ج 5 ، ص : 463
ما أنتم لها بأهل ولا ترجى منكم لأنها لا تكون إلا «لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» إيمانا صادقا وإيقانا خالصا عن نية حسنة «وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (21) في السراء والضراء عن عقيدة صالحة لا المنافقين الذين يؤمنون بألسنتهم فقط ولا يذكرون اللّه إلا قليلا رياء وسمعة.
وبعد أن وصف اللّه المنافقين بما وقع منهم وبما هم عليه نعت المؤمنين بما سيصدر منهم فقال جل قوله «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» من النصر والظفر قد آن أوانه «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» بما وعدا وهذا بمقابلة قول المنافقين ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غرورا «وَما زادَهُمْ» مجيء الأحزاب وإحاطتهم بهم وتثبيط المنافقين هزيمتهم «إِلَّا إِيماناً» باللّه ورسوله «وَتَسْلِيماً» (22) لأمرهما وانتظارا لوعدهما.
قال تعالى «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» من الثبات للقاء العدو عكس المنافقين إذ زادهم اللقاء جبنا وإنكارا لما وعدهم اللّه ورسوله وتكذيبا وجحودا ، أما هؤلاء الكرام «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ» فمات شهيدا في واقعة أحد المارة وفاء بنذره وعهده وميثاقه على الاستمرار في القتال حتى النهاية «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ» الشهادة ، ويتوقعها باشتياق للفوز بما عند اللّه من الكرامة للشهداء المار ذكرهم في الآية 169 من آل عمران والآية 157 من البقرة المارتين ، والأوبة بالسعادة «وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» (23) ما في وعدهم بل ثبتوا عليه وقاموا به ووقوه كاملا «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ» إذ لا حتم عليه في تعذيب الكافر ولا جزم عليه في إثابة المؤمن «أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» بأن يشرح صدورهم للإيمان فيدخلهم الجنة بفضله «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولن يزال «غَفُوراً» لمن يشاء من عباده «رَحِيماً» (24) بمن شاء منهم لا قيد عليه في شيء أبدا «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ» وحنقهم وقبض صدورهم وضيق ذرعهم وانكماش وجوههم واكفهرار ألوانهم «لَمْ يَنالُوا خَيْراً» نصرا ولا ظفرا ولا غنيمة من المؤمنين البتة بل نكسوا على رؤوسهم وردوا على أعقابهم مدحورين «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» بتسليط الريح العظيمة التي لم تقاوم لأنها من غضب اللّه أعاذنا اللّه منه والجنود التي أرسلها اللّه على الأحزاب الغير مرثية لا نعلمها(5/463)
ج 5 ، ص : 464
نحن ، وإنما يعلمها الذي أرسلها وهربوا غاضبين بعضهم على بعض لما وقع بينهم من الخلاف وسوء الظن الآتي ذكره في القصة «وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا» لا يقاوم «عَزِيزاً» (25) لا يغلب ولهذا شتتهم وطردهم دون قتال.
مطلب في غزوة الخندق وما سلط فيها على الأحزاب وهزيمتهم
وخلاصة هذه القصة قالوا إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما أمر بإجلاء بني النضير من ديارهم على أثر نقضهم العهد كما ستأتي قصتهم مفصلة أول سورة الحشر الآتية إن شاء اللّه ، وإنما لم نذكرها في موقعها لأنها كانت قبل واقعة الأحزاب كما أشرنا إليه في الآية (7) لأن اللّه تعالى نوه بها في سورة الحشر لئلا يحصل التكرار الذي لا زلنا نتحاشاه ، اتفق سلام بن الحقيق وحيي بن اخطب وكنانة بن الربيع وأبو عمّار الوائلي مع أبي سفيان من قريش وعيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عرب المري عن غطفان ومسعر بن رفيلة عن أشجع وحزّبوا الأحزاب وغزوا المدينة في عشرة آلاف ، وتوثقوا في هذه المعاهدة على أن يستأصلوا محمدا وأصحابه ، فلما بلغ الخبر حضرة الرسول أشار إلى سلمان الفارسي يحفر الخندق حول المدينة للحصار فيها ، فقبل رأيه وقسم كل أربعين ذراعا على عشرة رجال وطلب المهاجرون أن يكون سلمان معهم ، والأنصار كذلك ، ولما لم يكن من الطرفين قال صلّى اللّه عليه وسلم سلمان منا أهل البيت ، فكان مع المهاجرين ، لأن حضرة الرسول منهم ، قال سلمان وبعد أن باشر كل يحفر سهمه ظهرت صخرة مروة صمّاء أعيتهم ، فاستنجدوا برسول اللّه فأخذ معول سلمان وضربها ثلاث ضربات في كل ضربة يبرق منها بريق يضيء ما بين لابتي المدينة ويكبر النبي والمسلمون تكبير فتح حتى فتتها ، فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط ، فقال للقوم أرأيتم ما يقول سلمان ، قالوا نعم ، وقال سلمان إنه رأى في البرقة الأولى أن قصور الحيرة أضاءت له ومدائن كسرى ، وفي الثانية قصور قيصر من أرض الروم ، وفي الثالثة قصور صنعاء من اليمن ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم أخبرني جبريل أن أمتي ستظهر عليها الدول الثلاث المذكورة فاستبشر المسلمون وحمدوا اللّه تعالى ، قال محمد بن اسحق لما فرغ من
الخندق وصلت قريش وغطفان ومن تابعهم فنزلت بجنب أحد ، وخرج رسول اللّه والمسلمون ونزلوا السلع وأمر(5/464)
ج 5 ، ص : 465
بالنساء والزراري أن يرفعوا إلى الأطام ، وذهب حيي بن اخطب إلى كعب بن أسعد القرظي وأفنعه بنقض العهد مع رسول اللّه على أنه وقريشا إذا لم يستأصلوا محمدا واتباعه أن يكون معه ، فرضي وبلغ حضرة الرسول ذلك فأرسل سعد بن معاذ يستقصي خبر نقض العهد ، فذهب فوجده كما سمع ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم اللّه أكبر ابشروا يا معشر المسلمين بالنصر والغلبة والظفر ، ثم لما رأوا كثرة الأعداء وانضمام المعاهدين إليهم واحاطتهم بهم اشتد الخوف ، إذ ان العدو تقرب منهم وحاصرهم من فوق ومن تحت كما ذكر اللّه ولو لا الخندق لا قتحموهم ، ولكن من كان اللّه وليه لا يتسلط عليه أحد.
ثم نجم النفاق وجاهر به معقب بن بشير أخو بني عمرو بن عوف قائلا أن محمدا يعدنا بكسرى وقيصر واليمن وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ، يندد بما قاله سلمان رضي اللّه عنه آنفا من رؤيته في البريق وما تفضل به حضرة الرسول من أن أمته ستظهر عليهم.
وقال اويس بن قبطي من بني حارثة أن بيوتنا عورة ، فأنزل اللّه فيهما (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الآيتين المارتين ، ودام الحصار بضعا وعشرين ليلة ، وعظم البلاء على المسلمين واختلّت داخليتهم بالمنافقين الذين يلقون بالأراجيف بين الناس ويعظمون الأعداء ويقللون المؤمنين ويعرضون بوعد اللّه ورسوله ، ولما رأى حضرة الرسول ذلك أراد أن يعطي ثلث عمارة المدينة إلى قائدي غطفان عيينة والحارث ويرجعا عن مؤازرة قريش إزالة لما رأى من ضجر المؤمنين وخوفهم واستبطائهم نصر اللّه وقد ذلوا من عدوهم وإذا ذل العرب ذل الإسلام كله ، وقد خاف صلّى اللّه عليه وسلم من التفرقة الناشئة عن احساسهم بالضعف والاختلاف الذي يؤدي إلى التباغض والتحاسد والاستنثار ، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فقالا له إذا كان اللّه أمرك بهذا فلا بد منه ، وإلا فقبل أن نتشرف بالإسلام ما كانوا يطمعون بشجرة واحدة فكيف بعد تشرفنا به واللّه ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لا واللّه لما يأمرني اللّه وإنما وعدني النصر والظفر إلا أني رأيت العرب رمتكم عن قوس
واحد وقد رأيتم ما فعل المنافقون ، فأردت كسر شوكتهم ، واجمعوا على مواصلة الحصار وعدم البحث فيما ذكره حضرة الرسول ، ثم أن عمرو بن ود العامري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن وهب ت (30)(5/465)
ج 5 ، ص : 466
ونوفل بن عبد اللّه ومرداس تلبسوا للقتال وهيجوا غيرهم وأرادوا اقتحام المدينة ، فلما رأوا الخندق قالوا هذه مكيدة لم تعرفها العرب ، وبعد أن تراشقوا بالنبل اقتحموا الخندق بخيولهم ، فقام صلّى اللّه عليه وسلم ونفر من المسلمين وقال علي لعمرو انك كنت تعاهد اللّه أن لا يدعوك رجل إلى خصلتين إلا أخذت إحداهما ، قال أجل ، قال إني أدعوك إلى الإسلام ، قال لا ، قال أدعوك للنزال ، قال يا ابن أخي لا أحب قتلك ، فقال علي واللّه اني أحب قتلك ، فقال إذا أنازلك ، وعظم ذلك على المسلمين لما يعلمون من شدة بطش عدو اللّه عمرو وخوفهم على عليّ ، فبرز له رضي اللّه عنه وقالوا خرج الإسلام كله إلى الكفر كله ، فوفّق اللّه عليا وقتل عمرا ومعه رجلان قتلهما أيضا وهزم بقية أصحابه ، وبقي جسد نوفل بن عبد اللّه بالخندق ، فسأل قومه الرسول أن يبيعهم جثته ، فسمح لهم بها مجانا في ساعة هم أحوج فيها لكل شيء ، ولا جرم فهو معدن السماح وأصل الفضل ، وجرح سعد بن معاذ وصار يقول والحربة في يده لا بأس بالموت إذا حان الأجل ، وقال اللهم إن أبقيت شيئا من عرب قريش فأبقني أجاهد من آذى رسولك ، وإلا فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقر عيني في قريظة ، قال محمد بن اسحق كانت صفية بنت عبد المطلب في قارع حصن حسان بن ثابت وكان مع النساء والصبيان ، قالت فمرّ بنا يهودي ، فقلت يا حسان لعله يدل على عورتنا فدونك اقتله ، قال لقد عرفت ما أنا لذلك ، قالت فاعتمرت وأخذت عمودا فنزلت فقتلته ، قالت فقلت يا حسان تعال فاسلبه لأنه رجل ، قال مالي بسلبه حاجة ، وذلك لشدة جبنه خشي أن يحيا أن يكون به رمق حياة فيقاومه ، وما أشبه جبن حسان بجبن أبي دلامة إذ يقول :
وفي الهيجاء ما جرّبت نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال
وقال آخر في غيره :
إذا صوت العصفور طار فؤاده وليث شديد الناب عند الثرائد
ثم تظاهرت الأعداء في العداء واشتد الخوف وكثر الرعب والمنافقون يرجفون في الناس ويتسللون ورسول اللّه ينتظر وعد ربه عز وجل ، فجاء نعيم بن مسعود ابن عامر من بني غطفان ، وهذا غير نعيم المار ذكره في الآية 173 من سورة(5/466)
ج 5 ، ص : 467
آل عمران المارة وقد حان الأجل المقدر لنصرة الرسول وإجابة طلبه وتنفيذ وعده فسخر نعيما المذكور بما ألقاه اللّه في قلبه ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا ، وقال يا رسول اللّه أسلمت وقومي لا يعلمون ، فأمرني بما شئت ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم خذّل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة ، فذهب إلى بني قريظة قال لهم تعرفون ودي لكم خاصة ، قالوا لا نتهمك ، قال ولكن اكتموا علي قولي ، قالوا نعم ، قال إن قريشا وغطفان الذين ظاهرتموهم على قتال محمد ليسوا كهيئتكم لأن البلد بلدكم فيه أموالكم ونساؤكم لا يمكنكم النحول منه إلى غيره ، وإن قريشا وغطفان إن لم يصيبوا شيئا لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين هذا الرجل ولا طاقة لكم به ، فالرأي أن لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن من أشرافهم على أن يقاتلوا معكم حتى تناجزوا محمدا ، قالوا رأي نافع ، ثم تركهم وذهب ليلته إلى قريش فقال لهم قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا ، وقد بلغني أمر رأيت أن أنصحكم به فاكتموا عليّ ، قالوا نفعل ، قال إن معشر يهود قريظة ندموا وأرسلوا إلى محمد بأنه هل يرضيك أن نأخذ رجالا من أشراف قريش وغطفان ونرسلهم لك ، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي ، فرضي منهم ذلك ، فاجمعوا أمركم وانظروا ما ترون ، فقد أعذر من أنذر ، وقد أديت ما علي لكم ، ثم تركهم وذهب إلى غطفان وقال لهم أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ، قالوا صدقت ، قال فاكتموا علي ، قالوا نفعل ، فقال لهم ما قال لقريش وحذرهم أن يبعثوا رهائن إلى اليهود ، فلما أيقنوا ما أرشدهم إليه نعيم ونصحهم به بعث أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر
من قريش وغطفان يقولون لهم إنا لسنا بدار إقامة ، وقد هلك الخف والحافر ، فاستعدوا للقتال حتى نتاجز محمدا ، فارسلوا إليهم أن اليوم سبت لا يعمل فيه شيء على أنا لا نقاتل محمدا بعده حتى تعطونا رهائن من كبار رجالكم لأننا نخشى ان فرستكم الحرب تسيروا لبلادكم وتتركونا ، فرجع الرسل وأخبروا قومهم ، فقالوا كلهم إن ما أخبر به نعيم لحق ، فأرسلوا خبرا لبني قريظة انا لا نرسل لكم أحدا فإن كنتم تريدون القتال قاتلوا وإلا فانظروا ما ترون ، فقال بنو قريظة بعضهم لبعض إن ما ذكره نعيم لصحيح وهو حق ونصح ، وخذل(5/467)
ج 5 ، ص : 468
اللّه بينهم بما ألهم نعيما ، وأرسل عليهم ريحا شديدة ، وكانت الليالي شاتية باردة جدا ، فجعلت تكفأ القدور وتطرح الأواني ، وأرسل اللّه عليهم جنودا من جنوده تقيم القاعد وتقعد القائم فاختل نظامهم وتفرقت آراءهم ، وأوقع اللّه في قلوبهم الرعب والحيرة ، ولما بلغ رسول اللّه ما فعل نعيم وما وقع بينهم من التخاذل وسوء ظن بعضهم ببعض أرسل حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم وقال له لا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي ودعى له ، قال حذيفة فأخذت سهمي وانطلقت ، فإذا الريح وجنود اللّه التي لم تر تفعل بهم فعلا عجيبا.
فلا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا خباء ، وإذا أبو سفيان قاعدا ، ولو لا وصية رسول اللّه لقتلته ، وإذا هو قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ، فأخذت أنا بيد رجل ، فقال لي من أنت قلت سبحان اللّه أما تعرفني ؟ فسكت ، فقال أبو سفيان يا قريش ما أصبحتم بدار إقامة وقد أخلفتنا بنو قريظة وهلك الخف والحافر وألقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا إني مرتحل ، وقام وركب جمله وهو معقول فأطلق عقاله وهو راكب ، فسمعت غطفان بما فعلت قريش ففعلت مثلها ، وثاروا ثورة رجل واحد راجعين إلى بلادهم ، فرجعت أبشّر رسول اللّه ، فصار يضحك ، وفشا خبرهم وأعز اللّه رسوله صلّى اللّه عليه وسلم وأخزى أعداءه.
مطلب لا يسمى ما وقع من حضرة الرسول وما في بعض آيات القرآن شعرا لفقد شروطه وقصة بني قريظة :
روي البخاري ومسلم عن أنس قال : خرج رسول اللّه إلى الخندق ، فإذا المهاجرون والأنصار يحقرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال :
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له بشوق ورغبة :
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما حيينا أبدا
قال البراء بن عازب كان النبي ينقل التراب معنا ويقول :
واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا(5/468)
ج 5 ، ص : 469
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لا قينا
هذا ، وما وقع منه صلّى اللّه عليه وسلم من هذا ومن قوله في غير هذا الموضع :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
لا يسمى شعرا وإن كان على وزنه لأنه غير مقصود وهو من قسم الرجز الذي لا يسمى شعرا كما ألمعنا إليه في الآية 69 من سورة يس والآية 227 من سورة الشعراء ج 1 ، وكذلك لا يسمى ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى (وجفان كالخوابي وقدور راسيات) وقوله (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) وقوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وقوله (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) وغيره مما هو بيت كامل أو شطر بيت كقوله (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ) وقوله (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) وغير ذلك فلا يسمى شعرا للأسباب المبينة أعلاه وبما فيها ، وإن زعموا ما زعموا.
هذا ما فعله اللّه بالأحزاب وأقرّ به عين رسوله والأصحاب ، وأخزى أعداءه ، وانظر فعله بالذين والوهم في قوله تعالى «وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» وهم بنو قريظة الخائنون الناكثون العهد في حالة العسرة «مِنْ صَياصِيهِمْ» حصونهم ومعاقلهم «وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» إذ تركهم حلفاؤهم وذهبوا ، ثم بين اللّه لرسوله كيف يفعل بهم بقوله «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» أي الرجال منهم «وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً» (26) النساء والذراري ، ثم أباح لهم جميع ما يملكون بقوله تعالى «وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها» وهي أراضي خيبر «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (27) لا يعجزه الأحزاب ولا غيرهم.
وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أنه لما كان الظهر من صبيحة هزيمة الأحزاب في ذي القعدة سنة خمس ، نادى منادي رسول اللّه أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت : لما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من الخندق ووضع سلاحه واغتسل أتاه جبريل عليه السلام فقال قد وضعت السلاح ، واللّه ما وضعته ، أخرج(5/469)
ج 5 ، ص : 470
إليهم ، قال أين ؟ قال هاهنا وأشار إلى بني قريظة.
وروى البخاري عن أنس قال : كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل حين ذهب ورسول اللّه إلى بني قريظة ، وقيل جاء جبريل النبي صلّى اللّه عليه وسلم في بيت زوجته زينب بنت جحش وقال له قد وضعت السلاح ؟ قال نعم ، قال جبريل عفا اللّه عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين يوما إن اللّه يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم ، فأمر عليه الصلاة والسلام عليا كرم اللّه وجهه أن يتقدم بالراية حتى دنوا حصونهم ، فقال رسول اللّه قد أخزاكم اللّه يا اخوان القردة وأنزل بكم نقمته ، قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا ، وإنما قال لهم ذلك لأن عليّا كرم اللّه وجهه لما تقدم سمع منهم قولا خبيثا في حق الرسول ، فأخبره ، وقال له لا تدن من هؤلاء الخبثاء ، فقال لعلك سمعت منهم لي أذى قال نعم ، فقال ما قال ، ثم قال لأصحابه الذين هم (بالصورين) اسم موقع هناك حين مرّ عليهم هل مرّ بكم أحد ، قالوا رأينا دحية بن خليفة ، فعرف أنه جبريل ونزل صلّى اللّه عليه وسلم على بئر من آبارهم وتلاحق بعض أصحابه وقت العشاء وصلوا العصر هناك اتباعا لأمره صلّى اللّه عليه وسلم ولم يعب من نأخر أو يعنفه ، وحاصرهم وكان حي بن أخطب وفتى لرئيسهم كعب بن أسد ودخل معه الحصن إنقاذا لعهده المار ذكره في الآية 25 لقاء نقضه عهد رسول اللّه ، وعرفوا أن الرسول لم ينصرف عنهم حتى يناجزهم ، فقام فيهم كعب وقال يا معشر يهود هل تتبعون هذا الرجل فتؤمنون به وهو نبي مرسل تجدونه في كتابكم وتأمنون على أموالكم وأولادكم ونسائكم ودياركم ؟ قالوا لا ، قال تقبلون نسائكم ورجالكم وأولادكم يخرجون لقتاله غير تاركين وراءكم ما يهمكم ؟ قالوا لا ، قال هذه ليلة السبت فعسى أن يكون محمدا وأصحابه أمنوا فانزلوا لعلنا نصيبهم على غرة ، قالوا لا تفسد سبتنا فيصيبنا المسخ ، قال ما يأت أحد منكم ليلته حازما.
ثم طلبوا من رسول اللّه أن يرسل إليهم أبا لبابة ليستشيروا برأيه ، فأرسله ، وقد ذكرنا قصته مفصلة في الآية 27 من سورة الأنفال المارة فراجعها تعرف مزية الإيمان وسجية أهله.
ثم جاء الأوس إلى الرسول وقالوا إن بني قريظة موالينا وبالأمس حاصرت بني قينقاع فوهبتهم إلى عبد اللّه بن سلول الخزرجي لأنهم مواليهم ، قال يا معشر(5/470)
ج 5 ، ص : 471
الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا بلى ، قال فذاك إلى سعد ابن معاذ ، فرضوا وذهبوا إليه وأتوا به من خيمة رفيدة التي كانت تداوي المرضى لأنه لم يشف من جرحه الذي أصابه في وقعة الخندق حينما قتل علي ابن ود العامري المار ذكره في الآية 25 ، فلما وصل قال صلّى اللّه عليه وسلم قوموا لسيدكم ، فقاموا إليه وأنزلوه ، وقالوا له يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك فإن رسول اللّه حكم فيهم ، قال قد آن لسعد أن لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، فقال لهم عليكم عهد اللّه وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت ؟ قالوا نعم ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم نعم ، قال إني أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبي الذراري والنساء ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لقد حكمت بحكم اللّه ، يعني الآيتين 26 - 27 المارتين اللتين نزلتا فيهم ، وإنما حكم بهذا الحكم القاسي برأيه دون مشورة أحد وصوبه حضرة الرسول لأنهم نقضوا عهد رسول اللّه في وقعة الخندق المارة في حالة هي أشد الأحوال على المسلمين ، وأرسل سعد إلى خيمته وبسببهم نجم النفاق وألقى الخوف في قلوب الناس أجمعين.
وهو حكم موافق لما في علم اللّه أزلا وألقاه على قلب سعد ، كما ألقى في قلوبهم الرضاء بحكمه ، فقتلوا الرجال وهم ستمائة ، وقيل سبعمائة ، وقسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذراري والنساء ما بين السبعمائة والألف ، وقسم أيضا الأموال بين المسلمين.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده ، وروى البخاري عن سلمان بن مسروق قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحن نسير إليهم ، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ» متعة الطلاق «وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» (28) من غير إضرار بالإمساك إن كنتن لا تردن البقاء على حالتكنّ هذه معي على ما هي عليه من الضيق والضنك «وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ» فتصبرن على ما أنتنّ عليه ولا تكلفني ما ليس عندي فتكونن من المحسنات «فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» (29) نزلت هذه الآية لما سألن رسول اللّه زيادة نفقتهن وآذينه بغيره بعضهن هجرهن وآلى أن لا يقربهن شهرا.
روى مسلم(5/471)
ج 5 ، ص : 472
عن جابر بن عبد اللّه قال دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللّه فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم اقبل عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد رسول اللّه جالسا وحوله نساؤه واجما مهتما ساكنا ، فقال لأقولن شيئا اضحك به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال يا رسول اللّه لقد وأتيت خارجة سألتني النفقة ، فقمت إليها فوجأ عنقها ، فضحك رسول اللّه فقال هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة فوجا عنقها ، وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها ، أي دقها ، وكلاهما يقول تسألن رسول اللّه بما ليس عنده ، قلن واللّه لا نسأل رسول اللّه شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهرا وتسعة وعشرين يوما ، ولما نزلت هذه الآية بدأ بعائشة فقال إني أريد أن اعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حيث تستشيري أبويك ، قالت وما هو يا رسول اللّه ؟ فتلا عليها الآية ، قالت أفيك يا رسول اللّه استشير أبوي ؟ بل اختار اللّه ورسوله والدار الآخرة واسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ، قال لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن اللّه لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ، بل بعثني معلما مبشرا.
الحكم الشرعي إذا خيّر الرجل امرأته فاختارت نفسها يقع عليها طلقة بائنة ، وإذا اختارت زوجها لا يقع عليها شيء ومن هذا القبيل التخيير الذي ذكره اللّه تعالى في هذه الآية ، فلو أنهن اخترن الدنيا لفارقهن رسول اللّه ، ولكن هنّ لكمال عقلهن لم يخترن إلا رسول اللّه ، فلم يفارقهن ، وكذلك إذا جعل أمرها بيدها وطلقت نفسها يقع عليها طلقة بائنة فقط ، وكذلك إذا تزوجها على أنه إذا تزوج عليها تكون طالقة فتزوج طلقت طلقة بائنة ، وكذلك إذا جعل أمرها بيدها في صك العقد فلها أن تختار الطلاق متى شاءت إذا لم يقيد بقيد ، وإذا قيد وجب اتباعه.
مطلب في تخيير المرأة ونساء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وتبرج النساء وتسترهن
روى البخاري ومسلم عن مسروق قال ما أبالي خيّرت امرأتي واحدة أو مئة أو ألفا بعد أن تختارني ، ولقد سألت عائشة فقالت خيرنا رسول اللّه فما كان طلاقا ، وفي رواية فاخترناه فلم يعد ذلك شيئا ، وعليه فلا وجه لقول من قال إذا اختارت نفسها يقع طلاق ثلاثا وإذا اختارت زوجها يقع واحدة ، أما عدم قربانهن شهرا(5/472)
ج 5 ، ص : 473
فإنه صلّى اللّه عليه وسلم آلى على ذلك وبرّ بيمينه.
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم اقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا وكن خمسا من قريش عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أمية وسودة بنت زمعة وأربعا غير قرشيات زينب بنت جحش الأسدي وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حي بن اخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وكلهن من لم يلدن له شيئا ، وكل أولاده من خديجة رضي اللّه عنها التي كانت منفردة عنده حتى توفيت ، وهي أول امرأة تزوجها ولم يتزوج عليها عدا ابراهيم ، فإنه من الجارية مارية القبطية التي أهداها له عظيم القبط مع بغلة وطبيب فردّ الطبيب وقبلها والبغلة ، فقيل له إنكم في بادية وتحتاجون للطبيب أكثر من غيركم ، فقال لا حاجة لنا به إنا قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لم نشبع.
أي أن الطبيب يحتاج له من يقترف ذلك ، ولأن المرض يكون من الأكل والشرب والحر والقر قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت لما مضى تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فقال (أي عروة قالت عائشة) تراني يا رسول اللّه قلت أقسمت أن لا تدخل شهرا وانك دخلت في تسع وعشرين أعدهن ؟ قال الشهر تسع وعشرون.
وسيأتي بحث الإيلاء أول سورة المجادلة إن شاء اللّه.
قال تعالى «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ» مطلق معصية من نشوز وغيره وإنما سميت معصية الزوج فاحشة من الزوجات هنا بالنسبة لمقام حضرة الرسول لأن كل ما يقع من خلافه فهو عظيم عند اللّه بالنسبة لمقام رسوله ، وإلا فإن اللّه تعالى صان نساء الأنبياء عن كل فاحشة بمعناها الحقيقي الظاهري ، وهذا جار مجرى قوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية 66 من سورة الزمر ج 2 ، والشرك في حقه محال ، لذلك صرف المفسرون الخطاب لغيره صلّى اللّه عليه وسلم ، أو أنه إليه والمراد به غيره ، ثم وصف تلك الفاحشة بأنها «مُبَيِّنَةٍ» ظاهرة معلومة «يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» وهذا أيضا بالنسبة لمقامه وشرفهن على غيرهن «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (30) كغيره من أفعاله إذ لا يحول دونه أعوان ولا شفعاء ولا اخوان ولا أولياء ولا فرق فيه عنده بين الشريف والوضيع ، فكونهن تحت رسوله لا يدفع عنهن(5/473)
ج 5 ، ص : 474
العذاب ، كما أن صغر ذنوبهن لا يكون سببا في تقليل العقوبة عنهن أو تخفيفها ، لأن اللّه تعالى له أن يعاقب عقابا كبيرا على ذنب صغير عندنا معشر أهل السنة والجماعة ، وله أن يعفو عن أكبر ذنب لأنه لا يسأل عما يفعل
«وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً» في طاعته وتسليمها لأمر الرسول «نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ» الأول على الطاعة والثاني لشرف اقترانها بحضرة الرسول أي بنسبة العذاب على النشوز والمخالفة «وَأَعْتَدْنا لَها» زيادة على ذلك «رِزْقاً كَرِيماً» (31) في الجنة ورضوانا من اللّه «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ» مخالفة أمر الرسول لأن قدر كن عنده أعظم من غيركن «فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ» لأحد غيره بأن ترققن أصواتكن وتعنجن إذا كلمكن أحد أو سألكن من شيء أو حاجة «فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ» من نفاق وريبة بل اغلظن له بالقول «وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (32) ملؤه الأدب والوقار حسنا في معناه خشنا في مبناه مقتصرا على الجواب الكافي لأن الزيادة ممنوعة كما أن اللين ممنوع ، وإنما أمرهن اللّه بهذا لئلا ينسبن لقلة الأدب وهن منبعه وعنهن يؤخذ «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» لا تبارحنها أبدا إلا لحاجة ماسة لأنه أوقركن «وَلا تَبَرَّجْنَ» فتظهرن محاسن أعضائكن وتبرزن معالم زينتكن وتلبسن ما يمثل أعضاءكن وتتبخترن في مشيتكن «تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى » مثل نسائهم إذ كنّ يفعلن ذلك كله قبل الإسلام وقد لا يزيد ذلك على التبرج الموجود الآن في زماننا الذي حلّ بنا منذ الاحتلال الإفرنسي إذ بلغ مبلغ الخلاعة ، أجارنا اللّه وحفظ الإسلام منه ، لأنه أدى لإفساد الأخلاق والآداب ، وفكك عرى الزوجية عند بعض الجاهلين ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
كان زمن النمروذ الجبار على زمن إبراهيم عليه السلام تلبس المرأة الدرع (شلحة) موشى باللؤلؤ تمشي به وسط الطريق وتعرض نفسها للرجال ، وكان زمن داود عليه السلام تلبس المرأة قميصا موشى بالدر غير مخيط الجانبين ، فإذا مشت يرى منها كل شيء ، وما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كذلك حتى ظهر الإسلام ، ومنع ذلك كله ، وهذا في غير المتدينات في الأزمان كلها ، أما المندينات فلا يرى منهن حتى أطراف أناملهن ، وقيل في مثلهم ممّن هن على شاكلتهن : (5/474)
ج 5 ، ص : 475
يغطين أطراف البنان من التقى ويخرجن جنح الليل متّزرات
ومع الأسف قد عادت جاهلية الآن مثل أو أعظم من تلك في المتهتكات إذ يمشين الآن بالشلحة التي لا تغطي كتفيها وركبتيها وقد تمشي بلا سراويل عارية الصدر والكتفين والأرجل حتى الركبتين أما في محل الرقص واللعب على ما يقولون فيكن مجردات عدا ما يستر السوءتين فقط ، وهذا لقبحهما لا لشيء آخر ليجذبن قلوب السفهاء إليهما والمتشبهات بهن اللاتي يزعمن أنهن متحجبات يلبسن السراويل بمقدار الشبر ولباسا يمثل أعضاءهن لا يصل إلى ركبتهن وبعضهن بلا جورب ويصبغن أيديهن وأرجلهن وأوجههن ، ومنهن من يغطين وجوههن بشيء رقيق يغطي ما فيهن مما يحببن ستره وكتمه كالكف والنعش ويزيد في حسنهن ، فقد نكصنا على أعقابنا ، وقد نهانا رسول اللّه أن نرجع القهقرى.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إلي رجال منكم ، حتى إذا هويت إليهم لأنالهم اختلجوا دوني ، فأقول أي رب أصحابي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
ورويا عن أنس مثله بزيادة فأقول سحقا لمن يعدل بعدي.
ورويا عن أبي هريرة مثله بزيادة أنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى.
وجاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم إذا تعطرت المرأة فمرت بالقوم ليشموا ريحها فهي زانية.
فيا أيها الأولياء اتقوا اللّه وحافظوا على أعراضكم وامنعوا نساءكم مما نهى اللّه عنه لئلا تكونوا في عداد من يعرض عنهم حضرة الرسول حين يرد الناس حوضه ، كما في الأحاديث الصحيحة.
واعلموا أنكم مؤاخذون عند اللّه لأن سكوتكم عليهن رضى ، وقد يعاقب الراضي كالفاعل ، راجع الآية 38 من سورة المائدة الآتية ، لأن من المنكر عدم النهي عن المنكر.
قال تعالى «وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فيما يريدانه منكن «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» والرجس يشمل أنواع الإثم كلها يا أهل بيت محمد ، ويا آل محمد ، ويا أمة محمد ، ونصب أهل هنا على النداء أحسن وأليق منه على الاختصاص لزيادة الشرف بندائهم من قبل ذي الجلال والإكرام الدال على التعظيم والتبجيل.
ثم أكد انمحاق الرجس عنهم ومحوه بالكلية بقوله «وَيُطَهِّرَكُمْ(5/475)
ج 5 ، ص : 476
تَطْهِيراً»
(33) رجالا ونساء ولذلك ذكر الضمير ، وتدل هذه الآية على أن نسائه من أهل بيته وهو كذلك ، ويراد بأهل البيت عند الإطلاق آله صلّى اللّه عليه وسلم وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس ، وتشير الأوامر أوائل هذه الآية إلى شمول نساء المؤمنين كافة لأن الأمر بالصلاة والزكاة والطاعة لا يختص بنساء النبي فقط بل يعم غيرهن من المسلمات أجمع ، أما آخرها فهو خاص بنساء النبي وكذلك قوله تعالى «وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ» والنبوية وكل ما تسمعنه من حضرة الرسول وترونه من أفعاله مما يقتدى بهما لأنه من الحكمة «إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» (34) وبعد أن أنزل اللّه هذه الآيات في نساء الرسول قال نساء المؤمنين ما أنزل اللّه فينا شيئا لأن الآية 195 في آل عمران كانت في حق الهجرة يردن عدم دخولهن في هذه الآية ، فأنزل اللّه جل إنزاله «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ» الذين سلم الناس من لسانهم وأيديهم وسلمت أشخاصهم من العيوب الحسية والمعنوية «وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» باللّه ورسله وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من اللّه تعالى ، وإنما ذكر الإسلام والإيمان لأنهما الأصل لمادة المدح الدنيوي والأخروي «وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ» المتواضعين للّه الخاضعين لأوامره والطائعين عن رغبته «وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ» بأقوالهم وأفعالهم ونياتهم ، وإنما وصفهم اللّه تعالى بالطاعة والصدق لأنهما عنصر الإسلام والإيمان وملاك مراد الأزواج «وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ» على المصائب كافة ، فلا
يجزعن ولا يشكون بل يفوضون أمرهم إلى اللّه.
والصبر نصف الإيمان وقد ذكره اللّه في القرآن ما يزيد على تسعين مرة لعظمه وعظم المتحلين به عنده ، «وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ» المستكينات الطائعات المتذللات الساكنات.
واعلم أن ملاك الخضوع يكون في الصوت والبصر والجوارح وإنما وصفهن بالصبر والخضوع لأنهما من متممات الإيمان والإسلام ، ومن دواعي السرور للأزواج «وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ» بما يفضل عن الحاجة وبما يؤثر على النفس «و الصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ» الفرض والنفل وهاتان الصفتان من أركان قوام الهيئة الاجتماعية وأركان الدين القويم «وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ» من كل(5/476)
ج 5 ، ص : 477
سوء «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ» لأن ذكر اللّه ينور القلب ويحمي من الوقوع في المنكر ودوامه يوجب التيقظ والمحافظة على هذه الأوصاف العشرة التي ما بعدها وصف ، فهي جامعة لمحاسن الأخلاق والآداب وكمال أركان الدين ونهايته مع اللّه والناس أجمعين ، وعنايته في العطف على الفقراء والأقارب والمساكين ، وهؤلاء الذين يتصفون بهذه الأوصاف المزدوجة المحافظون عليها «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً» سترا لذنوبهم وعفوا عن عيوبهم المتقدمة والمتخللة بينها ، فلا يطلع عليها أحدا في الدنيا «وَأَجْراً عَظِيماً» (35) في الآخرة راجع الآية 59 الآتية ، ولما أراد صلّى اللّه عليه وسلم زواج بنت عمته زينب بنت جحش الأسدية لمولاه زيد المار ذكره في الآية 4 إذ بين للناس أنه ليس بغلامه وكان أخوها عبد اللّه وأمهما أمية بنت عبد المطلب كرها زواجها له لأنه شهر بأنه عبد وكرهت هي ذلك أيضا وكانت حديدة المزاج ، فأنزل اللّه تعالى «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» بل يكون للّه ورسوله فقط لأن مخالفتهما عصيان «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» (36) فرضوا كلهم تسليما لأمر اللّه ورسوله وزوجهامنه على ستين درهما وعشرة دنانير وخمارا ودرع وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر ، لأنه في الحقيقة ليس بعبد كما مرت الإشارة إليه في الآية المذكورة آنفا ، وإلا لما زوّجها إليه صلّى اللّه عليه وسلم وهي بنت عمته ومن سنته الكفاءة بين الزوجين ، ثم ألقى اللّه كراهتها في نفس زيد بسبب تعاظمها عليه وتباهيها بشرفها ولما تعلم عنه أنه كان خادما وصارت لا تحترمه ولا توقره بلسانها ، فذكر ذلك لحضرة الرسول مرارا وهو يأمره بالصبر عليها علتها تتبدل إلى أحسن وهي لا تزداد
إلا عدم مبالاة به ، فقال يا رسول اللّه لا بد لي من طلاقها ، فقال له هل رابك منها شيء ؟ قال لا واللّه وإنما ما ذكرت لك من أذيتي وإهانتي بتكابرها علي ، فأمره بإمساكها أولا وثانيا وثالثا وهو يصبر معها على مضض لما هو عليه من عزة النفس والمروءة والشهامة ويخشى غضب الرسول إن طلقها ، ولم يزل يراجع الرسول حتى خيره بطلاقها وإمساكها ، فطلقها ، وكان اللّه أعلم رسوله بأنها ستكون(5/477)
ج 5 ، ص : 478
بعد من أزواجه وان زيدا يتزوجها ويطلقها ، فعاتب اللّه نبيه على إلحاحه على زيد بإمساكها مع علمه بما يئول من حالها إليه وأنه مطلقها لا محالة ، فأنزل جل إنزاله «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ» بالإسلام وملازمتك «وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ» بالعتق والزواج من ابنة عمتك «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ» فيها ولا تفارقها واصبر على أذاها وتمنّيه بتبدل حالها معه «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ» أيها الرسول ما تعلم من حتم طلاقها منه وزواجها منك بإخبارنا إياك واعتقادك بوقوعه حتما وتريد أن تكتم «مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ» للناس ومظهرة علنا لأن الزواج ليس بالأمر الذي يكتم «وَتَخْشَى النَّاسَ» يا حبيبي من أن يقولوا تزوج زوجة من تبناه وقد أخبرناك بأن المتبنى ليس بابن راجع الآية الرابعة المذكورة آنفا «وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» من الناس إن كنت ترى أن ذلك مما يخشى والخوف نتيجة العلم ، قال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 28 من سورة فاطر في ج 1 وفي تخصيص الخشية بهم دليل على اعتقاد الأمانة بهم ، فعلى الأمة أن يأخذوا بأقوالهم ويعتقدوا فيهم بأنهم لا يبلغونهم شيئا إلا عن اللّه ورسوله وليس عليهم أن يحاجوهم ويطلبوا منهم الدليل أو أنهم يقولون لهم لم لا تفعلوا أنتم ما تأمرون به راجع الآية 105 من آل عمران المارة والآية 44 من البقرة أيضا ترى ما تقر به عينك ويغنيك عن غيره ، أي ان هذا الذي تخشاه ، هو حلال مطلق لا عيب فيه ولا استحياء.
مطلب زواج حضرة الرسول بمطلقة زيد ، وكونه خاتم الأنبياء ، والطلاق قبل الدخول :
قال تعالى «فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً» ولم يبق له بها أرب وقد طابت نفسه بطلاقها للأسباب المتقدمة وقد طلقها وانقضت عدتها «زَوَّجْناكَها» يا حبيبنا حسبما وعدناك قبلا ، قالوا فصارت تفتخر على نساء الرسول بأن اللّه هو الذي زوجها من رسوله وهن زوجهن له أولياؤهن ، وأن السفير بينهما جبريل عليه السلام ، والسفير بينهن وبين الرسول في أمر زواجهن من آحاد الناس ، وأنها بنت عمته ، ولأنه لم يولم على امرأة ما أولمه عليها.
روى البخاري ومسلم عن(5/478)
ج 5 ، ص : 479
أنس قال ما أولم النبي صلّى اللّه عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولمه على زينب أولم بشاة.
وفي رواية أكثر وأفضل ما أولم على زينب.
قال ثابت بم أولم ؟ قال أطعمهم خبزا ولحما ، حتى تركوه زوجه اللّه امرأة الرجل المعروف بأنه عبده وأنه تبناه أخيرا.
«لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» الوطر إدراك الحاجة وبلوغ المراد فإذا قضى الرجل نهمته من شيء له همة فيه قالوا قضى وطره منه ، وهذا مقيد بشرط قضاء الوطر ، فلا يجوز إجبار العبد على ترك زوجته لمولاه أو لغيره وكذلك الحر «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ» في هذه الحادثة كما هو في غيرها «مَفْعُولًا» (37) ماضيا نافذا لا محالة.
هذا هو الواقع في هذه القصة ، ومن قال إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رآها وهي عند زيد فأعجبته وتمنى طلاقها منه وزواجها به لا صحة له ولا يليق بمقامه الكريم وعصمة الأنبياء ومنصبهم الشريف ، كيف وهو الذي زوجه إياها وهي بنت عمته ولا تنحجب عنه لا هي ولا غيرها ، وما هذا القول إلا جرأة عظيمة وفرية كبيرة وبهت محض على حضرة الرسول وقلة معرفة بذاته الجليلة ونفسه الطاهرة وجهل بحكمة التشريع المتقدمة التي تضمنتها الآية 37 ، ألا فليحذر الخائضون في هذا من غضب اللّه ونقمته ، على أن اللّه تعالى بسبب تواري حضرة الرسول عن التصريح بما أخبره قد أنبه بهذه الآية ، ولهذا قالت السيدة عائشة رضي اللّه عنها : لو أخفى رسول اللّه شيئا من الوحي لأخفى هذه الآية لما فيها من معنى التكدير لحضرته صلّى اللّه عليه وسلم ولكنه أمين اللّه في سمواته وأرضه ، فويل للقاسية قلوبهم من عدم تصديقه بما جاء به وأخبر عن ربه عز وجل وبما يتكلم به.
قال تعالى «ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ» جناح وإثم أو مانع ما «فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ» وأحله وأباحه من نكاح زينب وتعدد الزوجات لكون هذا «سُنَّةَ اللَّهِ فِي» الأنبياء «الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» محمد لأنهم كانوا لا يرون بأسا من الإقدام على ما أباحه اللّه لهم ووسعه عليهم من النكاح وغيره ، وقد كان لداود عليه السلام مئة امرأة وثلاثمئة سرية ولسليمان ثلاثمئة حرة وسبعمئة سرية ولا شك أن لهذا التعدد في حيته حكما لسنا في معرض إيضاحها «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً» (38) بزمان ومكان مثبتا واجب(5/479)
ج 5 ، ص : 480
الوقوع فيهما حتما ، ثم أثنى اللّه تعالى على الأنبياء الذين خلوا قبل محمد فقال جل قوله «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ» بأوامره ونواهيه إلى الأمم كما أمر «وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ» وحده ولا يلتفتون إلى تقول الناس ولومهم فيما يفعلون بإذن ربهم «وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» (39) لخلقه على خلقه ويكفيهم أن يحصروا مخافتهم منه فيه ، ثم انه تعالى نفى عن حبيبه مادة التبني بالكلية بصورة أوضح ، لأن الآية الأولى عدد 4 المارة عامة فيه وفي غيره على طريقة التخصيص بعد التعميم بقوله «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ» أيها الناس لا زيد ولا غيره ليثبت حرمة تزويجه بزوجة زيد «وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ» الذي يجب عليكم توقيره واحترامه أكثر من آبائكم لأن كل رسول أب عام لأمته ومرب لأرواحها «وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» ولذلك لم يبق له ولد ليبلغ مبلغ الرجال ، لأن الولد إذا لم يكن في درجة أبيه لا فخر له فيه وقد حكم اللّه بأن لا نبي من بعده «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (40) قبل وقوعه لأنه مدون في أزله ، وأن عيسى وإن كان ينزل بعده فإنه يعمل بشريعته ويصلي إلى قبلته ، وقد تنبّأ قبله فلا يقال إنه جاء بعده.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بيتا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون ويتعجبون له ويقولون هتلا وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين.
وعن جابر مثله وفيه جئت فختمت الأنبياء.
ورويا عن جبير بن مطعم قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو اللّه الكفر بي وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب والعاقب ليس بعده نبي ، وقد سماه اللّه رءوفا رحيما.
روى مسلم عن أبي موسى قال : كان النبي
صلّى اللّه عليه وسلم يسمي لنا نفسه بأسماء فقال أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفى أي المولى الذاهب المتبع لمن قبله والآخر وأنا الماحي ونبي التوبة ونبي الرحمة.
قال حسان بن ثابت :
ألم تر أن اللّه أرسل عبده ببرهانه واللّه أعلى وأمجد
أغرّ عليه للنبوة خاتم من اللّه مشهود يلوح ويشهد(5/480)
ج 5 ، ص : 481
وشق له من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود وهذا محمد
هذا وما جاء عن الأحمديين بأن خاتم النبيين ليس المراد منه أن لا نبي بعده وإنما هو معنى الكمال قول لا حقيقة له كسائر أقوالهم بحق عيسى عليه السلام وان له خليفة عندهم وأنه سيظهر بدلا منه ويقوم بما يقوم به ، وينكرون رفعه إلى السماء ويؤولون الرفع على خلاف ما جاء في القرآن العظيم ، وهذا كله بهت وزور وافتراء لا يلتفت إليه إلا من هو على شاكلتهم
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً» (41) لا نهاية له حتى الموت لأن كل عبادة لها حد ويعذر أهلها بتركها عند الضرورة إلا الذكر ، إذ يجب على العبد ألا يفارقه ما دام في قلبه حركة ولا يمنع منه وجود حدث أو حيض أو نفاس ولا الخوف والمرض بل يتأكد فيها رجاء الفرج والصحة «وَسَبِّحُوهُ» نزهوه ووقروه وعظموه مع إدامة ذكره «بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (42) صباح مساء بصورة مستمرة بحيث لا يغفل قلبكم عنه وهذا هو المطلوب شرعا من العبد لربه لأنه «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» (43) أي لعامتهم الأولين والآخرين.
ولا معنى لقول من قال إن هذه الرحمة الذين كانوا زمن حضرة الرسول بل هي عامة لهم ولمن تقدمهم وتأخر عنهم «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» منه إليهم ومنهم إليه في جنته الكريمة «وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» (44) فيها لا نظير له ، والظلمات هنا بمعنى الكفر والنور بمعنى الإيمان.
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً» على الخلق «وَمُبَشِّراً» لمن آمن بك بالجنة «وَنَذِيراً» (45) لمن كذبك بالنار «وَداعِياً إِلَى اللَّهِ» بالتوحيد والطاعة والإيمان «بِإِذْنِهِ» بأمره ووحيه «وَسِراجاً مُنِيراً» (46) يغطي كلمة الشرك ولم يقل شمسا لأنها لا يؤخذ منها شيء عفوا ، أما السراج فيؤخذ منه أنوار كثيرة لأنه سهل التناول «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً» (47) على غيرهم من الأمم لأنهم آمنوا بنبيهم والأنبياء قبله «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ» لا تلق له بالا فإن الأنبياء قبلك أوذوا أكثر منك ، وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قسم قسمة بين ت (31)(5/481)
ج 5 ، ص : 482
أصحابه وكان يعطيهم بحسب ما يعلم منهم من قوة الإيمان وضعفه ، فقال رجل منافق ما أريد بهذه القسمة وجه اللّه بالنظر لظاهر الأمر ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم رحم اللّه أخي موسى فقد أوذي بأكثر من هذا.
لأنهم وصموه بكونه آدر كما سيأتي آخر هذه السورة ، وقد اتهموه بالزنى كذبا كما مر في الآية 76 من سورة القصص في ج 1 ونسبوا إليه قتل هرون كما سيأتي في الآية 26 من سورة المائدة الآتية ، وفي رواية قال له ويلك إن لم أعدل فمن يعدل ؟ فأعرض عنهم يا رسول «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» لا تلتفت إليهم «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (48) لك عن كل خلقه.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ» إذا لم تسموا لهن مهرا كما سبق بيانه في الآية 136 من سورة البقرة «وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» (49) لا ضرار فيه وفي هذه الآية دلالة على أن الطلاق قبل النكاح لا يقع لأنه مرتب عليه وانه كما ينبغي أن يكون الزواج بالإحسان ينبغي أن يكون الطلاق كذلك لا إكراها ، وتشير هذه الآية إلى الإحسان مع الزوجة التي لا مودة بينك وبينها إذ لا تكون قبل الدخول عادة فلأن يكون الإحسان مع التي دخلت بها وخاصة من صار لك منها أولاد من باب أولى ، ولهذا نهى الشارع أن يأخذ من المطلقة شيئا في الآية (229) من البقرة المارة ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية (21) من سورة النساء الآتية فتكون هذه الآية مثل قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) المشار إليها في الآية 23 من سورة الإسراء في ج 1 ، اخرج أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لهذا البحث صلة في الآية (21) من سورة النساء الآتية فتكون هذه الآية مثل قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) المشار إليها في الآية 23 من سورة الإسراء في ج 1 ، اخرج أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا طلاق فيما لا تملك ولا عتق فيما لا تملك ولا بيع فيما لا تملك.
وجاء في الخبر لا طلاق في إغلاق أي إكراه أو غضب أو في حالة لا تملك فيها نفسك بحيث لا تعلم نتيجة ما تقول بسبب ما اعتراك من حدة وشبهها ، وروى البخاري عن ابن عباس قال جعل اللّه تعالى الطلاق بعد النكاح ، وعن جابر لا طلاق قبل النكاح ، وما قيل إن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال إنه يقع فغير صحيح ، روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال كذبوا على ابن مسعود وإن كان قالها فزلة من عالم ، (5/482)
ج 5 ، ص : 483
وقول ابن مسعود هنا هو أن الرجل إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فإن كان هذا فهو تعليق يقع به الطلاق ولا تحسب عليه زلة ، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية فنصف ما فرضتم الآية 235 من سورة البقرة المارة فغير صحيح لأن تلك مع تسمية المهر وهنا في غير تسمية ولا خلوة ، ومعناها إذا عقدتم عليهن وطلقتموهن قبل الدخول والخلوة التي هي في معناه.
وإنما أوجبوا العدة في الخلوة احتياطا لتوهم انشغال الرحم خاصة بالثيب نظرا للتمكن الحقيقي ، وظاهر الآية عدم وجوب العدة بالخلوة ، لأنها ليست مسيئا ، قال الشيخ الأمين بن عابدين دفين دمشق صاحب التآليف المشهورة.
وخلوته كالوطء في غير عشرة مطالبة بالوطء إحصان تحليل
وفيء وإرث رجعة فقد عنّة وتحريم بنت عقد بكر وتغسيل
أي أن الخلوة كالوطء في كل شيء عدا هذه العشرة.
واعلم أن هذه الآية ليست ناسخة لآية البقرة 223 إلا أنها عامة في كل المطلقات ينتظم فيها المدخول فيها وغيرها لأن هذه الآية المفيدة اعطت غير المدخول بها حكما آخر خاصا بها فليست بمبطلة لحكمها بتاتا ليقال بالنسخ.
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» مهورهن راجع الآية 24 من النساء الآتية بما يسمونه متعة بسبب لفظ الأجر مع أنه اطلق في القرآن في مواقع كثيرة على المهر «وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ» من السبي في غنائم الحرب «وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ» من قريش «وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ» من بني زهرة «اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ» مؤمنات بك وبربك ، قالت أم هاني بنت أبي طالب خطبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم أنزل اللّه هذه الآية ، قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء. - أخرجه الترمذي - «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ» فهي حلال له «إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها» وإلا فلا تحل ، «خالِصَةً» بلا مهر وهذا الحكم خاص «لَكَ» يا سيد الرسل «مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» لأنهم لا ينعقد النكاح بينهم بالهبة ولا بغير شهود ويشترط لصحته ، الولي والمهر والإيجاب والقبول وإذن(5/483)
ج 5 ، ص : 484
الولي للصغيرة عند أبي حنيفة ، واشترط الشافعي الإذن للكبيرة أيضا راجع الآية 25 من سورة النساء الآتية ويفهم من هذه الآية ان غير المؤمنة لا تحل للرسول إن وهبت نفسها إليه ، وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، إذ لم يكن لديه صلّى اللّه عليه وسلم امرأة إلا بعقد أو ملك يمين ، وقيل كان عنده واحدة موهوبة اختلفوا فيها هل أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصاري الهلالية أو أم شريك بنت جابر الأسدية أو خولة بنت حكيم السلمية أو ميمونة بنت الحارث ، وأرجح الأقوال بأنها خولة بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن عروة قال كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل ؟! وهذا من كمال غيرتها ، وإلا فمن ترى السعادة في الدارين في هبة نفسها لمثل رسول اللّه لم لا تفعل ، وإنا نرى الآن كرائم النساء يسعين ويتوسطن بتقديم أنفسهن لمن يرون فيه المروءة والشهامة والسعادة الدنيوية ، فكيف ممن تكون بمرافقته سعادة الدنيا والآخرة «قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ» المؤمنين سيأتي بيان هذا في الآية 22 من سورة النساء وغيرها «وَ» علمنا ما فرضنا عليهم في «ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» من الإماء اللاتي أصلهن من السبي «لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ» أيها النبي «حَرَجٌ» فيما تريد من ذلك «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (50) بعباده يوسع عليهم فيما لا بد لهم منه
ولما وقعت الغيرة بين نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم وكان يقسم بينهن أنزل اللّه تعالى «تُرْجِي» تبعد وتؤخر «مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي» تدني وتقرب وتضم «إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ» ولا حرج أيضا وهذا كله من خصائصه صلّى اللّه عليه وسلم دون المؤمنين كافة «ذلِكَ» الذي أبحناه لك وخيرناك فيه مما لم يكن لغيرك بشأن النساء «أَدْنى » أقرب وأهون «أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ» فيرضين بما يرونه منك مهما كان وتطيب أنفسهن «وَلا يَحْزَنَّ» على ما يزعمنه منك من موالاة بعضهن وترجيحهن على غيرهن لأنه من اللّه لا منك «وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ» من تقريب وإبعاد وإرجاء وإقصاء وعزل وإيواء «كُلُّهُنَّ» لأنه حكم عام لا يختص بواحدة دون الأخرى وتفويض مطلق لك من نسائك(5/484)
ج 5 ، ص : 485
«وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ» من الميل إلى بعضهن «وَكانَ اللَّهُ» ولم يزل «عَلِيماً» بأن في هذا إصلاح لحال أزواجك معك «حَلِيماً» (51) بما خصك به دون سائر خلقه لأنه قاطع لكلامهن.
مطلب منع النبي من الزواج والطلاق ورؤية المخطوبة وجواز الرؤية للمرأة في تسع مواضع وما أحدث في زماننا :
قال تعالى «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» هؤلاء اللاتي عندك حال نزول هذه الآية وكن تسعا وهو النصاب بالنسبة له صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال الشيعة بجواز التسعة لسائر المؤمنين.
وسيأتي بحث هذا في الآية الثانية من سورة النساء إن شاء اللّه «وَلا» يحل لك أيها الرسول أيضا «أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ» بأن تطلقهن أو بعضهن وتأخذ غيرهن أبدا ، وهذا إكرام لهن من اللّه تعالى لأنهن اخترن اللّه ورسوله كما تقدم في الآية 29 فشكر اللّه لهن ذلك وكافأهن بالبقاء عند رسوله ، ثم أكد على حبيبه التمسك بهن وعدم الزواج عليهن بقوله جل قوله «وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» وذلك أن الرسول أراد أن يخطب أسماء بنت عميس بعد استشهاد زوجها جعفر بن أبي طالب فنهي عن ذلك «إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ» لعلمه أنه سيأخذ مارية القبطية التي يهديها له المقوقس عظيم القبط في مصر ، ولذلك عددناها مع جملة نسائه آنفا «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً» (52) ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بالآية قبلها وهي (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) إلخ ، وان النبي لم يمت حتى أحل له أن يتزوج من يشاء ، لأن المقدم لا ينسخ المؤخر باتفاق علماء هذا الفن ، وما احتج به القائل من أن ترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف صحيح لكن لا قائل بأن آية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) إلخ نزلت بعد هذه الآية التي نحن بصددها ، ولأن سياق التنزيل ينافيه وسياق النظم يأباه ، كما أن ما احتج به من أن هذه الآية الأخيرة نسخت بالسنّة لا وجه له لأن السنة لا تنسخ القرآن قطعا ، ولا يوجد ما يسمى سنة في هذا الشأن إذ لم يرد حديث صحيح فيه ، ولو ورد وكان متواترا فلا يكون ناسخا ، كما قدمنا توضيح هذا في الآية 107 من البقرة فراجعها.
ويفهم من قوله تعالى (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ)(5/485)
ج 5 ، ص : 486
إلخ ، جواز رؤية المخطوبة وهو كذلك ، أخرج أبو داود عن جابر قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له صلّى اللّه عليه وسلم انظر إليها فانّ في أعين الأنصار شيئا.
وأخرج الترمذي عن المغيرة بن شعبة قال : خطبت امرأة فقال لي النبي صلّى اللّه عليه وسلم هل نظرت إليها ؟ قلت لا ، قال فانظر إليها فإنه أحرى أن يدوم بينكما.
أي الحب من الدوام.
وفي رواية أن يؤدم بينكما من الادام.
وله أن يرسل من يعتمد عليها من أقاربه لتنظرها وتمحصها وتشم مراقها وفمها وتتكلم معها وتخبره بما تراه ، حتى إذا اطمأن لذلك وأحب خطبتها خطبها ، وهذا أحد الأعذار التسعة المبيحة للنظر ، والثاني الشهادة على فعل الزنى ، والثالث لأجل الشهادة على المرأة ، الرابع للقاضي النظر للمرأة عند الحكم عليها أو لها ، الخامس على الولادة ، السادس البكارة في دعوى العنة أو الرد بالعيب ، السابع والثامن على الختان والخفض ، والتاسع إرادة الشراء في الأمة.
واعلم أن نظر الخطبة ينبغي أن يكون صدفة أو من بيت جارتها أو قريبها أو يريها غيره من غير علم منها ، لا أن تعرض له كالدابة إن أعجبته اشتراها وإلا تركها كما يريده من لا خلاق له ولا مروءة عنده ولا شهامة لديه ، إذ لا تسمح النفوس الأبية الكريمة بذلك ، وقد يقع من بعض الناس لشدة رغبتهم بالخاطب حبا بعلمه أو جاهه أو ماله أو دينه أو صلاحه ، والأعمال بالنيات ، وإلا فلا يطمح إلى ذلك من غير هذه الأسباب إلا من تقليد الأجانب الذين لا غيرة عندهم ولا حمية لهم الذين يسمحون للخاطب مخالطتها والأكل معها ، بل والذهاب معها للنزهة والاعتزال بها عن أهلها والخلوة بها أيضا ، لهذا فإنه قد يقع ما يقع بينهما من المفاسد ، وإذ ذاك إما يأخذها فيستر عليها أو يتركها فيفضح أمرها وتهمل ، وهذا كثير الوقوع في زماننا ، أجارنا اللّه وسلمنا منه ومن كل التقاليد المخالفة للشرع والمروءة.
ومما حبذه الآن بعض شبابنا تبادل الخواتم بين المخطوبة والخاطب دلالة على تمام الخطبة ، مع أن هذا مما يتشاءم به عند العرب ، لأن الخاتم يدل على الضيق وهم يتفاءلون بالسعة ، وقيل في ذلك : (5/486)
ج 5 ، ص : 487
واللّه ما ناولت للحب خاتما ولا قلما مبرى ولا بست عينه
ولا آلة للقطع توجب فرقة فما سبب التفريق بيني وبينه
وانجر هذا التقليد إلى تقليدهم بالزفاف أيضا ، إذ صار الزوج ليلة الزواج يأتي بسيارته إلى بيت العرس فيدخل بين النسوة والبنات الأجانب إليها ، فيجلس معها ثم يأخذها ويركبها بسيارته ويذهب بها إلى بيته سافرة خالعة بدل أن كانت تزف إلى بيته من قبل النسوة فقط مستورة لا يراها غيره ، ثم انجر إلى تقليد آخر ، فإنه صبيحة الدخول بها يأخذها ويذهب بها لبلد آخر ويبقى معها شهرا يسمونه شهر العسل بدل أن يبقى في بلده بين أهله وأقاربه يسرون بزواجه ويباركون لهما في بيتهما القريب والبعيد ، ويتركون وليمة العرس ، ويحرمون من التمتع وأنظار العامة ، وتراهما يكشفان الستار ويطرحان العار ، ويضع أحدهما يده بيد صاحبه ويمشيان بالأسواق نابذين وصية اللّه وراء ظهورهما بإظهار التبرج ومخالطة الأجانب وطرح المروءة والشهامة ، وقد يفعل بعض هذا الذين يذهبون إلى المصايف ، وقد يفعلون المنكرات ويظنون أن لا يطلع عليهم أحد من أهل بلدهم ، ولا يبالون باطلاع غيرهم كبعض النساء اللاتي لا يبالين بمقابلة الجمال والبدوي والعامل والصائغ والتاجر ، ويغطين من جارهن وقريبهن ، وكل هذا مخالف للشريعة الغراء التي هي بمصلحة الناس ، فهم يخشون الناس ولا يخشون اللّه ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : استحيوا من اللّه استحياءكم من رجلين من صالحي قومكم.
وقال استحيوا من اللّه حق الحياء.
الحديث ، لأن الحياء من الإيمان ، قاتل اللّه هؤلاء وقاتل أولياءهن ، وهذا بعض ما سرى إلينا من الأجانب وحبذه بعض شبابنا ومن فقد الأخلاق الكريمة من غيرهم ، فالأمر للّه الواحد القهار.
ثم شرع جل شأنه يؤدب المؤمنين عما لا يليق وقوعه منهم بقوله عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» من قبله «إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» وقته أي إدراكه ونضجه «وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا» إلى منازلكم أو غيرها أي اخرجوا عنه وتفرقوا لا تبقوا جالسين «وَلا» تديموا(5/487)
ج 5 ، ص : 488
الجلوس «مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ» بعضكم «إِنَّ ذلِكُمْ» الدخول قبل الإذن والانتظار لنضج الطعام عنده ، والجلوس بعد الطعام للسمر أو غيره ، كل ذلك «كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ» وما كان لكم أن تؤذوه بشيء من ذلك ولا غيره ، وهو لا يريد أن يبادركم بالمنع والخروج «فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ» أن يجابهكم بذلك «وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» لأنه بصالحكم لذلك بينه لكم بقصد تأديبكم «وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً» غرضا ما تريدونه من النساء «فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» لا تدخلوا عليهن من أجله وليكن سؤالكم برفق وتؤدة ولين «ذلِكُمْ» الطلب من خلف الستار على الوجه المار ذكره «أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ» من أن يقع فيها من وساوس الشيطان ودسائسه بشأنهن «وَقُلُوبِهِنَّ» وطهر أيضا لأن الخواطر القلبية قد لا يخلو منها أحد لا سيما ما ينشأ من النظر إلا من عصمه اللّه «وَما كانَ لَكُمْ» أيها المؤمنون «أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ» في شيء من الأشياء «وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً» لأنهن محرمات عليكم على التأييد كحرمة أمهاتكم واعلموا «إِنَّ ذلِكُمْ» كله مما يؤذي حضرة الرسول وإن أذاه «كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً» (53) فيعاقب عليه بأعظم العذاب وهذا من إعلام تعظيم اللّه تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم وإيجاب حرمة وقاره حيا وميتا ، تشير هذه الآية إلى ما يطيب خاطر الرسول ويسرّ قلبه ويستفرغ شكره ويشرح صدره وتطمئن نفسه.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال إنه كان ابن عشر سنين فقدم النبي صلّى اللّه عليه وسلم المدينة ، قال فكانت أم هانىء توافيني على خدمة رسول اللّه ، فخدمته عشر سنين ، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة ، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، وكان أول ما أنزل في مبنى رسول اللّه بزينب بنت جحش حين أصبح يعني النبيّ صلّى اللّه عليه وسلم بها عروسا ، فدعا القوم فأصابوا من الطعام ، ثم خرجوا وبقي رهط عند النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فأطالوا المكث ، فقام النبي فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى النبي ومشت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة ، ثم ظن أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يقوموا ، فرجع ، حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا ، فرجع(5/488)
ج 5 ، ص : 489
ورجعت معه ، فإذا هم قد خرجوا ، فضرب النبي صلّى اللّه عليه وسلم بيني وبينه بالستر ، وأنزل اللّه الحجاب.
قال تعالى «إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ» في صدوركم أيها الناس ولم تنطقوا به مما يتعلق بالنبي وغيره من كل ما تتصورونه بقلوبكم أو يخطر على بالكم «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ» ولم يزل «بِكُلِّ شَيْ ءٍ» يقع في كونه علنا أو سرا «عَلِيماً» (54) لا يخفى عليه شيء ، وانه لا بد أن يعاقبكم على سيئه ويكافئكم على حسنه إن شاء ، قالوا إن طلحة بن عبد اللّه التميمي قال إن محمدا يأخذ بنات عمنا يعني عائشة ، لأن أبا بكر من بني تيم بن مرة ثم يمنعنا من الدخول على نسائه ويحجبهن عنا ، لئن مات لأتزوجنها ، فنزلت.
وهذا الخبر قد لا يكون صحيحا ، لأن أحدا من الأصحاب المخلصين لا يخطر بباله هذا ولا يحوك في نفسه ولا يتردد في صدره ولا يحرك به لسانه ، بل قد ترجف بوادره من ذكره وترتعد فرائضه من التحدث فيه ويقشعر شعره من سماعه ، اللهم إلا أن يكون منافقا ، وطلحة هذا غير طلحة المبشر بالجنة ، وحاشاه من هذه الوصمة ، بل هو رجل شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبه ، ذكره الحافظ السيوطي.
فإذا كان نساء النبي المحرمات على الأمة لا يسألن إلا من وراء حجاب وقد نهين عن التخضع بالقول كما مر في الآية 32 ، فنساؤنا الجائز زواجهن أولى بذلك.
وإن هذا وما تقدم دليل كاف على ستر الوجه ، ولبحثه صلة في الآية 31 من سورة النور الآتية فراجعها.
وبعد نزول هذه الآية قال آباء النساء وذووهن ، ونحن يا رسول اللّه نكلمهن أيضا من وراء حجاب ؟ فأنزل اللّه «لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ» بالدخول عليهن ونظرا لعموم الآية يدخل فيها الكتابيات أيضا.
ويخرج الكافرات لأنهن لسن من نساء المؤمنين ولأنهن غير أمينات عليهن ، إذ قد ينتقلن صفاتهن لأزواجهن وغيرهم لأنهن لا دين لهن ، فلا يجوز اطلاعهن على عورات المؤمنات ، ولا دخول الحمام معهن ، لما فيه من بدو العورات فيطلعن عليهن ، وقد عدّ الفقهاء نظر الكافرة المسلمة كنظر الرجل الأجنبي «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» ظاهر الآية من العبيد والإماء كما نقل ابن عباس ، وإليه ذهب الشافعي ، وقال(5/489)
ج 5 ، ص : 490
أبو حنيفة إنه خاص بالإماء على ما قاله الخفاجي.
وقال أبو حيان انه صلّى اللّه عليه وسلم أمر بضرب الحجاب دونه أي أنس المار ذكره آنفا ، وفعلته أم سلمة مع مكاتبها تيهان.
والآية مطلقة فتشمل الإماء الكافرات وغيرهن ، وإنما جاز ذلك لحاجة الخدمة ، ومما يؤيده العطف على النساء ، إذ يفهم منه أن العبد الذكر ليس له ذلك ، ومما يوافق عموم الآية أن عبد عائشة كان يدخل عليها ، وقد أوصت بأنه إذا ماتت ووضعها في قبرها فهو حرّ ، ولكن أين نساؤنا من عائشة ، وأين خدمنا من خادمها ؟ ويوشك أن يكون خفيا ، والآية يدخل فيها الخفيّ وغيره.
ثم إن اللّه تعالى حذرهن في المحافظة على ما أنزله بحقهن فقال «وَاتَّقِينَ اللَّهَ» أيها النساء واحتطن بما أوصاكن اللّه من المحافظة على الحجاب وغيره ، ويشعر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب بالتشديد على الاستتار من الأجانب وعدم لين الكلام معهم مما يؤدي إلى الغنج ، لا سيما وقد أعقبه بقوله «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» (55) يعلم خطرات القلوب ويرى ما في دخائلها كما يعلم حركات الجوارح ، فالظاهر والخفي في علمه سواء.
روى البخاري ومسلم عن أنس أن عمر قال :
وافقت ربي في ثلاث ، قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقلت يا رسول اللّه يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب ، واجتمع نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم في الغيرة فقلت (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) الآية ، فنزلت.
هذا من كمال إيمانه رضي اللّه عنه ، ولا شك أن المؤمن ينظر بنور اللّه ، فليحذر ذو القلب أن يخطر بباله غير ذلك أو يتخيل خلاف ما هنالك ، فإن كلام اللّه أزلي والقرآن مدوّن في لوحه كما هو لا ينزل على غير النبي لأجل أحد ، ولا يخطر قبل نزوله على النبي في بال أحد ، راجع الآية 92 من الأنعام في ج 2 واعقل ما ذكرناه فيها وتدبره.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» الصلاة من اللّه ثناء ورحمة ، ومن الملائكة رجاء واستغفار ، ومن الناس دعاء وتضرع «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (56) حيوه بتحية الإسلام كلما ذكر ، وهذا الأمر للوجوب ، فيجب على كل مؤمن أن يصلي عليه ولو في العمر مرة.(5/490)
ج 5 ، ص : 491
مطلب كيفية الصلاة على النبي ، وهل يجوز إطلاقها على غيره ، والذين لعنهم اللّه ومن يؤذي أولياءه :
روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية ، إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم خرج علينا فقلنا يا رسول اللّه قد علمنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ قال قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ورويا عن أبي حميد الساعدي بزيادة وعلى أزواجه وذريته.
وروى مسلم عن ابن مسعود البدري بزيادة في العالمين.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من صلّى علي واحدة صلّى اللّه عليه بها عشرا.
وأخرج الترمذي في رواية أنس زيادة وحطت عنه عشر خطيئات ، ورفعت له عشر درجات.
وله عن أبي طلحة أن رسول اللّه قال : أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا ، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا.
وله عن ابن مسعود قال : إن للّه ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام.
وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سره أن يكتال له بالمكيال الأوفى إذا صلّى علينا أهل البيت فليقل أللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
فعلى من أراد هذا الأجر العظيم وأن يسلم عليه النبي الكريم ، فليكثر من الصلاة والسلام على الرسول الحليم بإحدى هذه الصفات ، لأن العمل بالوارد أفضل من غيره وأكثر ثوابا وأعظم أجرا.
قال أهل العلم : إن الصلاة خاصة بالأنبياء ، والترضي بالأصحاب ، والترحم والسلام بسائر الأمة.
وهناك آيات تدل على خلاف ذلك بجواز إطلاق لفظ الصلاة أو السلام على الانفراد على غير الأنبياء ، أما جمعهما فلا يجوز أبدا.
ومما يدل على إفراد الصلاة دون السلام على غير الأنبياء قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) المارة في الآية 43 ، ومنها قوله تعالى (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الآية 157 من البقرة المارة.(5/491)
ج 5 ، ص : 492
وجاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : اللهم صل على آل أبي أوفى.
وكان يصلي على من يأتيه بالصدقة امتثالا لقوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) الآية 103 من سورة التوبة الآتية ، تأمل وتيقظ تفز وتنجح.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بكل ما يسمى أذى قل او كثر قولا أو فعلا رمزا أو إشارة «لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً» (57) لهم يلقونه على رءوس الأشهاد يوم القيامة ، ووصفه بالإهانة يدل على شدة عقابه وكبير عذابه ، ألا فليتق اللّه الذين يؤذون آل البيت لأنه يؤدي لإيذاء حضرة الرسول في قبره الشريف ، كيف وقد قال حبهم إيمان وبغضهم كفر.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : من أحب العرب فبحبي أحبهم ، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم.
هذا في العرب كافة فكيف بآله صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فاتقوا اللّه أيها الناس فيهم واعلموا أن كل من يؤذي اولياء اللّه فكأنما آذى الرسول ومن آذى الرسول فكأنما آذى اللّه واستحق هذه اللعنة وهذا العذاب راجع الآية 61 من سورة يونس ، واعلم أن اللّه تعالى منزه من أن يلحقه أذى ما من خلقه ، ومعنى إيذائه مخالفة أوامره قولا أو فعلا أو إشارة ، فكل من خالف أمر اللّه أو عمل ما نهى اللّه عنه فقد آذاه ومنه نسبة الولد والصاحبة والشريك إليه تعالى عن ذلك وإنكار البعث ونسبة ما يقع في ملكه للدهر أو للنجوم أو لأحد من خلقه ونسبة الكذب لرسوله أو السحر أو الكهانة أو الشعر ، والسخرية والاستهزاء بأوليائه أو التعرض لهم والإنكار عليهم ، كله مما يؤذي اللّه تعالى ورسوله.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، ومن أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول اللّه عز وجل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فيقول لن يعيدني كما بدأني ، وأما شتمه إياي لقوله اتخذ اللّه ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
روى البخاري ومسلم عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال اللّه عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي أقلب الليل والنهار.
راجع الآية 24 من(5/492)
ج 5 ، ص : 493
سورة الدخان ج 2 فيما يتعلق بهذا.
ورويا عنه قال : سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول قال اللّه عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرّة وليخلقوا حبة أو شعرة.
ولهذا عدوا تصوير ذي الروح وتجسيمه من المنهيات الكبائر.
قال تعالى «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا» من الإثم وهذا مقيد ببراءة المؤذى ، أما إذا كان يحق القصاص فهو واجب ، وإن كان بغير حق فهو حرام مطلقا ممنوع فعله ، وكذلك نسبة شيء لم يعمله قولا كان أو فعلا أو إشارة لغيره وهو فاعله ممنوع وحرام ، راجع الآية 112 من سورة النساء الآتية ، أما إيذاء اللّه ورسوله فهو حرام مطلقا ، لأنه بغير حق وهؤلاء المؤذون «فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً» افتراء محضا لأنهم نسبوا إليهم شيئا لم يفعلوه «وَإِثْماً مُبِيناً» (58) فوق ذلك البهتان ، ولذلك فإن اللّه سيجازيهم فوق جزائهم جزاء فعلهم ، ومثله لبهتهم ، راجع الآية 81 من سورة النحل في ج 2.
وهذه الآية عامة يدخل فيها كل مؤذ لغيره بغير حق.
وما قيل إنها نزلت في أناس يؤذون عليا أو فيمن يتبعون النساء عند خروجهن إلى المبترز فإن سكتت لاحقوها وإن زجرتهم رجعوا ، فعلى فرض صحته لا يقيدها فيهم ، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
مطلب تفطية وجه المرأة ، والنهي عن نقل القول ، وما اتهم به موسى من قومه والأمانة :
قالوا ولما كان لباس النساء الحرائر والإماء واحدا وكان من الواجب تمييزهن عنهن لشرفهن وامتهان الإماء إذ ذاك أنزل اللّه «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ» يضربن ويرخين «عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ» أي يغطين أنفسهن بملاءتهن لأن الجلباب هو الملاءة التي تشتمل فيها المرأة فوق ثيابها فتجعل بعضه على رأسها وبعضه على صدرها وظهرها وهو الملفع الكبير الذي يستعمله الآن النساء الدرزيات والبدويات من عترة وشمر وغيرهما وغالب أهل القرى والأرياف والأكراد والعراقيات غير المتمدنات على لغة العامة ، ومن فوقه تكون الملحفة في البلاد السورية والعباءة في البلاد العراقية أي من دير الزور إلى البصرة ، (5/493)
ج 5 ، ص : 494
«ذلِكَ» تقريب الملفع لستر الوجه حتى لا يبقى منه إلا ما توجه به طريقها «أَدْنى » أقرب «أَنْ يُعْرَفْنَ» بأنهن حرائر مصونات يتباعد عنهن أهل الفساد ويهابهن كل أحد «فَلا يُؤْذَيْنَ» من قبل أولئك الخبثاء ويجتنبون متابعتهن ولا يظن بهن أنهن إماء مبذولات فلا يتعرض لهن أحد ولا يقذفن بما يقذفن به المشبوهات.
هذه غيرة اللّه عليكم أيها المؤمنون فغاروا على أنفسكم وحافظوا على مروءتكم وصونوا شهامتكم بحفظ نساءكم إن اللّه حي ستير يحب الحي والستر «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (59) يعفو عما سبق منكم إذا رجعتم إليه وامتثلتم أوامره في تحجب نسائكم وغيره.
وفي هذه الآية دلالة صريحة على ستر الوجه خلافا لما يقوله بعضهم لأن المعرفة المنهي عنها لا تحقق إلا بالوجه ، ولذلك أمر اللّه تعالى بتقريب الجلباب وإدنائه منه على المرأة لئلا تعرف ولو لم يكن المراد به تغطية الوجه لما بقي لهذا القيد من حاجة ، ولا بأس بإبداء العين إذا كان الجلباب ثخينا لتتمكن من النظر إلى طريقها أما إذا كان الغطاء شفافا فلا.
وقد نهى اللّه عن النظر إلى المحرمات كما سيأتي تفصيله في الآية 31 وما بعدها من سورة النور الآتية ، قال إسماعيل حقي في تفسيره روح البيان : يغطين وجوههن كلها.
وقال غير واحد إلا عينا واحدة لتنظر بها طريقها ، أي إذا لم يكن الغطاء شفافا.
وفي قوله تعالى (ذلك أدنى) إلخ ، دليل واضح على لزوم الستر للوجه ، ولا يحول عن هذا القول إلا قليل المروءة والغيرة الذي يريد أن يسوي بين الحرة والجارية والطاهرة والمشبوهة والمسبلة ، قال أنس مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة وقال لها يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ، ألق القناع.
قال هذا عمر لعلمه أنها ممتهنة خسيسة مملوكة ، ومن كانت كذلك فإن وجهها وذراعيها ليس بعورة ، وليظهر ميزة الحرائر اللائي نص اللّه عليهن في كتابه فلم يبق من حجة لمدعي السفور بعد أمر اللّه تعالى في هذه الآية العامة لنساء النبي وغيرهن ، ألا فليتق اللّه الرجال لأنهم هم القوامون على النساء القادرون على منعهن من الخلاعة التي هي أكبر من السفور والوزر عليهم إن لم يفعلوا.
قال تعالى «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ» عن قذفهم المؤمنين سرا كان أو جهرا «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» فجور وهم الزناة لقوله تعالى(5/494)
ج 5 ، ص : 495
(فيطمع الذي في قلبه مرض) أي ريبة زنا من أن يتابعوا النساء ويطلعوا على عوراتهن حبا بإشاعة الفاحشة.
وهذا بمناسبة المقام على الإطلاق فيكون المراد بهم الذين في قلوبهم شك وضعف يقين وشبهة اعتقاد في الإسلام «وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ» بنشر أخبار سوء كاذبة عن أحوال المؤمنين ليوقعوا الاضطراب في قلوبهم ويثبطوهم عن الخروج مع حضرة الرسول ، ولذلك أقسم اللّه بقوله تعالى «لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ» أي واللّه لنسلطنك عليهم ونأمرنك بقتلهم والتحرش بهم ، وهذا القسم الجليل في الأصناف الثلاثة على أنهم إذا لم يرجعوا عنها ويتركوها يهلكهم اللّه على يد رسوله ، ثم عطف على جواب القسم قوله «ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها» أي المدينة «إِلَّا قَلِيلًا» (60) بقدر مدة ارتحالهم عنها ولا شك أن الجلاء أمر عظيم ما فوقه إلا القتل ، وكثيرا ما يفضل القتل عليه لما فيه من المذلة والاحتفار والهوان
«مَلْعُونِينَ» هؤلاء الأصناف الثلاثة مطرودين «أَيْنَما ثُقِفُوا» وجدوا وأدركوا فإن لم يتوبوا ويؤمنوا «أُخِذُوا» قبض عليهم وأسروا فإن أصروا عذبوا «وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» (61) كثيرا بدلالة التشديد «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» أي أن أخذ أمثال هؤلاء وقتلهم وإجلاءهم إن يبقوا مصرين على حالهم هي عادة اللّه في خلقه السالفين «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (62) أبدا بل تبقى مطردة جارية مجراها لا يحول دونها شيء.
ولما كان المشركون حينما كان حضرة الرسول في مكة يديمون سؤالهم عن الساعة استهزاء لأنهم لا يعتقدون وجودها صار اليهود يسألونه عنها أيضا امتحانا لأنهم يعرفونها من المغيبات ويعتقدون بها ، أنزل اللّه تعالى «يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ» متى تكون «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» لا علم لي بها ولا لأحد غيري «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» (63) وهذا تهديد وإسكات والإتيان يذكر بالظاهر بدل المضمر تعظيم لشأنها ، راجع الآية 177 من سورة الأعراف في ج 1 وأول سورة النبأ في ج 2 وما ترشدك إليه في بحث الساعة ، «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ» بوجود الساعة الذين ينكرون اليوم الآخر والحياة الآخرة «وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً» (64) تحرقهم وسيبقون «خالِدِينَ فِيها أَبَداً(5/495)
ج 5 ، ص : 496
لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً»
(65) يمنعهم من عذابها ويخلصهم وينقذهم من بلائها ، وإن هؤلاء الجاحدين سيصدقون فيها «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» وإذ ذاك «يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» (66) فصدقناه ولم نكفر بما جاءنا به ولم نجحد ما أخبرنا به «وَقالُوا» أتباع الكفرة «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا» بإنكار هذا اليوم لأنهم موهوا علينا إنكاره وجحده «فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» (67) إذ يقولون لنا لا بعث ولا حساب ولا عقاب ولا ثواب ، وكذلك لم نتبع الهدى الذي جاء به رسلك «رَبَّنا آتِهِمْ» الآن جزاء إضلالهم إيانا في الدين «ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ» لإضلالنا وإضلال أنفسهم وانتقم لنا منهم «وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» (68) كثيرا بأبلغ ألفاظه ، وبعد أن أبدوا عذرهم ولم ينفعهم أظهروا أسفهم وندمهم ولات حين مندم فزجوا في النار وأطبقت عليهم أبوابها وتزايد عليهم عذابها.
ثم إن اللّه تعالى لمح لعباده بعدم التصدي لأذية الرسول بذكر ما وقع من اليهود لسيدنا موسى عليه السلام ، فقال عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى » فتؤذون رسولكم بما يصدر منكم من القول والفعل فإن اللّه تعالى يغضب لأذيته فتؤذون من أجله وذلك أن جماعة من بني إسرائيل رموه بأنه آدر لأنه كان حين يغتسل يغتسل بثوبه لشدة حيائه بحضور قومه ، ثم إنه ذات يوم لم يكن عنده أحد فنزع ثوبه ووضعه على حجر ونزل ليغتسل ، فلما عاد ليلبسه فر الحجر به فتبعه وكانوا يراقبونه فنظروا إليه فلم يجدوا فيه بأسا ، فظهر كذبهم ، ثم إنهم اتهموه بقتل هرون فأكذبهم اللّه إذ أراهم إياه جبريل عليه السلام كما سيأتي في الآية 26 من سورة المائدة ، ثم أغروا به المومسة بأن تعزو له مواقعتها كما سبقت القصة في الآية 82 من سورة القصص في ج 1 فكذبتهم بما ألقى اللّه في قلبها «فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا» في حقه راجع الآية 48 المارة ، وفي هذه الآية تحذير للمؤمنين بأن لا يتجاسروا على ما فيه أذية رسولهم ولا يتهموه بشيء مخالف أو سيىء ولا يظنوا به حيفا لأحد فإن اللّه تعالى يبرؤه مما يجرءون أو يتفوهون عليه به لأنه كريم على ربه مثل موسى الذي يقول ربه في حقه «وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» (69) مقبولا موقرا(5/496)
ج 5 ، ص : 497
عظيما ، وان محمدا أكبر وجاهة وأجل حرمة عند ربه وأعظم درجة وأقرب منزلة منه وأزيد فضلا من الرسل كافة ، وما جاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم من قوله لا تفضلوني على موسى ، هو من قبيل هضم النفس والتحدث بالنعمة ، وإلا فهو يعلم بإعلام اللّه إياه أنه أفضل وأكمل خلق اللّه الرسل فمن دونهم.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» من أن يقع منكم شيء يغضب اللّه ورسوله «وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً» (70) صوابا عدلا وإياكم والخوض فيما لا يعنيكم وإنكم إذا امتثلتم وانقدتم إلى اللّه
«يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً» (71) في الآخرة لا يضاهيه فوز.
