتها بيان لوجوب التوكل عليه تعالى ، وتفويض الأمر إليه جلّ ثناؤه.
قال اللّه تعالى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أخرج الحاكم ، وصححه البيهقي في «سننه» وجماعة عن أبيّ بن كعب أنّ أناسا من أهل المدينة لما نزل قوله تعالى في سورة البقرة : وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة : 228] قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن : الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهنّ الحيض ، وذات الحمل ، فأنزل اللّه التي في سورة النساء القصرى وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية «1».
جعل اللّه عدّة الآيسة ثلاثة أشهر ، ولا خلاف بين الفقهاء في أن المرأة ما دامت ترى الحيض فهي من ذوات الأقراء ، لا تكون آيسة ولو بلغت مئة سنة.
إنما خلافهم فيمن انقطع حيضها متى تكون آيسة ، وتعتد بالأشهر؟ ألذلك حدّ معين أم ليس له حد معين؟
والقائلون بالتحديد مختلفون ، فمنهم من قدّره بالسنين. بخمسين سنة وبخمس وخمسين وبستين وباثنتين وستين إلى أقوال أخر ، أقصاها خمس وثمانون ، ومنهم
__________
(1) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (28/ 91).(1/780)
ص : 781
من اعتبره بيأس النساء في بلدها الذي هي فيه ، فإنّ المكان إذا كان طيب الهواء والماء كبعض الصحارى يبطئ فيها سنّ اليأس ، وقيل : يأس كل النساء إلخ.
قال أصحاب التحديد : إن اليأس يعتمد غلبة الظن ، ومهما انقطع دم المرأة فإنّها لا تزال ترجو عوده ، ولا يتأكد الظن بعدم عوده إلا إذا بلغت من السن مبلغا لا يحيض مثلها فيه ، وأمر العدد مبني على الاحتياط وطلب اليقين ما أمكن.
والقائلون بعدم التحديد يقولون : اليأس ضدّ الرجاء ، فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض ولم ترجه فهي آيسة ، ولو خالفت في ذلك عادة النساء جميعا ، ولو كان لها أربعون سنة أو أقل ، كما أنّها ما دامت تحيض وترى الدم وترجوه فهي ليست آيسة ، ولو كان لها سبعون سنة أو أكثر ، ولو خالفت في ذلك عادة النساء جميعا. وكما أنه يرجع في الاعتداد بالأقراء إلى عادة المعتدة نفسها ، لا إلى عادة غيرها ، كذلك يرجع في الإياس إلى كل امرأة من نفسها ، وكما أنّهم لم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بالأشهر حدّا ، كذلك ينبغي ألا يكون للكبر الموجب للاعتداد بها حدا.
وينبني على الخلاف في التحديد وعدمه خلافهم في المرأة التي طلّقت ، وكانت من ذوات الأقراء ، ثم ارتفع حيضها ، بماذا تعتد؟
فأصحاب التحديد يقولون : تنتظر حتى ترى الدم أو تبلغ حدّ اليأس ، فتعتد بثلاثة أشهر ، ولو كانت مدة التربص أكثر من عشر سنين. وهذا هو مذهب الحنفية وقول الشافعي في الجديد.
والذين لا يرون لليأس حدّا يقولون : تتربّص غالب مدة الحمل ، ثم تعتد عدة الآيسة ، ثم تحلّ للأزواج مهما كانت سنها ، قالوا : وقد صحّ عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في امرأة طلّقت ، فحاضت حيضة أو حيضتين ، ثم ارتفعت حيضتها ، لا تدري ما رفعها ، أنّها تتربص تسعة أشهر ، فإن استبان بها حمل وإلا اعتدت ثلاثة أشهر. وقد وافقه كثير من الفقهاء على هذا منهم مالك وأحمد والشافعي في القديم.
وكذلك اختلفوا في متعلّق الارتياب في قوله تعالى : إِنِ ارْتَبْتُمْ فقال جماعة :
إن ارتبتم في حكمهنّ فلم تدروا ما عدتهن؟ فعدتهن ثلاثة أشهر ، وعلى ذلك يكون الشرط بيانا للواقعة التي نزل فيها الحكم من غير قصد للتقييد ، فلا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم.
قال آخرون : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أم استحاضة ، وإذا كانت هذه عدة المرتاب في دمها ، فغير المرتاب في دمها أولى بذلك.
وقال الزجاج : المعنى : إن ارتبتم في حيضهن ، وقد انقطع عنهن الدم ، وكن ممن يحيض مثلهن. إلى أقوال أخر.(1/781)
ص : 782
قال ابن جرير الطبري «1» رحمه اللّه : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال : عنى بذلك إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهنّ. وذلك أنّ معنى ذلك لو كان كما قاله من قال : إن ارتبتم بدمائهن فلم تدروا أدم حيض أم استحاضة ، لقيل : إن ارتبتنّ ، لأنهنّ إذا أشكل الدم عليهن فهن المرتابات بدماء أنفسهن لا غيرهن. وفي قوله : إِنِ ارْتَبْتُمْ وخطابه للرجال بذلك دون النساء الدليل الواضح على صحة ما قلنا من أنّ معناه : إن ارتبتم أيها الرجال بالحكم فيهنّ.
وأخرى : وهي أنّه جل ثناؤه قال : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ واليائسة من المحيض هي التي لا ترجو محيضا للكبر ، ومحال أن يقال : واللائي يئسن ، ثم يقال : ارتبتم بيأسهن ، لأن اليأس هو انقطاع الرجاء ، والمرتاب بيأسها مرجو لها ، وغير جائز ارتفاع الرجاء ووجوده في وقت واحد اه.
وهذا الذي اختاره ابن جرير وافقه عليه جمهور المفسرين ، وليس عليه اعتراض سوى أن يقال : إذا كان معنى إِنِ ارْتَبْتُمْ إن جهلتم عدتهن فسألتم عنها ، فأي فائدة في ذكر هذا الشرط بعد أن كان معلوما في كل الأحكام الشرعية أنّ اللّه أنزلها لتعليم من لا يعلم؟
وأجابوا عن ذلك بأنّ المقصود : إن سألتم عن حكمهنّ ، وشككتم فيه ، فقد بيناه لكم أيها السائلون ، ففيه تنويه بشأن السائلين ، وبيان لنعمته تعالى عليهم حين أجاب طلبهم ، وأزال ما عندهم من الشك والريب ، بخلاف المعرض عن طلب العلم الذي لم يخطر بباله ، استوفيت عدد النساء أم لم تستوف؟
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ مبتدأ خبر محذوف ، أي واللائي لم يحضن كذلك ، أي عدتهن ثلاثة أشهر ، يريد أنّ المعتدة التي لم يسبق لها حيض تعتد بثلاثة أشهر ، سواء أكان عدم حيضها لصغر ، أم لعلة ، أم لمنعه بدواء.
ولا نعلم خلافا في أنّ التي لم تر الحيض أصلا تعتد بثلاثة أشهر ، مهما بلغت من السنّ ، إلا رواية عن أحمد رحمه اللّه فيمن بلغت ولم تحض أنّها تتربص تسعة أشهر غالب مدة الحمل ، فإن استبان حملها وإلا اعتدت ثلاثة أشهر ، فيكون مثلها كمثل التي ارتفع حيضها ، لا تدري ما رفعه. والرواية الثانية عن أحمد الموافقة لرأي الجمهور أنها تعتد ثلاثة أشهر ، ولم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بالأشهر حدّا.
أخذ العلماء من قوله تعالى : وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أن للإنسان أن يزوّج ولده الصغار ، لأنّ اللّه تعالى جعل على من لم تحض من النساء لصغر أو غيره عدة ، ولا يكون على الصغيرة عدة إلّا أن يكون لها نكاح.
__________
(1) في تفسيره جامع البيان تفسير القرآن المشهور بتفسير الطبري (28/ 91).(1/782)
ص : 783
وظاهر العموم في قوله تعالى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ وقوله تعالى : وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أنّ الحرة والأمة في ذلك سواء ، فكما تعتد الحرة الآيسة أو الصغيرة بثلاثة أشهر ، كذلك تعتد الأمة الآيسة أو الصغيرة ثلاثة أشهر ، وبهذا قال أهل الظاهر وابن سيرين ومكحول ومالك ، وهو أحد الأقوال في مذهب الشافعي ، ورواية عن أحمد رحمهم اللّه.
وقال جمهور العلماء : عدة الأشهر فرع وبدل عن عدّة الأقراء ، وقد جرى عمل المسلمين من الصحابة والتابعين على أنّ عدة الأمة ذات الأقراء قرآن ، ولا يعرف في الصحابة مخالف في ذلك. وبه قال الأئمة الأربعة ، وخلائق من فقهاء الأمصار لا يحصون عدا ، ذهبوا إلى أنّها على النصف من عدة الحرة. ولو لا أنّ القرء لا يمكن تنصيفه لكانت عدتها قرءا ونصفا.
ثم من هؤلاء الفقهاء من قال : عدة الأمة الآيسة والصغيرة شهران ، لأن عدتها بالأقراء قرآن ، فجعل كلّ شهر مكان قرء ، وهو أحد أقوال الشافعي ، وأشهر الروايات عن أحمد.
ومنهم من قال : عدتها شهر ونصف ، لأن التصنيف في الأشهر ممكن ، فتنصفت بخلاف القروء ، ونظير هذا أنّ المحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مدّ أخرجه ، فإن أراد الصيام مكانه لم يجز إلا صوم يوم كامل ، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ، والقول الثالث للشافعي ، ورواية ثالثة عن أحمد رحمهم اللّه.
ثم إنّه لا تعارض بين قوله تعالى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وقوله تعالى في سورة البقرة : وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة : 228]. فإنّ آية البقرة خاصّة بذوات الأقراء ، والآيسة والتي لم تحض ليستا من ذوات الأقراء ، وهو ظاهر. إنما التعارض بين الآية التي معنا وقوله تعالى فى سورة البقرة : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة : 234] فإنّ آية البقرة عامة تشمل ذوات الأقراء واللائي يئسن واللائي لم يحضن ، فتقضي بعمومها أنّ عدة الوفاة للآيسة والصغيرة أربعة أشهر وعشرا ، والآية التي معنا عامة في السبب الذي من أجله كانت العدة ، سواء أكان فرقة حي أم فرقة ميت ، فاقتضت بعمومها أنّ عدة الوفاة للآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر ، فكان بين النصين تعارض في ظاهرهما.
لكنّ العلماء يكادون يجمعون على أنّ الآية التي معنا واردة في خصوص عدة الطلاق ، لأنّ سياق الآية ظاهر في ذلك ، وحينئذ يكون اعتداد الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر خاصا بالمعتدات المطلقات ، فلا يكون بين الآيتين تعارض.
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أجل الشيء مدته كلها ، وأجله أيضا آخر(1/783)
ص : 784
مدته ، والمراد بالأجل هنا آخر المدة التي تتربصها المرأة ، أي آخر عدتهن أن يضعن حملهن ، وظاهر هذا أنّ المعتدة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل ، سواء أكانت معتدة عن طلاق أم عن وفاة ، فتكون الآية معارضة لآية البقرة ، وهي قوله تعالى :
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لأن بين الآيتين عموما وخصوصا من وجه. وذلك أنّ آية البقرة أعم من التي معنا في المعتدات ، إذ تشمل الحامل وغير الحامل ، وأخص من التي معنا في سبب العدة وهو الوفاة وعلى العكس من ذلك الآية التي معنا ، فكان التعارض واقعا بينهما في القدر الذي اجتمعتا عليه واشتركتا فيه ، وهو عدة المتوفى عنها الحامل ، فآية البقرة تجعل عدتها أربعة أشهر وعشرا ، والآية التي معنا تجعل عدتها مدة حملها ، فمتى وضعت فقد انقضت عدتها.
ومن أجل هذا التعارض اختلف السلف في عدة المتوفى عنها إذا كانت حاملا ، فقال علي وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي اللّه عنهم : تعتد بأبعد الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشرا ، وهذا أحد القولين في مذهب مالك رحمه اللّه ، واختاره سحنون.
وقال جمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة : إنّ عدتها تنتهي بوضع الحمل ، ولو كان الزوج على مغسله فوضعت حلّت.
فمن ذهب إلى أبعد الأجلين احتجّ بأنّ النصين متعارضان على ما سمعت ، ولا يمكن تخصيص العموم في أحدهما بالخصوص في الآخر ، لأنّ ذلك إلغاء ، ولا يصار إلى الإلغاء إلا إذا تعذّر الجمع ، والجمع هنا ممكن ، فكان هو المتعين ، وبالاعتداد بأبعد الأجلين يحصل الجمع بين النصين ، لأنّ مدة الحمل إن زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزيادة ، وإن قصرت وتربصت المدة فقد وضعت وتربصت ، فيحصل العمل بمقتضى الآيتين.
وأنت تعلم أنّ هذا إنما هو جمع بين المدتين ، ولا يعدّ جمعا بين النصين.
وإعمالا لعموم كل منهما في مقتضاه ، وذلك أنها إذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر ثم حكمنا عليها بأنها لا تزال في العدة ، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى : وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فإنّه ظاهر في أنه لا عدة عليها بعد وضع الحمل ، وأنها حلال للأزواج متى وضعت حملها.
وأصحاب هذا الرأي يحرمونها على الأزواج ، ويلزمونها القرار في مسكن العدة إلى أن تنتهي أربعة الأشهر والعشر. فكيف يقال بعد ذلك إنّهم عملوا بمقتضى الآية التي معنا؟
وكذلك يقال فيمن مضى عليها أربعة أشهر وعشر ولم تضع حملها إذا ألزمناها(1/784)
ص : 785 الاعتداد إلى وضع الحمل ، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى : يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وهو ظاهر. فلم يكن في هذا المذهب جمع بين النصين ، بل فيه إهدار لأحد النصين لا محالة.
أما الجمهور الذين قالوا : إنّ عدتها تنتهي بوضع الحمل فقط ، فدليلهم على ذلك : أنّ السنة الصريحة دلت على اعتبار الحمل فقط. كما
في «الصحيحين» «1»
أنّ سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة ، فتوفي عنها وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلّت من نفاسها تجمّلت للخطاب ، فدخل عليها أبو السنابل ، فقال لها : ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح إنّك واللّه ما أنت بناكح حتى تمرّ عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزوّج إن بدا لي.
وصحّ أيضا أنّ أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة وهما يذكران المرأة تنفس بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس : عدّتها آخر الأجلين. وقال أبو سلمة : قد حلت ، فجعلا يتنازعان ذلك فقال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي - يعني أبا سلمة - ، فبعثوا كريبا - مولى ابن عباس - إلى أم سلمة رضي اللّه عنها يسألها عن ذلك ، فجاءهم ، فأخبرهم أنّ أمّ سلمة قالت : إنّ سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال ، وإنّها ذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأمرها أن تتزوّج «2».
وروى الضياء في «المختارة» وابن مردويه وغيرهما عن أبي بن كعب قال : قلت للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن أهي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها؟ قال : «هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها».
فجاءت السنة مبيّنة أنّ قوله تعالى : وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ عام في المطلقة والمتوفى عنها ، وأنّ عموم الآية مراد ، وإن كان السياق يقتضي أنها خاصة بالمطلقات ، فصارت الآية بعد بيان السنة ناصّة على أنّ عدة الحامل المتوفى عنها تنتهي بوضع الحمل فقط ، والآية التي معنا نزلت بعد آية البقرة ، كما أخرج أبو داود
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1121) ، 11 - كتاب الطلاق ، 6 - باب المطلقة ، حديث رقم (53/ 1482) ، والبخاري في الصحيح (6/ 223) ، 68 - كتاب الطلاق ، 39 - باب وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ حديث رقم (5318).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1122) ، 18 - كتاب الطلاق ، 8 - باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها ، حديث رقم (57/ 1485) ، والبخاري في الصحيح (6/ 79) ، 65 - كتاب التفسير 25 - باب وَأُولاتُ الْأَحْمالِ حديث رقم (4909).(1/785)
ص : 786
والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود «1» رضي اللّه عنه أنه قال : من شاء باهلته أنّ الآية التي في سورة النساء الصغرى وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ إلخ نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا.