ولما أرشد اللّه كمل عباده إلى مكارم الأخلاق وبين عظيم شأن طاعته وطاعة رسوله أعقبه ببيان ما يوجب ذلك وصعوبة الوصول إليه بقوله عز قوله «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ» التي ملاكها طاعة اللّه ورسوله ، وجماعها امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وقوامها مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ، فيدخل فيها الامتثال لكل شيء حسن والاجتناب عن كل شيء ، كالوفاء بالوعود والعهود وعدم نقضها والغدر فيها وأداء الودائع والأمانات والكف عن كتمها والمماطلة بأدائها ومنع الحواس عن غير ما خلقت لها وصرفها فيما أباحه اللّه تعالى ووضع الشهوات في محالها المباحة وكفها عما حرم اللّه وغير ذلك.
وكان هذا العرض «عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ» ليحملنها وخص اللّه تعالى هذه الثلاثة دون غيرها لكمال شدتها وصلابتها فامتنعن لأنهن وإن كن في غاية القوة إلا أن أمانه اللّه فوق ذلك ، ولهذا حكى حالهن بقوله «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها» خوف الإضاعة فيكنّ قد خنّها لأن حملها عبارة عن خيانتها لتحقق عدم القيام بها كما يريده اللّه وأن عدم القيام بأوامره خيانة كالإقدام على نواهيه «وَأَشْفَقْنَ مِنْها» خفن من أن لا يقمن بها فلا يؤدينها كما أراده اللّه منهن فيلحقهن عذابه وينلهن عقابه «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» لفظ عام في آدم وغيره إلى قيام القيامة ، فالإنسان المركب من اللحم والدم والعظم على ما هو عليه في غاية الضعف بالنسبة لتلك أقدم على حملها مع وهنه ، وتلك الأجرام العظيمة أبت أن تقدم على حملها ، وما ذلك إلا لأنه كما ذكر اللّه «إِنَّهُ كانَ» ت (32)(5/497)
ج 5 ، ص : 498
ولم يزل «ظَلُوماً» لنفسه «جَهُولًا» (72) لخطأه جهولا لما يراد منه جهولا بعاقبته إلا من وفقه اللّه لرشده.
هذا ولما كان ما من عموم إلا وخص منه البعض فإن الأنبياء والكاملين من خلق اللّه مستثنون من ذلك ، لأنهم هم الآمرون الناهون بلسان اللّه تعالى.
روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان قال : حدثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر (أصل) قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال ينلم الرجل النومة فتقبض الأمانة من قبله فيظل أثرها مثل الوكت (أي الأثر اليسير) ثم ينام الرجل النومة فيقبض الأمانة من قبله فيظل أثرها مثل المجل (أي غلظ الجلد من أثر العمل) كجمر دحرجته على رجلك فتنقض فتراه منبترا (منتفخا) وليس فيه شيء ، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله (تمثيلا لهم) فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال من حبة من خردل من إيمان ، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه ، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه (أي رئيسه الذي يصدر عن رأيه ولا يمضي أمرا دونه والوالي الذي ينصف من التعدي ومن ولي أمر قوم فهو ساع عليهم) وأما اليوم فما كنت لأبايع فيكم إلا فلانا وفلانا.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال : بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في مجلس يحدث القوم فجاء اعرابي فقال متى الساعة ؟ فمضى صلى اللّه عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال ، وقال بعضهم لم يسمع ، حتى إذا قضى حديثه قال أين السائل عن الساعة ؟ قال ها أنا يا رسول اللّه ، قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال كيف إضاعتها يا رسول اللّه ؟ قال إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة.
قال تعالى «لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ» الذين ماتوا على ما هم عليه من نفاق وشرك ، ولم يتوبوا ونقضوا عهد اللّه المأخوذ عليهم بطاعته وطاعة رسوله ، وخانوا ما ائتمنوا عليه للّه ولخلقه ولم يوفوا بما وعدوا «وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ»(5/498)
ج 5 ، ص : 499
فيرحمهم ويحسن إليهم ويتفضل عليهم لوفائهم بما عاهدوا اللّه عليه وآمنوا بما بلغهم عن رسوله وصدقوا بما جاءهم من عنده «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (73) لأمثالهم من عباده ، ولا يزال كذلك.
هذا آخر سورة الأحزاب وهي بحذافيرها كما أنزلها اللّه على رسوله بواسطة أمينه ، فمن قال إن الأرضة أكلت قسما منها وهي في بيت
عائشة ، وان الكتاب دونوا ما وجدوه منها فهو ملحد منافق قد افترى على اللّه ورسوله بما قال وكلامه مردود عليه من وجوه ، أولا إذا كان طرأ على شيء منها في بيت عائشة فهل طرأ على ما كان عند الكتاب من النسخ ، لأنهم كانوا يكتبون لرسول اللّه ويحتفظون بنسخ عندهم ، ثانيا هل رفعت من قلوب الحفاظ الذين كانوا يحفظون القرآن كما تلقوه من حضرة الرسول ويتدارسونه بينهم صباح مساء ، ثالثا هل يخفى ذلك على الخلفاء الراشدين الذين يقرأون القرآن آناء الليل وأطراف النهار وهلا اطلعوا عليه حينما نقلوا الصحف من بيت عائشة إلى بيت حفصة إلى أن أعطاها الخليفة عثمان إلى القراء الأمناء حين نسخوه على المصاحف والإسلام ناشر رواقه ، رابعا أغفل هذا الخبيث عن قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من سورة الحجر ج 2 ويتفوه بذلك مع تعهد اللّه بحفظه وهل يشك في هذا العهد إلا كافر مارق ؟ ألا لا يلتفت إلى أقوال هؤلاء لأنهم لا أمانة لهم ولا صدق عندهم وهم أشبه باليهود الذين يحرفون كلام اللّه بعد ما عقلوه ، قاتلهم اللّه وأضرابهم وجعل سجين مأواهم ومثواهم.
هذا وقد أشرنا في المقدمة في بحث النزول وفي الآية المذكورة آنفا والآية 42 من سورة حم السجدة في ج 2 إلى ما يتعلق بهذا البحث فراجعه.
ويوجد ثلاث سور محتومة بما ختمت به هذه السورة من اللفظ العظيم هذه والأنعام والمزمل.
هذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الممتحنة
عدد 5 - 91 و60
نزلت بالمدينة بعد الأحزاب وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وأربعون كلمة ، وألف وخمسمائة وعشرة أحرف ، ويوجد في القرآن عشر سور مبدوءة بيا أيها : هذه والنساء(5/499)
ج 5 ، ص : 500
والأحزاب والمائدة والحج والحجرات والطلاق والتحريم والمدّثر والمزمل.
ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ، ولا مثلها في عدد الآي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» من دوني دون المؤمنين ، فتغتروا بهم ، وتصيروا «تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» فتفشون أسراركم إليهم وتعلمونهم بأخبار رسولكم وجيوشكم وتطلعونهم على أموركم ، كيف يليق بكم أن تفعلوا هذا «وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» على لسان رسولكم ، وهو القرآن المنزل إليكم من ربكم ، ويريدون بكل جهدهم «يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ» من أوطانكم ودياركم لشدة عداوتهم لكم لأنهم أعداء اللّه وأعداء رسوله من أجل «أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» وترككم ما هم عليه من الذين ليس لسبب آخر فاحذروا أيها المؤمنون من أن توالوهم «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ» من مقركم مكة وتركتم أموالكم وأتباعكم «جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي» فإن لم يكن خروجكم وجلاؤكم لهذين السببين فشأنكم وإياهم.
واعلموا أني أنا اللّه ربكم غني عنكم وعن الخلق أجمع ، أقول لكم على سبيل التقريع والتعنيف لتذكروا أمركم وتدبروا عاقبته كيف «تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» وتظهرون لهم المحبة وتبدون لهم النصيحة بقصد الصحبة معهم خفية عن نبيكم «وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ» من ذلك واني مخبر نبيكم بما يقع منكم ، فانتهوا عن هذا ولا تفعلوه أبدا «وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ» بعد هذا النهي فيسر إليهم بشيء من ذلك «فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» (1) وبقي تائها في عماه لا يهتدي إلى خير.
مطلب الاخبار بالغيب في كتاب حاطب لأهل هكة ونصيحة اللّه للمؤمنين في ذلك :
وسبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم عن علي كرم اللّه وجهه قال بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (بقرب حمراء الأسد من أرض المدينة) فان بها ظعينة أي المرأة المسافرة سارة مولاة ابي عمرو بن صيفي بن هاشم حليف بني أسد بن عبد العزى معها كتاب فخذوه منها(5/500)
ج 5 ، ص : 501
قال فانطلقنا تتعادى بنا الخيل حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب ، فقالت ما معي من كتاب ، فقلنا أخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول اللّه قالوا وفيه أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم يا حاطب ما هذا ؟ فقال يا رسول اللّه لا تعجل علي اني كنت أمرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلته كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم انه صدقكم ، فقال عمر يا رسول اللّه دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم انه شهد بدرا وما يدريك لعل اللّه أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وهذا من الإخبار بالغيب ودلائل النبوة ومعجزاتها.
وجاء في خبر أنهم لما قالت لهم ما عندي من كتاب رجعوا ، ثم قالوا كيف وقد قال صلّى اللّه عليه وسلم ان معها كتابا وهو لا ينطق عن هوى ؟
فرجعوا إليها وقالوا لها ما قالوا بالحديث من التهديد ، فأخرجته لهم.
والمراد بإلقاء الثياب ما عندها من أشياء ولباس كي يتحروه لا غير ، إذ لا يظن بأصحاب رسول اللّه ما يتصوره الغير من هذا الكلام ، قال تعالى مبيّنا ما ننطوي عليه قلوب الكفرة على المؤمنين «إِنْ يَثْقَفُوكُمْ» يظفروا بكم هؤلاء الذين تتقربون إليهم «يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً» ولا يقدرون مودتكم لهم بل يعدونها نفاقا منكم لهم وخوفا منهم لأنهم يتربصون بكم الدوائر وعند سنوح الفرصة ينتقمون منكم «وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ» بالقتل والسلب والسبي «وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ» من سب وشتم وتحقير وإهانة ونسبة الكذب والخيانة ، لأن العدو إذا عرفكم خنتم قومكم بما تطلعونه عليه من أخباركم لا يأمن لكم ولا يولونكم من أمرهم شيئا ويقولون لكم إن الذي يخون قومه فهو لغيرهم أخون فلا يركن إليكم ولا يأمنكم ، فتبقون محقرين عندهم أذلاء مهانين مهددين بالقتل والسبي إن لم يقتلوكم حالا «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» (2) وترجعون إلى دينهم ، وانهم لاسمح اللّه لو ظفروا بكم لقسروكم على الكفر لتكونوا(5/501)
ج 5 ، ص : 502
مثلهم وإذ ذاك «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ» ولا أقاربكم وأصحابكم الذين يحتجون بهم في الدنيا ، إذ لا فائدة لكم منهم ولا ينفعونكم أبدا «يَوْمَ الْقِيامَةِ» غدا عند اللّه ولا يقونكم شيئا من عذابه ، فلا يحملنكم وجود أحد عندهم من ذويكم على الرأفة بهم وتخونون رسول اللّه من أجلهم ، فإنهم لن يغنوا عنكم من اللّه شيئا هو الذي «يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ» وبينهم يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه ، وليعلم أن من في الأرض جميعا لا ينجيه من اللّه «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (3) لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإذا أحببتم أيها المؤمنون بما فيكم حاطب المخصوص في هذه الآيات أن تتأسوا بمن قبكلم في أعمال الخير فإنه «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ» خليل اللّه «وَالَّذِينَ مَعَهُ» من المؤمنين به «إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ» المشركين «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» حيث تبين لهم كفرهم وقالوا «كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» وقاطعوهم في كل شيء فكيف توادونهم وأنتم خير أمة أخرجت للناس ، ألا تعتقدون بأفعال هؤلاء الكرام كلها «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» فلا تتأسوا به إذ لا يجوز الاستغفار للمشركين ، لأن هذه الجملة مرتبطة بما قبلها من ذكر ابراهيم عليه السلام وما بينهما اعتراض تدبر ، وإن ابراهيم لم يقل هذا إلا بعد أن وعده بالإيمان ، قال تعالى دفاعا عن خليله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية 105 من سورة التوبة الآتية ، وأنتم قد تبين لكم أن المشركين أعداء اللّه ورسوله واعداء لكم فكيف تواصلونهم وتفشون إليهم
أسراركم ؟ وقد قال ابراهيم لأبيه بعد أن وعده بالاستغفار «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ» لأنه هو ولي التوفيق وكان ابراهيم وأصحابه يقولون في دعائهم «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (4) في الآخرة الدائمة ويقولون أيضا «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» في الدنيا لأنهم يعذبوننا إذا تسلطوا علينا ليصرفونا عن ديننا ، ولهذا فإنا نبرأ إليك منهم يا ربنا لا تجعل لهم علينا يدا «وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ(5/502)
ج 5 ، ص : 503
أَنْتَ الْعَزِيزُ»
الغالب لكل أحد «الْحَكِيمُ» (5) بما يقع منك على عبادك «لَقَدْ كانَ لَكُمْ» أيها المؤمنون حاطب فمن دونه إلى يومنا هذا ، وما بعد إلى قيام الساعة «فِيهِمْ» أي إبراهيم وأصحابه «أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» وقدوة جميلة نافعة «لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» فيخاف عذابه ويأمل ثوابه أن يقتدي بهم لا بأفعال الكفار وما يؤدي إلى الكفر بأي قصد كان «وَمَنْ يَتَوَلَّ» عن نصح اللّه وارشاد رسله ، ولم ينزجر عن موالاة الكافرين «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عنه وعن غيره فليفعل ما يشاء وإن مرده إليه وهو يعلم كيف يعاقبه على ذلك ، وهو «الْحَمِيدُ» (6) لفعل أهل طاعته فيثيبهم ثوابا كريما فلما سمع المؤمنون هذه الآيات اشتدت عداوتهم لأقربائهم الكفار ووجدوا عليهم وتبرؤوا منهم ، وأراد اللّه تعالى أن يطمعهم فيهم ، فأنزل «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ» من أقاربكم الكفار وغيرهم «مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ» على إنشاء المودة بينكم «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تاب منهم وأصلح «رَحِيمٌ» (7) بعباده كلهم يحببهم بعضهم
لبعض ، وقد حقق اللّه لهم ذلك وأسلم كثير منهم ، ثم رخص اللّه تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين بقوله عز قوله «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ» بقصد صدكم عنه أو عدم القيام به والتحلي بشعائره ولا يخاصمونكم من أجله «وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» قسرا فيجلوكم عنها «أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» وتعاملوهم بالإحسان والعدل والإنصاف وتصلوهم بالسراء والضراء «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (8) العادلين في ذلك الذين يقابلون المعروف بمثله وأحسن.
روى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنها قالت قدمت عليّ أمي (فتيلة بنت عبد العزى) وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول اللّه وحدتهم فاستفتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقلت يا رسول اللّه إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها ؟ قال نعم صليها ، زاد في رواية فأنزل اللّه هذه الآية.
أنظر أيها القارئ إلى عظيم إيمان هذه المرأة إذ لم يمل قلبها إلى صلة أمها الكافرة ولا قبولها في بيتها إلا بعد إفتاء الرسول لها بذلك.
وقال ابن عباس نزلت في خزاعة إذ صالحوا حضرة الرسول على أن(5/503)
ج 5 ، ص : 504
لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه ، وقد ذكرنا غير مرة أن لا مشاحة في تعدد أسباب النزول وإن آية واحدة قد تكون لعدة حوادث ، ثم ذكر اللّه الذين لا تجوز صلتهم ولا مقاربتهم وهم في ذلك الزمن أهل مكة.
فقال جل قوله «إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا» اليهود وغيرهم «عَلى إِخْراجِكُمْ» من المدينة واستئصالكم.
إذ جاءت الآية عامة فيدخل فيها كل من يفعل ذلك مع المؤمنين إلى آخر الزمان ، فلا يجوز للمؤمن مصافاة من هذا شأنهم فيحرم عليكم أيها المؤمنون «أَنْ تَوَلَّوْهُمْ» أبدا وتفكروا فيما هدد به تعالى من يواليهم بقوله «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ» منكم «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (9) أنفسهم الآيسون من رحمتي الآئبون بالندم وسوء العاقبة لأنهم وضعوا ثقتهم في غير محلها فلا يلومون إلا أنفسهم عند حدوث ما يسوءهم منهم.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ» اختبروهن لتعلموا هل هن مؤمنات حقا أم لا فإن ظهر لكم أنهن مؤمنات فاقبلوهن ولا تقولوا إنهن باطنا غير مؤمنات «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» منكم لأن لكم الظاهر واللّه عليم بما في الصدور «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ» بعد الفحص «مُؤْمِناتٍ» بحسب الظاهر ولم تروا ريبة في مجيئهن وإبقائهن بين أظهركم «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ» بعد ذلك «إِلَى الْكُفَّارِ» أزواجهن الأول «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ» لأنهم مشركون «وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» لأنهن مسلمات ، فتقع الفرقة بينهم ، راجع الآية 222 من سورة البقرة المارة «وَآتُوهُمْ» أي أزواجهم الكفار «ما أَنْفَقُوا» عليهن من المهور لأنه حقهم ولم يعطوه إلا لحق الزوجية ، وقد انقطعت بغير إرادة الأزواج ، فيكون بمثابة بدل الخلع «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» بعد ذلك «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» مهورهن «وَلا تُمْسِكُوا» أيها المؤمنون «بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» اللاتي بقين مشركات في دار الحرب أو اللاتي قد ارتددن ولحقن بدار الحرب «وَسْئَلُوا» من يتزوجهن من الكفّار أن يعطوكم «ما أَنْفَقْتُمْ» عليهن من المهر «وَلْيَسْئَلُوا» الكفار أيضا فيطلبوا منكم «ما أَنْفَقُوا» على نسائهم المهاجرات اللاتي تزوجتم بهن من(5/504)
ج 5 ، ص : 505
المهور أيضا «ذلِكُمْ» الأمر الذي أمرتم به بإعادة المهر منكم ومنهم على السواء هو «حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» بالعدل لأنه رب الكل «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (10) نزلت هذه الآية بعد صلح الحديبية ، ولذلك أمر اللّه تعالى بالتسوية بين المؤمنين والكافرين رعاية لعهد الصلح الواقع بينهم ولولاه لم يرد لهم الصداق كما منع فيمن جاء من المسلمات قبل المعاهدة ، لأن الوفاء بالعهد واجب قديما ، وقد اشتد وجوبه في الإسلام.
مطلب من جحد عهد الحديبية وما يتعلق بالنسخ ونص المعاهدة وما وقع فيها من المعجزات :
روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول اللّه قال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن لا يأتيك منا أحد ولو كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه ، وكره المؤمنون ذلك ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي على ذلك فرد يومئذ أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته ، أي رسول اللّه يومئذ أحد من الرجال إلّا ردّه في تلك المدّة وإن كان مسلما ، وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول اللّه يومئذ وهي عاتق شابة بأول عمرها وإدراكها ، ويقال للّتي بين الإدراك والتّعنيس أو التي لم تتزوج عاتق أيضا ، فجاء أهلها يسألون النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن يرجعها لهم فلم يرجعها حتى أنزل اللّه فيهن هذه الآية ، قال عروة قالت عائشة ان رسول اللّه كان يمتحنهن بهذه الآية (أي الآتية بصيغة المبايعة) ، قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذه الشروط (المذكورة في الآية) منهن قال لها قد بايعت ، كلاما يكلمها ، واللّه ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله.
قال ابن عباس امتحانهنّ أن يستحلفهن ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا لا لتماسي دينا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحب اللّه ورسوله ، وهذا هو الصواب في معنى الامتحان ، وما جاء عن عائشة فهو صيغة المبايعة ليس إلا ، وإنما كان كذلك لأن رد النساء المؤمنات لم يدخل في المعاهدة ، وما قيل(5/505)
ج 5 ، ص : 506
إن النساء كن داخلات فنسخ اللّه ردهن فهو تعسف عفا اللّه عن أمثال هذا القائل لأنه وأمثاله شديد والرغبة في النسخ ، وقد استقصوا فيه قدرتهم من كل ما تصورته أذهانهم حتى حدا بهم الحال إلى هنا ، وما أرى هذا إلا من باب الجرأة على اللّه لأن من يتورع أو يقارب الورع يبعد عليه هذا الخوض إلى هذا الحد.
هذا وقد امتثل المؤمنون ما أمر اللّه به حتى أن عمر طلق زوجتيه المشركتين القاطنتين في مكة وهما فاطمة بنت أميه بن المغيرة وتزوجها معاوية ، وكلثوم بنت عمرو الخزاعية وتزوجها أبو جهم بن حذافة ، وطلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة وتزوجها بعد في الإسلام خالد بن سعد بن العاص ، وأسلمت زينب بنت رسول اللّه فتركت زوجها أبو العاص بن الربيع على كفره في مكة ولحقت بالمدينة ثم أتى وأسلم فردها إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
ولما أبى المشركون أن يقروا بحكم اللّه ورسوله في ذلك أنزل اللّه جل شأنه «وَإِنْ فاتَكُمْ» أيها المؤمنون «شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ» بأن ذهبن مرتدات ولم يردوا إليكم مهوركم لاهن ولا أوليائهن ولا الذين تزوجوا بهن بعدكم «فَعاقَبْتُمْ» به المشركين بأن غزوتموهم وغنمتم منهم أموالا وغيرها «فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا» عليهن من هذه الغنيمة وما بقي فاقسموه بينكم كما أمر اللّه «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» (11) واعلموا أنكم محاسبون على عملكم إذا خالفتم أمره فاعملوا بحكمه فيكم تفوزوا وتنجحوا.
قالوا إن النساء اللاتي ارتددن ستة ، أم الحكم بنت أبي سفيان تركت زوجها عاصي بن شداد الفهري وفاطمة بنت أمية تركت زوجها عمر بن الخطاب ومروع بنت عقبة تركت زوجها شماس بن عثمان وعبدة بنت عبد العزى تركت زوجها عمرو بن عبد ودّ هند بنت أبي جهل تركت زوجها هشام بن العاص وكلثوم بنت عمرو تركت زوجها عمر بن الخطاب لأنها لما أبت الإسلام وأصرت على الكفر طلقها هي وزوجته الأولى فاطمة كما مرت الإشارة إليها آنفا ، فأعطاهم رسول اللّه مهورهن من الغنيمة ، فلو فرض وقوع معاهدة كهذه بين المسلمين والكافرين فيكون العمل بحق النساء اللاتي يتركن أزواجهن من الطرفين على هذا ، لأن الآية محكمة ولا دليل على نسخها البتة.
وخلاصة القصة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم(5/506)
ج 5 ، ص : 507
بعد أن وفقه اللّه في حادثة الأحزاب وفعل ما فعل في بني قريظة وبرد ظهره من الأعداء المجاورين له اشتاق لزيارة البيت الشريف وأمر الناس أن يتجهزوا ففعلوا وخرج بهم من المدينة يوم الاثنين من ذي القعدة سنة ست من الهجرة الشريفة في بضع عشر مئة من أصحابه بقصد الزيارة وساقوا معهم البدن ، فلما وصلوا ذا الخليفة قادوا الهدى وأشعروه وأحرموا بعمرة وبعث عينا (جاسوسا) يخبره عن قريش ، ولما بلغوا غدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه عتبة الخزاعي ، وقال إن قريشا قد بلغها مقدمك ، وقد هاجت وماجت وأجمعت على صدك عن البيت فأمر صلّى اللّه عليه وسلم بالنزول ، ونزل القوم ، فقال وهو عازم على زيارة الحرم رغم كل مقاومة أشيروا علي أيها الناس ، أتريدون أن أميل أولا على ذراري من انضمّ إلى قريش من الأحابيش وغيرهم يوم الخندق دعا وعاونوهم علينا ، فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها اللّه أو تريدون أن نؤم البيت أولا لا نريد قتالا ولا حربا فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ فقال أبو بكر يا رسول اللّه إنما جنت عامدا للزيارة فتوجه لقصدك فمن صدنا قاتلناه ، قال امضوا على اسم اللّه.
ثم إن رسول اللّه قال لقومه ان خالد بن الوليد بالتنعيم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين ، فأخذوا قال المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم واللّه ما شعر خالد إلا وهو في قترة أي غبار الجيش ، وهذه معجزة له صلّى اللّه عليه وسلم لأنه أخبرهم به قبل أن يصلوا إليه ، فلما رآهم انطلق ينذر قريشا ، وكان ذلك قصد الرسول ، ولما وصلوا إلى الثنية التي يهبط منها بركت راحلته فقالوا فلأت القصوى أي حرنت ناقة رسول اللّه ، فقال ما فلأت ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم زجرها فوثبت وعدل عن الثنية ، ونزل بأقصى الحديبية وهي قرية بينها وبين مكة مرحلة سميت باسم بئر فيها قليل الماء ، فنزلوا ونزح الماء وشكوا العطش ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إلى ناجية سائق بدنه خذ هذا السهم واغرزه فيها ففعل ففاضت وما زالت تجيش بالري أي الماء حتى صدروا ، وهذه معجزة أخرى ثم قال لأصحابه لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات اللّه وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها وأجبتهم إليها وإن كان فيها مشقة.
وفي هذه الجملة تعليم لأمته وإرشاد لها إلى مكارم الأخلاق ولو كانت من أحرج المواقف ، فلما(5/507)
ج 5 ، ص : 508
رأى بديل بن ورقاء الخزاعي خروج قريش إلى اعداد مياه الحديبية وتصميمهم على صد محمد وأصحابه وعرف عزم محمد صلّى اللّه عليه وسلم على دخول البيت ، وكانت خزاعة حليفة لبني هاشم ، جاء بنفر من قومه إلى حضرة الرسول وأخبره خبر قريش وانهم أخرجوا معهم النياق ذوات اللبن وذوات الحيران بما يدل على عزمهم على طول الإقامة وقصدهم القتال وإنك غوّرت أي بعدت عن المدينة
ولا سلاح معك ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إنا لم نأت لقتال وإن قريشا نهكتهم الحرب وقد جئنا معتمرين ، فإن شاءوا ماددتهم مدة تترك فيها الحرب ، وإلا فإن لم يفعلوا وأصروا على صدي فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على هذا حتى تنفرد سالفتي (السالفة صفحة العنق وكنى عنها بالموت) ولينفّذن اللّه أمره.
فرجع بديل إلى قومه وعرض عليهم ما قاله ، فقال عمرو بن مسعود الثقفي قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، فقالوا له ائته وكلمه ، فجاء عروة وقال يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أو أوقع المكروه في أصله قبلك ؟ ثم قال له إن المسلمين أصحابك ليسوا من قبيلة واحدة فلا رابطة بينهم ولا يؤمن فرارهم وعظم من قريش ، فقال له أبو بكر رضي اللّه عنه امضض بظر اللات (البظر من المرأة كالقلقة من الرجل) فقال لو لا يدك عندي لأجبتك يا أبا بكر ، وكان المغيرة بن شعبة مصلتا سيفه وعليه المغفر واقفا على رأس رسول اللّه ، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللّه يتودده بالكف والرجوع حقنا للدماء ضربها بنصل السيف ، ويقول أخر يدك عن لحية رسول اللّه فقال له عروة أغدر ، وإنما قال له هذه الكلمة لأنه صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم أسلم ، فقال له صلّى اللّه عليه وسلم أقبل إسلامك ، أما المال فلست منه في شيء ، وصار عروة يرمق أصحاب رسول اللّه ورجع إلى قومه فقال أي قوم واللّه لقد وفدت على الملوك فما وجدت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم محمدا أصحاب محمد ، وما هو يملك ، واللّه ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل فيدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، وإني رأيت قومه لا يسلمون بشيء أبدا ، وما أراكم إلا(5/508)
ج 5 ، ص : 509
ستصيبكم قارعة ، فانظروا رأيكم فقال رجل من كنانة دعوني آته فقالوا ائته ، فلما أشرف قال صلّى اللّه عليه وسلم هذا رجل من قوم يعظمون البدن فابعثوها إليه ، فلما رآها واستقبله الناس يلبون وقد بعثت إليه البدن قال سبحان اللّه ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فرجع إلى أصحابه وقال إن البدن قلدت وأشعرت فلا أرى أن يصدوا عن البيت ، ثم بعثوا رئيس الأحابيش الحليس بن علقمة ، فلما رآه صلّى اللّه عليه وسلم قال هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه فبعثت ، فلما رأى الهدي يسيل بالوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس ، رجع إلى قريش وقال لهم إني رأيت ما لا يحلّ صده ، لأن القوم زائرون معتمرون ليسوا بمقاتلين ولا محاربين ، فقالوا له أنت أعرابي لا علم لك بشيء ، فغضب وقال ما على هذا حالفناكم ، والذي نفسي لنخلّين بين محمد وبين ما جاء به أو لأنفرنّ بالأحابيش ، فقالوا له كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا من محمد ما نرضى به.
وأرسلوا إليه مكرز بن حفص ، فلما أشرف قال صلّى اللّه عليه وسلم هذا رجل فاجر ، فلما وصل وصار يكلم محمدا فلم ينته بشيء ، ورجع فلما رأى رسول اللّه اخفاق مساعي سفراء قريش الخمسة المذكورين ، استدعى عمر بن الخطاب وأمره بالذهاب إلى مكة لاستطلاع خبر أهلها ، فقال يا رسول اللّه ليس بمكة من بني عدي أحد ، وقد علمت قريش عداوتي لها ، وإن عثمان أعزّ بها مني ، فبعث أولا خراشة بن أمية الخزاعي فانبعث عليه عكرمة ابن أبي جهل وعقر ناقته وهمّ بقتله ، فتداركه القوم وأنقذوه وردوه إلى قومه ، وهذا الفرق بين الكفر والإيمان خمسة سفراء من قريش لم يتعرض لهم المسلمون وسفير واحد فعلوا به ذلك ، فدعا صلّى اللّه عليه وسلم عثمان وبعثه إلى أبي سفيان بأن يخبره سبب قدومهم ، وزوده بكتاب شرح فيه ما وقع ، وأمره أن يزور المسلمين بمكة ويغريهم ويصبرهم حتى يأتي فرج اللّه ، فذهب وفعل ما أمره به ، وغاية ما سمحوا له أن يطوف البيت ، وحبسوه عن الرجوع ، وأشيع أنهم قتلوه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إن كان حقا فلا نبرح حتى نتاجزهم ، ودعا الناس إلى البيعة على مقاتلتهم ، فأجابوه ، وأول من بايعه سنان الأسدي وقال أبايعك على ما في نفسي ، قال
وما في نفسك ؟ قال سنان أضرب بسيفي حتى يظهرك اللّه أو أقتل ، وبايعه الآخرون على مثل هذا ، ومنهم من(5/509)
ج 5 ، ص : 510
بايعه على أن لا يفر وقبل صلّى اللّه عليه وسلم مبايعتهم كلها.
روى البخاري ومسلم عن يزيد بن عبيد قال قلت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول اللّه ؟ قال على الموت وروى مسلم عن معقل بن يسار قال لقد رأيتني يوم الشجرة (التي وقعت تحتها المبايعة في الحديبية) والنبي صلّى اللّه عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ونحن أربعة عشر مائة ، قال لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ.
وروى البخاري عن ابن عمر قال إن الناس كانوا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوم الحديبة وتفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس يحدقون بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال عمر يا عبد اللّه أنظر ما شأن الناس أحدقوا برسول اللّه ؟ فذهب فوجدهم يبايعون ، فبايع ، ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع ، وكان أول من بايع سفيان بن وهب من بني أسد ، وهذا بالنسبة لما رأى فلا تنافي بين القول بأن أول من بايع سنان الأسدي ، ولم يتخلف إلّا جدّ بن قيس من بني سلمة مختفيا بإبط ناقته.
ولما بلغ قريشا خبر هذه المبايعة خفضت من غلوائها وأمرت بإطلاق عثمان ، وأرسلت سهيل ابن عمرو العامري ، وحويطب بن عبد العزى لعقد معاهدة بينهم وبين محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فلما رآهما ورأى عثمان جاء سالما قال لقومه لقد سهل اللّه لكم من أمركم.
وبعد المداولة معهما تم الصلح على وضع الحرب عشر سنين على الشروط المبينة في نص المعاهدة ، وهي هذه (باسمك اللهم ، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب سهيل ابن عمرو العامري ، على أن تخلي قريش بيننا وبين البيت نطوف به من العام المقبل ، وان من جاءنا منهم رددناه ، وإن كان مسلما ، ومن جاء قريشا ممن اتبعنا لا يرد إلينا) وان من دخل في عقد محمد وعهده دخل ، ومن دخل في عقد قريش وعهدها دخل (أي بان يقر كل على ما هو عليه قبل هذه المعاهدة).
فانتقد المسلمون هذه المعاهدة لا سيما وإن سهيلا لم يرض أن يكتب المعاهدة كاتب النبي أوس بن خولة ، ولا ان يكتب فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم لأنهم لا يعرفون هذه الجملة ، ولا يذكر فيها أن محمدا رسول اللّه ، لأنهم لو علموا أنه رسوله ما صدوه ولا حاربوه ، وكان المتفق عليه عليا كرم اللّه وجهه فأبى أن يمحو اسم رسول اللّه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أرنيه ، فأراه فمحاه بيده قاتلا أنا رسول اللّه وان كذبتموني ، وهذا يدل دلالة كافية على أنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يحسن(5/510)
ج 5 ، ص : 511
القراءة ، وإلا لما قال لعلي أرنيه ، راجع الآية 48 من سورة العنكبوت في ج 2 وإنما وافق صلّى اللّه عليه وسلم على هذه المعاهدة مع ما فيها من الحيف وعدم رضاء أصحابه بها وفاء بقوله لا تدعوني قريش إلى خطة فيها صلة رحم وشيء من حرمات اللّه إلا أجبتهم إليها.
ومن الشروط أن يرجعوا دون زيارة ، وانهم إذا أتوا من العام القابل لا يدخلون البيت إلا بجلباب السلاح والقوس.
هذا ولم يكد يستلم كل فريق نسخة من هذه المعاهدة التي أغاظت أصحاب محمد لأنها أمليت بإرادة سفير قريش الذي أصر على عدم دخولهم البيت لئلا يقال ان محمدا ضغط عليهم ، وإذا أبو جندل بن السفير نفسه جاء يرسف بحديدة ، لأن أباه حبسه بسبب إسلامه ، ولما سمع بمقدم رسول اللّه وأصحابه صار هو ورفقاؤه وضعفاء المسلمين يتدبرون الحيل للهرب من مكة والالتحاق بنبيهم ، فقال سهل هذا أول واحد ترّده ، فقال أبو جندل يعذبوني يا رسول اللّه ، فطلبه منه فلم يفعل ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم له احتسب فإن اللّه جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا ، لأنا عقدنا الصلح ولا نغدر ، فازداد غضب المسلمين حتى قال عمر واللّه ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ.
ورسول اللّه يثبطهم ويعدهم بحسن العاقبة وهم يتمزقون غيظا مما لحقهم من الحيف في هذه المعاهدة ، ويقولون نحن على الحق فلم نرض الدنية ؟ فقال أبو بكر إن محمدا لن يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسكوا بغرزه فإنه على الحق.
وبعد أن تكفل حويطب بن عبد
العزّى بأبي جندل وأجاره من أبيه وتعهد بأن لا يوقع به أذى ، قال يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين وجئت مسلما ؟ فتأثر المسلمون من ذلك ، وقالوا يا رسول اللّه كيف ترد من جاءنا ولا يردون من جاءهم ؟ قال نعم من ذهب منا إليهم فقد أبعده اللّه ومن جاء منهم فسيجعل اللّه له بعد عسر يسرا.
وأمرهم بنحر الهدي والرجوع إلى المدينة.
وقد ذكر اللّه هذه الحادثة في سورة الفتح عند قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) الآية 10 الآتية وسترى نتيجة هذه المعاهدة وما ينتج عنها وأول خير وقع بسببها كما سيأتي بيانه في الآية 75 من سورة النساء الآتية ، ونزلت هذه السورة بعد رجوعهم كما نبيّنه إن شاء اللّه تعالى في الآيتين المذكورتين آنفا.(5/511)
ج 5 ، ص : 512
مطلب مبايعة النساء ، وبقاء أثر نياحة الجاهلية حتى الآن في الفرات وغيرها :
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ» من بيوتهن ولا بيوت غيرهن شيئا «وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ» وأدا ولا بصورة أخرى «وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ»
بأن يلصقن أولادهن بغير آبائهم افتراء «بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ» أمامهن ، لأن كل ما هو بين يديك فهو أمامك «وَأَرْجُلِهِنَّ» تحتهن ، وذلك أن الولد إذا وضعته أمه يكون ساقطا بين يديها ورجليها ، فإذا قالت ولدي منك وليس منه فقد أتت ببهتان بين يديها ورجليها فضلا عن قولها وهذا زيادة في التحريض لهن على العفاف والصدق «وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ» تأمرهن به «فَبايِعْهُنَّ» يا سيد الرسل على هذه الشروط «وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ» عما مضى منهن مهما كان «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سبق من عباده «رَحِيمٌ 12» بمن اتبع دينه وآمن بنبيه.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية وما مسّت يده يد امرأة لا يملكها.
ورويا عن أم عطية قالت بايعنا رسول اللّه فقرأ علينا الآية (أي هذه) ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها فقالت فلانة اسعدتني (أي بكت وناحت معها على فقيد لها) أريد أن أجزيها ، فما قال لها النبي صلّى اللّه عليه وسلم شيئا ، فانطلقت ثم رجعت فبايعها.
وهذه العادة التي ذكرتها أم عطيه موجودة حتى الآن في محافظة الفرات ، حتى أن النائحة تقول (يا من تدبني دموع أبكاها اليوم تبكي لي وغدا ابكى لها) وكذلك يوجد كلمات من كلمات الجاهلية مثل (يا عزاه) وغيرها ، وكذلك في أعراب البادية وبعض المدن ، حتى ان الدروز إذا مات رجل معروف ألبسوا ثيابه خشبة وزينوا فرسه وصاروا يندبون عليه ، الرجال والنساء ، فيخمشون وجوههم ويسخمونها ويشقّون ثيابهم ويقصون شعورهم ويصيحون بالويل والثبور ويعددون صفات الميت بما فيه وما ليس فيه ويتقابلون بالسيوف ، حتى ان نساء العراق يسلخن ثيابهن لحد الصّرة حالة الندب ، وهناك عوائد أخرى من بقايا الجاهلية سنأتي على ذكرها في الآية الثانية فما بعدها من سورة النساء إن شاء اللّه ، وقد ألمعنا إلى شيء منها في(5/512)
ج 5 ، ص : 513
الآية 136 من سورة الأنعام فما بعدها ج 2 ، وإنما ذكرنا الضمير لأن الرجال يشتركون معهن عند موت كبير فيهم فيندبون ويثأرون بالسيوف والرماح.
ورويا عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.
وأخرج أبو داود عن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول اللّه من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجهها ، ولا ندعو ويلا ، ولا نشق جيبا ، ولا ننشر شعرا.
وأخرج النسائي عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن ، فقلن يا رسول اللّه نساء أسعدتنا في الجاهلية فنسعدهن ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا إسعاد في الإسلام.
وروى مسلم عن مالك الأشعري قال : قلال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم البائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب.
وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : لعن رسول اللّه النائحة والمستمعة.
وأخرج الترمذي عن أمية بنت رقية قالت : بايعت رسول اللّه في نسوة فقال لنا فيما استطعتنّ واطعتن ، قلنا اللّه ورسوله ارحم بنا منّا بأنفسنا ، قلت يا رسول اللّه بايعنا (قال سفيان يعني صافحنا) فقال صلّى اللّه عليه وسلم إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة.
وهذه الآية نزلت مع سورتها في المدينة.
وما قيل أنها نزلت بمكة بعد الفتح لا صحة له وهو أوهى من بيت العنكبوت ، وما استند إليه صاحب هذا القيل من أن هند زوجة أبي سفيان فيما بايعت رسول اللّه مع نساء مكة على الصفا قالت وهي مقنعة لئلا يعرفها حضرة الرسول بسبب ما فعلت بحمزة رضي اللّه عنه في واقعة أحد المارة في الآية 122 من آل عمران ، إنك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال وقالت إن البهتان لقبيح وإنك تأمرنا بالرشد ومكارم الأخلاق ، وقالت وما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء ، ثم قالت ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا حينما قال (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ) وقالت إن أبا سفيان لشحيح وأنا أحتسب في ماله قالوا وإن الرسول عرفها فقال إنك لهند قالت نعم فاعف يا رسول اللّه قال قد عفا اللّه عنك ، وما قيل إنه قال لها هند أكالة الكبود ، وإنها قالت له أني وحقود قد لا يصح ، وقد يصح ، والميل لعدم(5/513)
ج 5 ، ص : 514
الصحة أولى ، لأن مثلها كاملة لا تجابه رسول اللّه بمثل هذا الكلام ، كما أن حضرة الرسول لا يعنف أحدا بعد إسلامه ، فهذا وإن كان واقعا إلا أنه لا يدل على أن هذه الآية نزلت هناك ، وإنما بايعهن بمقتضى هذه البيعة التي بايع عليها النساء في المدينة لأن اللّه تعالى لم ينزل بكل حادثة آية ، فيكرر نزول الآيات بتكرار الحوادث بل آية واحدة لحوادث شتى وتطبيقها على ما يحدث بعد نزولها بتلاوتها من قبل النبي لا يعني أنها نزلت ثانيا وسبق أن بينا في سورة الفاتحة ج 1 عدم صحة نزول آية أو سورة مرتين ، قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» من اليهود وغيرهم «قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ» وحرموا من ثوابها لتكذيبهم محمدا صلّى اللّه عليه وسلم مع علمهم بأنه مرسل من اللّه حقا لهم ولغيرهم «كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» (13) الذين ماتوا على كفرهم من أن يرجعوا إليهم وأن يبعثوا ثانيا لأنهم ينكرون البعث ، وقد ختم اللّه هذه السورة بالمعنى الذي بدأها به تشديدا للكفّ عن موالاة الكافرين والمنافقين لأنها تعود على المسلمين بالضرر ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت هذه السورة في القرآن كله هذا ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذرياته أجمعين ومن تبعهم إلى يوم الدين آمين.
تفسير سورة النساء
عدد 6 و92 و4
نزلت بالمدينة بعد سورة الممتحنة ، وهي مئة وست وأربعون آية ، وثلاثة آلاف وخمس وأربعون كلمة ، وسنة عشر الف وثلاثون حرفا ، لا يوجد مثلها في عدد الآي ، وقدمنا في سورة الممتحنة السور المبدوءة بلفظ يا أيها.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» نفس آدم عليه السلام «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» حواء عليها السلام من ضلع من أضلاعه سئل جراح لم خلقت المرأة من ضلع الرجل ؟ فقال إنما أخذت من جانبه لتكون مساوية له ، ومن تحت ذراعيه(5/514)
ج 5 ، ص : 515
ليحميها ، ومن أقرب مكان لقلبه ليحبها ويحترمها ، ولم تخلق من رأسه لئلا تتسلط عليه ولا من قدميه لئلا يدوسها عند الغضب.
قال تعالى «وَبَثَّ مِنْهُما» ما تفرع عنهما بطريق الولادة «رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» أكثر ، وإنما لم يصفهن بالكثرة مع أنهن أكثر من الرجال إشارة إلى الاختفاء المقتضى لهن ، وتنبيها على أن الرجال أكمل منهن وأتم وأفضل ، وعلى القاعدة بجواز الحذف من الثاني لدلالة الأول وبالعكس ومثله كثير «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ» بين بعضكم كقولك أسألك باللّه أن تفعل كذا وأحلف عليك باللّه وأستشفع إليك باللّه أن تعفو عن كذا وأرجوك باللّه وأستجيرك باللّه من أن تقول كذا وما أشبه ذلك ، «وَالْأَرْحامَ» اتقوا اللّه فيهم أيها الناس صلوهم لا تفطعوهم وقربوهم لا تبعدوهم ، هذا على قراءة النصب ، وعلى قراءة الجر يكون المعنى واتقوا اللّه الذي تساءلون به وبالرحم كما تقول ناشدتك اللّه والرحم ، وسألتك باللّه وبالرحم ، وكان الناس يعتادون هذا تنبيها لشدة المحافظة على الأرحام ودوام الاعتناء بهم.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله اللّه ، ومن قطعني قطعه اللّه.
ورويا عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسا له في اثره فليصل رحمه.
ورويا عن جبير بن مطعم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لا يدخل الجنة قاطع رحم.
«إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولمل يزل «عَلَيْكُمْ رَقِيباً» 1 لا يغيب عنه شيء من أموركم الباطنة والظاهرة قبل أن تقع منكم ، فجدير بكم أن تنقوه أيها الناس وتحذروا مخالفته.
قال تعالى «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» بأعيانها وما تولد منها ونمى عنها عند ما تستأنسون منهم الرشد وإمكان قيامهم بها كما سيأتي في الآية 5.
نزلت هذه الآية في أولياء الأيتام إذ كانوا زمن الجاهلية يبدلون أحسن أموالهم بأقبح ما عندهم ، ولهذا قال تعالى «وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ» أي مال اليتيم وسمي خبيثا مع أنه طيب لأن تناوله حرام ولا أخبث من الحرام «بِالطَّيِّبِ» بمالكم الحلال لأنه مهما كان قبيحا ودنيئا أو خبيثا فهو طيب لأنه حلال ولا أطيب من الحلال «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ» المحرمة عليكم وتضموها «إِلى أَمْوالِكُمْ»(5/515)
ج 5 ، ص : 516
فتنفقوا منها جميعا ، لأنه لا يجوز الإنفاق من مال اليتيم وفي حال خلطها مع أموالكم عدم مبالاة في حفظها ومدعاة للإنفاق منها على أنفسكم دونهم ، إذ يجب على ولي اليتيم أن يفرق بين أمواله وأموال يتيمه وأن ينفق على نفسه وغيره من ماله فقط ، وعلى اليتامى من أموالهم إنفاقا بالمعروف إذا لم تسمح نفسه بالإنفاق عليهم من ماله وعدهم من جملة عياله «إِنَّهُ» الأكل من مال اليتيم أو تبديله بأحسن منه «كانَ» عند اللّه ولا يزال «حُوباً كَبِيراً» (2) إثما عظيما عقابه عظيما عند اللّه.
مطلب في أخلاق الجاهلية وفوائد السلطان للبلاد والعباد.
وأكل مال اليتيم :
كان رجل من غطفان معه مال كثير لابن أخيه ، فلما بلغ منعه عمه منه ، فترافعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فتلا عليهما هذه الآية فقالا أطعنا اللّه والرسول ونعوذ باللّه من الحوب الكبير ، ودفع إلى اليتيم ماله.
هكذا كانت طاعة العرب الذين يسمونهم بعض الناس في خطبهم أجلافا ، وما كانوا بأجلاف وإنما هم شم الأنوف ، وقد هذبهم الإسلام فألانهم ، وإلا فإن الخصال التي كانت عندهم من المروءة والشهامة والكرم ومكارم الآداب والأخلاق والعفو والصفح والعطف ، لم تتحل بها أمة من الأمم الراقية لا قبل ولا بعد ، وإنما يتأسى بهم من يفعل فعلهم ، نعم كانت عندهم عصبية بعضهم لبعض وكان بينهم ظلم وفحش وجور وغلظة وقساوة من مقتضيات عاداتهم الجاهلية التي طبعوا عليها من مئات السنين ، وقد محاها الإسلام وحرمها وأبدلها بأضدادها ، ورب شيء محمود بالجاهلية مذموم في الإسلام ، كما يكون ممدوحا في الشرع ومذموما بالطب وبالعكس ، راجع ص 17 من حاشية الباجوري على ابن قاسم في كتاب الطهارة ، وقد بقي آثار من أعمالهم الجاهلية في البوادي ووصلت إلى القرى ، وقد توجد الآن عند بعض الأرياف فإنهم لا يورثون اليتيم ولا المرأة بل يرثونها ، وذلك لقلة علمهم وعدم وجود العلماء عندهم وكثرة طمعهم ، والقصور كله على الحكومة التي أهملتهم وتركتهم على ما هم عليه ، وإلا لو أرسلت إليهم النصاح والمرشدين والمعلمين لما بقي لهذه العوائد من أثر ، اللهم بصرهم لينفعوا عبادك وينشروا القسط في بلادك ، لأن زمام الأمور بيد السلطان ، وانه ليزع به أكثر مما يزع بالقرآن ، فهو القطب الذي عليه مدار الدنيا ، وقوام(5/516)
ج 5 ، ص : 517
الحدود ، ونظام الحقوق ، وهو حمى اللّه ، وظله الممدود على عباده وبلاده ، به يمتنع صريخهم ، وينتصر مظلومهم ، ويقمع ظالمهم ، ويأمن خائفهم.
على أن غير العرب في ذلك الزمن كان أكثر وحشية منهم وأشد ظلما وأعظم تكبرا ، وحتى الآن توجد فيهم هذه الخصال وأشنع وأقبح وأفظع ، كما يذكرونه في جرائدهم.
قال تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى » الذين هم تحت تربيتكم إذا أردتم الزواج بهن «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» غيرهن وزوجوهن لغيركم وتزوجوا من شئتم من غيرهن «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» أي اثنتين اثنتين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا أربعا فحسب ، أما الزيادة على الأربع فحرام عليكم ، وليس لكم أن تقتدوا بحضرة الرسول فيما هو من خصائصه ، وهذا هو الحكم الشرعي.
ولا دليل في هذه الآية على التسع بزعم جواز ضم الأعداد الثلاثة أي جمعها لأنها تكون عشرا لا تسعا بضم الواحدة التي قبل الاثنتين ، لأنها مبدأ العدد ، ولأن الخطاب للجميع ، وسبب التكرار ليصيب كل ناكح يريد الجمع الذي أراده من العدد الذي أطلق له ، كما إذا قلت لجماعة اقتسموا هذه الألف درهمين درهمين ، أو عشرة عشرة ، أو مئة مئة ، فإن الواحد يناله أحد هذه الأعداد لا مجموعها ، تدبر ، يدل على هذا ما أخرجه أبو داود عن الحارث بن قيس قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال اختر أربعا (أي واترك الباقي).
وما أخرجه الترمذي عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره رسول اللّه أن يختار منهن أربعا فقط.
ومن هنا تعلم أن ما عليه بعض الإمامية ومن حذا حذوهم من تجويز الجمع بين التسعة لا يتفق وصريح الآية المؤيدة بهذه الأحاديث الصحيحة ، ومخالف للإجماع ، راجع أول سورة فاطر في ج 1.
«فَإِنْ خِفْتُمْ» أيها الراغبون في زواج أكثر من واحدة «أَلَّا تَعْدِلُوا» بينهن «فَواحِدَةً» فقط فتقتصرون عليها «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من الجواري إذ لا يجب العدل بينهن «ذلِكَ» الاقتصار على الواحدة مع تحقق عدم العدل بين الأكثر أقرب و«أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» (3) تميلوا عن الحق الذي أوجبه اللّه عليكم من القسمة(5/517)
ج 5 ، ص : 518
بين الأزواج فتجوروا على بعضهن ، من عال يعول بمعنى مال يميل ، وبمعنى جاوز يجاوز ، ومنه عول الفرائض إذا جاوزت المسألة سهامها تسمى عولية ، وعليه يكون المعنى الاكتفاء بالواحدة أقرب من أن لا تجاوزوا ما فرضه اللّه لكم.
وقال الشافعي وهو حجة في اللغة كغيرها : من عال صار ذا عيال أي أن لا تكثر عيالكم فتعجزوا عن القيام بهم ، وقد خطأه أبو بكر الرازي باعتبار أن سياق الآية يبعد المعنى المراد من العيال وسباقها كذلك ، إلا أنه قد لا يؤخذ بقوله لأنه لا وقوف له على كلام العرب مثله ، على أنه يجوز استعمال كلمة في معنيين ومعان أيضا بما يناسبها ، وهذا مما يؤسفني لأنه قد فتح بابا لبعض الحمقى فصاروا يعترضون على أسلافهم الكاملين من حيث لم يفهموا أقوالهم وليسوا بأهل لنزالهم ، فقال سامحه اللّه إدا كان من كثرة العيال فيقال عال يعيل لا عال يعول ، ولا يعلم أن العرب تقول عال الرجل عياله يعولهم ، كما يقال مان ويمونهم إذا أنفق عليهم ، وقد روى الأزهري عن الكسائي قال : عال الرجل إذا اقتصر ، وأعال إذا كثر عياله.
وروى الأزهري أيضا في كتاب تهذيب اللغة عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في قوله (ألا تعولوا) أي لا تكثر عيالكم ، وعليه فيكون هو المخطئ لا الشافعي ولكنه استعجل ولم يتثبت.
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره بعد أن فند قول المخطئ : الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة ، وذلك لأن اللغة العربية واسعة ولكلماتها معان كثيرة وان مجيئها لمعنى لا يعني أنها لا تكون لمعنى آخر ، وإن من وقف على روحها وطاف على معناها وتفقأ في الإحاطة بمبانيها قد لا يخطىء أحدا لأنه يرى لكل وجهته ، ولو أنه قال تكون بمعنى كذا وبمعنى كذا والأول أولى لمناسبة ما قبلها وما بعدها لكان خيرا له من أن يخطىء من هو أعلم منه ، عفا اللّه عنه ووفقه لما به الصواب.
هذا وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن عروة أنه سأل عائشة عن قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ) الآية قالت يا ابن أخي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها (أي وهي ممن تحل له) فيرغب في جمالها أو مالها ويريد أن ينقص من صداقها ، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن (أي إذا لم يعدلوا في صداقهن(5/518)
ج 5 ، ص : 519
مثل أمثالهن) قالت عائشة فاستفتى الناس رسول اللّه بعد ذلك ، فانزل (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) الآية 127 الآتية ، وسيأتي تمام البحث في تفسيرها إن شاء اللّه تعالى القائل «وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً» عطية وهبة عن طيب نفس ورغبة جنان «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً» فوهبة لكم بلا تكليف منكم «فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» (4) هذا خطاب لأولياء النساء اليتامى وغيرهم ، بالنظر لإطلاقها ، أي أن اللّه يأمركم أيها الناس أن تعطوا النساء مهورهن كلها ولا تأخذوا منه شيئا إلا إذا سمحن لكم بشيء منه عن طيب نفس بعد أن يتسلمنه فلا مانع من أن تأخذوه ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا زوجوا المرأة لمن معهم في العشيرة لم يعطوها من مهرها شيئا بل يأخذونه كله إلا ما يمنحونها به من ركوبة أو لباس ، وإذا زوجوها غريبا عنهم حملوها على بعير إليه وأكرموها بلباس لا يعطونها غيره ، فنهاهم اللّه عن ذلك ، وهذه العادة القبيحة لها بقية أيضا حتى الآن في عرب الأرياف والبادية ، وكذلك عند الأكراد والجراكسة ، وأيضا الشغار لا زال جاريا بينهم إلا أنهم يعطونها ركوبة ولباسا سواء كانت لقريب أو لغريب لا على الخيار في القريب كما هو في الجاهلية الأولى.
الحكم الشرعي :
وجوب إعطاء تمام المهر للزوجة في الشغار وغيره ، إذ يجب إعطاء البديلة مهر مثلبا على من يبدلها ، وقد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الشغار بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم نهى عن الشغار في العقد ، وما روياه عن عقبة بن عامر قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم من الفروج.
وذلك لأنهم لا يراعون حقوق البلديات بل يأكلون مهورهن ، والأنكى من هذا أنه إذا لم تمتزج إحداهن مع زوجها فتركته أجبرت الأخرى على ترك زوجها أيضا من قبل وليها بصورة لا يرضاها الشرع ولا المروءة ، وهذا مما نفت في روع حضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم حتى نهى عن المبادلة بالحديثين المارّين وغيرهما.
واعلم أن ماجرينا عليه من كون الخطاب للأولياء أولى مما مشى عليه الغير بجعله للأزواج ، لأن الخطاب فيما قبلها للناكحين مع أن ذكر الناكحين جاء استطرادا في بحث اليتامى الذي حذر اللّه أولياءهم من أكل أموالهم ، فجعل الخطاب إليهم أيضا بتحذيرهم من أكل المهور(5/519)
ج 5 ، ص : 520
أولى وأنسب بالمقام ، وأليق للسياق ، وأحسن بالسباق ، ولأن العادة المطّردة أن الأولياء هم الذين يأكلون صداق بناتهم الأزواج ، تدبر.
ثم خاطب أولياء اليتامى أيضا بقوله عز قوله.
مطلب في الوصايا وأموال الأيتام وحفظها وتنميتها ورخصة الأكل منها للمحتاج :
«وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» وهذا عام في أموال اليتامى وغيرهم وإن السياق يعرفه إليهم ، لأن العبرة لعموم اللفظ ، أي لا تعطوا أموالكم مداينة أو تجارة أو أمانة أو شركة أو بأي وجه كان سواء كان المال لكم خاصة أو للأيتام الكائن تحت حفظكم وتنميتكم إلى السفهاء الذين لا يؤمل منهم الأداء ولا حسن التدبير فيها لعدم قدرتهم على إصلاحها بأنفسهم ، والصغير وغير المجرب والمبذر وضعيف العقل والملكات كلهم في حكم السفيه ، فلا يجوز إعطاء المال لهم بالوجوه الأربعة المذكورة آنفا أو غيرها لمظنة التفريط فيه وإتلافه وأكله ، وإنما يدخل في هذه مال اليتيم بالإضافة لوليه لأنه تحت يده وبتصرف فيه بحق الولاية عليه ، فكما أنه لا يجوز أن يسلم ماله للسفيه لا يجوز أن يسلم مال يتيمه إليه بل من باب أولى أن يحافظ عليه أكثر من ماله لأنه من قبيل الأمانة ، وكونه لليتيم ، وقد علمت ما ذكر اللّه عن الأمانة في سورة الأحزاب ، وما سيأتي في الآية 10 بحق أموال اليتامى ، ولهذا لا يجوز تسليم مال اليتيم لليتيم إلا إذا تحقق لديه رشده وقدرته على تنميته والمحافظة عليه والانتفاع به بالمعروف ، لأن لفظ السفيه يدخل في عمومه اليتيم وغيره ، وسواء كان كبيرا أو صغيرا لأن حكمه حكم المجنون والمعتوه والرقيق والمديون المستغرق والمكاري المفلس ، فهؤلاء كلهم ومن كان على شاكلتهم لا يجوز إعطاؤهم المال ، لأنه لا يؤمل استيفاؤه منهم ولا الإصلاح فيما يأخذونه ، ولهذا نهى الشارع عن معاملة هؤلاء الأصناف ، لأن المال كما يجب حفظه يجب صرفه في مصارفه ، ومن هنا منعت المادة 157 فما بعدها من المجلة الجليلة معاملة هؤلاء ، ثم بين جل بيانه قيمة الأموال بقوله «الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» فيها لأبدانكم ومعاشكم ومكانتكم أنتم ومن تمونونه ، لأنه قوام الناس وملاك أمرهم.
ومما يدل(5/520)
ج 5 ، ص : 521
على أن الخطاب في الأصل في هذه الآيات المتقدمة لأولياء الأيتام ، وأن المال المذكور مالهم قوله جل قوله «وَارْزُقُوهُمْ فِيها» بأن تتجروا فيها وتنفقوا عليهم من أرباحها لامن أصلها ، لأنها إذا لم تزد تنقص وتخلص وتأكلها الزكاة فيصبحون فقراء عالة عليكم وكلا على الناس ، وقد جاء بالخبر اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة «وَاكْسُوهُمْ» أيضا من نمائها بحسب أمثالهم «وَقُولُوا لَهُمْ» أيها الأولياء الكاملون عند ما يريدون منكم زيادة على المعتاد من النفقة واللباس «قَوْلًا مَعْرُوفاً» (5) بأن هذا المال لكم وربحه لكم فإذا كبرتم وكنتم صالحين راشدين سلمناكم إياه ، فتتصرفون فيه كيفما شئتم وأردتم من طرق التجارة ومن النفقة والكسوة وغيرها ، لأنا مكلفون بالاقتصاد بها ، وأن لا نتفق عليكم إلا بقدر الكفاية وبنسبة أمثالكم لتسكن أنفسهم ويرغبوا بأن يكونوا أهلا لاستلامها ، وهكذا من الكلام الطيب والقول الحسن والأعمال المرغبة شرعا وعقلا لأن الفعل الجميل والكلام اللين يؤثر في القلب فيسبب إزالة السفه عنهم ، ولهذا يقول اللّه تعالى «وَابْتَلُوا الْيَتامى » البالغين الكبار ، وسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه من قبل ، أي اختبروهم وامتحنوهم قبل أن تسلموهم أموالهم ، ولا تغتروا بكبرهم وشقشة ألسنتهم وأدبهم أمامكم ، فإنهم قد يكونون على خلافه مع غيركم.
وقد ذكرنا قبلا اليتيم الذي مات أبوه ، ومعناه المنفرد ، ومنه الدرة اليتيمة ، والعجي من ماتت أمه ، واللطيم من فقد أبويه «حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ» وزال عنهم اسم اليتيم وصاروا أهلا للزواج بأن أكملوا الثامنة عشرة من عمرهم «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» بالاختبار الذي أجريتموه وتحققتم رزانة عقولهم وقدرتهم على إصلاح أموالهم وأمانتهم عليها «فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» ليتصرفوا فيها بأنفسهم لأنكم أديتم ما عليكم نحوهم وقمتم بواجبكم في أموالهم ، أما إذا لم يتحقق لكم رشدهم ولا صلاحيتهم للانتفاع بأموالهم فلا تعطوهم إياها ، والأولى بالولي أن يدفع لليتيم أولا بعض ماله ويأمره بالاتّجار به ، فإن تبين له صلاحه ولياقته واقتصاده ووضع ما يصرفه موضعه المقبول أعطاه بقية ماله لأنه راشد يتمكن من التصرف به ، وإن رأى العكس فهو سفيه لا يسلمه شيئا ، ثم يختبره بالدين فإن رآه مجتنبا الفواحش(5/521)
ج 5 ، ص : 522
والمعاصي من كل ما يسقط العدالة الشرعية فهو صالح لتسلّم ماله ، وإلا فلا ، والاختبار الفعلي كهذا أوثق من الاختبار القولي والنظري ، وإذا سلم الولي أو الوصي اليتيم شيئا قبل الاختبار والتحقيق عن حاله فيكون ضامنا
كما هو موضح بكتب الفقه والمجلة الجليلة.
الحكم الشرعي عدم جواز دفع المال إلى السفيه مطلقا بقطع النظر عن عمره وعلمه وعقله وجواز دفعه إلى من يثبت رشده وسن الرشد من واحد وعشرين سنة إلى خمس وعشرين ، وسن بلوغ البنت سبع عشرة سنة على رأي أبي حنيفة وعليه العمل في المحكمة الشرعية ، أو يحتلمان لقوله تعالى (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) الآية 60 من سورة النور الآتية ، وهذان الشرطان للنساء والرجال ويختص النساء بشرطين آخرين الحيض والحبل ، وهذا هو المفتى به ، وقالوا إن المرأة حكمها حكم السفيه لنقصان عقلها وقلة تدبيرها ، فلا يسلم إليها مال ابنها وزوجها وغيرهما ، وهذا على الغالب لأن منهن من هي أدرى من بعض الرجال وأوفر عقلا وأحسن تدبيرا «وَلا تَأْكُلُوها» أيها الأولياء فتسرفوا فيها «إِسْرافاً» بغير حق «وَ» لا تبادروا في إنفاقها «بِداراً» قبل «أَنْ يَكْبَرُوا» فتفرطوا بها وتستعجلوا بإنفاقها عليهم.
واعلم أن كلمة إسرافا وبدارا لم تكرر في القرآن ثم أشار إلى تحذير الأولياء من أكل مال اليتيم بقوله «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ» عن قربان مال اليتيم ، فلا يأكل ولا يأخذ منه شيئا ما لقاء الاشتغال بتنميته وحفظه ، بل يحتسب ذلك ويطلب أجره من اللّه الذي لا يضيع عمل عامل.
«وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ» من مال اليتيم بقدر أجر مثله فيما لو كان نصب فيما عليه بالأجرة ، أو أنه اشتغل بمال اليتيم فلا يأخذ من ربحه إلا بقدر أمثاله «بِالْمَعْرُوفِ» الذي هو جار عادة بين الناس ومتعارف بينهم كالربع من الربح أو الثلث على الكثير ، روى أبو داود عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم ، فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متاثل.
المتأثل الذي ينفق على أهله ونفسه ويكسوهم أفضل وأحسن من أمثاله.
الحكم الشرعي جواز أخذ الولي من مال اليتيم إذا كان محتاجا على سبيل القرض دون فائدة ما بقدر كفايته(5/522)
ج 5 ، ص : 523
فقط ، على أنه إذا كان ممن تجب عليه نفقته وكان غير كسوب فله أن يطلب فرض نفقة له في مال اليتيم الغني الذي هو تحت وصايته على أن يرجع اليتيم عليه بما أخذه أو النفقة عند يساره ، وإذا لم يوسر فلا قضاء عليه ، على أن تكون النفقة نفقة ، فإذا تجاوزها فهو آثم وعليه قضاء المتجاوز فقط «فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» بعد ما تحققتم صلاحهم على الوجه المار ذكره «فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ» وهذا الأمر على طريقة الندب لإزالة التهمة ، وإلا فحكم الولي حكم الأمين يصدق بقوله على براءة ذمته ، وجاز إقامة البينة تحاشيا عن الحلف.
ومما يدل على أن الأمر هنا للندب قوله تعالى «وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» (6) على ما ادعى به من الإنفاق على اليتيم من ماله حال صغره وعلى ما ربح به وعلى ما أكل من ربحه إذا كان اشتغل به أو من نفس المال إذا كان عاجزا فقيرا ممن تلزمه نفقته ، وطنه بقدر الحاجة مثل نفقة الفقراء ، ويكتفي بيمينه بان أكله لم يكن لطمع فيه وإنه لم يبذر ولم يسرف في جميع ذلك وإنه قد حافظ عليه بقدر الاستطاعة ، وعلى هذا العمل الآن وإلى آخر الدوران إن شاء اللّه إذا قيض لهذه الأمة من يحكم بشرعه هذا ، ولو لم يصدق الولي أو الوصي بقوله فقط لما قبل أحد أن يكون وصيا على يتيم أو قيما على سفيه أو غائب أو مجنون أو شبهه ، قال تعالى «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» مقدر في علم الفرائض وأما أصوله فستأتي بعد «وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» أيضا مبين أصله في الكتاب ، وفرعه في السنة واجتهاد الفقهاء المجمع عليه «مِمَّا قَلَّ مِنْهُ» من المال المتروك «أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» (7) لكل منهم كما سيأتي بعد.
قالوا كان توفي أوس بن ثابت الأنصاري فترك زوجته أم كهّة وثلاث بنات ، فأخذ أبناء عمه سويد وعرفجه ماله ولم يعطياها ولا بناتها شيئا لأنهم كانوا لا يورثون النساء ، وهذه أيضا باقية من بقايا الجاهلية حتى الآن لدى عرب الأرياف والبوادي وبعض الأعاجم على اختلاف مللهم ونحلهم ، فشكت أمرها إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فاستدعاهما فقالا إن ولدها لا يركبن فرسا ولا يحملن كلّا ولا
ينكبن عدوا ، وإن العادة المتعارفة عندنا عدم توريث مثلهم وانحصار الإرث فيمن يقاتل ويجوز الغنيمة(5/523)
ج 5 ، ص : 524
ويحمي الحوزة ، فأنزل اللّه هذه الآية ، وإذ لم يبين فيها ما هو نصيب كل منهم أوعز إليهما أن لا يفرطا بشيء من المال حتى ينزل اللّه مقدار النصيب المار ذكره أول هذه الآية.
أما ما جاء بقوله صلّى اللّه عليه وسلم ساووا بين أولادكم بالعطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء ، الا فاستوصوا بالنساء خيرا ، فهو بعد نزول مقدار لنصيب الفرائض.
قال تعالى «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ» للميراث «أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ» الذين لا حظّ لهم في الإرث «فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ» أيها الوارثون وجودوا عليهم بما تسمح به نفوسكم إذا كان المال لكم وحدكم وأنتم كبار وإلّا فإن كان فيمن يستحق الإرث صغير أو سفيه أو غائب فليس لكم أن تعطوا منه شيئا إلا محسوبا على نصيبكم «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (8) عند ما تعطونهم ولا تعنفوهم على حضورهم ولا تمنوا عليهم بما تعطونه لهم واعتذروا من القليل إن لم تسمح نفسكم بأكثر منه وإذا كان الميراث للصغار أو الغائبين أو السفهاء فاعتذروا إليهم بعدم جواز إعطائهم شيئا منه لأنهم لا حق لهم بالتصرف به ولا دليل لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية الميراث الآتية ، لأن الأمر على طريق الندب لا الوجوب ولأنهم غير وارثين ، لأن قريب الوارث أو الوصي على القاصرين أو اليتيم على الغائبين والسفهاء لا يكون وارثا دائما إذ قد يكون غير وارث «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ» يحرضون المريض على الإيصاء بماله أو الإعطاء منه حالة المرض أو التصدق بأكثر من الثلث أو بالثلث على قول كما مرت الإشارة إليه في الآية 182 من سورة البقرة ، ويحبذون له ذلك فيسببون فاقة أولاده من بعده ، وليحذر أيضا الأوصياء الذين لا يحافظون على أموال القاصرين ، وليعلموا أنه كما أنهم «لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ» وراءهم ، وقد لمحت الآية 267 من سورة البقرة إلى هذا المعنى أي خلفوا «ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ» من حيث لا يرضونه لأنفسهم ، فلا يجوز أن يرضوه لغيرهم ، قال صلّى اللّه عليه وسلم لا يكمل ايمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يجب لنفسه «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ» أمثال هؤلاء وليتباعدوا عما نهوا عنه ، فلا يحملوا المريض على ما يئول لفقر أولاده ، بل يأمرونه بالنظر لحالة ولده ويمنعونه من الوصية والصدقة والعطية بالثلث فما فوق ، وإن كان
ولا بد(5/524)
ج 5 ، ص : 525
فيما دون الثلث ، لأن حضرة الرسول قال والثلث كثير راجع الآية 182 من البقرة «وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً» (9) عدلا صوابا لا يحيف المريض به في الوصية ولا يمنعونه عنها بتاتا فيحرمون الفقراء والأقارب من فضله إن كان له مال كثير كما ألمعنا إليه في الآيتين المذكورتين من سورة البقرة ، بل يحبذون له الإيصاء للأقربين الفقراء غير الوارثين والعلماء الصالحين والأيتام والأرامل المحتاجين ، ليجد ثوابه عند ربه وليستفيد من ماله في الآخرة كما استفاد منه في الدنيا.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» بغير حق فهو ظلم ولهذا هددهم اللّه بقوله «إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (10) نزلت هذه الآية في مرشد بن زيد الغطفاني إذ أكل مال ابن أخيه القاصر.
وإنما سماه اللّه نارا لأنه يفضي لدخولها وهي عامة في كل من يأكل مال اليتيم أو يتصرف به بغير حق فينقصة أو يتلفه.
ألا فليحذر الأولياء والأوصياء والقضاة ومدير والأيتام وغيرهم من أن يتسببوا لنقص مال اليتيم فيدخلوا في حكم هذه الآية ، أجارنا اللّه تعالى ووقانا وحفظنا وحمانا.
قال تعالى مبينا أيضا الوارثين جل بيانه «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» بصورة مطّردة في العصبات «فَإِنْ كُنَّ» الوارثات كلهن «نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ» للمورث يقسم بينهن بالسوية والباقي للعصبة فإذا لم يكن هناك عصبة يأخذن الباقي بطريق الردّ على السوية أيضا «وَإِنْ كانَتْ» الوارثة أنثى «واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ» فرضا والباقي ردا عند عدم العصبة وإلا فهو لعصبة الميت «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ» إن كانا أحياء ، وهذا «إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» فإذا لم يكن له ولد فالمال كله لهما «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ» فقط «فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» والباقي للأب «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» والباقي للأب ، أما إذا لم يكن له أبو لا جد فيأخذون خمسة أسداس المال يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، وتأخذ الأم السدس فقط وذلك كله «مِنْ بَعْدِ» أداء «وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها» من قبل الميت «أَوْ دَيْنٍ» كان عليه ثابت في ذمته ، لأن الميت يتعلق بميراثه أربعة حقوق ، تجهيزه(5/525)
ج 5 ، ص : 526
وتكفينه ودفنه وإيفاء ديونه وتنفيذ وصاياه ، فيبدأ أولا بتجهيزه ، ثم إيفاء ديونه ثم تنفيذ وصاياه ، وما بقي يقسم بين الورثة حسبما أمر اللّه ، ولا تعترضوا أيها الناس على زيادة النصيب ونقصه فهو الموافق لمصلحتكم إذا أجلتم النظر وتدبرتم العاقبة.
هذا من جهة ومن أخرى فالأمر أمر اللّه ولا معقب لأمره «آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ» في حق الإرث لهم أنصباء معلومة مقدرة عند اللّه ، وأنتم «لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» لتخصوه بزيادة ولا أكثر ضرا لتحرموه من الميراث فكم من أنثى أحسن من ذكور ، وكم من بعيد خير من قريب ، ولكن اللّه يعلم ذلك وقضت كلمته أن يكون تقسيمه الإرث على ذلك وكان هذا «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» لا محل للاعتراض عليها «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولم يزل «عَلِيماً حَكِيماً» (11) فيما فرض وحكم وقسم «وَلَكُمْ» أيها الأزواج «نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ» هذا «إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ» والولد هنا يشمل الذكر والأنثى والواحد والمتعدّد ، فإن كان واحدا ذكرا أخذ المال كله من فرض الأب والأم فرضا إذا كانا حيين لأنهما أصحاب فروض لا ينقطعون بعد بحال من الأحوال ولا يحرمون بتاتا من الإرث ، بل قد يحجبان حجب نقصان في بعض الأحوال المعلومة في كتب الفرائض ، ولنا رسالة مسماة أصح القول في الردّ والعول فيها كفاية لمن يراجعها ، وإن كان اثنان فأكثر اقتسموه بينهم على السواء.
وإن كانت أنثى أخذت النصف فرضا والباقي ردا ، إذا لم يكن هناك عصبة كما تقدم ، وإن كن أكثر أخذن الثلثين والباقي للعصبة ، وإن كانوا ذكورا وإناثا اقتسموه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين «وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً» أي لا ولد له ولا والد ولا حفيد ولا جد.
والوارث الذي ليس بولد ولا والد يسمى كلالة «أَوِ امْرَأَةٌ» تورث كلالة «وَلَهُ» لهذا الميت رجل كان أو امرأة «أَخٌ أَوْ أُخْتٌ» لأم «فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ(5/526)
ج 5 ، ص : 527
فَإِنْ كانُوا»
الإخوة لأم «أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ» ثلاثة فما فوق «فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» ذكورهم وإناثهم على السواء لأن الشركة تقتضي التسوية وما يفضل يعطى للعصبة المبين تفصيلهم ومقدار إرثهم في علم الفرائض ، وهذا أيضا يعطى لهم «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها» من قبل الميت ذكرا كان أو أنثى «أَوْ دَيْنٍ» وقد كررت هذه الجملة أربع مرات بحسب اختلاف الموصيين ، ولهذا لا يعد تكرارا إذ لا بدّ منها لئلا يتوهم عدم القيام بالوصية أو الدين في بعض الأحوال فيظن أن حكمها غير جار في الآية المتروكة منها ، مع أن إيفاء الوصية وأداء الدين مقدم على الإرث في كل الأحوال ، ويجب على الموصي أن يكون بوصية «غَيْرَ مُضَارٍّ» بورثته بان يوصي بأكثر من الثلث أو يخصص وارثا بغير ما يخص به الآخر زيادة على فرضه أو يحرم وارثا ، وذلك بأن يقسم تركته حال مرضه عليهم ، لأن هذا كله من الإضرار المنهي عنه شرعا الموجبة للعقوق وحنق بعض الورثة على بعض ، لأن الأمر بهذا التقسيم وعدم الإضرار كله صادر «وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ» لعباده ليتقيدوا فيها ويعملوا بأحكامها وليحافظوها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بنياتكم فيحذركم من أن تتضارّوا وخاصة في آخر رمق من حياتكم لأنكم أحوج ما تكونون إلى الوفاق فيه بأن تتركوا ورثتكم منآلفين وأنتم بوقت ترجون فيه الدعاء والرضاء ورجاء فضل اللّه فتعملوا ما يغضبه وتقعوا بالإثم الذي أوله مخالفة اللّه وآخره الخلاف بين ورثتكم بما يعود عليكم بالسبّ والشتم ، ونتيجته عذاب اللّه في الآخرة واللّه «حَلِيمٌ» (12) لا يعجل عقابه وإلا لأنزل البلاء حالا بمن يخالف وصاياه.
تشير هذه الآية إلى استدراك ما هفا به المريض قبل موته ليرجع عما فعله من الحيف بذلك لئلا يستحق وعيد اللّه ، ولعله ينال وعده ، ولذلك يسن لمن يعود المريض وقد علم بما وقع منه من المخالفة في الوصية أو غيرها أن يرشده إلى ما به رضاء اللّه ورضاء خلقه ، ويحذّره عاقبة الأمر ، راجع ما بيناه في الآية 182 من البقرة «تِلْكَ» الأحكام المذكورة في الإرث والوصايا واليتامى هي «حُدُودُ اللَّهِ» التي يجب عليكم الوقوف عندها فلا تعتدوها أيها الناس ، وأطيعوا اللّه فيما يأمركم وينهاكم وأبقوا ورثتكم متآخين ، وارجوا دعاءهم لكم بالخير ، «وَمَنْ يُطِعِ(5/527)
ج 5 ، ص : 528
اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
(13) ولا أعظم فوزا من الخلود في الجنة أبدا فتحصلوا على رضاء اللّه أيها الناس ، وإياكم أن تعصوه «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ» التي بينها في الإرث وغيره «يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» (14) لا تطيقه قواه مع الخزي والعار.
هذا ، وإن حضرة الرسول ينتظر أمر اللّه في بيان نصيب كل من ورثة أوس بن ثابت المار ذكره في الآية 7 وكان سعد بن الربيع استشهد بأحد وترك بنين وامرأتين وأمّا ، وكانت زوجته راجعت حضرة الرسول أيضا بأن عما أخذ مالها ولم يدع لها شيئا ، وكان قال لها ليقض اللّه في ذلك كما رواه البخاري ومسلم عن جابر ، فأنزل اللّه هذه الآيات المبينة ما سألتا عنه فاستدعاهما وأعطى كلا منهم نصيبه حسبما أمر اللّه.
أما من ليس له فرض في كتاب اللّه فيدخل في قوله صلّى اللّه عليه وسلم الذي رواه البخاري عن ابن عباس ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأدنى رجل ذكر.
وهذا ما يسمونه تعصيبا في علم الفرائض الواجب وتعلمه وجوبا كفائيا ، لأنه من أعظم العلوم قدرا وأشرفها ذخرا وأفضلها ذكرا لأن اللّه تعالى تولى بيان تقسيمها بنفسه جلت ذاته وعظمته ، أخرج بن ماجة والدار قطني عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنه (أي علم الفرائض) نصف العلم وهو أول علم ينسى ، وهو أول شيء ينزع من أمتي.
وكان من برع في هذا العلم زمن الرسول زيد بن ثابت ، وبعده ابن مسعود وقال صلّى اللّه عليه وسلم مخاطبا أصحابه رضوان اللّه عليهم أفرضكم زيد.
وكان سئل أبو موسى عن بنت وبنت ابن وأخت فأفتى بالنصف للبنت والنصف للأخت وأمر السائل ان يسأل ابن مسعود ، فسأله فأعطى للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وللأخت ما بقي ، فعرضوه على أبي موسى فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم تنويها بفضله ومن هنا أخذت قاعدة اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة ، هذا وبعد أن بين اللّه تعالى لزوم الإحسان إلى النساء وإمساكهن بالجميل أو تسريحن بإحسان فيما تقدم من الآيات في سورة البقرة في الآية 241 فما قبلها وفي أوائل هذه(5/528)
ج 5 ، ص : 529
السورة ضم إلى ذلك لزوم التغليظ عليهن ليجتنين ما يدنس كرامتهن وليحافظن على شرفهن ، فهو من جملة الإحسان إليهن بحسب العاقبة.
مطلب حد الزنى واللواطة.
وأصول التشريع.
والمراد بالنسخ.
وإيمان اليأس والتوبة :
فقال جل قوله «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» سواء كن زوجات أو غيرهن على الإطلاق «فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ» أيها المؤمنون كلهم رجال لا من غيركم ولا من النساء ، لأن هذا من الأمور الهامة فلا يؤتمن أبدا عليها غيركم بخلاف بعض الحقوق التي تجوز فيها الشهادة من غيركم بما فيهم النساء ، كما سنبينه في الآية 110 من سورة المائدة الآتية ، وقد مرّ لها بحث في الآية 281 من سورة البقرة فراجعه «فَإِنْ شَهِدُوا» شهادة لا غبار عليها أربعتهم أمام الإمام والقاضي بأنهن فعلن الفاحشة عيانا «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ» إحبسوهن فيها جزاء لإقدامهن على تلك الفعلة القبيحة حالا لئلا يكررنه وان تبقوهن محبوسات «حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ» فتخلصوا منهن «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» (15) طريقا آخر فينزل فيهن حكما آخر قبل أن يمتن ، وهذا كان موجودا في الجاهلية وفي بداية الإسلام واستمر حتى أنزل اللّه بيان السبيل الذي ذكره هنا في سورة النور الآتية ، وهذا يعد من المجمل الذي يحتاج إلى البيان فلا تعد هذه الآية منسوخة كما قاله بعض المفسرين بالحديث الذي رواه مسلم عن عبادة بن الصامت من أنه كان نبي اللّه إذا أنزل عليه حكم كرب لذلك ، وتريد وجهه ، فأنزل اللّه عليه ذات يوم ، فبقي كذلك ، فلما سرّى عنه قال خذوا عني خذوا عني قد جعل اللّه لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مئة والرّجم.
فإن هذا هو السبيل المجمل الذي بينه صلّى اللّه عليه وسلم في هذا الحديث فصار بيانا للآية ، لا ناسخا ، لأن الحديث لا ينسخ القرآن كما بيناه في تفسير الآيتين 107 و180 من سورة البقرة المارة فراجعها ، وسيأتي زيادة تفصيل في تفسير أول آية من سورة النور المذكورة إن شاء اللّه تعالى.
ويعلم من هذا أن أمر اللّه بالإحسان إلى النساء لا يكون سببا لترك إقامة الحد عليهن ، لأنه يسبب إيقاعهن ت (34)(5/529)
ج 5 ، ص : 530
بالمفاسد ، فكان إقامة الحد عليهن حكما قاطعا لذلك ، روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد ، واللّه لأنا أغير منه ، واللّه أغير مني ، ومن غيرة اللّه حرم اللّه الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من اللّه ، ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ، ولا أحد أحب إليه المدحة من اللّه ، ومن أجل ذلك وعد الجنة - لفظ البخاري - ولمسلم : ولا شخص أحب إليه العذر من اللّه ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين.
قال تعالى «وَالَّذانِ» أي الفريقان ، المحصنون وغير المحصنين وقيل إنهما اللائط والملوط به ولا شك أن اللواطة أفحش من الزنا لخروج الآتي والمأتى فيه عن مقتضى الحد الإلهي ، وانحطاطهما عن رتبة الكمال الإنساني مما يخالف المروءة ويسقط العدالة.
وهذان الناقصان اللذان «يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» أيها الرجال «فَآذُوهُما» أيها الحكام وحقروهما وعيّروهما وأنبوهما أيها الناس على فعل هذه الفاحشة الشنيعة ولا تقيسونها على النساء فتحبسونها ، لأن الحبس يمنعهما عن القيام بمعاشهما ومن تلزمهما نفقته لذلك جعل اللّه عقوبتهما الأذى أي الضرب بالنعال والتقريع والتوبيخ ، أما النساء فلا صالح لهن بالخروج ، لذلك جعل جزائهن الحبس إلى أن يتوبا «فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» بسبب خضوعهما وإنابتهما بعد ذلك الضرب والتأنيب «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولا يزال «تَوَّاباً» على من يتوب وينيب إليه «رَحِيماً» (16) بمن يرجع إليه حكيما فيما يشرع لعباده ، وهذا أيضا كان أول الإسلام واستمر إلى أن نزلت آية الحد أول سورة النور الآتية ، لأن اللّه تعالى جعل تشريعه لهذه الأمة تدريجا ، والتدريج هو الأصل الثالث من أسس التشريع التي اعتبرها الفقهاء من أصول الدين التي أشرنا إليها في بحث التدريج للأحكام في المقدمة فراجعه ، ولهذا سوغ الأخذ بالرخصة كقصر الصلاة وفطر الصائم واليتيم وإباحة المحرّم عند الضرورة بقدر الحاجة والنطق بكلمة الكفر عند خوف القتل مع اطمئنان القلب وجواز شرب الخمر بالإكراه وما أشبه ذلك كما نبهنا عنه في الآية 107 من سورة النحل في ج 2.