وفي البخاري «2» عنه أيضا أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى فتكون الآية التي معنا ناسخة لآية البقرة فيما اجتمعتا عليه ، واشتركتا فيه ، فصار المراد من الأزواج في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً الآية غير الحوامل من المتوفى عنهن.
ومن الناس من قال : الآية التي معنا خاصة بالمطلقات كما هو ظاهر السياق.
وآية البقرة خاصّة بالمتوفى عنهن ، فلا تعارض بينهما ، غير أنّ السنة الصحيحة وردت بإخراج الحوامل من عموم الأزواج في قوله تعالى : وَيَذَرُونَ أَزْواجاً فجعلت المراد منهن غير الحوامل ، فكانت آية البقرة مخصوصة بالسنة ، وكان حكم الحوامل المتوفى عنهنّ معلوما من السنة لا من الكتاب.
ومنهم من قال : الآية التي معنا أخصّ مطلقا مما في سورة البقرة ، وبيان ذلك أنّ اللّه ذكر في سورة البقرة حكم المطلقات من النساء ، وحكم المتوفى عنهنّ في آيتين على التفريق ، ثم وردت هذه الآية التي معنا بعدهما مخصّصة في البابين معا ، ولا شك أنّ المستفاد من آيتي البقرة هو أنّ عدة المعتدات الحوامل وغير الحوامل إما ثلاثة قروء ، وإما أربعة أشهر وعشر ، وأن المستفاد من الآية التي معنا أنّ عدة المعتدات الحوامل تنتهي بوضع الحمل ، فكانت الآية معنا أخص مطلقا من آيتي البقرة ، وقد نزلت بعدهما ، فكانت مخصّصة لهما. واللّه أعلم.
واقتضى قوله تعالى : أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أنّ العدة تنقضي بوضع الحمل ، وأنّ المرأة إذا وضعت حملها فقد حلّت للأزواج ، ولا يتوقف حلّها على طهرها من النفاس خلافا للشعبي والحسن وإبراهيم النخعي وحماد ، فإنّهم قالوا : لا يصحّ زواجها حتى تطهر من نفاسها ، واحتجوا بقوله في
حديث سبيعة : «فلما تعلّت من نفاسها»
أي طهرت منه ، ولا حجة لهم فيه ، لأنّ ذلك إخبار عنه وقت سؤالها ، ولذلك
قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنها حلت حين وضعت»
ولم يعلّل بالطهر من النفاس.
وكذلك اقتضى قوله تعالى : أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أنها إذا كانت حاملا بتوأمين لم
__________
(1) رواه أبو داود في السنن (2/ 276) ، كتاب الطلاق ، باب عدة الحامل حديث رقم (2307) ، وابن ماجه في السنن (1/ 654) ، 10 - كتاب الطلاق ، 7 - باب الحامل حديث رقم (2030) ، والنسائي في السنن (5 - 6/ 508) ، كتاب الطلاق ، باب عدة الحامل حديث رقم (13522).
(2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 79) ، 65 - كتاب التفسير ، 2 - باب وَأُولاتُ الْأَحْمالِ حديث رقم (4910).(1/786)
ص : 787
تنقض عدتها حتى تضعهما جميعا ، واقتضى أيضا أن العدة تنقضي بوضع الحمل ، سواء أكان حيا أم ميتا ، تام الخلقة أم ناقصها ، نفخ فيه الروح أم لم ينفخ.
وظاهر العموم في قوله تعالى : وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أنّ الحرة الأمة في الاعتداد بوضع الحمل سواء ، ولا نعلم خلافا في ذلك بين العلماء.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي ومن يخف اللّه فيأتمر بما أمر به وينته عما نهى عنه يسهّل عليه أمره كله.
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ الإشارة إلى ما تقدّم من الأحكام كلّها يقول تعالى ذكره :
هذا الذي بينت لكم من حكم الطلاق والرجعة والعدة أمر اللّه أنزله إليكم لتأتمروا له ، وتعملوا به وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ يمح ذنوبه من صحائف أعماله ، ولا يؤاخذه بها إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود : 114] وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ويضاعف له جزاء حسناته ، ويجزل له المثوبة على عمله.
قال اللّه تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي أسكنوهنّ بعض مكان سكناكم مِنْ وُجْدِكُمْ بدل : أو عطف بيان لقوله تعالى : مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ. والوجد : الوسع ، أي أسكنوهنّ من وسعكم ، ومما تطيقونه.
وظاهر قوله تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ يقتضي وجوب السكنى لكل مطلقة ، سواء أكانت رجعية أم بائنا ، وسواء أكانت حاملا أم غير حامل.
وظاهر قوله تعالى : وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ يقتضي بمنطوقه وجوب النفقة للمطلقات الحوامل ، سواء أكنّ رجعيات أم بوائن ، وبمفهومه عند القائلين به أنه لا نفقة لغير الحامل ، سواء أكانت رجعية أم بائنا.
وقد أجمع العلماء على أنّ للرجعية السكنى والنفقة ، أما السكنى فلقوله تعالى :
أَسْكِنُوهُنَّ وقوله تعالى : لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ أما النفقة فلأنّ الرجعية كالزوجة في بقاء حبس الزوج وسلطته عليها ، فكان إجماعهم على وجوب النفقة لها ، ولو لم تكن حاملا مخصّصا لمفهوم قوله تعالى : وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ لغير الرجعية عند القائلين بالمفهوم.
وكذلك على أن للبائن الحامل السكنى والنفقة ، لقوله تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ وقوله تعالى : وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ.(1/787)
ص : 788
أما البائن غير الحامل فقد اختلف العلماء في سكناها ونفقتها على ثلاثة أقوال :
أحدها : وجوب السكنى والنفقة.
والثاني : عدم وجوبهما.
والثالث : وجوب السكنى دون النفقة.
فأما وجوب السكنى والنفقة فهو قول عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وكثير من فقهاء الصحابة والتابعين. وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وسائر فقهاء الكوفة :
احتجوا لوجوب السكنى بقوله تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ فهو أمر بالسكنى لكل مطلقة. ولوجوب النفقة بأنها جزاء الاحتباس ، وهو مشترك بين الحائل والحامل ، ولو كان الإنفاق جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ، ولم يقولوا به.
وقوله تعالى : وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ ليس للشرط فيه مفهوم مخالفة ، بل فائدته أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل ، فأثبت لها النفقة ، ليعلم غيرها بطريق الأولى فهو من مفهوم الموافقة. وقد قال عمر رضي اللّه عنه : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم لقول امرأة لا ندري جهلت أم نسيت. يريد قول فاطمة بنت قيس حين طلّقها زوجها البتة : لم يجعل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سكنى ولا نفقة.
وأما القول بأنها لا سكنى لها ولا نفقة فهو مروي عن ابن عباس وأصحابه ، وجابر بن عبد اللّه ، وفاطمة بنت قيس من فقيهات نساء الصحابة ، وكثير من التابعين ، وإليه ذهب إسحاق وداود وأحمد وسائر أهل الحديث ، وحجتهم في ذلك حديث فاطمة بنت قيس الذي اتفق على صحته المحدثون.
أخرج مسلم «1» وغيره عن فاطمة بنت قيس أنّ أبا عمرو بن حفص طلّقها البتة وهو غائب ، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال : واللّه مالك علينا من شي ء ، فجاءت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فذكرت ذلك له فقال : «ليس لك عليه نفقة»
وفي رواية «لا نفقة لك ولا سكنى»
، وفي أخرى للنسائي «2»
«إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة».
وقالوا : وقوله تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ إنما هو في الرجعيات خاصة ، لأنّ اللّه تعالى ذكر للمطلقات في هذه السورة أحكاما متلازمة ، لا ينفك بعضها عن بعض :
أحدها : أن الأزواج لا يخرجوهن من بيوتهن.
والثاني : أنّهن لا يخرجن.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1114) ، 18 - كتاب الطلاق ، 6 - باب المطلقة حديث رقم (1480).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1118) ، 18 - كتاب الطلاق ، 6 - باب المطلقة ، حديث رقم (44/ 1480) ، والنسائي في السنن (5 - 6/ 518 - 519) ، كتاب الطلاق ، باب الرخصة في خروج المبتوتة ، حديث رقم (3547 - 3551).(1/788)
ص : 789
والثالث : أنّ لأزواجهن إمساكهن بالمعروف قبل انقضاء الأجل ، أو فرقتهن بالمعروف.
والرابع : إشهاد ذوي عدل ، وهو إشهاد على ما اختار من الرجعة والفرقة ، وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك ، وأنّه في الرجعيات خاصة بقوله لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً والأمر الذي يرجى إحداثه هاهنا هو المراجعة ، كما قال السلف ، ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات فقال : أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ فكان الظاهر من سياق الكلام ونظمه أنّ الضمائر كلها متّحد مفسرها ، وأحكامها كلها متلازمة. وكان
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة»
مفسّرا لكتاب اللّه ، ومبيّنا للمراد منه ، وأنّ الأمر بالإسكان إنما هو في خصوص الرجعيات.
قالوا : ولو سلمنا أنّ الآية عامة في الرجعيات والبوائن لكان الحديث مخالفا لعمومها ، وحينئذ يكون الحديث مخصصا لعموم الآية ، فحكمها حكم تخصيص العام من الكتاب بالخاص من السنة ، وهو كثير.
قالوا : وإذا بانت المرأة من زوجها صارت أجنبية ، ولم يبق إلّا مجرد اعتدادها منه ، وذلك لا يوجب لها نفقة كالموطوءة بشبهة أو زنى ، ولأنّ النفقة إنما تجب في مقابلة التمكين في الاستمتاع ، والبائن لا يمكن استمتاعه بها بعد بينونتها ، ولأنّ النفقة لو وجبت عليه لأجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها من ماله ، ولا قائل به.
وأما القول بأنّ لها السكنى دون النفقة : فهو رأي فقهاء المدينة ، وإليه ذهب مالك والشافعي ، واحتجوا لوجوب السكنى بظاهر العموم في قوله تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ولعدم وجوب النفقة بحديث فاطمة بنت قيس مع ظاهر قوله تعالى : وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فإنّ مفهومه أنهنّ إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن ، قالوا : وحديث فاطمة صحيح لا ننكر صحته ، ولكنه قد خالف في السكنى ظاهر العموم في قوله تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ ويجب قبيل القول بالتخصيص أو النسخ الجمع بين الحديث والآية ما أمكن. وقد جاء في «الصحيحين» عن عائشة وغيرها أنّ فاطمة كانت امرأة لسنة ، وأنها استطالت على أحمائها ، فأمرها النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالانتقال من مسكن فراقها.
وفي «صحيح البخاري» عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت : إنّ فاطمة كانت في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها ، فلذلك أرخص النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لها.
وفي «صحيح مسلم» «1» عن هشام عن أبيه عن فاطمة نفسها قالت : قلت : يا
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1121) ، 18 - كتاب الطلاق ، 6 - باب المطلقة حديث رقم (53/ 1481).(1/789)
ص : 790
رسول اللّه ، زوجي طلّقني ثلاثا ، وأخاف أن يقتحم علي ، قال : فأمرها فتحوّلت. فلما كان من الممكن حمل إسقاط السكنى في الحديث على أنّه كان لاستطالتها على أحمائها ، أو لخوفها أن يقتحم عليها ، أو لهما معا ، تعيّن تأويل الحديث على هذا المعنى ، للجمع بينه وبين الآية ، وصار المراد من الحديث أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أذن لها في الانتقال لعذر ، وهذا لا ينافي وجوب السكنى للمعتدة البائن.
قال الجصاص «1» في حديث فاطمة بنت قيس : وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه ، ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعرّيها من نكير السلف اه.
ولما كان هذا ردّا لحديث صححه المحدثون ، وأخذ به جمع من الفقهاء والأئمة العارفين بعلل الأحاديث وطرق الجرح والتعديل ، أحببنا أن نذكر خلاصة للمطاعن التي وردت على هذا الحديث مع بيان ما فيها.
روى مسلم في «صحيحه» «2» عن الأسود بن يزيد أنّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال - وقد ذكر له قول فاطمة بنت قيس - : لا نترك كتاب اللّه وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ، لها السكنى والنفقة ، قال اللّه تعالى : لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
وروى ابن حزم في «المحلى» والجصاص في «أحكام القرآن» «3» عن حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة ابنت قيس ، فقال له إبراهيم : إنّ عمر بن الخطاب أخبر بقولها فقال : لسنا بتاركي آية في كتاب اللّه وقول النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لقول امرأة لعلها أوهمت! سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول :
«لها السكنى والنفقة» «4»
. وفي النسائي «5» أن الأسود بن يزيد سمع الشعبي يحدّث بحديث فاطمة بنت قيس ، فأخذ كفا من حصباء فحصبه وقال : ويلك لم تفتي بمثل هذا؟ قال عمر رضي اللّه عنه : إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإلا لم نترك كتاب ربنا لقول امرأة.
وروى مسلم في «صحيحه» «6» أن مروان بن الحكم قال في حديث فاطمة : لم نسمع هذا إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها.
__________
(1) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (3/ 461).
(2) رواه في الصحيح (2/ 1118) ، 18 - كتاب الطلاق ، 6 - باب المطلق حديث رقم (46/ 1480).
(3) انظر أحكام القرآن للجصاص (3/ 460).
(4) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1118) ، 18 - كتاب الطلاق ، 6 - باب المطلقة ، حديث رقم (44/ 1480).
(5) رواه النسائي في السنن (5 - 6/ 518) ، كتاب الطلاق حديث رقم (3547). [.....]
(6) في الصحيح (2/ 1118) ، 18 - كتاب الطلاق ، 6 - باب المطلقة حديث رقم (41/ 1480).(1/790)
ص : 791
وحاصل هذه المطاعن يرجع إلى أربعة أمور :
الأول : أنّ راويته امرأة.
والثاني : أنّها لم تأت بشاهدين يتابعانها على حديثها.
والثالث : أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن.
والرابع : أن روايتها خالفت السنة.
فأما أنها امرأة ، فإنّ ذلك لا ينبغي أن يعدّ مطعنا ، فإن أحدا من أصحاب الجرح والتعديل لم يقل بأنّ الأنوثة من الأمور التي تردّ بها الرواية ، ولم يختلفوا في أنّ السنن تؤخذ عن المرأة كما تؤخذ عن الرجل ، وكما أنّ في الرجال عدالة وضبطا كذلك في النساء عدالة وضبط ، وكم من سنة تلقتها الأئمة بالقبول عن امرأة ، وهذه مسانيد نساء الصحابة بأيدي الناس ، لا تشاء أن ترى فيها سنة تفرّدت بها امرأة منهنّ إلا رأيتها.
وأما أنّها لم تأت بشاهدين ، فذلك أيضا ليس بجرح ترد له الرواية ، ولم يشترط أحد في الرواية نصابا ، ولم يكن طلب عمر الشهادة على الرواية وكذلك تحليف عليّ كرّم اللّه وجهه ، إلا تثبتا منهما رضي اللّه عنهما ، حتّى لا يركب الناس الصعب والذلول في الرواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقد نقل مثل ذلك عن عمر رضي اللّه عنه في حديث أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتّى شهد له أبو سعيد الخدري رضي اللّه عنه ، وفي حديث المغيرة بن شعبة في إملاص المرأة حتى شهد له محمد بن مسلمة «1» كلّ ذلك كان تثبتا منه رضي اللّه عنه ، وتحذيرا من الإكثار في الرواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، لأنّه كان يعتبر الشهادة شرطا في قبول الرواية ، وإلا فقد قبل عمر خبر الضحاك بن سنان الكلابي وحده ، وقبل لعائشة رضي اللّه عنها عدّة أخبار تفرّدت بها.
وأما أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن ، فقد أجبنا عنه في تقرير مذهب أهل الحديث في سكنى البائن ونفقتها ، وحاصله أنّ الآية إما أن تكون خاصّة بالرجعيات كما هو ظاهر السياق ، وإما أن تكون عامة في الرجعيات والبوائن.
فإن كانت خاصة بالرجعيات فلا مخالفة بينها وبين حديث فاطمة ، وهو ظاهر ، وإليه ذهب الإمام أحمد ، رحمه اللّه ، روى عنه أصحابه أنّه أنكر هذا من قول عمر ، وجعل يتبسم ويقول : أين في كتاب اللّه إيجاب السكنى والنفقة للمطلّقة ثلاثا؟ وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة بنت قيس راوية الحديث ، وقالت : بيني وبينكم كتاب اللّه ، قال اللّه تعالى : لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً وأي أمر يحدث بعد الثلاث؟
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 190) ، 97 - كتاب الاعتصام ، 13 - باب ما جاء في اجتهاد القضاء ، حديث رقم (7317) ، 7318).(1/791)
ص : 792
وإن كانت الآية عامة في الرجعيات والبوائن ، فليس هذا أوّل موضع خصّص فيه الكتاب بالسنة ، فآية المواريث خصّصت بالسنة الدالة على أن الكافر والقاتل والرقيق لا يرثون ، وقوله تعالى : وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء : 24] خصّص بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم :
«لا تنكح المرأة على عمتها» الحديث.
وأما أنّ روايتها تضمنت مخالفة السنة فلا نجد سنة مخافة لحديث فاطمة ، إلا روايتين عن عمر رضي اللّه عنه :
إحداهما : قوله لا ندع كتاب ربّنا وسنة نبينا ، وهذا له حكم المرفوع.
والثانية : قوله سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «لها السكنى والنفقة».
أما الرواية الأولى عن عمر فقد قال فيها الإمام أحمد رحمه اللّه : لا يصحّ ذلك عن عمر رضي اللّه عنه وقال أبو الحسن الدار قطني قوله : «و سنة نبينا» هذه زيادة غير محفوظة ، لم يذكرها جماعة من الثقات ، بل السنة بيد فاطمة بنت قيس قطعا ، ومن له إلمام بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يشهد شهادة اللّه أنه لم يكن عند عمر رضي اللّه عنه سنة عن رسول اللّه أنّ للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة.
وأمّا الرواية الثانية : فلم يخرّجها فيما نعلم إلا ابن حزم والجصّاص عن حماد عن إبراهيم أنّ عمر إلخ ومعلوم أنّ إبراهيم لم يولد إلا بعد وفاة عمر بسنين ، فالخبر منقطع ، وقد أنكره علماء الحديث ، وصرّح ابن القيم بأنّه مكذوب على عمر ، وأنه لو كان هذا عند عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لخرست فاطمة وذووها ، ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام ، فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم عن عمر رضي اللّه عنه ، وأحسنّا به الظن ، كان قد روى قول عمر بالمعنى ، وظنّ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمبتوتة حين قال عمر : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة.
وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيّب فذكر له ميمون خبر فاطمة بنت قيس فقال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس.
فقال له ميمون : لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما فتنت الناس ، وإنّ لنا في رسول اللّه أسوة حسنة اه.
ولا نعلم أحدا من الفقهاء إلّا وقد احتجّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا ، وأخذ به في بعض الأحكام. وقد ذكر النووي في «شرحه على صحيح مسلم» ستة عشر حكما استنبطها العلماء من هذا الحديث.
وإذا قد تبيّن أنّ هذه المطاعن مردودة ولم يقدح شيء منها في صحة الحديث لزم القائلين بوجوب السكنى والنفقة للمبتوتة أن يجمعوا بينه وبين الآية ما أمكنهم الجمع ، وإلا فالنسخ أو التخصيص.(1/792)
ص : 793 وقد سلك الجصاص «1» في تأويل الحديث طريقة أقرب إلى الصواب ، وأخفّ في الاستهجان من رد الحديث وإنكاره ، والطعن فيه بغير مطعن ، قال : وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة ، وذلك أنّه قد روي أنها قد استطالت بلسانها على أحمائها ، فأمروها بالانتقال ، فلما كان سبب النقلة من جهتها ، كانت بمنزلة الناشزة ، فسقطت نفقتها وسكناها جميعا اه.
والخطاب في قوله تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ وقوله تعالى : فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ للأزواج ، فاقتضى ذلك بظاهره أنّ السكنى والنفقة إنما تكونان للزوجات المطلقات ، لا المتوفى عنهن من الزوجات.
وقد روى الدار قطني «2» بإسناد صحيح عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «ليس للحامل المتوفّى عنها زوجها نفقة»
فالمتوفّى عنها غير الحامل أولى ألا يكون لها نفقة.
ولا نعلم خلافا في ذلك إلا ما روي عن علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما أنهما كانا يقولان بوجوب النفقة للمتوفّى عنها من التركة ، وظاهر الآية والسنة الصحيحة على خلاف ما يقولان.
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي فإن أرضعن لكم بعد انقضاء عدتهن بوضع حملهن فأدوا إليهنّ أجورهن على الإرضاع ، والتزموا ذلك لهن.
دلّ هذا على أنّ الأمّ إذا رضيت أن ترضع ولدها بأجر المثل ، فهي أحقّ به ، لوفور شفقتها ، فهي أولى بحضانته وإرضاعه من كل أحد ، وليس للأب أن يسترضع غيرها حينئذ.
ودلّ على أنّ الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل ، لا بالعقد ، لأنّ اللّه أوجبها بعد الرضاع ، بقوله : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
ودلّ أيضا على أنّ نفقة الولد الصغير على أبيه ، لأنّه إذا لزمه أجرة الرضاع فكفايته ألزم ، ومن ثمّ أجمعوا على ذلك في طفل لا مال له ، وألحق به بالغ عاجز كذلك ،
لخبر هند بنت عتبة «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» «3».
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليأمر بعضكم بعضا بجميل في الإرضاع والأجر وغيرهما.
__________
(1) انظر أحكام القرآن للجصاص (3/ 462).
(2) رواه الدار قطني في السنن (4/ 21).
(3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1338) ، 30 - كتاب الأقضية ، 4 - باب قضية هند حديث رقم (1714) ، والبخاري في الصحيح (3/ 24) ، 34 - كتاب البيوع ، 44 - باب من أجرى أمر الأمصار حديث رقم (2211).(1/793)
ص : 794
وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي ، وإن ضيّق بعضكم على بعض في الأجرة ، أو في الرضاع ، كأن تشتطّ الأمّ في الأجرة ، أو تأبى الرضاع ، أو يشاح الأب في أجرة المثل فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى الكلام على معنى : فليطلب له الأب مرضعة أخرى ، وبذلك يظهر الارتباط بين الشرط والجزاء. وإنما اختير ما في النظم الجليل ليكون فيه نوع من المعاتبة للأمّ ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيأبى : سيقضيها غيرك ، أي ستقضي وأنت ملوم ، ففيه تنبيه على أنّ الأمّ لا ينبغي لها أن تعاسر في رضاع ولدها ، فإنّ المبذول من جهتها هو لبنها لولدها ، ولبنها غير متموّل ، ولا مضنون به في العرف والعادة ، وخصوصا من الأم للولد ، وليس كذلك المبذول من جهة الأب ، فإنّه المال المضنون به عادة ، فكانت الأمّ أجدر باللوم ، وأحقّ بالعتب.
ودلّ قوله تعالى : وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى على أنّها إذا طلبت أكثر من أجر المثل ، فللأب أن يسترضع غيرها ممن يرضى بأجرة المثل ، إذا قبل الصبيّ ثدي الأجنبية ، ولم يحصل له ضرر بلبنها ، وإلا أجبرت الأمّ على إرضاعه بأجرة المثل.
قال اللّه تعالى : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) قدّر اللّه الرزق : ضيّقه ، ولم يبسطه.
دلت الآية على أنّ نفقة الزوجات والأقارب متفاوتة بحسب اليسار والإعسار.
ولم تقدّر الآية في النفقة شيئا معينا ، لا كيلا ولا وزنا ، ولا نوعا من الطعام ، بل أحالت ذلك على العادة ومتعارف الناس في نفقاتهم ، فدلّ ذلك على أنّ النفقة ليست مقدرة شرعا ، وإنما تتقدّر بالاجتهاد على مجرى العادة بحسب حال المنفق وكفاية المنفق عليه.
وأيد ذلك ما أثبت عنه صلّى اللّه عليه وسلّم من أنه ردّ الأزواج في النفقة إلى المعروف ، وهو ما جرى عليه الناس في عرفهم.
ففي «صحيح مسلم» «1» أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال في خطبة الوداع : «و اتقوا اللّه في النساء ، فإنكم أخذتموهنّ بأمان اللّه ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف».
وفي «الصحيحين» «2»
أنّ هند امرأة أبي سفيان قالت له : إنّ أبا سفيان رجل
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 886) ، 15 - كتاب الحج ، 18 - باب في المتعة بالحج حديث رقم (146/ 1218).
(2) سبق تخريجه.(1/794)
ص : 795
شحيح ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم.
فقال : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
ولقد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نفقة المرأة مثل نفقة الخادم ، وسوّى بينهما في عدم التقدير ، وردهما إلى المعروف ،
فقال في الزوجات : «و لهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف»
وقال في الخادم : «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف» «1»
ولا ريب أنّ نفقة الخادم غير مقدرة ، ولم يقل أحد بتقديرها ، فكذلك نفقة الزوجة.
ولم يحفظ عن أحد من الصحابة قط تقدير النفقة ، لا بمدّ ولا برطل ، بل المحفوظ عنهم والذي اتصل به العمل في كل عصر ومصر أنّهم كانوا ينفقون على أهليهم الخبز والإدام من غير تقدير ولا تمليك.
وصحّ عن ابن عباس في قوله تعالى : مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة : 89] الخبز والزيت. وعن عمر : الخبز والسمن ، والخبز والتمر ، ومن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم ، ومثل هذا مرويّ عن عليّ وابن مسعود وابن عمر وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك من الصحابة رضوان اللّه عليهم ، وروي مثله عن كثير من التابعين.
وبعدم تقدير النفقة قال الجمهور من فقهاء الأمصار.
وخالف الشافعي وأبو يعلى «2» فقدّرا نفقة الأزواج ، إلا أنّ أبا يعلى قدّرها بالخبز ، فجعل الواجب رطلين من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر ، اعتبارا بالكفّارات ، فإنّها لا تختلف قلة وكثرة باختلاف اليسار والإعسار ، وإنما تختلف جودة ورداءة ، لأنّ الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول ، وما تقوم به البنية ، وإنما يختلفان في جودته ، فكذلك النفقة الواجبة.
وأما الشافعي فإنّه قدرها بالحبّ ، فجعل على الفقير مدا ، وعلى الموسر مدّين ، وعلى المتوسط مدّا ونصفا ، قال أصحاب الشافعي : نفقة الزوجات متفاوتة ومقدرة بالمد ، ومعينة الجنس وهو الحبّ ، فهذه ثلاث دعاوى :
أما أصل التفاوت فدليله قوله تعالى : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1284) ، 27 - كتاب الأيمان ، 10 - باب إطعام المملوك ، حديث رقم (41/ 1662).
(2) القاضي أبو الحسين بن الفراء البغدادي الحنبلي ، كان مفتيا مناظرا عارفا بالمذهب ودقائقه ، صلبا في السنة كثير الحط على الأشاعرة توفي سنة (526 ه) انظر شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد (2/ 79).(1/795)
ص : 796
وأما التقدير بالأمداد وتعيين الحب : فبالقياس على الكفارة ، بجامع أنّ كلّا مال وجب بالشرع ، ويستقر في الذمة ، وأكثر ما وجب في الكفارات لكل مسكين مدان ، مثل كفارة الحلق في النسك.
وأقل ما وجب له مد في كفارة اليمين ونحوه ، والمد يكتفي به الزهيد ، وينتفع به الرغيب ، فلزم الموسر من الأزواج الأكثر ، والمعسر منهم الأقل ، والمتوسط ما بينهما.
وأيضا فإنّ النفقة عليهنّ في مقابلة التمتع بهنّ ، وشرف القوامة عليهنّ ، فاقتضى ذلك تقديرها كما يقدر كل ذي مقابل ، وإنما لم تعتبر الكفاية كنفقة القريب لأنّها تجب للمريضة والشبعانة.
وليس في الآية الكريمة أكثر من الدلالة على أنها متفاوتة ، وما اقتضاه حديث هند من تقديرها بالكفاية يجاب عنه بأنّه لم يقدّرها بالكفاية فقط ، بل بها بحسب المعروف ، وما ذكر من توزيع الأمداد بحسب اليسار والإعسار هو المعروف المستقر في العقول ، ولو فتح للنساء باب الكفاية من غير تقدير لوقع التنازع لا إلى غاية ، فتعيّن ذلك التقدير اللائق بالعرف.
قالوا : وقد روي التقدير في الكفارات عن الصحابة ، فعن عمر في كفارة اليمين : لكل مسكين صاع من تمر أو شعير ، أو نصف صاع من بر. ومثله عن عائشة.
وعن علي : نصف صاع لكل مسكين.
وعن زيد بن ثابت : يجزئ لكل مسكين مدّ حنطة ، وروي مثله عن ابن عمر ، وابن عباس ، وابن المسيّب ، وابن جبير ، ومجاهد ، والقاسم ، وسالم ، وأبي سلمة.
وقال سليمان بن يسار : أدركت الناس وهم يطعمون في كفارة اليمين مدّا بالمد الأول.
قالوا : وثبت في «الصحيحين» «1» أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة في كفارة فدية الأذى : «أطعم ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين»
فدلّ ذلك على أنّ الإطعام في الكفارات مقدّر بالأمداد من الحبّ المقتات ، فجعلنا ذلك أصلا ، وعدّيناه إلى نفقة الزوجات لما تقدم.
ومعلوم أنّ الشافعية لم يقولوا بتقدير نفقة الزوجة إلا عند تنازع الزوجين ، أمّا إذا تراضيا على أن تأكل من بيته ، فأكلت قدر كفايتها ، كان ذلك إنفاقا عليها ، وليس لها
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 859) ، 15 - كتاب الحج ، 10 - باب جواز حلق الرأس حديث رقم (80/ 1201) ، والبخاري في الصحيح (5/ 185) ، 65 - كتاب التفسير ، 32 - باب (فمن كان منكم مريضا) حديث رقم (4517).(1/796)
ص : 797
أن تطالبه بنفقة عن المدة التي أكلتها عنده ، سواء أأكلت معه أم وحدها ، أم أضافها شخص إكراما له ، كل ذلك يعتبر إنفاقا عليها ، ويسقط نفقتها ، لإطباق الناس عليه في زمنه صلّى اللّه عليه وسلّم وبعده ، ولم ينقل خلافه.
واختار جمع من أصحاب الشافعي أنّ نفقة الزوجات معتبرة بالكفاية لا بالأمداد ، لقوة الدليل على ذلك ، حتى قال الأذرعي «1» : لا أعرف لإمامنا رضي اللّه عنه سلفا في التقدير بالأمداد ، ولو لا الأدب لقلت : الصواب أنها بالمعروف تأسيا واتباعا اه.
والمأمور بالإنفاق في قوله تعالى : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ إلخ الآباء الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ومن ثمّ كانت الآية أصلا في وجوب النفقة للولد على الأب دون الأمّ.
ودلّ قوله تعالى : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها على أنّه لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة ، لأنّه قد تضمّن أنه إذا لم يقدر على النفقة لم يكلفه اللّه الإنفاق في هذه الحال ، فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجل النفقة ، لأنّ فيه إيجاب التفريق لشيء لم يجب عليه ، وكذلك قوله تعالى : سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً يدلّ على أنه لا يفرّق بينهما من أجل عجزه عن النفقة ، لأنّ العسر يرجى له اليسر ، كما قال اللّه تعالى : وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة : 280] وبهذا قال أهل الظاهر ، وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه ، وأحد قولي الشافعي رواية عن أحمد رحمهم اللّه.
وعلى هذا لا يلزمها تمكينه من الاستمتاع ، لأنّه لم يسلم إليها عوضه ، كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه.
وعلى الزوج تخلية سبيلها ، لتكتسب ، وتحصل ما تنفقه على نفسها ، لأنّ في حبسها بغير نفقة إضرارا بها.
والقول بالفسخ مذهب مالك ، وأظهر قولي الشافعي ، ورواية عن أحمد رحمهم اللّه ، وحجتهم في ذلك خبر الدار قطني والبيهقي في الرجل لا يجد شيئا ينفق على امرأته يفرّق بينهما. قالوا : وقضى به عمر رضي اللّه عنه ، ولم يخالفه أحد من الصحابة ، وقال ابن المسيّب : إنّه من السنة.