والأصل الثاني تقليل التكاليف ، وهو(5/530)
ج 5 ، ص : 531
نتيجة لازمة لعدم الحرج ، لأن كثرتها إحراج على الأمة ، وإنما كان التشريع تدريجيا ليتم كمال دينه الذي ارتضاه شيئا فشيئا ، لأنه لو تعبدهم بكل ما أمرهم ونهاهم دفعة واحدة لصعب الأمر عليهم وشق الانقياد
إليه والامتثال له ، ولما تلقاه بالقبول إلا القليل منهم ، فإذا تأملت هذا جزمت بأن ما أنزل آخرا غير مبطل لما نزل أولا بالمعنى المراد في النسخ ، ولظهر لك سرّا هذا من أنهم لما سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الخمر والميسر المستحكمين فيهم والذين كانا دأبهم ليل نهار وديدنهم صباح مساء كالشاي والقهوة في زماننا أجابهم بما لم يصرح فيه على الكف عنهما بتاتا كما مر تفصيله في المقدمة.
ولتمام بحثه صلة في سورة المائدة الآتية إن شاء اللّه ، فعلى هذا الأصل وأصل الإجمال بعد التفصيل الذي نحن بصدده تعلم أن لا نسخ في كتاب اللّه بالمعنى الذي يريده علماء الناسخ والمنسوخ ، لأنك لو تدبّرت الآيات المكية لوجدتها كلها مجملة وقل ما هو مفصّل فيها ، لأن جلها مما يحمي العقيدة ، ولو تأملت الآيات المدنيات لوجدت غالبها مفصلا مبينا لذلك المجمل ، ولا سيما ما هو خاص بالمعاملات المدنية وهذا من خصائص ومميزات المدني عن المكي التي ذكرناها في بحث خاص في المقدمة أيضا فراجعها.
قال تعالى «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» أي مقبولة لديه بمحض الفضل لا الوجوب «لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» إذ لا يعصي الإله إلا الجاهل السفيه لعدم استعمالهما معه من العقل المميّز الخير من الشر والعلم المبني عن عقاب اللّه على المعصية وثوابه على الطاعة «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» على أثر الإقلاع من فعله فيتبعه الندم حالا والاستغفار منه والإنابة إلى اللّه «فَأُولئِكَ» الذين هذا شأنهم النادمين على فعل السيء الراجعين إلى اللّه «يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» إذا تابوا قبل حضور الموت ومعاينة أسبابه ، لأن عمر الإنسان كله قليل قريب من الموت ، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
أي حتى يتردد الماء في حلقه فلا يستطيع إساغته من سكرات الموت «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بما يقع من الندم من عباده فيمهلهم ليتوبوا فيقبل توبتهم المدون في علمه الأزلي قبولها «حَكِيماً» (17) بعدم تعجيل العذاب لأمثالهم لعلمه برجوعهم إليه ونظير هذه الآية الآية 119 من سورة النحل في ج 2.
روى(5/531)
ج 5 ، ص : 532
البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
قال تعالى مبينا القسم الأول من الذين لا توبة لهم بقوله عز قوله «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» وصار ينزع بروحه لأنه وقت يأس وانقطاع الأمل من الحياة ، وفي هذه الحالة لا ينفع الايمان وإلا لقبل إيمان فرعون ، وإن الذي لا تقبل توبته هو الذي لا تخطر بباله إلا في آخر رمق من حياته عند إشرافه على الموت ومعاينة أسبابه «قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» عند بلوغه تلك الحالة التي تحقق عدم الحياة بعدها.
قال تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) الآية الاخيرة من سورة المؤمن في ج 2 وإلا لما بقي كافر على وجه الأرض راجع الآية 158 من الانعام في ج 2 تجد ما يتعلق في هذا البحث بصورة مفصلة ثم بين القسم الثاني فقال (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) إذ لم يبق أمامهم بعد الموت إلا الآخرة ولا تقبل التوبة فيها لأنها ليست بدار تكليف وإلا لما دخل النّار كافر «أُولئِكَ» الذين أهملوا أنفسهم ولم يتوبوا في حالة تقبل فيها توبتهم قد خسروا الدنيا و«أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (18) في الآخرة والمراد بالسيئات هنا الشرك الجامع لكل سوء.
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآية الآتية وهي مكررة هنا ، فقد أطلق تعالى فيها عدم المغفرة للمشركين ووعد بغفران ما دون الشرك ، فيكون المؤمن الذي أهمل توبته عما اقترف من المعاصي باقيا تحت المشيئة ، قال في الجوهرة :
ومن يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض لربه
قال سعيد بن جبير نزلت الآية الاولى في المؤمنين وصدر الثانية في المنافقين وآخرها في الكافرين ومن أراد أن يشمل هذه الآية للمؤمنين قال إنها منسوخة بآية (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية المارة آنفا ، ونحن نتحاشى ذلك والمعنى يأباه ، والتنزيل ينافيه ، ونقول ما قاله سعيد ابن جبير الذي قال فيه الحجاج بعد موته على ما قيل إنه رئي بالمنام فقال إن اللّه قتله بقتل كل قتيل قتلة قتلة وبسعيد بن جبير سبعين(5/532)
ج 5 ، ص : 533
قتلة ، وذلك لأنه رحمه اللّه أعلم أهل زمانه ، وعليه فلا نسخ في الآية بل هي محكمة باق حكمها إلى الأبد حسبما قال.
مطلب حرمة عد النساء ميراثا وحومة استرداد المهر منهن والأمر بحسن معاشرتهن.
والرجوع للحق فضيلة :
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» بأن تتزوجوهن من غير رغبة بهن أو بغير رغبتهن بكم بداعي أنكم قد ورثتموهن وهن ليس بميراث «وَلا تَعْضُلُوهُنَّ» تمنعوهن من الزواج لمن يرغبن بهم ويرغب فيهن «لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» ظاهرة «وَعاشِرُوهُنَّ» إذا تزوجتموهن برضائهن وكن ممن يحل لكم الزواج بهن «بِالْمَعْرُوفِ» كما يطلب منهن ذلك أيضا فضلا عن الطاعة والإخبات «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ» وآثرتم فراقهن على البقاء في عصمتكم وكرهتموهن قبل أن تبنوا بهن فالأجدر بكم أن تبقوهن عندكم «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً» في حال من الأحوال «وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (19) بأن يبدل تلك الكراهية محبة أو اتركوهن فقد يكون في تركهن الخير لكم ، ولكن سياق الآية يرمي إلى الحث على عدم الفراق حال الكراهة كما ذكرناه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق.
إذ قد يرزق اللّه منها ولدا صالحا فيكون فيه الخير وإذا أمسكها على سوء خلقها فيكون له الثواب الجزيل عند اللّه في الآخرة ويستحق الثناء من الناس في الدنيا.
كان أهل المدينة أوائل الإسلام على عاداتهم الجاهلية إذا مات الرجل منهم ورث زوجته قريبه ، فإن شاء تزوجها بغير صداق على صداقها الأول الذي أخذته من قريبه المتوفى ، وإن شاء منعها من الزواج حتى تفدي نفسها بإعادة الصداق الذي أخذته قبلا أو تموت فيرثها ، وهذه العادة الجاهلية لها بقية الآن في أعراب البادية وبعض القرى ، وإن كانت القرابة عصبية كبنت العم فلها بقية أيضا في عرب الأرياف ، فأنزل اللّه هذه الآية مبينا فيها عدم حل إرث النساء وعدم جواز منعهن من الزواج إذ لم يكنّ مالا حتى يصرن ميراثا ، ولأن ما قبضته من المهر الأول لا حق لاحد به.
أما جواز حبسها في حالة الزنى من قبل(5/533)
ج 5 ، ص : 534
وليها كما مر في الآية آنفا بعد ثبوت زناها الدال عليه قوله (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فهذا الوصف دليل على ثبوت ما عزي إليها بالشهود الأربعة المبينة في تلك الآية أيضا فجائز اتباعا لأمر اللّه ، وكذلك زواجهن لمن أردته منهم أو من غيرهم على ما جاء في الآية المارة جائز أيضا ، وإنما أمرهم بحسن معاشرتهن إذ قد يكن كارهات له ، أو هو كارها لهن ، ولهذا أمّل اللّه الصابر منهما على الكراهة بالخير ، وهو إما أن يكون في الدنيا وإما في الآخرة كما قدمناه.
قال تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ» وأنفت أنفسكم أيها الرجال البقاء مع زوجاتكم وأردتم طلاقهن وقد صرفتم عليهن مبلغا عظيما «وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً» من ذهب أو فضة مهرا «فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» أبدا لأن الكراهة من قبلكم وقد قضيتم وطركم منهن فلا يحل لكم استعادة شيء منه أبدا «أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً» أي أتحبون أن تأخذونه أخذا باطلا في الدنيا «وَإِثْماً مُبِيناً» (20) ظاهرا تعذبون عليه في الآخرة لأنكم أخذتموه بغير حق فهو حرام عليكم قطعا
«وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ» جملة عجبية أي بأي وجه تفعلون هذا ولما ذا وقد أديتموه لها مهرا عن طيب نفس حينما كنتم راغبين زواجها ، فلا يليق بكم أيها العقلاء استرداد ما أعطيتموهن بعد أن قضيتم وطركم منهن ، لأن الصداق من نوع الهبة والعائد بهبته كالكلب العائد قيئه وهل يجوز لكم أن تقدموا على ذلك «وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ» وهذه الجملة كناية عن الاتصال والجماع «وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» (21) عهدا وثيقا وهو قول العاقد زوجتكها على ما قال اللّه تعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) والعقد هو الكلمة التي يستحل بها زواج النساء والدخول بهن بدلالة قوله صلّى اللّه عليه وسلم اتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان في أيديكم ، الحديث.
جمع عانية أي أسيرة ، ولهذا جاء في الخبر عنه صلّى اللّه عليه وسلم النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع عتيقته.
أي آنيته ، راجع الآية 49 من سورة الأحزاب المارة.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم زوج بنتك إلى كريم فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها ولذلك وصى رسول اللّه فيهن وصايا مترادفة ، وبما أن اللّه تعالى أخذ العهد للرجال على النساء(5/534)
ج 5 ، ص : 535
من أجل النساء قال في هذه الآية (وَأَخَذْنَ) أي كأنهن اللائي قد أخذن هذا الميثاق على الرجال ، ألا فليتق اللّه الرجال وليتمسكوا بأوامر اللّه تعالى ووصايا رسوله صلّى اللّه عليه وسلم في حق النساء.
وفي هذه الآية دليل على جواز كثرة المهر ، روي أن عمر بن الخطاب قال يوما على المنبر : لا تغالوا في مهور النساء ، فقالت امرأة يعطينا اللّه وتمنعنا أنت! وتلت عليه هذه الآية ، فقال : امرأة أصابت وأمير أخطأ ، وأنّب نفسه رضي اللّه عنه ، فقال كل الناس أفقه منك يا عمر.
انظروا رحمكم اللّه لقوله هذا وهو أفقه وأعلم الناس إذ ذاك وهو أميرهم وسيدهم وخليفة اللّه في أرضه ، ثم قال رضي اللّه عنه كنت نهيتكم عن زيادة مهور النساء فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب فليعط.
وهذا الرجوع يعد فضيلة لسيدنا عمر رضي اللّه عنه لا طعنا كما قال بعض الشيعة من أنه وحاشاه جهل هذه القضية ، لأن الجهل مناف للإمامة ، على أن الآية ليست نصا في غلاء المهور ، وليست مانعة من قلتها ، وإلا لما قال صلّى اللّه عليه وسلم : خيرهن أقلهن مهرا.
وقد وقع لعلي كرم اللّه وجهه أنه سئل عن مسألة فقال فيها ، فقال له السائل ليس هكذا ولكن كذا وكذا ، فقال أصبت وأخطأنا وفوق كل ذي علم عليم.
وقد وقع لداود عليه السلام ما قص اللّه لنا عنه راجع الآية 78 من سورة الأنبياء في ج 2 ، بل تعد فضيلة عظيمة له رضي اللّه عنه ولكن لا علاج لداء البغض والعناد ، ومن يضلل اللّه فما له من هاد.
وغاية ما في هذه الآية النهي عن أخذ المهر من المرأة التي يريد الرجل طلاقها كراهة فيها ، وجاءت كلمة القنطار على طريق المبالغة والزجر ليس إلا ، وما قيل إن هذه منسوخة بالآية 229 من البقرة المارة قيل لا صحة له ، بل هي محكمة والحكم الذي فيها هو الأخذ بغير طيب نفس ، وهناك الكراهة من الزوجة ، لذلك أجاز أخذ الفداء فيها بخلاف هذه ، وتلك مقدمة والمقدم لا ينسخ المؤخر البتة ، وكذلك لا وجه لقول القائل إن هذه الآية ناسخة لآية البقرة لما ذكرنا من أن الأخذ هناك بمقابلة فداء نفسها بسبب كراهتها زوجها وهو عن طيب نفس منها لأنها هي المقصرة ، ومنا على العكس ، لأن القصور كله منه ، ويريد هذا القائل منع الخلع مطلقا وينسى قوله صلّى اللّه عليه وسلم لحبيبة بنت سهل الأنصاري الذي أوردنا ذكره في الآية المذكورة من(5/535)
ج 5 ، ص : 536
البقرة ، فراجعها.
واعلم أن هذه الآية دليل على أن الخلوة الصحيحة في المرأة المعقود عليها توجب تمام المهر.
مطلب في المحرمات من النساء وفي نكاح الحرة والأمة ونكاح التبعة والتفاضل بين الناس :
قال تعالى «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» ووقع قبل نزول هذه الآية ، لأن التشريع الجديد لا يشمل ما قبله ، ولأن النهي لا يتناول إلا ما بعده ، ومن هنا أخذت قاعدة القوانين الحكومية بأنها لا تطبق على ما قبلها ولا يعمل بها إلا من تاريخ نشرها ما لم ينص بها على خلاف ذلك كما جاء بالربى راجع الآية 179 من البقرة والآية 132 من آل عمران تعلم أن الأمر فيها شامل لما قبل ، أي لكل ربا لم يستوف ، ثم بين جل شأنه العلة بقوله «إِنَّهُ» أي أخذ زوجة الأب «كانَ فاحِشَةً» قبيحة مستعملة زمن الجاهلية الذين لا يفرقون بين الحلال والحرام ويفعلون ما تستحسنه عقولهم ، وقد أكد اللّه تعالى التحذير عن الإقدام على زواج زوجة الأب بعد هذا النهي بتسميتها فاحشة لأنها بمنزلة الأم ونكاح الأم حرام قطعا ، فكما أن زوجة الابن محرمة على الأب فزوجة الأب محرمة على الابن على القطع «وَ» كان ذلك «مَقْتاً» أيضا يوجب غضب اللّه وبغضه وغاية في الخزي عند اللّه «وَساءَ سَبِيلًا» (22) ذلك السبيل المؤدي إلى مقت اللّه.
لما كانت النساء في الجاهلية إرثا وان من يرثهن كان مخيرا بين زواجهن وتزويجهن ، أراد قيس الأنصاري أن يتزوج زوجة أبيه فقالت له إني اتخذتك ولدا وأنت رجل صالح ، دعني آتي الرسول.
فجاءته فاستأمرته ، فأنزل اللّه هذه الآية.
والمراد بالنكاح هنا مجرد العقد ، قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ج 3 ص 635 اتفقوا على أن حرمة التزويج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد ، كما أن التزويج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد.
وجاء في الدر المختار وحاشيته لابن عابدين ج 2 ص 470 في فصل المحرمات ما يؤيد هذا ، فلا محل للقول باشتراط الدخول ، تأمل.
وكانت العرب تسمي هذا النكاح نكاح المقت والولد الذي يحصل منه مقيتا ، ومن هذا النكاح حصل الأشعث بن قيس وأبو معيط بن(5/536)
ج 5 ، ص : 537
عمرو بن أمية.
روى البغوي بسنده عن البراء بن عازب ، قال : مرّ بي خالي ومعه لواء ، فقلت أين تذهب ؟ قال بعثني الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه.
وهذا بعد نزول هذه الآية ، لأن مخالفة أمر اللّه كفر توجب القتل ، ولأن هذا الذي أقدم على زواج امرأة أبيه بعد نهي اللّه لم يبال بالنهي ، وفعل ما فعل مستحلا جريا على عادة الجاهلية التي نسخها اللّه ، ومن استحل محرما لا شبهة فيه كهذا حل قتله.
ثم بين تعالى المحرمات بقوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» وأمها وأم أمها إلى النهاية «وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ» الشقيقات أو لأب أو لأم وبناتهن وبنات بناتهن إلى الأبد ولو كانت البنت من الزنى ، أي بأن زنى في بكر وأمسكها حتى ولدت ، فإنها محرمة عليه ، خلافا للشافعي ولا يتصور كونها من الزنى إلا بالإمساك كما ذكرنا ، وبعدمه لا يتحقق كونها ابنته أو أخته «وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ» فقط ، لأن بناتهن يجوز زواجهن كبنت العم والخال «وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ» وبناتهن كلهن وبنات بناتهن إلى النهاية وهذه سبع محرمات بسبب النسب ، ويليها مثلها بسبب السبب وهن «وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» وكذلك بناتهن وبنات بناتهن إلى النهاية «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ» بنات زوجاتكم ، وسميت ربيبات لأن الزوج يربيهن.
وهذا النهي خاص في «اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ» فقط «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» بزواجهن إذا طلفتم أمهاتهن قبل الدخول ، روى عمرو بن متعب عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال أيما رجل ينكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها ، وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها ، وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح أمها دخل أو لم يدخل «وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» لا زوجات من تربونهم من أولاد الناس ، فتلك حلال لكم ، راجع الآيتين 4 و37 من سورة الأحزاب المارة ، ممنوع عليكم ذلك «وَ» ممنوع عليكم أيضا «أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» قبل نزول هذا التحريم «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» (23) بكم لا يؤاخذكم على ما مضى منكم من نكاح الأختين معا وزوجة الأب قبل النهي ، كما لا يؤاخذكم على(5/537)
ج 5 ، ص : 538
أي عمل كان منكم قبل نهيكم عنه.
روى البخاري عن ابن عباس ، قال :
حرم من النسب سبع ومن الظهر سبع ، ثم قرأ هذه الآية.
وقد أجرى اللّه تعالى الرضاع في التحريم مجرى النسب أي كل ما كان محرما في النسب محرما في الرضاع.
يدل على هذا ما روي عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة - أخرجاه في الصحيحين - وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في بنت حمزة إنها لا تحل إليّ يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب ، وإنها ابنة أخي من الرضاع.
فكل من حرمت بسبب النسب حرم نظيرها بسبب الرضاعة وتحرم حليلة الابن نسبا أو رضاعا بمجرد العقد ، وكذلك حلائل أبنائهما ، لأن لفظ الحل فيها يطلق حقيقة عليه بخلاف النكاح فهو حقيقة بالوطء مجاز في العقد ، وإذا صحت الحقيقة فلا محل للمجاز تدبر.
الحكم الشرعي هو ما ذكره اللّه ولا فرق بين الإخوة أن تكون من النسب أو من الرضاع لما تقدم لك من الأحاديث ، وكذلك لا يجوز الجمع بين المملوكتين إذا كانتا أختين ، وقد سئل علي كرم اللّه وجهه عن ذلك فأفتى بالتحريم ، وكفى به قدوة.
وقال هو وعثمان رضي اللّه عنهما أحلتهما آية (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وحرمتهما آية (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) ومال علي إلى التحريم لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام.
وآية (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) مخصوصة في غير الجمع بين الأختين الكائن في هذه الآية ، لذلك فإن ما مال إليه عثمان رضى اللّه عنه من التحليل يكون خاصا بغير الأختين ، وعليه فكما يجوز للرجل النظر إلى محارمه نسبا والخلوة بهن والسفر معهن يجوز له ذلك مع محارمه في الرضاع ، إلا أنهم لا يتوارثون ولا تجب على أحد منهم نفقة الآخر ، ويشترط أن يكون الرضاع خلال مدته ، فإذا وقع بعد السنتين من عمر الرضيع فلا يعتبر رضاعا محرما ، أخرج الترمذي عن أم سلمة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام.
وأخرج مالك في الموطأ عن ابن مسعود أنه قال : لا رضاع إلا ما كان في الحولين.
وأخرجه أبو داود أيضا ، وإذا أطلق الرضاع حمل على كامله ، وهو ظاهر القرآن لأنه لم يبين عدد الرضعات فتكفي الرضعة الواحدة أي ما تسمى رضعة لا المصة والمصتين لأنها(5/538)
ج 5 ، ص : 539
لا تسمى رضعة بالمعنى المراد ، والسنة تفسر القرآن ، روي عن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لا تحرم المصة والمصتان أخرجه مسلم.
وروى مسلم عن أم الفضل أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان.
وفي رواية أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال يا نبي اللّه هل تحرم الرضعة ، قال لا.
هذا ولا يجوز للرجل أن يجمع بين امرأة وعمّتها أو خالتها ، والقاعدة في هذا أن كل امرأتين بينهما قرابة أو لبن لو كان ذلك بينك وبين المرأة لم يجز لك نكاحها لم يجز لك الجمع بينهما.
روى أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها - أخرجاه في الصحيحين - فكل امرأتين لو فرض إحداهما ذكرا والأخرى أنثى لا يجوز الزواج بينهما لا يجوز جمعهما تدبر ، وذلك أن ابن الزوج لا يجوز أن يتزوج عمته ولا ابن الاخت خالته ، وكذلك العكس ، فلا العم يأخذ بنت أخيه ، ولا الخال بنت أخته ، وهذا هو معنى عدم الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها ، وكذلك لا يجوز الجمع بين العمتين والخالتين من نسب آخر ، فإن ثبت الحل على أحد الجانبين جاز الجمع كالمرأة وامرأة ابنها من زوج آخر ، لأن المرأة لو فرضت ذكرا حرم عليه التزوج بامرأة أبيه ، ولو فرضت امرأة الابن ذكرا جاز له التزوج بالمرأة لأنه أجنبي عنها ، كما يجوز الجمع بين ابنتي العمين والعمتين ، والخالين والخالتين ، ويجوز الجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل لأن أحدهما لو كان ذكرا جاز له أن يتزوج الأخرى ، فلم يكن التحريم من الجهتين.
قال تعالى «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ» أي وحرم عليكم النساء المتزوجات فكل متزوجة محصنة ، لأن أصل الإحصان لغة المنع ، والحصان المرأة العفيفة ، ويطلق هذا اللفظ على ذات
الزوج والحرة والعفيفة والمسلمة ، وهذه السابعة من النساء المحرمات بالسبب وهو الزواج فكل متزوجة لا يحل نكاحها حتى تطلق وتنقضي عدتها «إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من النساء المسبيّات الذين أزواجهم بدار الحرب ، لأن السبي يرتفع به النكاح ، والإماء المبيعات لوقوع الفرقة بالبيع فالزموا أيها المؤمنون «كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» فيما أحل لكم وحرم عليكم به لا تخالفوه فتهلكوا «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» المبين لكم تحريمه في الكتاب وما حرمته السنة من الجمع بين(5/539)
ج 5 ، ص : 540
العمة والخالة كما تقدم لنبوت منعه بنهي الرسول عنه في الحديث الصحيح.
قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر الآتية وكذلك لا يجوز زواج العبدة على الحرة ، وزواج الأمة للقادر على زواج الحرة كما سيأتي.
وأحل لكم «أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ» نكاح الحرائر بالصداق والعقد ، والسراري بالشراء قليلا كان ثمنهن أو كثيرا لإطلاق لفظ أموالكم من غير تقدير ولا قيد ولا تخصيص «مُحْصِنِينَ» أنفسكم بالزواج «غَيْرَ مُسافِحِينَ» وسمي الزنى سفاحا لأن الزاني لا غرض له إلا صب الماء أي سفحه في فرج المرأة.
قال تعالى «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ» المستمتعات «أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ» من زيادة في المهر والأجل أو نقص فيهما أو زيادة في أحدهما ونقص في الآخر أو بالعكس «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً» بالأشياء قبل خلقها وبحاجة البشر قبل علمهم بها ولم يزل كذلك «حَكِيماً» (24) فيما أباحه لكم فلا يدخل في حكمه خلل ولا زلل.
واعلم أن نكاح المتعة هو عقد رجل زواجه على امرأة برضاها على قدر معلوم من الصداق وأجل معروف مبرم مثلا من يوم كذا إلى كذا وعلى درهم فما فوق ، خالية من زوج وعدة وحيض ونفاس ، فإذا انقضى الأجل بانت بلا طلاق ، لأن انقضاء الأجل بحقها بمثابة طلاقها لأنه عقد عليه.
وليس لها أن أن تستمتع بغيره إلا بعد أن تستبرئ رحمها بحيضة واحدة على الأقل ، ولا توارث بينهما ولا نفقة لها ولا متعة ، لأن العقد جرى على شيء معلوم.
وفي هذه الأمور السبعة خالفت النكاح لانه لا يكون موقتا ولا تبين إلا بالطلاق البائن ، ولا تحل بعده إلا بعد ثلاثة قروء ولها عليه النفقة إذا تركها ، والمتعة إذا طلقها ، وترث منه إذا مات ، وعليها عدة الوفاة.
وكانت المتعة في بداية الإسلام ثم حرمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالحديث الذي رواه مسلم عن مسبرة بن سعد الجهني قال إنه كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، واللّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كانت عنده منهن فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.
وروى البخاري ومسلم عن علي كرم اللّه وجهه(5/540)
ج 5 ، ص : 541
قال : نهى رسول اللّه عن متعة النساء ، يوم خيبر ، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية الإنسية.
هذا وقد قال من يرى نسخ القرآن بالسنة قال إن هذه الآية منسوخة في هذين الحديثين الصحيحين ، ومن قال أن السنة لا تنسخ القرآن وهو الصحيح قال إنها منسوخة بقوله تعالى (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الآية 7 من سورة المؤمنين ج 2 ، وقد يوجّه هذا القول لو كانت هذه الآية متقدمة في النزول على آية المؤمنين لأن المؤخر ينسخ المقدم أي يرفع حكمه لا تلاوته ، ولكنها مقدمة عليها والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا ، وكذلك نظيرتها آية المعارج 31 في ج 2 مقدمة على هذه الآية بالنزول وهما مكيتان وهذه مدنية والمكي لا أحكام فيه ما عدا التوحيد والبعث والرسالة ، وقد ذكرنا غير مرة أن السنة لا تنسخ القرآن راجع الآية 107 من البقرة المارة ، ولهذا كان ابن عباس رضي اللّه عنه يرخص بالمتعة ويقول إن الآية محكمة ولم يزل يفتي بها إلى زمن ابن الزبير ولم يثبت أنه انتهى عن الإفتاء بجوازها حينما نهاه علي كرم اللّه وجهه وقال له إنك رجل تائه ، أخرج ابن الزبير عن عروة أن عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنه قامه بمكة حين خلف عليها بعد وفاة علي كرم اللّه وجهه والحسين رضي اللّه عنه ، فقال : إن أناسا أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل يعني ابن عباس كما قال النووي ، فناداه فقال إنك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال ابن الزبير فجرّب نفسك فو اللّه لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك.
وقال بعضهم إن ابن عباس إنما أباح المتعة ، حالة الاضطرار وخوف العنت في الأسفار ، فقد روي عن ابن جبير قال قلت لابن عباس لقد سارت بفتياك الركبان ، وقال فيها الشعراء قال وما قالوا ؟
قلت قالوا :
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال سبحان اللّه ما بهذا أفتيت ، وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير ولا تحل إلّا لمضطر ، ولو لا هذه الأحاديث والأخبار لأمكن تفسير الآية بغير معنى المتعة(5/541)
ج 5 ، ص : 542
المذكورة ، لما جاء في تفسير ابن عباس (فما استنفعتم) وفي النسفي فما نكحتموه منهن ، وفي البيضاوي فما تمتعتم به من المنكوحات ، وفي الخازن ما تلذذتم به من الجماع ، وكل هذه الألفاظ تفسيرية لقوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) فلا مانع إذا بتفسيرها بتزوجتم أو نكحتم ، ولا مانع من تفسير أجورهن بمهورهن ، فيرتفع معنى الاستمتاع الذي يريده الغير ، وعليه يمكن أن يقال فما استمتعتم به منهن أي فيما نكحتموهن وجامعتموهن من النساء فآتوهن أجورهن أي مهورهن ، لأن المهر أجر البضع ، وقد عبر عنه في مواضع كثيرة بمعنى المهر في القرآن العظيم كما مر أول هذه السورة ، وفي الآية 11 من سورة الممتحنة ، والآية 50 من سورة الأحزاب المارتين ، وكما سيأتي بعد في الآية 6 من المائدة و25 منها ، فإنه عبّر فيهن عن المهر بالأجر وهو الأحسن والأليق والأرجح.
أو يقال إن هذه الآية عبارة عن إخبار اللّه تعالى بما أمر به رسول أمته ما هو موافق لأزله لأنه لا ينطق عن هوى وليست من قبيل الأمر حتى تتضارب فيها الآراء ويصار إلى القول بنسخها او عدمه ، ومن المعلوم أن الأخبار لا يدخلها النسخ ، فأحسن القول بالمتعة إنها ثبتت بالسنة ونسخت بها لا أنها ثبتت بالقرآن ونسخته بالسنة ، تدبر قوله تعالى (فَرِيضَةً) أي كجملة المهور المفروضة ومعنى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي في الحط من المهر أو زيادته أو هبته بعد العقد وقبله لأن هذا كله جائز شرعا إذا اتفق عليه الطرفان.
قال تعالى «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا» سعة وسمى الغنى طولا لأنه ينال به المراد غالبا «أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ» لعدم قدرته على ما يحتاج لهن من مهور زائدة ونفقات طائلة «فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» اي ليأخذ من الجواري والإماء المعبّر عنهن بقوله عز قوله «مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» المملوكات لأنهن لا يحتجن إلى كثير كلفة من مهر ونفقة ، ولان معاشرتهن لا تحتاج إلى ما تتطلب له معاشرة الحرائر ، كما أن معاشهن يسير بالنسبة لهن وربما يقنعن بما يكفيهن.
وفي هذه الآية دليل على أن الزواج بالأمة متوقف على شرطين : عدم القدرة على مهر الحرة وكفايتها وخوف العنت على نفسه ، كما سيأتي ذكره بعد.
«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ» أي بتفاضله(5/542)
ج 5 ، ص : 543
وفي هذه الجملة تأنيس بنكاح الإماء وإزالة الاستنكاف منه واعلام بعدم أرجحية الإيمان فيما بين الناس أحرارهم وإمائهم من حيث الظاهر ، ولربما كان إيمان الإماء أقوى من الحرائر وبالعكس ، وإيمان المرأة أرجح من إيمان الرجل وبالعكس.
وتشير إلى أن التفضيل عند اللّه باعتبار الإيمان لا بالنسب والحسب.
وفي قوله تعالى «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» تنبيه إلى التساوي بالنسب القديم لأن العبيد والأحرار أصلهم من آدم وحواء على السواء قال :
الناس بحسب التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فمناط التفاخر أيها الناس بالإيمان ، وملاك الفضل بالتقوى ، وقوام الأعمال بالأدب ، وجماع الحشمة بالكرم ، وإذا كان كذلك فلا تأنفوا أيها الفقراء من نكاح الإماء ولا تشمخوا عليهن بحريتكم ، ولا تلتفتوا إلى أقوال الجاهلين الذين ينتقدون ذلك ويسمون ابن الأمة الهجين ، ومعناه في الأصل اللئيم ومن أبوه خير من أمه ، ويطلق على العربي المولود من الجارية ، وعلى كل حال فالإحصان بالجارية فيه قمع الشهوة التي ربما توقعه فيما لا يرضي اللّه ، فهو خير له أن يصون دينه ونفسه.
«فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ» أسيادهن ، فلا ينعقد النكاح بين الامة وزوجها إلا بإذن مولاها كبيرة كانت أو صغيرة لورود النص ، أخرج أبو داود والترمذي من حديث جابر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ، ولا يقاس على الطلاق لأنه إزالة عيب عن نفسه فيملكه ، بخلاف النكاح ، أما الحرّة فقد وقع اختلاف بين العلماء في حق الكبيرة فقط هل تحتاج لإذن وليها أم لا ، أما الصغيرة فلا بد من إذنه ، والعمل الآن على اعتبار الإذن كبيرة كانت أو صغيرة إلا إذا كان بقصد الفصل فلا ، لأن للولي حق الامتناع عن الموافقة إذا تزوجت بدون مهر المثل أو بغير كفء ، أما إذا كان بمهر المثل وكان الزوج كفؤا فليس له منعها ، وعند ذلك تزوج نفسها وافق أم أبى ، ولا نص في القرآن على لزوم الإذن من الولي في زواج الحرة ، وإن إدخالها في حكم هذه الآية تغافل أو تسامح لأن البحث منحصر في الإماء لا علاقة له في الحرائر ، راجع الآية 49 من سورة الأحزاب المارة «وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» مهورهن مما أنفقتم عليه «بِالْمَعْرُوفِ»(5/543)
ج 5 ، ص : 544
من غير مطل ولا نقص عن المسمى ولا تبديل نوعه وعن طيب نفس ورضى واختيار ولسيدها قبض مهرها وأخذه ، لأن العبد وما ملكت يداه لسيده ، والمهر من ملك يدها ، وهؤلاء الإماء ينبغي أن يكنّ عفيفات كما وصفهن اللّه بقوله «مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ» زانيات مجاهرات «وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ» أصحاب لشهوتهن يمتعن بهم خاصة لأن المسافحة المسبلة نفسها لكل أحد ، والخدن التي تختص بواحد يزني بها فقط ، وكانت الجاهلية تحرم نكاح الأولى وتجيز الثانية ، فأخبرهما اللّه بان نكاح كل منهما حرام ، وهاتان الخصلتان القبيحتان من آثار الجاهلية لها بقية كثيرة حتى الآن ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه «فَإِذا أُحْصِنَّ» بالتزويج «فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ» أي زنين «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ» الحرات إذا زنين «مِنَ الْعَذابِ» الذي يترتب عليهن ، وهكذا التي لم تحصن ، لأن التزويج ليس بشرط لإجراء الخدّ ، والمراد منه التنبيه على أن المملوك ولو كان محصنا فلا يرجم ، وهذا هو الطريق الذي وعد اللّه به في الآية 15 المارة والذي سنوضحه في سورة التحريم الآتية إن شاء اللّه ، ويفهم من هذه الآية أن الأمة إذا زنت قبل التزويج فلا حدّ عليها ، وأنها بعده لا ترجم لان الحد لا ينصف ، وقد استدل من أوجب الحد على الأمة بالزنى قبل التزويج بما روى عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليحدها الحد ولا يثرب عليها أي لا يعيرها ثم إن زنت فليحدها الحد ولا يثرب ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر - أخرجاه في الصحيحين - لأنها اعتادته ولم يبق أمل بتوبتها توبة نصوحا منه ، وعليها الحد كلما عادت.
وعليه فيصرف معنى الآية على عدم رجمهن إذا زنين ، ويراد بالعذاب الحد ، وإنها تستحق نصف الجلد المترتب على الحرة البكر لا الحد الذي يترتب على الحرة الثيب ، لأنه الرجم ، وهو لا ينصف كما مر ، وما قبل إن الإحصان هنا يراد به الإسلام ينافيه السباق ، والسياق ، لهذا فإن من استدل بحدها على تفسير الإحصان بالإسلام ، فقد بعد عن المرام «ذلِكَ» نكاح الإماء لعدم الطول مطلوب «لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ» أي الزنى على نفسه «مِنْكُمْ» أيها المؤمنون «وَأَنْ تَصْبِرُوا»(5/544)
ج 5 ، ص : 545
عن زواجهن وتقدروا على قمع شهوتكم فهو «خَيْرٌ لَكُمْ» كي لا يكون ابنكم رقيقا لأن الولد يتبع أمه في الرق والحرية ، وأباه في الدين ، قال :
يتبع الفرع بانتساب أباه والأم في الرق والحرّية
والزكاة الأخف والدين الا على والذي اشتد في جزاء ودية
وأحسن الأصلين ذبحا ورجسا ونكاحا والأكل والأضحية
هذا وإن الغيور لا يقدر أن يتحمل الإماء لأنهن مبتذلات مهانات غير حافظات لأنفسهن على الغالب ، لذلك يأبى زواجهن ذو المروءة وأصحاب الشهامة ، وإذا كانت نفس الأبي تأبى فليصبر على نفسه لوقت الاستطاعة على نكاح الحرّة.
إذا لم تستطع أمرا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
وقال الآخر في ذلك :
إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره
وقال الآخر :
ومن لم تكن في بيته قهرمانية فذلك بيت لا أبا لك ضائع
لذلك فإن التعفف عنهن أولى والتباعد عن ضمهن أحرى «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن لم يصبر عن نكاحهن إذا تزوجهن خشية العنت «رَحِيمٌ» (25) بإباحة ما تشتد إليه حاجة عباده ترمي هذه الجملة للتنفير عن نكاح الإماء بحيث كأنه ذنب.
قال تعالى «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» ما خفي عنكم من مصالحكم وما هو الأحسن ، والأفضل لكم مما يرفع به شأنكم ويكف الألسنة عنكم «وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ» مناهج وشرائع وطرق «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» من الأمم المؤمنة ومثالية الأمم الكافرة لتأخذوا بالأحسن وتجتنبوا الاسوء «وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» فيما أصبتموه من الحرام قبل نهيكم عنه ويحذركم من اقترافه بعد التحريم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما يصلح لكم وما تحتاجون إليه في الدنيا وتنتفعون بثوابه في الآخرة «حَكِيمٌ» (26) فيما شرعه وأباحه لكم وحرمه عليكم «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ» كرره تأكيدا وزيادة في التحذير والتشويق «وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ» وهم الفجرة الذين لا يملكون إرادتهم لضعف إيمانهم وقلة اكتراثهم بأمر دينهم «أَنْ(5/545)
ج 5 ، ص : 546
تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً»
(27) عما أحل اللّه لكم إلى ما حرم عليكم لتهلكوا وتندموا وتخسروا الدنيا والآخرة «يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ» تكاليفه التي أثقلت كواهل من قبلكم ولم يشدد عليكم كما شدد عليهم لأنكم أقرب للطاعة منهم ، وأرأف على غيركم منهم.
وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (28) لا يتحمل المشاق قليل الصبر لا يقهر قواه ، ضعيف العزم لقاء هواه ، نحيف البنية لا يستطيع مقاومة الشدة ، الشوكة تفعده والحمى تميته ، عديم التأني عجولا لما يريد.
مطلب أكل المال بالباطل وجواز البيع بالتراضي ومن يقتل نفسه وكبائر الذنوب وصغائرها وما يتعلق بهذا :
هذا وبعد أن بين اللّه تعالى ما يجب أن ينتهي عنه في النفس شرع في بيان ما يجب أن يجتنب في المال والنشب فقال جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» كالربا والقمار والغضب والسرقة والخيانة ، وأن تعدوا ما يحصل من ذلك ربحا وهو محرم عليكم تعاطيه وربحه ، وهكذا كل ربح حصل من عقد فاسد أو باطل «إِلَّا أَنْ تَكُونَ» الأرباح التي تأكلونها «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» فيحل لكم أكلها وهذا الاستثناء منقطع لأن أرباح التجارة ليست من جنس الباطل.
وفي الآية دليل على جواز البيع بالتعاطي وجواز البيع الموقوف إذا أجيز لوجود التراضي وعلى نفي خيار المجلس ، لأن إباحة الأكل من غير تقييد ، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 188 من سورة البقرة فراجعه «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» أيها المؤمنون كما يفعله بعض الجهلة قليلو اليقين باللّه عند ضيق ذات يدهم أو حدوث أمر يعجزهم تدبيره أو مفاجأة بمعيبة أخرى أو غير ذلك ، فإنّ قتل النفس أشد من قتل الغير إثما عند اللّه ، لأن من يقتل غيره يوشك أن يتوب ويؤدي ديته أو تعفي عنه ورثته فلا يبقى عليه إلا حق اللّه وهو مبني على المسامحة ، واللّه
أكرم مرجوّ أن يعفو عنه بعد أن عفا عنه عبده واللّه سبحانه أكرم منه ، أما قتل النفس فلا يتيسر فيه شيء من ذلك روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تحسى سما فقتل(5/546)
ج 5 ، ص : 547
نفسه فسمّه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.
ورويا عن جندب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال كان برجل جراح فقتل نفسه ، فقال اللّه تبارك وتعالى ، بدرني عبدي بنفسه ، وفي رواية استعجل عليّ عبدي حرمت عليه الجنة ، ولهذا قال كثير من الأئمة لا يصلى عليه ، وقال أبو حنيفة يصلى عليه لأنه مؤمن مذنب وهو أحوج من غيره للدعاء ، والأول الذي مشى عليه غيره أولى لما سبق في معنى الحديثين المارين وما سيأتي بعد هذا ، ومن قتل غيره فقد تسبب لقتل نفسه لأنه قد يحكم عليه بالقصاص ، ومن أكل المال بالباطل فقد أهلك نفسه لما فيه من الوعيد الشديد ، فكأنه قتلها أيضا ، وقد بينا ما يتعلق في هذا في الآية 179 من سورة البقرة المارة «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» (29) يا أمة محمد ولم يزل كذلك ، لأنه ينهاكم عن كل ما يضركم ويأمركم بكل ما ينفعكم دنيا وأخرى ، ومن رحمته أن جعل توبتكم الندم وتوبة غيركم القتل «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً» تجاوزا على اللّه «وَظُلْماً» لنفسه قصدا لا خطأ ولحق ما ، فيأكل المال بالباطل الذي مر ذكره في الآية 189 من البقرة ويقتل نفسه جزعا «فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً» في الآخرة «وَكانَ ذلِكَ» الإحراق فيها «عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (30) هيّنا سهلا لأن تنفيذ أوامره جارية بين الكاف والنون ولا أيسر من لفظ كن.
الحكم الشرعي : قتل النفس من الكبائر ، وقاتل نفسه عاص فاسق لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ، لأن اللّه تعالى جعل عقابه الخلود في النار ولما جاء في تيسير الوصول عن جابر بن مرة أن رسول صلّى اللّه عليه وسلم أخبر برجل قتل نفسه فقال لا أصلي عليه وللحديثين المارين المصرحين بخلوده في النار والخلود من خصائص الكافرين ، هذا هو الصحيح.
وقيل إنه يغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين مع القول بفسقه وعصيانه ، وأمره إلى اللّه.
أما قاتل نفسه خطأ فلا خلاف في جواز غسله والصلاة عليه وكذلك في شبه العمد.
وليعلم ان تشديد العقاب على قاتل نفسه عمدا لأنه ناشيء حقدا عن عدم ثقته باللّه ووثوقه بوعده ولأنه لا يقين له باللّه ، ولهذا البحث صلة في الآية الثانية من سورة الطلاق الآتية فراجعها(5/547)
ج 5 ، ص : 548
قال تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ» من كل ذنب عظيم قبحه وكبرت عقوبته واستوجب الحد في الدنيا والعذاب بالآخرة وهو ما ختمه اللّه بنار أو عذاب أو غضب أو لعنة وعد قتل النفس في الموبقات على ما رواه الشيخان من قوله صلّى اللّه عليه وسلم اجتنبوا السبع الموبقات (المهلكات) الشرك باللّه والسحر وقتل النفس التي حرمها اللّه إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ، فإذا اجتنبتم هذه وما شاكلها أيها الناس «نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» الصغار وهي مالم يكن على فاعلها حد في الدنيا ولم تستوجب العذاب بالآخرة ما لم تفترن بإحدى العقوبات الأربع المارة ، لأن الحسنات تكفرها وقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفّارات لما بينهن - أخرجه مسلم - .
وقد تكون الكبائر والصغائر بنسبة مرتكبها على حد حسنات الأبرار وسيئات المقربين ، وفي هذا المعنى يقول القائل :
لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة في النهي فيها للوضيع معاذر
فكبائر الرجل الصغير صغائر وصغائر الرجل الكبير كبائر
وهذا من حيث المعنى على حد قول الآخر :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكريم المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
أما عند العارفين في الكبائر ما ذكرها ابن الفارض بقوله :
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 38 من سورة الشورى في ج 2 ما به كفاية فراجعها وما ترشدك إليه من المواضع «وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» (31) في دار كرامته التي لا أكرم منها.
قال تعالى «وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ» من مال أو جاه أو زوجة أو ولد لأن ذلك قسمة من اللّه خص بها من شاء من عباده صادرة عن حكمته وتدبيره وعلمه بأحوال الناس ، وهذا تأديب أدب اللّه به عباده وتهذيب لأخلاقهم وتبرئة لهم من داء(5/548)
ج 5 ، ص : 549
الحسد الذي هو مهضمة للجسد في الدنيا مهلكة له في الآخرة.
فعلى الإنسان أن يرضى بما قسم له ربه ويقنع بما عنده فالقناعة كنز لا يفنى.
واعلم أن التمني على قسمين حرام وهي تمني زوال نعمة الغير عنه وضمها له ، وهذا هو الحسد بعينه وفيه اعتراض على اللّه تعالى ، وفيه يقول القائل :
وأظلم خلق اللّه من مات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلّب
وقول الآخر :
ألا قل لمن بات لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على اللّه في فعله لأنك لم ترض لي ما وهب
وقول الآخر :
كل العداوات قد ترجى إزالتها إلا عداوة من عاداك في حسد
وجائز وهو أن يتمنى لنفسه مثل الذي عند غيره من الخير مع بقائه له ، وهذه الآية عامة في كل تمن مشروع ، وإن كانت نزلت بصدد آية المواريث بتخصيص الرجل ضعفي المرأة من الميراث ، لأن العبرة لعموم اللفظ ، ولما قال الرجال إنا لنرجو أن يكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كالميراث ، وقالت النساء إنا لنرجو أن يكون وزرنا على النصف من وزر الرجال كالميراث ، نزل قوله تعالى «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا» أجرا ووزرا «وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» أجرا ووزرا بحسب الأعمال لا بحسب الإرث «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» أن يمنّ عليكم كما من على غيركم ولا تتمنوا ما أعطاه لغيركم ، وفيها تنبيه على استحباب الدعاء وطلب الفضل المطلق من اللّه ، لأنه جل شأنه لم يأمر بالمسألة إلا ليعظم الأجر ويعطي ما هو الأصلح بعده من غير أن يعين شيئا.
وفيها إشارة إلى أن لا علاقة للمال بالأعمال ، ولا العقيدة بالرزق ، فقد يرزق الحقير ويحرم الخطير ، ويرزق الشقي ويحرم التقي ويرزق الضعيف ويحرم القوي لا يسأل عما يفعل «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (32) ولم يزل كذلك كما كان من قبل وإنه بمقتضى علمه يعطي كل سائل ما يصلحه.
«وَلِكُلٍّ» من مال أو تركة «جَعَلْنا مَوالِيَ» وارثين يلون أشياء «مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ(5/549)
ج 5 ، ص : 550
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ»
من عقود الموالاة وهي مشروعة والوراثة بها ثابتة عند عامة الصحابة رضوان اللّه عليهم ، ومعناها هو أنه إذا أسلم رجل وامرأة لا وارث لهما وليس بعربي ولا معتق فيقول أحدهما للآخر واليتك على أن تعقلني إذا حييت وترثني إذا متّ ، ويقول الآخر قبلت ، فينعقد هذا الولاء بينهما ويرث الأعلى من الأسفل ، وكان لهذه المعاقدة أصل في الجاهلية على النصرة والزيادة والنصيحة ، ولهذا قال تعالى «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» الذي عاقدتموهم عليه لأن اللّه أمر بإيفاء العقود كلها الموافقة لشريعته التي سنها لعباده ، والآية محكمة ، ومن قال إنها نسخت بآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) الاخيرة من سورة الأنفال المارة فقد أخطأ المرمى ، لأن آية الأنفال نزلت قبل هذه ، والمقدم لا ينسخ المؤخر «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» (33) سواء استشهدتم أحدا عليها أو لم وكفى باللّه شهيدا ، ومن جملة الأشياء المعاقدة ، فيجب الوفاء بها كسائر العهود.
مطلب تفضيل الرجل على المرأة.
وعدم مقاصصتهن لرجالهن.
وأمر تأديبهن منوط برجالهن أيضا :
وقال تعالى «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ» بما خصهم اللّه تعالى من الكمال فجعلهم قيّمين عليهن لزيادة عقلهم وحسن تدبيرهم وهذا من معجزات القرآن العظيم لأنه قبل ترقي علم الجراحة والتشريح لم يكن أحد يعلم أن دماغ الرجل يزيد على دماغ المرأة 120 غراما ، وهذا من جملة مكنونات القرآن الناطق بقوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 39 من سورة الانعام ج 2 ثم بين بعض سبب هذا القيام بقوله «بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ» أي الرجال «عَلى بَعْضٍ» أي النساء في العقل الثابت حسا والدّين لما يعتريهن من النقص في الحيض والنفاس بصلاتهن وصيامهن وفي الولاية كالقضاء والإمارة والولاية على القاصرين أصلا وعلى النكاح وفي الشهادة ، لأنهن على النصف من الرجال ، وفي الإرث كذلك وعدم كونهن عصبة بأنفسهن بل مع الغير إلا المعتقة ، وفي الجهاد لأنهن لا يباشرنه أصالة ، وحضور الجمعة والجماعات والشورى والإمامة والنسب لأن أولادهن ينسبون لآبائهم ، وفي النكاح والطلاق والرجعة والعزم والحزم والقوة والتكبير وغير ذلك(5/550)
ج 5 ، ص : 551
«وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» يكون لهم الفضل عليهن أيضا من المهر قبل العقد والنفقة بعده ، فلهذه الأسباب علوا على النساء وسلطوا عليهن أيضا عند الاقتضاء لتأديبهن والأخذ على أيديهن والقيام بمحافظتهن.
قالوا كان سعد بن الربيع من النقباء فلطم امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهيد بسبب نشوزها ، فأخذها أبوها إلى الرسول وقال له افرشته كريمتي فلطمها ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لتقتصنّ منه ، فانصرفت لتقتصّ منه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ارجعوا ، هذا جبريل أتاني فأنزل اللّه هذه الآية فقال صلّى اللّه عليه وسلم أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا ، والذي أراد خير ، ودفع القصاص بمثل هذا.
أخرج أبو داود عن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته - وهذا على تقدير عذر له - وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لو كنت آمرا أحدا أن بسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.
مبالغة في لزوم طاعتها له ، لأن من جعله اللّه قائما على شيء فقد أمره عليه «فَالصَّالِحاتُ» منهن «قانِتاتٌ» مخبتات مطيعات لأزواجهن «حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ» من كل ما يجب حفظه في غيبة أزواجهن من إبداء زينتهن للأجانب ومخالطتهن لهم فلا يلحقنه عارا ما من حفظ بيته وماله فلا يدخلن عليه أحدا ، ولا يبذرن مما فيه ، ولا يعطين أحدا منه دون علمه ، لأنهن راعيات في بيوت أزواجهن ، وكل راع مسئول عن رعيته عند اللّه تعالى ، فإذا أعطت المرأة شيئا من بيت زوجها بغير رضاه يعد سرقة وتعاقب عليه شرعا ، وقد أخذ عليهن العهد أن لا يسرقن كما مرّ في الآية 12 من الممتحنة ، ولا يفشين سرّه ، لأنه أمانة ، فتعد خائنة بافشائه لأنها أمينة عليه ، وذلك «بِما حَفِظَ اللَّهُ» لهن على الرجال من القيام بحقهن والذب عنهن.
أخرج النسائي عن أبي هريرة قال قيل يا رسول اللّه أي النساء خير ؟
قال التي تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمر ، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره.
ومن وصايا الحكماء كن فوق المرأة بالسن والمال والحب ، ولتكن فوقك بالصبر والجمال والأدب ، وإلا احتقرتك واحتقرتها.
قال تعالى «وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ» شرودهن عن طاعتكم «فَعِظُوهُنَّ» بما يلين جانبهن ويرقق قلوبهن وخوفوهن اللّه ، فإن لم يرجعن فاستعملوا معهن الطريقة الأخرى وهي(5/551)
ج 5 ، ص : 552
«وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ» فإن لم ينجح بهن فاجنحوا إلى الطريقة الثالثة وهي «وَاضْرِبُوهُنَّ» ضرب تأديب غير مبرح ولا مشين ، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن زمعة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ، وإنما أمر الرسول بهذا لأن النساء ضعاف بنية ضعاف قلب يرعبن قبل الخوف ، والضرب في الآية مطلق فيحمل على المعتاد ، لذلك ينبغي للرجل أن يجتنب الضرب المبرح المؤثر في الجسد ، والمواقع التي يحتمل معها حصول ما يعيب المرأة من كسر أو عور أو طرش ، ولا يضرب الوجه لشرفه ، وإذا كان ضرب الحيوان.
على وجهه ممنوعا فكيف بالإنسان ؟ قال صلّى اللّه عليه وسلم يعاقب ضارب الحيوان بوجهه الحديث وقال صلّى اللّه عليه وسلم استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا.
وأخرج أبو داود عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال قلت يا رسول اللّه ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت.
هذا وحقه عليها الامتثال وحفظ نفسها وبيتها ، وأن تعمل كل ما يرضيه ، وتجتنب كل ما يسخطه ، ولا تدخل أحدا على بيته من أقاربها أو جيرانها إلا برضاه وإذنه ، ولا تجلس أحدا على فراشه أيا كان وتنظف أولاده ، وتنظم بيته ، وتطيعه في كل شيء إلا فيما حرم اللّه.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح.
وأخرج الترمذي عن طلق بن علي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إذا دعا الرجل امرأته إلى حاجة فلتأته وإن كانت على التنور.
وله عن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة وله عن معاذ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك اللّه ، وإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ» فيما تأمرونهنّ وتنهونهن بعد هذا «فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» آخر تحتجون به عليهن ولا تغترّوا بقيامكم عليهن «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً» (34) عليكم(5/552)
ج 5 ، ص : 553
وعليهن وعلى الخلق أجمع ، فراقبوه فيهن وخافوا انتقامه من أن يسلط عليكم من هو أكبر منكم.
تشير هذه الجملة إلى مراعاة حقوق النساء إذا كن طائعات لأزواجهن لأن اللّه تعالى يقول إن هؤلاء النساء وإن كن ضعافا لا يقدرن على دفع الظلم عن أنفسهن من رجالهن المتعالين عليهن المتكبرين ، فإن اللّه المتعال على كل عال ، الكبير على كل كبير ، قادر على أن ينتصف لهن ممن يظلمهن فاحذروه أيها الناس ولا تعتدوا عليهن ، وراعوهن ، فإن اللّه عظيم جبار منتقم قال تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما» أي الزوجين بأن انشق كل منهما على الآخر ولم يطلق الزوج زوجته لأمر ما بعد أن جرب الطرق الثلاث المارة معها وأتى الأمر إلى أن يفصل بينهما فعليكما أيها الأولياء لهما أو وجهاء قومهما إن لم يكن لهما أولياء أو الحكام إذا دعت الحاجة لمراجعتهم «فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» لحل الخلاف بينهما إصلاحا أو تفريقا ، وعليكم أيها المتصدرون لحل المشكلات وفصل المخالفات بين الناس إذا التجأ إليكم الزوجان أو أحدهما أن تزودوا الحكمين بالنصائح وعدم التزام جهة غير الحق ، ووصوهما بإخلاص النية معهما لأنهما «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً» بين الزوجين وما ودع إليهما من أمرهما ولم يتحيّزا إلى أحدهما ولم يسيئا نيتهما وكان قصدهما الإصلاح ورائدهما التوفيق بالحق بينهما «يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما» أي الزوجين على يدهما ، لأن اللّه تعالى يبارك في وساطتهما ويوقع بحسن سعيهما الألفة بينهما على الاجتماع والإمساك بالمعروف ، أو يطيبا خاطر كل منهما على الفراق بإحسان ، ويغني اللّه كلا من سعته «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً» بما في قلوب الزوجين والحكمين «خَبِيراً» (35) بالمعتدي منهم.
ترمي هذه الجملة إلى تهديد كل من الزوجين إذا كان قصدهما الحيف ، وكل من الحكمين إذا مالا لجهة دون جهة ، أو كل منهما التزم صاحبه على بطله.
وتشير إلى أنه تعالى لا يوفق الحكمين إذا لم يحسنا نيتهما على الوجه المار ذكره إلى إنجاز مهمّتهما ، ولا الزوجين على الخلاص بعضهم من بعض بالمعروف والاجتماع بإحسان ، وإنه تعالى سيجازي كلا منهم على صنيعه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والأولى أن يكون الحكمان أبويهما أو جدّيهما أو أخويهما ، لأنهما أدرى بما هو بينهما وأكثر شفقة عليهما وأعلم بحقيقة(5/553)
ج 5 ، ص : 554
مصالحهما ، ولا يقال إنه لا يجوز أن يكون الحكم من أقارب المحكم كما صرحت به المجلة الجليلة ، لأن هذا حكم خاص بهذه القضايا المتعلقة بين الزوجين وذلك حكم عام في بقية القضايا الحقوقية وغيرها ، والخاص مقدم على العام.
روى الشافعي سنده عن علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه أنه جاءه رجل وامرأة مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فقال علام شأن هذين ؟ قالوا وقع بينهما شقاق ، قال فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين تدريان ما عليكما إن رأيتما أن يجتمعا جمعتما وإن رأيتما أن يفترقا فرّقتما ؟ فقالت المرأة رضيت بما في كتاب اللّه عليّ فيه ولي ، وقال الرجل أما الفرقة فلا ، قال كذبت ، واللّه حتى تقرّ مثل ما أقرّت به.
الحكم الشرعي هو ما ذكره اللّه تعالى ، إلا أنه إذا لم يوجد من أقارب الطرفين من يصلح للتحكيم ولم يتفقا على أحد ممن يعتمدان عليهما فينتخب القاضي رجلين من ذري العلم والصلاح والوجاهة والأمانة ، ولا يلتفت إلى عدم رضائهما ، لقوله - عليه الرضاء - للزوج كذبت كما مر آنفا.
وعليه فإذا لم يفوض الطرفان أو أحدهما إلى الحكم بالإصلاح أو التفريق فيفوض إليهما القاضي ذلك ، وأن يحكما بما هو الموافق لرأيهما رضيا أم أبيا ، وعلى الحكمين أن يتقيا اللّه بذلك ، ويراقبا وقوفهما غدا بين يدي اللّه تعالى.
مطلب أجمع آية في القرآن لمصارف الصدقة.
وحق القرابة والجوار وشبههما وذم البخل :
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ» وحده أيها الناس «وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» من خلقه ولا تزيغوا عن أمره ، فهو الذي شرع هذا الشرع ، وهو السميع البصير بأقوالكم وأعمالكم ، وهو الأحق بالعبادة ممن لا يبصر ولا يسمع ولا يفقه «وَبِالْوالِدَيْنِ» أيها الناس أحسنوا «إِحْساناً» كثيرا أداء لحقهما «وَبِذِي الْقُرْبى » أحسنوا أيضا لأنهم رحمكم وأحق بإحسانكم من غيرهم «وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» ايضا أشركوهم بإحسانكم لحاجتهم إليه «وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى » منك ومن بيتك ، فإن قريبك له حق الجوار وحق القرابة عليك وحق الإسلام ، وإن لم يكن مسلما فحق الجوار والقرابة فقط وهو جدير بأن تحسن إليه أكثر من غيره «وَالْجارِ(5/554)
ج 5 ، ص : 555
الْجُنُبِ»
الذي بعيد جواره عنك من جوانب دارك والأجنبي عنك ، وقيل هو الملاصق لدارك ، ولا يتجه هذا إلا إذا خص الأول بالقريب وإلا فلا «وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ» زوجتك ، لأنها مصاحبة لك لاصقة بجنبك ، والقصير أي الغريب الذي ينزل بجوارك ليأمن بظلك من الناس «وَابْنِ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله لنفاد نفقته ، أو الذي لم يبق لديه ما يوصله لأهله «وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والحيوانات فهذه كلها محتاجة إلى إحسان الذين خولهم اللّه تعالى نعمه فعليهم أن يحسنوا إليهم مما من اللّه عليهم ، ولا يتكبروا بما يعطونهم إياه «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا» متكبرا متجبرا على الناس «فَخُوراً» (36) بنفسه وبما أوتي من فضل اللّه على خلقه لا ينظر إلى أقاربه وجيرانه ولا يقوم بحقوق المحتاجين من الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل وأبناء السبيل ويأنف عن مخالطتهم ، ويرى نفسه خيرا منهم.
روى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه ، قيل من يا رسول اللّه ؟ قال من أدرك والديه او أحدهما ثم لم يدخل الجنة.
اي بسبب رضاهما.
وروى البخاري ومسلم عن انس قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من سره ان يبسط له في رزقه وينسأ له في اثره (اجله) فليصل رحمه.
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال قال صلّى اللّه عليه وسلم انا وكافل اليتيم في الجنة هكذا - وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما - ورويا عن ابي هريرة قال الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللّه.
ورويا عن ابن عمر قال قال صلّى اللّه عليه وسلم ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.
ورويا عنه انه صلّى اللّه عليه وسلم قال من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت.
واخرج أبو داود عن علي كرم اللّه وجهه انه قال كان آخر كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الصلاة الصلاة ، وانقوا اللّه فيما ملكت أيمانكم.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء.
وفي رواية ابي هريرة إلى من جرّ إزاره بطرا.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم اتقوا اللّه في النساء اتقوا اللّه في النساء ، اتقوا اللّه فيما ملكت أيمانكم ، اتقوا اللّه فيما ملكت ايمانكم ، اتقوا اللّه في المرأة الأرملة ، والصبي اليتيم(5/555)
ج 5 ، ص : 556
وفي ذكراللّه في هذه الآية الأصناف الثمانية الذين هم أولى بالإحسان وأمر المحسنين أن يحسنوا إليهم دلالة على أنها أجمع آية في القرآن في هذا المعنى ، وسيأتي نظيرها في سورة التوبة الآية 62 الآتيه الواردة في مصارف صدقة الفرض ، ثم أعقبها بذم البخل والبخلاء الذي هو أقبح خصلة في الناس وخاصة في الأغنياء لأنها عار عليهم في الدنيا وعذاب في الآخرة فقال جل قوله «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» فيخفونه ولا ينفقونه في وجوه البر ، ولا يتصدقون بفضله إلى الأصناف المذكورة ، فهؤلاء كافرون بنعم اللّه جاحدوها «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» أمثالهم «عَذاباً مُهِيناً» (37) لهم ومشينا بهم ومخزيا لأنهم بخلوا وأمروا غيرهم بالبخل لشدة تعلقهم به وأخفوا ما عندهم حتى انهم ليقولون لمن يطلب من إحسانهم ما عندنا شيء قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كروم بن زيد وحيي بن اخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن ابي نافع ويحيى بن عمر كانوا يخالطون أناسا من الأنصار ويقولون لهم لا تنفقوا على الناس أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون.
وهي عامة محكمة شاملة لكل من هذه صفته إلى يوم القيامة ، وهؤلاء داخلون في قوله تعالى (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الآية 269 من البقرة المارة «وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ» فخرا وسمعة لنشر الصيت وعلو الجاه ورفع القدر «وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» فهؤلاء هم المنافقون الذين هم قرناء الشياطين.
وقد أنزلت فيهم «وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً» (38) قرينه وبئس الخليل خليله «وَما ذا عَلَيْهِمْ» أي مشقة تصيبهم وأي تبعة تلحق بهم «لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ» لعيال اللّه وعباده «وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً» (39) بأنهم لا ينفقون ولكن ليظهر ذلك لخلقه وهم لو عقلوا أن لا وبال عليهم بالإيمان ولا نقص عليهم بالإنفاق ولكن أبت نفوسهم الخبيثة ذلك لأنها منطوية على البخل وسوء الظن باللّه «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» النملة الصغيرة ، وما يرى(5/556)
ج 5 ، ص : 557
في الهباء هو الذر ، وهذا بالنسبة لما تستحضره العرب وتضرب به المثل في القلة وإلا فإنه تعالى لا ينقص أحدا شيئا ، والذرة مركبة من أشياء كثيرة وقابلة للقسمة «وَإِنْ تَكُ» تلك الذرة «حَسَنَةً يُضاعِفْها» لصاحبها «وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» (40) وما يصفه اللّه بالعظم ، فلا يعرف مقداره إلا هو ، وفي هذه الآية ابطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة ، مع أن له حسنات كثيرة.
روى مسلم عن أنس بن مالك في هذه الآية قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة.
وأما الكافر فيعطى بحسنات قد عمل بها
في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها.
راجع الآيات من 261 إلى 274 من سورة البقرة ففيها جميع ما يتعلق بالمنفق والمنفق عليه والنفقة.
قال تعالى «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ» يشهد عليهم بما وقع منهم وعليهم «وَجِئْنا بِكَ» يا سيد الرسل «عَلى هؤُلاءِ» الذين بلّغتهم وأرشدتهم ونصحتهم وتليت عليهم آياتي «شَهِيداً» (41) على من أجاب دعوتك وصدق ما جئت به ومن جحدها ولم يلتفت لتذكيرك بها روى البخاري ، ومسلم عن ابن مسعود قال قال صلّى اللّه عليه وسلم اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول اللّه أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقال فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية ، قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
قال تعالى «يَوْمَئِذٍ» يوم يجاء بالرسل لتشهد على أممهم في ذلك المشهد العظيم ، ويفرح المؤمنون المصدقون بما شهدوا به عليهم من الانقياد لأوامر اللّه والانتهاء عن نواهيه «يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ» في الدنيا ولم يمتثلوا أوامره التي بلغهم إياها فيتمنوا المرة بعد المرة «لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ» فيغوصون فيها كالموتى أو تخسف فتنطبق عليهم خوفا وخجلا من سوء أعمالهم التي يظهرها اللّه لهم ويسألهم عنها فيعترفون بها كلها «وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً» (42) فلا يقدرون أن يخفوا شيئا فعلوه في الدنيا لأنهم إن سكتوا أو جحدوا نطقت بها جوارحهم ، فتعترف كل جارحة بما وقع منها وزمانه ومكانه وسببه.(5/557)
ج 5 ، ص : 558
مطلب أن الخمر الثالثة ونزول آية التحويم والأصول المتممة في النطق ، وعدم اعتبار ردة السكران وطلاقه :
قالوا لما صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ودعا نفرا من الأصحاب فأكلوا وقدم لهم الخمر فشربوا لأنها لم تحرم بعد على القطع ، ثم قدموا أحدهم يصلي بهم المغرب فقرأ (أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) بدل لا أعبد ما تعبدون ، أنزل اللّه تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً» باحتلام أو غيره.
والجنب لفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع «إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» مسافرين عادمي الماء عبّر عن التيمم بالمسافر لأن غالب حاله عدم الماء في البادية «حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى » وتحقق لكم مضرة الماء بتجربة أو اخبار حاذق ملم «أَوْ» كنتم «عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» هو المحل المنخفض يذهب إليه لقضاء الحاجة فيه كي لا يرى ، وكنّى به عن الحدث «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» جامعتموهن ، وكنّى بالملامسة عن الجماع تحاشيا عن ذكره وتعليما للناس أن يتأدبوا بآداب القرآن فلا ينطقوا بكلام مستهجن تمجه النفس ويأباه الطبع السليم من كل ما ينافي الأدب ، ولا سيما ما يتعلق بالنساء فيكنّون في كل ما يتحاشى عن ذكره ويتعالى الأديب عن التصريح به ويتباعد الأريب عنه ، فإذا وقعتم أيها الناس في هذه الحالة ولم تجدوا ما تنطهرون به «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» تغتسلون به أو لم تقدروا على استعماله أو لم تستطيعوا وصوله لخوف من حيوان أو قاطع طريق أو من يترصد لقبضكم وحبسكم أو لم يكن عندكم آلة تنضحون بها الماء «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً» هو وجه الأرض مطلقا ترابا أو غيره «طَيِّباً» طاهرا ، وإذا أردتم التيمم به «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا» يصفح عن عباده وييسر لهم برخصه «غَفُوراً» (43) للخطأ والتقصير.
اعلم أن صدر هذه الآية هو الآية الثالثة النازلة في الخمر الممهدة لتحريمه على القطع كما أشرنا إليه في الآيتين 220 من البقرة المارة و67 من سورة النحل في ج 2 وليس فيهما تصريح المنع ، والمنع في هذه مقيد في الصلاة فقط ولذلك لم ينته عن الخمر بعد نزولها إلا ذوو النفوس(5/558)
ج 5 ، ص : 559
الزكية العارفون مغزى هذا النهي الوارد فيها ، وبقي مكبا عليها من لم يتصف بتلك الصفة الطاهرة أو من لم تكن عنده ملكة كافية لإدراك ذلك النهي المقيد في حال الصلاة ، فلم تكن رادعة على الجزم كما أن آية البقرة قد بنيت على دفع المضرة وهي سلب العقل والمال وجلب المنفعة وهي المال واللذة وهو من الاوليات التي هي أول أقسام اليقينيات التي هي نتيجة البرهان ، كقولك الواحد نصف الاثنين ، والكل أعظم من الجزء ، والراحة خير من التعب.
والثاني مشاهدات كقولك النار محرقة والسماء فوقنا ، والأرض تحتنا ، والماء مزيل الظمأ.
والثالث مجربات كقولك شرب المسهل مطلق ، وتعاطي الدواء نافع ، والاكل مزيل للجوع ، والشرب مزيل للعطش.
والرابع حدسيات أي ظنيات كنور القمر مستفاد من الشمس ، وبعد وقرب السيارات بعضها من بعض ومن الأرض ، وعدد النجوم وحجمها ، وحصول المد والجزر يتغيّر وقته باختلاف طلوع القمر ، والخامس متواترات كثبوت نبوة الأنبياء ، وإرسالهم من قبل اللّه ، وإنزال الكتب عليهم لهداية البشر.
وعلى هذا فإن كون دفع المضرة مقدم على جلب المنفعة مما لا يتردد فيه عاقل ، وقد وضعت قاعدة من قواعد المجلة الشريفة بصورة درء المفاسد مقدم على جلب المنافع ، إلا أن هذه الآية لم تكن زاجرة على الجزم من تعاطي الخمر أيضا ولهذا بقي القسم الأعظم يتعاطاها في غير الصلاة لأن النفوس جبلت على الميل للشهوات والجنوح للذات لأنها شريرة بالطبع ما لم تهذب وتصلح وتمني وتؤمل ، وسنأتي على القول الفصل في هذا البحث عند تفسير الآية الرابعة الحاسمة في هذا الشأن عدد 90 من المائدة الآتية إن شاء اللّه تعالى.
وتشير هذه الآية إلى أن ردة السكران غير معتبرة ، لأن قراءة (أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) من غير السكران إذا كانت مقصودة كفر ، وإن اللّه خاطبهم بصيغة الإيمان فلم يحكم بكفرهم ، ولم يفرق حضرة الرسول بين هذا القارئ وزوجته ولم يأمره بتجديد الإيمان ، مما يدل على عدم اعتبار ما وقع منه ، ولهذا قال أكثر الأئمة بعدم وقوع طلاق السكران ، وكذلك طلاق المكره وعليه العمل الآن رحمة بالنساء.
وإن من قال بوقوعه أراد زجرا له لئلا يتداول ولم ينظر إلى ما يلحق زوجته من الحيف ، لذلك فإن القول بعدم اعتباره أولى ، فقياس(5/559)
ج 5 ، ص : 560
عدم إيقاع الطلاق
على عدم تكفيره وتسميته مؤمنا قياس مستقيم موافق لأصوله.
هذا ، وقد أجمعت الأمة على أن من أجرى على لسانه كلمة الكفر خطأ لا يحكم بكفره كالمكره الذي مر بحثه في الآية 106 من سورة النحل في ج 2 ، وفي قوله تعالى (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) إشارة إلى أن المتيمم إذا وجد الماء وجب عليه الاغتسال به ، وإن التيمم قائم مقام الماء عند عدم القدرة عليه طالت المدة أو قصرت.
وسبب نزول آية التيمم ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في بعض أسفارنا حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فجاء أبو بكر ورسول اللّه واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حسبت رسول اللّه والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء.
قالت عائشة فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء اللّه أن يقول ، وجعل يطعن يده في خاصرتي فلا يمنعني التحرك إلا مكان رسول اللّه على فخذي ، فنام رسول اللّه حتى أصبح على غير ماء ، فأنزل اللّه آية التيمم فتيمموا ، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت عائشة فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
- أخرجاه في الصحيحين - وذلك في غزوة الربيع ، وهذه على ما جاء في السيرة النبوية وقعت في السنة الخامسة من الهجرة الشريفة ، وعليه فتكون هذه الآية مقدمة على سورتها بالنزول لأنها وقعت على أثر انتهاء غزوة بني قريظة الكائنة بعد غزوة الخندق المسماة بالأحزاب ، ووضعت هنا بإشارة من حضرة الرسول واخبار من الأمين جبريل عليهما الصلاة والسلام كسائر الآيات المتقدمة على سورها.
ولهذا البحث صلة في الآية 9 من سورة المنافقين الآتية وأول فريضة صليت بالتيمم هذه ، وهو عبارة عن ضربتين على تراب طاهر واحدة للوجه وواحدة لليدين ، وينقضه ما ينقض الوضوء ووجود الماء.
قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» حظا وافرا من التوراة وهم أحبار اليهود وصاروا «يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ» بالهدى بعد ظهوره لهم «وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ» يا أيها المؤمنون لتكونوا مثلهم فتميلون عن الحق الذي أنتم عليه وتنخرطون في سلكهم(5/560)
ج 5 ، ص : 561
لأنهم لم يكتفوا بضلالهم بل طمعوا بإضلال غيرهم ، فاحذروهم فهم أعداؤكم «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ» منكم وقد أخبركم بهم وبما ينوونه لكم من الشر ، فلا تلتفتوا إليهم واعتصموا بدينكم «وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» (45) نزلت هذه الآية في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقين عبد اللّه بن أبي بن سلول ورهطه يثبطانهم عن الإسلام ، وقد بينهم اللّه بقوله «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» في التوراة التي أوجبت حكمة اللّه وصنعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال الكلام لغيره وإزالة معنى بمعنى آخر ليميلوا بالناس عن الإسلام ويضلوهم عن اتباع الدين الحق «وَيَقُولُونَ» للرسول عند ما يحذرهم سوء صنيعهم هذا «سَمِعْنا» قولك ظاهرا «وَعَصَيْنا» أمرك سرا ومنهم من يجهر به عنادا وعتوا ويقولون «وَاسْمَعْ» قولنا أيها الرسول «غَيْرَ مُسْمَعٍ» ما تكره ، وهذه الكلمة تحتمل المدح كما أولناها ، وتحتمل الذم (أني أسمع لا سمعت) ولا شك أن اليهود قاتلهم اللّه إذا تكلموا بكلام ذي وجهين كهذا مع المؤمنين فإنهم يريدون أسوأه لا أحسنه وشره لا خيره ، قبحهم اللّه وأخزاهم ، بدليل قولهم بعدها «وَراعِنا» أنظرنا يا رسول اللّه ، لأن معناها هو هذا ، ولها معنى آخر وهو الرعونة وهم لا بد يريدون هذا لا ذاك ، مع أن الأنبياء لا يخاطبون إلا بالإجلال والتوقير والتعظيم ، وهم دائما يقتلون الحق ويقلبونه إلى الباطل ، راجع الآية 104 من البقرة المارة ، وقولهم هذا يكون «لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ» وذلك أن منهم رفاعة بن زيد ومالك بن رخشم كانا إذا تكلم حضرة الرسول لويا ألسنتهما وعاباه «وَ» كان فعلهم هذا «طَعْناً فِي الدِّينِ» الحق أو بصاحبه سيد الخلق ومعنى الأرعن الأهوج في منطقه والأحمق المتسرع والهوج طول في حمق وتسرع في طيش والمسترخي هو المتقاعس ويقولون
لو كان بيننا لعرف معنى أقوالنا وإننا نعمه لا يدري ، فأطلع اللّه نبيه على خبث ضمائرهم وفضحهم بقوله «وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا» بدل وعصينا «وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا» بدل غير مسمع وراعنا «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» عند اللّه «وَأَقْوَمَ» وأعدل لكلامهم عند الناس «وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ»(5/561)
ج 5 ، ص : 562
بك يا سيد الرسل وجحودهم كتابك «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (46) إيمانا لا يعبا به مثل اعترافهم بأن اللّه خلقهم ورزقهم وإقرارهم بالبعث ونبوة موسى ، ولكن هذا كله ليس بشيء فإذا لم يؤمنوا بجميع الأنبياء والكتب كافة لا يقبل منهم.
واعلم أن هذا النطق باللفظ الذي له معنيان وإرادة الأسوأ من جملة طبايعهم التي جبلوا عليها.
مطلب طبايع اليهود أخزاهم اللّه واسلام عبد اللّه بن سلام وأصحابه وغفران ما دون الشرك وعلقة اليهود :
ولهم طبايع مذمومة كثيرة ، منها التناقض بالأقوال والأفعال المشار إليه بالآيتين 84 و85 والعظمة والكبرياء المنوه بهما في الآية 87 والحقد والحسد المذكورين في الآيتين 78 و90 ، والعناد واللجاج في الآيتين 98 و99 ، والكذب على النفس والإفراط في حب الحياة في الآيتين 94 و96 وخصومتهم بالباطل لكل من يدعي الحق والمكابرة في الحق في الآيتين 98 و99 أيضا ، ونقض العهد ونبذ الدين في الآيتين 100 و101 ، والميل إلى الطرق غير المشروعة في سبيل غرضهم وميلهم إلى السحر في الآية 102 من سورة البقرة ، ولهم طبايع أخرى كثيرة ذميمة قبحهم اللّه وأخزاهم ، هذا.
ولما قال صلّى اللّه عليه وسلم إلى عبد اللّه بن حوريا وكعب بن الأشرف يا معشر اليهود اتقوا اللّه وأسلموا فو اللّه إنكم تعلمون أن الذي جئتكم به حق وصدق ، قالوا : ما نعرف ذلك وأصروا على جحودهم أنزل اللّه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» لأن القرآن مصدق للتوراة «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً» نمحو تخطيط صورها من عين وأنف وحاجب وفم «فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها» أي على هيئة قفاها مطموسة لا شيء فيها أو نديرها فنجعل الوجه إلى خلف والقفا إلى قدام «أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ» أي نمسخهم كما مسخناهم قردة وخنازير ، ويرمي هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إلى التهديد العظيم وإيقاع الوعيد بهم «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» (47) البتة لا يحول دونه حائل ولا يرده راد.
ولما كان حضرة الرسول يعلن ما ينزل إليه من القرآن حال نزوله سمع في هذه الآية عبد اللّه بن(5/562)
ج 5 ، ص : 563
سلام وكان قافلا من الشام فجاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم حال وصوله المدينة قبل أن يأتي أهله وأسلم ، وقال يا رسول اللّه ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس اللّه وجهي إلى قفاي ، لأني سوّفت بالإيمان ، ولذلك بادرت إليك وحسن إسلامه رضي اللّه عنه ، وكان إسلامه على الصورة المبينة في الآية 10 من سورة الأحقاف في ج 2 وأسلم معه جماعة من أتباعه وغيرهم بعد نزول هذه الآية العظيمة ، وكل ما قيل بأنه أسلم قبل نزول هذه الآية لا صحة له كما أوضحناه هناك فراجعه.
واعلم أن صدر هذه الآية لم يكرر في القرآن كله.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» بلا توبة فلا يغفر للمشرك وهو مشرك فإذا تاب غفر لهو يغفر للمذنب وهو مذنب لقوله تعالى «وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» الكبائر وغيرها فإذا مات مرتكبها بلا توبة فأمره إلى اللّه إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.
أما من مات على الشرك فهو مخلد في النار ، روى مسلم عن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ما الموجبتان ؟ قال من مات لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك به دخل النار.
وحمل الآية على التائب باطل لأن الكفر مغفور بالتوبة.
قال تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الآية 38 من الأنفال المارة.
فما دون الكفر لأن يغفر بالتوبة من باب أولى ، وقد سبقت الآية في بيان التفرقة بينهما ، قالوا لما نزل قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية 52 فما بعدها من سورة الزمر ج 2 في المدينة وكان نزل قبلها في المدينة الآيات 68 فما بعدها من سورة الفرقان في ج 1 وبعدهما نزلت هذه الآية المفسرة التي نحن بصددها ، وبعدها آيات سورة الزمر المذكورة ، قال رجل يا رسول اللّه والشرك ؟ فسكت ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا ، فنزل قوله تعالى «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً» (48) وإنما سماه اللّه افتراء لأنه لم يخلقه ولم يكن في علمه أن له شريكا في ملكه ، وكان في علمه أن من خلقه من يفتري هذا ويختلقه بهتانا وزورا قال تعالى (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية 101 من سورة الأنعام ج 2 فصارت نسبة الشريك إليه تعالى بهتا وافتراء عليه ، فأجابه حضرة الرسول أن الشرك لا يغفر لتلك العلّة(5/563)
ج 5 ، ص : 564
قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ» كلمة تعجب «إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ» يا سيد الرسل وهي دنسة بالكفر والإنكار والجحود ، وهذا تعجب من حالهم وعجّب رسوله من أطوارهم ، وهذه نزلت في أناس من اليهود أتوا بأطفالهم إلى حضرة الرسول وقالوا له
هل على هؤلاء من ذنب ؟ قال لا ، قالوا ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا باليل ، وما عملناه بالليل يكفر عنا بالنهار ، أي بسبب ما يقدمونه من العبادة والخيرات بزعمهم ، وهذا هو معنى تزكيتهم أنفسهم ، وقد قالوا بعد هذا (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) كما سيأتي في الآية 17 من المائدة الآتية ، وقالوا قبل «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى » الآية 112 من البقرة فرد اللّه عليهم بقوله «بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» فلا عبرة بتزكية المرء نفسه «وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» (49) من نوابهم بسبب قولهم هذا لأنه ناشيء عن ظنهم ليس إلا والفتيل هو الخيط الذي في بطن النواة ويضرب به المثل بالقلّة والحقارة كالنقير الذي هو بظهرها والقطمير غشاؤها الرقيق الملتف عليها فيا سيد الرسل «انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ» هؤلاء اليهود «عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بعدّ أنفسهم كأطفالهم غير المؤاخذين بما فعلوا لفقد سن التمييز مع إصرارهم على جحودهم القرآن الذي جئتهم به الذي لا أعظم من الكفر به إلا الشرك «وَكَفى بِهِ» بكذبهم هذا «إِثْماً مُبِيناً» (50) ظاهرا لا يحتاج إلى الإثبات ،
ثم ذكر اللّه جل ذكره شيئا من سيئاتهم الاخر وعجب رسوله منها فقال «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ» هو كل ما عبد من دون اللّه من الأوثان إنسانا كان أو حيوانا أو جمادا «وَالطَّاغُوتِ» الشيطان اسم مبالغة الطاغية «وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «هؤُلاءِ» يعنون المشركين أنفسهم «أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» (51) طريقا وهو قول كذب محض ليشطوهم على دينهم ويمنعوهم من الإسلام «أُولئِكَ الَّذِينَ» يقولون هذا القول «لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (52) وهذه قصة أخرى من سيئات اليهود التي عملوها سابقا فيما بينهم يخبر اللّه تعالى رسوله بها وهي أن حيي بن أحطب وكعب بن الأشرف ذهبوا إلى مكة بعد واقعة أحسد في سبعين رجلا(5/564)
ج 5 ، ص : 565
من أصحابهم ليحالفوا قريشا على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم التي أخزاهم اللّه به وشقت شملهم كما مر في الآية 24 فما بعدها من سورة الأحزاب ونقضوا عهدهم معه ، فقالت لهم قريش إنا لا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم ، فإن أردتم أن تسجدوا لهذين الصنمين فنختبر صدقكم فسجدوا ، قالوا اسم الصنمين جبتا وطاغوت ، فذلك قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ) إلخ فتعاهدوا عند البيت على قتاله صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم قال أبو سفيان لكعب كيف أنتم يا أهل الكتاب نحن أميون لا نعلم أن محمدا أهدى أم نحن ؟
قال اعرض عليّ دينك ، فقال نحن ننحر للحجيج الكرماء الناقة كثيرة اللحم مرتفعة السنام ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر البيت ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد من علمت ، فقال أنتم أهدى سبيلا مما عليه محمد ، فأنزل اللّه هذه الآية.