قالوا : وقد شرع الفسخ بالعنة لإزالة الضرر ، والضرر الذي يلحقها بعدم النفقة أشدّ من ضررها بالعنة ، فكان الفسخ بالعجز عن النفقة أولى من الفسخ بالعنة.
وفي تخلية سبيلها للكسب تشويش على الحياة الزوجية ، وإخلال بالسكن الذي
__________
(1) أحمد بن حمدان أبو العباس شهاب الدين ، فقيه شافعي ولد بأذرعات الشام وتفقه بالقاهرة استقر في حلب وتوفي فيها سنة (783 ه) انظر الأعلام للزركلي (1/ 119).(1/797)
ص : 798
هو ثمرة الزواج ، وما بقاء الزوجية بعد أن خلينا سبيلها ، ورفعنا يد الزوج عنها ، ولم نلزمها تمكينه من استمتاع بها؟
وقد تناظر في ذلك مالك وغيره فقال مالك : أدركت الناس يقولون : إذا لم ينفق الرجل على امرأته يفرّق بينهما.
فقيل له : قد كانت الصحابة رضي اللّه عنهم يعسرون ويحتاجون.
فقال مالك : ليس الناس اليوم كذلك ، إنما تزوجته رجاء اه.
ومعنى كلامه إنّ نساء الصحابة رضي اللّه عنهم كنّ يردن الدار الآخرة وما عند اللّه ، ولم يكن مرادهنّ الدنيا ، فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن ، لأن أزواجهنّ كانوا كذلك ، وأما النساء اليوم ، فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم ، فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا ، فصار هذا المعروف كالمشروط في العقد ، وكان عرف الصحابة رضي اللّه عنهم كذلك كالمشروط في العقد ، والشرط العرفي في أصل مذهبه كاللفظي.
وفي المسألة مذهبان آخران :
أحدهما : أنه إذا أعسر بنفقتها حبس حتى يجد ما ينفقه ، وهذا مذهب حكاه الناس عن عبيد اللّه بن الحسن العنبري قاضي البصرة ، وهو مذهب غير معقول ، لأنّه إذا حبس فمن أين يجد النفقة؟ ولعلّ العنبري من القائلين بالتفريق للإعسار ، وأنه يريد أنّ الحاكم إذا أمره بالطلاق فامتنع حبسه حتى يطلّق ، أو يظهر له مال ، وإلا فالكلام على ظاهره بيّن البطلان.
والثاني : أنه لا فسخ ، وعليها نفقة نفسها إن كانت غنية ، وإن عجز الزوج عن نفقة نفسه أيضا كلّفت المرأة الإنفاق عليه ، وهو مذهب ابن حزم ، قال في «المحلى» :
فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية كلّفت النفقة عليه ، لا ترجع بشيء من ذلك إن أيسر. وهذا المذهب مع بطلانه ومخالفته قواعد الشرع وعمل الناس أقرب إلى العقل من مذهب العنبري واللّه الموفق.
ودلّت الآية أيضا على أنّه ينبغي للإنسان مراعاة حال نفسه في النفقة والصدقة ، وفي الحديث : «إنّ المؤمن أخذ عن اللّه أدبا حسنا ، إذا هو وسع عليه وسع ، وإذا هو قتر عليه قتر» «1».
__________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 239).(1/798)
ص : 799
من سورة التحريم
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
ذهب العلماء في سبب نزول الآيتين مذاهب مروية : فروى عكرمة عن ابن عباس أنّها نزلت في الواهبة التي جاءت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت له : إنّي وهبت لك نفسي ، فلم يقبلها.
وقال الحسن وقتادة : بل نزلت في شأن مارية القبطية أمّ إبراهيم ، «1» حيث خلا بها النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في منزل حفصة ، وكانت هذه خرجت إلى منزل أبيها في زيارة ، فلما عادت ، وعلمت ، عتبت على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فحرم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم مارية على نفسه إرضاء لحفصة ، وأمرها ألا تخبر أحدا من نسائه ، فأخبرت بذلك عائشة ، لمصافاة كانت بينهما ، فطلّق النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حفصة ، واعتزل نساءه شهرا ، وكان جعل على نفسه أن يحرمهن شهرا ، فأنزل اللّه هذه الآية ، فراجع حفصة.
واستحل مارية ، وعاد إلى نسائه.
وقد اختلف أصحاب هذا القول فيما بينهم : هل كان تحريم مارية بيمين؟
فقال قتادة والحسن والشعبي : حرمها بيمين.
وقال غيرهم : حرمها بغير يمين ، وهو عن ابن عباس.
وثالث الأقوال : ما
ثبت في «الصحيح» «2» عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت : كان النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها ، فتواصيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير ، إني أجد منك ريح مغافير - وهو نبت كريه الرائحة - قال : «لا ولكنّي شربت عسلا عند
__________
(1) انظر تفسير ابن جرير الطبري ، المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (28/ 100).
(2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1100) ، 18 - كتاب الطلاق ، 3 - وجوب الكفارة ، حديث رقم (20/ 1474) ، والبخاري في الصحيح (6/ 81) ، 65 - كتاب التفسير ، 1 - باب (يا أيها النبي ...)
حديث رقم (4912). [.....](1/799)
ص : 800
زينب بنت جحش ، ولن أعود إليه ، وقد حلفت لا تخبري أحدا. يبتغي مرضاة أزواجه».
وقد روى مسلم ، وأشهب عن مالك أنّ النبي شرب العسل عند حفصة ، وروي أنّه كان عند أم سلمة ، والأكثر أنّه كان عند زينب بنت جحش ، ولعلّ الحادثة تكررت قبل النزول.
وبعد فيرى ابن العربي «1» أن ما قيل من أنّ الآية نزلت في الواهبة فهو ضعيف من حيث السند ، وضعيف من حيث المعنى :
فأما السند : فرواته غير عدول.
وأما المعنى : فما يصحّ أن يقال : إن رد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للهبة كان تحريما ، بل هو رفض لها ، وللموهوب له شرعا ألا يقبل الهبة.
وأما ما روي من أنه حرم مارية فهو أمثل في السند وإن قرب من حيث المعنى ، لكنّه لم يدوّن في صحيح ولا نقله عدل. قال ابن العربي : إنما الصحيح أنّه كان في العسل ، وأنّه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة ، وجرى ما جرى ، فحلف ألّا يشرب ، وأسرّ ذلك ، ونزلت الآية في الجميع.
وبعد ، فقد اختلف العلماء في أنّ تحريم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما حرّم أكان بيمين ، أم لم يصحبه يمين ، وقد جرى بناء على ذلك خلاف بين العلماء في أنّ الرجل إذا حرّم شيئا ولم يحلف أيكون ذلك يمينا ، فيجب فيه ما يجب في اليمين ، أم لا يكون؟ وتشعبت أطراف الخلاف بينهم إلى حدّ كبير ، سنقفك على شيء منه بعد التفسير.
لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي لم تمنع نفسك من شيء أباح اللّه لك الانتفاع به تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ الابتغاء : الطلب ، والجملة حال من فاعل تحرّم. فيكون قيدا للعامل. وقد قال العلماء : إنّ العتاب موجّه إلى هذا القيد ، لأنّ الكلام إذا كان مقيّدا بقيد إثباتا أو نفيا ، فالنظر فيه إلى القيد ، ولا مانع من أن يكون العتاب موجها إلى المقيّد مع قيده.
ويرى البعض أنّ الجملة استئناف ، وذلك أنّ الاستفهام ليس على حقيقته ، بل هو معاتبة على أنّ التحريم لم يكن عن باعث صحيح ، وحينئذ
__________
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1833).(1/800)
ص : 801
يكون الاستفهام منشأ لأن يسأل فيقال : وما ينكر منه في التحريم وقد كان الأنبياء يحرّمون كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران : 93] فقيل في جواب هذا السؤال : تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ فكأنّ التحريم لم ينكر لذاته ، وإنّما لما اشتمل عليه من الحرص على مرضاة الأزواج ، ومثل النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أجلّ من أن يقدم على ما يقدم عليه ، ويمتنع عما يمتنع منه تبعا لإرضاء النساء.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يقارف ذنبا ، والذي كان منه إنما هو خلاف الأولى ، فالإتيان بالغفران والرحمة هنا تكريم للنبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ، حيث جعل ما لا يعدّ ذنبا كأنه ذنب ، ولا يكون ذلك إلا لمن سمت منزلته.
وقد رأيت أنّا فسرنا التحريم هنا بالامتناع ، وامتناعه عن شرب العسل أو غيره إنما كان كامتناعه عن أكل الضب ، وهو بهذه المثابة لا شيء فيه ، وإنما عوتب من أجل أنّ الباعث كان الحرص على مرضاة الأزواج.
وقد أراد الزمخشريّ «1» أن يقول : بل هو قد قال : إنّ الذي وقع هنا هو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حرّم من عند نفسه ما أحل اللّه ، فيكون قد غيّر الحكم ابتغاء مرضاة الأزواج فآخذه اللّه به ، وأنكره عليه ، وغفر له ما وقع منه من الزلة ، وقد شنع العلماء على الزمخشري في قوله هذا.
وذلك أن تحريم الحلال ينتظم معنيين :
فقد يراد منه اعتقاد حكم التحريم فيما جعله اللّه حلالا ، وذلك تغيير لحكم اللّه ، وتبديل له على نحو الذي كان من الكفار من تحريمهم البحائر والسوائب والوصائل وغيرها ، وكقولهم : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام : 138] وعلى نحو ما حكى اللّه عنهم في قوله : وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل : 35] وتحريم الحلال بهذا المعنى كفر لا يكون إلا من الكافرين.
والمعنى الثاني : الامتناع من الحلال امتناعا مطلقا ، أو مؤكّدا باليمين مع اعتقاد حل الفعل الذي امتنع منه ، وهذا شيء لا خطر فيه ، ولا شي ء ، وقد امتنع النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من أكل الضب ، وقال : «إنّه لم يكن بأرض
__________
(1) انظر كتاب الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري (4/ 564).(1/801)
ص : 802
قومي» «1»
. والذي وقع من النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان من هذا النوع ، وإنما عوتب على ما صاحب الامتناع من الحرص على مرضاة الأزواج ، خصوصا بعد المظاهرة التي كانت منهنّ ، ومرضاة مثل هؤلاء ينبغي ألا يحرص عليها.
وقد اعتذر بعض العلماء عن الزمخشري ، وأوّل كلامه.
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ الفرض : التقدير ، والمراد منه هنا : جعل تحلة اليمين شريعة ، والمراد من التحلة الكفارة ، والتحلة مصدر حلّل ، كالتكرمة مصدر كرّم ، وهو مصدر غير قياسي ، إذ المصدر القياسي في كلّ منهما : التحليل والتكريم.
وأصله من الحلّ ضدّ العقد ، وذلك أنّ من حلف على شيء فكأنّه قد عقد عليه ، لأنّه التزمه. وقد جعل اللّه الكفارة حلّا لهذا الالتزام.
وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ هو سيدكم ، ومتولي أموركم ، وهو العليم بشأنكم ، يعلم ما فيه مصلحتكم ، فيشرع لكم ما تقضي به هذه المصلحة ، وهو الحكيم الذي لا يصدر عنه إلا كل متقن محكم.
اختلف العلماء في أنّ التحريم الذي كان من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هل كان مقترنا بيمين ، وظاهر الآية قد يؤيّد القول بالإيجاب ، لقوله تعالى : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ إذ هو مشعر بأن ثمة يمينا تحتاج إلى التحلة ، وقد جاء في بعض الروايات ما يؤيده.
واختلفوا أيضا في أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أعطى كفارة ، أو لم يفعل.
وقد ذهب الحسن إلى أنه لم يعط كفارة ، ويقول في التوجيه : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهو توجيه لا يخلو من شي ء ، وقد نقل عن الإمام مالك رحمه اللّه في «المدونة» أنّه أعطى الكفارة.
وقد اختلف العلماء بعد ذلك في الرجل يحرّم شيئا ، كأن يقول لزوجته : أنت عليّ حرام ، أو الحلال عليّ حرام ، ولم يستثن شيئا.
ويقول ابن العربي «2» : بأنّ للعلماء في تحريم الرجل لزوجته خمسة عشر قولا ، يجمعها ثلاثة مقامات :
المقام الأول : في جمع الأقوال.
الثاني : في التوجيه.
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1543) ، 34 - كتاب الصيد ، 7 - باب إباحة الضب حديث رقم (43/ 1945) ، والبخاري في الصحيح (6/ 288) ، 72 - كتاب الذبائح ، 33 - باب النصب حديث رقم (5537).
(2) انظر أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1835).(1/802)
ص : 803
المقام الثالث : في عد الصور في ذلك.
ونحن نقتصر هنا على جمع الأقوال ، ونترك المقامين الآخرين إلى الفقه وعلم الخلاف ، فإنّ الآية لا تحتمل كلّ ما قال الفقهاء.
القول الأول : روي عن أبي بكر وعائشة والأوزاعي أنّ تحريم الزوجة يمين تلزم فيها الكفارة.
القول الثاني : قال ابن مسعود : ليس تحريم الزوجة بيمين ، وتلزم فيه الكفارة.
القول الثالث : قال عمر بن الخطاب : إنّ تحريم الزوجة طلقة رجعية ، وهو رأي الزهري.
القول الرابع : أن تحريم الزوجة ظهار ، وهو رأي عثمان البتي وأحمد بن حنبل.
القول الخامس : قال حماد بن سلمة «1» ، وهو رواية عن مالك : أنه طلقة بائنة.
القول السادس : أنّه ثلاث تطليقات ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة ، ومالك.
القول السابع : قال أبو حنيفة : إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى ، وإلّا كانت يمينا ، وكان الرجل موليا من امرأته.
القول الثامن : قال ابن القاسم «2» : إنّ من حرّم زوجته لا تنفعه نية الظهار ، وإنما يكون طلاقا.
القول التاسع : قال يحيى بن عمر «3» : يكون طلاقا ، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفّر كفارة الظهار.
القول العاشر : هو ثلاث قبل الدخول وبعده ، لكنه ينوي في التي لم يدخل بها إذا قال : نويت الواحدة ، وهو عن مالك وابن القاسم.
القول الحادي عشر : هو ثلاث ، ولا ينوي بحال ، ولا في محل ، قال ابن العربي هو قول عبد الملك في «المبسوط».
__________
(1) ابن دينار البصري أبو سلمة ، مفتي البصرة ، وأحد رجال الحديث ومن النحاة كان حافظا ثقة مأمونا ، وكان إماما في العربية ، شديدا على المبتدعة ، انظر الأعلام للزركلي (2/ 272).
(2) عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي المصري أبو عبد اللّه ، فقيه ، ولد في مصر سنة (191 ه) انظر الأعلام للزركلي (3/ 323).
(3) يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني الأندلسي أبو زكريا فقيه مالكي عالم بالحديث نشأ بقرطبة ، وسكن القيروان توفي سنة (289 ه) انظر الأعلام للزركلي (8/ 160).(1/803)
ص : 804
القول الثاني عشر : هو في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ، وهو رأي أبي مصعب ، ومحمد بن عبد الحكم.
القول الثالث عشر : أنّه إن نوى الظهار - وهو أن ينوي أنّها محرمة كتحريم أمه - كان ظهارا ، وإن نوى تحريم عينها بجملته بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين ، وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ، وهو عن الشافعي.
القول الرابع عشر : أنّه إن لم ينو شيئا لا يلزمه شيء.
القول الخامس عشر : أنّه لا شيء عليه أصلا ، قاله مسروق ، وربيعة من أهل المدينة.
وبعد فإنّك ترى أنّ الآية الكريمة ليس فيها أكثر من أنّ اللّه سبحانه عاتب نبيّه على أنّ منع نفسه شيئا أباحه اللّه له ، والظاهر أنّ هذا المنع كان مصحوبا باليمين ، فقال اللّه : لا تمتنع ، وكفّر عن يمينك بالتحلة ، وإذا جرينا على ما هو الصحيح من أنّ الحادثة كانت في شرب العسل ازددت يقينا بأنّ كلّ هذه الأقوال التي قبلت في تحريم الزوجة من غير يمين تحتاج إلى أدلتها من غير الآية ، فلتطلب في أماكنها ، واللّه المستعان ، وبه التوفيق.(1/804)
ص : 805
من سورة المزمل
قال اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر : إنّ هذه السورة مكية كلّها. وحكى الأصبهاني أنّها مكية ما عدا الآيتين : وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ. وهو مروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.