ويفهم من هذا أن هذه الآية نزلت بعد حادثة أحد وقبل الأحزاب فتكون متقدمة في النزول على ما قبلها كآية اليتيم المارة آنفا ، ولا مانع ، لأن الآيات التي نزلت بالحوادث أو بغيرها قد تتقدم على سورها وقد تتأخر كما ذكرناه غير مرة ، وإن كلا منها توضع بمحلها كما هي الآن في المصاحف وفاقا لما هو عند اللّه بأمر من حضرة الرسول وإشارة من جبريل الأمين عليهما الصلاة والسلام ، راجع الآية 44 المارة ومن جملة سيئاتهم أنهم قالوا نحن أحق بالملك والنبوة من العرب القرشيين فكيف نتبعهم ، فأنزل اللّه تنديدا بهم «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ» فيما سبق حتى يدعون الأولوية به «فَإِذاً» أي لو كان لهم حظ فيه «لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» (53) منه راجع الآية 49 المارة آنفا تعلم أن النقير يضرب مثلا لكل تافة «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ» أي محمدا وأصحابه «عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» من النصر والغلبة والتقدم والملك والنبوة والكتاب ، وليس هذا ببدع «فَقَدْ آتَيْنا» قبلهم «آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» مثل داود وسليمان ويوسف «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (54) في الدنيا لم نؤته محمدا ولا غيره راجع وصفه في الآية 9 من سورة سبأ ج 2 والآية 15 فما بعدها من سورة النمل ج 1 والآية 77 من سورة الأنبياء فما بعد في ج 2 وما بعدها فلما ذا لا يحسدونهم وقد جمعوا بين الملك والنبوة والكتاب وخصوا بأشياء لم تكن(5/565)
ج 5 ، ص : 566
لأحد قبلهم ولا تكون لأحد بعدهم ؟ وهؤلاء اليهود «فَمِنْهُمْ» أناس منّ اللّه عليهم بالإيمان المعنيون بقوله تعالى «مَنْ آمَنَ بِهِ» كعبد اللّه بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ» كهؤلاء الموجودين عندك الذين شأنهم الكذب والحسد والنفاق ومن بعدهم ممّن كان على شاكلتهم «وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» (55) لمن لا يؤمن باللّه ورسله وكتبه ، وإن اليهود كما أنهم يطعنون بحضرة الرسول يطعنون أيضا بأصحابه كما مر في الآية 105 وفي كتابه في الآية 108 وفي مستقبل الإسلام في الآية 17 وفي الكعبة واستقبالها في الآية 115 وفي الدعوة الإسلامية في الآية 118 من البقرة المارة.
وهناك لهم سيئات أخرى كثيرة مرت وستمر ، قاتلهم اللّه ما ألعنهم.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا» من جميع الخلق «سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» بالصفة وإلا فهي عين الأولى كما إذا صنعت خاتمك على غير هيئته الأولى فهو هو.
غير أن الصياغة تبدلت فبدلت صفته وذلك لأن الجوارح تعظم فيظن رائيها أنها غيرها فلا يصح القول بأن تكون جلودا غير جلودهم لمنافاته لقوله تعالى «لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» وأن اللّه غير الجلد الذي اكتسب الإثم واستحق العذاب على صفة أخرى لا أنه بدل نفسه بغيره إذ تأبى حكمة اللّه أن يعذب شيئا بجرم غيره لقوله جل قوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ).
وهذه الآية مكررة في القرآن كثيرا.
ومما يدل على هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة يرفعه قال ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع.
وما رواه مسلم عنه قال قال صلّى اللّه عليه وسلم ضرس الكافر أو قال نايه مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام.
وغير مستحيل على اللّه تعالى أن يضاعف أجسادهم ليضاعف عذابهم ، ولا غرو أن الجريح قد يرم جرحه حتى يصير العضو المجروح مثله مرارا بسبب جرح بسيط فكيف بما يصيبهم من كيّ النار الدال عليها قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً» لا يمتنع عليه شيء يكبر ما يشاء ويصغر ما يشاء «حَكِيماً» (56) بما يفعل لا اعتراض عليه «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» من الأقذار الدنيوية مما يعتري نساءها من(5/566)
ج 5 ، ص : 567
حيض ونفاس واستحاضة وغيرها «وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا» (57) دائما صفة موضحة مؤكدة كقولك ليل أليل ويوم أيوم وأحمر قان وأصفر ناصع وأبيض خالص وأسود خالص وأخضر أدهم وشبهها.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» حين طلبها بلا توان «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ» فإنه يأمركم أيها الحكام والمحكمين «أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» قريبا كان المحكوم أو بعيدا مؤمنا أو كافرا عدوا أو صديقا «إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ» فتعم الشيء الذي يأمركم به ربكم ويرشدكم إليه من أداء الأمانة والعدل في الأحكام لأنهما ملاك الدنيا والآخرة «إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» (58) ولم يزل كذلك.
مطلب توصية اللّه الحكام بالعدل ومحافظة الأمانة والأحاديث الواردة فيها وتواصي الاصحاب في ذلك :
وهذا خطاب عام على الإطلاق لكل أحد وخاص بالأمراء والحكام يرمي إلى حثّ ولاة الأمور أن يقوموا برعاية الرعية ويحملهم على إحقاق الحق بمقتضى الشرع وأن لا يولوا المناصب غير أهلها لأنها أمانة بأيديهم ، ولأن تولية الأمور لغير أهلها ظلم وهو من علامات الساعة كما جاء في الحديث الصحيح إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة.
قال سيدنا علي كرم اللّه وجهه على الوالي أن يتعهد أموره ويتفقد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان المحسن ولا إساءة المسيء ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء فإن ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وضاع العمل.
وقال عمر بن الخطاب من ولي أمور العباد ينبغي له أن يتطلع على صغير أمورهم وكبيرها فإنه مسئول عنها ، ومن غفل خسر الدنيا والآخرة.
وعن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى منه فقد خان اللّه ورسوله والمؤمنين.
وعن أبي بكر رضي اللّه عنه وعن أصحاب رسول اللّه أجمعين قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمّر عليهم أحدا محاباة (أي لأجل قرابة أو أمر آخر) فعليه لعنة اللّه لا يقبل اللّه منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم ، ألا فليتق اللّه من وسد الأمر(5/567)
ج 5 ، ص : 568
لغير أهله ، وليراقب مغبة هذه الأحاديث ، ومن وصايا سيدنا عمر إلى معاوية إذا تقدم لك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة وادناء الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه ، وتعاهد الغريب فإنك إن لم تتعاهده سقط حقه ورجع إلى أهله ، وإنما ضبع حقه من لم يرفق به ، وآسي بين الناس في لحظك وطرفك ، وعليك بالصلح ما لم يتبين لك فصل القضاء.
وجاء في الحديث الذي رواه ثوبان لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ، وأخرجه البغوي عن أنس - وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة.
وأخرج عن ميمون بن مهران ثلاث تؤدى إلى البر والفاجر الرحم توصل برة كانت أو فاجرة ، والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر ، والعهد يوفى به للبر والفاجر.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان.
واختلف في سبب نزول هذه الآية في رواية ابن عباس وابن مسعود والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبد اللّه أنها عامة كما جرينا عليه وعليه أكثر المفسرين وعن زيد بن اسلم واختاره الجبائي أنها خاصة بولاة الأمور على الوجه الذي ذكرناه فيهم ، والآية تدل بسياقها على كلا الأمرين ، ولا يمنع عمومها في جميع الأمانات خصوص سببها في الأمراء ، وما رواه البغوي من أنها نزلت في عثمان بن طلحة وهي رواية عن ابن عباس ، وانه أسلم يوم الفتح فيه نظر ، لأن عثمان هذا على ما قاله أبو عمرو بن عبد البر وابن منده وابن الأثير أنه هاجر إلى المدينة بعد هدنة الحديبية سنة ثمان مع خالد بن الوليد ، ولقيهما عمرو بن العاص مقبلا من عند النجاشي فرافقهما وهاجر معهما ، فلما رآهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه رمتكم مكة بأفلاذ كبدها ، يعني أنهم وجوه قومهم من أهلها فأسلموا.
نعم إن عثمان المذكور جاء بالمفتاح يوم الفتح وسلمه لحضرة الرسول وطلب العباس إن يضمه إليه مع السقاية ، قالوا وكان حضرة الرسول قبل الهجرة أراد أن يدخل البيت ، فطلب المفتاح من عثمان هذا فلم يعطه إياه ، ولم يفتح له الباب ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إني رسول اللّه قال له(5/568)
ج 5 ، ص : 569
لو علمت انك رسوله لما منعنك ، فقال له سيأتي يوم إن شاء اللّه أنزعه منك ، فلما كان الفتح وأتى عثمان بالمفتاح وطلبه العباس ظن أنه لا يعيده إليه لما سبق منه فنزل جبريل وأمره برده إليه عن أمر ربه وتلا هذه الآية فرده إليه وقال
خذها يا بني طلحة (يعني سدانة البيت) خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ، ثم إنه أعطاه بعد إلى أخيه شيبة وهي حتى الآن في ذريته فإذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تلا هذه الآية بعد الفتح عند ذلك بمناسبة رد المفتاح إلى السادن القديم فلا يعني أنها نزلت في هذا الشأن ، لأن هذه السورة نزلت قبل الفتح بسنتين ولا يجوز أن يقال إن هذا لعلة من الإخبار بالغيب ، لأن هذه من الأقوال الواقعية لا المخبر بوقوعها وليست من الأقوال حتى تكرر واللّه أعلم.
ومما يؤيد نزول هذه الآية فيما ذكرنا قوله تعالى بسياقها «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» من جنسكم وقومكم أيها المؤمنون فإن هذه فرع عن قوله (وَإِذا حَكَمْتُمْ) الآية ، ويؤكده قوله عز وجل «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ» من أمر دينكم ودنياكم «فَرُدُّوهُ» ارجعوا به في طلب حله «إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ما دام حيا وإلى كتاب اللّه وسنة رسوله بعد وفاته «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فافعلوا ما تؤمرون به «ذلِكَ» الرجوع إلى كتاب اللّه وسنة رسوله «خَيْرٌ» لكم من الاستبداد بالرأي واتباع هوى أنفسكم فيه «وَ» تأويل الرسول له «أَحْسَنُ» من تأويلكم ، لأنه لا ينطق عن الهوى بل يتبع الوحي المنزل عليه فيه من ربه وما يلهمه اللّه مما يلقيه في روعه ، لذلك كان تأويله «تَأْوِيلًا» (59) خيرا من تأويلكم وأحمد عاقبة روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع اللّه ، ومن عصاني فقد عصى اللّه ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني.
وروى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم حدود اللّه.
إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولهذا البحث صلة في الآية 159 من سورة الأنعام في ج 2 ، فراجعها.
والآية عامة في كل أمير وما قاله عكرمة أراد بها أبا بكر وعمر للحديث المروي عن حذيفة.
قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إني لا أدري ما يقال فيكم فاقتدوا بالذين بعدي أبي بكر(5/569)
ج 5 ، ص : 570
وعمر.
أخرجه الترمذي وما قاله ميمون بن مهران أن المراد بهم أمراء السرايا والبعوث أو أنهم عموم الأصحاب لما روي عن عمر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم أخرجه رزين في كتابه ولما روي عن البغوي بسنده عن الحسن عن أنس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح.
وقال الحسن ذهب ملحنا فكيف نصلح ؟ وقال غيره :
يا علماء السوء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
وكذلك ما روى البخاري عن ابن عباس بأنها نزلت في عبد اللّه بن حذافة ابن قيس وما قاله السدي بأنها في خالد بن الوليد حين بعثه الرسول على سرية فيها عمار بن يسر فلما قربوا من القوم هربوا ، وجاء رجل إلى عمار قد أسلم فأمنه عمار ، فرجع الرجل فجاء خالد فأخذ ماله ، فقال إني قد أمنته وقد أسلم قال خالد تجير علي وأنا الأمير ؟ فتنازعا وقدما إلى رسول اللّه ، فأجاز أمان عمّار ونهاه أن يجبر الثانية على أميره.
فهذه الأقوال إن صحت لا تخصص هذه الآية بمن وردت فيهم لأنهم من جملة الأمراء المأمور بإطاعتهم فيدخلون بحكم عمومها دخولا أوليا وغيرهم من بعدهم لذلك ما ذهبنا إليه هو الأولى وقد مشى على هذا الطبري والجبائي وزيد بن اسلم وكثير من المفسرين غيرهم لذلك فإنها مطلقة باقية على إطلاقها.
في مطلب معنى زعم قصة بشر واليهودي والزبير والأنصاري وامتثال أوامر الرسول :
قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» من الكتب وهذا تعجب ثالث يعجب اللّه به رسوله مما جبل عليه اليهود من الطبائع السيئة ، ولفظ زعم يأتي بمعنى الحق والباطل والكذب والصدق بحسب مناسبة المقام ، وأكثر ما يستعمل بالشك ، وجاء في الحديث زعمه جبريل ، وفي حديث خمام بن ثعلبة زعم رسولك ، وقال سيبويه زعم الخليل لشيء يرتضيه ، وفي شرح مسلم أن زعمه في كل هذا بمعنى قال والمراد هنا مجرّد ادعاء ، أي أنهم يدعون إيمانهم بتلك الكتب والحال أنهم لم يؤمنوا بها حقيقة لأنهم «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» فلو كان إيمانهم صحيحا لما طلبوا المحاكمة إلى المنافق المعبر عنه في الطاغوت فكيف يرضونه حكما «وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا(5/570)
ج 5 ، ص : 571
بِهِ»
ولكنهم يريدون الركون إلى الضلال إذ لم تؤثر فيهم الآيات الرامية إلى الهدى «وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» (60) عن الحق مستمرا دائما فوق ضلالهم فلو أمروا بالجنوح عنه لما فعلوا
«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا» تحاكموا «إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ» ليحكم بينكم بكتاب اللّه فهو أعدل وأحق للحق «رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ» يا سيد الرسل «صُدُوداً» (61) وأيّ صدود صدود مع أنفة عما تدعوهم إليه.
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي ننطلق إلى محمد ، وقال المنافق ننطلق إلى كعب بن الأشرف ، وهذا هو الذي سماه اللّه بالطاغوت ، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا عند رسول اللّه ، فلما رأى المنافق ذلك ، أتى معه إلى الرسول ، فقضى عليه ، فلما خرجا قال المنافق انطلق بنا إلى عمر ، فذهب معه ، فقال لعمر اختصمت معه إلى الرسول فقضى لي عليه فلم يرض فقال عمر للمنافق أن كذلك ؟ قال نعم ، فأصلت سيفه وضرب المنافق حتى برد ، وقال هكذا أقضي بمن لم يرض بقضاء اللّه ، فنزلت هذه الآية ، وقال جبريل لمحمد إن عمر فرق بين الحق والباطل ، ومن ذلك اليوم سمي الفاروق ، قال تعالى «فَكَيْفَ» يكون حال هؤلاء المنافقين «إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ» مثل قتل بشر هذا «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» وهو أولا اختيار بتحكيم كعب على تحكيمك وثانيا عدم رضائه بحكمك «ثُمَّ جاؤُكَ» أهل القتيل المذكور «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا» ما أردنا بطلب إعادة المحاكمة عند غيرك «إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً» (62) ليطمئن المحكوم عليه بأن قضاءك هو الحق ولنوفق بينهما عليه لا عدم رضى بحكمك «أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ» من النفاق والكذب «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ» يا أكمل الرسل باللسان وازجرهم عن النفاق والكذب وخوفهم من طلب المحاكمة إلى الطاغوت وعذاب الآخرة المترتب عليه ولا تعاقبهم «وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» يؤثر في قلوبهم مملئه التخويف والتهديد «وَ» اعلم يا سيد الرسل
أنا «ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» فيما يأمر وينهى ويحكم «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا(5/571)
ج 5 ، ص : 572
أَنْفُسَهُمْ»
بطلب المحاكمة إلى الطاغوت «جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ» مما أقدموا عليه «وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ» لأنه يقبل عذر من اعتذر إليه واللّه لا يرد شفاعته «لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً» عليهم «رَحِيماً» (64) بهم ومن هنا والآيتين 38 من المائدة الآتية و57 من الإسراء المارة في ج 1 أخذ جواز التوسل بحضرة الرسول ، راجع تفسير الآيتين المذكورتين.
وتشير إلى أن الاعتراف بالذنب أمام حضرة الرسول واستغفاره له قد يؤدي لعفو اللّه عنه ، وعليه فإن المذنب إذا اعترف أمام العالم الذي هو نائب عن حضرة الرسول وتاب توبة نصوحا ودعى له بقبولها قد يؤدي لذلك واللّه أعلم.
«فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ» حقا ولا يسمون مؤمنين «حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ» رغبة فيك وحبا في سماع كلامك وشوقا بحكمك «ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً» ضيقا وحنقا وعدم رضى «مِمَّا قَضَيْتَ» به عليهم بل يتلقونه بطيب نفس ويعلمون أنه الحق الواجب اتباعه «وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (65) مطلقا وينقادوا له انقيادا رضائيا لا شك ولا تردد فيه ظاهرا وباطنا ولا تخيير فيه أبدا راجع الآية 26 من سورة الأحزاب المارة ، روى البخاري ومسلم عن عروة ابن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحمه (الشراج سيل الماء النازل من الجبل إلى السهل والحمة الأرض الحمراء المتلبسة بالحجارة السوداء) التي يسقون بها النخيل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما إلى رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول اللّه إن كان ابن عمتك (أي قضيت له لهذه القرابة لا بحق رأيته قاتله اللّه) فتلون وجه النبي صلّى اللّه عليه وسلم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، فقال الزبير واللّه إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك ، زاد البخاري فاستوعى رسول اللّه حينئذ للزبير حقه وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير أن يتسامح مع الأنصاري سعة له فلما احتفظ الأنصاري أي استوعى أي استوفى للزبير حقه (وذلك إن من كانت أرضه في فم الوادي فهو أولى بتمام السقي) وروى البغوي أنهما لما خرجا مرا على المقداد فقال لمن قضى ، لمن كان القضاء قال الأنصاري لابن عمته ولوى شدقه(5/572)
ج 5 ، ص : 573
ففطن له يهودي كان مع المقداد فقال قاتل اللّه هؤلاء يشهدون أنه رسول اللّه ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم اللّه لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى يريد سلفهم
فدعا موسى إلى التوبة منه فقال اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين الفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا ، فلما سمعه ثابت بن قيس بن شماس قال أما واللّه إن اللّه يعلم مني الصدق ، ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت.
هذا وإن ما جاء في الحديث وإن كان يدل على حادثة الزبير وخصمه إلا أنه لا يدل على نزول الآية فيها والآية متصلة بما قبلها وتابعة للسبب الأول ، واللّه تعالى أعلم ، لأن الزبير لم يقطع بقوله إنها نزلت في حادثة الأنصاري بل قال احسب بأنها نزلت في ذلك تدبر.
قال تعالى «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ» هؤلاء المنافقين «أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» لتقبل توبتكم كما فرضنا على بني إسرائيل قبل «أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ» كما أمرناهم بالخروج من مصر مع نبيهم «ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» رياء وسمعة لأن المنافقين ظاهرهم غير باطنهم ، وإن ثابتا المشار إليه من القليل ، وقيل لما نزلت هذه الآية ، قال عمر وعمار وابن مسعود من أصحاب رسول اللّه واللّه لو أمرنا لفعلنا والحمد للّه الذي عافانا ، فبلغ هذا رسول اللّه فقال إن من أمّتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي ، وهؤلاء أيضا من القليل ، اللهم اجعلنا منهم واحشرنا معهم.
«وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ» وانقادوا لحكم الرسول «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» في الدارين «وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» (66) لإيمانهم وأقرب للتودد لرسولهم «وَإِذاً» لو فعلوا ذلك اتباعا لأمرنا ونزولا لحكمنا الذي نطق به رسولنا «لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً» (67) على انقيادهم ورضاهم بحكم الرسول «وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (68) لا يزالون متمسكين به حتى يوصلهم الجنة ، كان صلّى اللّه عليه وسلم رأى مولاه ثوبان متغيرا فقال ما غير لونك ؟ وكان شديد الحياء شديد الحب لرسول اللّه قليل الصبر عنه ، فقال يا رسول اللّه ما بي مرض إلا أني أستوحش إذا لم أرك وأخاف أن لا أراك في الآخرة لعلو مقامك ، فأنزل اللّه «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ(5/573)
ج 5 ، ص : 574
رَفِيقاً»
(69) أي ما أحسن رفقة هؤلاء الكرام «ذلِكَ» الثواب المترتب على طاعة اللّه ورسوله هو «الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً» (70) بمن يستحق ذلك الفضل العظيم.
روى البخاري ومسلم عن أنس أن رجلا سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن الساعة ، فقال متى الساعة ؟ قال وما أعددت لها قال لا شيء إلا إني أحب اللّه ورسوله ، فقال أنت مع من أحببت.
قال أنس فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبّي إياهم وإن لم أعمل بعملهم.
ورويا عن أبي هريرة قال قال صلّى اللّه عليه وسلم لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه منه بفضل.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ» من عدوكم فاستصحبوا سلاحكم وكونوا متهيئين.
ولا يقال هنا الحذر لا يغني عن القدر لأنه محتوم كائن لا محالة ، لأن الكل بقضاء اللّه وقدره ، والأمر بالحذر والتقيّد هو من قضاه اللّه وقدره ولا سيما في الحرب ، فإنه يطلب فيه ما لا يطلب في غيره ويجوز فيه ما لا يجوز بغيره «فَانْفِرُوا» أخرجو لعدوكم «ثُباتٍ» سرايا متفرقين واحدة تلو الأخرى «أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً» (71) مع نبيكم أو أميره إلى جهاد عدوكم حال كونكم يقظين مدججين بسلاحكم «وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ» يتثاقلون ويتأخرون عن الرسول أو أميره ، وأراد بهؤلاء المنافقين وإنما قال منكم لاجتماعهم معهم في الجنسية والنسب وإظهار كلمة الإسلام «فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ» من قتل أو هزيمة أو أسر أو سبي «قالَ» رئيسهم ابن سلول وكلهم يقول قوله لأنهم يتبعونه في حركاته وسكناته «قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ» بعدم الخروج «إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً» (72) في الواقعة التي أصيبوا فيها ولو كنت لأصبت بما أصابهم «وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ» من فتح أو غنيمة «لَيَقُولَنَّ» ذلك المنافق واضرابه «كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ» أيها المؤمنون «وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ» ولا معرفة فكأنه ليس من أهل دينكم ولا من جنسكم وتراه يقول بأعلى صوته «يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» (73) مما غنموه في تلك الغزوة فيا سيد الرسل قل لهم «فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» لا الذين يبيعون(5/574)
ج 5 ، ص : 575
الآخرة بالدنيا ويكون قصدهم من الجهاد الغنيمة فقط «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ» ويبقى حيا «فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ» بالحالتين «أَجْراً عَظِيماً» (74) غنيمة وسعادة أو ثوابا وشهادة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى اللّه عليه وسلم تضمن اللّه لمن خرج في سبيل اللّه لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة ، وإذا كان كذلك «وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أيها المؤمنون وقد تكفل اللّه لكم بذلك وتستنقذوا المؤمنين إخوانكم المعذبين في مكة «وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ» وتخلصونهم من أيدي المشركين وبراثن أعداء الدين حيث منعوهم من الهجرة إلى المدينة وحالوا دون التحاقهم بإخوانهم وأهليهم فيها ولا يزالون يعذبونهم بقصد ردهم عن دينهم ولا قوة لهم يمتنعون بها منهم وهم «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ» مكة وهي وطنهم الأصلي لشدة ما يقاسونه فيها من أهلها من العذاب بدلالة قوله تعالى حكاية عنهم «الظَّالِمِ أَهْلُها» أنفسهم بالشرك والتعدي على الغير «وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ» يا إلهنا وسيدنا «وَلِيًّا» ينقذنا من ظلمهم «وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» (75) ينصرنا عليهم ، فيسر اللّه لبعضهم الخروج إلى المدينة ورد صلّى اللّه عليه وسلم أبا جندل على الصورة المارة في الآية 11 من الممتحنة ، ورجعوا إلى المدينة ، وبقي بعضهم إلى الفتح استجابة لدعائهم ، إذ تولى أمرهم خير ولي وجعل ناصرهم خير ناصر ، ومطلب ما فعله أبو نصير وفتح خيبر وتبوك وما وقع فيهما من المعجزات وظهور خير صلح الحديبية الذي لم يرض به الأصحاب.
وجاء أبو نصير عتبة ابن أسد مسلما إلى المدينة وطلبه المشركون بمقتضى المعاهدة المذكورة ، فرده صلّى اللّه عليه وسلم مع الرجلين اللذين جاءا بطلبه ، وقال له قد أعطينا القوم ما علمت من الشروط فيلميمنة والمشأمة والقلب ، وهكذا ترتب الحملات في الغزو والجهاد ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم اللّه أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ، فبرز ملكهم مرعب وبرز إليه عامر ، فاختلفت بينهما ضربتان فأصاب عامر نفسه ، ثم أخذ الراية أبو بكر وقاتل قتالا شديدا ، ثم أخذها عمر وكذلك قاتل أشد من صاحبه ولم يقع أحد من الطرفين ولم يؤخذ بثأر عامر رحمه اللّه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لأعطين الراية غدا رجا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله وينفتح على يديه ، فأعطاها عليا كرم اللّه وجهه وبرز له مرعب المذكور وهو يرتجز.
قد علمت خيبر اني مرعب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب فأجابه علي كرم اللّه وجهه : (5/575)
ج 5 ، ص : 576(5/576)
ج 5 ، ص : 577
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظرة
أو فيكم بالصاع كيل السندره ثم ضرب مرعبا فقتله ، وكان الفتح على يديه.
وهذه من معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم وإخباره بالغيب ، ثم برز أخوه مرحب فخرج إليه الزبير بن العوام فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب أيقتل ابني يا رسول اللّه ؟ قال بل ابنك يقتله إن شاء اللّه وكان كذلك ، وهذه معجزة أخرى أخبر بها صلّى اللّه عليه وسلم أيضا ، ولم يزالوا يفتحون الحصون ويقتلون من يقابلهم حتى فتحوها كلها وأخذوا الأموال واستاقوا السبي الذي من جملته صفية بنت حيي سيد قريظة اصطفاها لنفسه صلّى اللّه عليه وسلم فأعتقها وتزوجها ، وقسم الأموال والسبي لمن حضر الحديبية.
وحديث فتح خيبر هذا رواه سهل بن سعد وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأبو هريرة ، وأخرجه البخاري ومسلم عنهم بزيادة على ما ذكرنا.
أما الحوادث التي وقعت فيها غير المعجزتين المارتين فمنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن أبي أوفى قال أصابتنا مجاعة ليالي خيبر ، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها ، فلما علت بها القدور نادى منادي رسول اللّه أن أكفئوا القدور ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا ، قالوا إنما نهى عنها لأنها لم تخمس ، وقال آخرون نهى عنها البتة.
وروى البخاري عن عائشة قالت لما فتحت خيبر قلت الآن نشبع من التمر.
ورويا عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول اللّه بشاة مسمومة فجيء بها إلى رسول اللّه وقد أخبره السيد جبريل بذلك ، فسألها عن سبب ذلك ، فقالت أردت لأقتلك ، فقال ما كان اللّه ليسلطك على ذلك ، أو قال علي ، قالوا أنقتلها يا رسول اللّه ؟ قال لا ، فما زلت أعرفها في لهوات محمد صلّى اللّه عليه وسلم أي أحاديثه المؤنسة المعجب بها.
قالت عائشة كان صلّى اللّه عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم.
والمرأة هي زينب بنت الحارث زوجة سلام بن مشكم اليهودية.
قالوا لما جيء بها قالت للنبي صلّى اللّه عليه وسلم إن كنت ملكا استرحنا منك ، وإن كنت نبيا فلا يضرك فعفا عنها.
قالوا وكان بشر بن البراء بن معرور أكل لقمة منها فمات في ساعته.
وأخرج أبو داود عن عبد اللّه بن سلمان أن(5/577)
ج 5 ، ص : 578
رجلّا من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي فجعل الناس يبتاعون غنائمهم ، فجاء رجل فقال يا رسول اللّه لقد ربحت اليوم ربحا ما ربحه أحد من أهل هذا الوادي ، قال ويحك وما ربحت ؟ قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ريحت ثلاثمائة أوقية ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ألا أنبئك بخير ربح ؟ قال وما هو يا رسول اللّه ؟ قال ركعتان بعد الصلاة أطلقها صلّى اللّه عليه وسلم فتشمل كل الصلوات المفروضة أي النفل الذي بعدها ، ولو كانت قبل الصلاة كنت أظنها صلاة الصبح لقوله فيها إنها خير من الدنيا وما فيها.
قالوا ثم طلبت اليهود أن يقرهم في أرضهم على نصف التمر وأن يكفوهم العمل ولهم النصف الآخر ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لا بأس ، وقبل منهم وتركهم في بلدهم على ذلك ، وقال لهم نترككم ما شئنا ، فبقوا على هذا حتى أجلاهم عمر رضي اللّه عنه في امارته إلى تيماء وأريحا ولما سمعت أهل فدك بما وقع في خيبر طلبت من الرسول أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم ويخلو له الأموال ففعل بهم وأن يصالحهم على مثل ما فعل بخيبر ، ففعل أي أجاب صلّى اللّه عليه وسلم طلب الفريقين الذي أراد الجلاء والذي أراد البقاء على ما طلب ، فكانت غنائم خيبر للمسلمين الذين حضروا الحديبية وغنائم فدك لرسول اللّه خاصة لأنه لم يجلب عليها بخيل ولا ركاب ، وقد أشار اللّه إلى هذه الحادثة في سورة الفتح الآتية في قوله عز قوله (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 19 ، وقد أسف المنافقون على ما فاتهم من هذه النعمة كما قص اللّه تعالى عنهم في الآيات المتقدمة ، وهذا الخير الثاني الذي وقع بعد صلح الحديبية والثالث هو ما فعله أبو نصير وقومه المشار
إليهم آنفا قال تعالى «الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ابتغاء مرضات اللّه وإعلاء لكلمته ونصرة لدينه ومعونة لإخوانهم المضطهدين في مكة تحت ضغط الكفرة فيها ، فهؤلاء إن قتلوا فهم شهداء وإن بقوا فهم سعداء «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ» الشيطان من الجن والمتشيطنين من الإنس «فَقاتِلُوا» أيها المؤمنون «أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ» ولا تخشوا كيدهم «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» (76) لأنه بغي وغرور لا يئول إلى نتيجة حسنة ويوهن وينمحق بمقابلة القتال في سبيل اللّه نصرة لدينه.
قالوا(5/578)
ج 5 ، ص : 579
كان جماعة من المستضعفين كعبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص ، يقولون يا رسول اللّه ائذن لنا في قتال المشركين لأنهم آذونا ، فقال لهم كفوا عن القتال لأني لم أومر به ، وثابروا على دينكم ، فأنزل اللّه «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ» بعد أن هاجروا من مكة إلى المدينة وأمروا به «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ» أي أهل مكة الذين كانوا يطلبون الإذن بقتالهم «كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً» من اللّه «وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ» الآن هلا «لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» يريدون الموت لأنه مهما طال أجله فهو قريب ، وهذا سؤال منهم عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم ، لا اعتراض على حكم اللّه ، بدليل أنهم لم يوبخوا عليه بل أجيبوا بقوله عز قوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء وزهدهم فيما يطلبون من البقاء بالدنيا وما يؤملون بالقعود عن القتال ، وطلب التأخير إلى الأجل ، ورغبهم فيما يتالون بالقتال من النعم ، لأن ما يريدونه هو «مَتاعُ الدُّنْيا» وهو عند اللّه «قَلِيلٌ» تافه سريع الزوال لا قيمة له «وَالْآخِرَةُ» التي نريدها لهم ذات النعيم الدائم والخير الجزيل والأجر الكبير فهي «خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى » السوء في هذه الدنيا الفانية الزهيدة ، فميلوا إليها لتوفوا ثوابكم كاملا «وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» (77) من أعمالكم الصالحة فيها بل تضاعف لكم.
ولما كان المنافقون لا يزالون يرددون قولهم في قتلى أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا كما مر في الآية 157 من آل عمران ، أنزل اللّه جل شأنه ردا عليهم «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ» لا خلاص لكم منه إذا حل أجلكم وإذا كان الأمر كذلك فالقتل في سبيل اللّه أفضل من الموت على الفراش.
قال علي كرم اللّه وجهه أن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فتحه اللّه لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ، ودرع اللّه الحصينة ، فمن تركه ألبسه اللّه ثوب الذل ، وشمله البلاء وقيل فيه :
إن موتا في ساعة الحرب خير لك من عيش ذلة وخضوع(5/579)
ج 5 ، ص : 580
مت هماما كما حييت هماما وأحي في ذكرك المجد الرفيع
وإذا كان الموت لا بد مدرككم «وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» وحصون محصنة وقلاع عالية مطلية بالشيد وهو الجصّ.
وقال بعض المفسرين أجساد قوية مستدلا بقول القائل :
فمن يك ذا عظم صليب رجابه ليكسر عود الدهر فاللّه كاسره
وهو هنا ليس بشيء ، وقال الحصكفي ملغزا في نعش الميت :
أتعرف شيئا في السماء نظيره إذا سار صاح الناس حيث يسير
فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا وكل أمير يعتليه أسير
يحضّ على التقوى ويكره قربه وتنفر منه النفس وهو نذير
ولم يتزر عن رغبة في زيارة ولكن على رغم المزور يزور
«وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ» من خصب وصحة ورفاه «يَقُولُوا» المنافقون «هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من جدب ومرض وغلاء «يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» يعنون محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا كقول قوم موسى عليه السلام (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) الآية 130 من الأعراف في ج 1 ، وكقول قوم صالح لصالح عليه السلام (اطّيّرنا بك وبمن معك) الآية 47 من سورة النمل وكما قال أهل انطاكية سئل عيسى عليه السلام (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) الآية 19 من سورة يس ج 1 أيضا.
مطلب في قوله تعالى كل من عند اللّه ، وكيفية حال المنافقين مع حضرة الرسول ، وان كلام اللّه لا يضاهيه كلام خلقه محمد فمن سواه صلّى اللّه عليه وسلم :
وذلك أن اليهود والمنافقين لعنوا وأخزوا تشاءموا من حضرة الرسول وهو منبع الخير وأهل الفلاح ، فقالوا منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها ، فرد اللّه عليهم بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الزائغين «كُلٌّ» من الخير والشر «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لأنه خالقهما وموجدهما.
وإنما أضاف السيئة للعبد لأنها من كسبه عن رغبة واختيار فلحقته بذنبه عقوبة له.
ومن الأدب أن لا ينسب السوء إلى اللّه ولو كان في الحقيقة هو منه ، قال - كما حكاه القرآن الكريم - (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ(5/580)
ج 5 ، ص : 581
يَشْفِينِ»
الآية 71 من سورة الشعراء ج 1 فقد أضاف المرض لنفسه تأدبا مع اللّه مع أنه لا يشك أنه من اللّه لأن اللّه يوقعه في العبد عقوبة إسرافه في الأكل والشرب وعدم وقايته من الحر والبرد ، إذ لا سبب للمرض ظاهرا غير هذين ، وما يطرأ عليه من الكسر والجروح ، ونسب الشفاء للّه ، وهكذا يجب على كل عاقل أن ينسب ما يصيبه من شرّ مهما كان لنفسه ، وما يصيبه من خير لربه ، ولهذا يقول اللّه تعالى «فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ» أعميت قلوبكم حتى صاروا «لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» (78) فيعلمون أن موقع الخير والشر في العبد هو اللّه وحده ، ويقولون «ما أَصابَكَ» أيها الإنسان على العموم ويجوز أن يكون المخاطب سيد المخاطبين والمراد به غيره كما مر غير مرة «مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» مكافأة لما قدمت من خير وتقوى ومجاملة «وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» عقابا لما اقترفته من شر وفسق وفظاظة ، وقد جاءت الآية الأولى على الغيبة ، وهذه على الخطاب بطريق التلوين والالتفات وهو من محسنات البديع في الكلام إيذانا بمزيد الاعتناء بفهم المراد من قوله عز وجل ، واهتماما يردّ اعتقاد أهل الباطل وزعمهم الفاسد وإشعارا بان ذلك مبني على كلمة دقيقة حريّة بان يتولى بيانها علام الغيوب ، واعلم أنه لا تعلق للقدرية في هذه الآية إذ ليس المراد من الحسنة حسنة الكسب من الطاعات ، ولا السيئة المكتسبة من المعاصي ، بل المراد كل ما يصيب الإنسان من النعم والنقم ، وهذا ليس من فعل الإنسان لأنه لا يقال في الطاعة والمعصية أصابني ، بل أصبتها ، ويقال في النعم والنقم أصابني بدليل عدم ذكر الثواب والعقاب ، وهي كقوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) الآية 131 من الأعراف ج 1 ، ولهذا قدرنا كلمه يقولون قبل قوله تعالى ما أصابك حتى لا يتناقض مع قوله (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) في الآية المتقدمة ، لأن السيئة وإن كانت من
عمل صاحبها فهي بتقدير اللّه تعالى ، إذ شاء لما تركه يفعلها ، فأصبح الكل من اللّه ، ألا إن الخير برضاه ، والشر بقضاه ، تأمل.
«وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» يا حبيبي لتبشرهم وتنذرهم «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (79) على إرسالك للناس كافة لا للعرب فقط كما تقوله اليهود وغيرهم ممن حذا حذوهم «مَنْ يُطِعِ(5/581)
ج 5 ، ص : 582
الرَّسُولَ»
محمدا أيها الناس «فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى» عن طاعتك «فَما أَرْسَلْناكَ» يا صفوة الخلق «عَلَيْهِمْ» أي منكري رسالتك «حَفِيظاً» (80) تمنعهم من أن يقولوا ما يشاؤن ولا رقيبا على أعمالهم فتحاسبهم عليها ولا مسيطرا فتعاقبهم من أجلها ، لأن هذا كله للّه وحده
«وَيَقُولُونَ» هؤلاء المنافقون أأمرنا يا محمد فشأننا «طاعَةٌ» لك لأننا آمنا بك وصدقناك ، ففضحهم اللّه بقوله اعلاما لرسوله «فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ» إلى شأنهم «بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ» أي تلك الطائفة التي قالت طاعة أو غير الذي عهدته إليهم والتبيّت كل أمر يفعل بالليل أي يرتب فيه ، فيقال هذا أمر دبر بليل ، أو بيت أو قضى به فيه ، أي أنهم قد دبّروا ليلا غير الأمر الذي أعطوكه نهارا.
وقيل إن بيت هنا بمعنى غيّر وبدّل الأمر الذي عهدته إليهم ، وإنما خص طائفة من المنافقين إعلاما بأن منهم من يرجع عن نفاقه ويتوب إلى اللّه «وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» ويخبرك به يا سيد الرسل لنذكرهم به كي ينتهوا عن مثله «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» الآن ، ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم ، ولا تغتر بإسلامهم أبدا ، ولا تعتمد على أحد منهم «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (81) عليهم يخبرك بأسرارهم.
قال تعالى تعجيبا لنا من أمرهم بعد أن عجب رسوله المرة الخامسة «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» فيقهمون معانيه ويتفكرون في مغازيه ، فيفقهون المراد منه ، ويعون ما يرمي إليهم ، وفي هذا ردّ على الروافض القائلين إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير من الرسول والإمام المعصوم لأنه لو كان كذلك لما وبخ اللّه هؤلاء على عدم فهمهم ما يشير إليه ، ولأحالهم على رسوله وأولي العلم ونظير هذه الآية الآية 25 من سورة محمد الآتية.
واعلم أن هذا التدبر الوارد في صدر هذه الآية بكون من ثلاثة أوجه : الأول في فصاحته التي عجز عنها الخلائق أجمع بأن يأنوا بمثلها ، الثاني إخباره عن الغيوب الصادرة من المنافقين وغيرهم إذ أطلع اللّه نبيه عليها وفضحهم فيما يخفون فضلا عن اخباره عن الأولين والآخرين مما لا يعلمه إلا اللّه ، الثالث سلامته من الاختلاف والتناقض وهو المراد من قوله جل قوله «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ» من جن أو أنس أو ملك(5/582)
ج 5 ، ص : 583
أو كلهم بالاشتراك «لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82) وتفاوتا جزيلا وتناقضا عظيما من حيث الشرك والتوحيد والتحليل والتحريم والبيان والفصاحة والبلاغة لعظمه وتكرر آياته ولكنه من عند اللّه ، لذلك لا يرى فيه شيئا من ذلك البتة فضلا عن أنه بالعا الغاية من حيث المبنى والمعنى ، ولهذا احتج فيه على صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم والإخبار بالغيوب لسلامته من الاختلاف والتناقض ، وإن كلام الغير مهما كان فلم يكن على وتيرة واحدة بالفصاحة والبلاغة وتصديق بعضه لبعض ، لأن منه ما هو فائق حد الاعجاز باللفظ ، ومنه ما هو قاصر عنه ، ومن حيث المعاني فبعضه إخبار يوافق المخبر عنه ، وبعضه إخبار مخالف للمخبر عنه ، وقسم منه دال على معنى صحيح عند علماء المعاني ، وقسم منه دال على معنى فاسد غير ملتئم.
أما ما قاله بعض الملحدين من وجود الاختلاف في القرآن العظيم محتجا في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية 24 من سورة القيمة في ج 1 ، وقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) الآية 104 من سورة الأنعام ج 2 وقوله تعالى (ثُعْبانٌ) في الآية 107 من سورة الأعراف مع قوله (جَانٌّ) في الآية 11 من سورة النحل ج 1 وفي قوله (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) في الآية 93 من سورة الحجر ج 2 مع قوله (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» في الآية 40 من سورة الرحمن الآتية.
فما هو لفظا ومعنى يراه الجاهل مخالفا وهو في الأصل واحد كما بينا ذلك كلا في محله ، فليرجع إليه في تفسير تلك الآيات ليعلم أن الاختلاف من مفترياته والتناقض من عاداته ، والتباين من فهمه السقيم ، وما قوله إلا بهت محض ناشيء عن خلل في عقله ، وعمه في بصيرته ، راجع الآية 7 من آل عمران المارة.
هذا ومن هذا القبيل الذي تقوّل به المنقولون الذين أذهب اللّه مفكّرتهم وطمس على قلوبهم ما قاله الكفرة قديما ومن حذا حذوهم بعد إن هذا القرآن من كلام محمد صلّى اللّه عليه وسلم! ومن أين لمحمد أن يأتي بمثله وقد تحدى اللّه الخلق أجمع على الإتيان بسورة من مثله ؟ لأن ظاهر كلامه وباطنه لا يضاهي قول البشر من كل وجه ، ولا كلام محمد على ما هو عليه من الفصاحة والبلاغة يشبه كلام ربه.
قال تعالى «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ» من خبر السرايا المبعوثة من قبل(5/583)
ج 5 ، ص : 584
حضرة الرسول كفتح وغنيمة وسلامة كتموه ، لأنه لم يرق لهم التحدث به لما في قلوبهم من الغلّ والحقد والحسد «أَوِ الْخَوْفِ» من خبر خذلان السرايا وقتلهم أو هزيمتهم «أَذاعُوا بِهِ» أفشوه علنا حالا وأشاعوه بين الناس بقصد المفسدة وتثبط الناس وتفنيد ما يدبره القائد الأعظم لأمور جيشه.
وظاهر الآية أنهم يذيعون الخير والشر ، وعليه يكون المعنى أنهم يقصدون بإذاعة الخير كالنصر والغنيمة تهيج الناس ضد أصحاب الرسول بما يتقولونه من أنهم فعلوا بأقاربكم وجماعاتكم من القتل والسبي والجلاء ما فعلوا ليفزعوا لهم على أصحاب رسول اللّه وإن كان شرا من هزيمة أو قتل فإنهم يقصدون بإذاعته إلقاء الرعب والأراجيف في قلوب أقارب الغزاة وتعلقاتهم ليوقعوا اللوم على حضرة الرسول بإرسالهم ، فعابهم اللّه قاتلهم اللّه على ذلك وكلهم عيب «وَلَوْ رَدُّوهُ» أي الخبر المتعلق بالسرايا على علاته «إِلَى الرَّسُولِ» الذي هو وحده له الحق بكتمانه وإذاعته «وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ» من كبراء الأصحاب البصراء بالأمور الخبراء بعواقبها «لَعَلِمَهُ» أي علم التدبير فيما أخبروا به «الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» يستخرجون بذكائهم وحدة فطنتهم وتجاربهم وخبرتهم بأمور الحرب ومكايدها ما يجب أن يدبروه ، لأن الأعداء بالمرصاد لهكذا أخبار فيتدار كون ما أخبروا به ، وكان عليهم إذا سئوا أو أخبروا بما يتعلق في هذا الشأن ألّا يجيبوا عنه سلبا ولا إيجابا ، بل عليهم بأن يفوضوا أمر الجواب إلى الرسول ووزرائه ، ويجعلوا أنفسهم كأن لم يسمعوا بشيء ، إذ قد لا يوافق إفشاء خبر الإنتصار أحيانا لما يخاف من نجدة الأعداء والتطويق ، كما لا يوافق بيان خبر الخذلان بتاتا لما فيه من كسر القوة المعنوية.
ويجب دائما التقيد بالأمرين واستعمال المعاريض في الكلام والثوري وإعطاء الجواب على خلاف السؤال من حيث المعنى ، وغير ذلك مما يعرفه المحنكون للأمور الخائضون غمارها ، لأن الحرب لها أبواب وعلوم غير العلوم الأخرى ، والسّبط هو الماء الذي يخرج من البئر أول حفره واستنباطه استخراجه ، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل جودة ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل عليه.
وفي هذه الآية دليل على جواز القياس لأن من العلم ما يدرك بالنصّ وهو الكتاب والسنة ، ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس(5/584)
ج 5 ، ص : 585
وعلى الأول يكون في الآية الحذف من الأول بدلالة الثاني أي وجود المحذوف فيه وهو كلمة (أَذاعُوا بِهِ) وهذا الخوف من محسنات البديع في الكلام ، وقد يكون على العكس كما في الآية 30 من آل عمران المارة ، وشاهد الأول قوله :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وقوله :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريا ومن أجل الهوى رماني
وشاهد الآخر قوله :
ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإنّي وقيار بها لغريب
«وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» ببعثه هذا الرسول إليكم وإنزال هذا القرآن عليكم بواسطته ولطفه بكم ، وتوفيقه وهدايته لكم أيها الناس «لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا» (83) ممن أوتي عقلا سليما وتؤدة كاملة.
مطلب أمر حضرة الرسول بالقتال والآية المبشرة إلى واقعة أحد وبدر الصغرى والشفاعة والرجاء ومشروعية السلام ورده :
قال تعالى «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يا رسولي «لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ» واللّه ناصرك ومؤيدك ولو كنت وحدك «وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ» على القتال معك جهادا في سبيلي ، ولا تقسرهم وتعنفهم عليه فمن شاء فليقاتل معك من تلقاء نفسه ، ومن شاء فليتخلّف حتى يكون رائدهم عن طيب قلب وخلوص نية ورغبة في نصرة دين اللّه وإعلاء كلمته وخذلان أعدائه.
وهذه الآية تشير إلى ما ذكرناه في الآية 173 من آل عمران المارة من أن أبا سفيان عند انصرافه من وقعة أحد واعد النبي صلّى اللّه عليه وسلم موسم بدر الصغرى كما أوضحناه هناك.
وسبب كراهة بعض أصحاب الرسول الخروج معه إلى بدر الصغرى هو ما ألقاه في قلوبهم رسول أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي من الأراجيف التي ذكرناها هناك ، ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلم والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي.
فتبعه الشجاع وتخلف الجبان وعادوا رابحين دون أن يقع قتال لتخلف أبي سفيان وقومه عن الميعاد ، وقد أشار اللّه لهذه الحادثة في هذه الآية الكريمة بقوله جل قوله «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ(5/585)
ج 5 ، ص : 586
بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا»
بأن يدفع بطشهم وشدتهم ، وقد فعل حيث ألقى في قلوبهم الرعب ، ورجعوا من الطريق «وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً» منهم وأعظم صولة وأكبر جولة «وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا» (84) عذابا وعقوبة من غيره.
قال تعالى «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها» حظ وافر له منها في الدنيا من ثناء الناس عليه وضرب المثل به ، وفي الآخرة الثواب العظيم والأمر الجسيم عند اللّه «وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها» نصيب مضاعف وهو مذمة الناس عليها في الدنيا ، وضرب المثل بسوء فعله ، وفي الآخرة عقاب اللّه وعذابه.
وهذه الآية لها ارتباط بما قبلها بان يكون صدرها عائد لحضرة الرسول من أجل تحريض قومه على الجهاد ، لأن له فيه حظا وافرا لما فيه من سعادة قومه ورضاء اللّه وعجزها لرسول أبي سفيان لما في كلماته التي فاه بها بين أصحاب الرسول المبينة في الآية المذكورة من آل عمران من الوزر العظيم له عند اللّه والغضب من حضرة الرسول وأصحابه في الدنيا.
وهي عامة المعنى لتصدرها بمن الدالة على العموم «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً» (85) مقتدرا من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه ، قال الشاعر :
وذي ضغن كففت الشر عنه وكنت على إساءته مقيتا
أي مقتدرا.
وإن اللّه القادر على كل شيء المكافي على كل شيء سيجازي شفيع الخير خيرا وأجرا وشفيع الشر وزرا وشرا.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جالسا فجاء رجل ليسأل فأقبل علينا بوجهه وقال اشفعوا تؤجروا ويقضي اللّه على لسان رسوله ما شاء.
ومن هنا شرع الرجاء بالحق وفيما كل ما لا يوجب ضرر الغير ، وإن الرجل يحاسب على جاهه كما يحاسب على ماله ، وكما أن البخل بالمال مذموم فالبخل بالجاه مذموم بل البخل بالجاه ادعى للمذمتة من البخل بالمال ، قال في هذا القائل :
لعمرك ان البخل بالمال شنعة وبخلك بين الناس بالجاه أشنع
فأحسن إذا أوتيت جاها فإنه سحابة صيف عن قليل تقشع
وكن شافعا ما كنت في الدهر قادرا فخير زمان المرء ما فيه يشفع(5/586)
ج 5 ، ص : 587
ولا شك أن الشفاعة تكون بالأمور المعقدة ولمن لا يؤبه بهم أكثر من غيرهم أجرا عند اللّه تعالى.
وعلى كل فعلى العاقل أن يستعين بعد اللّه تعالى على قضاء حاجته بخيار الناس لأنهم يقدرونها قدرها وللّه در القائل :
للّه درّ النائبات فإنها صدأ اللئام وصيقل الأحرار
وقد قال صلّى اللّه عليه وسلم أبلغوا حاجة من لا يستطيع ابلاغها ، فمن أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت اللّه قدميه على الصراط يوم القيامة ، والمراد بالسلطان كل من يقدر على قضاء الحاجة من موظفي الدولة مهما كانت رتبته ولا سيما إذا كان المحتاج من أهل العلم فيجب إكرامه بقضاء حاجته أكثر من غيره لئلا تجهل الرعية حقه ، وإذا أكرم العالم صفا ذهنه فزاد النفع به.
وعلى من وجد مظلوما أن يأخذ بيده ويقضي حاجته ما استطاع عسى اللّه أن يقضي حوائجه في الآخرة على أن يكون الاعتماد بقضاء الحاجة على اللّه مهما كان الوسيط كبيرا ، قال :
واشدد يديك بحبل اللّه معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان
من يتق اللّه يحمد في عواقبه ويكفه شرّ من عزّوا ومن هانوا
من استعان بغير اللّه في طلب فإن ناصره عجز وخذلان
قال تعالى : «وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا» أيها الناس من حياكم «بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» بنفسها بلا زيادة ولا يكون لكم فضل عليه لأنها بمقابلة تحيته والفضل للبادئ لأنه لو لم يبدأكم بالتحية فليس عليه غير العتاب ، أما الذي لا يردها بتاتا فإنه يأثم لأن البدء بالتحية سنة والرد واجب.
ومن يردّ بأقل مما بدىء به يأثم أيضا لمخالفته نص الآية ، تدبر واعمل بما يرضي اللّه.
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً» (86) فلأن يحاسب العبد على هذا من باب أولى.
واعلم أن التحية ما يحيي بها الرجل صاحبه وقد بدل الإسلام ألفاظ تحايا الجاهلية كحياك اللّه وبياك وأنعم صباحا ومساء ، وأطال اللّه بقاك ، بالسلام الذي هو تحية الإسلام وأهل الجنة كما المعنا إليه في الآية 199 من آل عمران المارة لأن طول الحياة بلا سلام من الآفات مذمومة وإنعام الصباح والمساء بلا أمان منغصة ، فلرب حياة الموت خير منها وفيه قال : (5/587)
ج 5 ، ص : 588
ألا موت يباع فأشتريه فهذا العيش مما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حر تصدق بالممات على أخيه
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لما خلق اللّه آدم قال اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذرّيتك فقال السلام عليكم.
فقالوا عليك السلام ورحمة اللّه فزادوه ورحمة اللّه ، وإنما بدلت تحايا الجاهلية المعتادة عندهم بالسلام لأن معناه السلامة والأمان فهو أتم وأحسن وأكمل من ذلك كله ، فإذا قال لك أخوك السلام عليك ورحمة اللّه فزد أنت وبركاته ليكون ردك أحسن من سلامه ، وإذا حياك بالصيغة كلها فردها بمثلها روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي الإسلام خير ؟ قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى اللّه عليه وسلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم.
وأخرج ابن ماجه عن أبي أمامة قال أمرنا نبينا صلّى اللّه عليه وسلم أن نفشي السلام.
وأخرج الترمذي عن عبد اللّه بن سلام قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.
هذا ويستحب أن يقول السلام عليكم سواء كان المسلم عليه واحدا أو جماعة ، وأن يزيد المجيب فيقول وعليكم السلام ورحمة اللّه ، ويرفع كل منهما صوته بحيث يسمع صاحبه ، ولا يزيد على وبركاته شيئا ، لأن كمال صيغة السلام تنتهي بها ، وأن لا يؤخر الردّ ، بل يجيبه فورا.
وسنة السلام وواجبه على الكفاية إذا قام بها واحد سقط عن الآخرين وإلّا عوتبوا جميعا وأثموا.
وكذلك تشميت العاطس سنة كفاية إذا سمع قوله الحمد للّه وإلا فليس على السّامع تشميته.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال يسلّم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير وفي رواية والصغير على الكبير ، والمار على القاعد.
وهذه آداب السلام ، ومنها ما روي عن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أولى الناس للّه عز وجل من بدأهم بالسّلام - أخرجه أبو داود - وما رواه أنس أنه مر على صبيان(5/588)
ج 5 ، ص : 589
فسلم عليهم ، قال وكان صلّى اللّه عليه وسلم يفعله - أخرجاه في الصحيحين - ويجوز السلام على النساء إذا لم يخش المسلم فتنة أو تهمة ، لما روي عن أسماء بنت يزيد قالت مرّ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في نسوة فسلم علينا - أخرجه أبو داود - والمرأة الشابة الأجنبية لها أن لا ترد السلام على من سلّم عليها لأنه لا يستحق الردّ لما ذكرنا من خشية الفتنة أو التهمة ، هذا إذا كانت وحدها أما إذا كانت في جماعة من النساء فلا بأس بالرد كما لابأس بالسلام لنفي الريبة والشك ، أما العجوز ففي الحالتين تردّ السلام ، والنساء يسلمن بعضهن على بعض فرادى وجماعات على الترتيب الجاري بين الرجال ، ولا يسلّم على قارئ ونائم ومتوضئ وخطيب ومن يسمع الخطبة ومن يصغي لتلاوة القرآن ومن يطالع الفقه أو يدرسه والقاضي إذا كان على كرسيّه والمصلي والمؤذن ومقيم الصلاة احتراما لما يفعلون لأنه يؤدي إلى قطع ما هم فيه ، ولذلك إذا لم يردّوا السلام فلا اثم عليهم ، ولا يسلم على لاعب النرد والشطرنج وسائر الملاهي الممنوعة شرعا وكل متلبّس بمعصية أو قائم بشيء مكروه كالمغني والراقصة وملاعب الحمام ومن يدقّ بالعود والربابة وشبهها ، ولا يسلم على كاشف عورته لأن السلام عليه يقتضي النظر إليه وهو حرام فضلا عن أنه فاسق والفساق على اختلافهم لا يسلم عليهم إذا علم فسقهم إهانة لهم ، ولا يسلم على من يأكل ويشرب لئلا يسبب له الغصة ، ولا على جالس لحاجته ، ومن هو في الحمام ومن هو مشهور بالبدع والظلم ، وإن لم يطلع عليهم هو انا بهم ، ويسلم على النصارى واليهود ويرد عليهم إذا سلموا عليه ، روي عن أسامة بن زيد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مرّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم ، ولما جاء في الحديث الصحيح لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وأن لنا بعضنا على بعض السلام ، ولهم كذلك ويبدأ الأعمى بالسلام مطلقا لأنه
معذور ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم ترك السلام على الأعمى خيانة ، أي في حقه الإسلامي.
قال تعالى «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» (87) هذا استفهام بمعنى النفي ، أي لا أحد أصدق من اللّه ، وقد أقسم جل قسمه في هذه الآية لمنكري البعث أنه جامعهم في ذلك اليوم الذي يجحدونه ، ألا فليحذروا من(5/589)
ج 5 ، ص : 590
الإصرار على إنكاره وليبادروا للتوبة والاستغفار قبل حلوله ، قال تعالى «فَما لَكُمْ» أيها الناس المؤمنون اختلفتم «فِي الْمُنافِقِينَ» وتفرقت كلمتكم في كفرهم بعد أن أعلنوا نفاقهم حتى صرتم من أجلهم «فِئَتَيْنِ» نزلت هذه الآية في أناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ، ثم ندموا على إسلامهم فخرجوا من المدينة كهيئة المتنزهين ، فلما بعدوا عنها كتبوا إلى رسول اللّه إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ، ولكنا اجترينا المدينة أي كرهناها واشتقنا إلى أرضنا ، ثم أنهم خرجوا في تجارة إلى الشام
فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم نخرج إليهم ونقتلهم ، وقال بعضهم كيف نقتلهم وقد أسلموا وكان رسول اللّه ساكنا يسمع كلامهم ولا ينهي أحدا منهم ، فبين اللّه لهم حالتهم ، أي لم صرتم فريقين في القول بكفرهم «وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ» ردّهم إلى حكم الكفار لاختيارهم دار الكفر على دار الإيمان وصحة الكفرة وتكثير سوادهم على صحبة الرسول وأصحابه ، ولذلك غصّهم بالكفر وهذا هو معنى الإركاس «بِما كَسَبُوا» بسبب إظهارهم الارتداد بين قومهم سرا وعلنا واتصافهم بالإسلام ظاهرا مع إبطان الكفر ، لأن من يبطن الكفر ويظهر الإسلام أشد ضررا على المسلمين من معاني الكفر ، لأنه كفر وغش وخداع وإنما أولنا اركس بمعنى ردّ بناء على ما رواه الضحاك عن ابن عباس ، واستدل عليه بقول أمية بن الصلت :
فاركسوا في جحيم النار انهموا كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
وأخرج ابن جرير عن السّدي انها بمعنى أضل ، واستدل عليها بقول الراجز :
واركستني عن طريق الهدى وصيّرتني مثلا للعدى
وقيل بمعنى نكس والموافق لمعنى الآية والبيت الأول انها بمعنى أغطس.
قال تعالى «أَ تُرِيدُونَ» أيها المؤمنون القائلون بإيمانهم «أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» قال لا تقدرون على هدايته أبدا «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» (88) لهدايته البتة ، وهذه الآية مكررة كثيرا في القرآن في المكي والمدني معنى ولفظا ثم زادهم اللّه بيانا بحالهم فقال «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» مثلهم في الكفر.
ثم حذرهم منهم بقوله «فَلا تَتَّخِذُوا(5/590)
ج 5 ، ص : 591
مِنْهُمْ أَوْلِياءَ»
فتميلوا إليهم وتدافعوا عنهم «حَتَّى يُهاجِرُوا» من دار الكفرة مرة ثانية هجرة صحيحة «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ولأجله خاصّة لا لغرض أو عوض ويؤمنوا إيمانا حقيقيا «فَإِنْ تَوَلَّوْا» على ما هم عليه واستمروا على اعراضهم فلم يهاجروا ثانيا حال كونهم نادمين على ما وقع منهم مستغفرين من فعلهم ذلك تائبين توبة نصوحا.
مطلب من يقتل ومن لا يقتل ومن يلزمة الكفارة للقتل ومن لا وما هو يلزم القاتل وأنواع القتل :
وإلا فإن بقوا مصرين على بقاء إيثار دار الكفر ولم يهاجروا ويجددوا إيمانهم «فَخُذُوهُمْ» إذا ظفرتم بهم قبل إعلان إيمانهم عن صدق «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» في الحل أو الحرم أو الأشهر الحرم «وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (89) على أعدائكم وإن بذلوا لكم ولايتهم ونصرتهم فلا تصدقوهم فهم أعداء لا يعتمد عليهم.
ثم استثنى طائفين من القتل بين الأولى بقوله «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ» وينتهون «إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» بأن عاهدوكم عليهم ولم يحاربوكم بعد هذا العهد وهم بنو أسلم لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حينما خرج من مكة وادع هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إليه من قومه أو غيرهم ولجأ إليه فلهم الجوار مثل ما لهلال.
وما قيل انهم بنو بكر أو خزيمة فالمعنى واحد ، لأن الآية عامة ومن كان داخلا في العهد ، وهؤلاء من أولئك ، فإذا لحق هؤلاء بهم وصاروا معهم فقد عصموا دماءهم تبعا لمن لجأوا إليهم ، وهذه غاية في المحافظة على العهد ونهاية في احترام المعاهدين.
والطائفة الثانية هي المذكورة في قوله تعالى «أَوْ» الذين «جاؤُكُمْ» على كفرهم لاجئين لبلدكم «حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» وضاقت مذاهبهم كافين عن «أَنْ يُقاتِلُوكُمْ» مع قومهم «أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» معكم فهؤلاء لا سبيل لكم على قتالهم لأنهم دخلاء «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ» ولكنه القى في قلوبهم الرعب وضيق صدورهم وبلادهم عليهم حتى لجأوا إليكم وهذا من جملة أفضاله عليكم ونصرته لكم(5/591)
ج 5 ، ص : 592
«فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ» ولم يتعرضوا لكم ولم يعاونوا قومهم بالفعل ولا بالقوة ولم يكونوا عونا لهم عليكم «وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ» فاستسلموا لكم بكليتهم ولم تشكوا بهم «فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» (90) إلى القتال ، لأن حكمهم حكم المعاهدين ، وعلى هذا فالآية محكمة لا سبيل للقول بنسخها.
ومن قال إنها نزلت في المتخلفين عن واقعة أحد فلا يتجه قوله لأن قوله تعالى حتى يهاجروا ينافي ذلك ومن قال إنها نزلت في عبد اللّه بن أبي بن سلول في حديث الإفك فلا يصح أيضا لأن حادثة الإفك لم تقع بعد ، ولم تنزل عنها سورة النور المشار إليها ، لذلك فإن ما ذهبنا إليه أولى بالسياق وأنسب للسياق ، وتأمّل
قال تعالى «سَتَجِدُونَ آخَرِينَ» من هذا القبيل قالوا لهم جماعة من أسد وغطفان وعبد الدار كانوا أتوا المدينة وأسلموا رياء ، وعاهدوا المسلمين ليأمنوا على أنفسهم حتى إذا رجعوا إلى قومهم عادوا لكفرهم ونكثوا عهدهم وكانوا يظهرون بين قومهم كلمة الكفر ويسرونها بين المؤمنين ، فنضحهم اللّه بقوله «يُرِيدُونَ» هؤلاء الخبثاء «أَنْ يَأْمَنُوكُمْ» أيها المؤمنون بإيمانهم الكاذب كي لا تتعرضوا لهم «وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ» بإعلان الكفر ليفهموهم أنهم باقين على كفرهم مثلهم ، فيخدع الفريقان على السواء ، وصاروا يؤمنون قومهم بأنهم معهم ، وان اتصالهم بالمؤمنين خداعا ، ويقولون المؤمنين كذلك بأنهم معهم ومواصلتهم للكافرين خداعا «كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ» بدعوة قومهم لقتال المسلمين «أُرْكِسُوا فِيها» رجعوا إليها وكانوا أشد عداوة للمسلمين من غيرهم فعليكم أن تخطروهم بعدهم البقاء بين أظهركم وتأمروهم بالخروج من بلدكم لئلا يكون ما توقعونه بهم غدرا «فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ» بعد إنذارهم ولم يسيروا إلى بلدهم «وَ» لم «يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ» بان يطلبوا منكم الصلح ولم ينقادوا لما نكلفونهم «وَ» لم «يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ» عن قتالكم بمظاهرة قومهم وبأنفسهم «فَخُذُوهُمْ» أسرى «وَاقْتُلُوهُمْ» إن لم يستسلموا إليكم «حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» وأدركتموهم وظفرتم بهم وتمكنتم من قتلهم إذا هربوا قبل الاستسلام «وَأُولئِكُمْ» المخادعون المنافقون «جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً» بسبب انكشاف حالهم(5/592)
ج 5 ، ص : 593
وظهور طويتهم بالإصرار على العداء.
قال تعالى «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً» من غير قصاص البتة ، إذ لا يصح ولا يجوز له ذلك بوجه من الوجوه أبدا «إِلَّا خَطَأً» بأن ضرب حيوانا أو حربيا فأصاب إنسانا غير مقصود ، وهذا الاستثناء منقطع ، أي لكن إذا وقع القتل خطأ على هذه الصورة فيلتزم القاتل بما قال تعالى «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً» محضا غير مقصود ، كأن انطلقت من يده عفوا أو ضرب حيوانا فأصابه من غير أن يعلم أن هناك إنسانا «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» عليه كفارة لفعله عند اللّه «وَدِيَةٌ» لازمة عليه أيضا «مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» الأقربين الأحق بإرثه «إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» أي ورثة القتيل على القاتل بأن يعفوا عنهم ويتركوا الدية فلا يطلبوها منه ، وهذا إذا كان المقتول مؤمنا وأهله مؤمنين «فَإِنْ كانَ» المقتول «مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ» كافرين «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» لا ورثة له «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» على القاتل فقط ولا تلزمه الدية إذ لا توارث بين المؤمن والكافر ، ولم يتعلق بقتله إلا حق اللّه تعالى ، فعليه حقان حق اللّه وحق الورثة المؤمنين الذين يجب تطييب خاطرهم بإعطاء الدية «وَإِنْ كانَ» المقتول كافرا ولكنه «مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» أي معاهدة «فَدِيَةٌ» مخففة تلزم بها أنت أيها القاتل وعائلتك تؤديها مقسّطة على ثلاث سنين وتكون خلالها «مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» الأدنين المستحقين لميراثه «وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» كفارة عليه تجاه حق اللّه والدية حرمة للعهد الذي بينكم ، لأن المعاهدين لهم ما لنا وعليهم ما علينا ما داموا مؤمنين بالعهد قائمين بالشروط التي التزموها وإلا فلا ، هذا ولما كانت أحكام اللّه تعالى بينة بعدم الحرج فقد خفضه بقوله «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» رقبة يعتقها أو لم يقدر على شرائها «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ» كفارة من عتق الرقبة ويكون هذا الصيام «تَوْبَةً» له مقبولة «مِنَ اللَّهِ» عما وقع منه ، لأن توبة اللّه عليه متوقفة على عتق الرقبة ، وعند الاعياء عنها يقوم الصيام مقامها ، فإن لم يفعل أحد هذين لا تقبل توبته «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بما يشرعه لعباده فيما يكون من صالحهم «حَكِيماً» (92) بأفعاله كلها.
واعلم أن حكم هذه الآية عام في كل ت (38)(5/593)
ج 5 ، ص : 594
ما يقع من القتل على الصورة المذكورة.
وسبب نزولها هو أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي كان أسلم في مكة سرا وهرب إلى المدينة ، فقالت أمه لا بنيها أخويه لأمه ، الحارث وأبي جهل : واللّه لا يظلّني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتياني به ، فذهبا إليه وذكرا له ذلك ، وجزع أمه عليه ، وعاهداه على أن لا يكرهوه على شيء من الكفر والردة عن الإسلام ، وبعد أن توثق من حلفهما له ذهب معهما أداء لحق أمه ، فلما أوصلاه مكة أوثقاه ثم جلده كل واحد مائة جلدة ، فحلف لئن تمكن من الحارث ليقتلنه ، فقالت أمه لا أحلّ وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ، وتركته بالشمس ، إلى أن أعطاها ما أرادت ، ثم أسلم وهاجر ، فلقي الحارث وحده فقتله ، فقال له الناس ويحك إنه أسلم لأن ذلك كان بعد قتل أبي جهل ، فذهب إلى الرسول وأخبره
، فأنزل اللّه هذه الآية.
وقيل نزلت في الرجل الذي قتله أبو الدرداء بعد أن نطق بالشهادتين.
وهذا الحكم في القتل خطأ.
أما في شبه العمد وهو أن يضرب إنسانا بما لا يقتل عادة فيموت أو يدفعه بما لا يظن فيه الموت فيموت كوكز موسى عليه السلام القبطي ، راجع الآية 15 من سورة القصص في ج 1 ، فيلزمه الدية مغلظة تستوفى من عائلته خلال ثلاث سنين أيضا ، وتلزم الكفارة وهي عتق رقبة ، أو عند العجز صيام شهرين كما مرّ.
أما في قتل العمد فلا دية ولا كفارة ، إذ لا يطهر القاتل المتعمد إلا القصاص ، لأن قتل العمد شبه الاستحلال لا يطهر القاتل منه إلا بتسليم نفسه للقتل إظهارا للتوبة النصوح الصادقة أو العفو من قبل ورثة القتيل أو بعضهم ، لأن القتل لا يتجزأ ، وترجح جهة العفو على غيره ، فإذا عفا عنه بعض الورثة سقط القصاص عنه وتلزمه الدية المغلظة أيضا لورثته وهي مئة من الإبل أو قيمتها ألف دينار ذهبا ، أو اثنا عشر الف درهم فضة ، أو مئتا بقرة ، والفا شاة ، وكيفية تغليظها أن تكون ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة ، في بطونها أولادها.
وتخفيفها أن تكون عشرين بنت مخاض ، ومثلها بنات لبون ، ومثلها حقاق ، ومثلها جذاع ، ومثلها أبناء لبون.
ودية المرأة على النصف في كل ذلك.
هذا هو الحكم الشرعي الخطأ وشبه العمد أو العمد ، أما الاستحلال(5/594)
ج 5 ، ص : 595
للقتيل فقد ذكره اللّه بقوله «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً» قاصدا لقتله لكونه مؤمنا استحلالا لقتله «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» (93) وهذا التشديد في عقابه دليل استحلاله القتل لأنه بذلك القصد كفر ، ولو لم يكن المراد منه ما ذكر لما رتب اللّه عليه هذا العقاب الشديد ، لأن القاتل مؤمن عاص متروك أمره لمشيئة اللّه تعالى غير داخل في التخليد ، قال صاحب الشيبانية.
ولا يبقى في نار الجحيم موحد وإن قتل النفس الحرام تعمدا
وهذه الآية عامة أيضا وإن كان نزولها على ما قيل في مقيس بن جنابة الكناني الذي راجع حضرة الرسول بأنه وجد أخاه هشاما مقتولا في بني النجار ، فأرسل صلّى اللّه عليه وسلم معه رجلا من بنى فهد إليهم ليسلموه قاتل أخيه وإنهم إذا لم يعرفوه يعطونه الدية فقالوا واللّه لا نعلم له قاتلا وأعطوه الدية.
وهذا هو الحكم الشرعي الآن ، فإن من وجد قتيلا في قرية أو محلة ولم يعرف قاتله فإنه يحلف خمسين رجلا منهم يقول كل واحد واللّه ما قتلته ولا أعلم له قاتلا ، ثم يعطون الدية لورثته.
وبعد الفراغ منهم وسوس له الشيطان وقتل رفيقه الفهري وذهب مرتدا إلى مكة.
وهذه الآية محكمة لأنها نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر ، وآية الفرقان هي إحدى الآيات من 68 إلى المشار إليها عند قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية 48 المارة إذ نزلت بالمدينة.
هذا وما قيل أن توبة المتعمد غير المستحل غير مقبولة غير سديد لأنها تقبل من المشرك فلأن تقبل من القاتل سواء كان مستحلا متعمدا أو متعمدا فقط أولى ، لأن ذلك كله دون الشرك ، والمؤمن العاصي إذا مات ولم يتب فأمره إلى اللّه إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.
قال في الجوهرة :
ومن يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض لربه
واعلم أنه إذا اجتمع قوم على قتل رجل كلهم قد ضربه ضربة قاتلة فإنهم يقتلون به كلهم ، لما روي أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا فقضى عمر رضي اللّه عنه بالقصاص عليهم كلهم ، وقال لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ، راجع مبسوط الرضى ج 26 ، ولهذا البحث صلة في الآية 31 من سورة المائدة الآتية.
قال تعالى(5/595)
ج 5 ، ص : 596
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ» سافرتم «فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» المؤمن من الكافر لا تتهوكوا فتتعجلوا فتقتلوا المؤمن على ظن أنه كافر «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ» بصيغة تحية الإسلام أو بادركم بالإسلام «لَسْتَ مُؤْمِناً» وتقتلونه بذلك «تَبْتَغُونَ» بقتله «عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» لتسلبوا ماله وتعدوه غنيمة ، كلا لا تفعلوا هذا أبدا «فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ» حلالا لا شبهة فيها يمنحكم ، إياها تغنيكم عن ، هذه التي ملؤها الإثم «كَذلِكَ» كما كان هذا كافرا وأسلم «كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ» إسلامكم كفارا مثله فسبقته لكم العناية «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» بالإسلام قبلهم فافعلوا بمن يريد الدخول بالإسلام كما فعل بكم عن طرق الحث والترغيب فيه والصبر على التمنع عنه ليسلم.
ثم أكد عليهم ثانيا بقوله «فَتَبَيَّنُوا» وهذا تأنيب وتنقيد لما وقع منهم.
وتقريع وتبكيت لعملهم «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (94) لا حاجة بأن تخبروا رسولكم به ، لأن اللّه تعالى يخبره بحقيقة حالكم ، وهو يجازيكم على فعلكم بحسب نياتكم.
وفي هذه الجملة تهديد لهم وتحذير لمن يعمل عملهم أي إياكم أيها المؤمنون والتهافت على القتيل طلبا للغنيمة فإنه يؤدي بكم إلى الهلاك وعليكم بالاحتراز والاحتياط ، قالوا كان مرداس بن بهنك من أهل فدك من بني مرّة بن عوف أسلم وحده فسمع قومه بسرية لرسول اللّه تريدهم فهربوا وتركوه ، فلما جاءت السرية تكبر نزل إليهم مكبرا قائلا لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه فضربه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ، فلما جاءوا إلى الرسول قال أقتلتموه إرادة ما معه ؟ فنزلت هذه الآية قبل وصولهم.
وهذه من معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم إذ أخبره اللّه بما فعلوا قبل أن يصلوا إليه ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم وجد وجدا شديدا ، فقال أسامة ، ما قالها يا رسول اللّه إلا خوفا من السلاح ، قال أشققت قلبه ؟ فقال أسامة استغفر لي يا رسول اللّه ، فقال كيف أنت بلا إله إلا اللّه كررها ثلاثا ؟ قال أسامة وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، أي ما وقع منه مكرا مع جملة الذنوب ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، وطلب من حضرة الرسول أن يستغفر له وأمره أن يعتق رقبة.
قال تعالى «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ» عن الجهاد والغزو «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ» بالرفع(5/596)
ج 5 ، ص : 597
صفة للقاعدين وبالنصب على الاستثناء وبالجر صفة للمؤمنين «أُولِي الضَّرَرِ» المرضى والعميان والعرجان وجميع ذوي العاهات المخلة بالقوى والجوارح.
«وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» بل بينهما بون شاسع ظاهر ، وإنما ذكره اللّه مع العلم به توبيخا وتبكيتا للقاعدين ، وتحريكا لهم وتحريضا على الجهاد والغزو «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً» عظيمة لا يقدر قدرها إلا اللّه والمراد بالقاعدين في هذه الآية الذين هم ظهر للاسلام الغائبين بقيامهم على ذراريهم وأموالهم ونسائهم لا المتخلفين نفاقا ولا القاعدين كسلا وجبنا ، لأن هؤلاء لا فضل لهم حتى يفضل اللّه عليهم غيرهم ، بل منافقون عاصون آثمون خاسرون ، ولهذا قال تعالى بحق أولئك المتخلفين على أهالي الغزاة وأموالهم «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى » الجنة ، ولكنهم درجات متفاوتون ، أما القاعدون خوفا وجبنا أو كلّا فبعيدة عنهم هذه الحسنى ، إلا أن يتغمدهم اللّه برحمته ، وأما القاعدون نفاقا أو عدوانا فموعدهم النار في الآخرة ، والهوان في الدنيا.
ثم أكد اللّه تعالى فضل أولئك بقوله «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ» بأموالهم وأنفسهم فقط «عَلَى الْقاعِدِينَ» في مواطن المجاهدين لحفظ أموالهم وذراريهم أو القاعدين الذين أنفقوا أموالهم على المجاهدين أو جهزوا الغزاة بما قدروا عليه القاعدين كسلا أو جبنا أو نفاقا كما مر ، لهذا جعل اللّه لهم «أَجْراً عَظِيماً» (95) لا يعلم كنهه إلا اللّه العظيم.
ثم فسر هذا الأجر بقوله «دَرَجاتٍ» جليلات بدليل إضافتها إليه جل شأنه لأنها «مِنْهُ وَمَغْفِرَةً» لذنوبهم «وَرَحْمَةً» تطهرهم «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (96) لأن هؤلاء من قبيل المرابطين ، وقد أشرنا إلى ما يتعلق بالرباط والجهاد في الآية 195 من سورة البقرة ، أما المجاهدون بأموالهم فقط فلهم أجر عظيم عند اللّه أيضا ، ولكن دون المجاهدين بأنفسهم ودون المرابطين أيضا لذلك بينا آنفا أن تفضيل المجاهدين بأنفسهم فقط أو بأنفسهم وأموالهم على هؤلاء المرابطين ، لأن المجاهدين بأموالهم فقط ليسوا مثلهم بالفضل فضلا عن أنهم يفضلون عليهم.
واعلم أنه لا يوجد في القرآن إلا ثلاث آيات مبدوءة بحرف الدال هذه الآية 10 من سورة يونس والآية 160 من سورة الأنعام في ج 2 ، وذكرنا(5/597)
ج 5 ، ص : 598
أيضا ما يتعلق في بحث الجهاد والرباط في الآية 60 من الأنفال والآية 176 من آل عمران المارتين وبينا أن الجهاد فرض عين إذا دخل العدو دار قوم من المؤمنين أو بلدا من بلادهم ، على جميع أهل البلد والبلدان المجاورة لها ، وإذا لم يكفوا فيجب على كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وإلا فهو على الكفاية روى مسلم عن جابر قال كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في غزاة فقال رسول اللّه إن بالمدينة رجالا ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض.
وروى البخاري عن أنس قال رجعنا من غزوة مع النبي فقال : إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر.
أي معنا بقلوبهم ولو لا أعذارهم
لخرجوا لأنهم سمعوا ما أنزل اللّه بفضل الجهاد وحزنوا لعدم اشتراكهم فيه ولو لا أن اللّه استثناهم لخاطروا بأنفسهم رغبة بما أعد اللّه لمجاهدين ، لأن المرضى والعجزى ساقط عنهم الجهاد ، واللّه تعالى أكرم من أن يحرمهم أجره ، وهؤلاء غير المتخلفين لمناظرة عيال الغزاة والذين هم ظهر للمجاهدين المار ذكرهم قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ» بالقعود بين الكفرة وترك الهجرة من بلادهم وهم أناس تكلموا بكلمة الإسلام وبقوا في مكة ولم يهاجروا لأن من أسلم ولم يهاجر لا يتم إسلامه ، وبقي الأمر كذلك إلى فتح مكة ، وفيهم نزلت هذه الآية ، وهؤلاء تسألهم الملائكة عند موتهم كما ذكر اللّه بقوله «قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ» أمع المسلمين أم المشركين استفهام توبيخ وتقريع «قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ» أطلق لفظ الأرض على مكة لشرفها «قالُوا» لهم الملائكة أيضا «أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها» وتتركوا أرض المشركين ، فسكتوا وعجزوا عن الجواب إذ لا عذر لهم بذلك لأن من لم يستطع أن يخرج علنا يهرب هربا ، ومن لم يستطع أن يأخذ أهله يتركهم ويختار اللّه عليهم «فَأُولئِكَ» الذين هذا شأنهم وماتوا على ما هم عليه يكون «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً» (97) هي لأن بقاءهم مع الكفر عون لهم وتكثير لسوادهم وخذلان للاسلام ، ولأن إسلامهم كان مقتصرا على الكلام فقط بينهم وبين أنفسهم ، ولا يعرفون من أركانه شيئا ، ولا يقدرون أن ينبسوا بشيء منه بين المشركين ، وربما خاضوا معهم بالكفر(5/598)
ج 5 ، ص : 599
وقدمنا ما يتعلق بالهجرة في الآية 59 من سورة العنكبوت ج 2 فراجعها ففيها كفاية.
ثم استثنى اللّه تعالى العاجزين حقيقة بقوله «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ» الذين «لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً» في الخروج لفقرهم وعجزهم «وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا» (98) إليه بسبب ضعفهم وصغرهم «فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» وعسى من اللّه تعالى إطماع وترج ، وإذا أطمع اللّه عبده ورجّاه أوصله وأعطاه وهو أكرم من أن يخيب عباده كيف وهو القائل أنا عند ظن عبدي بي «وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً» (99) لا يضيق عفوه ولا ينقص فضله ولا يقل ستره عن أمثالهم.
قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال لما رفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية ، قال اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كني يوسف.
ثم رغب اللّه في الهجرة بقوله «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فارا بدينه من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ليتمكن من القيام بما فرضه اللّه عليه واجتناب ما نهى عنه ، كما أمر وأراد «يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً» طريقا يسلكه على رغم أنف من يهاجر عنهم ومتحولا يتحول إليه ومحلا ينزل به في المحل الذي يهاجر إليه غير أرضهم ومتجولا رحبا «كَثِيراً وَسَعَةً» في الرزق والمحل «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ» قبل بلوغ مهاجره «فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» بمقتضى فضله ووعده «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ..» (100) بهم يستر ما مضى منهم ويدخلهم في سعة رحمته.
قال ابن عباس لما نزلت الآية الأولى وشاعت في مكة.
قال شيخ من بني ليث اسمه جندح بن حمزة ، واللّه ما أنا ممن استثنى اللّه ولي من المال ما يبلغني المدينة ، واللّه لا أبيت بمكة وكان مريضا فأخرجوه على سرير ، فلما وصل التنعيم أدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ، وقال اللهم هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك.
ثم مات ، فقال المشركون ما أدرك ما طلب ، وقال المؤمنون لو وافي المدينة لتم أجره ، فأنزل اللّه هذه الآية الدالة على أن المهاجر له إحدى(5/599)
ج 5 ، ص : 600
الحسنين : إما أن يرغم أنف أعدائه ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصاله بالخير والسعة ، وإما أن يدركه الموت فيصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم.
وقدمنا في الآية 56 من سورة العنكبوت في ج 2 ما يتعلق بهذا الحديث فراجعه.
مطلب في قصر الصلاة وكيفيتها وهل مقيدة بالخوف أم لا ومدتها ، وقصة سرقة طعيمة بن أبيرق وجواز الكذب أحيانا :
قال تعالى «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» من أربع إلى اثنتين «إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بأن يغتالوكم وأنتم فيها «إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا» ولم يزالوا «لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً» (101) فتحذروا منهم ثم بين كيفية صلاة الخوف فقال جل قوله «وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ» يا سيد الرسل «فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» فاقسمهم إلى طائفتين وأمرهم «فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ» تقتدي بك في صلاتها «وَلْيَأْخُذُوا» أي الطائفة الأخرى التي أمرتها أن لا تصلي معك أولا «أَسْلِحَتَهُمْ» ليحرسوكم «فَإِذا سَجَدُوا» أي الطائفة التي اقتدت بك «فَلْيَكُونُوا» أي الطائفة الحارسة تجاه العدو وليراقبوهم لئلا يغدروا بكم «مِنْ وَرائِكُمْ» لأنكم لا ترونهم حال إحرامكم بالصلاة ، وليبقوا هكذا في حراستكم حتى إذا أكملت الطائفة المصلية معك ركعة تأخرت وراءها ووقفت بإزاء العدو مكان الطائفة الحارسة وأكملت صلاتها وحدها ، ويبقى الرسول أو الإمام بعده واقفا في محله ، وبعد إكمالها صلاتها تقدمت الطائفة التي لم تصل فتأتم بالإمام ، وهذا معنى قوله تعالى «وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا» بعد «فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ» أيضا لأنها كانت تحرس المصلين الأولين «وَلْيَأْخُذُوا» هؤلاء المصلون «حِذْرَهُمْ» بأن يكونوا يقظين لئلا يباغتهم العدو ، وعليهم أن يرتدوا ما لديهم من درع وغيره من كل ما يتحرز به «وَأَسْلِحَتَهُمْ» أيضا ليكونوا متهيئين عند مبادرة العدو لهم ، ويبقى الإمام جالسا إلى أن تأتي هذه الطائفة الأخيرة بالركعة الثانية بالنسبة للامام ، وهي أولى بحقهم ، أو تتم صلاتها ، ثم يسلّم الإمام فتكون الطائفة الأولى أدركت أول صلاة الإمام والأخرى مسبوقة بركعة ، (5/600)
ج 5 ، ص : 601
وإنما كان كذلك لأن الإمام كان رسول اللّه ولا يفرط أحد بأن يحرم من الاقتداء به ، أما الآن فيمكنهم أن يصلوا كل طائفة بإمام على حدة ، ولكن يا حسرتاه أين الصلاة الآن ، فإنهم يستصحبون في حروبهم الفتيات والخمور ويعملون الفواحش ويريدون النصر من اللّه وهيهات ذلك لمن عصاه وبارزه بالمناهي وأعرض عن الطاعة وركن إلى الملاهي ، ولا يخجلون فيقولون لم لا ينصرنا اللّه وقد وعدنا النصر ؟.
نعم إن اللّه تعالى وعد المؤمنين النصر ، ولكن هات المؤمنين وخذ نصر اللّه المبين ، واللّه لا يخلف الميعاد ، ولكن نحن الناكثون المنافقون ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وإنما أمرهم اللّه بأخذ حذرهم لأن الكفرة بالمرصاد لهم ، وقد «وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ» فتتركونها باشتغالكم بالصلاة أو غيرها «فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ» في هذه الفرصة التي يتربّصونها «مَيْلَةً واحِدَةً» ويحملون عليكم حملة رجل واحد فيقتلونكم على غرة ويأخذون ما لديكم من سلاح ومتاع هذا «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ» في الصلاة وغيرها على أن تكونوا يقظين «وَخُذُوا حِذْرَكُمْ» في هذه الحالة أيضا لئلا يبغتكم العدو المتربص لكم ولم تتمكنوا من تناول أسلحتكم إذا تركتموها «إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (102) لهم ، لأنهم لا يراعون حقه ولا يتقيدون بأمره ونهيه «فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ» أي في كل حال كما مر في الآية 197 من آل عمران فإن كثرة ذكر اللّه توقع السكينة في القلب وتزيل الخوف والرعب «فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ» وأمنتم من هجوم عدوكم وعرفتم بما بثثتم من العيون والجواسيس إنه لا يمكنه الوصول إليكم في صلاتكم «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» كاملة وصلوها جميعا جماعة «إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ» ولا تزال «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» (103) محدودا بأوقات معلومة لا يصح تقديمها ، ولا ينبغي تأخيرها عنها ولا يجوز إهمالها حتى يخرج وقتها لأنها تكون قضاء ، قال تعالى «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ» بأن تتقاعوا عن طلبهم بل تعرضوا لهم واطلبوهم ولا تحجموا عنهم وتحتجوا(5/601)
ج 5 ،
ص : 602
«إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ» مما أصابكم أو يصيبكم من الجراح والقتل والأسر «فَإِنَّهُمْ» أعداؤكم «يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ» أنتم لأنهم بشر مثلكم «وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ» أيها المؤمنون من الثواب والسعادة في الآخرة والشفاء والخير في الدنيا «ما لا يَرْجُونَ ، شيئا من ذلك ، وقد يكون لهم الشفاء في الدنيا ، أما العذاب في الآخرة فهو محتم لهم ، وهذه الميزة العظيمة لكم دونهم فضلا عن أن اللّه وعدكم العز في الدنيا والسعادة في الآخرة وأوعدهم الهوان في الدنيا والعذاب في الآخرة «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» (104) فيما يفعل ويقدّر.
يفيد صدر هذه الآية أن القصر مشروط بوجود الخوف ، وأن عدم الشرط يوجب عدم المشروط ، إلا أن الآية سكتت عن حال الأمن ، وقد ثبت القصر فيها بخبر الواحد وإثبات الرخصة بخبر الواحد في حال الأمن إثبات لحكم سكت عنه القرآن ولا مانع من الأخذ بذلك ، وإنما بمتنع الأخذ بالأخبار إذا خالفت صراحة ما دل عليه القرآن ويكون التقييد بالخوف على الغالب فضلا عن أن صلاة الخوف هي غير صلاة الأمن كما علمت مما بين اللّه لنا أخرج مسلم عن أبي يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح الآن فقد أمن الناس ، فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول اللّه عن ذلك فقال صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته.
أي بما أن اللّه تعالى تصدق عليكم بالقصر في الخوف فاقبلوا صدقة بالأمن أيضا ، لأنه لم ينه عنه فيه ، وأخرج النسائي عن عبد اللّه بن خالد بن أسيد أنه قال لابن عمر كيف تقصرون الصلاة وإنما قال تعالى (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ) الآية ؟ فقال ابن عمر يا ابن أخي إن رسول اللّه أتانا ونحن في ضلالة فعلّمنا ، فكان مما علمنا أن أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر ، وأخرج الترمذي والنسائي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا اللّه رب العالمين ، فصلّى ركعتين ، ولنا فيه أسوة.
هذا وإن الصلاة في السفر مقصورة أفضل لما روي عن عائشة قالت فرض اللّه الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى.
وفي رواية فرض اللّه الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر أخرجاه في الصحيحين.(5/602)
ج 5 ، ص : 603
وقيد الشافعي رخصة القصر بالسفر في غير معصية ولم ير أبو حنيفة هذا القيد لعدم النخصيص.
وعليه فلا فرق بين أن يكون السفر لطاعة أو غيرها لإطلاق النص فإن مدة السفر المجمع عليها ثلاث مراحل كل مرحلة ست ساعات بمشي الأقدام والإبل ، وإذا امتطى ما يوصله هذه المسافة بأن يقطعها بساعة واحدة فله أن يقصر أيضا لأن الرخصة مطلقة والمطلق على إطلاقه.
قال ابن عباس كنا مع رسول اللّه بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد ، فصلينا الظهر ، فقال المشركون لقد أصبنا غرة ، وفي رواية غفلة ، ولو حملنا عليهم وهم في الصلاة ، وقال ابن عباس ندم المشركون أن لا أكبوا على الرسول وأصحابه وهم في صلاة الظهر ، وقالوا إن لهم صلاة بعدها أحب لهم منها ومن آبائهم وأمهاتهم يعني العصر ، فإذا قاموا إليها شدّوا عليهم فاقتلوهم ، فنزل جبريل بصلاة الخوف.
وحكم هذه الصلاة ثابت لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وللقائد أن يصلي بالجيش كصلاته صلّى اللّه عليه وسلم لقوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) الآية 32 من آل عمران المارة ، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي فلا وجه لقول من قال بعدم جوازها بعد الرسول مع أن قوله تعالى وقول رسوله مطلق عام لم يقيد ولم يخصص به ولا بزمنه ، وقد ثبت أن عليا كرم اللّه وجهه صلاها بأصحابه ليلة الهرير ، وكذلك أبو موسى الأشعري ، وصلاها حذيفة بن اليمان بأصحابه بصهرستان ، ولم يعترض عليهم أو يخالفهم أحد من الأصحاب ، ولأن غالب ما خوطب به الرسول تخاطب به أمته لأنهم داخلون في الخطاب إلا ما خص به ، ولا نص هنا على التخصيص ، ولها صور في كتب الفقه فلتراجع.
قال تعالى : «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» (105) عنهم ومدافعا لهم ، إذ لا يليق بجنابك ذلك بل عليك بملازمة المحق ومناصرة الحق لكل أحد قريبا كان أو بعيدا ، مسلما كان أو كتابيا أو معاهدا ولو كان مشركا ، إذ يجب على من تولى الحكم عدم التفرقه بجهة إحقاق الحق تدبر.
والداعي لهذا هو أنه كان طعيمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جواب فيه دقيق فجعل يتناثر من خرق فيه حتى انتهى إلى داره ، فخبأها عند(5/603)
ج 5 ، ص : 604
زيد السهمي اليهودي فالتمسها صاحبها عند طعيمة ، فحلف ما أخذها وما له بها من علم ، فاتبعوا أثر الدقيق إلى بيت اليهودي فوجدوها عنده ، فقال دفعها إلى طعيمة وشهد له جماعة من اليهود ، فجاء بنو ظفر وسألوا الرسول أن يجادل عن طعيمة لأنها لم توجد عنده.
فهم الرسول بمعاقبة اليهودي لوجودها عنده ، فأنزل اللّه هذه الآية الدالة على أن الرسول ما كان يحكم إلا بالوحي الذي ينزل عليه من اللّه ، لذلك قالوا ليس للقاضي أن يحكم بما يرى ولا يقول قضيت بما أراني اللّه ولا بما يعلم.
قال تعالى «وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ» مما هممت به من المجادلة عن طعيمة ومعاقبة اليهودي «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» (106) بعباده ، واعلم أنه لا تمسك في هذه الآية لمن يجيز وقوع الذنب من الأنبياء ، لأن الرسول لم يفعل شيئا قط ، وإنما هم لما رأى من السبب الظاهري وهو اتباع الأثر من دار المسروق إلى داره ووجود المال المسروق عنده ، ولما قامت بينة اليهودي توقف عن الحكم لعدم الاعتماد عليهم فيما يؤول لبعضهم ، ولما انزل اللّه له الحكم عمل به وأنفذه ، أما ما تفيده هذه الآية من معنى المعاتبة لحضرة الرسول فهو بالنسبة لعلو شرفه وارتفاع درجته وكبير مقامه وعظيم منصبه وجليل مرتبته وكمال معرفته باللّه مما يقع منه على وجه التأويل أو السهو مما قد بعد ذنبا من مثله ، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين ، لأنه لا يعد ذنبا من غيره لو فعله.
قال تعالى «وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ»
كهذا السارق والمساعدين له لأن من يقدم على ذنب أو يذب عن المذنب مع علمه بما أذنب فهو خائن «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً»
(107) وصفه بالإثم ، لأنه سرق وأودع المسروق عند غيره وخلف على براءته من فعل السرقة.
وهذه الآية عامة لا يخصصها سبب نزولها ، لأنها جاءت بلفظ مطلق.
ولما سمع طعيمة ما أنزل فيه لحق بمكة مرتدا وعدا على الحجاج بن علاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من الحائط وأخرجوه من مكة ، فلقي ركبا وقال لهم أنا ابن سبيل منقطع ، فحملوه حتى إذا جن الليل سرقهم وهرب ، فأدركوه ورموه بالحجارة حتى مات.
ثم إن أقاربه صاروا يستترون حياء من النبي والناس ، فأنزل اللّه «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ(5/604)
ج 5 ، ص : 605
اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ»
في سرهم وعلانيتهم بخلاف الناس «إِذْ يُبَيِّتُونَ»
فيما بينهم قبل نزول الآية في تخليص طعيمة «ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ»
الذي كانوا يدبّرونه لأجل خلاصه وإلصاق الجريمة باليهودي ، ويقولون أن الرسول يسمع منا لأنه صاحبنا وذاك يهودي لا يأمن له «وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً»
(108) لا يخفى عليه شيء ، وقد أطلع رسوله على حقيقة الأمر ، وهو الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ»
يا قوم طعيمة «جادَلْتُمْ عَنْهُمْ»
عن طعيمة وذويه والخطاب لعشيرته «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
وهي فانية بما فيها فقولوا لي «فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ»
إذا أخذوا بذنوبهم من قبل ملائكة اللّه ونطقت عليهم جوارحهم بما فعلت وأخرست الألسن حينذاك «أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا»
(109) يحاجج ويناضل ويدافع عنهم أمام اللّه لأن محاماتكم له تنقطع في الدنيا ، ثم رغب اللّه تعالى المسيئين بالتوبة والندم ليأملوا عفو اللّه عنهم ، فقال جل قوله «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ»
بشيء من المعاصي ويوقعها فيها «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ»
مما وقع منه «يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
(
110) لأن التوبة مقبولة لديهعن الذنوب كلها ما دامت الروح بالبدن فيما عدا حالتي اليأس والبأس
قال تعالى «وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ»
ويكون وبال إثمه عليها خاصة «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً»
بمن يكسب الإثم مهما أخفاه عن الناس أو ألحقه بغيره «حَكِيماً»
(111) بما يخبر به نبيه ليرتدع الناس وينزجروا عن الكذب والبهت وليعلموا أنه تعالى قادر على إخبار نبيّه بكل ما يقع في الكون «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً»
مثل طعيمه المذكور «ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً»
كاليهودي الذي أئتمن المال المسروق من حيث لا يعلم أنه مسروق «فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً»
(112) لا خفاء عليه ، إذ لا يجوز تهمة الكتابي أو الكافر بشيء لم يقترفه ، ولا تجوز الشفاعة لمثل هذا ألا فليتنبه الناس عما من شأنه الإضرار بالغير وتهمتهم بما لم يقع منهم ، فإنه موجب لعذاب اللّه «وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ»
يا سيد الرسل «وَرَحْمَتُهُ»
لك وتقديره بعصمتك من الذنب لما أطلعك على شيء من هذه القضية و«لَهَمَّتْ(5/605)
ج 5 ، ص : 606
طائِفَةٌ مِنْهُمْ»
من عشيرة طعيمة «أَنْ يُضِلُّوكَ»
عن القضاء بالحق الذي أمرك اللّه به بما تقدموا لك من القول ببراءة رفيقهم وإلصاق الجرم باليهودي ولكن اللّه حافظك من الضلال في الدنيا وكل ما يؤدي إليه.
أما الذين يريدون إضلالك فأخيّبهم لأنهم لا يقدرون على شيء لا أريده «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ»
لأن وبال اضلالهم عليهم «وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ»
لأنك إذا عملت شيئا عملته عن حسن نية حسبما يظهر لك «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ»
لتحكم بين الناس بمقتضاها حسب ظاهر الحال ، وقال بعض المفسرين إن الحكمة هنا بمعنى ما يتكلم به الرسول وتسمّى بالسنة ، وهكذا أوّلوا أكثر ما جاء في القرآن من لفظ الحكمة بالسنة ، إلا أن قوله تعالى بعد هذه الكلمة «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
من خفايا الأمور وضمائر القلوب ينافي المعنى الذي ذكروه لأن السنة هي من جملة ما علمه اللّه غير القرآن ، وهو لا ينطق عن هوى ، وهي من حيث اللفظ مرادفة لكلمة فلسفة اليونانية ، تأمل «وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
(113) في تعليمه وإخباره إياك وإنعامه عليك.
قال تعالى «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ» أي مما يسر به قوم طعيمة ، والنجوى الإسرار في تدبير الأمر ، ويكون غالبا في الشر «إِلَّا» نجوى «مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» والاستثناء منقطع وإلا بمعنى لكن ، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» التصدق والأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» لا لغرض ولا رياء أو سمعة «فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (114) جزاء عمله يتعجب من كثرته وحسنه.
روى البخاري عن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة ، فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم.
وروى البخاري ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس ، فيقول خيرا وينهي خيرا.
وفي رواية قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث يعني الحرب والإصلاح وحديث الرجل لزوجته وحديث المرأة لزوجها ، .
أي أن الكذب يجوز في هذه الأمور لأنه لمصلحة ماسة كما(5/606)
ج 5 ، ص : 607
ذكرنا في الآية 25 من سورة الأحزاب والآية 172 من آل عمران المارتين قال تعالى «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى » فيخالفه ويعاديه ويروغ عنه لئلا يجري عليه الحد ، وذلك إن طعيمة إنما هرب خوفا من قطع يده فأماته اللّه شرّ ميتة كما مر آنفا «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» بإظهار الارتداد والشقاق وترك طريق المؤمنين ولم يسلم نفسه ويخضع للحد الشرعي ويطهر نفسه مما اقترفه «نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى» من طريق الضلال في هذه الدنيا «وَنُصْلِهِ» في الآخرة «جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115) بسبب ارتداده عن الإسلام وعدم انقياده لأحكامه.
مطلب غفران مادون الشرك وتوبة الشيخ على يد رسول اللّه :
يستدل من هذه الآية على أن إجماع المؤمنين حجة لا يجوز مخالفتها ، لأن من لا يتبع سبيل المؤمنين فقد فارق الجماعة وصار هدفا لما هدد اللّه به في هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» ونظيرتها في الآية 48 المارة وكررت بمناسبة قصة طعيمة المذكور لسابق علم اللّه بأنه يموت كافرا ، والمغفرة في هذه الآية ونظيرتها عامة لا يخرجها عن عمومها قيد المشيئة ولا يصرفه إلى التائب فقط ، إذ يجوز أن يغفر لغير التائب أيضا لأنه لا يسأل عما يفعل كما بيناه هناك ، فهي على حد قوله تعالى (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) الآية 19 من سورة الشورى ج 2 وقوله تعالى (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الآية 17 من المائدة (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الآية 40 من المائدة (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) الآية 19 من المائدة الآتية ، وهي مكررة ست مرات في القرآن ، والآية 40 من آل عمران وهي مكررة أيضا بزيادة لفظ الجلالة والكل مزروق برزقه ومخلوق بخلقه ومفعول بفعله.
قال علي كرم اللّه وجهه ما في القرآن آية أحب إلي من هذه «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» (116) إذا مات على شركه والضلال البعيد يقابله عذاب غليظ.
قال ابن عباس : جاء شيخ من الأعراب فقال يا نبي اللّه إني منهمك بالذنوب غير أني لم أشرك باللّه منذ عرفته ، وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ، ولم أواقع المعاصي جرأة على اللّه ، وما توهمت طرفة عين(5/607)
ج 5 ، ص : 608
أني أعجز اللّه هربا ، وإني لقادم تائب مستغفر فما حالي عند اللّه ؟ فأنزل اللّه هذه الآية.
ولا ينافي هذا ما نحن بصدده إذ لا مانع من تعدد الأسباب ، لأن الآية الواحدة قد تنزل لأسباب كثيرة ، وقد يذكرها حضرة الرسول لمناسبة حادثة تنطبق عليها ، وهذا لا يعني أنها نزلت ثانيا كما قاله بعض المفسرين ، راجع تفسير الفاتحة تعلم أنه لا يوجد في القرآن سورة أو آية نزلت مرتين ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم - كما جرت على ذلك أصحابه وأتباعه حتى الآن - عند وقوع قضايا كهذه يتلو الآية المناسبة بالمقام المطابقة له ، فيظنها من يسمعها منه أو يحضر الحادثة أنها نزلت في تلك وليس كذلك ، ولهذا ترى المفسرين يعددون أسبابا كثيرة للنزول ولا يقطعون بواحد منها ، والأجدر أن يكون سبب النزول للحادثة والواقعة فقط ، ثم تكون جوابا لغيرها مما يماثلها ، وقد توخيت في هذا الباب أقصى ما بالوسع ، كما بذلت غاية الجهد في باب الناسخ والمنسوخ ، واللّه الموفق ومنه الهداية وعليه الاعتماد وإليه المرجع ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
وهذا الشيخ المار ذكره كان لسان حاله يقول نظر اللّه إليه :
وما كانت ذنوبي عن عناد ولكن بالشقا حكم القضاء
قال تعالى : «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أي الإله العظيم أي ما يعبدون غيره ، لأن كل من عبد شيئا فقد دعاه لحاجته.
والمراد بهم أهل مكة الذين رجع إلى دينهم طعيمة المذكور «إِلَّا إِناثاً» كاللات والعزى ومناة «وَإِنْ يَدْعُونَ» أي وما يدعون «إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً» (117) خارجا عن الطاعة قد أغواهم على عبادة الأوثان.
والمارد والمريد هو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة ويعبدون ويدعون بمعنى واحد ، راجع الآية 50 من سورة مريم في ج 1 «لَعَنَهُ اللَّهُ» أي ذلك الملعون «وَقالَ» عدا تحريض الناس على الضلال «لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ» يا إله الكل «نَصِيباً مَفْرُوضاً» (118) معلوما وأقسم الخبيث أيضا فقال «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ» عن طريق الهدى الذي أمرتهم باتباعه وأرسلت لهم الرسل لإرشادهم إليه «وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ» الأماني الباطلة بطول العمر وكثرة المال والأولاد والآمال الفارغة والتسويف بالتوبة «وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ» يقطعن(5/608)
ج 5 ، ص : 609
«آذانَ الْأَنْعامِ» ففعلوها ولا زال الناس يقطعون الآذان ويبترون الأذناب ويسوفون ويؤملون ويتمنون ما لا يكون اتباعا لإغواء الملعون الذي برّ بقسمه راجع الآية 20 من سورة سبأ ج 2 ، ولم تكرر هذه اللفظة في القرآن كله «وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ» من حيث الصورة الظاهرة كالخصاء والوشم ، أو الصفة كنتف الشعر ويسمى التنميص ، والوشم وهو تحديد الأسنان وتدقيقها ، ووصل الشعر وصبغه وكيه ، والتخنث كحلق الشارب واللحية تشبها بالنساء ، ودهن الوجه بما يغير لون بشرته بالكلية ، وكل هذه العادات القبيحة سارية بازدياد لكل ما فيه تبديل الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها ، وقال (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) الآية 3 من سورة الروم ج 2 ، وهي مكررة في الأنعام وغيرها أي أن هؤلاء المتبعين لوساوس الشيطان مهما عملوا من التغير للخلقة الأصلية لا يقدرون على تغييرها حقيقة ، وإنما عملهم ذلك عبارة عن تبدلات ظاهرية موقتة بالصورة والصفة والهيئة فقط ، لا تزيد على شهر ثم ترجع على حالتها الأولى ، ثم يحددون ذلك دواليك ، وذلك لأنهم اتخذوا الشيطان قدوة لهم فيما يزين لهم ويموه عليهم «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا» فيصغي لوساوسه ويطيعه «مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً» (119) في الدنيا والآخرة «يَعِدُهُمْ» الخبيث كذبا «وَيُمَنِّيهِمْ» بدسائسه ما لا ينالونه ، وهذا كل أمانيه باطلة لأنها عبارة عن وعود خلابة لعقولهم «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» (120) في الدنيا ، لأنه لا يقدر على إنجاز ما وعدهم فيها
«أُولئِكَ» المتخذون الشيطان وليا لهم ، يكون «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً» (121) مفرا ولا معدلا.
ولما ذكر اللّه تعالى وعيد الكافرين ناسب أن يعقبه بوعد المؤمنين فقال «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا» (122) لا أحد البنة وهو الآمر بالصدق الذي أرسل رسوله بالصدق.
وأنزل كتابه بالصدق وأمر عباده بالصدق فياويل الكاذبين.
واعلم أن هؤلاء الذين وعدهم اللّه بالجنة وأولئك الذين أوعدهم بالنار «لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ» أي ما تقدرونه بالكذب أيها المشركون(5/609)
ج 5 ، ص : 610
الظانون أن الأصنام تشفع لكم وأن الملائكة تقيكم من عذاب اللّه تعالى ، «وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ» الزاعمين أنهم لا يعذبون إلا أياما معدودات ، وأنهم أبناء اللّه وأحباؤه ، وأن الجنة لا يدخلها غيرهم كذبا ، لأن أعمالهم سيئة لا تؤهلهم لدخولها ، قبيحة تبعدهم عنها ، وإن رسلنا موسى وعيسى سيتبرءون من أعمالهم لمخالفتهم تعاليمها ووصاياهم وما ركبوه من أعمال سيئة.
وقال تعالى «مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ» بحسبه «وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (123) وهذه الآية عامة وإن كانت واردة بمعرض من ذكر فيدخل في عمومها كل من يقترف السوء ويموت مصرا عليه ، وكذلك قوله تعالى «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ» عام أيضا يشمل كل عامل خيرا إذا مات عليه فاختاروا أيها الناس أي الأمرين تريدون ولما سمع أهل الكتاب ظاهر الآية الأولى قالوا نحن وأنتم سواء ، لأن غير المؤمن لا ينفعه عمله الصالح في الآخرة بل يكافيه عليه بالدنيا ، فأنزل اللّه هذه الآية بإثبات لفظ المؤمن «فَأُولئِكَ» فاعلو الصلاح وهم مؤمنون «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» بما أسلفوه من العمل الصالح وبفضل اللّه «وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» (124) فلا ينقص ثوابهم بقدر النقرة التي بظهر النواة ولا أقل منها ، وهذه الكلمة تجيء مجيء ضرب المثل بعدم النقص بتاتا قال تعالى «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» وهذا أحد الأمرين المبني.
عليهما الإسلام وهما الاعتقاد المذكور في صدر الآية والعمل المشار إليه بقوله في عجزها «وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وذلك لأن شريعته داخلة في شريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلم «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» (125) صفيا ، كما اتخذ محمدا حبيبا.
روى مسلم عن أنس قال : جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا خير البرية ، فقال صلى اللّه عليه وسلم ذلك ابراهيم خليل اللّه.
وهذا تواضعا منه صلّى اللّه عليه وسلم وهضما لنفسه ، وإلا فهو لا شك خير البرية على الإطلاق «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» (126) فكل شيء تحت قبضته.
وإنما قال محيطا لأنه جل شأنه لما دعا عباده في الآيات المتقدمة إلى طاعته بين لهم في هذه سعة ملكه ترغيبا لخلقه.(5/610)
ج 5 ، ص : 611
مطلب ارث النساء والقسم من الزوجات وجواز الفداء والعداء والظلم والعدل :
قال تعالى «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ» هذا عود على بدء لأنه عليه السلام سئل عن أحكام كثيرة تتعلق بالنساء منها ما بين أول السورة ومنها ما بين هنا وفي سورة الممتحنة والبقرة المارتين ، ومنها ما سيبين آخر هذه السورة وفي سورة المجادلة والطلاق والنور الآتيات ، التي ما بعدها بيان.
فيا سيد الرسل «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» أي يبين لكم حكمه فيهن.
والإفتاء إظهار المشكل على السائل «وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ» الذي أنزله إليكم فيفتيكم به.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال كانوا لا يورثون إلا الرجل البالغ لأن الصغار والنساء لا يغزون ولا يفتحون ، ولما نزلت آية المواريث عدد 7 المتقدمة شق عليهم حكمها ورجوا أن ينزل عليهم حكما آخر من السماء بما يريدون ، فأنزل اللّه هذه الآية جوابا لهم.
وإن ما تلي عليهم كله ثابت في كتاب اللّه ويفتيهم بأن يعملوا بمقتضاه ، وآثر ذكر المضارع على الماضي فلم يقل ما تلاه للايذان بدوام التلاوة واستمرارها والعمل بها إلى الأبد أي ويفتيكم أيها الناس عدا ما أفتاكم به أولا «فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ» في كتاب اللّه من الإرث «وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» دون صداق «وَ» يفتيكم أيضا في «الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ» الصغار الذين لا تورثونهم أن تورثوهم كما مر «وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ» بأن تعطوا كلا حقه من صداق وارث حسبما بيناه لكم سابقا لأن هذه الأحكام المتلوة عليكم قد أفتيناكم بها على ما هو ثابت في علمنا الأزلي ومدون في اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير على كر الأيام والعصور.
وفي هذا الخطاب حث قوي للأولياء والأوصياء وولاة الأمور على أن يستوفى للنساء القاصرين حقوقهم كاملة كما أمر اللّه ، وأن ينصفوهم فيما فرض لهم اللّه بالعدل «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ» في حقوقهم حسبما أمرتم به «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً» (127) قبل أن تفعلوه وهو مجازيكم عليه خيرا.
والآية مطلقة في كل أعمال الخير ويندرج فيها ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا.
قال تعالى «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» عنها(5/611)
ج 5 ، ص : 612
وصار لا يكلمها ولا يؤانسها ولا ينظر إليها لكبر سنها أو لبشاعة خلقها أو دمامة خلقها أو بذاءة لسانها وكراهة لونها أو لقصور منها كذكر زوجها الأول أو لما طبعت عليه من السوء أو لطلاقة لسانها أو لكراهتها أقاربه أو لقصور منه بأن طمح لغيرها أو كلفها بأن تأتي له من مال أهلها أو ميراثها أو غير ذلك «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً» هما أو أولياؤهما أو الحاكم عفوا دون شيء ما ويتراجعا لحالتهما الأولى قبل النزاع ، وإن لم يمكن فيتخالصا دون شيء ، أو بأن ترد له شيئا من المهر إن كان القصور منها ولم تسمح نفسه بتركه لها ويطلقها أو تجعله في حل من القسم وتبقى عنده ، وهو أولى من الفراق لأنه لا مذمة فيه ولا ندم ، والفراق بيدهما متى ما أراده فعلاه إذا لم تنم المودة بينهما ولهذا قال تعالى «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» لأنه يكون عن طيب نفس كان سعد بن الربيع ويقال له واقع بن خديج تزوج عمرة بنت محمد بن مسلمة وتسمى خولة فلما كبرت تزوج عليها شابة آثرها عليها فشكت أمرها إلى الرسول فنزلت هذه الآية وكذلك كان رجل له امرأة كبيرة ولها أولاد قالت لزوجها لا تطلقني واقسم لي كل شهر إن شئت وأنفق على أولادي فقال هذا أحب إلي إن كان جائزا ، فأتيا رسول اللّه وذكرا له ذلك ، فتلا عليهما هذه الآية.
وأمثالهما كثير ولا سيما في بداية الإسلام.
روى البخاري ومسلم عن عائشة أن هذه الآية نزلت في ذلك.
وإنما يجوز للزوج في هذه الصورة أخذ شيء من الزوجة عند خوف النشوز منه ، أما إذا تحقق صدوره منه فقط ، دون أي قصور منها ، فلا يجوز له أخذ شيء منها أبدا ، راجع الآيتين 34/ 35 المارتين.
وعلى هذا العمل الآن وحتى قيام الساعة لا تبديل لحكم اللّه البتة.
قال تعالى «وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ» لازمته بحيث لا تنفك عنه ولا يغيب عنها فالمرأة لا تكاد تسمح نفسها بإعطاء شيء من المهر وترك حقها من القسم ، والرجل لا تسمح نفسه أن يطلقها بلا شيء ولا يرغب بإعطائها حقها كاملا من القسم ، والنفس مطبوعة على ما تحب ، وكل يود ما تميل له نفسه.
لذلك حث اللّه تعالى على مخالفة النفس ومتابعة الشرع ، فقال جل قوله «وَإِنْ تُحْسِنُوا» أيها الأزواج فيما بينكم وتتلاءموا بالحسنى «وَتَتَّقُوا» ربكم أيها(5/612)
ج 5 ، ص : 613
الأزواج فترجعوا عن النشوز والإعراض فإنهن أمانة اللّه عندكم ، وقد أمركم بحفظ الأمانة ، ووصاكم رسوله بالنساء بعد وصية اللّه فيهن ، راجع الآيتين 32/ 33 المارتين ولهذا فإياكم أن تجوروا عليهن بعد أن ضيعن شبابهن عندكم ، وإلا فاتركوهن ولا تأخذوا منهن شيئا ، وراقبوا اللّه وتفكروا في قوله ، (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) الآية 20 المارة «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (128) لا يخفى عليه ما في نياتكم ، كما هو عالم بأقوالكم وأفعالكم.
واعلموا أنه مجازيكم على ذلك ، فاتقوا اللّه وأنصفوا.
ولما أشار تعالى في الآية الثالثة المارة إلى الاكتفاء بالواحدة عند عدم تيقن العدل قال هنا جل قوله «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ» في الحب والنظر وميل القلب «وَلَوْ حَرَصْتُمْ» كل الحرص ، لأن ذلك ليس بوسعكم ، وإذا كان الأمر كذلك «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ» إلى التي تحبونها وتجوروا كل الجور على الأخرى في القسم والنفقة والسكنى والنظر فهذا مما هو منهي عنه ، لأنكم بعملكم هذا تتركونها «فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» لا هي ذات زوج يعاملها معاملة الأزواج ولا هي أيم تبتغي الزواج فتتزوج «وَإِنْ تُصْلِحُوا» أنفسكم فتعطوها نصيبها من القسم والنفقة والسكنى كضرتها «وَتَتَّقُوا» اللّه فيها فتمنعوا أنفسكم من الجور وتنفقوا فيما بينكم «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً» لما يقع منكم من الميل القلبي «رَحِيماً» (129) بكم لا يجازيكم على ما لا قدرة لكم عليه مما هو خارج عن وسعكم ، تؤذن هذه الآية بلزوم الاقتصار على الواحدة إذا لم يأمن من نفسه العدل ، وإذا ابتلي بالجمع ولم يتمكن بأي صورة كانت من بقائها معه ، فليتبع قوله تعالى «وَإِنْ يَتَفَرَّقا» على إحسان اتباعا لقوله تعالى فهو خير ، لأن اللّه تعالى قد «يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» وجوده وفضله فيعوض الزوجة زوجا خيرا لها من زوجها ويعوض الزوج زوجة خيرا له من مطلقته أو يقضي بينه وبين زوجته ما هو خير من بقاء ضرتها معها «وَكانَ اللَّهُ واسِعاً» خيره عميا برّه عليهما «حَكِيماً» (130) فيما يقيضه بين عباده هذا.
وقد وعد اللّه تعالى الغنى على الفراق في هذه الآية ، كما وعد الغني على الزواج في الآية 32 من سورة النور الآتية.
وهذا من لطفه(5/613)
ج 5 ، ص : 614
تعالى وجبره لخواطر عباده وله الحمد.
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم فيعدل فيقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب لأنه تحت قبضة اللّه تعالى لا طاقة للعبد في تقلبه.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط.
وعن أبي داود من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل وليعلم أن القسم شرط في البينونة والنفقة والكسوة والسكنى ، لا في الجماع ولا في محبة القلب والميل الودي وله إذا تزوج جديدة بكرا على قديمة أن يخصها بسبعة أيام ، وإن ثيبا بثلاثة مع لياليها ، وله إذا سافر سفرا طويلا أو قصيرا أن يأخذ إحداهن معه بالقرعة ولا يقضي للأخرى هذه المدة ، وفي غيرها يجب عليه القضاء ، وإذا انتقل نقلة دائمة وجب عليه استصحاب نسائه كافة.
قالت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه - أخرجه البخاري بزيادة - وليعلم أن اللّه تعالى استثنى رسوله من القسم بين النساء كما مر في الآية 51 من سورة الأحزاب مع بيان السبب في ذلك فراجعها
«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» لما ذكر اللّه تعالى إغناء كل من الزوجين عند الفراق أشار إلى ما يوجب الرغبة إليه ، لأن من ملك هذه الهياكل العظيمة هو جدير بالجود على من يسأله من فضله مما فيهما.
قال تعالى «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أيها الناس من لدن آدم عليه السلام إلى زمنكم «وَإِيَّاكُمْ» نوصّي يا أهل القرآن «أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» بالنساء وغيرهن ، لأن الأمر بالتقوى شريعة قديمة باقية إلى الأبد ، وكررت الوصية فيها لمنى غير الأول أي اقبلوا وصية «وَإِنْ تَكْفُرُوا» بما جاءكم عن ربكم فهو غني عنكم ولا يعبا بكم ولا ينظر إليكم ، وإن تؤمنوا وتعلموا بأنه هو الغني فاطلبوا منه ما تشاءون فهو يعطيكم وإن تجحدوا هذه الوصية «فَإِنَّ لِلَّهِ» الذي هو غني عن خلقه «ما فِي السَّماواتِ» من ملائكة وكواكب «وَما فِي الْأَرْضِ» من مخلوقات يتقون اللّه ويطيعونه أكثر منكم «وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا» عن جميع خلقه علويه وسفليه ، غير محتاج لطاعتهم(5/614)
ج 5 ، ص : 615
لأنهم تحت قهره «حَمِيداً» (131) لنفسه وإن لم يحمده أحد «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (132) على خلقه شهيدا على أعمالهم ، وكررت أيضا لاختصاصها بمعنى آخر أي فتوكلوا عليه لا على غيره.
وفي هاتين الآيتين من التهديد والوعيد ما لا يخفى ، وقد أكدهما بقوله «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ» كلكم إذا لم ترجعوا عن غيكم «وَيَأْتِ بِآخَرِينَ» أطوع منكم إليه بان ينشأهم كما أنشأكم من لا شيء «وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ» إذهابكم وخلق غيركم «قَدِيراً» (133) لا يعجزه شيء من ذلك ، وفي هذه الآية تهديد عظيم ، ألا فلينتبه وليحذر من لم يتق اللّه ويخش بطشه وانتقامه ، فإنه بالغ القدرة يفعل ما يشاء.
قال تعالى «مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا» جزاء عمله فيها منكم أيها الناس ويصرف نظره عن نعيم الآخرة الباقي إلى نعمها الفانية ، «فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» فاطلبوها معا لا تتقصروا على ثواب الدنيا فقط وهو قادر على إعطائكم ثوابهما معا» إذا طلبتموهما «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً» لأقوالكم «بَصِيراً» (134) بنياتكم لا يخفى عليه شيء من أموركم.
كان المنافقون إذا ذهبوا للجهاد يقصدون الغنيمة فقط لأنهم لا يصدقون بالآخرة كالمشركين الذين لا يعترفون بالبعث ، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» مجتهدين في إقامة العدل بين الناس على اختلاف طبقاتهم «شُهَداءَ لِلَّهِ» مخلصين لوجهه ابتغاء مرضاته «وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» تلك الشهادة فكما يجب عليكم أداؤها بالحق للغير يجب أداؤها على أنفسكم بأن تقروا بالحق فيما لكم وعليكم «أَوِ» كانت الشهادة على «الْوالِدَيْنِ» لكم «وَالْأَقْرَبِينَ» منكم.
واحذروا أن تحابوهم بسبب القرابة ، فاللّه أحق أن تهابوه بأدائها ، وإياكم أن تفرقوا بين المشهود عليه «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً» قويا أو ضعيفا فما عليكم إلا أن تشهدوا بالواقع بقطع النظر عن حالهما وشأنهما ، خطيرا كان أو حقيرا ، عدوا أو صديقا «فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما» منكم واحذروا أن تكتموا شيئا وتقولوا زورا اتباعا لهواكم أو رضاء للشهود له أو عدم مبالاة بالمشهود عليه ، راجع الآية 107 المارة ، ولهذا يقول اللّه تعالى لكم «فَلا(5/615)
ج 5 ، ص : 616
تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا»
عن الحق في أداء الشهادة «وَإِنْ تَلْوُوا» بألسنتكم فتحرفوها إلى غير الحق فلا تؤدوها على وجهها اتباعا لهوى أنفسكم «أَوْ تُعْرِضُوا» عن إقامة الشهادة فتكتموها خوفا من أعدائكم أو مراعاة لأصدقائكم أو تهتموا للغني ولا تبالوا بالفقير «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (135) فيعاقبكم على ذلك.
قالوا كان اختصم إلى حضرة الرسول فقير وغني ، فأصغى إلى الفقير لأنه عادة لا يظلم الغني ، فأنزل اللّه هذه الآية بعلمه فيها أن لا فرق بين الغني والفقير والكبير والصغير بإقامة العدل ، وإن الظلم قد يصدر من الفقير والضعيف كما يكون من الغني والقوي ، وقد يكون الفقير هو المعتدي ويتذرع بفقره لدى الناس ويتظلم لدى الحكام ليستعين بهم على ظلمه.
قال المتنبي :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عقة فلعلة لا يظلم
وما قاله الآخر :
ظلم القوي للضعيف جاري في الأرض والهواء والبحار
فهو على طريق التغليب على أن فقر الأخلاق أشد من فقر المال وأتعس.
قال :
وما فقر الدراهم حال ذل ولكن فقر أخلاق الرجال
فلا تحزن على يسر تقضى وقم واندب على كرم الخلال
فإن العسر يتلوه يسار وليس لخسة الأخلاق تال
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» هذا خطاب عام لكافة المؤمنين من المشركين وأهل الكتاب والذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم «آمَنُوا» إيمانا عاما شاملا وأديموا إيمانكم «بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» لأن من لم يؤمن بالرسول لا يقبل إيمانه باللّه ، وبالعكس أيضا ، واستمروا على الإيمان ، وأخلصوا فيه قلبا ولسانا «وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ» آمنوا به أيضا «وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ» كتابكم آمنوا به وآل فيه للجنس أي كل كتاب من الكتب المنزلة قبلا من اللّه تعالى على الرسل السالفة من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام ، لأن من لا يؤمن بأحدها لا يقبل إيمانه بالآخر ، ومن كفر بأحدها فقد كفر بها كلها ، فاثبتوا على هذا الإيمان الكامل الشامل «وَمَنْ يَكْفُرْ(5/616)
ج 5 ، ص : 617
بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ»
أو بأحد منهم ومنها «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» من يكفر به ويجحده «فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» (136) واستحق عذابا شديدا كما أسلم عبد اللّه بن سلام كما مر في الآية 47 جاء أسد وأسيد ابنا كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد اللّه بن سلام ومسلمة بن أخيه ويامين بن يامين وقالوا يا رسول اللّه إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما عدا ذلك من الكتب والرسل ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم بل آمنوا باللّه ورسوله محمد والقرآن وبكل كتاب قبله وكل رسول أرسل ، فأنزل اللّه هذه الآية.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بموسى «ثُمَّ كَفَرُوا» بعده «ثُمَّ آمَنُوا» بعزير وداود «ثُمَّ كَفَرُوا» بيحيى وعيسى «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» بمحمد صلوات اللّه عليهم وسلامه وماتوا على كفرهم «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا» (137) ينجون به من العذاب ، راجع نظيرة هذه الآية الآتية 90 من آل عمران المارة وقد نزلت هذه الآية تبكيتا لليهود الموجودين زمن الرسول باعتبار عد ما صدر من أسلافهم كأنه صادر عنهم ، وفي المنافقين الذين يؤمنون ويرتدّون عن الإيمان المرة بعد الأخرى.
مطلب في التهكم والكتاب والنهي عن مجالسة الغواة وأفعال المنافقين وأقوال اليهود الباطلة :
قال تعالى «بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ» يا سيد الرسل «بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (138) وهذا على طريق التهكم بهم مأخوذ من البشارة وهي كلمة تتغير عند سماعها بشرة الوجه سارة كانت أو ضارة ، إلا أن استعمالها الشائع بالخير فقط ، ولا يوجد في القرآن آية مبدوءة بمثل هذه الكلمة غير هذه.
ثم وصفهم اللّه بقوله «الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» ويركنون إليهم ، فسلهم يا سيد الرسل «أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ» بذلك الاتخاذ كلا لا عزة لهم به بل ذلة لهم ومهانة ، وإذا كانوا يريدون العزة الحقيقية «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» (139) وهو يعطيها أولياءه ويخص أصفياءه بها فيتخذون اللّه وليا وهو يعزهم «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ» في هذا القرآن في الآية 68 فما بعدها من سورة الأنعام ج 2 ، (5/617)
ج 5 ، ص : 618
ولهذا صحت الإشارة إليها لانها متقدمة في النزول على هذه كما ألمعنا إليه هناك ، وإلا لما صحت الإشارة إليها ، تدبر.
وهذا من جملة الأسباب الداعية لترتيب هذا التفسير على حسب النزول ، وقد يطلق على كل سورة من القرآن لفظ كتاب كما تقدم أول سورة هود في ج 2 ، وكرر لفظ الكتاب كثيرا في القرآن العظيم وخاصة أوائل السور المبدوءة بالحروف المقطعة وهو لفظ محبوب لكل كتاب ، وفيه قال :
نعم الأنيس إذا خلوت كتاب تلهو به إن فاتك الأحباب
لا مفشيا سرا إذا استودعته وتنال فيه حكمة وصواب
فالسعيد الذي يتخذه رفيقا ليله ونهاره حضره وسفره ويغتني عن أصحاب السوء ومجالس اللهو المؤديين لسوء العاقبة وقبح السمعة ، إذ قل أن تجد صديقا صادقا ومجلسا سارا.
ثم بين هذا المنزل المشار إليه في قوله عزّ قوله «أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» إذا قعدتم معهم حينما يخوضون بآيات اللّه ، لأنكم تعدون راضين بهم وبما يخوضون فيه ، وإلا لما جلستم معهم إذ الراضي بالشيء كفاعله فتصيروا منافقين اخوان الكافرين ويكون لكم ما لهم عند اللّه «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» (140) لاجتماعهم على الكفر أنزل اللّه هذه الآية في النهي عن مجالسة المنافقين في المدينة ، كما أنزل آيات الأنعام المذكورة في النهي عن مجالسة الكافرين في مكة ، والغاية واحدة ، ولذلك جاءت مؤكدة لها ومعطوفة عليها في المعنى.
وتدل هذه الآية على أن من رضي بالكفر فهو كافر ، ومن رضي بمنكر كان كمن فعله فينبغي للعاقل أن يبتعد عن أهل الأهواء والغواة ، لأن مخالطتهم لا تخلو عن الإثم.
وقد بينا ما يتعلق في هذا البحث هناك فراجعه.
ثم وصف اللّه المنافقين بوصف آخر فقال «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ» الحوادث والدوائر لشدة حقدهم عليكم وحسدهم لكم «فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ» نصر وظفر وغنيمة «مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» في الغزو فأعطونا نصيبنا ، إذ لا هم لهم إلا الدنيا ، فهم مهمو كون بها أبدا «وَإِنْ كانَ(5/618)
ج 5 ، ص : 619
لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ»
من الظفر «قالُوا» لأوليائهم الكافرين «أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ» أي نستول عليكم ونغلبكم ونتمكن من قتلكم وأمركم ولم نفعل «وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» فلم نتركهم يصلون إليكم ولو أردنا لأعناهم عليكم فغلبوكم ولهذا أعطونا مما أصبتم منهم لقاء عملنا هذا «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» أيها المؤمنون الصابرون على مخالطتهم المتحملون أذاهم من أجلنا ويا أيها المنافقون المذبذبون المظهرون غير ما تبطنون لا بد أن اللّه يحكم بينكم وبين المؤمنين ، كما يحكم بينكم وبين الكافرين «يَوْمَ الْقِيامَةِ».
واعلم أن اللّه تعالى لم يجهلهم ويؤخر عذابهم إكراما لهم بل لزيادة عذابهم ، وإلا فهو قادر على تعجيل عذابهم في الدنيا «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (141) في الدنيا لأن حجنهم غالبة وكذلك في الآخرة ، لأن اللّه هو الحكم بينهم.
أما تسليطهم الآن على بعض المؤمنين من حيث الغلبة الفعلية فهو لعدم تمسك المؤمنين بكتابهم وتعاليم نبيهم ، فلم يكونوا مؤمنين حقا كما أراد اللّه منهم ، ولو كانوا لما سلطهم عليهم ، ومن أصدق من اللّه قيلا.
فإصابة المؤمنين وخذلانهم من أنفسهم ومن انصرافهم عن دينهم ، وإلا لكانت الغلبة الفعلية لهم بنصّ اللّه ، ومن أصدق من اللّه حديثا ، راجع الآيات 171 فما بعدها من سورة الصافات ج 2 وما ترشدك إليه.
قال تعالى «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ»
بإظهار الإيمان وإبطان الكفر مخاتلة ومغاششة وإغرارا «وَهُوَ خادِعُهُمْ»
فاعل بهم ما يفعل المخادع بالمخادع فيمتعهم بالدنيا وليكثر عليهم من نعيمها الزائل ومن مالها الذي عاقبته العذاب أو من الأولاد الذين عاقبتهم الوبال إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم ، وبعد لهم الدرك الأسفل من النار يوم القيامة «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى »
دون رغبة لأنهم لا يرجون بفعلها ثوابا ولا على تركها يخشون عقابا «يُراؤُنَ النَّاسَ»
بفعلها «وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا»
(142) عند رؤيتهم المؤمنين فقط «مُذَبْذَبِينَ» متحيرين مترددين.
ولم تكرر هذه الكلمة بالقرآن أبدا «بَيْنَ ذلِكَ» الإيمان والكفر «لا إِلى هؤُلاءِ» المؤمنين ينتمون انتماء صحيحا «وَلا إِلى هؤُلاءِ» الكفار يندرجون اندراجا كليا ، وهذا شأن الضّال(5/619)
ج 5 ، ص : 620
«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» (143) إلى الهدى روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال مثل المنافق كمثل الشاة العائرة (المتحيرة المترددة) بين الغنمين تعير (تذهب) يمينا وشمالا لا تدري لأيها تتبع إلى هذه مرة وإلى هذه مرة.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ» باتخاذكم هذا «أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً» (144) في تعذيبكم ، فتكون عليكم الحجة ، فستوجبوا النار ، لأن مخالطة المنافقين أشد ضررا من مخالطة الكافرين ، راجع الآية 113 من آل عمران المارة ولهذا قال تعالى «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» أي في قعرها الأسفل الأعمق «وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً» (145) من ذلك العذاب الأليم «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» عملهم «وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ» وحده «وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ» نقوه من السمعة والرّياء طلبا لوجه اللّه خاصة وابتغاء لمرضاته «فَأُولئِكَ» يكونون في الدنيا والآخرة «مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» (146) لا أعظم منه في جنة عظيمة «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» (147) يشكر الشاكر وإيمان المخلص.
وهذا استفهام تقريري أي أي شيء يفعل اللّه بتعذيبكم ؟.
أيتشفى به من غيظ أم يدرك به ثارا ، أم يستجلب به نفعا أم يتوقع به خيرا كما هو شأن الخلق ؟ كلا ثم كلا ، لأنه الغني المطلق المتعال عن أمثال ذلك.
وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم ، فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشرية الإيمان والشكر وطهرتم أجسامكم بصبغة الإسلام والصبر ، سلمتم ونجيتم ، وإلا فلا محيص لكم عن الهلاك.
قال تعالى «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» القبيح ولا الإسرار به «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» فله أن يجهر بمثل السوء الذي وقع عليه لقوله تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 47 من سورة الشورى المارة في ج 2 «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً» لشكوى المظلوم «عَلِيماً» (148) بظلم
الظالم فيا أيها الناس «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً» مكان الجهر بالسوء «أَوْ تُخْفُوهُ» فلم تجهروا به «أَوْ تَعْفُوا(5/620)
ج 5 ، ص : 621
عَنْ سُوءٍ»
المسيء لكم «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا» لإساءة عباده ولم يزل كذلك «قَدِيراً» (149) على الانتقام ممن لا يتحلى بالصفات الممدوحة منكم حالا ، ولكنه يمهلكم فلا يعجل عقوبتكم لعلكم ترجعون وتتوبون ، بخلاف خلقه فإنهم سريعو الانتقام إذا قدروا عليه ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم تخلّقوا بأخلاق اللّه فاعفوا ممن أساء إليكم وتشبهوا بأخلاق بارئكم ، واعلموا أن اللّه تعالت قدرته مطلع على أعمالكم ونياتكم ، ولم يهمل شيئا ولم يعزب عن علمه شيء فراقبوه واخشوا سطوته.
واعلموا أن عدم المحبة هنا كناية عن عدم سخطه ، ولذلك صح الاستثناء المتصل أي فإنه غير مسخوط عنده تعالى ، لا إنه يحب جهر المظلوم بالسوء على ظالمه ، لأنه تعالى دائما يحب العفو ويرغب فيه ، إلا أنه أجاز شكوى المظلوم وإظهار أمر الظالم ليتباعد الناس عنه ويعرفوه.
قال مقاتل قال رجل من أبي بكر بحضرة الرسول فسكت عنه مرارا ثم رد عليه ، فقام صلّى اللّه عليه وسلم فقال أبو بكر يا رسول اللّه شتمني فلم تقل له شيئا حتى إذا رددت عليه قمت! قال كان ملك يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب وجاء الشيطان ، فنزلت هذه الآية.
وقيل نزلت فيمن لا يحسن ضيافة الضيف فيخرج فيقول أساء ضيافتي.
قال العلماء لا يجوز إظهار أحوال الناس المستورة لأن ذلك بسبب الوقوع للناس بالغيبة وللشخص بالريبة لكن المظلوم يجوز له إظهار مظلمته فيقول سرق أو غصب أو نحو ذلك ، وإن شتم جاز له الرد بلا زيادة لقوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من البقرة المارة وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى اللّه عليه وسلم المستعبّان ما قالا فعلى الأول.
وفي رواية فعلى البادي منهما حتى يتعدى المظلوم.
وقد أسهبنا البحث في هذا الشأن في الآية 43 من سورة الشورى في ج 2 والآيتين 191/ 193 من سورة البقرة المارة فراجعها.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ» فيقولون إن الإيمان باللّه غير الإيمان بالرسل ، والحال أنه لا يصح الإيمان بأحدهما دون الآخر «وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ» الكتب والرسل كاليهود والنصارى «وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ» الكتب والرسل ، مع أن الكافر بواحد منهما كافر بالجميع ، ولا ينفع التصديق بواحد دون الآخر كما نوهنا به في(5/621)
ج 5 ، ص : 622
الآية 137 المارة «وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» (150) مذهبا يدينون به بين الكفر والإيمان والحال لا واسطة بينهما تتخذ طريقا بدأت به البتة كما أنه لا درجة ولا مرتبة بين الجنة والنار كما نوهنا به في الآية 45 فما بعدها من سورة الأعراف في ج 1
«أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا» المستحقون العذاب الأليم ، ولذلك فإنا هيأنا «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (151) نزلت هذه في اليهود لأنهم كفروا بعيسى ومحمد والإنجيل والقرآن وآمنوا بموسى والتوراة ، وفي النصارى لأنهم آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن.
قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» في الإيمان والتصديق ، وكذلك بكتبه فآمنوا بها كلها «أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ» كاملة يوم القيامة «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً» لما سبق منهم من الخطايا «رَحِيماً» (152) بهم يعفو عنهم.
ثم طفق جل شأنه يعدد من مساوئ اليهود وجرأتهم على اللّه فقال جل قوله «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ» وذلك أن كعب بن الأشرف وفنخاص بن عازوراء قالا يا محمد إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة واحدة كما جاءنا موسى بالتوراة.
وهذا سؤال تعنت ، لأن اللّه لا ينزل الآيات على اقتراح المقترحين ، ثم شرع يبين ما وقع منهم قبل من القبائح فقال يا سيد الرسل لا ترد عليهم «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» عيانا بعد أن أنزلنا عليهم الكتاب جملة واحدة وأسمعناهم كلامنا كما مر في الآية 54 من البقرة وتجاه جرأتهم هذه أمتناهم «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ» أنفسهم وتحكمهم على نبيهم ثم أحييناهم إكراما لنبيهم ولم يتعظوا ولم ينتهوا ومالوا عن دينه الحق «ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» إلها وعبدوه من دوننا «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» على صدق رسولهم «فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ» ولم نعاقبهم عليه تفضلا منا بعد توبتهم ، وكانوا استحقوا بذلك عذاب الاستئصال «وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً» (153) على من خالفه وأجبنا دعوته راجع الآية 153 من الأعراف في ج 1.
قال تعالى «وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ» لئلا ينقضوه(5/622)
ج 5 ، ص : 623
«وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» مطأطئين رؤوسكم عند دخول باب إيليا ، فدخلوه زحفا على أستاههم «وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ» أي لا تتعدوا وتتجاوزوا حدود اللّه فيه ، فحفروا حياضا أدخلوا فيها السمك وسدوها عليها وتركوها فيها ليوم الأحد ، فأخذوها راجع الآية 163 من الأعراف في ج 1 أيضا لتقف على حيلتهم هذه على اللّه وتعديهم حدوده «وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» (154) مؤكدا في ذلك فنقضوه ، ونكثوا عهد اللّه في ذلك كما فعلوا من قبل ، وبعد ، ولذلك عوقبوا بما قصه اللّه تعالى بقوله «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» الذي أوقعنا عليهم العذاب لسببه «وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ» محجوبة عما تدعونا إليه فرد اللّه عليهم بأنها ليست غلفا «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» أي الطبع الذي هددوا به هو السبب لعدم فهمهم مراد اللّه وانقيادهم لأمر رسوله «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155) ببعض التوراة وبعض أوامر نبيهم ، ولو أنهم آمنوا بكل ذلك لآمنوا بعيسى والإنجيل ولآمنوا بمحمد والقرآن ، لأن هذا مما هم مأمورون به في كتابهم وتعاليم نبيهم ، ولكنهم لم يعملوا بهما فأعمى اللّه قلوبهم عن سلوك الصواب.
ترشدنا هذه الآيات للوفاء بالعهد والأخذ بما جاء من عند اللّه وما أمر به الرسل وعلى حرمة التضليل واتخاذ الحيل لتحليل ما حرم اللّه وعلى الأخذ بالقرآن وأقوال الرسل وزجر النفس عن اتباع الهوى والإقلاع عن المعاصي والتوبة إلى اللّه وعدم الرجوع إلى ما نهى عنه.
وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً» (156) وهذا من جملة ما طبع على قلوبهم أيضا لأنهم أنكروا قدرة اللّه بخلقه من غير أب ورموا أمه الطاهرة بما لا يليق رماهم اللّه في طينة الخيال ، وجحدوا المعجزات التي ظهرت عند ولادته وبعدها مما يدل على براءتها.
وخلقه كخلق آدم «وَقَوْلِهِمْ» قاتلهم اللّه «إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ» بهت عظيم وكذب محض وزور مفترى.(5/623)
ج 5 ، ص : 624
مطلب عدم تيقن اليهود بان عيسى هو المصلوب ، وآية الربا الرابعة ، وعدد الأنبياء والرسل وفرق النصارى ونص الأقانيم الثلاث :
واعلم أن كلمة رسول اللّه هي من كلام اللّه تعالى لا من كلامهم لأنهم لا يعتقدون رسالة وقد صدقهم النصارى على فعل القتل فأكذبهم اللّه بقوله «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» بالمنافق يهودا الأسخريوطي الذي دلهم عليه لقاء ثلاثين درهما ، وكان عليه السلام أخبر أصحابه بذلك بحضوره كما مر في الآية 154 من آل عمران المارة وما كان اللّه ليسلط هؤلاء الأنذال على صفيه عيسى «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» وهم اليهود الذين قبضوا على شبيهه وصلبوه «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» بأنه عيسى لأنه كان عند القبض عليه يصيح ويقول أنا لست المعلم يعني عيسى لأنهم كانوا يسمونه معلما ، وعند الصلب كان يتضجر ويتويل ويقول أنا الذي دللتكم عليه ، وكانوا يعهدون في عيسى الحزم والعزم وعدم التذلل ، ولأنه حينما وضعوه على المصلبة صار يصيح (إلي إلي لم شبقنى) أي إلهي إلهي لم شنقتني ؟
كما هو ثابت بالأناجيل الأربعة التي بيد النصارى الآن راجع الاصحاح 47 من إنجيل متى و15 من إنجيل مرقس ، وجاء في بعضها بلفظ إلى إلى ، وبعضها بلفظ إلهي إلهي ، بما أوقع الشك في قلوبهم إنه ليس بعيسى لأنهم تحققوا فيه العزم والعزة والصّبر والشهامة ، ولا يزال بصيح وهم يلكمونه ويبصقون عليه حتى قضى نحبه جزاء خيانته لعنه اللّه ، وإنما شكوا فيه لأنهم يقولون لو كان عيسى لما تصور منه وقوع هذا الضجر كيف وهو من أولي العزم الذين يسلمون لأمر اللّه تسليما مطلقا ومما يؤيد عدم صدور ذلك منه قول النصارى بأنه أسلم نفسه ليكفر خطايا أمته ومن يسلم نفسه لذلك القصد باختيارهه ما كانوا معتقدين أنه هو ، ولهذا قال تعالى «وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً» (157) لما رابهم من تخضعه بالكلام وتمسكنه لهم(5/624)
ج 5 ، ص : 625
فصلبوه حالة كونهم غير موقنين بأنه عيسى للأسباب المارة ، ولأن الحواريين فقدوا صاحبهم ولم يجدوه معهم ، ولذلك ترى بعض الأناجيل تسكت عن ذكر يهوذا ، وبعضها تقول انه عرف خطيئته فصلب نفسه ، والصحيح ما جاء في إنجيل برنابا لأنه موافق لما في القرآن مع القطع بأنه لم يصلب بل رفع إلى السماء وصلب يهوذا الذي ألقي عليه شبهه.
ولما صلب المنافق يهوذا التي أشارت الأناجيل الأربعة وإنجيل برنابا إلى نفاقه وخيانته ودلالة اليهود عليه ، قال تعالى ما فعلوا شيئا بعيسى «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» فلم تقبضه اليهود ولم تصلبه «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً» غالبا قويا قادرا على تخليص عيسى ورفعه إليه رفعا حقيقيا لا رفع مكانة كما يقول الأحمديون ، بل رفع مكان ، وهذا الرفع قد يكون بكلمة كن ، وبواسطة ملك أو بوضع معراج ، تدبر وصدق وآمن ، واللّه قادر على ذلك وعلى إسلام عدوه لأعدائه كي يصلبوه فداء له «حَكِيماً» (158) بما صنع في ذلك وقد أوضحنا هذا البحث في الآية 43 من سورة آل عمران المارة.
قال تعالى «وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» الموجودين عند نزوله من السماء المنوه به في الآية 60 من سورة الزخرف في ج 2 فراجعها «إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ» إذ تكون إذ ذاك الأديان كلها دينا واحدا ، أي من أهل الكتاب فقط ، لأن أهل الأرض لا يتفقون على دين واحد لقوله تعالى (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) الآية 118 من سورة هود في ج 2 «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ» السيد عيسى عليه السلام «عَلَيْهِمْ» أي أهل الكتابين «شَهِيداً» (159) بما وقع منهم عليه وبما نسبوه إليه من كونه إلها أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة أو هو جوهر واحد إلخ كما سيأتي.
قال تعالى «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» وهي المذكورة في الآية 145 من سورة الأنعام في ج 2 «وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً» (160) من الناس إذ منعوهم عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وبكتابه العظيم
«وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ» من قبل نبيهم وهذه الآية الرابعة بشأن الربا لا حكم فيها ، إلا أنها تفيد الإخبار بقبح أعمال اليهود التي من جملتها تعاطي الربا ، وقد أوضحنا ما يتعلق فيه في الآية 175 من آل عمران فراجعها.
ت (40)(5/625)
ج 5 ، ص : 626
«وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ» ظلما بغير حق ، وبهذه الأسباب الأربعة شددنا عقوبتهم لكفرهم بتعاليم رسولهم وكتابهم «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (161) وإنما قال تعالى منهم لعلمه أن منهم من يؤمن بعد.
قال تعالى «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ» المتوغلون في حقائقة ، كعبد اللّه بن سلام وأصحابه «وَالْمُؤْمِنُونَ» باللّه ورسله «يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» يصدقون به ويؤمنون إيمانا كاملا به «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» قرىء بالنصب على الاختصاص أو المدح وبالرفع عطف على المؤمنين «وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» بالرفع عطفا على المؤمنين أيضا «وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات «سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً» في الآخرة لا تقدر قدره عقولهم ، لأنه فوق ما يتصورون مكافأة لإيمانهم هذا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قال تعالى «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام ، ونظير هذه الآية الآية 112 من سورة الشورى في ج 2 ، ولم يذكر اللّه تعالى موسى عليه السلام ، لأنه أعطي التوراة جملة واحدة والذين ذكرهم من الأنبياء لم تنزل عليهم كتبهم دفعة واحدة كمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين ، ولذلك ذكرهم في معرض سؤالهم السابق «وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» (163) «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» نزول هذه السورة «وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» بعد وهم كثيرون.
سأل أبو ذر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الأنبياء ، فقال مئة الف وأربعة وعشرون الفا ، قال كم الرسل منهم ؟ قال ثلاثمائة وثلاثة عشر أولهم آدم وآخرهم محمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ، منهم العرب الأقدمون أربعة هود وصالح وشعيب وإسماعيل ، إذ تعلم العربية من جرهم ، وقد أرسل إليهم وخاتمهم محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية 84 من سورة الأنعام ج 2 «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» (164) وجعلناهم كلهم أنبياء لأنفسهم وجعلنا منهم «رُسُلًا(5/626)
ج 5 ، ص : 627
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»
فلا يقولون ما جاءنا من رسول يا ربنا يرشدنا.
ولو لا أرسلت إلينا رسولا يأمرنا وينهانا لأطعناه ، وقد تكرر قولهم هذا في القرآن عند كل مناسبة ، فكان إرسالهم قطعا لمعذرتهم هذه «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (165) بإرسال الرسل وإنزال الكتب لقطع حجج الخلق.
ولما قال مسكين بن عدي بن زيد ما نعلم أن اللّه أنزل على بشر من شيء بعد موسى فكيف تدعي يا محمد إنزال القرآن عليك من قبل اللّه أنزل اللّه هذه الآية وأعقبها بقوله «لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل من القرآن ، لأنه «أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ» لك على ذلك «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (166) عن خلقه أجمعين.
ونظير هذه الآية الآية 92 من سورة الأنعام المارة في ج 2 من حيث المعنى ونظير الآية قبلها الآية 65 من سورة المؤمن ونظير الآية قبلها الآية 2 ، من سورة الأنعام من حيث تعداد الرسل في ج 2 أيضا قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» بإلقاء الشبهات للناس حتى منعوهم عن الإيمان «قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً» (167) عن طريق الهدى إلى غياهب الجهل وزادوا على ضلالهم إضلال غيرهم ، ونظير هذه الآية الآية 87.
من سورة النحل في ج 2 «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا» غيرهم بسوقهم إلى الكفر «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ» ولا يهيء لهم بابا إلى المغفرة ، لأنّهم عضدوا الكفر بالظلم ، ولهذا قال تعالى «وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً» (168) إلى النجاة «إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ» المؤدي بهم إلى عذابها «خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (169) سهلا لا صارف لهم عنه ، وهذا تحقير لأمرهم ، وبيان بأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي ، ثم خاطب تعالى العقلاء كافة بصورة عامة تشمل المؤمنين وأهل الكتابين والمنافقين والكافرين أجمع بقوله جل قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ» محمد صلّى اللّه عليه وسلم لأنه المعهود الموجه إليه هذا الخطاب والمقصود به هو دون غيره مجيبا متلبسا «بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا» به وانقادوا لأمره وصدقوه بما جاءكم يكون «خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا» به وتجحدوه وتنكروا ما جاءكم به من(5/627)
ج 5 ، ص : 628
البينات «فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا
وعبيدا وفيهما من غيركم من يؤمن به ويصدق ما جاء به وهو غني عنكم «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بمن يهديه ويؤمن به ويصدق رسوله «حَكِيماً» (170) بمن يضله ويعميه عن رؤية الحق وسلوك سبيله
ولما قالت طائفتا اليعقوبية والملكاتية من النصارى أن عيسى هو اللّه وقالت النسطورية هو ابن اللّه ، وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة ، وقالت فرقة أخرى هو جوهر واحد عبارة عن ثلاثة أقانيم الآب والابن وروح القدس.
واعلم أن الأقنوم كلمة رومية معناها هو أن الإله في زعمهم مركب من ثلاثة أصول ، ويريدون باقنوم الأب الذات ، وأقنوم الابن عيسى ، وأقنوم روح القدس الحياة الحالة فيه وإن له عليه السلام طبعتين ناسوتية من قبيل أمه نسبة للناس ولا هويته من قبل أبيه نسبة للإله ، تعالى اللّه عن ذلك ، والذي دسّ هذا في دين النصارى رجل يهودي اسمه بولص تنصّر وألف الإنجيل ونسبه كله إلى سيدنا عيسى بقصد إضلال النصارى عن دينهم الحق قبل البعثة المحمدية.
ولهذا البحث صلة ضافية في الآية 72 من سورة المائدة والآية 31 من سورة التوبة الآتيتين فراجعهما تجد فيهما ما ينشرح صدرك إن شاء اللّه ، فأنزل اللّه ردا لهذه الأقوال الواهية قوله «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» وتتجاوزوا حده فتدخلوا فيه ما ليس منه ، وبالعكس فتحطوه عن منزلته وتنقصوا قدره بنسبة ما ليس منه إليه افتراء على اللّه وبهتا على رسوله ، واحذروا أن تتبعوا أهواء أنفسكم فيه «وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» الذي أنزله إليكم وهو «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ» ليس بإله ولا بابن للاله ولا ثالث ثلاثة ولا أقنوما «وَكَلِمَتُهُ» التي هي لفظ كن بشرا من مريم بغير أب ولا واسطة ، وهذه الكلمة هي التي «أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» بواسطة أمينه جبريل عليه السلام «وَرُوحٌ مِنْهُ» كسائر الأرواح المخلوقة بخلقه ، وإنما أضافه لنفسه الكريم تكريما له وتشريفا لشأنه كما يقال بيت اللّه وناقة اللّه ، لأن اللّه خلق جميع الأرواح وجعلها في صلب آدم وأمسك روح عيسى عنده ثم أرسلها عند إرادته خلقه وابرازه هاديا لعباده مع جبريل فنفخها في جيب درع مريم العذراء الطاهرة الزكية ، فحملت به وولدته(5/628)
ج 5 ، ص : 629
كما تلد النساء بشرا سويا كريما شريفا زكيا ، كما مر في الآية 16 فما بعدها من سورة مريم في ج 1 والآية 46 فما بعدها من آل عمران المارة ، وروحه روح طاهرة مقدسة عالية ، روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من شهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله اللّه الجنة على ما كان له من العمل.
ثم دعا خلقه لما به فلاحهم ونجاحهم فأمرهم بقوله «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» كلهم ولا تفرقوا بين أحد منهم «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ» كما يقوله بعض النصارى «انْتَهُوا» أيها النصارى كلكم نهيا قطعيا بتا عن هذه المقالة يكون «خَيْراً لَكُمْ» لأنها كلمة كفر وشرك منزه عنها جلال اللّه «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ» فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكافئه أحد ، ليس بأقانيم ثلاثة ولا حلّت ذاته في أحد من خلقه ، تعالت ذاته وتقدست وتنزهت عن ذلك «سُبْحانَهُ» وهو المبرأ من «أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ» أو يكون والدا لأحد «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» يتصرف فيهما ومن فيهما كيف يشاء ، ومن كان كذلك لا يعقل أن تكون له زوجة أو يكون له ولد أو معاون أو شريك ، فهو المنفرد في ملكه وخلقه الوكيل عليهم وحده «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (171) في تدبير خلقه وملكه ويحتاج إليه كل خلقه ناميه وجامده ، وهو غني عنهم.
واعلموا أيها الناس أنهَ نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ»
بل يتشرف بعبوديته كسائر إخوانه الأنبياء.
نزلت هذه الآية حينما قالت النصارى يا محمد إنك تعيب صاحبنا فنقول عبد اللّه وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويمشي على الماء وله خوارق يعجز عنها البشر! يريدون أن من كان من خلق اللّه وقد شرفه بتلك المعجزات وخصه بتلك الكرامات عار عليه اسم العبودية.
كلا أيها النصارى ليست بعار ، وإنما هي شرف له ، وهو نفسه لا يأنف منها ولا يتعظم على ربه لا هو ولا غيره ، َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»
مثل جبريل واسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش والكروبيين وغيرهم ، فكلهم يتشرفون بصفة العبودية له جل
جلاله.
هذا ولا دليل في هذه الآية لمن يقول(5/629)
ج 5 ، ص : 630
بتفضيل الملائكة على البشر أجمع ، لأن اللّه تعالى ترقى بكلامه العظيم البالغ من جنس البشر إلى جنس الملائكة ، ولم يقل هذا رفعا لمقام الملائكة على البشر ، بل هو ردّ على من يقول إن الملائكة بنات اللّه ، أو أنهم آلهة ، كما ردّ على النصارى قولهم أن المسيح بن اللّه ، وهو رد أيضا على النصارى لأنهم يقولون بتفضيل الملائكة والمراد في هذه الآية هو أنه كما أن المسيح عبد اللّه فالملائكة عبيده أيضا ، ويتشرفون بنسبة عبوديتهم لعزتهَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ»
يا ويله من يوم الحساب يوم يبعثهمَ سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً»
(172) ويجازيهم في ذلك اليوم الذي لا يملكون لأنفسهم فيه نفعا ، ويعذبهم بالحسرة والغم عند ما يرون ما يناله عباده المطيعون الخاضعون.
وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى ، ألا فليحذر المخالفون.
قال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة لا يقدر قدرها غيره «وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا» عن عبادته «فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً» لا تطيقه أجسادهم ولا تتصوره عقولهم ولا يخطر كنهه على بالهم ولا يقيهم منه شيء بدا «وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (173) يتولاهم أو يدفع عنهم شيئا من عقابهم.
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ» هو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب ليبرهن على وحدانيتنا وإبطال الشرك والتثليث ونفي الولد والصاحبة بآيات مبينات تشرح قلب المؤمن بالتصديق وتبهر المنكر بالإعجاز بما أعطيناه من المعجزات الباهرات ، ولهذا سماه اللّه برهانا لأن البرهان دليل على إقامة الحق وإبطال الباطل وهو كذلك ، لأن اللّه جعله حجة قاطعة لإعذار جميع الخلق «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ» أيها الناس مع ذلك البرهان الجليل «نُوراً مُبِيناً» (174) قرآنا ظاهرا تبينت فيه الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور ، وقد سماه نورا لأن المتحير يستضيء به فيزيل حيرته ، ولأنه سبب لوقوع نور الإيمان بالقلب الذي هو أعظم الأنوار وأكرم مضغة في الجسد وهو منبع الهداية ومعدن الرشد.
قال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ» عن كل خلقه فعبدوه وحده «فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ(5/630)
ج 5 ، ص : 631
مِنْهُ وَفَضْلٍ»
لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر شيء عظيم من رب عظيم «وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (175) يسددهم إلى سلوك منهج النعم عليهم ويرشدهم لدينه الذي ارتضاه لهم.
قال تعالى «يَسْتَفْتُونَكَ» يا سيد الرسل في نوع آخر في الميراث ، وهنا حذف المستفتى عنه اغتناء بالجواب المنبئ عنه المبين بقوله عز قوله يا سيد الرسل «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» تقدم معناها في الآية 11 المارة وقد بينها اللّه بقوله «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» ولا والد ولا حفيد ولا جد «وَلَهُ أُخْتٌ» من أبيه أو شقيقته «فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ» فرضا والنصف الآخر يكون لها ردا عند أبي حنيفة لعدم وجود عصبة لها ، وهو كذلك عند عامة أهل العراق ، وعند الشافعي يكون لبيت المال ، وإذا كان معها بنت كان النصف الآخر للبنت فرضا والنصف العائد لها تأخذه بطريق التعصيب ، لأن الأخوات يكنّ مع البنات عصبة ، ويسمى هذا التعصب عصبة بغيره ، أما الإخوة فهم عصبة بأنفسهم «وَهُوَ» أي الهالك لو هلكت أخته قبله «يَرِثُها» فيأخذ كل مالها «إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ» والأخ الشقيق أو الأب سواء ، أما الأخ لأم فقد تقدم حكمه في الآية 12 المارة وهو بأنه يأخذ السدس إذا كان واحدا ، والثلث إذا كانوا أكثر ذكورهم وأناثهم سواء فيه.
أما الأخ الشقيق أو لأب فإنه يأخذ كل المال في مثل هذه المسألة ، أما الأخ أو الإخوة لأم فما يفضل عن سهامهم يعود لبيت المال إذا لم يكن للميت عصبة أو أرحام غيرهم ، وإن كان للهالكة ولد فإنه يأخذ جميع المال وحده في مسألة كهذه ، وكذلك إذا كان لها أب فقط فيأخذ المال كله.
«فَإِنْ كانَتَا» الأخوات «اثْنَتَيْنِ» فأكثر وكانتا لأب أو لأبوين «فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ» أخوهما والباقي لعصبته إذا كان هناك عصبة من عم أو ابنه أو ابن أخ ، وإلّا فيأخذان الباقي بطريق الردّ «وَإِنْ كانُوا» أي الوارثون «إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ» من الميراث حظ «مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» كما تقدم في الآية 10 المارة «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ» أيها الناس هذه الأحكام لتعملوا بها خشية «أَنْ تَضِلُّوا» طريق الصواب ومخافة أن تزيغوا
عن هذه الأحكام فتكونوا(5/631)
ج 5 ، ص : 632
ضلالا لا تعرفون حقكم من حق غيركم فتأكلوه حراما أو تضيعوه حلالا.
فتعلموا هذا وأتقنوه واعملوا به «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (176) واتقوا اللّه ويعلمكم واسترشدوه واجعلوا سركم كعلانيتكم ، فإن علمه محيط بكم لا يخفى عليه شيء من أمركم روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللّه قال مرضت فأتاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر يعودانني ماشيين فأغمي عليّ فتوضأ النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم صبّ علي من وضوئه.
فأفقت فإذا النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقلت يا رسول اللّه كيف أصنع في مالي كيف أقضي في مالي ؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت هذه الآية.
وفي رواية قلت يا رسول اللّه إنما يرثني كلالة ، فنزلت.
وفي رواية الترمذي كان لي تسع أخوات فنزلت.
ولأبي ذرّ قال اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل النبي صلّى اللّه عليه وسلم فنفخ في وجهي فأفقت ، فقلت يا رسول اللّه ألا أوصي لأخواتي بالثلثين ؟ قال أحسن ، قلت بالشطر ؟
قال أحسن : ثم خرج وتركني ، فقال يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا ، وإن اللّه قد أنزل فبين الذي لأخواتك ، فجعل لهن الثلثين.
وقد مر أن الوصية بالثلث كثير راجع الآية 18 المارة والآية 182 من سورة البقرة المارة.
قال فكان جابر يقول في أنزلت هذه الآية وهنا معجزة لحضرة الرسول ، لأن جابر المذكور لم يمت في مرضه ذلك كما أخبره صلى اللّه عليه وسلم وهو في حالة غلب على ظنّه الوفاة فيها ، ولذلك سأل حضرة الرسول عما يوصي به لأخواته.
هذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين.(5/632)
ج 5 ، ص : 633
فهرست القسم الأول من الجزء الثالث
صفحة : الموضوع 3 تفسير سورة البقرة 6 مطلب في الإيمان يزيد وينقص وحال المنافقين وفضيحة شيء من مثالبهم 11 المثل ولما ذا يضرب وما هو الرعد والبرق ومن أين يحصلان وضمير مثله في الآية 23 16 ثمار الجنة ونساؤها وأهلها وعهد اللّه الذي أخذه على خلقه ولما ذا ضرب اللّه المثل في البعوضة 21 المخترعات الحديثة وبحث في التحليل والتحريم وفي خلق الإنس والجن ومغزى اعتراضهم على خلق آدم 26 تفضيل الرسل على الملائكة وامتناع إبليس عن السجود وكونه من الجن لا من الملائكة 29 إغواء إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة واهباطهما الأرض وإسكانهما فيها 33 العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وفي العلماء والخطباء والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل صفحة الموضوع 40 خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف من النيل وانجاؤهم وإغراق آل فرعون والميقات الأول لموسى عليه السلام 42 في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني 45 التيه والمن والسلوى ومخالفتهم أمر اللّه ثانيا 48 في رفع الطور على بني إسرائيل وتهديدهم بإسقاطه عليهم ان لم يفعلوا ما أمروا به وكيفية مسخهم قردة وخنازير 50 ما قاله الإمام المراغي في قضية المسخ وقصة البقرة واحياء الميت 54 مثالب بني إسرائيل وتحريفهم كلام اللّه ونقضهم عهوده 61 حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن صوريا وعمر ابن الخطاب وقوة إيمانه رضي اللّه عنه(5/633)
ج 5 ، ص : 634
صفحة الموضوع 64 في السحر وهاروت وماروت والحكم الشرعي في السحر والساحر وتعلمه وتعليمه والعمل به وكونه من السبع الموبقات 69 في النسخ وأسبابه وان لا يكون إلا بمثله أو خير منه 73 الاختلاف في نزول الآية 108 وتفنيد الأقوال فيها ومجهولية الفاعل 76 مناظرة اليهود والنصارى ولغز في ذلك 82 ابتلاء ابراهيم والكلمات التي علمها له اللّه وبناء الكعبة وما يتعلق بذلك 87 وصية يعقوب وقصة إسماعيل عليهما السلام 89 بناء البيت وحدوده وتحريمه واحترام ما فيه وبدء بنائه 92 كيفية الإيمان والإسلام والمعمودية ومن سنتها وتحويل القبلة وان الشهادة قد تكون بلا مشاهدة ومنها شهادة خزيمة 102 آيات الصفات والشكر على النعم والذكر منفردا ومع الجماعة وثواب الشهيد وحياته ومن هو 104 الصبر وثوابه وما يقوله المصاب عند المصيبة صفحة الموضوع 107 في السعي وأدلته السمعية والحكم الشرعي فيه وكتم العلم عن أهله 111 الدلائل العشر المحتوية عليها الآية 164 116 في الأكل وأحكامه وأكل الميتة والدم وغيرهما من المحرمات 119 أنواع البر والقصاص وما يتعلق بهما 124 في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الموصي والموصى له والوصي 127 في الصوم وفرضيته والأعذار الموجبة للفطر والكفارة التي على المفطر واثبات الهلال والكتب السماوية المنزلة 134 الدعاء وشروطه والجمع بين معاني الآيات الثلاث الواردة فيه وشروط الإجابة ومتى يمسك الصائم ويفطر 140 أخذ أموال الناس بالباطل وان القضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وآية القتال الأولى 147 جواز المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل اللّه ومعنى التهلكة التي حذر اللّه تعالى عنها(5/634)
ج 5 ، ص : 635
صفحة الموضوع 151 الحج والمحافظة على الآداب فيه ولزوم تقوى اللّه فيه وجواز البيع والشراء في الموسم وادامة ذكر اللّه تعالى 159 مقتل زيد بن الدثنة وحبيب الأنصاري واظهار الحب لحضرة الرسول والصلاة عن القتلى وقصة صهيب 162 لا يصح نزول هذه الآية 218 في عبد اللّه بن سلام وبحث قيم في آيات الصفات وان المزين في الحقيقة هو اللّه تعالى 166 عدد الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم وعدد الكتب والمذكور من الرسل في القرآن وعدد الصحف المنزلة 169 في الإنفاق والجهاد وفوائدهما وما يترتب على القعود عنهما من البلاء وقتل الحضرمي وأمر النبي رسله بعدم فتح الكتاب المعطى لهم 175 في الخمر والميسر ومخالطة الأيتام والنظر إليهم وبحث في النفقة وما يتعلق بها وحفظ بيت المال صفحة الموضوع 181 في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وحرمة الإتيان في الدبر وما على فاعله
من العقاب 185 في الأيمان وكفارتها والإيلاء والطلاق والعدة وكلمات من الأضداد وما يتعلق بحقوق الزوجات 193 كراهية الطلاق وجواز الخلع على مال وحرمة اخذه ان كان لا يريدها ووقوع الطلاق الثلاث وكيفيته 197 في الرضاع ومدته وعدة الوفاة والطلاق وما يجب فيهما ونفقة الأولاد والمعتدات وتنفيذ وصية الميت فيها 208 قصة ذي الكفل ونادرة السلطان عليم وقصة اشمويل عليه السلام وأجر القتال في سبيل اللّه والنفقة فيه 213 في التابوت وسيرهم للجهاد لقتل جالوت ومخالفتهم وصية نبيهم في الشرب وتولية داود عليه السلام 221 التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطاؤه صلّى اللّه عليه وسلم مثل معجزاتهم كلهم(5/635)
ج 5 ، ص : 636
صفحة الموضوع 224 عظمة العرش والكرسي وأفضل آية في القرآن والأحاديث الواردة في ذلك وعدم الإكراه في الدين 228 محاججة النمروذ مع ابراهيم عليه السلام وقصة عزير وسؤال ابراهيم ربه عن كيفية احياء الموتى وجوابه عنها 234 الصدقة الخالصة والمشوبة بالمن والأذى وما يتعلق بهما وبيان ما يثاب عليه منها وما لا 240 أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والأمثال فيها والحكم الشرعي في الزكاة والنذر وما يتعلق بهما 245 الهداية من اللّه وفضل إخفاء وإعلان الصدقة وحرمة الربى وما يتعلق فيه والحكم الشرعي بذلك 256 فائدة إنظار المعسر وتحذير الموسر من المماطلة وأجر المعافي عن الدين للمعسر والتوبة عن الربى وآخر آية نزلت فيه 259 الكتابة والشهادة على الدين وتحذير الكاتب والشاهد من الإضرار بأحد المتعاقدين وحجر القصر ومن هو بحكمه صفحة الموضوع 266 المحاسبة غير المعاقبة ومعنى الخطا والنسيان والهم والطاقة والعزم والإصرار وما يتعلق بها 270 سورة الأنفال 171 الأنفال ومن الذي يستحقها وبحث في زيادة الايمان ونقصه وقصة بدر ورؤيا عاتكة وتعهد الشيطان 284 وجوب الاستجابة لدعوة اللّه ورسوله وفي آيات الصفات وعموم البلاء عند سكوت أهل الحل والعقد 286 ما عد جناية على سفير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والآيات المكية النازلة بالهجرة وعلى أي صورة نسخ القرآن العظيم 292 كيفية تقسيم الغنائم وصلاحية الوفر فيها ولزوم ذكر اللّه عند اللقاء والتمسك بأصول الدين ليحق لهم النصر من اللّه تعالى 298 الأشياء الموجودة غير المرئية وتصور الشيطان بصورة البشر والمحبة الخالصة الصادقة(5/636)
ج 5 ، ص : 637
صفحة الموضوع 306 جواز طلب الصلح من العدو وبحث في النسخ وجواز أخذ الفدية وعتاب اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم على أخذها 315 تفسير سورة آل عمران 316 وقد نجران ومناظرته مع حضرة الرسول وبيان المحكم والمتشابه في القرآن العظيم 323 آيات اللّه في واقعة بدر ومأخذ القياس في الأحكام الشرعية وان اللّه خلق الملاذ لعباده ليشكروه عليها ويعبدوه 330 معنى الحساب وعلامة رضى اللّه على خلقه وموالاة الكفرة وتهديد من بواليهم أو يحبهم 334 من معجزات القرآن رؤية الأعمال في الآخرة كالسينما.