وهناك قول ثالث : أنها مكية ما عدا قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ...
وقد اعترض السيوطي في «الإتقان» على الأخير بأنه يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إلخ قد نزل بعد نزول صدر السورة بسنة ، لما كان قيام الليل فرضا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلوات الخمس. يعني : وإذا كانت الصلوات الخمس قد شرعت في مكة قبل الهجرة بسنة ، وقد تمّ بفرضيتها نسخ ما كان قبلها من فرض القيام ، ظهر أنّ آخر المزمل من المكي.
ولعلك تختار القول الأول لما أورده السيوطي على الأخير ، ولأنّ أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بالصبر على أذى الكفار ، والإعراض عنهم ، وهجرهم ، إنما كان في أول الإسلام ، قبل أن يكثر أنصار الدعوة الإسلامية ، وقبل أن يأذن اللّه تعالى للمؤمنين المظلومين أن يدفعوا عن أنفسهم بالقوة. على ما يدل عليه الاستقراء ، وتتبع موارد الآيات القرآنية التي تأمر بمثل ما ورد في آيتي وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والتي بعدها.
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) المزّمل بتشديد الزاي والميم : اسم فاعل من تزمّل ، وأصله المتزمل ، فأدغمت التاء والزاي ، ومعناه : المتلفف في ثيابه ، ومنه قول ذي الرّمة :
وكائن تخطت ناقتي من مفازة ومن نائم عن ليلها متزمل
وقرأه أبيّ على الأصل. كما قرئ بتخفيف الزاي ، على أنه اسم فاعل أو اسم مفعول.
وقد اختلف المفسرون في سبب تزمّله عليه الصلاة والسلام ، فقيل : إنه كان نائما بالليل متزمّلا في قطيفة ، أو أنه يريد فتلفّف بالقطيفة ، فجاءه الملك بنداء اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) إلخ ليدع النوم ، ويقوم لما هو أهم ، وينهض لعبادة اللّه في(1/805)
ص : 806
ناشئة الليل ، فإنها خير معين له على تحمّل ما سيرد عليه من الوحي ، وما سيلقى عليه من القول الثقيل. وقيل : إنّ تزمّله عليه الصلاة والسلام كان لأسفه وحزنه لما بلغه ما كان من المشركين ، وما دبّروه من القول السيئ ، يدفعون به دعوته. فقد أخرج البزار والطبراني في «الأوسط» وأبو نعيم في «الدلائل» عن جابر رضي اللّه عنه قال :
اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدّوا الناس عنه.
فقالوا : كاهن. قالوا : ليس بكاهن ، قالوا : مجنون. قالوا : ليس بمجنون ، قالوا :
ساحر ، قالوا : ليس بساحر. قالوا : يفرّق بين الحبيب وحبيبه ، فتفرّق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ، فتزمل في ثيابه ، وتدثّر فيها ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1).
وقد يساعد هذا القول ما ورد في السورة من قوله تعالى : وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) على القول بأنّ هاتين الآيتين من المكي ، وأنهما نزلتا مع الآيات السابقة.
غير أنّه يقال : إذا كان هذا هو سبب التزمل ، وأنه من أجله أمر النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في هذه السورة أن يهجر أولئك ، ويصبر عليهم ، ولا يأبه لقولهم ، فما السبب في أنه لم تذكر الآيتان وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وما بعدها عقب النداء؟ ولما ذا فصل بين ذلك بالأوامر الأولى المتعلقة بقيام الليل والذكر والترتيل؟
والجواب : أنه لا شك أنّ هذه العبادات تقوّي قلبه عليه الصلاة والسلام ، وتثبّت فؤاده ، وتعينه على الصبر والاحتمال والإغضاء عن السوء من أقوال الكافرين.
وقيل : إنّ السبب هو ما
ورد في حديث جابر المشهور «1» على ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي ، فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي ، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض ، فجثثت - بمثلثتين مبنيا للمجهول ، فزعت - منه رعبا ، فرجعت ، فقلت : دثروني ، دثروني»
وفي رواية : فجئت أهلي ، فقلت :
زمّلوني زمّلوني ، فأنزل اللّه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1).
وجمهور العلماء يقولون : وعلى إثرها نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) وعلى هذا يكون
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 143) ، 1 - كتاب الإيمان ، 73 - باب بدء الوحي حديث رقم (161) ، والبخاري في الصحيح (6/ 97) ، 65 - كتاب التفسير ، حديث رقم (4922) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 399) ، كتاب التفسير ، باب ومن سورة المدثر حديث رقم (3325) ، وأحمد في المسند (3/ 306).(1/806)
ص : 807
سبب التزمل هو ما عراه صلّى اللّه عليه وسلّم من الرعب والفزع عند رؤية الملك ، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها ، أما على القولين الأولين فيصحّ أن يكون السبب واحدا أيضا ، كما يصحّ أن يكون مختلفا.
والحكمة في ندائه عليه الصلاة والسلام بوصف التزمل هو إرادة ملاطفته وإيناسه ، على نحو ما كان عليه العرب في مخاطباتهم في مثل هذه الحالة ، ومن ذلك
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعلي لما غاضب فاطمة ، وكان نائما قد لصق بجبينه التراب فقال له :
«قم أبا ترب» «1».
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ المراد من قيام الليل صلاة التهجد ، وذلك بتقدير الصلاة ، أي انهض لصلاة الليل ، أو بتضمين (قم) معنى صل.
وقد أعرب بعض المفسرين : (الليل) ظرفا لفعل القيام ، جريا على مذهب البصريين الذين يجوّزون في مثله أن يكون ظرفا ، ولو استغرقه الحدث ، كما هنا ، فإنّ المعنى على إرادة جميع أجزاء الليل حتى يصحّ الاستثناء بقوله : إِلَّا قَلِيلًا فإنّ الاستثناء معيار العموم.
أما على رأي الكوفيين الذين يمنعون ذلك فنصب الليل يكون من قبيل النصب على المفعولية.
ومعنى قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) انهض للصلاة مستغرقا بها الليل إلا جزءا قليلا منه ، ونِصْفَهُ بدل كل من الليل بعد مراعاة الاستثناء ، فكأنه قيل : قم نصف الليل ، ويصحّ أن يكون بدلا من قَلِيلًا والأمران في قوله تعالى : أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ معطوفان على الأمر الأول. والضميران في (منه) و(عليه) عائدان على الليل بعد مراعاة الاستثناء ، والإبدال أيضا. ويصحّ أن يعود على (نصفه) والمآل واحد.
وحاصل المعنى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم مأمور بأن يقوم من الليل للتهجد ، وأنّ اللّه خيّره أن يقوم نصف الليل ، وأن ينقص من النصف مقدارا قليلا ، وأن يزيد على ذلك النصف ، ولم تقيد الزيادة على النصف بالقلّة ، كما قيّد النقص بها ، لأنّ الزيادة الكثيرة لا تخلّ بالأمر ، بل فيها زيادة برّ وعمل صالح. أمّا النقص الكثير عن النصف فعلى خلاف ذلك ، إذ إنّه مخلّ بالمطلوب.
هذا وقد قال العلماء : إنّه في حالة النقص عن النصف لا يتحقق الوفاء إلا إذا كان النقص لا يبلغ الربع ، وهو ظاهر ، إذ لا يقال في الاستعمال العربي لمن اقتصر على الربع إنه أنقص من النصف قليلا - ومن العلماء من قال : إنّ القليل هو ما دون
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1874) ، 44 - كتاب فضائل الصحابة 4 - باب من فضائل علي حديث رقم (38/ 2409).(1/807)
ص : 808
السدس ، فإذا بلغ النقص السدس ، أو تجاوزه كان كثيرا مخلّا بالوفاء.
لكنه يقال : كيف يكون النصف بدل كلّ من الليل الذي استثنى منه القليل؟
وكيف يكون نصف الشيء مطابقا له مع استثناء جزء قليل منه؟
وأجاب المفسرون بأنّه لزيادة الاعتناء بالنصف المقارن للتهجد ، وتفضيله بالصلاة فيه على النصف الآخر الخالي من الصلاة ، جعل هو أغلب الليل وأكثره ، وإن كان في الحقيقة نصفه.
ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأمره بقيام الليل مع ندائه بالوصف الخاصّ به - وهو التزمل - أنّ التهجد كان فريضة عليه ، وأنّ فرضيته كانت خاصة به. وإلى هذا ذهب جمع من العلماء ، قالوا : وهو الذي يدلّ عليه قوله تعالى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء : 79] فإنّ قوله : نافِلَةً لَكَ بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه عليه الصلاة والسلام ، وليس معنى النافلة في هذه الآية ما يجوز فعله وتركه ، فإنّه على هذا الوجه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام ، بل معنى كون التهجد نافلة له صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.
وذهب جماعة آخرون إلى أنّ وجوب التهجد كان ثابتا في حقّ الأمة أيضا ، مستندين إلى قوله تعالى في آخر السورة التي معنا إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إلخ. فإنه يدلّ على أنّ الصحابة كانوا يقومون من الليل كما كان يقوم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه ، وإنه قد خفّف اللّه عنهم جميعا بأمرهم بالقيام على حسب ما يتيسر لهم ، قالوا : ويشهد لهذا ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنّه كان يقول :
أوّل ما نزل أول المزمل ، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة «1».
وما رواه ابن جرير «2» عن أبي عبد الرحمن أنه قال : لما نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، حتى نزلت (فاقرءوا ما تيسر منه) قال :
فاستراح الناس.
وما أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» «3» عن سعيد بن هشام أنه سأل عائشة رضي اللّه عنها عن قيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : ألست تقرأ هذه السورة : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)؟
__________
(1) رواه أبو داود في سننه (1/ 487) ، كتاب الصلاة ، باب نسخ قيام الليل ، حديث رقم (1305).
(2) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (29/ 79).
(3) رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 54).(1/808)
ص : 809
قال : بلى. قالت : فإنّ اللّه افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك اللّه خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل اللّه التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضيته.
وقال بعض الناس : إنّ التهجد لم يكن مفروضا لا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولا على أحد من أمته ، واحتجّوا على ذلك بما يأتي :
1 - ظاهر قوله تعالى في سورة الإسراء نافِلَةً لَكَ [الإسراء : 79] فإنه يفيد أنّ التهجد زيادة لم تتعلق بها الفرضية ، وقد علمت ردّه فيما سبق.
2 - أنّ الأمر في قوله تعالى : قُمِ اللَّيْلَ وقوله جلّ شأنه : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ لا يفيد الوجوب ، وحمله على الندب أولى ، لأنّا وجدنا أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب ، وتارة تفيد الندب ، فينبغي حمل ما يرد منها على القدر المشترك بينهما ، وهو ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، دفعا للتجوّز والاشتراك اللفظي وإذا كان الأمر كذلك كان الثابت معنى الندب ، لأن تمام معنى الواجب - وهو عدم جواز الترك - لا بدّ له من دليل آخر ، كالتوعد على الترك ، أو قرينة أخرى تدل على ذلك ، وهو غير متوفّر في الأمرين السابقين ، فبقي الترك على أصله ، وهو الجواز.
والجواب يعلم مما تقرر في علم الأصول ، وهو أنّ المختار في الأوامر حملها على الإلزام ، إلا أن يصرف عن ذلك صارف ، وهو مذهب الجمهور.
3 - أنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ، وخيّره بين أن يقوم نصف الليل ، أو يزيد عليه ، أو ينقص منه ، ومثل هذا لا يكون في الواجبات ، فإنّ الشأن فيها أن تعيّن وتحدّد مقاديرها ، كما في المكتوبات.
والجواب : أنه لا مانع من ذلك. وقد عهد في الشريعة أن يفرض اللّه على المكلف أحد أمور معينة ، بحيث لا يجوز له الإخلال بها جميعا ، ثم إذا فعل واحدا منها كان قائما بما وجب عليه ، فيكون قيام الليل مفروضا ، بحيث لا ينقص كثيرا عن النصف ، فإذا قام المكلف في الليل قريبا من نصفه فقد حصل الواجب ، وإذا زاد إلى النصف أو أكثر منه كان محصّلا للواجب من باب أولى.
وبعد فهذه أقوال ثلاثة قد عرفت مآخذها ، وعرفت الردّ على ما استدل به أصحاب القول الثالث.
أما ما استند إليه أصحاب القول الأول فيمكن الجواب عنه بأنّ توجيه الخطاب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وحده لا يقتضي تخصيصه بما ورد بعده من الأوامر ، فإنّه عليه الصلاة والسلام نبيّ متبوع ، وخطابه يتناول أمته ، كما هو معروف في الأصول ، إلّا أن يقوم دليل على الخصوص.(1/809)
ص : 810
أما آية الإسراء : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء : 79] فهي مدنية متأخّرة في النزول عن سورة المزمّل فيصح أن يكون التهجد قد بقي وجوبه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ما نسخ عن أمته ، ويكون معنى الآية : استمر على التهجد بالليل فريضة زائدة لك على ما استقرّ وجوبه على أمتك.
والذي يستخلص من ذلك أنّ أرجح الأقوال هو الثاني ، وهو القول بأنّ التهجد كان فريضة على النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى أمته ، إذ هو الذي يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية السابقة. ويشهد له ما تقدّم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما.
وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في بقاء وجوب التهجد وعدمه ، وفي تعيين الناسخ على القول بعدم البقاء.
وللعلماء في ذلك أربعة أقوال :
الأول : نقل عن الحسن وابن سيرين وابن جبير ما يفيد القول ببقاء وجوب التهجد على الناس جميعا ، وأنّ أصل وجوب القيام لم ينسخ ، وإنما الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مقدّر من الليل لا ينقص كثيرا عن النصف على ما علمت. وهذا قول يخالف ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها على ما سبق ، وكذلك يخالف ما روي عن ابن عباس أنّه قال : سقط قيام الليل عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وصار تطوعا ، وبقي بعد ذلك فرضا على رسول اللّه عليه الصلاة والسلام.
ويردّه أيضا ما
ثبت في «الصحيحين» «1» أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال للرجل الذي سأله عما يجب : «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال : هل عليّ غيرها؟ قال : «لا ، إلا أن تطوّع».
القول الثاني : أنّه نسخ عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعن أمته بآخر سورة المزمّل ، واستبدل به قراءة القرآن على ما يعطيه ظاهر قوله تعالى : عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل : 20].
ويدل عليه أيضا ظاهر ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها كما تقدم فإنّ قولها :
فصار قيام الليل تطوعا ، لم تقيده بالأمة.
القول الثالث : أنّ وجوب التهجد استمر على النبي وعلى الأمة ، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.
القول الرابع : أنّه نسخ عن الأمة وحدها ، وبقي وجوبه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما يعطيه ظاهر آية الإسراء [79].
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 40) ، 1 - كتاب الإيمان ، 2 - باب بيان الصلوات حديث رقم (8/ 11) ، والبخاري في الصحيح (1/ 20) ، 2 - كتاب الإيمان ، 35 - باب الزكاة من الإسلام حديث رقم (46).(1/810)
ص : 811
ولعلّ الراجح هو هذا القول الأخير ، كما أنّ الظاهر أنّ نسخ التهجد لم يحصل دفعة واحدة ، فإنّ آخر سورة المزمل يفيد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها ، ولا يلزم من هذا نسخ وجوب التهجد من أصله ، وكان بين آخر السورة وأولها نحو عام ، كما ورد في الآثار السابقة.
أما النسخ أصل الوجوب فإنه كان بافتراض الصلوات الخمس ليلة المعراج ، وكان ذلك قبل الهجرة بعام.
والظاهر أيضا أنّ هذا كله بالنظر للأمة ، فأما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فإنّ آية الإسراء المدنية تدلّ على أنّ وجوب التهجد قد بقي عليه من بعد هذا ، وأنّه استمر وجوبه عليه لم ينسخ إلى آخر حياته عليه الصلاة والسلام لعدم ما يدلّ على ذلك النسخ ، وهذا هو الذي يشهد له ما تقدّم لك عن ابن عباس أنه يقول : سقط قيام الليل عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصار تطوعا ، وبقي ذلك فرضا على رسول اللّه عليه الصلاة والسلام.
ويشهد له أيضا ما صحّ أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا ، وأنه كان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع صلّى من النهار اثني عشر ركعة. كما ورد عن عائشة في حديثها مع سعيد بن هشام وقد تقدم بعضه. فإنّ مواظبة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم على قيام الليل في الحضر والسفر ، وقضاءه ما فاته من ذلك بعذر النوم أو المرض دليل على استمرار فرضية القيام عليه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا تقول العرب : ثغر رتل ورتل بالفتح والكسر ، إذا كان مفلّجا أو حسن التنضيد ، وفي «القاموس» : الرتل محركة : حسن تناسق الشي ء ، وفيه أيضا :
ورتل الكلام ترتيلا : أحسن تأليفه. وترتّل فيه ترسّل.
أما أقوال أهل التفسير : فعن ابن عباس أنّ معنى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا بيّنه تبيينا وعن مجاهد : ترسّل فيه ترسلا. وقال قتادة : تثبّت فيه تثبتا. وكلها تدور حول شيء واحد ، والمراد : اقرأه في قيامك بالليل على مهل ، وتبيّن حروفه ، فإنّ ذلك يكون عونا لك ولمن يسمع منك على فهمه وتدبر معانيه.
أخرج العسكري في «المواعظ» عن عليّ كرّم اللّه وجهه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن هذه الآية فقال : «بيّنه تبيينا ، ولا تنثره نثر الدقل ، ولا تهذّه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» «1»
الدقل بفتح القاف :
رديء التمر ويابسه. والهذّ : الإسراع ، ولقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ قراءة مرتّلة مفسّرة حرفا حرفا ، وكان يقطّع قراءته آية آية ، ويمد حروف المد.
__________
(1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 277). [.....](1/811)
ص : 812
روى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أمّ سلمة رضي اللّه عنها أنّها سئلت عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : كان يقطّع قراءته آية آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي «1».
وأخرج البخاري «2» عن أنس أنّه سئل عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : كانت مدّا ، ثم قرأ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) يمد بِسْمِ اللَّهِ ويمد الرَّحْمنِ ويمد الرَّحِيمِ.
وعلى هذا فليس لأحد من الناس مخالفة في أنّه يقرأ القرآن بترتيل وتبيين حروف ، وتحسين مخارج ، وإظهار مقاطع ، إنما الكلام في التغني به وتلحينه.
وقد اختلف في ذلك علماء السلف والخلف ، فقال بكراهته أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير ، والقاسم بن محمد ، والحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، والإمامان مالك وأحمد.
وروي عن ابن المسيب أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب في قراءته ، فأرسل إليه سعيد يقول : أصلحك اللّه إنّ الأئمة لا تقرأ هكذا. فترك عمر التطريب بعد.
وروي عن القاسم أنّ رجلا قرأ في مسجد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فطرب فأنكر ذلك القاسم ، وقال : يقول اللّه عزّ وجلّ : لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة؟ فقال : لا تعجبني ، وقال : إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم.
وروي عن أحمد أنّه كان يقول في قراءة الألحان : ما تعجبني ، ويقول : القراءة بالألحان بدعة لا تسمع.
وعن عبد اللّه بن يزيد العكبري قال : سمعت رجلا يسأل أحمد : ما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال له : ما اسمك؟ قال : محمد. قال له : أيسرك أن يقال لك :
موحامد ، ممدودا؟
وأجاز القراءة بالألحان عمر بن الخطاب ، وابن عباس وابن مسعود
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 170) ، كتاب التفسير ، تفسير فاتحة الكتاب حديث رقم (2927) ، وأبو داود في السنن كتاب القراءات حديث رقم (4001) ، وأحمد في المسند (6/ 302).
(2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 136) ، 66 - كتاب فضائل القرآن ، 29 - باب مد القراءة حديث رقم (5046).(1/812)
ص : 813
وعبد الرحمن بن الأسود بن زيد والإمامان أبو حنيفة والشافعي ، واختاره أبو جعفر الطبري وأبو بكر بن العربي.
فعن عمر بن الخطاب فيما رواه الطبري أنه كان يقول لأبي موسى : ذكّرنا ربنا ، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن ، فيقول عمر : من استطاع أن يتغنّى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل.
وابن مسعود كانت تعجبه قراءة علقمة الأسود - وكان حسن الصوت - فكان يقرأ له علقمة ، فإذا فرغ قال له : زدني فداك أبي وأمي.
وعن عطاء بن أبي رباح قال : كان عبد الرحمن بن الأسود يتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان.
وروى الطحاوي أنّ أبا حنيفة كان يستمع القرآن بالألحان ، كما روي أنّ الشافعي كان كذلك.
هذا هو المأثور عن الأئمة والعلماء في قراءة التلحين والتطريب ، والنظر بعد ذلك في أدلتهم.
استدل المجيزون بما يأتي :
1 -
ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «زيّنوا القرآن بأصواتكم» «1».
2 - وما أخرجه مسلم من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».
3 - وما في «البخاري» «2» عن عبد اللّه بن مغفّل قال : قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجّع في قراءته.
4 - وما روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري ، فلما أخبره بذلك قال : لو كنت أعلم أنّك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا ، ويروى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما سمعه قال : «إنّ هذا أعطي مزمارا من مزامير آل داود» «3».
__________
(1) ما رواه أبو داود في السنن (1/ 546) ، كتاب الصلاة ، باب استحباب الترتيل حديث رقم (1468) ، والنسائي في السنن (1 - 2/ 522) ، كتاب الافتتاح حديث رقم (1016).
(2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 547) ، 6 - كتاب صلاة المسافرين 35 - باب ذكر قراءة النبي حديث رقم (237/ 794) ، والبخاري في الصحيح (6/ 137) ، 66 - كتاب فضائل القرآن ، 30 - باب الترجيع حديث رقم (5047).
(3) رواه مسلم في الصحيح (1/ 546) ، 6 - كتاب صلاة المسافرين ، 34 - باب استحباب تزيين الصوت حديث رقم (235/ 793) ، والبخاري في الصحيح (6/ 137) ، 66 - كتاب فضائل القرآن ، 31 - باب حسن الصوت ، حديث رقم (5048).(1/813)
ص : 814
5 - وما رواه مسلم «1» عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : «ما أذن اللّه لشيء أذنه لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن»
. الأذن بفتحتين الاستماع.
6 - وقالوا أيضا : إنّ الترنم بالقرآن ، والتطريب بقراءته من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء ، وهو أوقع في النفس ، وأنفذ في القلب ، وأبلغ في التأثير.
روي أنّ عقبة بن عامر كان من أحسن الناس صوتا فقال له عمر : اعرض عليّ سورة كذا ، فعرض عليه ، فبكى عمر وقال : ما كنت أظنّ أنها نزلت.
أما المانعون فاحتجوا بما يأتي :
1 -
ما رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن حذيفة بن اليمان عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق ، فإنّه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» فقد نعى على من يرجّع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، على نحو ما يفعله أكثر قراء هذا العصر ، ووصفهم بفتنة القلوب ، كما وصف بها كل من يسمع لهم ويعجبه شأنهم.
2 - وما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه ذكر أشراط الساعة ، وذكر أشياء ، منها أن يتخذ القرآن مزامير ، وقال : «يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ، ولا أفضلهم ليغنيهم غناء».
3 - وما رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مؤذّن يطرب فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ الأذان سهل سمح ، فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن» أخرجه الدار قطني «2»
. فقد كره النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يطرب المؤذن في أذانه ، فدلّ ذلك على أنه يكره التطريب في القراءة بطريق أولى.
4 - وما روي أنّ زيادا النميري جاء إلى أنس رضي اللّه عنه مع القرّاء فقيل له :
اقرأ ، فرفع صوته وطرب - وكان رفيع الصوت - ، فكشف أنس عن وجهه ، وكان على وجهه خرقة سوداء ، وقال : يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون ، وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع الخرقة عن وجهه. وهذا له حكم الرفع ، فقوله : ما هكذا كانوا يفعلون. دلّ على أنّ القراءة في عهد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم تكن على نحو قراءة زياد.
5 - وقالوا أيضا : إنّ التغني والتطريب يؤدّي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه ، وذلك لأنّه يقتضي مدّ ما ليس بممدود ، وهمز ما ليس بمهموز ، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة ، وهو لا يجوز. هذا إلى أنّ التلحين من شأنه أن
__________
(1) رواه في الصحيح (1/ 545) ، 6 - كتاب صلاة المسافرين ، 34 - باب استحباب تزيين الصوت حديث رقم (232/ 792).
(2) رواه الدار قطني في سننه (2/ 86) ، كتاب الجنائز ، باب تخفيف القراءة.(1/814)
ص : 815
يلهي النفوس بنغمات الصوت ، ويصرفها عن الاعتبار وتدبر معاني القرآن.
هذه أدلة المانعين ، وقد تأوّلوا ما أورده المجيزون مما يفيد جواز القراءة بالألحان فقالوا في
حديث : «زينوا القرآن بأصواتكم»
إن فيه قلبا ، وأصله :
«زينوا أصواتكم بالقرآن»
كما قيل في : عرضت الناقة على الحوض ، وعلى تسليم أنه ليس في الحديث قلب ، فمعنى تزيين القرآن بالأصوات تجويده ، وتحسين أدائه بالمد والغنة والإظهار ، وضبط كلماته ، وتبيين حروفه ، وأنت ترى أنّ هذا التأويل بوجهيه بعيد عن لفظ الحديث غاية البعد ، وهو على كل حال تأويل لا دليل عليه ، ولا موجب له.
وقالوا في
الحديث الثاني : «ليس منّا من لم يتغن بالقرآن»
إنه ليس من الغناء وإنما هو من الاستغناء ، كما فسره بذلك سفيان بن عيينة ، ومعناه : ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن الحديث ، أو عن أخبار الأولين. قالوا : وقد ورد التغني بمعنى الاستغناء في كلام العرب. قال الأعشى :
وكنت امرأ زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغنّي
وأنت ترى أيضا أنّ تأويل التغني بالاستغناء تأويل بعيد لا دليل عليه ، ولذلك لما سئل الشافعي عن هذا التأويل المنسوب لابن عيينة قال : نحن أعلم بهذا ، لو أراد به الاستغناء لقال. من لم يستغن بالقرآن ، ولكن لما قال : «يتغنّ بالقرآن» علمنا أنه أراد به الغناء. أما بيت الأعشى فلا حجة لهم فيه ، فإنّه لا يستقيم معناه على إرادة الاستغناء ، وإنما هو بمعنى الإقامة ، من قولهم : غنى فلان بمكان كذا إذا أقام ، ومنه قوله تعالى : كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا.
ثم أوّلوا ما ورد في بقية الأحاديث التي استدلّ بها المجيزون من الترجيع والتحبير والتغني مما يرجع لحسن التجويد ، وإتقان الأداء.
والحق أنّ الأدلة تشهد للمجيزين ، وذلك لأنه إذا كان التلحين والتطريب يغيّر من ألفاظ القرآن ، ويخلّ بما نقل إلينا من طرق الأداء أو كان تكلّفا وتصنّعا ورفعا وخفضا على نحو توقيعات الموسيقى ، فلا كلام في أنّه ممنوع ومحرّم.
أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا ، وشيئا قضى به اتعاظ القارئ ، وكمال تأثّره بمعاني القرآن ، فليس هناك من الأدلة ما ينهض على منعه. بل الأدلة شاهدة به وداعية إليه. وعلى هذا ينبغي حمل كل ما أورده المانعون في منع التغني على التغني المذموم الذي يسير فيه القارئ مع الهوى ويلهو به عن تدبر المعنى ويخرج فيه عن الحدود والقوانين المأثورة في الأداء والترتيل. وهذا محمل قريب جدا وهو فوق ذلك مؤيد بتلك النصوص والآثار التي تجيز التغني في قراءة(1/815)
ص : 816
القرآن وبعد هذا ترى الأدلة كلها متفقة لا تعارض بينها ولا تدافع.
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) الإلقاء : الإنزال : والإيحاء. وعبّر به للإشارة من أول الأمر إلى أنّ ما يوحى به شديد وعظيم.
والمراد بالقول الثقيل : القرآن ، وثقله باعتبار ما اشتمل عليه من تحميله عليه الصلاة والسلام أعباء الرسالة ومهمة التبليغ ، وما إلى ذلك من التكاليف التي يتطلّب القيام بها صبرا وجلدا وقوة عزيمة.
وقيل : إنه ثقيل في نزوله عليه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وتلقيه إياه من الوحي ، فقد كان عليه الصلاة والسلام يكرب عند ذلك ، ويرجف ، ويشتدّ عليه الأمر.
روى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عن عائشة «1» رضي اللّه عنها أنّها قالت : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.
أخرج أحمد وابن جرير «2» وغيرهما عن عائشة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها ، فما تستطيع أن تتحرّك ، حتى يسرّى عنه ، وتلت إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5).
وروي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم نزل عليه الوحي مرة ، وكان جالسا واضعا فخذه على فخذ زيد بن ثابت ، فكادت فخذه عليه الصلاة والسلام ترضّ فخذ زيد من شدّة الضغط.
قيل : معنى ثقله : أنه كلام رصين ، فخم ، له رجحان ووزن ، ليس بالسفساف ولا بالهين الضعيف.
وقيل : إنّ ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر ، لا يزول ولا يتبدل ، فإنّ المعهود في الأجسام الثقيلة أنّها تثبت وتبقى في مكانها.
قال اللّه تعالى : إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) واختلف المفسرون في المراد بالناشئة. فقيل : إنّها من نشأ من مكانه إذا نهض ، فتكون الإضافة في ناشِئَةَ اللَّيْلِ على معنى في. والمعنى : إن النفس أو النفوس الناشئة
__________
(1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1816) ، 43 - كتاب الفضائل ، 22 - باب طب عرق النبي حديث رقم (86/ 2333) ، والبخاري في الصحيح (4/ 95) ، 59 - كتاب بدء الخلق ، 6 - باب ذكر الملائكة ، حديث رقم (3215) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 557) ، كتاب المناقب ، حديث رقم (3634) ، والنسائي في السنن (1 - 2/ 485) ، كتاب الافتتاح ، باب جامع ما جاء في القرآن حديث رقم (933).
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن (29/ 80).(1/816)
ص : 817
في الليل الناهضة من مضاجعها للعبادة هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا والوطء المواطأة والموافقة ، كالوطاء.
والقيل : القول كالمقال. والمراد به قراءة القرآن ، أو مطلق الذّكر ، أي إنها أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص.
أو أن قلبها يكون بالليل أشد موافقة للسانها منه في سائر الأوقات ، إذ يكون القلب في ساعات الليل حاضرا لا يشغله شاغل ، ولا يصرفه عن خشية اللّه صارف.
وَأَقْوَمُ قِيلًا أي إنّ قولها يكون حينئذ أكثر اعتدالا واستقامة على نهج الصواب ، لأنّ الأصوات هادئة ، والليل ساكن ، فلا يضطرب المصلي ، ولا يختلط عليه قوله وقراءته.
وقيل : إن المراد بناشئة الليل العبادة فيه ، ومعنى أن عبادة الليل أشدّ وطأ : أن موافقتها الإخلاص والخشوع في هذا الوقت أعظم منها في أي وقت آخر. أو أنّ قلب العابد فيها يكون أكثر موافقة للسانه منه في غير ذلك من الأوقات.
وقيل : المراد بناشئة الليل ساعاته ، والمعنى عليه كسابقه ، ولعلّ أحسن هذه الأقوال أوسطها.
أما موقع هاتين الآيتين مما قبلهما ، فقال بعض المفسرين : إن أولاهما معترضة بين الأمر بالقيام وعلتها التي بينتها الآية الثانية ، وهي قوله تعالى : إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) وإنّ السر في هذا الاعتراض هو تسهيل أمر القيام بالليل عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالموازنة بينه وبين ما سيوحى إليه من أنواع التكاليف وشدائد الأعمال.