وفي طاعة اللّه ورسوله وغيرهما مما لا يقبل أحدهما إلا مع الأخرى وضرب الأمثال بمثلها 337 ولادة مريم من حنه ويحيى من زكريا وايشاع وبعثتهما وما يتعلق فيهما 340 في اصطفاء مريم ومن كمل من النساء وما احتوت عليه هذه الآيات وما يتعلق بها صفحة الموضوع 344 معجزات عيسى وقصة رفعه إلى السماء وماذا عمل حواريه من بعده 350 المباهلة ومصالحة الرسول وفد نجران وحكاية أسير الروم 358 الحلف الكاذب والمان بما يعطي والمسبل إزاره وخلف الوعد ونقض العهد 364 في وقت قبول التوبة وعدم قبولها ومعنى البر والإثم والتصدق بالطيب والوقف الذري وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان 369 البيت الحرام وبيت المقدس ومتى يفرض الحج على الإنسان ويسقط عنه وتاريخ فرضه وفي الزكاة والصوم والصلاة 373 فتن اليهود والقائها بين المسلمين وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول وألفتهم معه 380 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفرقة والاجتماع وكون هذه الأمة خير الأمم ومعنى كان واكتساب التذكير والتأنيث(5/637)
ج 5 ، ص : 638
صفحة الموضوع 389 خصال اليهود والمنافقين ورؤية حضرة الرسول وقعة أحد وما وقع فيها من المخالفات والمعجزات 394 من اسى قديم إلى حزن حادث والربى ومفاسده وكون
الجنة والنار مخلوقتين والحكم في الأوراق النقدية بدل العملة 405 التقوى وكظم الغيظ والعفو والإحسان ومكارم الأخلاق والآداب ولزوم البر من قدامهما.
410 الأيام بين الناس دول ووجود الشخص في الجهاد لا يقرب أجله وكذب المنافقين واللغات التي تجوز في (كأيّن) 418 المقتول ميت بأجله والعبادة ثلاثة ثلاثة أنواع وبحث في الشورى ومن يشاور ومن لا يشاور وخطبة أبي طالب 425 حياة الشهداء وخلق الجنة والنار أيضا وقعة أهل بئر معونه وما قال سعيد الخزاعي 429 غزوة حمراه الأسد وبدر الصغرى وأحاديث في فضل الجهاد والرباط صفحة الموضوع 434 في الزكاة وتحذير العلماء وحقيقة الفسق 442 اخبار اللّه رسوله بما يقع على المؤمنين وقتل كعب بن الأشرف وفي الاعتبار والتفكر والذكر وصلاة المريض 450 دفع النجاشي مع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ووفد قريش ومأخذ قانول عدم تسليم المجرمين السياسيين والصلاة على الغائب.
453 تفسير سورة الأحزاب 464 غزوة الخندق وهزيمة الأحزاب بما سلط اللّه عليهم من غضبه وجنوده 468 لا يسمى كلام اللّه ورسوله شعرا لعدم قصده وفقد شروطه وقصة بني قريظة وتجهيز المرأة ونساء الرسول وتبرج النساء 478 زواج حضرة الرسول بمطلقة زيد وحكم الطلاق قبل الدخول وكون سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين 485 منع النبي من الزواج والطلاق وجواز رؤية المخطوبة وفي تسعة مواضع تجوز رؤية المرأة وما حدث في زماننا(5/638)
ج 5 ، ص : 639
صفحة الموضوع 491 كيفية الصلاة على النبي وجواز إطلاقها على غيره وبيان الذين لعنهم اللّه ومن يؤذي أولياء اللّه 493 تغطية وجه المرأة والنهي عن نقل القول وما اتهم به موسى عليه السلام من قبل بني إسرائيل وبحث في الأمانة وما يتعلق بها 499 تفسير سورة الممتحنة 500 الإخبار بالغيب وكتاب حاطب لأهل مكة ونصيحة اللّه للمؤمنين في ذلك 505 عهد الحديبية وبحث في النسخ ونص المعاهدة وما وقع فيها من المعجزات 514 تفسير سورة النساء 516 مبايعة النساء ومن آثار الجاهلية الباقية النياحة في القرآن وغيرها ومن أخلاقهم وفوائد السلطان وأكل مال اليتيم 520 في الوصايا وأموال الأيتام وما يرخص منها للمحتاج 529 حد الزنى واللواطة وأصول التشريع والمراد بالنسخ وإيمان اليأس والتوبة صفحة الموضوع 533 حرمة عد النساء ميراثا وحرمة الترداد المهر والأمر بحسن معاشرة النساء وأن الرجوع إلى الحق فضيلة 536 المحرمات من النساء ونكاح المتعة والأمة والتفاضل بين الناس 546 أكل المال بالباطل والبيع بالتراضي وقاتل نفسه وكبائر الذنوب 550 تفضيل الرجل على المرأة والنهي عن مقاطعتها لزوجها وأمر تأديبهن منوط برجالهن 554 أجمع آية في القرآن لمصارف الصدقة وحق القرابة والجوار وذم البخل 558 الآية الثالثة في الخمر وآية التحريم والأصول الخمسة في علم المنطق وعدم اعتبار ردة السكران وطلاقه 562 طبائع اليهود وإسلام عبد اللّه بن سلام وأصحابه وغفران ما دون الشرك والذين لعنهم اللّه تعالى ومخالفة بعض اليهود لقريش 567 توصية اللّه الحكام بالعدل ومحافظة الأمانة والأحاديث الواردة فيها وتواصي الأصحاب في ذلك(5/639)
ج 5 ، ص : 640
صفحة الموضوع 570 معنى زعم ، وقصة بشر واليهودي والتردد في امتثال أمر الرسول 575 أعمال أبو نصير وفتح خيبر وفدك وظهور خير صلح الحديبية وما وقع بعدها من الخير 580 في قوله تعالى «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وكيفية حال المنافقين مع حضرة الرسول وكون كلام اللّه لا يضاهيه كلام خلقه : محمد صلّى اللّه عليه وسلم فمن سواه 585 أمر حضرة الرسول بالقتال والآيات المبشرة إلى واقعة أحد وبدر الصغرى والشفاعة والرجاء ومشروعية السلام ورده 591 فيمن يقتل ومن لا يقتل ومن تلزمه الكفارة بالقتل ومن لا وما هو الذي يلزم به القاتل وأنواع القتل صفحة الموضوع 600 قصر الصلاة وكيفيتها وهل هو مقيد بالخوف أم لا ومدتها وقصة سرقة طعيمة بين أبيرق وجواز الكذب أحيانا 607 غفران ما دون الشرك أيضا وتوبة الشيخ على يد رسول اللّه 611 في إرث النساء والقسم بين الزوجات وجواز الفداء ووجوب العدل 617 في التهكم والنهي عن مجالسة الغواة وأفعال المنافقين وأقوال اليهود الباطلة والمراد بالكتاب في الآية 140 624 في عدم تيقن اليهود بأن عيسى هو المطلوب وآية الربى الرابعة وفرق النصارى ومعنى الأقانيم الثلاث الآب والابن وروح القدس.
4830(5/640)
ج 6 ، ص : 3
[الجزء السادس ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تفسير سورة الزلزلة
عدد 7 - 93 - 98
نزلت بالمدينة بعد النّساء ، وهي ثماني آيات ، وخمس وثلاثون كلمة ، ومئة وتسعة وأربعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، ومثلها في عدد الآي سورة الانشراح والتين والتكاثر ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ، ويوجد سورة المنافقين والفتح في القسم المدني مبدوءة بما بدئت به وأيضا في المكي الانشقاق والانفطار والتكوير.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» (1) أي تحركت ومادت في مكانها واضطربت اضطرابا شديدا ، وذلك عند قيام السّاعة إذ ينخلع كلّ ما عليها من جبل وشجر وبناء ويسوى فيما نخفض منها من وديان ومغاور وبحور وأنهار وعيون وحفر وغيرها «وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» (2) مما دفن فيها من الموتى للبعث والحساب ، ومن قال إن هذه الزلزلة في الدّنيا أول معنى أثقالها بكنوزها الدّفينة فيها ، ولكنه ليس بشيء لأن الآيات بعدها ينفين هذا المعنى ويثبتن ما جرينا عليه ، أما استدلال هذا القائل بما رواه أبو هريرة من أن النّبي صلى اللّه عليه وسلم قال تقيء الأرض أفلاذ كبدها (جمع فلذة القطعة المستطيلة وقد شبه ما يخرج منها باقطاع كبدها لاستتار الكبد بالجوف واستعار القيء للاخراج بجامع الظّهور في كل) أمثال الاسطوانة من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السّارق فيقول في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا.
أخرجه مسلم ، لا يؤيد قوله هذا ، لأن ما ذكر فيه يكون آخر الزمان قبل النّفخة الأولى بكثير أي بعد نزول عيسى عليه السّلام ، إذ جاء في الخبر أنه إذ ذاك يفيض المال فلا(6/3)
ج 6 ، ص : 4
يقبله أحد لغناه عنه.
ومما يؤيد ما ذكرناه بان المراد الزلزلة الأخيرة عند الصّيحة الثانية للبعث قوله تعالى «وَقالَ الْإِنْسانُ» مبتهرا مما رأى «ما لَها» (3) ما بال هذه الأرض أي شيء حدا بها حتى تحركت هذه الحركة العظيمة وقذفت ما في بطنها من هذه الأجساد ، والقائل المستفهم هو الكافر على حد قوله تعالى (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) الآية 52 من سورة يس في ج 1 ، لأنه لا يؤمن بالبعث ، ويقول المؤمن عند ذلك (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) تتمة الآية 52 منها أيضا جوابا لذلك المنكر القائل من بعثنا ، وعلى قول القائل انها في الدّنيا يكون القول والاستفهام من المؤمن والكافر ، وتكون الزلزلة من أشراط السّاعة ، لا أنهم لا يعلمون ما هي فيتساءلون عنها والأوّل أولى ، ويؤكده قوله تعالى «يَوْمَئِذٍ» يوم تقع هذه الزلزلة لأن التنوين هنا للعوض والمعوض يكون عن جملة كما هنا ، ويكون عن كلمة وعن حرف في مواضع أخرى «تُحَدِّثُ» الخلائق «أَخْبارَها» (4) بما عملت في الدّنيا على ظهرها من خير أو شر فضلا عن أن أحدا لا يقدر أن ينكر شيئا فعله لعظيم ما يلحقه من الخوف والفزع فيتذكر كلّ شيء فعله بزمانه ومكانه ، إذ يخلق اللّه تعالى عند إنكار العبد ما فعله قوة في أعضائه فتشهد كلّ منها بما وقع منها على أصحابها ، كما يخلق هذه القوة في الأوثان أيضا تشهد على عابديها قال أبو هريرة قرأ صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية فقال أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال إن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل فلان يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فهذه أخبارها أخرجه الترمذي ، وقد خلق اللّه فيها النّطق مع أنها جماد راجع الآية 30 من آل عمران المارة ، إذ تمثل فيها الأعمال الدّنيوية كما وقعت ، والأقوال أيضا ، وذلك «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» (5) بذلك فاستجابت لأمره وتكلمت ، وذلك أن
اللّه تعالى يخلق فيها الحياة والعقل والنّطق لتخبر بما أمرت به ، لأن ضمير تحدث يعود إليها ، وعلى هذا أهل السّنة والجماعة «يَوْمَئِذٍ» يوم تحدث الأرض النّاس أخبارها بما فعلوا عليها «يَصْدُرُ النَّاسُ» بعد قيامهم من قبورهم وذهابهم للعرض على ربهم لإجراء حسابهم على أعمالهم يذهبون «أَشْتاتاً» متفرقين منهم من يؤخذ به ذات اليمين(6/4)
ج 6 ، ص : 5
إلى الجنّة ، ومنهم من يذهب به ذات الشّمال إلى النّار وذلك عند قوله تعالى ، (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 60 من سورة يس في ج 1 أيضا أي افترقوا عن المؤمنين ، وإنما يأمر النّاس ربّهم بالصدور عن موقفهم «لِيُرَوْا» جزاء «أَعْمالَهُمْ» (6) التي فعلوها بالدنيا ، ولهذا يقول جل جلاله «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» في الدّنيا والذرة ما يلصق باليد من التراب النّاعم ، والهباء الذي يرى بين مشرق الشّمس من الكوة إلى أرض الدّار ، وتفسيرها بهذا أولى من تفسيرها بالنملة الصّغيرة ، لأنها ذرات كثيرة.
واعلموا أيها النّاس أن من يفعل قدر هذه الذرة الآن «خَيْراً يَرَهُ» (7) خيرا كثيرا مضاعفا في الآخرة ويعطيه اللّه أجرا كبيرا عليه لم يكن يحلم به ولم تخطر بباله عظمته «وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» في دنياه ولو أنه لم يلق إليها بالا ، لأن الذنب الصّغير إذا استصغره فاعله يكون عظيما وباله «شَرًّا يَرَهُ» (8) شرا مستطيرا في الآخرة ، وبمثله جزاؤه إذا لم يستحقره ، فعلى العاقل أن يستحقر ما يفعله من الخير ليعظم اللّه له أجره عليه ، وأن يستعظم ما يفعله من الشّر ليهون اللّه عليه وزره في الآخرة.
واعلم أن آخر هذه السّورة يؤيد ويؤكد ما جرينا عليه من أن المراد بالزلزلة هي زلزلة الآخرة ، أجارنا اللّه من أهوالها ، وآمننا من عذابها بحرمة سيد أنبيائه وجاهه على نفسه.
قال ابن مسعود أحكم آية في القرآن هذه الآية ، وسماها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجامعة.
قال الرّبيع بن هيثم مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة ، فلما بلغ آخرها قال حسبي اللّه قد انتهت الموعظة.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدّين.
تفسير سورة الحديد
عدد 8 - 94 - 57
نزلت بالمدينة بعد الزلزلة ، وهي تسع وعشرون آية ، وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة ، وألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، ومثلها في عدد الآي التكوير والفتح وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت فيه في سورة الأعلى ، والتي ختمت به في سورة الواقعة ج 1.(6/5)
ج 6 ، ص : 6
مطلب أنواع التسبيح والقرض الحسن وما نزل في أبي بكر رضي اللّه عنه والفتلة في طريقة المولوية والقرض الحسن :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 1 لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (2) تقدم تفسير مثلها غير مرة واعلم أن التسبيح أقسام : تسبيح العقلاء وهو تنزيه اللّه تعالى عن كلّ شيء ، وعما لا يليق بجنابه وجلاله ، وتسبيح النّاميات من ذوات الأرواح قولها بلغتها قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الآية 45 من سورة الإسراء ج 1 ، فالأول بلسان القال والثاني بلسان الحال ، والثالث بلسان الهيئة جلت عظمته ، وسيأتي لهذا البحث صلة أول سورة الجمعة الآتية فراجعه.
وهذا المسبح في كلّ لسان قالي أو حالي أو هيئتي «هُوَ الْأَوَّلُ» بلا ابتداء قبل كلّ شيء «وَالْآخِرُ» بلا انتهاء بعد كلّ شيء «وَالظَّاهِرُ» الذي لا يرى في الدّنيا لكمال ظهوره على كلّ شيء ، قال الأبوصيري رحمه اللّه :
واختفى منهم على قرب مرآه ومن شدة الظّهور الخفاء
«وَالْباطِنُ» في كلّ شيء ولا يدركه شيء «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (3) خفية وجلية جهره وسره كتمه وعلانيته ، روى مسلم عن سهل بن أبي صالح قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول اللهم رب السّموات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كلّ شيء ، أنت الأوّل فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدّين وأغننا من الفقر وهذا يروى عن أبي هريرة عن النّبي صلى اللّه عليه وسلم فيستحب لكل أحد قراءته عند النّوم وقراءة آية الكرسي والإخلاص لما فيهما من الحفظ والبركة.
قال تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» راجع الآية 4 من سورة طه في ج 1 والآية 7 من سورة يونس ج 2 تجد ما يتعلق في بحث العرش والآية 10 من سورة فصلت ج 2 أيضا في بحث الأيام السّتة(6/6)
ج 6 ، ص : 7
بصورة مفصلة «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» ويتغلغل فيها من البذور والجذور والقطر والثلج والموتى والكنوز «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النّبات والمعادن والسّوائل وغيرها «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النّبات والمعادن والسّوائل وغيرها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من الأمطار والصّواعق والخير والشّر والأمر والنّهي وغيرها «وَما يَعْرُجُ فِيها» من الملائكة ويصعد إليها من أعمال الخلق ودعواتهم «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» يكاؤكم ليل نهار صباح مساء أيقاظا ونياما «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (4) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم ونياتكم «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (5) كلها إن التكرار في جملة السّموات والأرض لكل منها مغزى غير الأوّل ومناسبة ومعنى ظاهرين لمن تدبر «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فيدخل أحدهما في الآخر تداخلا ظاهرا غير مرئي محسوسا غير مشهود كالهواء والقوة الكهربائية وحركة الظّل وفلكة المضخات والطّواحين وفلكة المغزل والمهواية حال دورانها وشبهها فإنها كلها موجودة غير مشاهدة «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (6) لا يخفى عليه شيء من دخائلها قال تعالى في 285 من البقرة المارة (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) فيا أيها النّاس «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» إيمانا خالصا «وَأَنْفِقُوا» في سبيله ابتغاء مرضاته «مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» من المال الذي هو بأيديكم لأنه مال اللّه ، وقد كان بيد غيركم فأهلكهم ونقله إليكم ، فأنتم الآن خلفاء اللّه عمن مضى من قبلكم ووكلاؤه على ما أودعه لديكم ، فأنفقوا على من بقي من أبناء جنسكم من عيال اللّه قبل أن يسلبه منكم لأنه مسلوب لا محالة كما قيل :
ويكفيك قول النّاس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان
وقول الآخر :
وما المال والأهلون إلّا وديعة ولا بد يوما أن ترد الودائع
وهذه الآية عامة كغيرها وما قيل إنها نزلت في غزوة ذي العشيرة أي غزوة تبوك فبعيد ، لأنها كانت سنة لتسع كما سيأتي بيانها في سورة التوبة إن شاء اللّه «فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» أيها النّاس إيمانا كاملا «وَأَنْفِقُوا» من أموالهم(6/7)
ج 6 ، ص : 8
لوجه اللّه على الفقراء والمساكين «لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ» أكبر من كلّ شيء عدا الإيمان الخالص «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» وتنفقون مما من به عليكم «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ» وتخلصوا له العبادة ، فأي عذر لكم في عدم إجابته «وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ» على الإيمان به ورسله وكتبه والبعث بعد الموت يوم قال (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ) واعترفتم له بذلك راجع الآية 171 من الأعراف في ج 1 ، فأوفوا أيها النّاس بعهدكم هذا ولا تنقضوا ميثاق ربكم «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (8) يوما ما لموجب ما فأحرى بكم أن تؤمنوا حالا إذ قامت الحجج على بعثة رسولكم محمد ووجوده كاف للايمان به وبربه ، فلا عذر لمن يريد الإيمان بعد بعثته لدليل آخر لأنه برهان لا مزيد عليه واعلموا أن اللّه الذي أرسله إليكم «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ» المشار إليه محمد «آياتٍ بَيِّناتٍ» من كلامه القديم الأزلي «لِيُخْرِجَكُمْ» بها إذا اتبعتموها «مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» من الكفر إلى الإيمان «وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (9) ولذلك يحب إيمانكم رأفة بكم لخلاصكم من النّار وإدخالكم الجنّة «وَما لَكُمْ» أيها النّاس وأي عذر يمنعكم «أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مما خولكم به من النّعم والحبوب والذهب والفضة دون حول منكم ولا قوة ، وأي شيء حدا بكم حتى بخلتم بالعفو من أموالكم على إخوانكم وأقاربكم وفقرائكم ولم تحصلوا على الثواب العظيم عند ربكم في آخرتكم والثناء الجزيل في الدّنيا من أمثالكم قبل أن تموتوا فتحرموا هذا الثناء والثواب ، لأنكم لا بد ميتون وتاركون أموالكم ميراثا لغيركم «وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما فيها لا يأخذ أحد منه شيئا واعلموا يا عباد اللّه أنه «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ» ومن لم ينفق كما لا يستوون عندكم
فلا يستوون عند اللّه بل بينهما بون شاسع «مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ» الظفر الأوّل الذي هو مبدأ الفتوحات وهو صلح الحديبية الذي رأى المسلمون فيه حيفا وميلا لما فيه من الشّروط المجحفة ولم يعلموا أن عاقبته خير وأن الانفجار لا يحصل إلّا من الضّيق وأن الفرج لا يكون غالبا إلّا بعد الشّدة واليسر بعد العسر ولذلك سماء اللّه فتحا وفيه بشارة إلى فتح مكة له صلى اللّه عليه وسلم وهو الفتح العظيم ، ولهذا قال(6/8)
ج 6 ، ص : 9
بعضهم إن هذه الآية تشير إلى فتح مكة اعلموا أنه لا يستوي منكم من قام بالإنفاق «وَقاتَلَ» قبله ممن أنفق وقاتل بعده إذ قد لا تكون حاجة ماسة بعد الفتح بسبب ما يفتحه اللّه عليهم من البلاد ويقيض عليهم من أبواب الرّزق وما يفيضه عليهم من المال بعد ذلك فلم يحتاجوا إليكم «أُولئِكَ» المقاتلون المنفقون حال الضّيق والشّدة والقلة والحاجة «أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا» بعد الظّفر وكثرة المسلمين والمال «وَكُلًّا» من الفريقين «وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى » المنزلة الحسنة التي لا أحسن منها وهي الجنّة ولكنها درجات متفاوتة بحسب الأعمال «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (10) نزلت هذه الآية في أبي بكر الصّديق لأنه أول من أسلم وأول من أنفق وأول من ذب عن رسول اللّه بنفسه وماله وأولها في حادثة الغار وآخرها في واقعة تبوك.
روى البغوي بإسناد التغلبي عن ابن عمر قال كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ، فنزل جبريل فقال مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال فقال أنفق ماله عليّ قبل الفتح ، قال فإن اللّه عز وجل يقول اقرأ عليه السّلام وقل له أرضا أنت عني في فقرك هذا أم ساخط يا أبا بكر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أبا بكر إن اللّه يقرؤك السّلام ويقول لك أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر أأسخط على ربي إني على ربي راض إني على ربي راض ، وهنا يقول المولوية إنه رضي اللّه عنه قام وفتل على رجل
واحدة فرحا بما سمعه عن ربه ولذلك جعلوا الفتلة بطريقتهم ولكن لم أقف على ما يؤيده.
قال تعالى «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» عن طيب نفس.
والمراد في هذا القرض الإنفاق في سبيل اللّه وسمي قرضا ليدل على التزام الجزاء «فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» (11) زيادة على المضاعفة والأجر الكريم المفضي لدخول صاحبه إلى دار الكرامة عند ربه مع الشّهداء والصّالحين.
وأعلم أن القرض لا يكون حسنا إلّا إذا جمع فيه أحد عشر خصلة 1 - أن يكون في المال الحلال 2 - أن يقرضه وهو محتاج إليه على حبه 3 - أن يكون للأحوج 4 - أن يكتمه ولا يتبعه بمن ولا أذى 5 - أن يقصد به وجه اللّه ابتغاء مرضاته 6 - أن(6/9)
ج 6 ، ص : 10
لا يرائي به النّاس ولا يقصد به السّمعة والصّيت 7 أن يستحقر ما يقرضه للّه مهما كان كثيرا بالنسبة لما أعده اللّه لما بمقابلته من الثواب 8 أن يكون من أحسن ماله لقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية 92 من آل عمران المارة 9 - أن لا يرى حين تصدق غنى لنفسه وذلا للفقير 10 - أن يكون عن طيب نفس ورغبة فيما أعده اللّه لمثله 11 - أن يحب أن يرزقه اللّه أكثر مما عنده لينفق أكثر مما أنفق 12 - على اللّه أن يتقبلها منه ويثيب عليها ثوابا مضاعفا.
واعلم أن الخلل الذي يحصل في الثلاثة الأوّل لا لعدم ثوابه بل لكونه يكون أقل أجرا لأن من أقرض من أحسن ماله أو أقرض وهو محتاج إليه أو أقرض غير الأحوج فله الجزاء الحسن عند اللّه أيضا لما فيه من قضاء حاجة المستقرض وهو المقصود من القرض قال تعالى أنظر أيها الإنسان «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» يوم القيامة «يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» على الصّراط المستقيم جزاء أعمالهم الحسنة وتقول لهم الملائكة «بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ» تدخلونها حال كونكم مكرمين «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» وتكونون أبدا «خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 12» في ذلك اليوم العظيم «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ» لهم من قبل الملائكة «ارْجِعُوا وَراءَكُمْ» لا تدنسوا للمؤمنين ارجعوا إلى الدّنيا واعملوا صالحا ليكون لكم مثل نورهم وهذا على سبيل الهتكم إذ لا سبيل إلى الرّجوع ارجعوا «فَالْتَمِسُوا نُوراً» لأنفسكم فيرجعون إلى الموقف وهو المحل الذي صاحب المؤمنين منه نورهم ليطلبوا مثله وعند وصولهم صد كلّ منهم «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ» وبين المؤمنين «بِسُورٍ» عظيم بدلالة التنكير فيه وهو لا أعظم منه في الآخرة كما يقولون الآن (سورماجينو) لا أعظم منه في الدّنيا وهو الذي عملته فرنسا وتحصنت به من أعدائها الألمان ، وقد بالغوا في تحصينه حتى اتكلوا عليه وهو مهما كان في القوة فلا يشبه أو يقاس بسور الآخرة ، لأن هذا قد يأتي يوم ينهار بنفسه أو بقوة الأعداء المحاربين لهم وهم الآن الألمان ولا ندري بعد ذلك من هم ، أما ذاك فلأنه من أعمال الآخرة وهي بما فيها باقية ثابتة ، وهذا(6/10)
ج 6 ، ص : 11
من أعمال الدّنيا وهي بما فيها فانية.
وهذا السّور العظيم «لَهُ بابٌ» عظيم بنسبة عظمه «باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ» الجنّة لأنها من رحمة اللّه «وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» (13) النّار لأنها من عذاب اللّه ، فلما رأى ذلك المنافقون صاروا «يُنادُونَهُمْ» أي المؤمنين يقولون لهم «أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» في الدّنيا «قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ» أيها المنافقون «فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ» فيها بالكفر «و تماديتم في الطّغيان وَتَرَبَّصْتُمْ» تأخرتم عن الإيمان والتوبة «وَارْتَبْتُمْ» في نبوة محمد وكتابه في هذا اليوم «وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ» الباطلة التي كنتم تنتظرونها أن تقع بالمؤمنين «حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» (14) الشيطان بخداعه حتى متم على ما كنتم عليه من النّفاق «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ» عن أنفسكم مثل الدّنيا إذ يجوز فيها الفداء عن النّفس بالمال ، لأن حالة الآخرة غير حالة الدّنيا ولا يقبل منكم الآن إيمان أيضا ولا توبة لفوات وقتهما «وَلا» يقبل أيضا فدية ولا توبة «مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ» أنتم أيها المنافقون والكافرون والمشركون «النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ» جميعا لأنكم في الكفر سواء ، وعذابكم مختلف ، المنافق أشد من الكافر ، والكافر أخف من المشرك ، فهي دركات متفاوتة كما أن الجنّة درجات يا لها من درجات متفاوتة أيضا ، يقول أهلها حينما يرى أولئك الخبثاء ادخلوها فهي مثواكم «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (15) النار لأهلها ، قال تعالى بعد هذا البيان لذي بينه من أحوال أهل الجنّة وأهل النّار «أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم «أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» المتلو عليهم فيؤمنوا إيمانا حقيقيا خالصا محضا تنشرّ به قلوبهم عن رغبة ويقين ، لأن الايمان إذا لم تخالط بشاسته الظّاهرة اعتقادا جازما وإيقانا
قلبيا لا يعتد به ولا ينفع به صاحبه لهذا يقول اللّه تعالى أما حان لهم أن يخشعوا لذكري «وَ» يخضعوا إلى «ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ» على رسولهم من قبلي بعد ما أرادوا من الآيات البينات الموجبة لخشوعهم وخضوعهم ، ألا فلينقادوا ويخبتوا
«وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ» إرسال الرّسول إليهم وإنزال الكتاب عليهم وهم اليهود والنّصارى الّذين سوّفوا وأسرفوا «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ» فيما بينهم وبين(6/11)
ج 6 ، ص : 12
أنبيائهم حتى زالت عنهم الرّوعة التي كانوا يجدونها عند سماع تلاوة كتابهم ، وقد خلت قلوبهم من الخشوع الذي كانوا يحسون به فاتبعوا الأهواء «فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» فلم يبق يؤثر فيها الوعظ ولا التذكير «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (16) متجاوزون حدود اللّه بسبب تلك القسوة التي ألبست قلوبهم فمنعتها من أن تخضع لسماع ذكر اللّه ، فيا أيها النّاس «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» كما أنه يحيي الإنسان والحيوان بعد الموت فلأن يحيي القلوب التي أماتتها القسوة من باب أولى إذا رجعت إلى اللّه وأنابت إليه «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ» الدالة على ذلك فيما تقدم من الذكر وفصّلنا لكم كيفية إحياء الأرض الميتة بالمطر ، وإحياء القلوب بالذكر «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (17) حكمتنا فتركنون إليها وتعملون بما يفضي إليها ، قال الكلبي ومقاتل إن هذه الآية نزلت في المنافقين ، وذلك أنهم قالوا لسلمان الفارسي حدثنا في التوراة ، فنزل أولا نحن نقص عليك أحسن القصص الآية الثالثة من سورة يوسف ج 2 ، فكفوا عنه ، ثم سألوه ثانيا فأنزل اللّه (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية 23 من الزمر ج 2 أيضا ، ثم سألوه ثالثا فنزلت هذه الآية.
قال محمود الآلوسي رحمه اللّه يكاد يصح نزولها في المنافقين ، ثم صوّب نزولها في المؤمنين حينما قدموا المدينة وأصابوا لين العيش وفتروا عما كانوا عليه من العبادة ، فعوتبوا فى هذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
وعليه يكون نزول هذه الآية بالسنة الأولى من الهجرة ، فتكون من أول ما نزل في المدينة ، وليس بسديد ، لأن أول ما نزل سورة البقرة وبعدها الأنفال فآل عمران فالأحزاب إلخ ما أثبتناه هنا ، أو الثالثة عشرة من البعثة التي هي آخر نزول القرآن في مكة فتكون السّورة أو الآية وحدها مكية وليس كذلك لأن السّورة كلها مدنية نزلت في المدينة يوم الثلاثاء في السّنة السّابعة من الهجرة ووضعت في محلها من القرآن بإشارة من الرّسول ودلالة من الأمين جبريل عليهما الصلاة والسّلام وفاقا لما هو عند اللّه في لوحه المحفوظ وعلمه الأزلي ، لذلك يبعد الركون إلى ما صوبه الآلوسي رحمه اللّه.
قال تعالى «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ» الّذين صدقوا اللّه ورسوله وكتابه وتصدقوا بفضول أموالهم «وَأَقْرَضُوا اللَّهَ(6/12)
ج 6 ، ص : 13
قَرْضاً حَسَناً»
على الصّورة المبينة آنفا ف «يُضاعَفُ لَهُمْ» عملهم الحسن أضعافا كثيرة «وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» (18) عند اللّه في الآخرة «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ» وافيا جزاء أعمالهم الحسنة «وَنُورُهُمْ» مشرق على الصّراط ، وفي طليعة هؤلاء العشرة المبشرون بالجنة «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (19) في الآخرة تحجم أي تسخم فيها وجوه أهلها بدخانها أعاذنا اللّه منها وحمانا فيا أيها النّاس «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» فمثلها «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ» ييبس وبعد خضرته «فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً» هشيما متكسرا «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ» لمن كانت حياته على هذه الصّفة التي قصها اللّه عن الكفار وفي مقدمتهم النّمرود وفرعون وأبو جهل وأضرابهم ، أما من يصرف أوقاته وأمواله في طاعة اللّه ورسوله والعمل الصالح فلهم عفو عام «وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» شامل في الآخرة «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (20) لمن كرس نفسه لها وأعرض عن الآخرة لقد عدّ اللّه تعالى في هذه الآية من زخارف الدّنيا خمسة ، وقد عدها في الآية 14 من آل عمران المارة سبعة ، وفي غيرها ثلاثة وأقل ، فالسعيد من اعتبر وترك قليلها وكثيرها رغبة فيما عند اللّه.
واعلم أن الغرور هو كلّ ما يمتع به الإنسان من مال أو جاه أو ولد ، وكلّ ما يغره وجوده لديه فيأمل دوامه وهو فان لا محالة فهو غرور.
ثم اعلم أن كلّ آية مصدرة بلفظ اعلموا أو اعلم تدل على أهمية ما تدعو إليه ووجوب أخذ ما فيها بعين الاعتبار والنّظر إليها بالتفكر والتدبر والتروي.
قال تعالى «سابِقُوا» أيها المؤمنون وتسابقوا «إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» ففي مثل هذا تكون المسابقة أيها النّاس وفي مثله تطلب المنافسة والتفاخر ويرغب بالتزايد والتكاثر لا في لعب الصّبيان ولهو الفتيات وزينة النساء وعذاب الأموال ووبال الأولاد ، راجع الآية 133 من آل عمران المارة(6/13)
ج 6 ، ص : 14
فيما يتعلق بقوله تعالى (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) لأنها نظيرتها إلّا أنها مصدرة بلفظ سارعوا ، وإلّا فأكثر ألفاظها تشابه هذه «ذلِكَ» الغفران والجنّة «فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده فضلا منه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 21» واعلم أنه يوجد في القرآن ستّ وخمسون آية مبدوءة بحرف السّين واعلموا أيها النّاس إن «ما أَصابَ» اللّه عباده وخلقه «مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ» من جدب وقلة ثمر وآفات للزروع والفروع «وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ» من الأمراض وفقد الأولاد والأموال وجمع الاكدار «إِلَّا» وهو ثابت مدون «فِي كِتابٍ» اللّه الأزلي مقصور وقوعه عليكم في الزمان والمكان «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» قبل خلق الأرض لأنها خلقت قبل البشر والجن وغيرهما وقبل خلق الأنفس ، لأن كلّ ما هو مقدر على الخلق من المصائب مدون عليهم قبل خلقهم ، وهذا يقول اللّه تعالى «إِنَّ ذلِكَ» أي إثباته في اللّوح المحفوظ قبل إيجاده للعيان مع كثرته «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (22) هين إذ لا يعسر عليه شيء ، وقد أخبركم بتقدير ذلك كله «لِكَيْلا تَأْسَوْا» تحزنوا وتهتموا «عَلى ما فاتَكُمْ» من الدّنيا ، لأن فواته محتم ، ولا يمكنكم الحصول عليه مهما طلبتموه «وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» لأنه مقطوع بوصوله إليكم ولو لم تطلبوه ، وهو لا يستوجب الفرح ، لأنه فإن وأنتم فانون ، وإن لم تتركوه يترككم.
وكثيرا ما يجر هذا الحطام إلى الفخر والخيلاء «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» (23) هذا والمراد بالحزن المذموم وهو المخرج صاحبه عن دائرة الصّبر والتسليم لأمر اللّه لا مطلق الحزن ، إذ لا يخلو إنسان منه ، كما ان المراد بالفرح الملهي عن الشّكر لا مطلق الفرح الذي تنبسط منه النّفس بالطبع ، فهذان لا بأس بهما وكذلك لا يحبّ «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ» بأموالهم على فقراء اللّه التي منحهم اللّه إياها «وَ» مع هذا فإنهم «يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ» ويعرض عما أراده اللّه منه «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عنه «الْحَمِيدُ» (24) لمن أطاعه.
قال تعالى «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا» محمدا فمن قبله «بِالْبَيِّناتِ» الحجج الواضحة والبراهين السّاطعة الدّالة على رسالتهم «وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ» المتضمن(6/14)
ج 6 ، ص : 15
الشرائع التي أمروا بتبليغها لأقوامهم «وَالْمِيزانَ» أنزلناه معهم ليقيموا العدل بين أممهم ، لأن المراد بالميزان هنا العدل الذي به قوام مصالح النّاس وملاك أمورهم وجماع تآلفهم وتواددهم ، بدليل قوله «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» ولا يتظالموا فيما بينهم ، فيعتدي القوي على الضّعيف والشّريف على الحقير لأنها فيه سواسية ، والتفاضل إنما يكون بالأعمال ، وقد يكون بالأموال والجاه والرّياسة المراعى فيها التقوى التي هي أساس كلّ خير من هذه الأشياء وغيرها.
مطلب في الحديد ومنافعه وكونه من معجزات القرآن وما يعمل منه وما يستخرج فيه ويحتاج إليه :
«وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» أحد بركات الأرض الأربع التي منحها اللّه عباده من هباته الجليلة وتخصيصاته العظيمة ، والثاني الملح ، والثالث الماء ، والرّابع النّار ، أي أصلها وهو عنصر الأوكسجين ، وهذا من معجزات القرآن إذ تحقق لأهل هذا العصر أنه ينزل من السّماء.
قال الأستاذ الشّهير (ونودر فشلد) انه رأى ذرات الحديد في الثلج في شمالي سيبريا وأخبر عنه.
ومما يدل على عظمته إعادة العامل مع إمكان الاكتفاء بأداة العطف ووصفه بقوله جل قوله «فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ» ويطلق البأس على الحرب وعلى الموت ، وهذا أعظم الآلات المؤثرة فيها بتأثير اللّه تعالى ، وإنما نعته اللّه بهذا لما هو ثابت في علمه الأزلي المخبر عنه بقوله (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 8 من سورة النّحل في ج 2 ، أي ما لا تعلمونه من آلات الحرب والرّكوب التي ظهرت في هذا الزمن مما قد ينكرها العقل لو لا بروزها للعيان كالبرق والهاتف والرّاد والقطر والبواخر التي تسيرها قوة الكهرباء (والبوصلة) الإبرة المغناطيسية التي لولاها لما تمكن أصحاب البواخر من التوغل في البحار ، ولم يتسنّ لهم السّير في النّهار وقت الضّباب وتلبد الغيوم ، والإبرة الدّالة على ترطب الجو وحدوث الأمطار والعواصف وغيرها من العجائب والغرائب من سرعة سير بعض السّيارات الذي هو فوق العقل ، فضلا عن القذائف والصّواريخ والذرة وغيرها وما ندري ما يحدث بعد.
وللحديد دخل في العلاجات المهمة ومنافعه لا تعد ولا تدخل تحت الحصر ، ولولاه لاستحال اختراع الأشياء المار ذكرها وغيرها كالقطر(6/15)
ج 6 ، ص : 16
والبواخر التي هي كالجبال ، ولا شيء يقوم مقامه من المعادن وإن كانت أثمن منه ، كالفضة والذهب والأحجار الكريمة لأنها لا تصير سلاحا ، ولا دبابات ، ولا طائرات ولا ولا.
وخصوصا ما يتعلق بالكهرباء الذي لا يستغنى عنه في كثير من ذلك ، والذي هو سر من أسرار اللّه الذي لم يدرك البشر ماهيته ولا كيفيته حتى الآن ، ولهذا يقول اللّه تعالى «وَمَنافِعُ» كثيرة فيه «لِلنَّاسِ» لا تحصى من الإبرة فما فوقها ، ولا غنى لأحد عنه ، وفي التعميم بعد التخصيص دلالة على عظيم حاجة البشر إليه «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ» أي أنه أنزل هذه الأشياء ، لتلك الغايات المارة ولغيرها مما يظهره الزمان ، ويظهر للناس «مَنْ يَنْصُرُهُ» ويقيم دينه من خلقه باستعمال العدل الذي يمكن إجراؤه أولا برسائل النّصح والإرشاد والوعظ والزجر ، وثانيا باستعمال السّيف والرّمح والنّبل التي يقل فيها القتل وتؤثر في إجبار الباغي على إقامة العدل ، وثالثا بالبنادق والمدافع والقذائف والصّواعق ، ورابعا بالمدمرات الذرية والمهلكات الأخرى التي سيظهرها الزمن بما هو أعظم وأعظم ولا يقبله العقل مما سيعمله هذا البشر الذي انطوى فيه العالم الأكبر ، وسخر له اللّه الحجر والمدر والماء والنّار والهواء ، وجميع معادن الأرض الجامدة والسّائلة والقوية والرّخوة ليستخدمها فيما يظهره اللّه على يديه في إصلاح العالم وإفساده وإعماره وإبادته «وَ» يعلم من ينصر «رُسُلَهُ» الداعين إلى طريقه السّوي «بِالْغَيْبِ» أي ليؤمنوا به عن غير رؤية ويؤمنوا بالآخرة من غير مشاهدة ، فهؤلاء الكرام الّذين آمنوا باللّه ورسله وبذلوا نفوسهم لإقامة العدل بين النّاس وطهارة الأرض ممن يكفر باللّه وهو يأكل رزقه ، ويفسد ولا يصلح ، قبل أن يروه في الآخرة ، وقبل أن يشاهدوا ما وعدهم به على لسان رسلهم القائمين بتنفيذ أوامره ونواهيه في الدنيا ، الطائعين له الطّاعة المحمودة
المرجو ثوابها عنده.
واعلم أني كثيرا ما أستشهد بما يكون من غير المسلمين كما هي الحال هنا ولكن فيما يتعلق بأمور الدّنيا فقط لقوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) الآية 7 من سورة الروم في ج 2 تدبر وتيقن «إِنَّ اللَّهَ» على نصر هؤلاء وأمثالهم «قَوِيٌّ» قادر على توفيقهم لما يريدون وعلى نصرهم على أعدائهم وإظهار كلمتهم وإيقاع الخذلان(6/16)
ج 6 ، ص : 17
بهم وإلقاء الرّعب في قلوب مناوئيهم «عَزِيزٌ» (25) غالب لا يقاوم منبع لا يحاط به قادر على قهر أعدائه دون تكليف خلقه ، وإنما أراد أن يكون النّصر على أيدي أوليائه ليكافئهم على ذلك في الآخرة.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» فلا نبي من بعدهما إلا وهو من نسلهما وإن من تقدمهما
كان من ذرية آدم «فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ» بهداية اللّه تعالى مقتف آثار أصوله الكرام «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (26) خارجون عن الطّاعة ، وذلك بمقتضى ما هو مقدر في الأزل إذ جعل من ذريتهما من هو صالح لخلافته في أرضه ، ومن هو لايق لعبادته وخدمته ، ومن هو كافر مفسد لخلقه ولنفسه جاحد لربه ورسله وكتبه «ثُمَّ قَفَّيْنا» أتبعنا «عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا» واحدا تلو الآخر «وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» الذي هو آخر أنبياء بني إسرائيل «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ» ومشوا على دينه الحق في زمنه وإلى بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم «رَأْفَةً وَرَحْمَةً» وهاتان الخلتان من صفات أصحاب محمد الآتية في آخر سورة الفتح «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها» من تلقاء أنفسهم ، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن ، وهذه الجملة غير معطوفة على ما قبلها ، كما أن جملة (ما كَتَبْناها) معترضة بينها وبين ما بعدها أي أن الرّهبانية جاؤا بها وألزموها أنفسهم «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» في الإنجيل الذي أنزلناه على رسولهم «إِلَّا» أنهم اخترعوها عفوا «ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» عليهم ، وذلك لكمال زهدهم في الدّنيا وتشبههم برسولهم ، لأنه لم يتزوج وهو أزهد الأنبياء والرّسل عدا محمد صلوات اللّه عليهم وسلامه ، والرّاهب هو الخائف الخاشي الخاشع لربه الفار بدينه عن الافتتان مبالغة في ترك الدّنيا وإعراضهم عن شهواتها ، ولكنهم بعد أن أوجبوها على أنفسهم ومن بعدهم لم يقوموا بها كما ينبغي لها لقوله تعالى «فَما رَعَوْها» خلفهم من بعدهم «حَقَّ رِعايَتِها» كما أراد مبتدعوها لأن القصد منها التباعد عن الشّهوات والتجافي عن الملذات والعكوف على العبادات ، وهؤلاء مع الأسف صار أكثرهم على العكس ، لأنهم انهمكوا في الدّنيا وانكبوا بكليتهم عليها وتوغلوا في الملاهي والمناهي ورغبوا في(6/17)
ج 6 ، ص : 18
زينة الدّنيا وزخارفها وحب المال والجاه والرّياسة ، واستحلوا لحوم الخنازير والخمرة ، وقد ذمّ سيدنا عيسى عليه السّلام الخنزير بقوله تجعلون الدّراري في أعناق الخنازير وقال لا أشرب بنت الكرم بعد اليوم.
وكان عيسى عليه السّلام لا يشربها أبدا ، وكان لا يأتي النّساء مع قدرته ترهبا وهضما لنفسه ، وهو أول من سن المعمودية راجع الآية 7 فما بعدها من سورة مريم ج 2 تقف على مزاياه عليه السّلام ، وقال عيسى عليه السّلام : من نظر إلى امرأة أجنبية يشتهيها فهو يزني ، والآن اختلطت نساؤهم برجالهم وتركوا الختان وهو سنة ابراهيم ، والغسل من الجنابة وهو من سنن الأنبياء وحرموا الطّلاق وهو ما لم يحرمه افقهم لما يحبه ويرضاه من الأعمال.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد ، والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق اللّه ، ورجل كانت عنده أمة يطأها فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها وأحسن(6/18)
ج 6 ، ص : 19
تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران.
ولما سمع أهل الكتاب هذه الآية قالوا للمسلمين من آمن بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن فله أجر واحد مثلكم فما فضلكم علينا ؟
حينئذ أنزل اللّه تعالى «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» أي على تخصيص شيء من فضل اللّه ان لم يؤمنوا بمحمد ، لأن لهم جرين إذا آمنوا وإلّا فلا أجر لهم البتة «وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (29) الذي لا أعظم منه.
واعلم أن «لا» هنا ليست بزائدة ولم يؤت بها لتحسين الكلام فقط ، بل هي نافية ، لان الضّمير في قوله لا يقدرون عائد إلى الرسول وأصحابه ، والتقدير هو إنما فعلنا ذكر لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل اللّه وإحسانه بأقوام معينين ، وليعتقدوا (أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ) إلخ الآية ، وهذا التأويل على هذا والتفسير به أولى من جعل لا زائدة ، لأن فيها إضمار كلمة (وليعتقدوا) وفي تلك حذف كلمة (تخصيص شيء من فضل اللّه) والإضمار أوفى للمعنى من الحذف ، لأن الكلام إذا افتقر للاضمار لم يوهم ظاهره باطلا أصلا ، أما إذا افتقر إلى الحذف كان ظاهره موهما ذلك.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد موسى الأشعري عن النّبي صلى اللّه عليه وسلم قال مثل المسلمين واليهود والنّصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له إلى اللّيل على أجر معلوم ، فعملوا إلى نصف النّهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملناه باطل ، فقال لهم اعملوا بقية يومكم لكم وخذوا أجركم كاملا ، فأبوا واستأجر آخرين بعدهم ، فقال اعملوا بقية يومكم لكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان صلاة العصر قالوا ما عملناه باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه ، فقال أكملوا بقية يومكم فإن ما بقي من النهار يسير ، فأبوا فاستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم ، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النّور اى أن اليهود والنّصارى لم ينفعهم عملهم لا متناعهم من إكماله ، وإن المسلمين أكملوا عملهم الذي أمروا به ففازوا بنفعه كله في الآخرة.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.(6/19)
ج 6 ، ص : 20
تفسير سورة محمد عليه السّلام
عدد 9 - 95 و47 وتسمى سورة القتال
نزلت بالمدينة بعد سورة الحديد عدا الآية 13 فإنها نزلت بالطريق أثناء الهجرة وهي ثمان وثلاثون آية ، وخمسمائة وثمان وثلاثون كلمة ، وألفان وخمسمائة واثنان وعشرون حرفا ، ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا بما ختمت به ، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» (1) أي ضيعها اللّه عليهم ، فلم ينتفعوا بها في الآخرة ، لأن ما يفعلونه من البر وإطعام الطّعام وإقراء الضّيف وصلة الرّحم وإجارة المستجير وإغاثة الملهوف وفك الأسرى وغيرها كان للسمعة والرّياء ونشر الصيت لا لوجه اللّه تعالى ، فلذلك جعل مكافأتهم عنها في الدّنيا من بلوغهم ثناء الناس ومدحهم ، وما أعطاهم اللّه من عافية ومال وولد وجاه وغيرها.
وهذه الآية عامة في كلّ كافر مات على كفره ، كما أن قوله تعالى : «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» (2) عام أيضا في كلّ مؤمن مات على إيمانه.
والبال هو القلب والشّأن والأمر والحال «ذلِكَ» إبطال أعمال الكفرة وإصلاح بال المؤمنين «بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ» فصدوا أنفسهم وغيرهم عن الطّريق الموصل للسعادة الأبدية «وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ» فأوصلهم لسعادته الأبدية وأحلهم بدار كرامته «كَذلِكَ» مثل هذا المثل المضروب للفريقين «يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» (3) ليعتبروا ويتعظوا ويتدبروا حال الطّرفين في الدّنيا ومصيرهم في الآخرة «فَإِذا لَقِيتُمُ» أيها المؤمنون «الَّذِينَ كَفَرُوا» في صف القتال بعد أن طلبتم منهم الإيمان باللّه ولم يفعلوا «فَضَرْبَ الرِّقابِ» (4) لتقطعوا منهم أشرف الأعضاء وهو الرأس ، وفي قطعه إهانة لهم أكثر من قطع غيره من الأعضاء المؤدية للموت ، وهو أسرع في الموت من غيره «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ» وأكثرتم فيهم القتل(6/20)
ج 6 ، ص : 21
واثقلتموهم بالجراح فاعمدوا لأسرهم «فَشُدُّوا الْوَثاقَ» من المأسورين لإظهار ذلتهم لكم ، ولئلا ينفلتوا فيلتحقوا باعدائكم ويكونوا أكثر شرا من غيرهم ، عليكم ، لكم لم تفلتوهم ليكون لكم يد عليهم وليكن شأنكم هذا حتى انتهاء الحرب ، فإذا وضعتم السّلاح وتمّ لكم ما أمثلتم «فَإِمَّا» أن تمنوا على أسراكم «مَنًّا بَعْدُ» فتركونهم كرما منكم «وَإِمَّا» أن تفدوهم «فِداءً» فتأخذون المال المتفق عليه منهم أو تبدلونهم بأسراكم ، وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية 58 من الأنفال المارة ، وهي (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) ولا بآية السّيف وهي قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) عدد 37 من التوبة الآتية ، كما قاله بعض المفسرين ، لان للامام الخيار بين أربعة أمور حسبما يراه لا معارض له في ذلك ، وهي إما أن يقتل الأسرى ، أو يسترقهم ، أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض ، أو يفاديهم بالمال أو بأسرى المسلمين ، وإلى هذا ذهب ابن عمر وبه قال الحسن وعطاء وأكثر أصحاب وجل العلماء ، ومشى عليه الشّافعي والنّووي واحمد واسحق رحمهم اللّه.
تشير هذه الآية الكريمة إلى حث المسلمين على القتال لما فيه من إعلاء شأنهم وعظمة شوكتهم ، وأن لا يميلوا إلى قبول فداء الأسرى إلّا بعد الإثخان في القتل من العدو ، ولهذا عاقبهم اللّه تعالى على قبول الفداء في أسرى بدر ، كما مر في الآية 68 من سورة الأنفال وسبب نزولها على ما قاله ابن عباس ، هو أنه لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزلها وهو الصّحيح لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال بعث النّبي صلى اللّه عليه وسلم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة أتال ، فربطوه في سارية من سواري المسجد ، فخرج إليه النّبي صلى اللّه عليه وسلم فقال عندك يا ثمامة ؟ فقال عندي خير يا محمد ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت ، فتركه النّبي صلى اللّه عليه وسلم حتى إذا كان من الغد قال ما عندك يا ثمامة ؟ قال ما قلت لك (وكرر الألفاظ) بعينها فقال صلى اللّه عليه وسلم أطلقوا ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه ، أو قال عبده ورسوله ، واللّه ما كان على وجه الأرض أبغض إلي من وجهك فقد أصبح(6/21)
ج 6 ، ص : 22
وجهك أحب الوجوه إليّ ، واللّه ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدّين كله إلي ، واللّه ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت ؟ قال لا ، ولكن أسلمت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وروي عن عمران بن حصين قال أسر أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا من بني عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب رسول اللّه ، فقداه رسول اللّه بالرجلين الّذين أسرتهما ثقيف - أخرجه الشّافعي في مسنده وأخرجه مسلم وأبو داود - فعلى هذا يكون القول بالنسخ لا وجه له.
فيا أيها المؤمنون داوموا على هذه الحالة ، فاقتلوا وأسروا وأبقوا الأسرى «حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» أثقالها من سلاح وغيره من أدوات الحرب ولوازمها فيعزّ اللّه المسلمين بنصره ويخذل الكافرين «ذلِكَ» الحكم في الأسرى فافعلوه «وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» فأهلكهم وأسرهم بغير قتال ولكفاكم أمرهم «وَلكِنْ» لم يفعل وقد أمركم بقتالهم «لِيَبْلُوَا» يمتحن ويختبر «بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ» وليثيب المؤمن بالشهادة أو السّعادة ويعاقب الكافر بالخيبة والنّار «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» منكم أيها المؤمنون أو سلموا «فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» (4) بل ينميها لهم ويثيبهم عليها وأنه «سَيَهْدِيهِمْ» بالدنيا إلى طرق الرّشاد «وَيُصْلِحُ بالَهُمْ» (5) فيها ويوفقهم للسداد إذا سلموا من القتل «وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ» في الآخرة إذا قتلوا ويفيض عليهم من خيرها ونعيمها وقد «عَرَّفَها لَهُمْ» (6) إذ وصفها لهم بالدنيا ، فيكونون في الآخرة أعرف بمواقعهم فيها من دورهم في الدّنيا فلا يحتاجون إلى دليل يدلهم على منازلهم فيها ، هذا إذا كان الفعل مأخودا من التعريف وإذا كان من العرف وهو الرّائحة الطّيبة فيقال طيبها لهم بالطيب ، وكلاهما جائز.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ» فتنضموا إلى حزبه لإعلاء كلمته «يَنْصُرْكُمْ» على عدوكم «وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» (7) عند القتال في الدّنيا وعلى الصّراط في الآخرة(6/22)
ج 6 ، ص : 23
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ» خيبة وسقوطا وبعدا وشقاء وعثرة في الدّنيا والآخرة «وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» (8) محقها وحرمهم من ثوابها وأنسى النّاس ذكرها الحسن «ذلِكَ» الإضلال والإتعاس «بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» من الذكر على رسوله وتأففوا منه وزعموا أنه مشاق فعله عليهم «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» (9) اذهب ذكرها وأجرها بالكلية ، لأنها صادرة عن شهواتهم الخسيسة لم يرد بها وجه اللّه «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الكفرة «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من كفار الأمم الماضية كيف «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» مساكنهم بما فيها من مال ونشب ، فأهلكهم دفعة واحدة هم وما يملكون «وَلِلْكافِرِينَ» بك يا سيد الرّسل «أَمْثالُها» (10) أمثال تلك العاقبة والعقوبة إذا أصروا على كفرهم وماتوا عليه
«ذلِكَ» الإهلاك والتدمير يكون للكافرين فقط «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» يجرهم منه «وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» (11) في الدّنيا يتمكن وقايتهم منه ، لأن مولاهم الشّيطان أو بعضهم ، وكلّ منهم ضعيف لا يقدر على خلاص نفسه مما بها في الدّنيا وفي الآخرة ، كذلك لا مولى لهم يخلصهم من عذاب اللّه أو يجيرهم منه «إِنَّ اللَّهَ» مولى المؤمنين «يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» تمر في جوانبها يمينا وشمالا.
وأماما ووراء وهم مشرفون عليها بحيث لا تخفى على من فيها «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ» في الدّنيا فعلا «وَيَأْكُلُونَ» من نعيمها «كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ» التي لا هم لها إلا بطونها وفروجها ، ساهون عما يراد منهم في الآخرة ، وقد شبههم اللّه بها بجامع عدم التمييز بين الخير والشّر والنّفع والضّر والتدبير في العواقب في كل «وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12) وبئس المثوى النّار.
مطلب الآية المكية وصفة الجنّة وعلامات السّاعة وحال أهل الجنّة وأهل النّار :
وهذه الآية التي نزلت في الطّريق أثناء الهجرة المنوه عنها في الآية 87 من سورة العنكبوت في ج 2 «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ» وأعظم «قُوَّةً مِنْ» أهل «قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» (13)(6/23)
ج 6 ، ص : 24
وذلك أنه صلى اللّه عليه وسلم بعد أن خرج من الغار وسار مع صاحبه أبي بكر وخرج من عمران مكة التفت إليها وقال أنت أحب البلاد إلى اللّه وأحبها إلي ، ولو لا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك ، وقد وضعت هنا كغيرها باشارة من السّيد جبريل وأمر من النّبي صلى اللّه عليه وسلم كما هي في علم اللّه ، وتعد مكية لأن المدني ، ما نزل في المدينة بعد وصله إليها أو في غيرها ، وكذلك المكي هو ما نزل قبل الهجرة في مكة أو غيرها كما أشرنا إليه في المقدمة ، وإنما قال أخرجوني لأنهم أرادوا إخراجه حين مذاكرتهم في دار النّدوة ، وقد خرج بارادة اللّه تعالى ليس إلّا كما أشرنا إليه في الآية الآنفة الذكر من سورة العنكبوت لأن اللّه تعالى قدّر على خروجه منها ظهور دينه للناس أجمع وعلو شأنه على غيره وفتح مكة على يده ، ولأنه لو لم يخرج بطوعه على الصّورة المذكورة لأدى بقاؤه فيها إلى مقاتلة بينه وبين قومه وهو لا يريد قتالهم مع قوته بعشيرته ، وتعهد اللّه له بالنصر عليهم.
قال تعالى «أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» وهو محمد وأصحابه «كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» من الكفار «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (14) في إخراج حضرة الرّسول واختيار عبادة الأصنام على عبادة الملك العلام كلا لا يستوون عند اللّه ، وبينهما كما بين ما أعده اللّه لكل منهما.
وما قيل إن المراد بهذه الآية أبو جهل أو غيره من الكفرة المحرّضين على إخراج الرّسول من مكة لا يقيدها بهم ، بل هي عامة فيهم وفي غيرهم من الكفار ، على أن أبا جهل قتل في حادثة بدر الأولى الكائنة في السّنة الثانية من الهجرة وهذه السّورة نزلت في ذي القعدة السّنة السابعة منها ، فبينهما خمس سنين وشهران ، لأن غزوة بدر في رمضان ، ولكن الآية مكية فيجوز إدخال أبو جهل واضرابه فيها ، إذ نزلت على أثر ما دبروه في قصته صلى اللّه عليه وسلم.
قال تعالى «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ» متغير الطّعم ولا منتن من طول المكث أو طرح شيء فيها كأنهار الدّنيا ، بل هي صافية طيبة عذبة «وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» لأن التغيير من خصائص الدّنيا وما فيها ، أما الآخرة فلا تغير فيها ، كما أنها هي لا تتغير على كر الأزمان «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ»(6/24)
ج 6 ، ص : 25
لا حامضة ولا مرة ولا حريقة ولم تدنس بعصر الأيدي ولا بدوس الأرجل كخمر الدنيا ولا غول فيها يذهب العقل ويصدع الرّأس ويقيء الطّعام ، راجع الآية 44 من سورة الصّافات ج 2 تجد ما يتعلق بالفرق بينهما «وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى» لا شمع فيه ولم يخرج من بطون النّحل فيوجد منه ميتا فيه مما تستقذره النفس ، بل هو خالص من كلّ الشّوائب جاء عن حكيم بن معاذ عن أبيه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إن في الجنّة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللّبن وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار بعد - أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح - وروى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيحان (نهر اورقه غير سيحون) وجيحان (نهر المصيصة في بلاد الأرمن غير جيحون) والفرات ونيل مصر كلّ من أنهار الجنّة أي مادتها من مادة أنهار الجنّة من حيث الطّعم واللّون ، لا أن منبعها من هناك لأن منابعها الظّاهرة في الدّنيا مشهودة ومعلومة ومشهورة ، وان قول حضرة الرسول من أنهار الجنّة لا يعني أن منابعها منها بالنسبة لما نراه وبالنظر لواقع الحال أما في الحقيقة فلا يعلمها إلّا اللّه لأن ظاهر علمنا يقتصر عند ظاهر منابعها ولا نعلم من أين يأتي ذلك ، وليس محالا على اللّه أو مستحيلا عليه إن جعل أصل منبعها من الجنّة أو من فوقها أو من تحتها ، واللّه على كلّ شىء قدير.
وعلينا أن نصدق بما جاء عن الرّسول في هذه وغيرها لأنه لا ينطق عن هوى ، وقد أمرنا اللّه بأن نأخذ ما يأتينا به وننتهي عما ينهانا عنه كما يأتي في الآية 7 من سورة الحشر.
قال تعالى «وَلَهُمْ فِيها» أي الجنّة ذات الأنهار المذكورة «مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» مما عرفه البشر أو لم يعرفه يتفكهون فيها «وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ» أيضا زيادة على ذلك كله ، ورفع التكاليف عنهم فيما يأكلون ويشربون بخلاف فواكه الدنيا فإنهم قد يحاسبون عليها هل هي من حل أم لا ، وهل أسرف فيها أم لا ، وهل رزق غيره منها أم لا ، أما المغفرة عن الذنوب فتكون لأهل الجنّة قبل دخولها فمثل هؤلاء المؤمنين الكرام ليس «كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ» من الكفرة اللئام «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» (15) لشدة حرارته.
وبعد أن بين تعالى حال أهل الجنّة وأهل النّار طفق يذكر بعض مثالب المنافقين ، فقال(6/25)
ج 6 ، ص : 26
عز قوله «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ» يا حبيبي «قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من أصحابك «ما ذا قالَ آنِفاً» لأنهم لا يعون قوله إذ لا يلقون له بالا تهاونا به قاتلهم اللّه ، وتغافلا عنه ، لذلك لا يقهمونه «أُولئِكَ» الّذين لا يفطنون لكلام رسولهم هم «الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلم ينتفعوا بها لذلك لم يصغوا لمواعظ الرّسول وهو معهم فتركوها «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (16) الباطلة فأمات اللّه قلوبهم «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» بهداية اللّه وعظات رسوله ، فسمعوا خطابه ووعوا قوله وانتفعوا به «زادَهُمْ هُدىً» وبصيرة وعلما لم يعلمه غيرهم لأن اللّه شرح صدورهم «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» (17) أي
جزاءها الدّنيوي في الآخرة وبينه لهم على لسان رسولهم.
ثم شرع يهدد الكافرين والمنافقين ، فقال عز قوله «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» على حين غفلة وغرة «فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها» علاماتها وأماراتها «فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» (8) أي فكيف بهم إذا جاءتهم السّاعة المذكّرة لهم بكل ما وقع منهم ، وكيف يكون حالهم في ذلك الوقت عند بروز أعمالهم السّيئة ، ومن أين لهم إذ ذاك التذكر والاعتذار والتوبة والإيمان لفوات محلها ؟ أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بادروا بالأعمال سبعا ، فهل تنظرون إلّا فقرا منسيا ، أو غنى مطغيا ، أو مرضا مفسدا ، أو هرما مقعدا ، أو موتا مجهزا ، أو الدّجال ، فشرّ غائب ينتظر ، أو السّاعة والسّاعة أدهى وأمر.
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال رأيت النّبي صلى اللّه عليه وسلم قال بإصبعه هكذا الوسطى والتي تلي الإبهام وقال بعثت أنا والسّاعة كهاتين.
ورويا عن أنس مثله بزيادة كفضل إحداهما على الأخرى ، وضم السّبابة والوسطى.
أي ما بين مبعثه صلى اللّه عليه وسلم وقيام السّاعة شيء يسير كما بين الإصبعين من الطّول.
مطلب عصمة النّساء وصلة الرّحم وتدبر القرآن ومثالب المنافقين والكافرين والبخل وما نفرع عنه :
ورويا عن أنس قال عند قرب وفاته ألا أحدثكم حديثا عن النّبي صلى اللّه عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري ، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا تقوم السّاعة ، أو قال من أشراط(6/26)
ج 6 ، ص : 27
الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويفشو الزنى ويذهب الرجال ويبقى النّساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم.
وفي رواية : ويظهر الزنى ويقل الرّجال وتكثر النّساء.
ورويا عن أبي هريرة أن من أشراط السّاعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويلقى الشّح ، أي يلقى البخل والحرص في قلوب النّاس على اختلاف أحوالهم هذا على سكون اللام (فَمَنْ يُلْقى ) وعلى فتحه وتشديد القاف يكون المعنى يتلقى البخل ويتعلم ويدعى إليه ويتواصى به ، قاله العتبي وصوّبه ابن الأثير.
ولا يقال يلقى بمعنى يترك إذ لا يستقيم المعنى لأن المقام مقام ذم ، ويكثر الهرج ، قالوا وما الهرج يا رسول اللّه ؟ قال القتل.
هذا وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية 158 من سورة الأنعام المارة في ج 2.
واعلم أن المراد برفع العلم ونقصه موت العلماء وقلة طلبه ، لا أنه يرفعه من قلوب العلماء ، لأنه أكرم من أن يأخذه ممن يمنحه إياه ، يؤيده خبر : إن اللّه لا ينتزع العلم انتزاعا وإنما يرفعه بموت العلماء.
ثم التفت إلى رسوله وخاطبه بقوله «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» ودم على ما أنت عليه من العلم بهذا التوحيد الخالص ، وأعلم أمتك بالمداومة عليه وحثهم على التمسك به ، وأن يعضوا على هذه الكلمة بالنواجذ وأعلمهم أن لا خلاص لأحد من عذاب اللّه إلّا بها ، وحرضهم على أن لا يفقوا عنها ، وخاصة عند مفارقتهم الدنيا ، فمن مات عليها.
اللهم أمتنا عليها ، وقد وصفها بعضهم بقوله :
مليحة التكرار والتنثى لا تغفلي عند الوداع عني
«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» مما تعده ذنبا بالنسبة لمقامك «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» استغفر أيها الرّسول «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ» (19) أنت وإياهم في الدّنيا من جميع حركاتكم وسكناتكم وفي الآخرة يعلمه على درجاتكم فيها ، وإنما أمر اللّه نبيه بالاستغفار تعليما لأمته ، وإلّا فهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، كما سيأتي أوّل سورة الفتح الآتية ، وذنبه عليه السّلام ليس كذنوب أمته لأنه منزه عنها ، وإنما هي على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين.
روى مسلم عن الأعز المزني قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول أنه ليغان على قلبي (أي يغطّى(6/27)
ج 6 ، ص : 28
ويغشّى كما تغشّى السّماء بالغيم) حتى أستغفر في اليوم مئة مرة ، وفي رواية توبوا إلى ربكم إني لأتوب إلى ربي عز وجل مئة مرة في اليوم ، وروى البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة.
وفي رواية أكثر من سبعين مرة.
وذلك بسبب ما أطلعه اللّه عليه من أحوال أمته بعده ، فأحزنه ذلك حتى كان يستغفر لهم ، أو لما كان يشغله النّظر في أمورهم ومصالحهم حتى يرى أنه اشتغل بذلك عن التفرد بربه ، فيحزنه ذلك ، فيستغفر ربه من أجل أمته ، فعليكم باتباعه والتمسك بشريعته واهتدوا بهديه واتخذوه وسيلة لكم وحجة عند ربكم ، وإياكم أن تسببوا لأنفسكم ما يكون به حجة عليكم.
وتقدم البحث في هذا في الآية 65 من سورة الزمر المارة في ج 2 وفيها ما يرشدك لمراجعة غيرها.
ولهذا البحث صلة عند قوله تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الآية 30 من سورة الرّعد الآتية.
قال تعالى «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» تأمرنا بالجهاد حبا فيه وحرصا عليه ، لأن فيه العزّ ، فأجابهم بقوله «فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ» في الجهاد غير متشابهة لا تحتمل تأويلا ولا تفسيرا «وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ» وكلّ سورة فيها ذكر الجهاد من أشد القرآن على المنافقين ، لذلك قال تعالى «رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» نظر شزر وكراهية تضجرا أوجبنا عن لقاء العدو ، فتراهم شاخصي أبصارهم كأنهم يعانون سكرات الموت «فَأَوْلى لَهُمْ» (20) كلمة ذم ودعاء عليهم بالمكروه كما تقول ويلك قاربك ما تكره بمعنى التهديد ويقارب هذه الآية في المعنى الآية 7 من الأنفال والآية 77 من النّساء والآية 20 من الأحزاب المارات فراجعها.
وهنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال «طاعَةٌ» للّه ورسوله «وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» عند سماع كلامه بالإجابة أولى بهم من ذلك لو عقلوا وسكتوا «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» ودنى وقت الجهاد «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ» وآمنوا به وأخلصوا وجاهدوا مع رسوله ولم يخالفوا أمره ويخلفوا وعده ولم يكذبوا في قولهم «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» (21) من الإيمان الكاذب والقول الفارغ والنّكث بالعهد والطّاعة المزيفة.
واعلم أنه لا يوجد في القرآن(6/28)
ج 6 ، ص : 29
غير سبع آيات مبدوءة بحرف الطّاء هذه وأول طه وأول الطّواسيم والآية 65 من الصافات و24 من الدّخان قال تعالى «فَهَلْ عَسَيْتُمْ» أيها المنافقون «إِنْ تَوَلَّيْتُمْ» عن سماع كلام اللّه واتباع أحكامه وطاعة رسوله فلعلكم «أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» كما كنتم في الجاهلية وتسلكوا طرق البغي وسفك دماء النّاس «وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» (22) كما يفعل غيركم من الكفرة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلى اللّه عليه وسلم قال إن اللّه خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فأخذت بحقوي الرّحمن (الحقوه مشد الأزرار) فقال مه فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت بلى ، قال فذالك لك.
ثم قال صلى اللّه عليه وسلم اقرأوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية.
وفي رواية الرّحم شجنة (قرابة) من الرّحمن مشتبكة اشتباك العروق.
ولهذا البحث صلة في الآية 23 من سورة الرّعد الآتية وقد بيّنا أول سورة النّساء وآخر الأنفال المارتين ما يتعلق في بحث الأرحام وأشرنا إليه في الآية 6 من سورة الأحزاب المارة أيضا فراجعها «أُولئِكَ» المفسدون في الأرض قاطعوا أرحامهم هم «الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» (23) عن طريق الحق وسبيل الرّشاد فتاهو في الحيرة التي أدت بهم إلى النّار «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» فيتأملون في معانيه ويتفكرون في مغازيه بحضور قلب فيعرفون زواجره ومواعظه ووعده ووعيده ورشده وتهديده ، فلا يجسرون على مخالفة ما فيه ، وينقادون لأوامره ونواهيه.
ونظير هذه الآية الآية 81 من سورة النساء المارة ، وهذا استفهام بمعنى التعجب من سوء حالهم وقبح تمردهم وشناعة جبنهم فقد تراكم الصّدأ على أفئدتهم وران عليها سوء فعلهم ، ولهذا قال تعالى «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» (24) والقفل مثل لكل مانع للانسان من تعاطي الطّاعات كما أن قفل الدّار مانع من دخولها ، وهذا من التكليف الذي لا يطاق ، لأن المحل المغلق لا يمكن دخوله ، والإيمان محله القلب فإذا ختم عليه وأغلق فمن أين يدخله ؟
وهذا من الجائزات ، لأن اللّه أمر من سبق علمه أن لا يؤمن بالإيمان ، ولهذا فلا يقال كيف يمكنهم التدبر في القرآن وقد أصمهم اللّه وأعمى أبصارهم وختم على(6/29)
ج 6 ، ص : 30
قلوبهم ؟ وأم هنا بمعنى بل ، والهمزة للتقرير ، وهو إعلام بأن قلوبهم مسكرة لا يصل إليها ذكر اللّه ، وتنكير القلوب للدلالة على أنها قاسية لا تتأثر بالوعظ والزجر والمراد بها قلوب المنافقين ، لأنها على هذه الصّفة.
وتقدم في الآية 82 من النّساء ما يتعلق بهذا البحث فراجعه.
وقيل في القفل لغزا :
وأسود عار أنحل البرد جسمه وما زال من أوصافه الحرص والمنع
وأعجب شيء كونه الدّهر حارسا وليس له عين وليس له سمع
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ» القهقرى ورجعوا كفارا «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى» وأصروا على ارتدادهم كان «الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ» بوساوسه حتى زين لهم القبيح ورأوا السّيء حسنا «وَأَمْلى لَهُمْ» (25) بامتداد الأمل وفسحة الأجل ، ورغبهم في التمتع بالدنيا وحب الرّئاسة كما يفعل بعض الجهال الآن ، ويقولون سوف نتوب ، وما يحسون إلّا وقد باغتهم الموت فيتدمون ولات حين مندم.
وقرىء وأملي بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء أي أمهلوا في العمر ، ولا شك أن المملي هو اللّه تعالى ، وإنما أسند إلى الشّيطان لمباشرته له فعلا ، وإلّا فإن اللّه قادر على منعه ، وهو الذي قدره على ذلك التسويل والإملاء واراده ، وإلّا فإن كيد الشّيطان ضعيف لا يستطيع على شيء إلا بتقدير اللّه إياه كما تقدم غير مرة «ذلِكَ» الإملاء والتسويل «بِأَنَّهُمْ» أهل الكتاب والمنافقين «قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ» وهم المشركون «سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ» ونتعاون معكم على عداء محمد وأصحابه فلا نجاهد معهم ونقعد عن سراياهم ولا نكثر سوادهم ، وهذه كلها من الأحوال التي يذكرها المنافقون فيما بينهم سرا ولا يعلمون أن اللّه تعالى يفضحهم ويخبر رسوله بها «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» (26) لا يخفى عليه شيء منها.
وقرىء بكسر الهمزة أي ما يسره بعضهم لبعض.
وبفتحها أي مكن في قلوبهم من ذلك ولم يفشوها بعد «فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ» يكون حالهم حين «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» (27) إهانة له ويقرب من معنى هذه الآية 51 ، من سورة الأنفال المارة «ذلِكَ» الضرب «بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ» وهو عدم(6/30)
ج 6 ، ص : 31
التعاون مع الرّسول وأصحابه «وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ» الذي هو التعاون لأن فيه رضاهم الذي هو من رضاء اللّه ، ولهذا «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» (28) التي زعموا أنها تنفعهم عند اللّه لأن سيئاتهم هذه محقت ثوابها ومحته فلم تبق له أثرا.
قال تعالى «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وشبهة ونفاق «أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» (29) التي في قلوبهم بل يخرجها ويبيّنها ليفضحهم بها «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ» يا سيد الرّسل «فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ» وعلاماتهم «وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» مقصوده ومغزاه وهو صرف الكلام من الصّواب إلى الخطأ وهو مذموم ، وصرف الكلام من الخطأ إلى الصواب وهو ممدوح في اللاحن ، أي فتكون كلمة اللّحن من الأضداد.
قال أنس رضي اللّه عنه ما خفي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من أحوال المنافقين ، وكانوا يهجنون ويقبحون ويستهزئون به وبأصحابه.
قال تعالى «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ» (30) فيجازيكم بمثلها
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» بشيء من التكاليف الشّاقة المحتملة الوقوع وغير المحتملة اختبارا وامتحانا «حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ» حقيقة «وَالصَّابِرِينَ» على البلاء «وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31) فنظهرها للناس ليعلموا كذبكم الذي تتظاهرون به مظهر الصّدق «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ» خالفوه وانشقوا عليه وتفرقوا عنه «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بأفعالهم هذه ، وإنما يضرون أنفسهم «وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ» (32) يمحقها ويحرمهم ثوابها بحيث يمحوها من صحائف أعمالهم راجع الآية 39 من سورة الرّعد الآتية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» (33) مثل هؤلاء المنافقين بالرياء والسّمعة.
زعم بعض المؤمنين أن لا يضرهم ذنب مع الإيمان كما لا ينفع عمل مع الشّرك فنزلت هذه الآية ، ولا دليل فيها لمن يرى إحباط الطّاعات بالمعاصي ، لأن اللّه تعالى قال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية الأخيرة من سورة الزلزلة المارة ، ولا حجة فيها لمن لا يرى إبطال النوافل بأنه إذا دخل في صلاة أو حرم تطوعا لا يجوز له إبطاله ، لأن السّنة مبينة(6/31)
ج 6 ، ص : 32
لكتاب اللّه ، وقد ثبت في الصّحيحين أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم أصبح صائما ، فلما رجع إلى البيت وجد حبسا فأكل منه ، قالت الفقهاء إذا تلبس بالنفل من صوم أو صلاة أو غيرها فعنّ له أن يفطر فله ذلك وعليه القضاء ، وإيجاب القضاء ، وإيجاب القضاء لا يخالف الحديث قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ 24» حكم هذه الآية عام ولو أنها نزلت في أبي جهل وأضرابه أهل القليب في بدر حينما جاء ذكرهم بأن لهم أعمالا كإطعام الطّعام وصلة الأرحام وغيرها مما يفعله الجاهلية عادة لأن ما قدموه من خير وهم على كفرهم كافأهم اللّه عليه في الدّنيا ولم يبق لهم برّ ما يلاقون به وجه اللّه ، وأين هؤلاء من لقائه ، لأنهم يساقون إلى النّار على وجوههم «فَلا تَهِنُوا» أيها المؤمنون ولا تضعفوا إذا تخلف عنكم المنافقون أو ناوءوكم ليلجئوكم إلى الكف عن أعدائكم «وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» الصلح.
منع اللّه المؤمنين في هذه الآية أن يطلبوا الصّلح من الكفار لئلا تلحقهم الذلة ، وخاطبهم بقوله «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» عليهم «وَاللَّهُ مَعَكُمْ» بالنصر والغلبة والمعونة «وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ 35» لا ينقصها بل يوفّها لكم.
هذا وقد أمر اللّه تعالى في الآية 62 من الأنفال بإجابة طلب الصلح من قبل الأعداء فراجعها لتقف على الفرق بين الطّلبين ، وأن ما يفعله الأجانب من طلب الصّلح وهم غالبون ليس هو طلب صلح بمعناه الحقيقي ، لأن الغالب لا يطلبه من المغلوب ، وإنما هو عبارة عن تكليفهم بالإذعان لشروط شاقة يفرضها الغالب على المغلوب حين اشتداد البأس وإيناس الضّعف منه ليقبلها قسرا عنه وهو راغم أنفه ، فلو كان صلحا بمعناه الحقيقي لما كان منهم طلبه عند الضّيق وبلوغ القلوب الحناجر ، وإنما هو أشد وقعا من الحرب فيقبلونه وهم كارهون لئلا يقضى عليهم بالاستئصال ، أما الصّلح زمن السّلم فلا يكون إلّا عن رضى وطيب نفس ، لأن العاقبة مجهولة لدى الفريقين ، لذلك فإن كلا منهم يرى الصّلح خيرا بحقه وهذا هو الفرق بين صلح السّلم وصلح الحرب.
ثم زهّدهم اللّه تعالى في الدّنيا بقوله «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» فلا تغتروا بها «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا» فتعضدوا إيمانكم وتقووه بالتقوى «يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ» ربكم كاملة(6/32)
ج 6 ، ص : 33
يوم القيامة «وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ 36» لقاء ما يعطيكم من الثواب بل يمنحكم أياما عفوا منه ، لأنه تعالى يعلم بأنه «إِنْ يَسْئَلْكُمُوها» بمقابلة ثوابه «فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا» بإعطائها والاجفاء المبالغة في كلّ شيء ومنه إحفاء الشّارب أي المبالغة في قصة وأحفى في المسألة إذا ألح فيها جهده ، أي إذا استقصى عليكم بها أجهدكم بطلبها كلها ، فلا بد أن تبخلوا ، ولهذا جعل زكاة المال ربع عشره كي لا يبخل النّاس بها على فقراء اللّه فلا يعطوهم شيئا منها «وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ 37» ويظهر عداوتكم وبعضكم للانفاق لشدة محبتكم للمال المفروزة في قلوبهم عند الامتناع من الانفاق واللّه تعالى لا يريد ذلك منكم ولهذا خفف عليكم القدر الواجب لإنفاقه من أموالكم «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ» أيها المخاطبون الموصوفون «تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» شطرا قليلا من أموالكم في وجوه البر والخير طلبا لمرضاته «فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ» فلا تسمح نفسه بانفاق شيء مما أنعم اللّه عليه به «وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ» فيكون وباله عليها ، أي من يمسك ماله فلم ينفنه في طرقه المشروعة ، ولهذا عدّي الفعل بعن ، ولا شك أن البخل خطة ذميمة موجبة للخزي والعار بالدنيا والعذاب والنّار في الآخرة ، حتى أن العقلاء حذروا مخالطة البخيل ومشورته ، فقالوا لا تدخلن في مشورتك بخيلا فإنه يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر. - راجع الآية 265 من البقرة المارة قالوا ولا جبانا فإنه يضعفك عن الإقدام ، ولا حريصا فإنه يزين لك الشّره فالبخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظّن باللّه ، أجارنا اللّه منها «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ» عنا وعن صدقاتنا ، وإنما أمرنا بالإنفاق لما فيه من النّفع لنا في الدّنيا والآخرة «وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ» المحتاجون إلى ربكم أيها النّاس في كلّ أحوالكم ، فإن فعلتم ما أمركم به نجوتم وكان خيرا لكم «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا» وتعرضوا عن الإنفاق بالكلية وعن طاعة اللّه ورسوله ، فلا تفعلوا ما يأمركم به ولا تجتنبوا ما ينهاكم عنه «يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يطيعونه ويأتمرون بأمره وينتهون عما ينهاهم عنه «ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ 28» بالبخل وغيره من عدم الامتثال في أمر الجهاد ومخالفة الرّسول فيها يأمركم وينهاكم.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال(6/33)
ج 6 ، ص : 34
قال ناس من أصحاب رسول اللّه يا رسول اللّه من هؤلاء الّذين ذكر اللّه عز وجل إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالها ؟ قال وكان سلمان بجنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فضرب رسول اللّه فخذ سلمان فقال هذا وأصحابه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان متوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس - وفي رواية من هؤلاء وكان واضعا يده على سلمان رضي اللّه عنه - وهذا الحديث مكتوب على باب ضريح الإمام الأعظم أبي حنيفة النّعمان بن ثابت رضي اللّه عنه دفين بغداد إعلاما بأنه من أصحاب سلمان - أخرجاه في الصّحيحين - .
هذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا آمين.
تفسير سورة الرّعد
عدد 10 - 96 و13
نزلت بالمدينة بعد سورة القتال سورة محمد عليه السّلام.
وهي ثلاث وأربعون آية وثمنمئة وخمس وخمسون كلمة ، وثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى المر تقدم ما فيه أول الأعراف ج 1 وأول يونس ج 2 وفيها ما يشيران إلى ما انطوت عليه هذه الأحرف المقطعة ومرجع علم ما فيها إلى اللّه تعالى ، قال عطاء معناه أنا الملك الرّحمن «تِلْكَ» الآيات المارة من أول ما نزل إلى هنا ، وآيات هذه السّورة وما بعدها هي «آياتُ الْكِتابِ» العظيم الكامل المنسوخ عن اللّوح المحفوظ عند اللّه «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرّسل من القرآن هو «الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ 1» بأنه الحق من عند اللّه ويقولون تقوله محمد.
ويلهم أتى لمحمد أن يأتي بمثله وهو يعلم أن الذي أنزله عليه هو «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» أنتم أيها النّاس بأنها مرفوعة بلا عمد من تحتها وليس لها كلاليب من فوقها تمسكها ، ويجوز أن يكون لها عمد غير مرثية لأن أحدا لم يرها.(6/34)
ج 6 ، ص : 35
مطلب في قوله تعالى بغير عمد.
وفي قارات الأرض الخمس ومعجزات القرآن والمعقبات :
والآية تحتمل الوجهين فيجوز أن تقول بلا عمد البتة ، أو بعمد ولكنها لم واللّه على كلّ شيء قدير «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» استواء يليق بذاته لا يعرفه خلقه راجع الآية 4 من سورة طه ، ج 1 والآية 41 من سورة يونس ج 2 والآية 4 من سورة الحديد المارة «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» لمنافع خلقه «كلّ» منها «يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» هو انقضاء الدّنيا وخراب هذا يكون ، وقد جعل جل شأنه لكل من الشّموس والأقمار والكواكب سيرا خاصا لجهة خاصة بمقدار خاص من السّرعة ومقياس خاص في البطء والحركة ، راجع الآية 77 من سورة يس والآية 13 من سورة الإسراء في ج 1 «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» ملكوته ناسوته ولاهوته بمقتضى حكمته لا يشغله شأن عن شأن «يُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالة على وحدانيته وكمال قدرته «لَعَلَّكُمْ» أيها النّاس «بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ 2» إيقانا لا شبهة ولا ريب فيه.
واعلم أن اليقين صفة من صفات العلم فوق المعرفة والدّراية وهو سكوت الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشّك لما ذكر اللّه تعالى الدّلائل السّماوية أردفها بالدلائل الأرضية فقال «وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ» بسطها بعد أن كانت مجتمعة ولا يعني بالبسط أنها كالكف بل بالنسبة لما نراه منها ، فالنملة ترى البيضة حينما تمشى عليها منبسطة ونحن نرى ما تحتنا ما يلينا من الأرض منبسطا ، وهذا لا ينافي القول بكرويتها إن كانت كروية وجعل فيها رواسي جبالا عظاما ثوابت تثقلها لئلا تطبش فتميد راجع الآية 9 من سورة لقمان ج 2 ففيها ما يتعلق بهذا وما يتعلق بالآية الثانية المارة من جود العمد وعدمه «وَأَنْهاراً» عذبة لمنافع خلقه «وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» ذكرا وأنثى أسود وأبيض مالح وباهت حلو حامض جليل وحقير كبير وصغير وما بينهما «يُغْشِي اللَّيْلَ» بضوء النّهار يغشي «النَّهارَ» بظلمة اللّيل «إِنَّ فِي ذلِكَ» الصنع البديع «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 3» بها ويفقهون المغزى فيها وما ترمي إليه فيستدلون بها(6/35)
ج 6 ، ص : 36
على عظمة خالقها ويعرفون ماهية أنفسهم ، والفكر مقلوب الفرك ، لأنه يستعمل في طلب المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا الوصول إلى حقيقتها والوقوف على ماهيتها.