ولكنّك ترى أنّه لا حاجة إلى جعل الآية الأولى معترضة بين ما قبلها وما بعدها ، فإنّ ارتباطها بما قبلها واضح جدّا ، وهي منه في منزلة العلة من المعلول ، فكأنّ اللّه تعالى يقول لنبيه : قُمِ اللَّيْلَ وتجرد للعبادة ، وأعد نفسك لما سيلقى عليك ، لأنّا سنوحي إليك بأمور عظيمة ، وسنحمّلك تكاليف ثقيلة تقتضيها طبيعة الرسالة التي اخترناك لها.
ثم إنّ هذا يتضمّن دعوى أنّ العبادة في جوف الليل تعينه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وتهيئه لتحمل أعباء الرسالة ، والاضطلاع بشؤونها ، فتأتي الآية الثانية وهي قوله تعالى : إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) لتعزيز الدعوى. فهي من سابقتها بمنزلة العلة من المعلول.
فكأنّ اللّه جل شأنه يقول : حقا إنّ قيام الليل يعينك على تحمل ما سنلقيه عليك ، لأنّ عبادة الليل أشدّ مواطأة وموافقة للإخلاص والخشوع ، وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب.(1/817)
ص : 818
قال اللّه تعالى : إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) السبح في الأصل : الذهاب في الماء ، والتقلّب فيه. ويصحّ أن يطلق عن القيد ، فيستعمل في مطلق الذهاب والتقلّب. وعلى هذا يكون معنى الآية : إنّ لك في النهار شغلا كثيرا ، وتقلبا في أعمال متنوعة لا تستطيع معها أن تقوم في النهار بما يريده منك من تلك العبادات الخاصة ، فلذلك كتبناها عليك في الليل ، فيكون هذا تيسيرا على النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ، وبيانا للحكمة في التخفيف عنه ، إذ لم يجمع عليه في النهار بين تلك العبادات وبين ما هو موكول إليه من الأعمال.
ويصحّ أن يكون الغرض توكيد أمر القيام عليه ، وأنه يجب أن يتفرّغ له بالليل ، إذ يكفي أن يكون له من النهار فسحة طويلة يزاول فيها ما شاء من الأعمال. أما الليل فيجب أن يتوفّر فيه على القيام بحقّ اللّه وعبادته.
قال اللّه تعالى : وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) التبتل : الانقطاع ، يقال بتله وبتّله بالتخفيف والتشديد ، بتلا وتبتيلا ، فانبتل وتبتّل ، ومنه البتول للعذراء المنقطعة عن الأزواج ، أو المنقطعة للعبادة.
يأمر اللّه سبحانه وتعالى نبيّه أن يداوم على ذكر اللّه بالتسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن ، فلا يشغله عن ذلك شاغل في ليله ولا نهاره ، وأن يجعل همّه كله في إرضاء ربه ، ويجرد نفسه عن التعلق بغيره ، ويستغرق في مراقبته في كل ما يأتي وما يذر من الأعمال.
وليس المراد أن ينقطع حتى عن أعمال النهار ، ويعكف على الذكر والعبادة ، فإنّه يتنافى مع قوله تعالى في الآية السابقة : إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) بل المراد التنبيه إلى أنّه ينبغي ألا يشغله السبح في أعمال النهار عن ذكر اللّه.
هذا وإنما قيل : تَبْتِيلًا ولم يقل : تبتلا ، حتى يتفق مع الفعل قبله ، مراعاة للفواصل ، وللدلالة على أنّ التبتل والانقطاع يحتاج إلى عمل اختياري منه صلّى اللّه عليه وسلّم ، بأن يجرّد نفسه عن التعلق بغير اللّه تعالى ، ويحصر همه في مراقبته جلّ شأنه ، فيحصل التبتل الذي هو أثر لذلك. وقد يقال : فلما ذا لم يقل : وتبتل إليه تبتيلا حتى يوافق الفعل مصدره؟
والجواب : إنّ ذلك للإشارة إلى أنّ المقصود الأهم إنما هو حصول ذلك الأثر ، وهو التبتل.
قال اللّه تعالى : إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى(1/818)
ص : 819
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
المراد من القيام هو ما تقدّم في أول السورة ، وهو صلاة التهجد على ما عرفت. وكلمة أَدْنى من الدنو ، وهو القرب ، فهي في الأصل بمعنى أقرب ، تقول :
رأيت محمّدا في الدرس أدنى التلاميذ من الأستاذ ، أي أنه يجلس في أقرب الأمكنة إليه ، لكنّها استعملت في الآية بمعنى الأقل ، على طريق المجاز المرسل ، لأنه إذا قربت المسافة بين الشيئين كانت الأحيان بينهما قليلة.
قرأ الجمهور : وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب عطفا على أَدْنى لأنّه ظرف أو مفعول فيكون المعنى : إنّ اللّه قد علم أنّك كنت تقوم من الليل للصلاة على هذه الأوجه ، فتارة تقوم أقلّ من ثلثيه ، وأخرى تقوم نصفه ، وثالثة تقوم ثلثه ، وهذه القراءة تدلّ على أنّ عمله صلّى اللّه عليه وسلّم وعمل الصحابة معه كان وفق المأمور به في أول السورة ، فإنّه إذا قام أقلّ من الثلثين فقد حقّق الزيادة على النصف ، وإذا قام الثلث ، فقد صدق أنّه نقص عن النصف قليلا. والنصف مطابق للنصف.
وحينئذ لا تكون هناك مخالفة ، لا بطريق الاختيار ، ولا بطريق الاضطرار. ويكون التخفيف عنهم بسبب أنّهم - كما علم اللّه - لا يطيقون المواظبة على القيام بالمأمور به ، إذ لا يمكنهم تقدير الليل ، ولا يستطيعون ضبط ساعاته ، فإذا حرصوا على الوفاء بالمطلوب اضطروا أن يأخذوا بأكبر المقادير وأوسعها ، وفي ذلك مشقة زائدة.
وقرأ نافع : نِصْفَهُ وثُلُثَهُ بالجر ، عطفا على (ثلثيه) فيكون المعنى : إنّ اللّه علم أنك تقوم أقل من الثلثين مرّة ، وأقلّ من النصف مرّة ، وأقلّ من الثلث مرّة ثالثة.
وظاهر أنّ ما دون الثلث لا يوافق المأمور به في أول السورة ، وهو أن ينقص من النصف مقدار قليل ، فإنّه لم يجر عرف الكلام أن يقال لما دون الثلث - في معرض التقدير بمثل هذه المقادير - إنه أقل من النصف ، كما لا يقال لأمر حدث قبيل طلوع الفجر مثلا : إنه حصل بعد العشاء.
على أنّ ما دون الثلث قد جاء في الآية التي معنا مقابلا لما دون النصف ، إذ الأحوال الثلاثة هي : القيام أقل من الثلثين ، وأقل من النصف ، وأقل من الثلث ، فيتعين أن يكون قيام ما دون الثلث شيئا غير قيام ما دون النصف وحينئذ لم يأت عملهم في جميع الحالات موافقا للأمر في أول السورة ، إذ قيام ما دون الثلث لا يكون امتثالا للأمر بقيام النصف إلا القليل. لكنّ ذلك لما لم يكن عن اختيار وقصد ، (1/819)
ص : 820
بل كان عن محض الضرورة ، بسبب أنهم لم يمكنهم ضبط مقادير الزمان مع عذر النوم لم يكن إثما ، وانتفت فيه المؤاخذة ، وعلى هذا يكون التخفيف عنهم بسبب هذه الضرورة ، وهي عدم قدرتهم على إحصاء الوقت وضبط ساعات الليل.
وبعد فلا تناقض بين القراءتين ، فإنّ الآية ليست حديثا عما أمروا به من القيام ، بل هي إخبار عن الواقع الذي كان يحصل منهم. وهم كانوا أحيانا يقومون ثلث الليل ، ويقومون نصفه ، ويقومون قريبا من ثلثيه ، وأحيانا يقومون أقلّ من ثلثه ، وأقلّ من نصفه ، ظنا منهم أنهم وفوا في قيامهم أقلّ من الثلث بالقدر المأمور به ، لعدم ضبط الزمن ، وتحديد مقاديره. فقراءة النصب توافق الحالات الأولى ، وقراءة الجرّ تنزّل على الحالات الثانية.
وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وهذا معطوف على الضمير المستكنّ في تَقُومُ وهو وإن كان ضمير رفع متصل ، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف ، والمعنى :
أنّ اللّه يعلم أنّه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك ، واتبعوا هداك.
وقد يقال : إنّ هذا يدلّ على أنّ قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة ، وهو خلاف ما تقرّر تفسيره في أول السورة ، ويخالف أيضا ما دلّت عليه الآثار المتقدمة هناك.
والجواب : أنه ليس في الآية ما يفيد أنّ الصحابة رضوان اللّه عليهم كانوا جميعا يصلّون مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة التهجد في جماعة واحدة ، فلعلّ بعضهم كان يقيمها في بيته. فلا ينافي ذلك فرضية القيام على الجميع.
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ الكلام هنا على الحصر والاختصاص ، أي أنّ اللّه هو وحده الذي يقدّر الليل والنهار ، يعلم مقاديرهما وأجزاءهما ، وما مضى من كلّ ، وما بقي على التعيين والتحديد.
وهذا الاختصاص - على ما يقول الزمخشري «1» - مستفاد من تقديم اسم الجلالة مبتدأ ، وبناء الفعل عليه.
أما غير الزمخشري فإنه ينكر عليه مذهبه هذا في الاختصاص ، إذ إنّه إذا قيل :
محمد يحفظ الدرس ، أو يتفقه على فلان ، لم يفد ذلك أنه هو وحده الذي يحفظ ويتفقه. فالحصر في الآية مستفاد من سياق الكلام ودلالة المقام.
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ إحصاء الأشياء عدّها ، والإحاطة بمقدارها ، ويصحّ أن يستعمل في القدرة على الفعل وإطاقته ، وكلّ من المعنيين سائغ في الآية.
__________
(1) انظر تفسير الكشاف للزمخشري (4/ 643).(1/820)
ص : 821
فعلى الأول : يكون الضمير المفعول في تُحْصُوهُ عائدا على مصدر مفهوم من يُقَدِّرُ في الجملة السابقة.
والمعنى عليه : علم اللّه أنكم لم تحصوا تقدير الليل والنهار ، ولن تستطيعوا ضبط ساعاتهما ، ولا معرفة ما فات من ذلك على التحديد ، ولا ما هو آت ، وأنكم إذا أخذتم دائما بالأحوط ضعفتم ، وشقّ عليكم الأمر ، ولذلك خفف اللّه عنكم في أمر القيام ، ورفع عنكم المقدار المحدد ، ورخّص لكم أن تقوموا مقدارا ما من الليل غير مقيّد بثلث ولا بغيره.
وعلى الثاني : يكون الضمير عائدا على القيام المفهوم من تَقُومُ.
والمعنى عليه : علم اللّه أنكم لن تحصوا قيام الليل ، أي لن تطيقوه ، ولن تستطيعوا المواظبة عليه مقدّرا بذلك المقدار ، ولذلك خفف عنكم.
فَتابَ عَلَيْكُمْ التوبة في الأصل معناها العود والرجوع. يقال : تاب العاصي إذا رجع إلى سبيل الطاعة ، ويقال : تاب اللّه عليه ، بمعنى عفا عنه ، وعاد عليه بالمغفرة ، فالتوبة في قوله تعالى : فَتابَ عَلَيْكُمْ يصحّ أن تكون بمعنى المغفرة ، أي غفر لكم ما كان عساه يفضي إلى مؤاخذتكم من عدم الوفاء بما أمرتم به ، إذ كنتم تقومون في بعض الأحوال أقل من ثلث الليل ، مع أنكم مأمورون أن تقوموا نصفه على الأقل ، لا تنقصون منه إلا قليلا.
وهذا - كما ترى - إنما يظهر على قراءة نافع ومن وافقه بجر (نصفه) و(ثلثه). أما على قراءة النصب فيكون معنى فَتابَ عَلَيْكُمْ عاد عليكم بالترخيص والتخفيف ، ورجع بكم من عسر إلى يسر ، ومن شدة إلى لين ، وليس هو من التوبة بمعنى المغفرة.
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ للعلماء في المراد بالقراءة هنا ثلاثة أقوال :
الأول : - قول من حمل القراءة على ظاهرها ، وقال : إن صلاة التهجد قد نسخت بهذا الأمر وصار المطلوب قراءة شيء من القرآن. ثم من هؤلاء من قال : إنّ الأمر بالقراءة للوجوب ، ومنهم من حمله على الندب.
القول الثاني : أن المراد بالقراءة الصلاة ، عبّر عنها لأنّها من أركانها ، كما يعبّر عنها بالقيام والركوع والسجود ، فيكون معنى : فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ صلوا ما تيسر لكم من الصلاة.
ويشهد لذلك سياق الآية ، وما سبق من الآثار التي تدل على أنّ آخر السورة نسخ أولها ، فصار الواجب قيام جزء ما من الليل ، ثم نسخ ذلك بفرض المكتوبات الخمس.
القول الثالث : - أن المراد قراءة القرآن في الصلاة عملا بدلالة اللفظ مع شهادة السياق وتلك الآثار.(1/821)
ص : 822
وقد تعلّق بعض الفقهاء بهذه الجملة : فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ يستدلون بها على أن المفروض من القراءة في الصلاة ليس سورة معينة ، بل ما يطلق عليه اسم القراءة من أي سورة.
وقبل أن نشرح وجه الدلالة على ذلك ، يلزم أن ننبهك إلى أنّ الاستدلال بها لا يستقيم على الوجه الأول من التفسير ، فإنّ المراد بالقراءة على هذا الوجه حقيقة التلاوة خارج الصلاة ، فلا تعلق لذلك بالموضوع.
وكذلك لا يستقيم على الوجه الثاني فإنّ القراءة عليه لم يرد بها معناها الحقيقي ، بل هي مجاز عن الصلاة كما عرفت ، فالتمسك بها إنما يستقيم على الوجه الثالث.
وذلك أنّه - بعد اتفاق الأئمة على أنّ القراءة في الصلاة من فرائضها - يقول الحنفية : إنّ الفرض مطلق قراءة آية أو ثلاث آيات - على اختلاف القولين بين الإمام وصاحبيه - من أيّ سورة من القرآن ، وأنّ الفاتحة غير متعينة للفرضية ، فإذا صلّى بها أو بغيرها فقد حصل ركن القراءة. وذلك لأنّ قوله تعالى : فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أمر بمطلق القراءة من غير تقييد بفاتحة ولا بغيرها ، ومقتضى هذا الأمر وجوب تحصيل المطلق في أي فرد من أفراده.
قالوا : ويشهد لذلك :
1 -
ما في «الصحيحين» «1» عن أبي هريرة أنّ رجلا دخل المسجد فصلّى ، ثم جاء فسلّم على النبيّ عليه الصلاة والسلام ، فردّ عليه النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ ، فصلّى ، ثم جاء فأمره بالرجوع ، فعل ذلك ثلاث مرات ، فقال :
والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره. فقال عليه الصلاة والسلام : «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة ، فكبّر ، ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئنّ راكعا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن قائما ، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ، ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها».
علمه النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كيفية الصلاة ، وبين له أركانها وشرائطها ، ولم يعيّن عليه في ذلك قراءة الفاتحة ، بل
قال له : «اقرأ ما تيسر معك من القرآن».
فلو كانت الفاتحة بخصوصها ركنا لعيّنها له ، وعلمه إياها إن كان يجهلها ، أو وكل به من يعلمه ذلك.
2 - وما روى أبو داود «2» عن أبي هريرة من قول النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب»
فإنّه ظاهر في عدم تعيين الفاتحة.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه أبو داود في سننه كتاب الصلاة ، باب القراءة حديث رقم (819).(1/822)
ص : 823
3 - أما غير الحنفية فإنّهم يقولون : إنّ قراءة الفاتحة على التعيين فرض لا تجزئ الصلاة بتركها ، أو بترك حرف منها ، ويقولون : إن الآية - وإن كانت مطلقة - قد قيدتها الأحاديث الصحيحة التي تدلّ على أنّ خصوص الفاتحة ركن. فمن ذلك :
1 -
ما رواه السبعة «1» عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
قال : النفي هنا يدلّ على انعدام الصلاة الشرعية ، لعدم القراءة فيها بالفاتحة ، ولا يكون عدم قراءة الفاتحة موجبا لانعدام الصلاة إلا إذا كانت الفاتحة من فرائضها.