قال تعالى «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ» متقابلات متقاربات في الصّفة مختلفات في اللّون والإنبات طيبة وسبخة رخوة وصلبة محجرة ومتربة حصية ورملية فمنها صالح للزرع ومنها للشجر ، ومنها ما ينبت نوعا خاصا من الأشجار والخضر ، وما ينبت ويثمر شيئا منها ولا ينبت في الأخرى وما يعيش ، ويوجد من الحيوانات في قطعة ولا يعيش ويوجد في الأخرى ، فقد يوجد في آسيا مالا يوجد في استراليا ، ويوجد في إفريقيا مالا يوجد بأمريكا وبالعكس ، وهكذا أوربا من حيث الجمع لا الانفراد ، لأن هذه القارات الخمس وهي في الحقيقة سبع لأن آسيا تقسم إلى قسمين وأمريكا كذلك ، وقد يختلف نباتها وثمارها وحيواناتها ومخلوقاتها في اللّغة واللّون والأخلاق تختلف أيضا ، فسبحان من أودع في كل ما هو صالح له ، وفي كلّ قلب ما أشغله «جَنَّاتٌ» فيها مختلفة الصّفات بحسب طبايع أرضها وكلّ أرض ذات شجر يجنّها أي يسترها تسمى جنة ، ولكن شتان بين هذه وجنّات الآخرة على حد قوله :
ولن يتساوى سادة وعبيدهم على أن أسماء الجميع موالي
ثم بين أشجار هذه الجنان بأنها «مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ» كل منها مختلفة في النّوع والشّكل والهيئة ، وكلّ منها «صِنْوانٌ» الصنوان الشّجرات المتعددة من أصل واحد واحده صنو «وَغَيْرُ صِنْوانٍ» شجرة منفردة بأصلها ، فالأشجار المجتمعة بأصلها أو برأسها كالنخل لأنه قد يتفرع له في رأسه فروع تصير كالنخلة المتفرعة من الأصل وتحمل ثمرا أيضا ، وهذا كثير مشاهد ويسمى صنوان وقد بينا في الآية 99 من سورة الأنعام في ج 2 الكلمات التي هي على وزن صنوان فراجعها تقف على أصلها وجمعها ، وانظر أيها الإنسان إلى عظيم قدرة ربك أن تلك الأشجار كلها «يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» أي الطّعم فمنها الحلو والحامض والمز والمر وغير ذلك ، وكذلك في الرّائحة واللّون والشّكل كالإنسان ، منه الخبيث والصّالح والأحمر والأسود(6/36)
ج 6 ، ص : 37
والحسن والقبيح وما بينهما وهم من أب واحد «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخلق العجيب والاختلاف الغريب الذي يبهر العقول ويكل عن فهمه المعقول والمنقول ويعجز عن إدراكه الفحول «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 4» تلك المعاني ويتدبرون مغزاها ومرماها ويتفكرون في تلك القدرة العظيمة «وَإِنْ تَعْجَبْ» أيها الإنسان الكامل من هذه المكونات البديعة النّاشئة عن قدرة اللّه البالغة ، فحق لك أن تعجب لأنه مما يوجب العجب ، ولكن إنكار الكفرة للبعث مع اعترافهم بأن اللّه خلقهم على غير مثال سابق أكثر عجبا من هذا لأنه كله دون قدرة القادر ، ولأن إعادة الشّيء أهون وأيسر من إبداعه ، ولهذا «فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ 5» فقولهم هذا هو الذي يجب أن تتعجب منه لا ذلك.
واعلم أن العجب في حقّه تعالى محال لأنه حالة تغوي الإنسان ، وتعرض له عند الجهل بالسبب ، للشيء المتعجب منه ، لأن النّفس تستبعد رؤية مالا تعرف سببه ، وتتنزه ذات اللّه تعالى عن تلك «أُولئِكَ» الّذين ينكرون لبعث هم «الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ» لإنكارهم قدرته «وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ» يقادون فيها كالأسرى إلى النّار يوم القيامة هوانا بهم ، ولكن بين إهانة الأسرى المنقطعة وإهانتهم الدّائمة في الوصف والكيفية فرق عظيم «وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 5» وفي تكرار كلمة أولئك دلالة على عظم الأمر والهول والتعجيب.
قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ» وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان حينما يخوفهم عذاب اللّه يستهزئون به يقولون هات ما تنذرنا به إن كنت صادقا ، وحينما يبشرهم بما عند اللّه للمؤمن كانوا لا يلتفتون إليه ، وقد قص اللّه تعالى عنهم قولهم قبلا (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) الآية 32 من سورة الأنفال المارة ، ولم يقولوا لكثافة جهلهم اللّهم اهدنا إليه «وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ» النقم التي أوقعناها بالأمم الماضية جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء أو بفتحها جمع مثل هو ما ضربه اللّه لأمثالهم من الكفرة الأقدمين ليتعظوا فلم ينجع بهم ولم يرتدعوا «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ» أنفسهم وغيرهم.
قال(6/37)
ج 6 ، ص : 38
السدي هذه أرجى آية في القرآن لذكر المغفرة مع الظّلم بدون التوبة راجع الآية 85 من سورة الإسراء ج 1 تجد ما يتعلق في هذا البحث «وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ 6» لمن يموت على كفره «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا» هلا «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ» على الرّسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم الذي يدعونا إلى دينه «آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» يقنعنا بها كآية صالح أو موسى وغيرهما يريدون شيئا محسوسا فقال تعالى لرسوله لا ترد عليهم «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» لهم سوء عاقبة الكفر ومبشر بحسن نتيجة الإيمان «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» يهديهم بما أرسل إليه من ربه إلى دينه القويم بالطرق التي أمره بها ربه لا بما يريدون ويتحكمون ، لأن اللّه تعالى لم تجر عادته أن ينزل الآيات على حسب اقتراح الكفرة ، وإنما ينزلها بإرادته ومشيئته على من يريد من عباده ، أما ناقة صالح عليه السّلام فكانت بمراد اللّه وتقديره في أزله أنهم يطلبونها من نبيهم فيعطونها ، وما عموم إلّا وخص منه البعض مثل رفع العذاب عن قوم يون
ناقصه حسن أم دميم طويل أو تصير ذكر أو أنثى يعيش أو لا يعيش عالم أو جاهل غني أو فقير ويعلم مدة حمله وعيشه في الدّنيا ورزقه وأجله وكلّ ما يقع منه وما يؤول إليه أمره في الدّنيا والآخرة ، وهذا العلم مما استأثر به نفسه
تسقطه من الحمل يعلمه متى يكون «وَما تَزْدادُ» عن الواحد ومن نقص الأرحام والحيض زمن الحمل فإنه ينقص غذاء الجنين فيخرج ضعيفا ، قال أبو حنيفة رحمه اللّه لا تحيض المرأة حال حملها لأن اللّه تعالى أجرى عادته بانسداد فم الرّحم بالحمل وما تراه الحامل من الدّم فهو استحاضة ودم الاستحاضة يكون من مرض وشبهه فيسبب ضعفا بالحامل فينشأ عنه ضعف الجنين ، وقد تسقطه ، وقد يخرج ناقص الخلقة ويولد لأقل من تسعة أشهر ، (6/38)
ج 6 ، ص : 39
والزيادة عكس هذه الأشياء ، ومن الزيادة زيادة الأصبع وشبهه ، وقد يكون اثنان برأس واحد ، ورأسان بجثة واحدة ، يخلق ما يشاء «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» (8) لا يتجاوزه ، فالقادر على هذه الأشياء وتمحيصها هو «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)» على مخلوقاته تشير هذه الآية الكريمة إلى الأوزان الكيماوية التي لم تكشف إلّا بعد وقوف علماء أوريا الدّنيويين على أصول تحليل العناصر وتركيبها ، واطلاعهم على أن لكل عنصر موجود في هذا الكون مقدارا محدودا ، وأنه يستحيل أن يتركب جسم من الأجسام إلّا على مقادير معينة منها الماء ، فإن تركيبه الكيموي ؟ ؟ لتركبه على نسبة ثمانية أو كسجين إلى واحد هدروجين وهذه النّسبة لا تزيد ولا تنقص ، فلو نقص من أحدهما عشر معشار الدّرهم لا يتولد الماء ، وإن زدنا على أحدهما يحصل التركيب على القدر الذي قدره لهما والزائد يبقى معلقا والتولد سر خفي يسمى الألفة الكيمياوية ، ولما كان أمرها غامضا لم يقف ولن يقف على كنهها واقف للاشارة إليها بقوله (عالِمُ الْغَيْبِ) بعد قوله (اللَّهُ يَعْلَمُ) لان استحالة تكون الجنين ومعرفة كنه تولد الأرحام سواء.
ولكبير أهمية مقادير العناصر ذكرها اللّه سبحانه في قوله الجليل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الآيتين 21 و22 من سورة الحجر في ج 2 إذ لو زاد أو كسجين أهواء لهاجت النّفوس واضطربت أو زاد نتروجينه لاعتراها الموت ، فالحكمة الإلهية جعلته مزيجا منها على قدر معين محدود بحيث تلطفت حرارة الأوّل ببرودة الثاني ، فتأمل معجزات القرآن العظيم وانظر هل كان إبان نزوله من يعرف هذا غير منزله ؟ وهناك معجزات أخرى لم تختمر بعد في العقول لتظهر للملأ وصدق اللّه في قوله العزيز (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 من الأنعام في ج 2 وفي كلّ ما جاء عنه في كتبه وعلى لسان رسله ورحم اللّه الأبوصيري حيث يقول :
آيات حق من الرّحمن محدثة قديمة صفة الموصوف بالقدم
فلا تعد ولا تحصى عجائبها ولا تسام على الإكثار بالسام(6/39)
ج 6 ، ص : 40
وإذا أردت أن تقف على الموزونات راجع الآيتين المذكورتين آنفا في سورة الحجر قال تعالى «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ» عند اللّه لا فرق بينهما لديه «وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» (10) ذاهب على وجه الأرض ، والسّرب بفتح السّين وسكون الرّاء هو الماشية كلها والطّريق وبالكسر لقطيع من النّساء والظّباء وبفتحتين الحفرة تحت الأرض والقناة وجاء في الحديث (آمنا في سربك) أي أهلك ، والمعنى أن كلّ ذلك عند اللّه سواء لا يختلف عنده حال عن حال فالسر والعلانية والخفاء والظّهور عنده سواسية
«لَهُ» لذلك الإله العظيم «مُعَقِّباتٌ» ملائكة يتعاقبون ليل نهار «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» من أمام كلّ عبد من عبيده «وَمِنْ خَلْفِهِ» ورائه «يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» قدره وقضائه بأمر اللّه وإذنه ، ومعقبات جمع معقبة ، ومعقبة جمع عاقب ، ولا يستدل بهذا أن الملائكة إناث كما زعم البعض ، لأن جمع الجمع مثل رجالات جمع رجال ورجال جمع رجل ، والملائكة لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة.
وعلى هذا الحديث.
وقوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الآية الثالثة من سورة الأنبياء في ج 2 ، جاءت لغة (أكلوني البراغيث) على أن يكون الواو في الفعل ضمير جمع فقط والفاعل البراغيث ، كما أن الملائكة في الحديث (والّذين في الآية) هما الفاعل ، والواو في الفعلين ضمير جمع فقط أي يحرسونه بالليل والنّهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الّذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي ، فيقولون تركناهم وهم يصلون ، وآتيناهم وهم يصلون ، وهذه الآية عامة ، لأن اللّه تعالى وكلّ بكل نفس من من يحفظها من ملائكته.
وروي عن ابن عباس وغيره لما جاء عامر بن الطّفيل وزيد بن ربيعة من بني عامر بن زيد قال عامر يا محمد مالي إن أسلمت ؟ قال لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم (ومن هنا يعلم أن ليس لأحد أن يشترط على إمام المسلمين شرطا يتميز به عن بقية المسلمين) قال تجعل الأمر لي من بعدك ؟ قال ليس ذلك لي إنما هو للّه تعالى يجعله حيث يشاء ، قال فتجعلني على الدّبر أي البادية ؟(6/40)
ج 6 ، ص : 41
أنت على المدر أي المدن ؟ قال لا ، قال فما تجعل لي ؟ قال أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها ، قال أو ليس ذلك لي اليوم ، قم معي أكلمك ، فقام معه صلّى اللّه عليه وسلم لانه كبير قومه وأوعز إلى رفيقه زيد (أو أريد أخي لبيد) إني إذا كلمته قدر خلفه واضربه بالسّيف ، فجعل عامر يخاصم الرّسول ويراجعه ، فجاء زيد أو أربد واخترط السّيف ليضربه فلم ينسل ، فالتفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرآه ماسكا قبضة السيف ومسلول منه قدر شبر ، فقال اللّهم اكفتيهما بما شئت ، فأرسل اللّه صاعقة على زيد في يوم صحر فأحرقته ، وهرب عامر وهو يقول واللّه لأملأنها عليك خيلا ورجالا لأنك دعوت ربك فقتل صاحبي زيدا ، فقال اللّه يمنعني فخرج خراج أصل أذن عامر وهو في بيت امرأة سلولية وصارت له غدة كغدة البعير ، ركب جواده وجعل يركض في الصّحراء ، ومات على ظهره.
وهذه معجزتان صلّى اللّه عليه وسلم وأنزل اللّه (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) إلى السّجدة الآتية قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ» من النّعم والعافية التي أنعم بها على هذين الخبيثين وغيرهم لأن المعنى عام وخصوص السّبب لا يقيده ولا يخصصه «حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» من النية والعمل الحسن إلى النّية السّيئة والعمل القبيح فيبدل اللّه نعمهم نقما وصحتهم سقما وخيرهم شرا وتوفيقهم خذلانا وكثرتهم قلة وخصبهم جدبا وعزهم ورياستهم ذلا ومهانة كما فعل بعامر ورفيقه زيد الّذين أرادا أن يمكرا بحضرة الرسول ويغدرا به فحنظه اللّه وأهلكهما أي أن اللّه تعالى لا يزال مديما نعمه عباده حتى يتسببوا لانقطاعها «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً» من الأسواء فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» (11) بلي أمرهم غيره.
مطلب في البرق والصّواعق والتسبيح والسجود والفوق بين العالم والجاهل :
ولما خوف اللّه عباده في هذه الآية ذكر شيئا من عظيم قدرته بشبه النّعم من وجه والعذاب من آخر فقال جل قوله «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً» من نزول الصّواعق «وَطَمَعاً» بنزول الغيث قال أبو الطّيب :
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى يرجى الحيا منه وتخشى الصّواعق
وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ» (12) بالغيم والسّحاب الملئان بالماء ويقال سحاب جهام للخالي من الماء كما يقال خلّب للخالي من المطر «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ(6/41)
ج 6 ، ص : 42
بِحَمْدِهِ»
هو الصّوت الخارج بعد البرق ، والبرق هو اللّمعان الحاصل من خلال السحب عند تراكمها وتصادمها بعضها ببعض ، ولما كان كلّ شيء يسبح بحمد اللّه كما مر في الآية 44 من الاسراء في ج 1 وفي الآية الأولى من سورة الحديد المارة ، وبما أن الرّعد شيء أيضا فيسبح اللّه كسائر الأشياء «وَالْمَلائِكَةُ» تسبح مِنْ خِيفَتِهِ» أيضا «وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ» الشعل الغارية الكهربائية الحاصلة من الرعد «فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ» من خلقه فيهلكهم كما أهلك زيد المذكور آنفا «وَهُمْ» والحال ان الّذين يكذبون رسول اللّه «يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ» وينكرون على رسوله قدرته على بعث الخلق بعد الموت ويتخذون معه شركاء بعد صدور هذه الآيات ولا يخشونه وهو القوي العظيم «وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ» (13) المكر والكيد لأعدائه حيث يأتيهم بما يدمرهم من حيث لا يحتسبون ولا يعرفون ولا يقدرون على رده ، وهذه اللّفظة لم تكرر في القرآن «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ» المجابة من الحق لأنها دعوة حق من الرّسول على عامر وزيد لتجاوزهما عليه صلّى اللّه عليه وسلم وإرادتهما اغتياله بطريق الغدر بلا سبب «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أوثانا مما اتخذوه وعبدوه من دون اللّه كعامر وزيد وغيرهما من الكفرة ، والآية عامة في كلّ من يدعو من دون اللّه «لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ» يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا «إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ» أي إلّا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه على بعد منه يطلب منه المجيء «لِيَبْلُغَ فاهُ» فيدخل في فيه ليشربه وهو جماد من حيث عدم النّطق والفهم ، كما أن الماء جماد من هذه الحيثية لا يشعر ببسط الكفين ولا يعلم بما يراد منها ولا بالعطش ، لذلك يقول اللّه تعالى «وَما هُوَ بِبالِغِهِ» لأنه لا يفهم ولا يقدر أن يجيب دعاءه ، فمثل الّذين يدعون من دون اللّه لدفع ما يهمهم دفعه وجلب ما يهمهم جلبه مثل هذا الجماد لا يعي ما يراد منه ولا به ، لأنه لا يفهم ولا يقدر على الاجابة ، فلا يركن إلى أمثال هذا إلّا الكافر الذي لا يعتقد باللّه ، ولهذا فلا يستجاب دعاؤه لكفره «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ» أوثانهم «إِلَّا فِي ضَلالٍ» (14) عن طريق الحق وهباء لا قيمة له.
ونظير هذه الجملة آخر الآية 50 من سورة المؤمن في ج 2(6/42)
ج 6 ، ص : 43
وذلك لأن أصواتهم منصرفة إلى أوثانهم وهي لا تجيبهم لأنها محجوبة عن اللّه تعالى لعدم دعائهم إياه ولأنهم يأنفون من السّجود لعظمته «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً» واختيارا رغبة ورضى وشوقا كالملائكة والرّسل والمؤمنين المخلصين «وَكَرْهاً» جبرا وقسرا رغم أنوفهم كالكفار والمنافقين عند نزول الشّدائد بهم ، ولكن لا فائدة لهم من ذكره لأنهم لا يرجون له ثوابا ولا يعتقدون به ، وإنما يخضعون للّه حال الضّيق والمحنة فقط «وَظِلالُهُمْ» تسجد لعظمته أيضا تبعا لهم.
والضّمير فيه يعود ان في الأرض ، لأن من في السّماء لا ظل له «بِالْغُدُوِّ» من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس والغدوة والغداة منها إلى نصف النّهار «وَالْآصالِ» (15) جمع أصيل ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، هذا ويجب على من قرأ هذه الآية ومن سمعها السّجود للّه تعالى كما مر في الآية الأخيرة من سورة والنّجم في ج 1 «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الّذين لا يعرفون اللّه تعالى إلّا عند نزول البلاء بهم ولا يدعونه إلّا عند اشتداد الأزمة رسلهم «مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فإن لم يجيبوك عتوا وعنادا فأنت «قُلِ اللَّهُ» لأنهم يتلعثمون عند قول الحق ويترددون عن الإجابة عنه ، وإذا قالوه يقولونه جبرا ، ثم «قُلْ» توبيخا لهم لاتخاذهم أوثانا يزعمون أنها تشفع لهم «أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» لأموركم أصناما «لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» فما فائدتكم منهم بعد أن علمتم أن مالك الضّر والنّفع هو اللّه لا غير ، ومما يدل على تمام معرفتهم به أنه يملك ذلك ويملك الحياة والموت والخير والشر ، إنهم يدعونه عند الشّدة ، ومن جهلهم وحمقهم يعرضون عنه عند الرّخاء قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور» فبالطبع
يقولون لا ، فقل لهم كما لا يستوي هذان الصّنفان ، لا يستوي الكفر والإيمان الوثن والرّحمن ، راجع الآية 21 من سورة فاطر في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا البحث «أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ» سماء وأرضا وشمسا وقمرا وإنسا وجنا وملائكة ووحشا وأنهارا وبحارا «فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ» الخلق الذي خلقه شركاؤهم فلم يميزوا بين خلق اللّه وخلق أوثانهم ، كلا لم تخلق(6/43)
ج 6 ، ص : 44
شيئا ما ، فيا سيد الرّسل «قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» وما يعمله خلقه من خلقه «وَهُوَ الْواحِدُ» المتفرد بالخلق «الْقَهَّارُ» (16) لكل شيء لا أوثانهم العاجزة عن حفظ نفسها وهذا الإله الجليل هو الذي «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ» به «بِقَدَرِها» الذي علمه قبل نزوله «فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً» رغوة بيضاء قيقاء تشبه الزبد منتفخة مرتفعة على وجه السيل وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لعباده بمثل آخر وهو «وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ» من الذهب والفضة «ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ» لا تكون إلّا منهما ، وإنما أعيد الضّمير إلى الذهب والفضة مع عدم ذكرها للمعلومية ، راجع قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله تعالى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الآية 32 من سورة ص في ج 1 فيما يتعلق بهذا الضّمير لأن الحلية لا تكون إلّا منهما ، أما الأحجار الكريمة التي يتحلى بها فلا توقد ، عليها النّار ، لذلك لا يتصور إعادة الضّمير إليها «أَوْ مَتاعٍ» آخر من غيرهما كالحديد والنّحاس والرّصاص وكلّ ما يذاب مما يتخذ منه الأواني وما يتمتع به فيكون له «زَبَدٌ مِثْلُهُ» مثل زبد الماء بسبب غليانه على النّار ، ولا دخل للأحجار الكريمة في هذا أيضا ، لأنها لا تذاب على النّار «كذلك» مثل هذا المثل «يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ» الذي ينتفع به مثل الماء والذهب وبقية المعادن المنطبعة «وَالْباطِلَ» الذي لا ينتفع به كرغوة الماء وخبث المعادن المعبر عنها بالزبد المعبر عنه بقوله عز قوله «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً» متلاشيا لا فائدة فيه «وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ» كالماء الصّافي وجوهر المعادن المذكورة التي يتزين بها «فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» وعلى النّاس «كَذلِكَ» مثل هذا الضّرب «يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» (17) ليعتبر خلقه بها قال تعالى «لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ» ما دعاهم إليه «الْحُسْنى » الجنّة إذ لا أحسن منها مقعدا ولا أهنا منها مشربا ، ولا أمرا منها ماكلا ، فنعمة الجنّة مكافأة لهم وجزاء «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ» دعاءه هم النّار والدّمار وحين يعانون عذابها يتمنون «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ» مما يلاقونه من هولها ولكن ليس لهم ذلك ، ولو فرض أنهم يملكونه وأرادوا أن يفتدوا به(6/44)
ج 6 ، ص : 45
لما قبل منهم «أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ» عند رب الأرباب في الموقف العظيم «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» (18) هي لأهلها وقبح المأوى وأسوا المنقلب وأسام المرجع.
قال تعالى «أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» فيذعن إليه ويؤمن به «كَمَنْ هُوَ أَعْمى » باق على كفره ، كلا لا يستويان «إِنَّما يَتَذَكَّرُ» بآياتنا وينفاد إلى طاعتنا «أُولُوا الْأَلْبابِ» (19) الواعية «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ» المأخوذ عليهم بالأزل «وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ» (20) الذي واثقهم عليه
«وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» كأرحامهم وجيرانهم الفقراء وإخوانهم المسلمين ويراعون حقوق زوجاتهم وخدمهم ورفقائهم في الحضر والسّفر والغيبة والحضور «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» (21) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا «وَالَّذِينَ صَبَرُوا» على المصائب والمشاق أملا بما لهم عند اللّه من الخلف والثواب «ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ» لا ليقال إنهم صابرون ولا لقساوة في قلوبهم ولا لعدم محبة بالمفقود والمصاب «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» طلبا لمرضاة اللّه تعالى فوق صبرهم على المصائب وعلى القيام بأوامر اللّه «وَيَدْرَؤُنَ» يدفعون «بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» الواقعة عليهم من الغير ، فإذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا ، وإذا أذنبوا استغفروا وتابوا واسترضوا خصومهم بما شاؤه ولو بالقصاص منهم «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصّفات التسع المارة «لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» (22) المحمودة وهي «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها» يقيمون فيها يوم القيامة هم «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» تبعا لهم وتكميلا لفرحهم وتعظيما لشأنهم وتكريما لهم.
وفي هذه الآية دلالة على أن الصالح يشفع بأتباعه ، وهو كذلك.
مطلب ينتفع الميت بعمل غيره وبصلة الوفاء والصّدقات ويجوز قضاء حجه وصومه من قبل أوليائه وفي ذكر اللّه تعالى وصلة الرّحم :
وهذا دليل على أن سعي الغير ينفع كما ذكرناه في الآية 38 فما بعدها من سورة النجم ج 1 ، والآية 87 من سورة الأنعام ، والآية 8 من سورة غافر ، والآية(6/45)
ج 6 ، ص : 46
21 من سورة الطّور في ج 2 ، هذا ويؤكد هذا المعنى ما أخرج في الصّحيحين أن رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن أمي افتلت (ماتت على حين غفلة) وأظنها لو تكلمت لتصدقت ، فهل لها أجر ان تصدقت عنها ؟ قال نعم.
وقد أجمعت العلماء على أن الصّدقة تنفع الميت ويصله ثوابها ، وأجمعوا على وصول الدّعاء إليه وقضاء الدين والحج عنه ، ورجحوا جواز الصّوم عنه أيضا إذا كان عليه صوم استنادا على ما ورد من الأحاديث في ذلك ، وأن حديث : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ...
لا ينفي وصول عمل الغير كما جاء في شرح هذا الحديث وغيره من أقوال العلماء العاملين ، واللّه أعلم «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ 23» من أبواب الجنّة يسلمون عليهم زيادة لسرورهم وتحيتهم التي يؤدونها لهم عند دخولهم عليهم هي «سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» على المحن في الدّنيا «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (24) دارهم هذه دار الكرامة ولما ذكر العداء وما وعدهم اللّه به من الخير والاستيفاء وما أوعدهم اللّه به من الشّر.
قال جل قوله «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» مما ذكر آنفا «وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» علاوة على تلك المثالب «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ 25» والعياذ باللّه ، وإذا كان هذا مصيرهم فلا تنظروا إلى ما هم فيه في الدّنيا من السّعة وما هم عليه من الصّحة لأن عاقبتهم وخيمة ، راجع الآية 22 من سورة محمد المارة فيما يتعلق في هذه الآية وما قبلها ، والآية 27 من سورة البقرة أيضا.
قال تعالى «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيّق على من يشاء «وَفَرِحُوا» ابتهج هؤلاء «بِالْحَياةِ الدُّنْيا» ولذاتها وشهواتها «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ» أي بالنسبة إليها «إِلَّا مَتاعٌ» (26) قليل فان كعجالة المسافر «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا» مع هذه الآيات العظام «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» عنادا ليس إلا ، إذ ما بعد كلام اللّه آية ، ولا تضاهي آياته آية ، فيا سيد الرّسل «قُلْ» لهؤلاء العتاة «إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» مع وجود الآيات «وَيَهْدِي» من يشاء ويقرب «إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ» (27)(6/46)
ج 6 ، ص : 47
إليه ورجع عن غيه دون آية ما بالنظر إلى أصل الخلقة ولما هو مدوّن في علمه تعالى ، وهؤلاء المنيبون هم «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» وحده ، المعرضون عما سواه ، وعما يقترحه الكافرون من طلب المعجزات «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28) الطاهرة ويستقر إليه يقينهم ، فهلموا أيها المؤمنون لذكره إذا أردتم الهداية.
ثم وصف المهتدين في الوفاء وصلة الرّحم وانهم هم «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» المطمئنة قلوبهم لذكر اللّه «طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» (29) في الآخرة ، وطوبى مبالغة الطّيب كالحسنى مبالغة لأحسن ويعبر عنها بالجنة أو شجرة عظيمة فيها.
وبما أنا وعدنا في تفسير الآية 22 من سورة القتال المارة بذكر ما يتعلق بصلة الرّحم فإنا نورد هنا ما عنّ لنا بيانه وتبسر لنا تبيانه.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أخاديد (غدران تمسك الماء كالبرك) أمسكت الماء نفع اللّه بها النّاس فشربوا منها وسقوا ورعوا ، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ ، بذلك مثل من فقه في دين اللّه وفقه ما بعثني اللّه به فتعلم وعلّم ، ومثل من لم رفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الرّحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه اللّه.
وأخرج الترمذي وأبو داود عن عبد الرّحمن بن عوف قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول قال اللّه تبارك وتعالى أنا الرّحمن خلقت الرحم وشفقت لها اسما من اسمي (يريد جل جلاله الرّحمن الرّحيم) فمن وصلك وصلته ومن قطعك قطعته أو قال بتّته (البتّ أقصى غاية القطع والقطع الذي لا وصل بعده) وروى البخاري عن أبي هريرة أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال من سره أن بسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه.
ورويا عن جبير بن مطعم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا يدخل الجنّة قاطع رحم.
ورويا عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ليس الواصل بالمكافىء (أي المقابل(6/47)
ج 6 ، ص : 48
يعني إذا زاره رحمه كافأه بزيارته) ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها (يريد عليه الصّلاة والسّلام أنه يزور رحمه وإن لم يزره هو لأن المقابلة بالزيارة مكافأة ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ أي لا يبعد هذا صلة كاملة وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرّحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأجل.
وروى البغوي بسنده عن عاقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن مثل الذي يعمل السّيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ، ثم عمل اخرى حتى خرج إلى الأرض.
وفي هذا الباب أحاديث كثيرة بضيق النّطاق عن ذكرها هنا ، ويكفي أن اللّه تعالى يظن واصل رحمه بظله المبين فيما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن في الجنّة شجرة يسير الرّاكب في ظلها مئة عام لا يقطعها.
ومثله عن أبي سعيد الخدري بزيادة الجواد المضمر السّريع.
ومثله عن أبي هريرة وذكر فيه (سنة بدل عام) وإقرارا إن شئتم وظل ممدود الآية 31 في سورة الواقعة في ج 1 راجع هذه الآية في معناه وأما ما يتعلق بنقض العهد وإبرامه ، فراجع فيه الآية 34 من سورة الإسراء في ج 1 والآية 42 من سورة النّحل ج 2 قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما أرسلنا قبلك يا محمد رسلا إلى الأمم الماضية لأجل إرشادهم وتعليمهم أوامرنا ونواهينا وتفهيمهم قدرتنا «أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» كما تلت أولئك الرّسل الأقدمون على أقوامهم ما أوحيناه إليهم فيما لهم وعليهم «وَهُمْ» والحال أنهم الكافرون المذكورون «يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» الإله البالغ الرّحمة المنتهى الرّأفة الذي من رحمته ورأفته أرسلك إليهم.
وضمير يكفرون يعود إلى القائلين (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) الآية 27 المارة وما قيل أن هذه الآية نزلت في أبي جهل إذ قال إن محمدا يدعو بالحجر إلهين اللّه والرّحمن (المراد بالحجر هنا حجر إسماعيل عليه السّلام المقابل للبيت من جهة الميزاب) أو أنها نزلت في سهيل بن عمرو حين كتابة معاهدة الحديبية.
حينما قال له حضرة الرّسول اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، فقال(6/48)
ج 6 ، ص : 49
سهيل لا نعرف الرّحمن الرّحيم ، لا نعرف إلّا رحمن اليمامة ، فهما قيلان لا مستند لهما لأن أبا جهل قتل في حادثة بدر قبل نزول هذه الآية بخمس سنين ، وهذه السّورة كلها مدنية ، ولم يستثن منها أحد هذه الآية ولا غيرها على القول الصّحيح ، ولأن سهيل بن عمرو لم يأت المدينة ولم يقل أحد بأن هذه الآية نزلت عند حادثة الحديبية التي وقعت قبل نزولها بأكثر من سنة «قُلْ» يا سيد الرّسل أن الرّحمن «هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ» (30) أصلها متابي حذف الياء منها للتخفيف أي مرجعي إليه ، لأن تاب بمعنى رجع
قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ» فصارت تمرّ مرّ السّحاب «أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ» فتفجرت عيونا منهمرة بالماء «أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى » فأحياهم ونطقوا بما رأوا ، كما رفع الطّور لموسى ، ومثل ضربه الحجر فتفجر بالماء ، وما وقع لعيسى من احياء الموتى وكلامهم ، لكان هذا القرآن جديرا بذلك وقمينا به ، لأنه على جانب كبير من الإعجاز ، وغاية بالغة من التذكير ، ونهاية عالية بالتخويف.
وليعلم أن ليس لهؤلاء الخوض بالاقتراح «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» إن شاء أظهر على يد رسوله ما اقترحوه ، وإن شاء لم يظهر بحسب ما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة وهذه الآية الباهرة متعلقة بقوله تعالى (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) المارة.
وما قيل أنها نزلت في كفار مكة كأبي جهل وأضرابه حين قالوا لحضرة الرّسول إن سرك أن نتبعك فسيّر جبال مكة إلخ لا يصح لما تقدم من التعليل ، ولأن هذا مرّ القول فيه في الآية 93 من الاسراء والآية 7 من الفرقان في ج 1 فراجعه إن شئت.
قال تعالى «أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا» أي (أ فلم يعلم) وعليه قوله :
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أي ألم يعلموا وقول الآخر :
ألم ييأس الأقوام اني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
أي ألم يعلم.
«أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» ولكنهم علموا باعلام اللّه إياهم أنه لم يشأ لذلك فهم آيسون من هداية كلّ النّاس ومقطوع أملهم من ذلك «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ» هذه الدّاهية(6/49)
ج 6 ، ص : 50
«قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ» فتقرع قلوبهم وتفطرها ولا يزالون فزعين من تأثيرها «حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ» بنصرك عليهم أو إهلاكهم أو ايمانهم «إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» (31) الذي وعدك به يا سيد الرّسل من ظفرك بهم فلا يهولنّك تكذيبهم لك وسخريتهم بك «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» من قبل قومهم كما استهزأ بك قومك الكفرة «فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» بإطالة المدة وزيادة النعم حتى ظنوا أنهم على خير «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ» على غرة وغفلة بعذاب عظيم إذ لم ينتفعوا بالإمهال وعاقبتهم «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ 32» لو رأيته أيها الإنسان لهالك أمره وأهابت بك فظاعته.
واعلم أن المراد بالّذين آمنوا الواردة في منتصف الآية 31 السّالفة الرّسل وأتباعهم الّذين يحرصون على إيمان النّاس ويريدون أن يكونوا كلهم مؤمنين ، وعلى هذا يجوز أن يكون فعل ييأس على ظاهره دون حاجة لتأويله بيعلم ، وعلى هذا يكون المعنى ألم ييأسوا من هداية كل النّاس وقد قدمنا لهم عدم إمكانه وفقا لما هو ثابت في علمنا ومقدر بأزلنا راجع الآية 120 من سورة هود في ج 2.
فيا سيد الرّسل قل لهم على طريق الاستفهام «أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» مثل هذا الإله العظيم كمن هو عاجز عن حفظ نفسه مثل الأوثان ؟ كلا ، ليسوا سواء ، ولكن هؤلاء الكفرة سوّوا بينهم «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» من تلقاء أنفسهم تقليدا لما ابتدعه أسلافهم «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «سَمُّوهُمْ» من هم ونبؤوني بأسمائهم إن كنتم ثابتين على قولكم «أَمْ تُنَبِّئُونَهُ» جل جلاله «بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ» وهو عالم بما فيها وبما في السّماوات وليس فيها شركاء له «أَمْ» تتمسكون «بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ» الذي تلقيتموه عن أسلافكم بأن للّه شريكا دون دليل أو حجة أو برهان ، كلا لا هذا ولا ذاك «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ» في المسلمين وكيدهم لهم بما ألقى الشّيطان في قلوبهم من وساوسه ودسائسه «وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ» الموصلة للرشد فضلوا عن الهدى «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» (33) يهديه البتة والّذين هذه صفتهم وماتوا عليها «لَهُمْ عَذابٌ»
شديد لا تطيقه قواهم ، «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
قتلا وأسرا(6/50)
ج 6 ، ص : 51
وجلاء وذلة ومهانة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ»
المخبوء لهم يا سيد رسلنا وأكمل خلقنا «أَشَقُّ»
وأعظم من ذلك حيث لا يكون لهم فيها من يقيهم منه أو يشاركهم به فيخفف عليهم «وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ»
في الآخرة حين يحل بهم عذابها «مِنْ واقٍ»
(34) يقيهم منه أبدا ، قال تعالى «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» المعاصي والآثام ، القائمون بالأوامر والأحكام ، المتنعون عن النّواهي والاجرام ، كمثل جنة عظيمة «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» وميزتها عن جنّات الدّنيا أيها العاقل كثيرة ، ولكن اللّه تعالى ذكر منها خصلتين عظيمتين وهما «أُكُلُها دائِمٌ» لا ينقطع على الأبد «وَظِلُّها» دائم أيضا وحذف لفظ دائم هنا اكتفاء بذكره قبل ، راجع الآية 84 من سورة النّساء ، وذلك أنه لاليل فيها ولا نهار ، وفي هذه الآية ردّ على جهم وأضرابه القائلين بفناء نعيم الجنّة ، لأن اللّه يقول دائم ما فيها ، فلأن تكون هي دائمة من باب أولى ، إذ لا يعقل أن يكون نعيمها دائما وهي فانية ، تدبر «تِلْكَ» الجنّة الدّائم نعيمها أيها الإنسان هي «عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا» ربهم في الدّنيا فكافأهم بها بآخرتهم لقاء إيمانهم به وبرسوله وكتابه بأن جعل مثواهم في هذه الجنّة و«عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ» (35) وبئس العاقبة هي أجارنا اللّه منها.
قال تعالى «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» أي من أسلم منهم ، فإنه يسرّ بالأحكام لمنزلة عليك يا حبيبي الدالة على التوحيد والنّبوة والمعاد لأنها مؤيدة لما في كتبهم ، قالوا كانوا ثمانين رجلا أربعون من نصارى نجران الوفد الذي أشرنا إليه أول سورة آل عمران ، إلى بضع وثمانين آية منها ، وثلاثون من الحبشة أصحاب النّجاشي ، وعشرة من اليهود عبد اللّه بن سلام وأصحابه ، وفرحهم من جهتين : الأولى أنه منزل من الحق على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، والثانية تأييد دعواهم للاسلام وإخفاق دعوى من لم يسلم وإذلاله
«وَمِنَ الْأَحْزابِ» الّذين تحزبوا على الرّسل قبلك والّذين تحزبوا عليك في حادثة الخندق المارة في الآية 9 من سورة الأحزاب «مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ» لأن اليهود الّذين تحزبوا مع قريش وغطفان وغيرهم على حرب حضرة الرّسول وأصحابه لا ينكرون كلّ القرآن بل يعترفون بما فيه من المعاد والتوحيد والنّبوة ، وقصص(6/51)
ج 6 ، ص : 52
بني إسرائيل ، وأخبار الأمم المتقدمة لأنها موجودة في التوراة «قُلْ» يا سيد الرسل للناس كافة يهودهم ونصاراهم عجمهم وعربهم وأعرابهم وبربرهم «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ» وحده وأخلص له عبادتي «وَلا أُشْرِكَ بِهِ» أحدا ولا شيئا «إِلَيْهِ» وحده جل جلاله «أَدْعُوا» الناس إلى دينه القويم ليعملوا به ويخلصوا العبادة للّه لا إلى الأصنام ولا للملائكة وعزير والمسيح ولا لغيرهم أبدا بل أحصر دعوتي لحضرته خاصة «وَإِلَيْهِ مَآبِ» (36) مرجعي ومثواي ، وقد حذف الياء تخفيفا.
مطلب في أحوال أهل الكتاب ، والمحو والإثبات ونقص الأرض وحكم اللّه تعالى :
«وَكَذلِكَ» مثل ما أنزلنا على الأنبياء السّابقين كتبا بلغتهم ولغة أقوامهم «أَنْزَلْناهُ» أي القرآن المنوه به في الآية 31 المارة وجعلناه «حُكْماً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك راجع الآية 5 من سورة ابراهيم في ج 2 «وَ» عزتي وجلالي يا أكمل الرّسل «لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» فيه فاعلم أنه «ما لَكَ مِنَ اللَّهِ» ربك الذي شرفك على الكل وجعل أمتك خير الأمم «مِنْ وَلِيٍّ» يواليك وينصرك «وَلا واقٍ 37» يقيك من العذاب البتة ، وهذا تهديد شديد عظيم في هذا الخطاب ، ولكنه على حد القول (إياك أعني واسمعي يا جاره) وقد أسهبنا البحث فيه في الآيات الأخيرة من سورة القصص ج 1 ، وفي الآية 66 من سورة الزمر في ج 2 ، فراجعهما وما تشير إليهما من المواقع ، أي من يتبع أهواء الكفرة ويوافقهم على آرائهم فيما يتعلق بأمر الدّين ، فليس له ناصر ينصره من عذاب اللّه ولا واق يقيه منه.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً» مثلك فلم لم تعترض عليهم أمهم ؟ وهذه الآية بمعرض الرّدّ على اليهود والنّصارى القائلين إن هذا الرّسول لا همّ له إلّا النّساء ، ولو كان رسولا لزهد فيهنّ ، قاتلهم اللّه ألم يعلموا أن سليمان وداود ومن تقدمهم كانوا أكثر النّاس نساء من محمد ، ولم يقدح ذلك بنبوّتهم ، وكذلك قولهم لو كان نبيا لأتى بآية ، مردود عليهم بقوله جل قوله «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وبالوقت الذي يريده(6/52)
ج 6 ، ص : 53
إذ «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» (38) يبين فيه زمان ومكان وقوعه والسّبب المبتنى عليه والفائدة التي تنشا عنه ، وهذه بمعرض استبطائهم ما خوفهم به حضرة الرّسول من نزول العذاب لأنه لا شك نازل بهم ولكن لم يحن أجله بعد وهو قريب منهم ، قال تعالى «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ» من مقدرانه التي أظهرها لملائكته وكلمة يمحو كررت في الآية 12 من الإسراء ج 1 وفي الآية 24 من الشّورى ج 2 فقط «وَيُثْبِتُ» منها ما يشاء فينفذه «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» (39) الذي فيه كل شيء مما كان ويكون في الدّنيا والآخرة فلا يقع شيء فيهما إلّا وهو مدون فيه وقد أشرنا إلى ما يتعلق في هذا البحث في الآية 4 من سورة الأنعام ج 2 ، والمعنى أن اللّه تعالى قد يهيء للكافر الإسلام فيمحو كفره ويثبت إسلامه فيما يبدو للناس وهكذا ينقلب من الشّقاء للسعادة كما يقلب بعض عباده من الفقر إلى الغنى ومن السقم للصحة ومن الذل للعز وبالعكس مما أظهره اللّه لملائكة وعلقه على أشياء قد يفعلها العبد بمقتضى حكمته فتبدل حاله من شيء إلى أحسن وبالعكس ، ومن هذا القبيل زيادة العمر ونقصه فعلا أو بما يبارك له ويوفقه لدوام الطّاعة وتمادي العافية كما ينقصه معنى أضداد هذه ، راجع الآية الثانية من سورة الأنفال المارة وما ترشدك إليه من المواضع ، وهناك أحكام مبرمة مدونة في لوحه أيضا لا يعتريها التبديل والتغيير أبدا مهما فعل أهلها.
قال تعالى «وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ» يا خاتم الرّسل «بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» من العذاب «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبله فنريكه بالآخرة بأن نمثل لك وقوعه فيهم كما كان في الدّنيا فضلا عن عذاب الآخرة ، راجع الآية 30 من آل عمران المارة وما ترشدك إليه ، فلا يهمنك شأن من لم يؤمن «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ» هم والمداومة عليه فقط ، وعليهم أن يؤمنوا ويقبلوا إرشادك ونصحك ، وإن لم يقبلوا فعليهم الوبال «وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» 40 والجزاء لمن أعرض عن بلاغك ، ولا تتعجل نزول العذاب بهم يا محمد فإن له أجلا لا يتعداه ولا يتقدم عليه بمقتضى الكتاب المشار إليه آنفا.
ونظير هذه الآية الآية 78 من سورة المؤمن والآية 46 من سورة يونس والآيتين 63 و64 من سورة المؤمنين في ج 2 فقط لا يوجد غيرها في القرآن كله واللّه أعلم.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَوْا»(6/53)
ج 6 ، ص : 54
هؤلاء «أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ» المقيم بها الكفرة «نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها» بالاستيلاء عليها وإجلاء أهلها منها وإسكان المؤمنين فيها كما وقع في بني النّضير وقريظة وخيبر وغيرهم.
وتشير هذه الاية إلى استيلاء المؤمنين على كثير من أراضي الكفار بالنصر عليهم والظّفر بهم وطردهم عنها ، وترمي لمغزى آخر وهو نقص الأرض من طرق قطيها وهو كذلك ، ومما لا يعرفه أحد عند نزول القرآن فهو من معجزاته وإخباره بالغيب ، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 44 من سورة الأنبياء في ج 2 فراجعها.
وقال بعض المفسرين إن نقص الأرض يكون بموت العلماء وهو كما ترى ، وكأنه أخذ من الخبر القائل إن موت العالم يحدث ثلمة في الإسلام ، ويؤيد ما جربنا عليه ختم آية الأنبياء بقوله جل قوله (أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ) لأن الغالبية قد تكون بالفتوحات.
وختم هذه الآية بقوله «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (41) بما يدل على الغالبية أيضا وتفيد هذه الجملة أن أحكام أهل الدّنيا معرضة للابطال بالاعتراض عليها والاستئناف والتمييز والتصحيح والعفو عنها بخلاف أحكام اللّه فإنها قطعية لا مردّ لها ، وإن حسابه على الأعمال بأقل من طرفة عين بخلاف حسابنا لأنه قد يحتاج إلى سنين.
قال تعالى «وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» بأنبيائهم كما مكر قومك بك ، ولكن مكرهم ليس بشيء ولا قيمة له إذ ليس لهم من أمره شيء «فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً» لأنه هو الذي خلقه في العباد وهو القادر على نزعه منهم لأنه «يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ» من خير أو شر في السّر والجهر «وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» المحمودة إذا بعثوا من قبورهم ، لأنهم الآن غافلون عنها لا يعرفونها ولا يعتقدون بصحتها «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا» فيا سيد الرّسل «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» على رسالتي إليكم وإلى من في الأرض أجمع «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» (43) يعلم ذلك أيضا ، لأن الكتب المنزلة عليهم تشهد برسالته لكل من عنده علم بها ولا يكتم علمه ، يشهد بأن محمدا رسول اللّه.
ومن قرأ عنده بالجر باعتبار من حرف جر أعاد الضّمير في عنده إلى اللّه تعالى ، ويكون المراد بالكتاب اللّوح المحفوظ ، وما جرينا عليه أولى وأنسب بالمقام.
ولا يوجد سورة(6/54)
ج 6 ، ص : 55
مختومة بما ختمت به هذه السّورة ولا بما بدئت به.
واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة الرّحمن
عدد 11 - 97 و55
نزلت بالمدينة بعد سورة الرّعد ، وهي ثمان وسبعون آية ، وثلاثمائة وواحد وخمسون كلمة ، وألف وستمئة وستة وثلاثون حرفا ، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به ، ولا بما ختمت به ، ولا مثلها في عدد الآي ، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى بصدد تعداد بعض نعمه على عباده مبتدئا بأول شيء وأقدمه من حروف آلائه وصنوف نعمائه «الرَّحْمنُ» (1) الذي وسعت رحمته كلّ شيء هو الذي «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» (2) لسيدنا محمد عبده ورسوله وبيّنه له حتى ووعاه عن ظهر غيب ، وهو أمي لا يعرف القراءة ولم يتعلمها من أحد ولا اختلقه من نفسه كما زعم أعداؤه ، على أنه وجميع الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله أو بشيء منه.
وقد جعل تعالى هذه النّعمة العظمى بطليعة النّعم الآتية لأنها أكبر النّعم وسنام مراتب الدّين ، وأقصى مراقبه ، وأعظم كتب اللّه رتبة ، وأعلاها منزلة ، وأحسنها أثرا ، وأثبتها حكما ، ومصداقا ومعنى ، وأجلها قدرا ، وأدومها بقاء «خَلَقَ الْإِنْسانَ» (3) الذي أنزل عليه وهو الإنسان الكامل محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب.
وقال بعض المفسرين إن المراد بالإنسان آدم عليه السّلام ، وليس بشيء لأن آدم سيأتي ذكره بعد صراحة ، وإذا أطلق المفرد العلم يراد به أكمل أنواعه ، والإنسان الكامل من كلّ وجه هو سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم المخاطب به الذي «عَلَّمَهُ الْبَيانَ» (4) فصاحة النّطق وبلاغة الكلام الذي امتاز به على سائر الخلق قال الأبوصيري :
خفضت كلّ مقام بالإضافة إذ نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
قال تعالى «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5)» معلوم وتقدير سوي يجريان بلا فتور في بروجهما ومنازلهما وفي منافع الخلق فيصرّف بهما الأيام والشّهور والسّنين(6/55)
ج 6 ، ص : 56
المترتب عليها أعمال النّاس في المواسم وآجال الدّيون والإجارات والرّهون وأوقات الحج وغيرها مما يتعلق بالحيض والنّفاس والرّضاع والعدة والايمان وغيرها «وَالنَّجْمُ» هو مالا ساق له من النّباتات.
ومما يدل على أن المراد به هذا قوله «وَالشَّجَرُ» حيث عطفه عليه ، لأن الشّجر من النّبات الذي له ساق حقيقة في اللّغة ، فظهر أن ليس المراد به النّجم المعروف «يَسْجُدانِ» (6) خضوعا وخشوعا له تعالى لأنهما خلقا لذلك «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ» (7) العدل ليقوم النّاس بالقسط في أرضه بين عباده كما هو في سمائه بين ملائكته.
ثم حذر النّاس جل وعلا عن الانحراف عن طريق الرّشد فقال ما رفعت السّماء ووضعت الأرض إلّا لأجل «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ» (8) فتجنحوا عن الحق إلى الباطل ، وتميلوا من العدل إلى العوج.
ثم أمرهم بإقامته تأكيدا وتأييدا فقال «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ» هو لسان الميزان الحسّي المادي الذي هو آلة الوزن «بالقسط» للطرفين والأحسن للبايع الترجيح خوفا من أن يخسر المشتري فيدخل البايع في قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) لذلك قال عز قوله «وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» (9) بأن تطففوه فتكونوا خاسرين ، والأحسن أن يراد بهذا الميزان الذي جعله اللّه تعالى بمقابل السّماء العدل المحض في كلّ شيء ، لا العدل في الوزن فقط ، لأن هذا مهما بلغ لا يقابل السماء ذات الكواكب العظيمة والبناء الشّامخ «وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ» (10) لجميع مخلوقاته لا يختص بها عالم دون آخر ،
ثم بين بعض نعمه فيها لبعض خلقه فقال «فِيها فاكِهَةٌ» عظيمة متنوعة «وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» (11) الأوعية التي يكون فيها التمر وهي الطّلع وقد خصه دون سائر الأشجار لأنه أعظمها نفعا وبركة ، والنّخل كله نفع فثمره غذاء وفاكهة ويدخر حولا فأكثر ، وشجرة يبرم من ليفه الحبال ، ومن خوصه الحصر والسّلال ، ومن سعفه المقاعد والتخوت ، وجذوعه لا تؤثر فيها الأرضة ، وتعمر كثيرا ، ولذلك يجعلونها في السّقوف بخلاف بقية الأشجار ، إذ لا يوجد فيها ما يوجد في النّخل من المنافع «وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ» التين ويدخل فيه كافة الحبوب «وَالرَّيْحانُ» (12) ذو الرّائحة الطّيبة وكلّ ذي ريح طيب من النّبات والأزهار يطلق عليه ريحان وهو نبات مخصوص معروف في(6/56)
ج 6 ، ص : 57
كافة البلاد الشّرقية بهذا الاسم وفي لغة حمير يقال له الرّزق فهذا وما تفرع عنه يخرج من الأرض المخلوقة بما فيها لكم أيها الثقلان «فَبِأَيِّ آلاءِ» نعم وأفضال «رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (13) أيها الإنس والجن ، وقد كرر اللّه تعالى هذه الآية في هذه السّورة إحدى وثلاثين مرة ولم تذكر في غير هذه السّورة أبدا في جميع القرآن ، وإنما وقع هذا التكرار تقريرا لنعم اللّه وأفضاله على خلقه ، وتأكيدا على التذكير بها ، وتنبيها على لزوم شكرها ، وليتفكر الثقلان فيها فيفهم قدرها ويعظم أمرها ويحمد التفضل بها.
أخرج الترمذي عن جابر قال خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن فسكتوا ، فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن منكم ردّا ، كنت كلما أتيت على قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
وليس المراد بقوله صلّى اللّه عليه وسلم (ليلة الجن) اجتماعه بهم أول مرة كما ذكرنا أول سورة الجن في ج 1 ، ولا ما ذكرناه في الآية 29 من سورة الأحقاف في ج 2 بل هو اجتماع آخر إذ ثبت اجتماعه بهم ستّ مرات فيما أظهر لأصحابه رضوان اللّه عليهم ، أما اجتماعه بهم فيما لم يطلع عليه أصحابه فلا يعلم مداه ، وهذا الاجتماع بالمدينة ، وذلك في مكة.
مطلب كيفية خلق آدم عليه السّلام وخلق الجان ومعجزات القرآن في المشرقين والمغربين وكيفية التقاء البحرين ومعنى كلّ يوم هو في شان :
«خَلَقَ الْإِنْسانَ» آدم عليه السّلام «مِنْ صَلْصالٍ» طين يابس إذا ضربته بعضه يصلصل أي بصوت فكان من شدة جفائه «كَالْفَخَّارِ» (14) الطّين المصنوع لبنا المطبوخ بالنار ، وقد ذكرنا في الآية 8 من سورة النّساء المارة إذ لا خلاف في آي القرآن بمثل هذه الألفاظ ، لأن المعنى بينها متقارب بعضه من بعض ، ولا منافاة بين هذه وبين آية خلقه من تراب أو من طين أو من حما مسنون الواردة في السّور الأخرى ، لأن التراب جعل طينا ولما اختلط بالماء وعجن ضار لازبا ، ولما اختمر صار حمأ ، فلما زادت خمرته صار مسنونا أي طينا أسود منتنا ، فلما يبس صار صلصالا ، ثم خلق زوجته حواء من أقصر أضلاعه اليسرى ، وجميع(6/57)
ج 6 ، ص : 58
الخلق من بعدها سلائل ذريتها إلى يوم القيامة «وَخَلَقَ الْجَانَّ» أي أصله أيضا وهو إبليس عليه اللّعنة أبو الجان فما بعده أيضا ، وجاء ذكره بمقابلة ذكر آدم عليه السّلام أبي البشر كما مر مثل هذا في الآيتين 27 و28 من سورة الحجر في ج 2 «مِنْ مارِجٍ» لهب صاف من الدّخان «مِنْ نارٍ» (15) وهو لهيبها الأحمر فالأخضر فالأصفر فالأزرق الصّافي من الدّخان الذي يكون بين جمرها بعد استوائه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (16) لا بشيء من نعمك ربنا نكذب بل نصدق بها ونثني عليك بالحمد والشّكر ما حيينا «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (17) لم تأت هاتان اللّفظتان في الكتب السّماوية كلها غير القرآن.
واعلم أنه قبل اكتشاف أمريكا لم يكن أحد يعلم أن الأرض مشرقين ومغربين ، فاعتبروا أيها النّاس ، واعلموا أن القرآن جمع فأوعى ، وفيه علوم الأولين والآخرين منها ما كشف ومنها ما لم ، فمشرق الصّيف غابة ارتفاع الشّمس وانحيازها لجهة الشّمال ومشرق الشّتاء نهاية انحطاطها وجنوحها لجهة القبلة أي الجنوب ويقابلها المغربان وانحيازهما على العكس من جنوح المشرقين نحو القبلة والشّمال ، وهذا بالنسبة لما نرى نحن أهل القطر ، ولكل قطر ما يراه أهله من هذا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 18 مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ» (19) الملح والعذب في مصب واحد كالأنهر الحلوة حينما تنصب في الأبحر ، أي أنه تعالى أجراهما وأرسلهما في المرج حتى جعلهما يجتمعان «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» (20) بعضهما على بعض فيختلطان ويكونان كالشيء الواحد ، فتنعدم من الحلو المنفعة.
وقيل إن المراد بحر الرّوم وبحر الهند والحاجز بينهما نحن.
وقيل بحر فارس والرّوم والبرزخ الذي بينهما هو الجزائر ، وإنهما يلتقيان في المحيط إلّا أنهما خليجان يتشعبان فيكونان شيئا واحدا وقبله كانا متباينين
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» (22) أي من كلّ منهما لا من المالح فقط كما هو ظاهر الآية ، خلافا لما قاله بعض المفسرين باختصاص المالح فقط ، لأن العذب يخرج منه الصّدف ، وقد يوجد فيه اللّؤلؤ أيضا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ» السفن الكبار الجاريات فيهما أيضا «الْمُنْشَآتُ» المحدثات بإحداث البشر وأصلها(6/58)
ج 6 ، ص : 59
سفينة نوح عليه السّلام والفضل للبادي ، وهذه المراكب الفخمة وليدتها وفرع عنها حيث تدرج البشر في صنعها حتى بلغ منها الغاية القصوى مما يحمل بعضها ما لا يتصوره العقل من الأثقال ، فصارت الواحدة منها كالجبال مصداقا لقوله تعالى فتراها «فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ» (24) الجبال الشّامخات فكل ما بالغوا في عظم صنعها لا تبلغ قدر بعض الجبال ، ويطلق لفظ الأعلام على الأشياخ ، قال ابن الفارض :
نصبت في موكب العشاق أعلامي وكان قبلي بلي بالعشق اعلامي
أي أشياخي ، وهو أيضا جمع علم بمعنى الرّاية التي توضع على دور الحكومة ، وتحمل في الحروب ، كما أن أصل هذه القطارات والسّيارات والدّبابات هو العجلة ، وقد تدرجوا في صنعها أيضا وتحسينها وتكبيرها وتسريع حركاتها أيضا حتى بلغت ما ترى إذ طاروا بالسماء بسرعة خارقة ، فكل هذه فرع عنها ، وكلها من خلق اللّه القائل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من الصّافات ، والآية 8 من النّحل في ج 2 نظيرتها في المعنى ، راجع الآية 25 من سورة الحديد المارة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» (26) إنسانا كان أو حيوانا نباتا أو بناء فكل ما على الأرض مصيره الفناء «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ» ذاته وحده «ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (28) أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم (الزموا وتمسّكوا) بيا ذا الجلال والإكرام أي أكثروا من ذكر هذه الجملة العظيمة من صفاته عزت وعلت والالتجاء إليه والاستغاثة به فإنه تعالى يغيثكم بكرمه وفضله.
قال تعالى وهو ابتداء كلام آخر ، لأن الأوّل ختم بفناء الكون وبقاء الكون جل جلاله «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» سؤال استعطاء من إنس وجن وملك يطلبون رحماه بلسان المقال ، وبقية خلقه من نبات وجماد بلسان الحال يرجون لطفه ، ولا غنى لشيء ما عن عطفه ، وقد أسهبنا البحث فيما يتعلق في هذا في الآية 14 من سورة الإسراء ج 1 فراجعها.
وهو جل شأنه «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (29) ولا يشغله شأن عن شأن ، وهذه الآية فيها رد على اليهود القائلين إن اللّه تعالى لا يقضي بشيء يوم السّبت ، وهو يقول عزّ قوله كل(6/59)
ج 6 ، ص : 60
يوم ، فلم يستثن جمعة ولا سبتا ولا أحدا ، وهي شؤون عظيمة يبديها ولا يبتديها كما هي في أزله من إحياء وإماتة ، وعز وذل وفقر وغنى ، وصحة ومرض ، وبسط وقبض ، وسرور وحزن ، وقيد وإفراج ، وخير وشر ، ونفع وضر ، وما لا يحصى ، لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة.
قال جاء الخضر عليه السلام بصورة رجل إلى عالم يحدث في المسجد وقد تطرق إلى تفسير هذه الآية ، فسأله ما شأن ربك اليوم ؟ فلم يقدر أن يعطيه جوابا فبقي مهموما نهاره وليله وهو يقدح فكرته لنسج جواب صالح فلم يوفق ، فنام على حالته هذه فرأى المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم فأخبره به ، فنهض فرحا مسرورا ، وبكر إلى الجامع وطفق يحدث ، فجاءه السائل وسأله ثانيا ، فقال له ما تلقاه وهو (يرفع أناسا ويخفض آخرين) فقال له صلّ على من علمك.
وما يقرب من هذه الحادثة هو أن عالما قال في جملة حديثه الحيا من الإيمان وأسنده لحضرة الرّسول ، وفي نومه رأى حضرة الرّسول فقال له ما قلت هذا فأفاق مرعوبا ، وراجع مالديه من الصّحاح فوجد الحديث ، وسأل من لديه من العلماء ، فأجابوه به ، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت ، ثم ذهب إلى مصر فأجابه علماؤها بصحة الحديث ، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت ، ثم ذهب إلى المدينة المنورة وقص قصته على علمائها ففطن له بعضهم فقال الحيا هو المطر ، ولم يكن من الإيمان ، وإنما الحياء بالمد والهمزة هو من الإيمان وقد صدق المصدق باخبارك لأنك لم تتيقظ لهذه النّكتة فتنبه لغلطه ، ونام فرأى حضرة الرّسول فقال له نعم قلت هذا الحديث كما تفطن له من سألته وعفا اللّه عنك اه شرح البردة للخربوطلي
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» (31) فيها وعيد شديد وتهديد عظيم كقولك لمن تريد الإيقاع به سأفرغ لك.
وليس فراغ اللّه بفراغ عن شغل ، لأن هذا من شأن الخلق به سأفرغ لك.
وليس فراغ اللّه بفراغ عن شغل ، لأن هذه من شأن الخلق وهو منزه عن ذلك ، وإنما هو إنظار الخلق لأجل قدره عليهم من إنجاء وإهلاك وغيرهما.
وسمي الانس والجن ثقلين لإثقالهما الأرض أحياء وأمواتا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» جوانبها وأطرافها هربا من قضائي(6/60)
ج 6 ، ص : 61
عليكما «فَانْفُذُوا» إن كنتم قادر بن ولكنكم «لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (33) عظيم وقوة قاهرة وليس لكم ذلك وأنى لكم هذه الغلبة على النّفوذ ، بل أنتم عاجزون عنه وقدم الجن هنا على الإنس لأنهم أقدر على النّفوذ وأقوى من الإنس لا لفضلهم إذ لم يقل أحد به ولهذا قدم الإنس في الآية 88 من سورة الإسراء ج 1 لأنه فيها أقدر من الجن ولو أنه لا قدرة له عليه ، فعلى الّذين يريدون الصّعود إلى القمر أو المريخ كما يزعمون إن الصّعود إليهما بإمكانهم وهما في أقطار السّماء ، والّذين يريدون اختراق القطب المتجمد الذي هو في أقطار الأرض أن يستحضروا مالديهم من قوة قاهرة للتوصل إلى ذلك ، لأن اللّه تعالى يقول إن هذا النفوذ من الممكنات لا تقدرون عليه إلّا بسلطان ، ومن أين لكم هذا السّلطان الذي ذكره اللّه ، بما يدل على وصفه بالعظمة ، لأن العظيم لا يقوم إليه إلّا شيء عظيم ، وقد صار لهؤلاء المتنطعين مئات السنين وهم يتغنون بالصعود للقمر والمريخ وغيره ويحتجون بأنهم لم يستكملوا بعد هذه القوة الكافية الدّافعة للوصول إليهما ، ولهذا فيجدر أن يقال لهم إنكم عاجزون عن ذلك ، لأن هذا وإن كان العقل يجوزه بالنسبة لما حدث في هذا القرآن من العجائب والغرائب إلّا أنه متوقف على قوة عظيمة لم يتسن للبشر إدراكها ، وما على البشر بعد بذل جهده ووسعه في ذلك وعدم تمكنه منه إلا أن يظهر عجزه عن ذلك ، وعن القول بأن كلا من هذه الكواكب كرة أرضية مسكونة رجما بالغيب ، لأن أحدا لم يرها ولم يخبر عنها من يؤخذ بقوله من الأنبياء الّذين أطلعهم اللّه على بعض غيبه وأخبروا به قيل وقوعه ، فضلا عن أن كلّ ما لا يرى عيانا يكون من الأمور الحدسية الغالب عليها الكذب ، وما كان كذلك فلا ينبغي للعاقل أن يقطع بصحته «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 34 يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ» لهب خالص لا دخان فيه «مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ» دخان محض لا لهب
فيه ، هذا فإن قيل من أين عرف هذا الأوربيون حتى اخترعوا الغيوم من الدّخان وغيره بحيث يمتنعون عن الرّؤية في البر والبحر والسّماء ؟
فالجواب أنهم عرفوه لأنه من لوازم الحياة الدّنيا ، وكلّ ما هو من هذا القبيل قد يطلعهم اللّه عليه.
قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية 8 من(6/61)
ج 6 ، ص : 62
سورة الرّوم في ج 2 وعند ما يفعل اللّه ذلك بكم أيها الثقلان «فَلا تَنْتَصِرانِ» (35) منه إذ لا يقدر على دفعه عنكم إلّا الذي أرسله عليكم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» (37) حمراء مذابة كدر ، رديء الزّيت قال تعالى (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) الآية 9 من سورة المعارج في ج 2 والمهل هو النّحاس المذاب «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 38 فَيَوْمَئِذٍ» حين يضيق عليكم في ذلك اليوم العظيم ، فلا تقدرون على الهرب ، ويرسل عليكم لهب النّار ودخلنها وتنهار السّماء «لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» (39) لأن في هذا الموطن تخرس الألسن وتنطق الجوارح بما فعلت وتنشر الصّحف بما كان من الخلائق ، وقد علم اللّه كلّ ذلك وأعلمه لخلقه ويشتد اهول لما يرى النّاس من قبائح أعمالهم وما يرون من أهوال العذاب الكائن للمجرمين ، وهذا لاينافي قوله تعالى (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الآية 92 من سورة الحجر في ج 2 لأن أحوال القيامة مختلفة ، فمرة يسأل فيها النّاس عن أعمالهم ، وأخرى يتخاصمون بينهم ، وتارة يمنعون من الكلام ، وأخرى يسكتون ، وطورا تسأل أعضاؤهم وتارة تنطق بنفسها ، فهو يوم شديد يشيب منه الوليد وترتعد لهوله الفرائض
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ» زرقة عيونهم واسوداد وجوههم ، حمانا اللّه من ذلك «فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي» منهم تارة «وَالْأَقْدامِ» (41) أخرى ويزجون في النّار «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (42) ثم يقال لهم من قبل ملائكة العذاب «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ» (43) أمثالكم تبكيتا وتقريعا لهم «يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» (44) ماء بالغ أقصى حرارته لأنهم إذا استغاثوا من عذاب النار أغيثوا بالحميم وبالعكس «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (45).
مطلب أن الآيات نقم على أناس ، نعم على آخرين ومزية الخوف من اللّه تعالى :
واعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) إلى هنا كما أنها نقم على العصاة هي مواعظ أيضا وزواجر يخوف اللّه بها عباده كي يتباعدوا عن الأسباب المؤدية إليها ، فإذا اتعظوا كانت عليهم نعما ، ولذلك ختمت بالآية المكررة(6/62)
ج 6 ، ص : 63
الواقعة موقع الاستفهام عن نعمه تعالى على عباده.
وبعد أن ذكر جل ذكره ما أوعد به الكافرين أعقبه ببيان ما وعد به المؤمنين فقال «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» (46) واحدة لقاء عمله في الدّنيا من طاعة وصدقة وبرّ وتركه المعاصي خوفا من اللّه وعمله الطّاعات طمعا بفضل اللّه ، وأخرى تفضلا منه تعالى إيفاء بوعده المبين بقوله جل قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية 27 من سورة يونس في ج 2 ، لأنه لا يخافه حق خوفه إلّا العارف العالم.
قال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 28 من سورة فاطر ، والآية 57 من سورة الإسراء في ج 1 الدّالتين على أن الأقرب من اللّه أشد خوفا منه من غيره أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من خاف أدلج (الإدلاج بالتخفيف السّير أول اللّيل وبالتشديد آخره) ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا ان سلعة اللّه غالية ، ألا إن سلعة اللّه الجنّة.
وروى البغوي بسنده عن أبي ذر أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) أي موقفه يوم الحساب بين يدي ربه ، فمن حسب حسابه واتقى ربه في الدّنيا يكون له في الآخرة جنتان ، فقلت وإن زنى وإن سرق يا رسول اللّه ؟ فقال وإن زنى وإن سرق ، ثم قال (لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق ؟ فقال وإن زنى وإن سرق ، ثم قال (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا لرسول اللّه ؟ قال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبى ذر.
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ» (48) أغصان مستطيلة كثيرة ، والفنّ الغصن من الشّجرة المستقيمة طولا قال :
ومن كلّ أفنان اللّذاذة والصّبا لهوت به والعيش أخضر ناضر
وفي كلّ غصن من أغصان تلك الجنان فنون من الفواكه ، مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، ومن هنا أخذ تطعيم الأشجار المتقاربة في الثمر الذي عرفه خبراء الزراعة حديثا وطبقوه ؟ فأمكن لهم أن يطعموا شجرة واحدة بأنواع مما يشابهها فتأكل من الشّجرة الواحدة أصنافا من الفاكهة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ» (50) على أرضهما بلا أخدود الأولى التسنيم المذكورة(6/63)
ج 6 ، ص : 64
في الآية 27 من المطففين المارة في ج 2 ، والثانية السّلسبيل المبين في الآية 19 من سورة الإنسان الآتية
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ» (52) رطب ويابس كما يوجد الآن في البرتقال فإنه قد يجتمع فيه ثمر السّنة الماضية والحالية وفي الآخرة كلّ أشجارها كذلك فترى فيها العتيق والجديد بآن واحد ، فلا يضر الثمر قدمه ولا يغير لونه وطعمه بخلاف ما في الدّنيا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ» فيهما «عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ» ديباج ثخين من الحرير وقد أخبرنا اللّه عن البطائن التي تلى الإنسان بأنها من ذلك النّوع فما بالك بالظهائر التي تبرز للعيان ، اللهم أرناها ومتعنا والمؤمنين فيها برضاك المؤدي إليها برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
«وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» (54) قريبا من يد المتناول القاعد والقائم والمضطجع سواسية في تناوله ، لأن الأثمار التي فيها القديم والحديث هي التي تدنو من طالبها حتى تصير أمامه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ» على أزواجهن لا ينظرن غيرهم وجمع الضّمير مع أنه يعود إلى الجنتين ، لأن كلا منهما فيها قصور ومجالس متعددة أو أنه من قبيل إطلاق الجمع على ما فوق الواحد كما مرّ في الآية 78 من سورة الأنبياء في ج 2 وفيما ترشدك إليه «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ» يمسسهن وينلهن أو يقربهن «إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» (56) قال الفرزدق :
خرجن إلي لم يطمئن قبل وهن أصح من بيض النّعام
تشير هذه الآية إلى أن الجن كالإنس في مقاربة النّساء وأن لهم نساء من جنسهم ، وهو كذلك ، لأنهم يتوالدون في الدّنيا.
وقيل إن منهم من يتزوج بإنسي ، كما أن من الإنس من يتزوج بجنية ، ولهذا قالوا إن بلقيس أمها من الجن ، راجع الآية 45 من سورة النّمل في ج 1 «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ» (58) صفاء وبياضا وحمرة ، أخرج الترمذي عن ابن مسعود أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن المرأة من نساء أهل الجنّة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة يرى مخها ، وذلك أنك إذا أدخلت سلكا في الياقوت رأيته من ورائه وكذلك سوق النّساء من أهل الجنّة ، وروى البخاري(6/64)
ج 6 ، ص : 65
ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أول زمرة تلج الجنّة صورهم على صورة القمر ليلة البدر ، ثم الّذين يلونهم على أشد كوكب في السّماء إضاءة ، لا يبصقون ولا يمخطون ولا يتغوطون ، آنيتهم من الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ، ومجامرهم الألوة (أي مباخرهم وبخورهم فيها العود ولكن ليس كعود الدّنيا) رشحهم المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللّحم من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم قلب رجل واحد ، يسبحون اللّه بكرة وعشية ، وزاد البخاري ولا يسقمون.
قال سعيد بن جبير هذا من جملة ما قال تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآية 17 من سورة السّجدة في ج 2 «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 59 هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (60) روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان الآية ، ثم قال هل تدرون ما قال ربكم ؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنّة ؟ وذلك لأن من أتى بالحسن يقابل بمثله وأحسن عند أهل الدّنيا للمنصفين فكيف عند رب العالمين
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (61) وقال بعض المفسرين أن الجنتين المتقدمتين واحدة للإنس وواحدة للجن ، ولكن ما جرينا عليه أولى لما تقدم في الآية 27 من سورة الأعراف ج 1 بأن الجن يكونون بفناء الجنّة.
ثم ذكر اللّه تعالى جنتين أخريين بقوله «وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ» (62) أي أمامها وقبلها أفضل منهما ، لأن الجنتين الأوليين لأصحاب اليمين وهاتين للمقربين اللهم أهلنا لأيهما شئت «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (63) روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في عدن.
ثم بدأ يصفهما كما وصف أولاهما آنفا فقال «مُدْهامَّتانِ» (64) لشدة خضرتهما صارا يقربان إلى السّواد «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ» (66) فوارتان تدفعان الماء إلى العلو مثل المضخات الموجودة الآن ، ولكن هذه بآلة وتعب وتكاليف ومعرضة(6/65)
ج 6 ، ص : 66
للخراب ولمسافة معلومه وتلك بقدرة القادر أبدية طبيعية مسافتها كما يشتهي طالبها والنّاظر إليها إن أراد أن ترتفع مدى النّظر ارتفعت وإن أراد أن تنحط انحطت حسبما يستحسنه الرّائي ويتمناه المتمني ولا تحتاج إلى شيء «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ» (68) ومن أنواعهما ألوان ، وإنما خصهما لأن التمر فاكهة وغداء والرّمان فاكهة ودواء وفائدة عطفهما على الفاكهة مع دخولهما فيها لما ذكرنا ولفصلها على جميع الفواكه كما يشير إليه تنوين التنكير فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ» بالأخلاق والآداب حِسانٌ» (70) بالوجوه وتناسب الأعضاء ويظهرن لأزواجهن حسبما يرغبون
وهذا من بعض نعم ربك عليك أيها الإنسان «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (71) وهؤلاء الموصوفات «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» (72) المنسوجة من الذهب والفضة الموشاة باللؤلؤ والدّرر والزبرجد والمرجان وغيرها ، لا يخرجن منها لكرامتهن وشرفهن يبقين في خدورهن ، وهذه الخيام ليست كخيام الدّنيا لأنها واسعة مدى النظر ، وفيها الجنان والمياه ومحال التنزه غير السّكن.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن للمؤمن في الجنّة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السّماء ، وفي رواية عرضها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم ، فلا يرى بعضهم بعضا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (73) وهؤلاء الحسان أيضا كالأول من حيث «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» (74) أي قبل زواجهن أي أنهن أبكار ولا يعدهن أيضا لأنهم لا يتركونهن ولا يطلقونهن وحذف من الثاني بدلالة الأوّل كما يحذف من الأوّل بدلالة الثاني ، راجع الآية 35 من سورة الرّعد المارة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ» وسائد «خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ» (76) أي زرابي وطنافس جميلة جدا وكلّ نفيس جميل تسمية العرب عبقري نسبة إلى عبقر ، قيل هي أرض تسكنها الجن ، فصارت مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع فاخر عجيب ، وذلك أن العرب تعتقد في الجن كلّ صنعة غريبة ، وينسبون كلّ شيء عجيب إليهم لاعتقادهم بأنهم يأتون بكل عجيب لما بلغهم عن أعمالهم لسيدنا سليمان(6/66)
ج 6 ، ص : 67
عليه السّلام المشار إليها في الآية 39 من سورة النّمل ج 1 والآية 12 من سورة سبأ ج 2 وغيرهما من المواضع ، حتى إنهم ينسبون الرّجل الطّيب لها فيقولون فلان عبقري ، والقرآن نزل بلغتهم ، وحتى الآن يضرب المثل بهذه الكلمة لكل ما يستحسن «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» (78) ختم جل جلاله نعم الآخرة بهذه الآية الجليلة إشارة إلى تمجيده وتحميده ، كما ختم نعم الدّنيا المتقدمة بمثلها إعلاما بأنه الباقي وإنها فانية ولا يخفى أن وصف الجنتين الأخيرتين أبلغ وأعظم من الأوليين وما فيهما ، كذلك لأنهما للمقربين وهم أقوم وأقدس من أصحاب اليمين كما علمت ، روى مسلم عن ثوبان قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر اللّه ثلاثا وقال اللهم أنت السّلام ومنك السّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
وأخرج أبو داود والنّسائي مثله بزيادة لم يقعد بعد السّلام إلّا مقدار ما يقول اللّهم أنت السّلام إلى آخره.
ولذلك ذهب أبو حنيفة إلى سنة قراءة الأوراد الواردة بعد الصّلوات بعد أداء السّنة إذ لم يثبت لديه أنه صلّى اللّه عليه وسلم قعد بين الفريضة والسّنة بأكثر من ذلك وذهب الإمام الشّافعي إلى قرائتها بين الفريضة والسّنة لأنه صلّى اللّه عليه وسلم فصل بينهما بتلك الكلمات ، ولكل وجهة.
واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين إلى يوم الدّين.
والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الإنسان
عدد 12 - 98 و76
نزلت بالمدينة بعد سورة الرّحمن ، وهي إحدى وثلاثون آية ، ومئتان وأربعون كلمة ، وألف وأربعمائة وخمسون حرفا ، وتسمى سورة الدّهر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «هَلْ أَتى » قال أكثر المفسرين معناه قد مضى.
وظاهره استفهام للحمل على الإقرار بما دخلت عليه هل الاستفهامية ، أي مضى عليه زمن كثير ولم يدر ما هو على المعنى الأول ، والمقرر به من ينكر البعث لأنهم يقولون مضى على انسان دهور وهو كذلك ، أي قولوا(6/67)
ج 6 ، ص : 68
لهم إن الذي أوجده بعد أن لم يكن ، كيف يمتنع عليه إعادته بعد موته ؟ ثم بين كيف كان وما آل إليه فقال عز قوله مرّ «عَلَى الْإِنْسانِ» آدم عليه السّلام في بداية خلقه «حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ» مدة كثيرة وهي من معاني الحين «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» (1) ولم يدر ما هو وما يراد به لأنه عبارة عن هيكل مصنوع من طين لا حراك به.
وهذا الاستفهام على المعنى الثاني تقريري يجاب ببلى أي أنه مر عليه زمن طويل وهو مجندل مصور من الطّين لم يذكره ولم يعلم بأنه سيكون بشرا ، وتتولد منه هذه الخلائق وما قيل أن آدم صور وطرح بين مكة والطّائف ينفيه ما رواه مسلم عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما صور اللّه آدم في الجنّة تركه ما شاء اللّه أن يتركه ، فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشّهوات ، وإذا كان كذلك فمن الممكن التسلط عليه وإغواؤه ، قال تعالى «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» المذكور بعد أن كوناه من التراب جعلنا ذريته مخلوقة «مِنْ نُطْفَةٍ» حقيرة «أَمْشاجٍ» ممزوجة من ماء المرأة والرّجل يقال مشجت الشّيء بمعنى مزجته وخلطته ، وإنا بعد أن خلقناه على هذه الصّورة «نَبْتَلِيهِ» فنختبره ونمتحنه بأوامرنا ونواهينا بعد أن نركب فيه العقل ونصيّره قادرا على تمييز الخير من الشّر «فَجَعَلْناهُ» بعد تمام خلقه وكمال حواسه على الصّورة المبينة في الآية 17 فما بعدها من سورة المؤمن ج 2 «سَمِيعاً بَصِيراً» (2) قدم السّمع على البصر لأنه أفضل منه ، لأن الأعمى يمكن التفاهم معه بخلاف الأطرش ، وخصّ هاتين الحاستين من بين الحواس العشر المشار إليها في الآية 73 من سورة يوسف ج 2 لعظم فضلهما «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ» السوي في دنياه وبينا له عاقبة الخير والشّر وأعطيناه عقلا يميز به النّفع من الضّر ، وجعلنا له الخيار فيما يريد «إِمَّا شاكِراً» يكون لنعمنا هذه مقدرها حق تقديرها موحدا لإلهيتنا مؤمنا بقدرتنا آخذا بإرشاد رسلنا «وَإِمَّا كَفُوراً» (3) بذلك جحودا لما أوليناه من النّعم كافرا برسلنا وكتبنا.
هذا ، وقال ابن عباس إنه بقي مئة وعشرين سنة ، يريد أربعين سنة طينا وأربعين صلصالا ، وأربعين حمأة ، وقال الفخر إن الحين له معنيان الأوّل أنه طائفة(6/68)
ج 6 ، ص : 69
من الزمن الطّويل الممتد وغير مقدر في نفسه ، والثاني مقدر بأربعين سنة وبالنظر للأحاديث الواردة في هذا الشّأن المعبرة للأول وهو الأولى ، واللّه أعلم «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» بنا في الآخرة «سَلاسِلَ» يوثقون بها بأرجلهم «وَأَغْلالًا» تربط بها أيديهم وأعناقهم «وَسَعِيراً» (4) نارا موقدة تحرقهم «إِنَّ الْأَبْرارَ» الشاكرين لنعمنا قد هيأنا لهم الجنّة يدخلونها مع الشّهداء «يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ» راجع معناه في الآية 18 من سورة الواقعة في ج 1 «كانَ مِزاجُها كافُوراً» (5) من حيث بياضه ورائحته وبرده وهذا اسم لعين الماء التي يخلط بها شرابهم لا الكافور المعروف ، لأنه لا يشرب ، ومما يدل على ما ذكرناه قوله تعالى «عَيْناً» بدل من كافور «يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» (6) إلى حيث شاءوا وأرادوا من قصورهم وخيامهم ، لأن التفجير شق الشّيء بان يجروها جداول إلى حيث شاءوا في مساكنهم وغيرها بمجرد إشارتهم إليها ، وقد أعطوا هذا الشّيء العظيم في الآخرة لأنهم في الدّنيا كانوا «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» الذي أوجبوه على أنفسهم لذلك فإن اللّه تعالى وفّى لهم ما وعدهم به وأوجبه على نفسه تفضلا منه إذ لا واجب عليه.
مطلب في الحين والنّذر والكرم وأنواعه وثوابه وأول من سنه :
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال استفتى سعد بن عبادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها وفي هذا دليل على وجوب الوفاء بالنّذر أما إذا كان معصية فلا ، فقد روى البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من نذر أن يطيع اللّه فليف بنذره ، ومن نذر أن يعصيه فلا يف به.
وعنها قال ، لا نذر في معصية اللّه وكفارته كفارة يمين - أخرجه الترمذي - وأبو داود والنّسائي «وَيَخافُونَ يَوْماً» عظيما لأن تنكيره يدل على هول ما فيه من الفزع «كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» (7) منتشرا على الخلائق والسّموات والأرضين وما فيهما «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ» في الدّنيا قصد الثواب ابتغاء مرضاة اللّه تعالى «عَلى حُبِّهِ» وحاجتهم إليه ويؤثرون على أنفسهم «مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» (8) ويقولون لمن يتفضلون عليهم «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ(6/69)
ج 6 ، ص : 70
لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً»
(9) لئلا يعزم المحتاجون على مكافتهم وتكون طيبة أنفسهم ويتأثمون من المن والأذى بنفقاتهم قائلين «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً» وجه أهله المفرطين بدنياهم «قَمْطَرِيراً» (10) شديد الا كفهرار تتغير فيه الوجوه حتى لا تكاد تعرف وعليه قوله :
واصطليت الحروب في كلّ يوم باسل الشّر قمطرير الصّباح
أي إنما يقصدون بإحسانهم الوقاية من هول ذلك اليوم فقط لا لأمر آخر
«فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ» جزاء إطعامهم واعتقادهم وإحسانهم للوقاية من هوله وحسن ظنهم باللّه واللّه عند حسن ظن عبده «وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً» بهاء وبهجة في وجوههم «وَسُرُوراً» (11) في قلوبهم أشرق لمعانه على وجوههم ، لأن فرح القلب يبعث الانطلاق على الوجه فيظهر الابتسام عليه وهو نوره «وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا» على إيثار الفقراء على أنفسهم وعلى فعل الطّاعات والكف عن المعاصي وأذى النّاس إليهم «جَنَّةً وَحَرِيراً» (12) يلبسونه في تلك الجنّة «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة الجميلة خلال الحجال ، ولا تسمى أريكة إلّا وهي فيها «لا يَرَوْنَ فِيها» أي تلك الجنّة «شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» (13) لا حرا ولا بردا مزعجين وليسوا بحاجة إلى ضوء الشّمس والقمر لأن الجنّة مضيئة بنفسها بنور ربها المشرق عليها قال تعالى وأشرقت الأرض (أي أرض الجنّة) بنور ربها الآية 69 من سورة الزمر ج 2 ، والزمهرير هو القمر على لغة طيء وعليه قولهم :
وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر
أي ما درّ وما طلع «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها» الحاصلة من أشجارها بدليل قوله «وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» (14) أي سخرت للتناول تسخيرا كما يشاء طالبها بحيث يتمكن من قطعها على أي حالة كان راجع الآية 54 من سورة الرّحمن المارة ، وقيل المراد بتذليلها ثقل حملها وليس بشيء إذ لا فضل لهم به ، والقصد هنا تفضيلهم وإكرامهم حتى في مثل هذا «وَيُطافُ عَلَيْهِمْ» بواسطة الجوار الحسان «بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ» كؤوس ملأى من الشّراب اللّذيذ لها عرى «وَأَكْوابٍ» كيزان لا عرى لها «كانَتْ» هذه الأوان والأكواب «قَوارِيرَا» (15)(6/70)
ج 6 ، ص : 71
شفافة لطيفة ليست بجام بل هي «قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ» جامعة بين بياض الفضة وحسنها وصفاء الجام ولطافته بحيث يرى الشّراب من خارجها وتتلون بلون ما فيها «قَدَّرُوها تَقْدِيراً» (16) لدى الرّجل الواحد بلا زيادة ولا نقص وهذا يكون في غاية اللّذة ، وهكذا كلّ ما في الجنّة كامل طيب «وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً» ملأي خمرا لم تمزج بماء بل «كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» (17) اسم لعين ماء خاص لمزج شراب الأبرار ، ولهذا أبدل منه «عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» (18) كانت العرب تضع الزنجبيل في شرابهم لما فيه من الرّائحة واللّذع ، قال المسيب ابن علس :
وكأن طعم الزنجبيل إذا ذقته وسلافة الخمر
وقال الأعشى :
كان القرنفل والزنجبيل باتا بقيها وأره مشورا
الأرى العسل ، والمشور المستخرج من بيوت النّحل.