قالوا : ولا يرد على هذا الدليل أنّه مشترك الدلالة وأنّه كما يصحّ أن يقدّر فيه متعلق الجار والمجرور الصحة حتى يكون المعنى : لا صلاة صحيحة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، كذلك يصحّ تقديره بالكمال ، فيكون المعنى : لا صلاة كاملة إلخ ومثل هذا لا يصح به الاستدلال.
قالوا : لا يرد هذا : لأن الأصل في مثل هذا المتعلق أن يقدّر كونا عاما ، لعدم القرينة الدالة على الخصوص. فالمعنى : لا صلاة كائنة أو موجودة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وعدم الوجود شرعا هو عدم الصحة ، بل أقوى منه. ولو سلّم أنّه كون خاص ، فتقدير الصحة أولى ، لأن النفي متوجه في لفظ الحديث إلى ذات الصلاة ، وإذا كانت الذوات لا يصحّ أن يتوجه عليها النفي ، لأنّه من خواص النسب ، وتعذّر بذلك حمل اللفظ على حقيقته كان الحمل على أقرب المجاورين أولى ، وذلك بتقدير الصحة ، فإنّ ما ليس بصحيح أقرب إلى المعدوم مما ليس بكامل.
2 - وما رواه الدار قطني «2» عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال : «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
فإنّ عدم الإجزاء ظاهر جدا في عدم الصحة.
3 - وما رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة «3» أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج»
الخداج بالكسر : النقصان مأخوذ من خداج الناقة ، وهو إلقاؤها ولدها قبل أوانه.
4 - عمل النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فإنّه عليه الصلاة والسلام قد واظب على قراءة الفاتحة في كل صلاة من غير ترك ، فلو لا أنّها ركن لتركها ولو مرة تعليما وتشريعا.
هذه أدلة الفريقين تجدها في ظاهرها متعارضة ، فكان لا بدّ من النظر فيها.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه الدار قطني في سننه (1/ 322). [.....]
(3) سبق تخريجه.(1/823)
ص : 824
وينبغي أن تعلم أولا : أنه لا سبيل إلى دعوى النسخ في شيء من تلك الأحاديث المتعارضة ، لأنه لم يوقف فيها على تمييز السابق من اللاحق ، فلا بدّ إذا من أحد أمرين : إما الجمع بينهما ، وإما ترجيح بعضها على بعض. على أنه متى أمكن أن يجمع بينها فلا ينبغي العدول عنه.
واعلم أيضا أنه لا مجال للمناقشة في أنّ قوله تعالى : فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ من قبيل المطلق ، وأنّ من يجادل في هذا فهو يحاول أن يلوي الأساليب العربية عن استقامتها. كما أنّ قوله صلّى اللّه عليه وسلّم للرجل المسيء صلاته : «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» من قبيل المطلق أيضا.
وعلى هذا أجاب الحنفية عما استدل به مخالفوهم من الشافعية وغيرهم بما يأتي :
قالوا على الدليل الرابع : إنّ عمل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومواظبته على قراءة الفاتحة من غير ترك لا يدل على الفرضية ، فإنّه عليه الصلاة والسلام كما كان يواظب على الفرائض ، كان يواظب على الواجبات التي هي أدنى منها ، وليس ترك الواجب في بعض الأحيان طريقا متعينا للتمييز بينه وبين الفرض ، فإنّ التمييز كما يكون بالفعل يكون بالقول ، كأن يقول لهم : إن ترك هذا لا يبطل الصلاة ، ولكن لا يجوز أن تتركوه.
وأجابوا عن حديث أبي هريرة - وهو الدليل الثالث - بأنّ النقصان أعمّ من الفساد ، فقد تكون الصلاة ناقصة مع الصحة بأن تكون مستجمعة شروطها وفرائضها وتخلّف شيء من الواجبات ، أو السنن فيها فلضرورة الجمع بين الأدلة المتعارضة يحمل النقصان على غير الفاحش الذي يفسد الصلاة ، وهو محمل غير بعيد.
وأجابوا عن الدليل الثاني : وهو ما رواه الدار قطني عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال : «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» بأنّ رواية الجماعة عنه أنّه عليه الصلاة والسلام قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» أرجح من تلك الرواية ، لأنه لا شك أنّ ما اتفق عليه الجماعة أصحّ مما تفرّد به غيرهم ولأنّ كلتا الروايتين - وإن كانت معارضة بظاهرها لإطلاق القرآن - فأقرب الروايتين إليه رواية الجماعة ، وأيضا فإنّه يصحّ أن تكون رواية الدار قطني بالمعنى وأنّ الراوي فهم من «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» عدم الإجزاء. فعبّر بلفظ : «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».(1/824)
ص : 825 فلم يبق إلا أن يجمع بين هذه وبين قوله تعالى : فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وذلك أن الرواية على كل حال حديث آحاد لا تناهض القرآن ، ولا تقوى على نسخه ، فلو حملنا
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
على نفي الصحة لزم أن يكون قاضيا على الكتاب ، ناسخا لحكمه ، لأنّ مقتضى الكتاب صحة الصلاة بكل قراءة ، ولو بغير فاتحة الكتاب ، ومقتضى الحديث على ذلك المحمل عدم صحتها ، إلا أن يقرأ فيها بالفاتحة ، وإذا كان الشافعي رحمه اللّه لا يرى نسخ الكتاب حتى بالحديث المتواتر ، كما نصّ على ذلك في «الرسالة» فيلزم ألا يجيز نسخه برواية الآحاد من باب أولى.
وإذا كانت العبرة في الأمور بمعانيها وحقائقها ، لا بأسمائها وألقابها فتغيير حكم الآية بذلك الحديث - على النحو الذي يقول به الشافعية ومن وافقهم - تغيير لا يختلف في شيء عن تغيير النسخ وسمّه بعد ذلك بما شئت.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل الحديث على نفي الكمال ، بدليل نصّ الكتاب ، وما جاء في حديث المسيء صلاته ، ويكون
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
نظير
قوله عليه الصلاة والسلام : «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»
وقوله : «لا صلاة للعبد الآبق»
فإنّ القرينة الدالة على أنّ المراد نفي الكمال متحققة في الجميع ، وعلى هذا يتم العمل بالقرآن والحديث ، إذ يكون الأول مفيدا أنّ مطلق القراءة فرض في الصلاة.
والثاني يفيد أنّ قراءة الفاتحة من الواجبات التي هي دون الفرائض.
وبعد فالعلماء مختلفون أيضا في محلّ القراءة المفروضة :
فالحنفية «1» القائلون بأن الفرض مطلق القراءة يقولون : إنها فرض في ركعتين من الصلوات الرباعية.
أمّا القائلون بأنّ الفرض خصوص الفاتحة ، فمنهم من يقول بفرضيتها في كل ركعة من الصلاة كما هو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك.
ومنهم من يقول بفرضيتها في ركعتين كما هي الرواية الأخرى.
ولا نرى أن نعرض هنا لهذه التفاصيل ، ومآخذ الأئمة فيها ، فإنّ مرجع ذلك كله الحديث وكتب الفروع.
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
الضرب في الأرض : السير فيها ، والسفر للتجارة والتعيش.
__________
(1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1 - 2/ 58).(1/825)
ص : 826
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى قال بعض المفسرين : هذه الجملة مستأنفة لبيان حكمة أخرى لتخفيف قيام الليل بعد الحكمة الأولى ، وهي عدم القدرة على إحصاء الوقت وتقدير ساعاته ، أي علم أنه سيكون منكم مرضى إلخ كما علم عسر تقدير الأوقات عليكم. ولكنّك ترى أنه كان الظاهر على هذا أن يؤتى بالجملة الثانية عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى . موصولة بالأولى غير مفصولة.
وظاهر كلام الإمام الرازي «1» أن قوله تعالى : عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى هو الذي يبيّن حكمة النسخ ، وأنه جواب لسؤال تقديري ، فكأنه قيل : لم نسخ اللّه ذلك؟
فقال : لأنه علم تعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض والمجاهدين في سبيل اللّه.
وهذا التوجيه يدل على أنّ قوله تعالى فيما سبق عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ لا مدخل له في النسخ والتخفيف ، مع أنّ صريح الآية يخالفه ، إذ قد رتب عليه الترخيص بالفاء الدالة على التسبب ، وذلك هو قوله تعالى : فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ.
فالظاهر أنّ قوله تعالى : عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى قد جاء مجيء التفصيل بعد الإجمال ، فحكمة النسخ واحدة : هي رفع المشقة المترتبة على وجوب القيام الطويل في الليل. أجملت هذه الحكمة في قوله تعالى : عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ثم فصلت في قوله جلّ شأنه : عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إلخ. فليست هذه لبيان حكمة ثانية للنسخ كما أنها ليست مستقلة بالبيان عن ذلك الإجمال.
بيّن اللّه تعالى بذلك ثلاثة أشياء ، كلها مقتض للتخفيف على الناس في قيام الليل :
الأول : المرض. فالمريض يصعب عليه طول التهجد ، فإنّ السهر الكثير قد يضاعف علته ويزيد آلامه.
الثاني : الضرب في الأرض للتجارة.
والثالث : الجهاد في سبيل اللّه.
فإنّ الضاربين للتجارة وابتغاء الرزق ، والمجاهدين في سبيل اللّه مشتغلون في نهارهم بتلك الأعمال الشديدة ، فلو لم يناموا في الليل نوما يستعيدون به ما فقدوه من قوتهم لضعفوا ، وكلّوا ، وانقطعوا عن كثير من جلائل الأعمال.
قال المفسرون : إنّ في قرن الضرب في الأرض للتجارة بالجهاد في سبيل اللّه إشارة إلى أنّ الساعين في معايشهم يقاربون في الأجر المجاهدين.
__________
(1) انظر تفسير مفاتيح الغيب المعروف أيضا بالتفسير الكبير للرازي (30/ 187).(1/826)
ص : 827
روى البيهقي وسعيد بن منصور عن عمر رضي اللّه عنه قال : ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل اللّه أحبّ إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل اللّه تعالى ، وتلا هذه الآية وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ إلخ.
وعن ابن مسعود أنه قال : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند اللّه بمنزلة الشهداء ، ثم قرأ : وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ.
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أعيد هنا هذا الأمر لتوكيد الرخصة وتقديرها ، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ اختلف المفسرون في المراد بالصلاة والزكاة هنا ، فمنهم من حمل الصلاة على المكتوبات الخمس ، والزكاة على زكاة الفطر ، قال : لأن الآية مكية ، وزكاة المال لم تفرض إلا في المدينة.
وهذا القول مردود من وجهين :
الأول : أنّ زكاة الفطر لم تجب إلا بعد الهجرة.
الثاني : أنّ الراجح في زكاة المال أنّها فرضت في مكة. غير أنه لم يعيّن فيها نصاب خاصّ ، ولم تحدد الأنواع التي تجب فيها الزكاة ولا القدر الواجب صرفه للفقراء ، إلا في المدينة ، فكان الواجب أول الأمر أن يصرف للفقير شيء ما من المال ، ويدل لذلك أنّ الزكاة وردت في آيات كثيرة مكية ، كما في صدر سورة المؤمنون.
على أنّ هذا التفسير لا يتم في الصلاة إلا على القول بأنّ هذه الآية قد تأخّر نزولها عن صدر السورة بعشر سنين أو أكثر ، حتى فرضت المكتوبات ليلة المعراج.
وبعضهم : حمل الصلاة على المكتوبات أيضا والزكاة على زكاة المال ، وفهم كذلك أنّ زكاة المال فرضت في المدينة ، فالتزم القول بأنّ هذه الآية مدنية.
وهو مردود أيضا بما سبق ، وبأنّ الراجح - كما علمت أول الكلام على صدر سورة المزمل - أنّ هذه السورة برمتها مكية.
وبعضهم حمل كلّا من الصلاة والزكاة على التطوع قال : لأنّ سورة المزمل من أوائل ما نزل من القرآن ، والمكتوبات الخمس لم تفرض إلا ليلة المعراج في السنة الثانية عشرة من البعثة ، وقال في الزكاة ما قاله صاحب الوجه الأول.
والحق الذي يتمشّى مع الراجح في تاريخ شرعية الزكاة ، ويتفق مع ما تقدم لك(1/827)
ص : 828
عن ابن عباس وعائشة رضي اللّه عنهما من أنّ آخر سورة المزمل قد نزل بعد صدرها بحول ، أو قريب من الحول ، هو أنّ الأمر في قوله تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ على ظاهره مفيد للوجوب ، وتحمل الصلاة على ما كان مفروضا في النهار أول الأمر :
(ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي) وتحمل الزكاة على المفروضة أيضا ، وهي زكاة المال التي فرضت في السنة الخامسة من البعثة ، على ما هو الراجح ، وبذلك يتمّ القول ، ولا يكون هناك إشكال.
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً في «القاموس» : والقرض (بالفتح) ويكسر : ما سلّفت من إساءة أو إحسان ، وما تعطيه لتقضاه. وفيه أيضا : وأقرضه : أعطاه قرضا.
وحينئذ يكون الكلام من باب المجاز ، إذ المراد من إقراض اللّه إعطاء الفقراء والمساكين ما يعينهم ، ويسد خلّتهم ، فاستعمل فيه اللفظ الذي يدلّ على إعطاء اللّه جلّ وعلا ، وعبّر فيه بالإقراض ، للدلالة على أنّ ثوابه مضمون ، وجزاءه لا شكّ في تحققه ، كما أنّ القرض لصاحبه لا شكّ في حصوله إذا كان المستقرض وفيا كريما.
قال بعض المفسرين : إن المراد بالقرض الصدقات المندوبة أمر بها الأمر بالزكاة المفروضة ، إذ العطف يقتضي المغايرة.
وحمله بعض آخر على نفس الزكاة السابقة ، وقال : إنّ حكمة العطف إرادة الحث والتشجيع على أداء الزكاة من حيث إنها معتبرة كالقرض ، لا يضيع معروفها ، ولا ينقص شيء من ثوابها ، وإنّ معنى وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أدوا الزكاة المفروضة عليكم على أحسن الوجوه ، بأن تختاروها من أطيب الأموال وأنفعها للفقراء ، وتخلصوا في ذلك النية ، وترجوا به مرضاة اللّه. ولعلّ الوجه الأول هو الأرجح.
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً.
خَيْراً هو المفعول الثاني لتجدوا ، والضمير المنفصل توكيد للمفعول الأول ، وهو - وإن كان ضمير رفع - قد وقع موقع ضمير النصب. ويصحّ أن يكون ضمير فصل.
المعنى : أنّ أيّ عمل تقدمونه في الدنيا ، تبتغون به منفعتكم في الآخرة ، سواء أكان متعلقا بالمال ، أم بغيره ، فإنكم تلقون به عند اللّه جزاء أحسن منه وأكثر نفعا.
وفسر ابن عباس المفضّل عليه بالوصية ، فقد روي عنه أنه يقول : تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت.
وقيل : إن المراد أنه خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا ، إذ الفرق عظيم بين المتاع الدنيوي والنعيم الجزيل الأخروي.(1/828)
ص : 829
روى البخاري «1» عن عبد اللّه بن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «أيّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟» قالوا : يا رسول اللّه ما منّا من أحد إلا ماله أحبّ إليه! قال :
«إنما ماله ما قدّم ، ومال وارثه ما أخّر».
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ختم اللّه جلّ شأنه القول بطلب الاستغفار مما عسى أن يقع في الأعمال من الخلل أو التقصير ، ووعد سبحانه بالرحمة والمغفرة لمن يلجأ إلى جنابه الكريم ، إذ أخبر بأنّه عظيم المغفرة واسع الرحمة.
تم الكتاب بعونه تعالى
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 226) ، 81 - كتاب الرقائق ، 12 - باب ما قدم من ماله حديث رقم (6442).(1/829)