وقد ذكره اللّه تعالى لأنه كان مستطابا عند العرب ، والآن يضعون اليانسون في شرابهم قبح اللّه شاربيه إذا ماتوا مدمنين عليه ، وسميت هذه العين سل سبيلا كأنها تقول لأهل الجنّة اختاروا أي طريق تريدون أن أجري فيه إلى قصوركم وخيامكم.
وقدمنا وصف خمرة الآخرة في الآية 18 من سورة الواقعة في ج 1 والآية 25 من المطففين في ج 2 فراجعهما «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» راجع الآية 17 من سورة الواقعة المذكورة في معنى مخلدون ، لأن معنى الخلد هنا لا يتم عن كبير معنى ، لأن الخلود في الجنّة لمن فيها محقق وكلّ ما فيها خالد فلا حاجة لذكر خلود خدمها وهي دار الخلد ، بل معناه مقرطون ، وقيل مسوّرون أي لابسون أقراطا وأسورة من ذهب كالمخدومين ، راجع الآية 24 من سورة الحج الآتية فيشابهون أسيادهم من هذه الجهة ، وان إلباس العبيد يشير إلى عظمة الأسياد في الدّنيا ، لأنا نرى بعض الشيوخ يلبسون عبيدهم أحسن منهم ، فلأن يكون في الآخرة من باب أولى «إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً» (19) في البياض والحسن والكثرة و«إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ» هناك يا سيد الرّسل في تلك الجنان الباهرة «رَأَيْتَ نَعِيماً»(6/71)
ج 6 ، ص : 72
عظيما لا يوصف بهاؤه «وَمُلْكاً كَبِيراً» (20) لا يقدر قدره وإن أهل هذه الجنان
«عالِيَهُمْ» لباسهم الفوقي كالعباءة والملحفة والجبة وهو مبتدأ خبره «ثِيابُ سُندُسٍ» هو ما ، رقّ من الحرير «خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ» هو أثخنه «وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ» وقد مر في سورة فاطر يحلون فيها من أساور من ذهب الآية 23 في ج 2 وفي آية الحج الآتية في ذهب ولؤلؤ الآية 23 ، وعليه يكون المعنى أن كلا من أهل الجنّة يلبس اسورة من فضة وذهب ولؤلؤ ، ومن هنا تعلم أن أهل الدّنيا لما صاروا يوسون اللّؤلؤ بالذهب ويتحلون به أخذوه من كتاب اللّه «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» (21) لم تلمسه يد ولم تدنسه رجل ، لأنه صنع اللّه بكلمة كن «إِنَّ هذا» المذكور كله وأضعافه «كانَ لَكُمْ» أيها المؤمنون «جَزاءً» لأعمالكم الصّالحة «وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» (22) عند ربكم محمودا مرضيا ، لأن أعمالكم في الدّنيا كانت مرضية عنده ، ولأنكم قلتم للفقراء لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ، لمثل هذا فليعمل العاملون أيها النّاس ، وبه فليتنافس المتنافسون.
نعمت جزاء المؤمنين الجنه دار الأمالي والمنى والمنه
من الزرابي فرشها أي صاح ترى بها الحرام كالمباح
وهذه الآيات عامة في كلّ مؤمن يعمل مثل هذا العمل ، وإن سبب نزولها على ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن عليا كرم اللّه وجهه كان عمل ليهودي بشعير ، فأصلحوا هو وزوجته فاطمة رضي اللّه عنهما وخادمته فضة قسما منه ليأكلوه ، فجاءهم مسكين فأعطوه إياه ، ثم أصلحوا القسم الآخر فجاءهم يتيم فأعطوه إياه ، ثم أصلحوا باقيه وعند ما تم نضجه أتاهم أسير فدفعوه له ، وباتوا طاوين شاكرين اللّه على ذلك ، لأنهم تصدقوا بما عندهم مع احتياجهم إليه ، وهذا معنى قوله تعالى (عَلى حُبِّهِ) إذا صح لا يخصصها فيه عليه السّلام دون غيره بل يشمل عمومها كل من عمل عمله لعموم اللّفظ ، ويدخل فيها هو دخولا أوليا ، كيف وهو من بيت الكرم ، لأن أول من سن القرى جده ابراهيم عليه السّلام وأول من هشم الثريد جده هاشم ، وأول من أفطر جيرانه على مائدته في الإسلام عمه عبد اللّه(6/72)
ج 6 ، ص : 73
بن عباس ، وهو أول من وضع الموائد على الطّريق وكان إذا خرج الطّعام من بيته لا يرد منه شيئا بل يتركه لمن يأكله وهو أول من وضع الطّعام على الطّرق للمسافرين والقافلين ، وهذه سنة لم يسبقه بها أحد من أجواد الجاهلية والإسلام مثل حاتم وهرم بن سنان وكعب بن مامه وغيرهم.
قالوا وقد جدد هذه السّنة الأخيرة من أكارم العرب صفوك الجرياء شيخ عشائر شمر في الجزيرة جد مشعل باشا الموجود الآن وجد عجيل الياور القاطن في الموصل كثر اللّه الكرام وأدام نعمه عليهم في الدنيا والآخرة.
ومما قاله معدن الكرم عبد اللّه بن عباس :
إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى واعمل فكر اللّيل واللّيل عاكر
وباكرني في حاجة لم يجد بها سواي ولا من نكبة الدّهر ناصر
فرجت بما لي همه من مقامه وزايله هم طروق مسافر
وكان له فضل عليّ بظنه بي الخير إني للذي ظن شاكر
ومن مروءة ابن عمه عبد اللّه بن جعفر أنه أسلف الزبير الف درهم ، فلما توفي الزبير قال ابنه عبد اللّه له اني أجد في كتب أبي أن له عليك الف الف درهم قال هو صادق فاقبضها إن شئت ، ثم لقيه بعد ذلك ، فقال يا أبا جعفر اني واهم المال لك على أبي ، قال فهو له ، فقال لا أريد ذلك ، قال فاختر إن شئت فهو له ، وإن كرهت ذلك فلك فيه نظرة ما شئت ، فانظروا أيها النّاس أين هؤلاء الكرام ألا يوجد من يتأسى بهم فينال الثناء من النّاس في الدّنيا والثواب من اللّه في الآخرة ، ولكن النّاس ويا للأسف حرصوا على الدّنيا بحبّهم لحطامها الذي يسهل لهم كلّ شيء كما قيل :
وإذا رأيت صعوبة في مطلب فاحمل صعوبته على الدّينار
وابعثه فيما تشتهيه فإنه حجر يلين قوة الأحجار
فخير للناس من أن يجمعوه ويتركوه فيحاسبوا عليه أن يصرفوه في طرق الخير ، وينالوا ثوابه ، اللهم وفقنا لما فيه خيرنا وفلاحنا.
قال تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» (23) كثيرا ، المرة بعد المرة لأن التشديد يفيد التكثير والتضعيف ، إذ أنزل آية آية ، وخمس خمس ، وسورة سورة ، كما اقتضته حكمة اللّه.(6/73)
ج 6 ، ص : 74
وفي هذه الآية ردّ على الكافرين والمنافقين القائلين إنه سحر وكهانة وشعر واختلاق وتعلم وخرافات «فَاصْبِرْ» يا حبيبي على أذى قومك وتحمل ثقلهم ، فقد آن أن يأتيك الفرج العام والنّصر المبين ، فانتظر «لِحُكْمِ رَبِّكَ» بهذا إلى أن يأتي الوقت المقدر للفتح العظيم الذي وعدناك به «وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» (26) وإنما وصمهم بهاتين الخصلتين لأنهم أحد رجلين : إما كثير الإثم كأهل الكتابين أو مشرك كأهل مكة وحلفاهم من العرب ، وإن كلا منهم يدعو إلى ما هو عليه.
هذا ولا يصح نزول هذه الآية في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة أو في أبي جهل كما قاله بعض المفسرين ، لأنهم قتلوا قبل نزولها ولا قائل بأنها مكية أو أن هذه الآية مستثناة منها ، وكون مجيئها مسوقة على ما كان منهم عند حدوث ذكرهم بعيد أيضا ، ولهذا فإنها عامة مطلقة في كلّ من هو كذلك.
قال تعالى «وَاذْكُرِ» يا سيد الرّسل «اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (25) أول النّهار وآخره ، وهذا إشارة إلى صلاة الصّبح والظّهر والعصر «وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» (26) وهذه اعلام بصلاة المغرب والعشاء والتطوع ، والقصد منها إدامة ذكر اللّه تعالى ليل نهار وفي كلّ حال ، واعلم يا سيد الرّسل «إِنَّ هؤُلاءِ» الكفرة والمنافقين «يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ» متوغلين في الدّنيا متهالكين عليها ولذلك يعرضون عنك لأنك تدعوهم إلى ضدها ، ولكنهم لا يريدون الآخرة التي تدعوهم إليها لأنهم لم يصدقوا بوجودها ويرون إجابة طلبك بالرشد والنّصح صعبا عليهم قال :
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلّب في الماء جذوة نار
وهيهات ذلك لأن الآخرة لمن يؤمن بالغيب الذي تخبر به وهم جاحدون له كافرون به مقتصرون على الدّنيا «وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا» (27) عليهم وقعه شديدا بلاؤه ، ولو علموه لجعلوه أمامهم صباح مساء ولكن لم يعرفوه فتركوه وراءهم ، ولم يلتفتوا إليه ، قال تعالى «نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ» مفاصلهم بالأعصاب ليتمكنّوا من القيام والقعود والأخذ والدّفع والقبض والبسط ولو لا هذا الرّبط المحكم بهذا النّظام البديع لما انتفعنا بجوارحنا وحق لمن فعل هذا معنا أيها النّاس الشّكر والطّاعة لا الكفر والمعصية «وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ(6/74)
ج 6 ، ص : 75
تَبْدِيلًا»
(28) فجعلناهم على صور أخرى وأهلكناهم وخلقنا قوما غيرهم يشكرون ويطيعون ليعلموا أنا قادرون على إحيائهم بعد الموت ، كما نحن قادرون على تبديلهم الآن ، وهذه الآية بمعنى الآية 27 من سورة النّساء المارة «إِنَّ هذِهِ» الآيات المندرجة في هذه السّورة «تَذْكِرَةٌ» عظيمة وعظة بليغة لمن يوفقه اللّه لامتثالها والقيام بمقتضاها «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» (29) بالتذكر فيها واتباع سبيل النّجاح الموصل إلى النّجاة «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» لأن الأمر كله له وحده فلا تقدرون على طاعته إلّا بتوفيقه وإرادته ولا ينكفون عن معصيته إلّا بمشيئته وأمره «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً» بأحوال خلقه وما يؤل إليه حالهم في الدّنيا والآخرة «حَكِيماً» (30) مصيبا بما يفعله بخلقه
«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» بهدايته لدينه القويم وتأهيله لها «وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ» باختيارهم المعاصي وظلمهم أنفسهم وغيرهم «عَذاباً أَلِيماً» (31) في الآخرة لا تطيقه قواهم لأنه علم إصرارهم على الكفر فلم يوفقهم للتوبة ولم يهديهم لسلوك طريقة السّوي فاستحقوا العذاب الدّائم بسوء نيتهم.
هذا واللّه أعلم.
وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الطّلاق
عدد 13 - 99 - 65
نزلت بالمدينة بعد الإنسان ، وهي اثنتا عشرة آية ومئتان وتسع وأربعون كلمة والف وستون حرفا ، ومثلها في عدد الآي وسورة التحريم فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» المختار لرسالتنا الأمين على وصيتنا المأمور بتبليغ أوامرنا ونواهينا ، قل لأمتك «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» أي بعد تمام الحيض أول الطّهر لئلا تطول عليهن العدة المانعة من زواجهن بغيركم ، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه طلق زوجته وهي حائض فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فتغيظ منه رسول اللّه ، ثم قال مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، فإن بدا(6/75)
ج 6 ، ص : 76
له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر اللّه أن تطلق لها النّساء ، ففعل كما أمر.
واعلموا أيها النّاس أن هذا هو الطّلاق المأمور به من يريده وهو عند اللّه ورسوله وعلى غير هذه الصّورة يكون بدعيا مخالفا للسنة مؤاخذا عليه عند اللّه لما فيه من قصد الإضرار بالزوجة ، قال بعض العلماء لعل هذه الآية هي النّاسخة للمتعة الواردة في الآية 24 من سورة النّساء المارة لأنها متأخرة عنها ولأنها تنص على لزوم إيقاع الطّلاق للعدة أي لزمانها والمتعة لا عدة فيها ، راجع الآية المذكورة في سورة النّساء فيما يتعلق في هذا البحث وقد ذكرنا فيها أنها إنما ثبتت بالسنة ونسخت بها لأن السّنة تنسخ بمثلها ولا تنسخ القرآن ، فالقول الصّحيح أنها لم تنسخ بالقرآن ، وإنما نهى عنها رسول اللّه كما أنها ثبتت بإجازته ، وامتثال أمره ونهيه واجب على الأمة لأنه لا ينطق عن هوى ، وقال تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية 58 من سورة النّساء المارة وقال (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية من سورة الحشر الآتية لذلك فإنها محرمة على القطع بتحريم رسول اللّه كما وتحريمه تحريم اللّه القائل «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ» ليعلم أنه إذا أراد زواجها المطلق ضمنها كان له ذلك إذا كان الطّلاق رجعيا وتتزوج بعدها إذا انقضت عدتها له أو لغيره وليتزوج هو بعدها أيضا إذا كان له ثلاث زوجات غيرها إذ لا يجوز لها الزواج قبل نفاد العدة كما لا يجوز له ، وهنا إذا قيل لك أيها العاقل هل يعتد الزوج أم لا فقل يعتد في هذه الحالة ولحفظ النّفقة فيها «وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ» أيها المطلقون «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ» حتى انقضاء عدتهن ولا تطلقوهن إلا بزمانها «وَلا يَخْرُجْنَ» من تلقاء أنفسهن إلّا لحاجة ماسة وليبقين في بيوتهن لا يخرجن منها «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» فلكم حينئذ أن تخرجوهن منها كما لورثتكم ذلك على الوجه المبين في الآيتين 235 و240 من سورة البقرة المارة «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» نبينها لكم في الطّلاق هنا وفي الآيات 226 و244 من سورة البقرة وفي الآيات 19 و20 و34 و138 من سورة النّساء المارة ، وقد حدّ لكم حدودا في ذلك فإياكم ومجاوزتها «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ» فيخالف ما أمره ويقدم على ما نهاه «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وأوردها مورد الهلاك(6/76)
ج 6 ، ص : 77
واعلم أن اللّه تعالى إنما نهاك عن الطّلاق البت مع أنه جازه لك لأنك أيها المطلق «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» لم يكن بالحسبان بأن يوقع في قلبك حبها كما أوقع فيه كراهيتها فتندم ولات حين مندم إذا كان الطّلاق بنا كما مرّ في الآية 19 من سورة النّساء ، وكذلك على المرأة أن لا تطلب الطّلاق البت بسبب كراهتها لزوجها لاحتمال تبدل الحال معها أيضا كذلك يستحب للرجل أن لا يوقع على زوجته أكثر من طلقتين رجعيتين يبقى له مجالا للرجوع ، وعليها أن لا تطلقه بأكثر من ذلك ليبقى لها الطّريق مفتوحا فيتراجعا متى أرادا ضمن العدة ، فإذا أعلقاه بأيديهما وقد أوقع اللّه في قلوبهما محبة العودة يعظم ندمهما ، وقد يبغيان جهلا طريق التحليل وهو خبيث أثيم منهي عنه ، فالمحلل ليس بهذه النّية زوجا.
وقد جاء في الخبر عن سيد البشر لعن اللّه المحلل والمحلل له.
فما بالكم أيها النّاس يريد اللّه لكم الأصلح وتريدون الأصعب يريد اللّه لكم اليسر وتريدون العسر يريد اللّه أن يخفف عنكم وتريدون التثقيل ، راجع الآيتين 185 في البقرة و27 في النّساء المارتين ، وإذا تشاددتم وأبيتم إلّا الطّلاق البات فليكن بطلقة واحدة بائنة ففيها يحصل المقصود لأن الزوجة تملك عصمتها ولا يحق للزوج الرّجوع عليها إلا برضاها ، حتى إذا بدل اللّه ما في القلوب وتزجها بعقد ومهر جديدين.
مطلب كراهة الطّلاق والنّهي عن البت فيه والعدة على الزوج أو الزوجة.
التوكل على اللّه المانع من الانتحار :
أخرج أبو داود عن محارب بن درثّا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال ما أحل اللّه شيئا أبغض إليه من الطّلاق وله.
عن ابن عمر أبغض الحلال إلى اللّه الطّلاق وله.
وللترمذي عن ثوبان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال أيما امرأة سألت زوجها الطّلاق من غير ما بأس حرام عليها رائحة الجنّة ، فأحذروا أيها المؤمنون من أن توقعوا أنفسكم فيما لا خلاص لكم منه ، وقد جعل اللّه لكم سبيلا ومخرجا لما به صلاحكم ، فاللّه اللّه في أنفسكم قال تعالى «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» وكان ما وقع من الطّلاق منكم ليس بتا وعنّ لكم الرّجوع إلى أزواجكم «فَأَمْسِكُوهُنَّ» بالمراجعة في العدة أو تجديد العدة بعدها أو فيها إذا كان الطّلاق بتا وكان دون الثلاث «بِمَعْرُوفٍ»(6/77)
ج 6 ، ص : 78
وإحسان لا لقضاء الشّهوة فقط فيكون مكروها ، وإذا كان للإضرار فحرام «أَوْ فارِقُوهُنَّ» اتركوهن يتزوجن غيركم إذا لم ترغبوا بالرجوع إليهن «بِمَعْرُوفٍ» أيضا قال تعالى (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الآية 28 من سورة البقرة المارة وتزوجوا غيرهن «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» على الطلاق وعلى تجديد النّكاح لئلا يقع تجاهد بينكم في ذلك ، وفي النّفقة والزواج بالغير اشهدوا أيضا لئلا يدع أحد ميراث لآخر على فرض موت أحدهما «وَأَقِيمُوا» أيها الشّهود «الشَّهادَةَ لِلَّهِ» بأن تؤدوها على صحتها راجع الآية 283 من سورة البقرة لتقف على ما يتعلق بالشهادة والآية 221 منها فيما يتعلق بالزواج والطّلاق «ذلِكُمْ» الذي بيناه لكم مما «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» في ذلك كله ، وجميع أوامر اللّه ونواهيه فيما يتعلق بينه وبين النّاس وبين ربه فمن يفعل ذلك «يَجْعَلْ لَهُ» مولاه ومالك أمره «مَخْرَجاً» من كل ما يحذر منه ويتعسر عليه وكلّ ضيق «وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» ولا يعن على فكره ولا يخطر على باله ولا يرجوه «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ» ومنفذه وممضيه ومبرمه لا بفوته مراد ولا يعجزه مطلوب ، وعلى العبد أن يسلم لأمر اللّه ويسعى ولا يستبطئ ما طلبه ، لأنه لا يقع فيهما إلّا بالوقت الذي قدره «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» أجلا وزمنا لا ينخرمان فيقع فيهما حتما دون أن يتوقف على شيء أو يعوقه شيء إذا حان أجله المقدر عنده.
هذا ومن أجال النظر في هذه الآية وعرف مغزى (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) وما شاكلها من الآيات والأحاديث المؤيدة لها هانت عليه الدّنيا ، وفرج كربه ، ونفس همه ، وانشرح صدره ، وتوسع فيضه ، ولو أنعم فكره إلى مرمى هذه الآيات الواردة في الذكر الحكيم من حدثته نفسه بالانتحار لما انتحر لأنه يعلم أن اللّه تعالى لا بد أن يبسط عليه من فضله ويمنّ عليه من جوده فيفرج همه ويزيل كربه ويكشف ضيقه ، ولكن أين المتذكرون ، أين المتوكلون يقول اللّه تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) وأنتم تعرضون عنه فمن أين يستجاب لكم ؟ ويقول الرّسول لو توكلتم على اللّه حق(6/78)
ج 6 ، ص : 79
التوكل لرزقكم كما يرزق الطّير.
وأنتم لا تلتفتون بل تشكون وتجحدون ولا تصدقون ، فمن أين يأتيكم الخير وكيف يدفع اللّه عنكم الضّر ؟ فلا حول ولا قوة إلا باللّه.
روي أن عوف بن مالك أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال له إن العدو أسر ابني مالكا وشكا إليه فاقته ، فقال اتق اللّه واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلّا باللّه ، ففعل فلم يحس إلّا وابنه وإبلا جاء بها ممن أسروه ، فجاء به إلى الرسول فأخبره وقال أيحل أكل ما أتى به ؟ فقال نعم أفتاه بحله لأنه من العدو في الدّين وكلّ ما كان فيه نقص أموالهم ورجالهم جاز فعله بأي صورة كانت ، لأن الحربي لا ذمة له ولا عهد ولا أمانة له فيجوز أخذ ما لهم سرقة وقمار أو خلسة وبأي صورة كانت قال ابن عباس غفل عنه العدو فاستاق أنعامهم ، وأنا أقول بسبب توكل أبيه وتفويض أمره لربه وأخذه بقول رسوله وأمره له بالصبر والحوقلة كان له ذلك وأعمى عنه أعداءه.
هذا وقد عدّ بعض المفسرين هذه القصة من أسباب نزول هذه الآية ، ولا مانع وهي باقية على عمومها.
ثم لما بين اللّه تعالى أحكام ذوات الحيض من النّساء المدخول بهن
ذكر ما يتعلق بغيرهن فقال عز قوله «وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ» في أحكامهن وشككتم في عدتهن «فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ» فقط «وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ» لصغرهن أو لعدم طرء الحيض عليهن بعد فكذلك عدتهن ثلاثة أشهر «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» سواء في ذلك عدة الطّلاق أو الوفاة لاطلاق النّص ولو كان يوما واحدا.
روى البخاري الوداع ومسلم عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خوله فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها نجملت للخطاب ، فدخل عليها أبو السّنابل ابن بعلها ، فقال لها مالي أراك تجملت للخطاب ترجين النّكاح وأنت بعد في العدة ، واللّه ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشرة أيّام ، قالت سبيعة فلما قال ذلك جمعت على ثيابي حتى أمسيت أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأن قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي.
وهذا لا يعني أن الآية نزلت وقت السّؤال لأنه واقع في حجة الوداع بل بعد(6/79)
ج 6 ، ص : 80
نزولها بأقل من سنتين ، ولكن السّؤال والحادثة وقعت في ذلك ، والفتيا تابعة لها.
وهذه الآية ليست بناسخة للآية 234 من سورة البقرة بل مخصصة لها ، فتلك باق حكمها في غير ذوات الحمل ، وهذه مقتصرة على الحوامل فقط ، فلو وضعت حملها بعد الطّلاق أو الوفاة بيوم واحد فقد حلت للأزواج ، لأن دم النفاس لا يمنع الزواج ، وكذلك الحيض ، ولا تكون ناسخة أيضا للآية 229 من البقرة أيضا ، والآيات الأخر المتقدمة فيها ، لأن حكمها باق في غير الحوامل من ذوات الحيض ، وهذه مخصصة بالحوامل ، لأن النّسخ هو رفع الحكم بالمرة ، وهذا غير موجود هنا ، وكذلك الآية 49 من سورة الأحزاب فإنها غير ناسخة لآية البقرة ولا هذه ناسخة لها ، ولا يوجد في القرآن نسخ بمعنى ابطال الحكم بالكلية كما قاله بعض المفسرين ، وإن بقاء الآية المنسوخ حكمها للتلاوة فقط ، بل النّسخ يكون بالمعنى الذي ذكرناه من التخصيص والتقييد والتدريج بالأحكام والتخفيف فيها ولهذا فإنك دائما ترى في القرآن العظيم إذا تتبعته بحسب نزوله العام والمطلق سابقين على الخاص والمقيد ، أما النّسخ بمعنى إبطال الحكم بالكلية من أنه مناقض له بحيث لا يمكن التأليف بينهما فغير موجود بالقرآن حتما ، وكذلك ما قيل إن بعض الآيات قد نسخ حكمها وتلاوتها مع بقائها في القرآن لا صحة له البتة ، راجع ما بيناه في المقدمة في بحث النّسخ والآية 107 من البقرة تجد ما يقنعك.
قال تعالى «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» (4) بأن يسهل عليه أمر الدّنيا والآخرة «ذلِكَ» الحكم المنوه به هو «أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ» أيها النّاس لتعملوا به ، فخذوه واحذروا أن تخالفوه «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» ويعمل بما أمره به «يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» (5) كثيرا إذ يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى مالا نهاية.
ثم بين جل بيانه كيفية التقوى بأمر النساء فقال عز قوله «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ» بحسب ما تجدونه من السّعة والطّاقة ، لأن اللّه لم يكلفكم فوق قدرتكم «وَلا تُضآرُّوهُنَّ» فتؤذوهن ولو بالكلام «لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» كى يخرجن من بيوتهن كرها ، بل عاملوهن بالحسنى مدة عدتهن ، وتذكروا وصية اللّه فيهن ، (6/80)
ج 6 ، ص : 81
واجعلوا نصب أعينكم ما جاء في الآية الأولى المارة والاية 18 من سورة النّساء ، بأن تبغوا طريقا للألفة كي يتيسر لكم الرّجوع إذا عنّ لكم «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» غير مقدر بقدر لأنه بالوضع تنتهي العدة وترفع عنكم كلفة نفقتها أما ذوات الحيض والآيات واللائي لم يحضن فلكل منهن قدر معلوم بينه اللّه لكم وألزمكم النفقة بقدره ، أما ذوات الأحمال فإنه قد يتأخر الحمل إلى سنتين في مذهب أبي حنيفة ، وإلى أربع في مذهب الشّافعي لذلك أوجب اللّه النّفقة على المطلق إلى حين الوضع ، وإنهما رضي اللّه عنهما لم يقولا بذلك إلّا لما ثبت لديهما بالاستقراء ، ولا قيمة لقول بعض الأطباء بأن الحمل لا يتأخر عن تسعة أشهر بعد أن ثبت حسا بأقوال الثقات.
ومبنى قول الأطباء على العادة والعادة قد تنخرم أحيانا لأنها تكون أغلبية واللّه خرق العوائد.
هذا وإن هؤلاء المطلقات إذا وضعن حملهن عندكم «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ» أولادكم باختيارهن إذ لا يجبرن على الإرضاع إلّا بالصورة المبينة في الآية 238 من سورة البقرة «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» عليه
لأنهن غير مكلفات إرضاع أولادكم ، وفي حالة التكليف لهن الاجرة المتعارفة عليكم «وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ» لايق بالمروءة ، فعلى الأب أن لا يماكس بقلة الأجرة ويماطل بدفعها ، وعلى الولي عند فقده أن يقوم مقامه ، وعلى المرأة أن لا تعاسر بطلب أكثر من أجر المثل أو تمنع عن الإرضاع في حالة عدم قبول الولد ثدى غيرها حفظا لحق الولد «وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ» بأن أصر كلّ منكم على ما يريده ولم يتساهل أحد منكم فلم تتفقوا على قدر معلوم وكان الولد يقبل ثدى المرضعات «فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى » (6) رفعا للنزاع والتشاحن ، وإلّا فإن لم يقبل غير ثدي أمه فتجبر على إرضاعه بأجر المثل رضيت أم لم ترض كما بيناه في الآية الآنفة الذكر من سورة البقرة ، لأن اللّه تعالى يقول «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» على قدر حاله ونسبة أمثاله «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ» وضيق كسبه ولم يكن له مال «فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» بقدر ما يتمكن عليه لا على ما تطلبه المرضعة إذ «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها» الغني بحسب غناه ، والمتوسط بمقتضى حاله ، والفقير على(6/81)
ج 6 ، ص : 82
ما تيسر له.
فإذا فعلتم هذا أيها النّاس ولم تتجاوزوا الحالة التي أنتم عليها فاعلموا أنه «سَيَجْعَلُ اللَّهُ» لكم «بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» (7) وهذا وعد من اللّه للفقير بالسعة إذا لم يتعد قدره فيه ، وللمكروب بالفرج ، إذا لم ييأس ، أما إذا بذخ المتوسط واستدان وأفرط ، وكذلك الفقير إذا فرط وتجاوز حده في النّفقة ، فمصيرهما الهلاك لمخالفتهما قوله تعالى «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» الآية الأخيرة من البقرة ، فراجعها تقف على ما تريد في البحث.
مطلب الحكم الشّرعي في الإشهاد على أن الطّلاق والرّجعة بعد بيان أحوال المطلقات والآية الوحيدة الدّالة على أن الأرضين سبع كالسماوات :
أما الحكم الشّرعي بالإشهاد على الطّلاق والرّجعة فظاهر القرآن أنه واجب فيهما وقد اختلفت أقوال العلماء في ذلك ، منهم من قال بوجوبه ، ومنهم من قال بندبه أخرج أبو داود عن عمران بن حصين أن سئل عن رجل طلق امرأته ثم يقع عليها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها ، فقال طلقة بغير سنة ورجعة بغير سنة ، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد أي أن ذلك جائز وموف بالمقصود إلّا أنه مخالف للسنة.
وقد اختلفت آراء العلماء في مثل هذا ، فذهب أبو حنيفة لندب الإشهاد فيهما لقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) فهو على النّدب أيضا ، وقال الشافعي مندوب في الطّلاق واجب في الرّجعة.
وفي هذا الزمان أرى أن يكون واجبا فيهما لما يرى من التجاحد الذي لازالت تقام فيه الدّعاوى.
قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ» راجع بحث كلمة كأين في الآية 146 من آل عمران المارة «عَتَتْ» طغت وبغت فتجاوزت وأعرضت فجنحت «عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً» على عتوّها «وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً» (8) فظيعا لا قبل لها به «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها» الذي فعلته في الدّنيا من الطّغيان «وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» (9) في الآخرة كما كان في الدّنيا ، وأهل هذه القرية المعتاة وأمثالهم «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» فنالوا أهونه في الدّنيا وسينالون أشده في الآخرة.
واعلموا أيها النّاس أن من يعمل عمل أهل تلك القرية منكم ولم يتب ويقلع عنه فإنه سيناله ذلك العذاب أيضا «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي(6/82)
ج 6 ، ص : 83
الْأَلْبابِ»
أن تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم.
وفي هذه الآية من التهديد مالا يخص لمن لم يرجع عن غيه ، والمراد تخويف أهل مكة خاصة وغيرهم عامة بأنهم إذا لم يؤمنوا وينقادوا لأوامر نبيهم بوقع بهم ما أوقعه بأهالي القرى السّالفة التي أصرت على كفرها من عذاب الاستئصال ، كقوم عاد وثمود ولوط وشبههم ، فاحذروا عباد اللّه من الإصرار على الكفر والبغي والتعدي على النّاس ، ولا توقعوا أنفسكم فيما يدمركم «الَّذِينَ آمَنُوا» اسم الموصول هنا منصوب على الاختصاص ، أو بتقدير أعني أولى الألباب الّذين آمنوا «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» 10 قرآنا
وأرسل إليكم «رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ» لما أحله لكم وحرمه عليكم «لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا» باللّه ورسوله وكتابه «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» من ظلمة الجهل وظلمة الشّرك وظلمة النّفاق إلى نور الإيمان والعلم والتوحيد والصّدق والإخلاص ، فيهديهم للاسلام والإيمان وأعمال البر «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ» الموصوف بهذه الصفات «رِزْقاً» (11) فيما أعطاه وفي هذه الآية معنى التعجب والتعظيم لما يرزق المؤمن من الثواب الجسيم «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» في العدد ، وهذه أوضح آية في القرآن تبين أن الأرضين سبع كالسموات على أنه لا يبعد أن يراد بها الأقاليم السّبعة التي أشرنا إليها في الآية 4 من سورة الرعد المارة ، لأن اللّه تعالى قال في الآية 15 من سورة نوح المارة في ج 2 سبع سموات طباقا ، والمثلية تقتضي أن تكون مثل المثل به بأن تكون الأرض سبعا طباقا أيضا ، وكلّ ما لم يكشف لنا العلم عنه فاللّه أعلم به.
قال الإمام الغزالي في كتابه المضنون به على غير أهله الأولى كرة النّار ، والثانية كرة الهواء ، والثالثة كرة الطّين المجفف الذي هو فوق الماء ، والرّابعة الماء ، والخامسة الأرض البسيطة ، والسّادسة الممتزجات من هذه الأشياء ، والسّابعة الآثار المعلومة كما أن السّيد عبد الكريم الجبلي ذكر في كتاب الإنسان الكامل مثل هذا.
واللّه أعلم.
وهو القائل «يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ» أي وحي اللّه لرسله واجراء(6/83)
ج 6 ، ص : 84
مقدراته وأحكامه على خلقه يكون بين السّموات والأرضين «لِتَعْلَمُوا» أيها الناس كلكم «أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» لا يعجزه شيء وبعد أن رأيتم أيها الناس خلقة السّموات والأرض وما فيها وعليها وتحتهما وفوقهما ، واعتقدتم ذلك فلا يليق بكم أن تشكوا بإعادة الخلق كما بدأه بعد إبادته ، ولا ترتابوا بأنه يعلم الجزئيات من أعمالكم كما يعلم كلياتها ، وكيف يتطرق لكم ذلك الشّك «وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» (12) فلا شيء فيهما إلّا وهو عالم به ، قليله وكثيره خفية وجليه.
هذا واللّه أعلم ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة وقد بدئت سورة التحريم والأحزاب بما بدئت به فقط.
واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة البينة
عدد 14 - 100 و98
نزلت بالمدينة بعد سورة الطّلاق.
وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة ، وثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا.
لا ناسخ ولا منسوخ فيها وتسمى سورة : لم يكن ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا بما ختمت فيه ، ومثلها في عدد الآي الانشراح والتين والزلزلة والتكاثر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «لَمْ يَكُنِ» فعل مضارع من كان التي ترفع الاسم وتنصب الخبر ومعناه الدّوام والاستمرار بمعنى لا يزال لأنه من طائفة مازال وما فتىء وما دام اللاتي تلازم النّفي أي لا يزال «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» أي ليسوا من اليهود القائلين بالبداء وأن عزيرا ابن اللّه ، ولا النصارى القائلين إن اللّه هو المسيح أو المسيح ابن اللّه أو ثالث ثلاثة منفكين عن كفرهم هذا «وَ» من «الْمُشْرِكِينَ» أناس لم يكونوا أيضا «مُنْفَكِّينَ» عن شركهم وكلمة منفكين هذه واقعة خبر ليكن واسمها الّذين المارة بصدد (الْآيَةَ) أي غير تاركين ولا زائلين عنه ، بل لم يبرح الأولون ملازمين على الكفر بذلك والآخرون على عبادة الأوثان وإنكار البعث «حَتَّى(6/84)
ج 6 ، ص : 85
تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ»
(1) الواضحة على إبطال معتقدهم ذلك ، وهذه البينة «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ» وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلم «يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» (2) عما يلوكه كفرة أهل الكتابين والمشركون «فِيها» في هذه الصّحف المقدسة «كُتُبٌ» مكتوبات «قَيِّمَةٌ» (3) عادلة مستقيمة ناطقة بالحق ، وإنما سمي عليه السّلام بيّنة هنا لإتيانه بالقرآن العظيم الذي هو أبين من جميع الكتب والصّحف السّماوية ، وقد أوضح وأبان ما فيها وأراد بالصحف القرآن العظيم لأنه مسطور عند اللّه على صحف جليلة في لوحه المكنون العالي ، وأراد بالكتب كتب الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ، لأن معناها كله مندرج في القرآن الكريم لاشتماله على معنى جميع ما أنزله على الرسل قبله ، فصارت كأنها فيه ، قال تعالى (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) الآية الأخيرة من سورة الأعلى في ج 1 ويأتي لفظ كتب بمعنى مكتوبات أي أحكام عظيمات قاسطة مدونة فيها.
قال تعالى «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» أي ما كان اختلاف اليهود والنّصارى وتفرق آرائهم في أمر محمد عليه الصّلاة والسّلام ورسالته وكتابه «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» (4) في كتبهم وظهر لهم ظهور نار على علم وتوضح لديهم أنه نبي آخر الزمان الموصوف في كتبهم والذي أخذ عليهم العهد بالإيمان به من قبل أنبيائهم ، وكانوا قبل ظهوره مجمعين على تصديقه حتى انهم يستنصرون به كما مر في الآية 90 من سورة البقرة ويستسقون باسمه ويقولون لا ننفك على ما نحن عليه من الدّين ولا نترك شيئا منه حتى يبعث النبي الموعود به على لسان الرّسل المكتوب منه في التوراة والإنجيل ، فلما بعث صلّى اللّه عليه وسلم تفرقت كلمتهم واختلفوا عليه ، فمنهم من آمن به بتوفيق اللّه إياه ، ومنهم من كفر به بخذلانه له ، وكذلك المشركون لتوغلهم في حب الدّنيا وزخارفها وحرصهم على بقاء الرّياسة لهم فيها ، وصار الأمر على العكس بأن كان تفرقهم وبقاؤهم على ما هم عليه واختلافهم بمجيء الرّسول الذي كانوا ينتظرونه.
ونظير قولهم هذا قول الفاسق الفقير لمن يعطيه لا أنفك عما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني اللّه الغني فإذا أغناه ازداد فسقا فيقول واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توصر وما غمست رأسك بالفسق إلّا بعد اليسار ، فيذكره ما كان يقوله قبلا توبيخا(6/85)
ج 6 ، ص : 86
له وإلزاما للحجة عليه ، وهؤلاء حكى اللّه عنهم أولا بأنهم لم يزالوا على كفرهم حتى تأتيهم البينة الموجودة في كتبهم ، ثم أخبر اللّه جل شأنه عن الواقع بقوله (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) فيكون المعنى أن الذي وقع منهم قبل بعثة الرّسول مخالف لما ادعوه بعد مجيئه ، فلا مناقضة بين الآية الأولى القائلة لم يكن الّذين كفروا من الفريقين منفكين عما هم عليه من الكفر حتى يأتيهم الرّسول وحتى في الآية لانتهاء الغاية ، فتقضي أنهم انفكوا عن كفرهم عند إتيانه وهو خلاف الواقع (ولا في الآية الثانية) لأنها تفيد أنه لم يحصل التفرق إلّا بعد مجيئه على ما أوضحناه لك آنفا فلا مناقضة من حيث الظّاهر ولا من حيث المعنى البتة.
قال الواحدي هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا.
وهذا الذي جرينا عليه أحسن الأقوال في هاتين الآيتين ، ولا يستقيم النظم الكريم على خلافه ، ولا يصح معناه إلّا به ، واللّه أعلم ، وهو ولي التوفيق قال تعالى «وَما أُمِرُوا» هؤلاء الكفار قبل بعثة الرّسول محمد عليه السّلام وبعدها «إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ» وحده «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» متبرئين من الشرك والرّياء قلبا وقالبا لسانا ونية.
مطلب المراد بالإخلاص وأهل الكتابين والمشركين وغزوة بن النّضير وسبب إسكان اليهود في الحجاز :
والمراد بالإخلاص هنا هو أن يأتي المكلف بالشيء الحسن لحسنه ، والواجب لوجوبه ، وينتهي عن القبيح لقبحه والسّيء لسوئه ، ويفعل كما أمر اللّه رغبة فيه ، وينتهي عن كلّ ما نهاه كراهية فيه وطاعة للّه تعالى.
روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم.
لأن الإسلام اللّساني لا قيمة له ، والمعوّل على ما في القلب عند اللّه القائل (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) الآية 38 من سورة ق ج 1 والقائل أيضا (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) الآية 22 من سورة الرّعد المارة.
وجاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم في حديث صحيح طويل : التقوى هاهنا - كررها ثلاثا - مشيرا إلى صدره الشّريف أي ليست التقوى بشقشقة اللّسان ، ولا بالأعمال الظّاهرة ، بل(6/86)
ج 6 ، ص : 87
بالإخلاص راجع الآية 28 من سورة البقرة تجد بحثا وافيا في التقوى قد لا تجده في غيرها.
ثم وصف اللّه تعالى المخلصين بكونهم «حُنَفاءَ» حالة كونهم في عبادتهم مائلين عن كلّ الأديان الباطلة إلى الدّين الحق دين الإسلام ، مؤمنين بجميع الرسل والكتب السّماوية «وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ» المفروضتين عليهم «وَذلِكَ» أي عبادة اللّه والإخلاص فيها ودعمها بإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة هو «دِينُ الْقَيِّمَةِ» (5) الملة المستقيمة العادلة القاسطة كما يريده ربّ هذا الدّين السّوي «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ» المشار إليهما أول هذه السورة الّذين انفكوا عن هذا الدّين القويم دين محمد صلّى اللّه عليه وسلم واختلفوا فيه وتفرقوا بعد ما جاءهم به وتلى عليهم كتاب اللّه الذي أنزله عليه في هذه الدّنيا ولم يتبعوه يكونون في الآخرة «فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» (6) وانما قدم كفرة أهل الكتاب لأن جنايتهم في الكفر أعظم من المشركين الكافرين في الأصل ، إذ لا يعلمون شيئا عن محمد ورسالته ، لأن رسولهم إسماعيل تقادم عهده فلم يبلغهم عنه شيء من أمر الدّين ، ولم يترك لهم كتابا يعملون به ، ولم يرسل لهم رسولا بعده ، أما أهل الكتابين فيعلمون ذلك بإخبار رسلهم المتتابعة وبيان كتبهم ، حتى أنهم كانوا يستفتحون به قبل بعثته صلّى اللّه عليه وسلم كما أشرنا إليه في الآية 89 من سورة البقرة المارة ، وكانوا يقرون نبوته ، فلما جاءهم كذبوه وجحدوه وأنكروا ما كانوا يذكرون عنه ويذكّرون به ، وبدل أن يؤمنوا به فقد ازدادوا كفرا وصدوا غيرهم عن الإيمان به ، عتوا وعنادا ترجيحا لحطام الدّنيا على نعيم الآخرة.
هذا والمشركون وإن كان جرم اشراكهم أعظم كفرا من كفر أهل الكتاب ، لأن الشّرك أعظم أنواع الكفر ، إلا أنهم لم يعرفوا ما يعرفهم أهل الكتابين من أمر الرّسول محمد ، لأنهم جهلة لما ذكرنا آنفا ، وعدم وجود شيء من آثار النّبوة عندهم وكونهم أميين لم يتعلموا ، وهذا فقد أذل اللّه هذين الفريقين وأخزاهم في الدّنيا والآخرة «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» (7) عند اللّه في الدّنيا والآخرة ، ويكون «جَزاؤُهُمْ» في الدنيا الذكر الجميل والسّمعة الحسنة ، وفي الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي(6/87)
ج 6 ، ص : 88
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ»
رضوا به أن يكون ربا لهم ومدبرا لأمورهم ، ورضوا عنه بما يقضي عليهم ويدبر لهم «ذلِكَ» الجزاء المبارك الطّيب الحسن يكون «لِمَنْ خَشِيَ عليهم رَبَّهُ» (8) في الدّنيا عن علم وإدراك ويقين ، لأن خشية اللّه هي الأساس المتين المانعة عن كل ما لا يرضيه ، راجع الآية 28 من سورة فاطر في ج 1 ، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلم لأبي بن كعب إن اللّه أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) السورة قال أبي وسماني يا رسول اللّه ؟
قال نعم ، فبكى فرحا وسرورا وخشية وإجلالا للّه تعالى.
وفي رواية البخاري زيادة وقد ذكرت عند رب العالمين ؟ قال نعم ، فذكر أن فاضت عيناه.
ففي هذا الحديث بشارة عظيمة في فضل أبي بن كعب رضي اللّه عنه ، وإعلام بمعرفته لقراءة كتاب اللّه كما يريده اللّه ، وهي منقبة خص بها لم يشاركه فيها أحد من الأصحاب ، وإيماء إلى أن هذه السّورة التي اختارها اللّه بأن يقرأها رسوله على أبي جامعة معانيها لأصول وفروع وقواعد تتعلق بأمر الدّين والدّنيا ، خطوات جليلات ومهمات عظيمات ، على قلة مبانيها.
واعلم أن الحكمة من قراءتها من قبل النّبي صلّى اللّه عليه وسلم على أبي هو في الحقيقة تعليمه ألفاظها وكيفية النّطق بها ووزن كلماتها ، ليأخذها النّاس عنه كما تلقاها من حضرة الرّسول لأنه هو أحد القراءة المشهورين الّذين يؤخذ عنهم القرآن وإيذان للناس بلزوم قعله ولو ممن هو دونهم بالفضل ، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها ، واعلام باحترام حملة القرآن ومعلميه وتعظيمهم.
هذا واللّه أعلم.
واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم.
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الحشر
عدد 15 - 101 - 59
نزلت بالمدينة بعد سورة البينة.
وهي أربع وعشرون آية وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة والف وتسعمئة وثلاثة عشر حرفا.
وقد بينا السّور المبدوءة بما(6/88)
ج 6 ، ص : 89
بدئت به أول سورة الأعلى في ج 1 ، ويوجد سورة التغابن مختومة بما ختمت به ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (1) في مبدعاته فيها القاهر والغالب لكل من فيهما وبينهما وعليهما وفوقهما وتحتها.
وقد بينا معنى التسبيح وأقسامه أول سورة الحديد المارة فراجعها وما ترشدك إليه «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ» ذكرنا في المقدمة في بحث النّزول أن نزول الآيات والسّور قد يتقدم على سببه وقد يقارنه وقد يتأخر عنه حسبما تقتضيه الإرادة الرّبانية.
وهذه السّورة في القسم الثالث ، لأنها تمثلت في بني النّضير الّذين رئيسهم كعب بن الأشرف الذي كان عاهد حضرة الرّسول ونقض عهده ، لهذا نعتهم اللّه بالكفر مع أنهم من أهل الكتاب الّذين لا يطلق عليهم لفظ الكفر وكان عاهدهم الرّسول في المدينة على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فلما غزا رسول اللّه بدرا على الصّورة المبينة في الآية 15 من سورة الأنفال المارة وظهر فيها على المشركين قالوا واللّه هذا هو النّبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة الذي لا تردّ له راية ، فلما تلتها غزوة أحد المشار إليها في الآية 139 من آل عمران المارة أيضا ارتابوا وأظهروا العداء وأول جناية فعلوها هي حينما جاءهم الرّسول يستعينهم في دية الرّجلين اللّذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري في منصرفه من بئر معونة ، المارة قصّتهم في الآية 169 من آل عمران أيضا ، هموا بطرح حجر عليه من الحصن ليقتلوه ، فعصمه اللّه تعالى كما سيأتي بيان هذه الحادثة في الآية 10 من سورة المائدة الآتية ، ثم نقضوا العهد علانية وتحالفوا مع المشركين على مناوأة الرّسول ، وبعد غزوة حمراء الأسد وغزوة بدر الأخرى المشار إليها في الآيتين 172 و173 من آل عمران أيضا حرض رسول اللّه على قتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، فقتله محمد بن مسلمة على الصّورة المارة في الآية 186 منها أيضا ، فراجعها لتقف على كيفية اغتياله وكيف احتمال عليه الّذين قتلوه ، وما قالت زوجته عند خروجه إليهم وما رد به عليها.
وخلاصة هذه القصة التي وعدنا بذكرها في الآية 27 من سورة(6/89)
ج 6 ، ص : 90
الأنفال المارة هي أن حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم بعد قتل رئيسهم كعب في بضعة أشهر في شهر ربيع الأوّل السّنة الرّابعة من الهجرة الشّريفة غزاهم بأصحابه الكرام فوجدهم لم يزالوا ينوجون على رئيسهم ، فأمرهم بالخروج من قريتهم المسماة الزهرة ، فقالوا له الموت أقرب ، وكان المنافقون عبد اللّه بن سلول وأصحابه دسّوا لهم بأن لا يخرجوا وتعهدوا لهم بالمعونة والنّصرة على قتال محمد وأصحابه وانهم لا يخذلونهم أبدا فحصّنوا أزقة المدينة ، وأجمعوا على الغدر برسول اللّه ، وتنادوا في الحرب فيما بينهم ، وقالوا لحضرة الرّسول ، أخرج علينا في ثلاثين من أصحابك وليلقاك ثلاثون حبرا منا ، فإن آمنوا بك آمنا ، فخرج الفريقان إلى براز في الأرض ، وإنما وافقهم رسول اللّه على هذا ، وهو إنما جاء عامدا لقتالهم حرصا على دخولهم في الإيمان ، فلما خرجوا قال اليهود بعضهم لبعض كيف نخلص إليه وكلّ أصحابه يحب الموت دونه ؟ فاتفقوا على أن يخرج الرّسول في ثلاثة من أصحابه فقط ويقابله ثلاثة من أحبارهم ، لأن التفاهم لا يحصل بين ستين رجلا ، فخرج إليهم صلّى اللّه عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه ولم يدر ما دبروه إليه من الكيد ، ولم يخبره ربه بشيء ، فتقدم أحبار اليهود مدججين بالسلاح ليفتكوا به ، فأخبرت امرأة منهم أخاها المسلم بما دبّروه له من الكيد والمكر ، فأقبل مسرعا وأدرك الرّسول قبل أن يتصل باليهود وأخبره الخبر ، فرجع صلّى اللّه عليه وسلم وعرفوا ذلك ، فرجعوا أيضا ولم يكلموه ، إذ علموا أنه اطلع على مكرهم قالوا فلما كان الغد صبحهم رسول اللّه بالكتائب وألقى اللّه في قلوبهم الرّعب ، فلم يخرجوا إليه فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة وهم ينتظرون نصرة المنافقين الّذين وعدوهم بالمعونة ولما أيسوا منهم طلبوا الصّلح من رسول اللّه ، فأبى إلّا أن يخرجوا من ديارهم على ما يأمرهم به ، فقبلوا ، فأمرهم بالجلاء على أن لهم ما أقلت إبلهم من أموالهم عدا
السّلاح ، فخرجوا وهاجروا إلى أذرعات من أرض الشّام وأريحا من أرض فلسطين ، (والجلاء هو الخروج بالأهل من الوطن إلى مكان آخر عنوة) وتركوا ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم غنيمة للمسلمين ، أما آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب منهم فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة ، وأنزل اللّه هذه السّورة بعد الواقعة بسنتين يعدد فيها نعمه على عبده ، ويذكره
بأن إخراجهم(6/90)
ج 6 ، ص : 91
كان «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» والحشر إخراج جمع من مكان وسوقه إلى غيره ، وهم أول من أخرج من جزيرة العرب المحاطة من القبلة والشرق والغرب ببحري الحبشة وفارس ، ومن الشّمال بنهري دجلة والفرات ، وفي قوله تعالى (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) إشارة إلى أنهم يحشرون ثانيا ، وقد كان ذلك في زمن خلافة عمر رضي اللّه عنه ، لأنه أجلى بقايا اليهود من خيبر إلى الشّام ، وذلك لما بلغه قول صلّى اللّه عليه وسلم لا يبقين دينان في جزيرة العرب ، وإشارة أخرى إلى أن الحشر يوم القيامة بأرض الشّام ، وأن أريحا وأذرعات اللّتين هاجر إليهما اليهود من أول الأرض المتاخمة إلى أراضي الشّام وهو كذلك ، قال ابن عباس من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية ، ولأن الرسول لما قال لهم اخرجوا قالوا إلى أين ؟ قال إلى أرض المحشر.
وبنو النّضير هؤلاء وبنو قريظة الّذين تقدمت قصتهم في الآية 26 من سورة الأحزاب من أولاد الكاهن ابن هرون عليه السّلام ، وسبب نزولهم وبني قينقاع في أرض الحجاز هو أن بني إسرائيل كانت تغير عليهم العماليق المتوطنون في يثرب والجحفة ، فوجه إليهم موسى عليه السّلام جيشا من أبناء هؤلاء اليهود فأهلكوهم عن آخرهم ، إلا ابن ملك لهم ، كان غلاما حسنا فرقوا له واستوطنوا مكانهم وتناسلوا فكثروا ، وبعد سيل العرم جاء الأوس والخزرج من اليمن إلى يثرب ونزلوا بجوارهم وبقوا جميعا إلى أن جاء الإسلام.
قال تعالى يا أيها المؤمنون «ما ظَنَنْتُمْ» أولا «أَنْ يَخْرُجُوا» هؤلاء اليهود من مدينتهم لشدة تحصّنهم فيها وتهالككم عليها لما لهم فيها من الأموال وقدم السّكنى «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ» بأس «اللَّهِ» فلم يفكروا بالخروج من وطنهم «فَأَتاهُمُ اللَّهُ» هذه الجملة من آيات الصّفات التي أشرنا إليها أول آل عمران أي حل بهم بلاؤه وألقى في قلوبهم الخوف وتحقق الإهلاك والدّمار من قبل الرّسول وأصحابه «مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» ولم يخطر ببالهم أن رئيسهم يقتله أخوه لأمه ، وأن محمدا يحيط بهم ويقسرهم على الخروج ، وقد هددهم بالقتل إن لم يخرجوا «وَ» أن اللّه «قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» حتى صاروا بحالة «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ» لئلا يسكنها أحد من بعدهم «وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» تخرّب بيوتهم أيضا ليدخلوها(6/91)
ج 6 ، ص : 92
عنوة ويزيلوا تحصينها لتزداد النّكاية بهم «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (2) كيف فعل اللّه بأعدائه فهو فعل عظيم يؤخذ منه عبرة جليلة وعظة خطيرة ، وقدمنا في الآية 13 من آل عمران المارة أن هذه الآية مصدر أخذ القياس في الأحكام الذي بيناه في الآية 35 من سورة الإسراء ج 1 «وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ» الذي هو أهون عليهم من القتل ورضائهم به «لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا» بأعظم منه وهو الأسر والسّبي والقتل كما فعل في بنى قريظة الّذين حكموا سعدا فيهم ، راجع قصتهم المذكورة في الآية 27 من آل عمران المارة تطلع على ما عد خيانة على سفير رسول اللّه وهذا عذابهم في الدّنيا «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» (3) على ما فعلوه بالدنيا «ذلِكَ» الذي كتب عليهم «بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بنقضهم العهد وإرادتهم الغدر بحضرة الرّسول «وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (4) إذا عاقب قال تعالى «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ» نخلة كريمة بسبب دخولكم على أولئك الكفرة «أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ» قطعها وتركها لأنكم لا تقتدرون أن تتحركوا بحركة إلّا بعلمه وإرادته «وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» (5) المذكورين لأنهم خرجوا عن طاعة الرّسول والقطع الذي وقع كان أثناء الحصار.
وسبب نزول الآية هو أن منهم من نهى عن قطع النّخيل تأثما ، ومنهم من أمر به تشفيا لما حاكوه من الكيد بحق الرّسول ، ولذلك فإن الأصحاب المجاهدين منهم من امتنع ، ومنهم من دوام لإغاظة المحصورين وإلجائهم إلى التسليم ، فأنزل اللّه هذه الآية بتصديق نهي الناهي وتحليل قطع القاطع من الإثم.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال حرق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نخل بني النّضير وقطع أشجار البويرة وهي اسم موقع لهم فنزل (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) الآية ، وفيها قال حسان بن ثابت :
وهان على سراة بني لوي حريق بالبويرة مستطير
وهذا واللّه أعلم قبل إسلامه وإلّا لمدحهم على ذلك ، لأن في هذا البيت معنى التأنيب وعدم الرّضى بالفعل.
الحكم الشّرعي يجوز هدم حصون الكفار وديارهم وحرقها وتدميرها وقطع أشجارهم وفعل كلّ ما يغيظهم لحملهم على التسليم وإذلالهم(6/92)
ج 6 ، ص : 93
وإهانتهم وكسر شوكتهم.
قال تعالى «وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ» يكون خاصة لحضرة الرّسول يضعه حيث شاء ، لأن الذي يقسم على الجيش هو الذي يحصل بالمقاتلة أو المشقة ، وهذا ليس كذلك ، لأن قريتهم على ميلين من المدينة ، وقد جاؤا مشيا على الأقدام ولم يتجشموا من جرائهم تعبا ولا نصبا.
قال تعالى مبينا ما هو المراد من صدر الآية وموضحا كيفية تقسيم الغنائم واختصاصها بقوله جل قوله «فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ» الوجيف سرعة السّير أي فما أجريتم على اغتنامه «مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» حتى تستحقوا منه شيئا ، وذلك ان بني النّضير لما أجلوا وتركوا رباعهم وضياعهم وخيلهم ، طلب بعض المسلمين الّذين كانوا مع حضرة الرّسول قسمتها بينهم كما فعل بغنائم خيبر ، فأنزل اللّه هذه الآية يعلمهم فيها أن ليس لهم بشيء منها من حق لأنهم لم يتجشموا من أجلها متاعب ولم يقطعوا فيها مشقة ، ولذلك خصصها لحضرة رسوله ، أما الذي يكون بشيء من ذلك فحكم تقسيمه ما أوضحناه في الآية 10 من سورة الأنفال ، وهكذا كلّ مدينة يسلم أهلها بلا قتال على شيء أو بدون شيء ، والتي تدخل صلحا في حوزة المسلمين فإن ما يحصل منها في الفيء يكون للامام يضعه في بيت مال المسلمين وينفقه بعد في حوائجهم ومصالحهم وعلى الطّرق والثعور وفي السّلاح وغيره مما يراه نافعا وعلى المذكورين في الآية الآتية «وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» فيأخذهم بالرعب دون قتال وسوق جيش يناله مشقة بالوصول إليهم كهؤلاء «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (6) يأخذ أناسا بقتال وأناسا بغيره ، ومع هذا فإن حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم قسمه بين المهاجرين والأنصار كما رواه البخاري عن عن مالك ابن أوس الفهري ، وقد أشار اللّه إلى هذا بقوله «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» لأن مجيئها بلا أداة العطف دليل على أنها بيان للآية قبلها وهي إيضاح من اللّه للرسول فيما يضع بما أفاء اللّه عليه خاصة ، وأمره له بان بضعه حيث يضع الخمس من الغنائم ، وقد بينا الفرق بين الفيء والغنيمة هناك فراجعه ، وقد أمر اللّه تعالى
رسوله بذلك «كَيْ لا يَكُونَ» الفيء(6/93)
ج 6 ، ص : 94
الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها «دُولَةً» بضم الدّال وهي يتداوله ويتداوره النّاس بينهم في الملك بالكسر وبفتح الدّال ما يتدابره النّاس في الملك بضم الميم في النّصرة والجاه ، وقيل قسمته تقسيم وتنداول «بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ» فيكاثر به بعضهم بعضا ويغمطون حق الفقراء ، وهكذا ، فلا يجوز للسلاطين والملوك والأمراء أن يختصوا بمثل ذلك لأنفسهم بل ينبغي أن يتركوه لمنافع المسلمين كالسلاح وعمارة الجسور ومحافظة الثغور وإصلاح الطّرق وآلات الحرب ولوازم المجاهدين والإنفاق على المرضى والعجزة والأرامل والأيتام وتعليم الفقراء والمساكين وما شابه ذلك.
مطلب أمر الرّسول أمر اللّه وبيان قسمة الفيء والغنيمة وذم البخل والشّح وعمل أبي طلحة رضي اللّه عنه وحب الأصحاب حب الرّسول :
قال تعالى «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» أيها المؤمنون سواء كان من الفيء أو الغنيمة ، ولا تطلبوا زيادة منه ، ولا تسألوه لم أعطى ولم منع «وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» من الغلول وغيره ، وامتثلوا أمره.
وهذه الآية عامة في كلّ ما يأمر به حضرة الرّسول وينهى عنه ، لأنه لا يقول إلّا حقا ولا ينطق إلّا صدقا ولا يتكلم عن هوى «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تتهاونوا بأمره ونهيه كله لأنكم مأمورون بطاعته ، قال تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية 58 من سورة النّساء المارة فطاعة اللّه طاعة رسوله وبالعكس «إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (7) على من يخالف أمر رسوله في قول أو فعل أو عمل ، ولذلك ختم اللّه هذه الآية في هذه الجملة المهددة للمخالف الموعدة له بسوء العاقبة.
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال لعن اللّه الواشمات والمستوشمات (أي الطّالبات الوشم) وهو غرز الإبرة بجسم الإنسان وحشوه بالكحل أو شيء من الصّبغ فيصير أسود أو أزرق والمتنمّصات (اللائي ينتفن الشّعر من الوجه وغيره) والمتفلجات (اللائي يتكلفن تفريج ما بين ثناياهن بضاعة) للحسن المغيرات لخلق اللّه ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته ؟ فقال عبد اللّه ومالي لا ألعن من(6/94)
ج 6 ، ص : 95
لعن رسول اللّه وهو في كتاب اللّه ، فقالت المرأة لقد قرأت الوحي (المصحف) فما وجدته ، فقال إن كنت قرأته لقد وجدته ، فإن اللّه عز وجل قال (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) يعلمها في هذه الآية أن ما يقوله حضرة الرسول واجب اتباعه مثل الذي يقوله اللّه في كتابه.
وما رويا عن عائشة قالت قال صلّى اللّه عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
وفي رواية : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي رافع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا ألفين أحدكم منكبا على أريكته يأتيه أمر ما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ، ما وجدناه في كتاب اللّه اتبعناه يؤيد هذا ويؤكده.
إذا فلا محل للقول فيما قاله حضرة الرّسول بأنه ليس في كتاب اللّه ، ولذلك لا نتفيد به بل هو من كتاب اللّه ، لأن كلّ ما أخبر به رسول اللّه هو من اللّه ، وفي كتاب اللّه ، وبأمر اللّه ، وعليه فإن من يتعدى لمثل هذا القول هو معاند زنديق لا يؤمن بكتاب اللّه ولا يصدق رسوله ، لأنه لو آمن لما تجرأ على مثل هذا ، ثم ذكر اللّه تعالى أصحاب الحقوق في الفيء بقوله «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ» قسرا من قبل كفار قريش لأنهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» لإعلاء كلمته ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم لمرضاة اللّه لا لأمر آخر «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (8) في هجرتهم المخلصون بإيمانهم المستحقون للفيء أكثر من غيرهم.
روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنّة بأربعين خريفا «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ» اتخذوا المدينة مسكنا لهم ومأوى للمهاجرين من أهل مكة قبل قدوم النّبي صلّى اللّه عليه وسلم «وَالْإِيمانَ» لزموه وأخلصوا للّه به على حد قوله علفتها تبنا وماء باردا.
وذلك لأنهم آثروه على الكفر «مِنْ قَبْلِهِمْ» وقيل المهاجرين وهم الأنصار الّذين آمنوا بمحمد قبل هجرته إليهم ، وهم الّذين «يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ» من إخوانهم المسلمين المهاجرين حيث شاطروهم بأموالهم ومنازلهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم زواجا لهم ، وذلك أن منهم من كان عنده نساء متعددات ولم يكن(6/95)
ج 6 ، ص : 96
عندهم بنات فصار يطلق من قضى نهمته منها ثم يزوجها أخاه المهاجر ، وهذا مما لا بأس به شرعا «وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً» أي حزازة أو غيظا أو حسدا «مِمَّا أُوتُوا» من الفيء دونهم لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما أعطى المهاجرين أموال بني النّضير ولم يعط منها إلّا ثلاثة من الأنصار ، هم أبو حارثة سماك بن خراشة وسهيل بن حيف والحارث بن الصّمة ، لم يغتاظوا وبقيت نفوسهم طيبة بذلك ولم يقولوا لم يعطنا مثل المهاجرين وكنا معه سواء «وَيُؤْثِرُونَ» أولئك الممدوحون أي
يفضلون المهاجرين «عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» أي حاجة وفقر ، قال ابن عباس قال صلّى اللّه عليه وسلم يوم النّضير للانصار إن شئتم قسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وتشار كونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة ، فقالوا بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فأنزل اللّه هذه الآية.
ومما جاء في الأخوة الصّادقة المخلصة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قالت الأنصار للنبي صلّى اللّه عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النّخيل ، قال لا ، فقالوا تكفونا المئونة ونشرككم في التمر ، قالوا سمعنا وأطعنا.
وما روى البخاري عن أنس ابنمالك قال دعا رسول اللّه الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، فقال اما لا فاجروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي (الأثرة بفتح الهمزة والثاء) أي يستأثر عليكم في أمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم بسبب فساد الزمان ، إذ يوسد الأمر إلى غير اهله ، ويسود القوم أرذلهم.
وقيل نزلت هذه الآية في أبي طلحة لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، قال جاء رجل إلى النّبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال إني مجهود (أي شديد الجوع) فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلّا الماء ، ثم أقبل على الأخرى فقالت مثل ذلك ، وقلن كلهن مثل ذلك ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم من يضيفه يرحمه اللّه ؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول اللّه ، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء ؟ قالت لا إلّا قوت صبياني ، قال فعلليهم بشيء ونوميهم ، فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا أهوى بيده فقومي إلى(6/96)
ج 6 ، ص : 97
السراج فاطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضّيف وباتا طاوبين ، فلما أصبح غدا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال عليه الصّلاة والسّلام لقد عجب اللّه أو ضحك من فلان وفلانة وفي رواية : وأنزل اللّه هذه الآية.
وقدمنا ما يتعلق بالأخوة الصّادقة وفوائدها في الآية 67 من سورة الزخرف ج 2 فراجعها.
قال تعالى «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» ويخالف هواها ويميل إلى كرم النّفس يفوز بخيري الدّنيا والآخرة ، ولذلك قال تعالى «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (9) والشّح اللّؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع ، وقيل في ذلك :
يمارس نفسا بين جنبيه كزة إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا
والكزّة القبيحة ، والكزازة اليبس والانقباض ، ويقال للبخيل كزّ اليدين.
والبخل شدة الحرص لخوف الفقر وعدم اليقين بخلف اللّه عليه لتغلب تسويلات الشّيطان عليه.
قال تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) الآية 269 من البقرة المارة.
ولا يزال البخيل يبخل حتى يحمله بخله على الحرص ، حتى أنه ليبخل على نفسه بما في أيدي الغير ، لأن من معاني البخل مطلق المنع.
روى مسلم عن جابر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال اتقوا الظّلم فإن الظّلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشّح فإن الشّح أهلك من كان قبلكم وحملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم ، وأخرج أبو داود عن أبي هريرة أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال شرّ ما في الرّجل شح هالع (الهلع شدة الجزع على ما يفوت) وجبن خالع أي (يخلع الفؤاد لشدة الفزع).
وأخرج النّسائي عنه قال قال صلّى اللّه عليه وسلم لا يجتمع غبار في سبيل اللّه ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الشّح والإيمان في قلب عبد أبدا.
وأشرنا إلى ما يتعلق لهذا آخر سورة محمد عليه السّلام فراجعه ، قال تعالى «وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ» أن الفيء المار ذكره يكون أولا للمهاجرين ، ثم للأنصار ، ثم للّذين يأتون من بعدهم وهم التابعون إلى يوم القيامة ، لأن هذا الفيء يكون بيد من يتولى أمر المسلمين فينفقه عليهم ، وهؤلاء المستحقون ذلك هم الّذين «يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ(6/97)
ج 6 ، ص : 98
رَحِيمٌ»
(10) فعلينا معاشر المؤمنين أن ندعو لمن قبلنا ومن بعدنا أسوة بهؤلاء الصالحين الّذين وصفهم اللّه بالآية السّابقة ، فالّذين لا يتصفون بتلك الصّفات لا يستحقون شيئا من الفيء والغنيمة ، وليس لهم حق أي نصيب وحظ في فيء المسلمين ، لأن المسلم يجب أن يكون مؤمنا وأن يدعو للمؤمنين ممن سبق زمنه بالمغفرة ، وأن لا يكون في قلبه غيظ على أحد منهم ، يدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه.
وروى مسلم عن عروة بن الزبير قال قالت عائشة يا ابن اختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول اللّه فسبوهم وأخرج الترمذي عن عبد اللّه بن معقل قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ، اللّه اللّه في أصحابي ، لا تتّخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه ، ومن آذى اللّه فيوشك أن يأخذه فيطرحه في جهنم.
قال تعالى (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) الآية 103 من سورة هود في ج 2 فعلى العاقل أن لا يذكر أصحاب الرّسول إلّا بخير ، ولا ينتقدهم ، ولا يقبح رأيهم ، ولا يعيبهم بشيء أبدا.
وقال جابر قيل لعائشة إن أناسا يتناولون أصحاب رسول اللّه حتى أبا بكر وعمر ، فقالت وما تعجبون من هذا ؟ انقطع عنهم العمل وأحب اللّه أن لا ينقطع عنهم الأجر.
أي أن اللّه تعالى يثيبهم بسبب غيبتهم ، وقد يأخذ من حسنات مغتابيهم فيضعها إليهم ، ويأخذ من سيئاتهم فيطرحها على المغتابين وهم لا سيئات لهم إلّا أنه قد يقع منهم مما هو خلاف الأولى فيحسب عليهم سيئة بالنسبة لمقامهم الرّفيع.
وقال مالك بن أنس من انتقص أحدا من أصحاب رسول اللّه أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم تلا هذه الآية.
وسمع ابن عباس رجلا ينال من أصحاب رسول اللّه فقال له من المهاجرين الأولين أنت ؟ قال لا ، قال فمن الأنصار أنت ؟ قال لا ، قال فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان.
وقال مالك بن مغول وفي نسخة بن مفعول ، قال قال الشّعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنّصارى على الرّافضة بخصلة ، سئلت اليهود من(6/98)
ج 6 ، ص : 99
خير أهل ملتكم قالوا أصحاب موسى ، وسئلت النّصارى من خير أهل ملتكم قالوا حواري عيسى ، وسئلت الرّافضة من شر أهل ملتكم فقالوا أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم والسّيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه بسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض حجتهم ، أعاذنا اللّه من الأهواء المضلّة.
قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا» فدسّوا على بني النّضير وتعهدوا لهم بالمعونة والنّصرة على الرّسول وأصحابه كما مر أول السّورة «يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً» بخذلانكم وعدم القتال معكم ولنكونن معكم «أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (11) في وعدهم هذا وعهدهم لهم.
ثم أقسم جل قسمه على عدم قيامهم بذلك فقال «لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ» على الفرض والتقدير «لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ» عنهم منهزمين إلى الوراء «ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» (12) البتة لأن الخذلان مقدر عليهم «لَأَنْتُمْ» أيها المؤمنون «أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ» أي أن بني النّضير يخافونكم أكثر من خوفهم من اللّه لقلة يقينهم «ذلِكَ» إيقاع الرّعب منكم في قلوبهم دون ربكم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (13) عظمة اللّه ولو علموها لخافوا اللّه أكثر منكم.
واعلموا أنهم «لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً» أي اليهود والمنافقون «إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ» لشدة جبنهم وخوفهم منكم ، فلا يبرزون إلى ميدان القتال ولا يقدرون على مقابلتكم فيه ولكنهم إذا قاتلوا بعضهم يكون «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ» لسوء طويتهم وشدة حقدهم بعضهم على بعض ولكن إذا قاتلوكم جبنوا وألقي في قلوبهم الرّعب منكم لما أوقع اللّه في قلوبهم من هيبتكم «تَحْسَبُهُمْ» أيها الرّائي عند ما تراهم «جَمِيعاً» متحدين مؤتلفين كلا بل هم متفرقون متنافرون «وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» متفرقة يبغضون بعضهم ويتحاسدون على القليل والكثير ، وهذه الواو للمحال أي والحال على خلاف(6/99)
ج 6 ، ص : 100
ما ترونهم وتظنون بهم «ذلِكَ» اجتماعهم في الأجسام وتفرقهم في القلوب وشدة بأسهم على بعضهم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» (14) أوامر اللّه ونواهيه فيبهتون ويتحيرون ولو عقلوا لما كان هذا شأنهم ، مثلهم يا سيد الرّسل «كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أهل مكة ومن حذا حذوهم «قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» في حادثة بدر وهذا عذابهم في الدّنيا «وَلَهُمْ» في الآخرة «عَذابٌ أَلِيمٌ» (15) لاتقواه قواهم ومثل المنافقين الّذين وعدوهم بالمعونة وتعهدوا لهم بالنصرة ثم خذلوهم «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» (16) من عاقبة الكفر الوخيمة ولهذا «فَكانَ عاقِبَتَهُما» أي الشّيطان المغوي للانسان والإنسان التابع لإغوائه «أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» (17) أنفسهم باتباع أهوائهم وشياطينهم ، وبئس الجزاء.
مطلب قصة برصيصا الرّاهب وكفره وجريج الرّاهب وبراءته ، وتسبب العلماء لإهانة أنفسهم :
هذا والمراد بهذا الإنسان على ما رواه عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب في الفترة اسمه برصيصا ، عبد اللّه في صومعته سبعين سنه لم يعص اللّه طرفة عين فجمع إبليس مردته وقال لهم أيكم يكفيني أمره ؟ فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء أنا أكفيكه فذهب إليه وناداه فلم يجبه لانشغاله في صلاته ، فقام الملعون يصلي أيضا ، فلما انفتل برصيصا من صلاته رأى رجلا على هيئة الرّهبان يصلي فلام نفسه وقال له إنك ناديتني وأنا مشغول بصلاتي فما حاجتك ؟ قال جئت أتأدب بأدبك وأتعبد معك فتدعو لي وأدعو لك ، قال له إني لفي شغل عنك ، وأقبل على صلاته وأقبل الخبيث على الصّلاة أيضا وبقي أربعين يوما معه لم يلتفت إليه ، ثم قال له برصيصا ما حاجتك معي ؟ قال تجعلني معك في صومعتك فجعله لما رأى من عبادته وأقام معه سنة لا ينظر إليه إلّا في كلّ أربعين يوما مرّة ، ثم أعجب برصيصا حاله فقال الأبيض لبرصيصا كان بلغنا عنك غير الذي رأيت منك ، وإن لي صاحبا هو أشد اجتهادا منك ، وإني منطلق إليه ، وسأعلمك كلمات يشفي اللّه بهن السّقيم ، (6/100)
ج 6 ، ص : 101
فعله وتركه ، وقد عرف الخبيث أنه لا يمكن إغواؤه إلّا من قبل النّساء لأنهن من أوثق الخدع لصيد الأتقياء ، ثم ذهب فتعرض لرجل وقال لأهله إن به جنونا انطلقوا به إلى برصيصا ، فأخذوه إليه فدعا إليه بتلك الكلمات فبرىء من ساعته ، وصار الخبيث يتعرض للناس ويرشد أهليهم لمراجعة برصيصا حتى تعرض لبنت الملك وقال لأهلها لا يبرئها إلّا برصيصا ، اذهبوا بها إليه واتركوها عنده ، فإذا عوفيت فردوها ، فأخذوها إليه فبرئت ، فأرادوا إبقاءها عنده لئلا يعود إليها الجنون ، فلم يفعل ، فجاءهم الخبيث وقال لهم ابنوا لها صومعة بجانب صومعته وضعوها فيها وقولوا له هذه أمانتك واجعلوها تشرف عليه حتى إذا عاد عليها ما بها دعا لها فتبرا ، ففعلوا وتركوها فصار كلما انفتل في صومعته رآها فوقع في قلبه حبّها لما هي عليه من الجمال ، فوجد الخبيث فرصة وصار يتعرض لها الفينة بعد الفينة وبرصيصا يدعو لها فتبرأ ، ثم وسوس له أن يواقعها ويتوب ، فلم يزل به حتى واقعها ، فحبلت فقال له الشّيطان ويحك انفضحت اقتلها وتب ، وقل لأهلها ذهب بها شيطانها ، ففعل ودفنها ورجع إلى صلاته ، فجاء إخوتها فسألوه عنها فقال لهم ذلك ، فرجعوا فجاءهم الشّيطان بالمنام وأخبرهم بالقضية فلم يكترثوا ، فوالى عليهم مجيئه ، فانطلقوا فرأوا الأمر كما رأوا ، فأنزلوا برصيصا من صومعته مكتفا وهدموا صومعته وعلقوه فجاء الخبيث وقال أنا الذي علّمتك الكلمات اسجد لي وأخلصك ، فسجد له بطرفه فقال له كفرت بربك إني بريء منك ، إني لست مستحقا للسجود ، إني أخاف اللّه من أن أشرك أحدا في عبادته.
قالوا ومنذ ذلك اليوم طمع أهل الفسق بالرهبان والأحبار ورموهم بالبهتان حتى كان من أمر جريج الرّاهب ما كان فبرأه اللّه تعالى.
وخلاصة قصته أن أمه نادته وهو في صلاته فلم يرد عليها ، فجاءته من الغد ونادته فلم يرد عليها فقالت اللّهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات ، وكانت بنو إسرائيل تعجب من عبادته فقالت لهم الباغية إن شئتم فتنته لكم ، قالوا نعم ، وهذا من جملة حسدهم ، قاتلهم اللّه ، فبدل أن يعملوا عمله ويتبركوا بأمثاله أرادوا ردّه عن هداه ليس إلّا حسدا أخزاهم اللّه ، فذهبت تلك المومسة ومكنت من نفسها راعيا فحملت منه ، فلما ولدت قالت هو من جريح ، فأنزلوه من صومعته وهدموها(6/101)
ج 6 ، ص : 102
وصاروا يضربونه ويعنفونه ويقولون له زنيت! وأرادوا رجمه ، فقال لهم أمهلوني أصلي وافعلوا بي ما شئتم فأمهلوه ، فصلى وانفتل إلى الغلام ، فقال له من أبوك ؟
قال الرّاعى ، فأقبلوا عليه يعتذرون منه ويستسمحونه وأعادوا له صومعته كما كانت.
ولهذا حتى الآن والنّاس يسيئون الظّنّ بعلمائهم والحق معهم ، لأن العلماء الآن لا يتورعون عن مخالطة الفسقة من ولاة الأمور وغيرهم ، بل صاروا يتنافسون بصحبتهم ، وأمثال هؤلاء لا يتسمّون علماء حقيقة لأن العالم من يخشى اللّه فلا ينافق ولا يداهن ، ولهذا فإنه قد يقع من أناس متصفين بهيئة العلماء ما لم يقع من أفسق الفاسقين ، فيكثر القول في العلماء العاملين تبعا للضالين من غير تفريق.
فلو أن أهل العلم صانوه صانهم من رمي أمثال هؤلاء ولو عظموه فلم يبذلوا أنفسهم لأهل الدنيا لعظمهم في أعينهم ، ولكنهم لم يفعلوا ففعل بهم ما أهانهم ، فلا حول ولا قوة إلّا باللّه ، راجع الآية 23 من سورة ابراهيم المارة في ج 2 ، والآية 50 من سورة الأنفال المارة فيما يتعلق بكيد الشّيطان مع البشر والآية 29 من سورة يوسف في ج 2 فيما يتعلق بمن نطق بالمهد.
روى أبو هريرة عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لم يتكلم في المهد إلّا ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج والرّضيع الذي قالت له أمه اللّهم اجعله مثل هذا.
تريد رجلا أعجبها هيئته فترك ثديها وقال اللّهم لا تجعلني مثله.
في حديث طويل أخرجه مسلم بتمامه والبخاري مفرقا ولم بعد شاهد يوسف في هذا الحديث لاختلاف العلماء فيه كما بيناه في الآية المذكورة من سورته بصورة مفصلة فراجعها.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ» في أداء ما أوجبه عليكم والتجافي عما نهاكم عنه قبل حلول يوم القيامة لأن الدّنيا يوم وغدها الآخرة فتزودوا من الأعمال الصالحة إليه فينبغي للعاقل أن ينظر ما يقدم لغده من أيّام الدّنيا إن كان خيرا زاد منه ، وإن كان غير ذلك أقلع عنه ، لأن الدّنيا مزرعة الآخرة وإن كل إنسان يحصد ما يزرعه من حلال وحرام فينال خيره وشره ، لا يعزب عن علم اللّه منه شيء «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (18) في هذه الدّنيا سرا وعلانية وما تدخرونه لآخرتكم «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ» فلم يذكروه في(6/102)
ج 6 ، ص : 103
الرخاء والسّرّاء «فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» ولم يوفقهم لعمل الخير ولم ينظر إليهم حال الشّدة والضّراء ، قال صلّى اللّه عليه وسلم تعرّفوا إلى اللّه بالرخاء يعرفكم بالشدة «أُولئِكَ» الناسون ربهم «هُمُ الْفاسِقُونَ» (19) الخارجون عن طاعته «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ» الغافلون عن اللّه الجاحدون رسله وكتبه واليوم الآخر «وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ» المصدقون بذلك كله المديمون ذكر اللّه «أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» (20) برضاء اللّه ونعيم الآخرة والشّرف برؤية ربهم وأصحاب النّار الخاسرون الدّنيا والآخرة المحرومون من نعيم الجنّة المعذبون فيها
«لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ» وجعلنا فيه التمييز كما جعلناه فيكم أيها النّاس «لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» فيجدر بكم أيها المؤمنون أن تخشعوا وتخضعوا لتلاوته وأوامره.
راجع الآية 142 من الأعراف وانظر كيف دك الجبل بمجرد تجلي اللّه تعالى عليه مع أنه لا يعقل ولكن اللّه تعالى يضع فيه العقل إذا شاء حتى انه إذا أنزل عليه كلامه خشع وتصدع وهذا مثل ضربه اللّه لكم أيها النّاس لتعتبروا لأنكم أنتم الّذين يجدر بكم أن يصدر منكم ذلك «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (21) فيها فيعتبرون ويتعظون ، تشير هذه إلى قساوة قلوب النّاس وفيها تهديد لهم ، قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الآية 12 من سورة الزمر ج 2 وبعد أن بين اللّه عظمة كتابه ذكر بعض عظمة أسمائه فقال تعالى «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» (22) الذي أنزل عليكم كتابه رحمة بكم وأرسل إليكم رسله نعمة لكم فقدروا رحمته واشكروا نعمته ليتفضل عليكم بجنته واعلم أن الغيب كلّ ما غاب عن الخلق فكل ما لا يعملونه هو عالم به كالمشاهد له لا فرق عنده بين الغائب والحاضر إذ لا يعزب عن علمه شيء ولا غيب عليه والغيب بالنسبة لنا ، أما هو جل شأنه فالغيب والشّهادة عنده سواء «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» المتصرف بالأمور خفيها وجليها «الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ» الطاهر المنزه عن سمات خلقه المبرأ من كلّ عيب ونقص في الماضي والحال والمستقبل «السَّلامُ» الذي لا يطرأ عليه شيء مما يطرأ على خلقه من الحوادث سابقا وآنا ولاحقا وهو اسم مبالغة المسالم «الْمُؤْمِنُ» خلقه(6/103)
ج 6 ، ص : 104
المؤمنين من عذابه وغير المؤمنين من ظلمه «الْمُهَيْمِنُ» الرقيب الشّهيد القائم على خلقه وعلى هذه المعاني جاء قوله :
ألا إن خير النّاس بعد نبيه مهيمنه التالية في العرف والنّكر
ويأتي بمعنى الحافظ العلي وبمعنى الآخر قال العباس يمدح رسول اللّه في أبيات منها :
حتى احتوى بينك المهيمن من حنذف علياء زانها النّطق
واحتوى هنا بمعنى جمع والمهيمن العلي والحنذف وصف امرأة الياس بن مضر ليلى بنت حلوان بن عمران والحنذفة الهرولة والمشي بتبختر وليس مرادا هنا وقال بعضهم لا يعلم معناه إلّا اللّه وأنشد :
جل المهيمن عن صفات عبيده ولقد تعالى عن عقول أولي النّهى
راموا بزعمهم صفات مليكهم والوصف يعجز عن مليك لا يرى
«الْعَزِيزُ» الذي لا يغلبه غالب ولا يفلت منه هارب الواجب الطّاعة فيما يأمر وينهي النّادر الذي لا مثيل له القوي الذي لا يجارى «الْجَبَّارُ» العظيم الشّأن في القدرة والسّلطان والقهر الذي لا يدانى ولا يحجزه عن إرادته حاجز «الْمُتَكَبِّرُ» البليغ في كبريائه الذي لا يحيط به شيء وهذه والتي قبلها صفتان ممدوحتان في الخالق مذمومتان في المخلوق «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (23) به من خلقه من لا يستحق شيئا من هذه الصّفات الجليلة ولا يقدر على خلق شيء من مخلوقاته ولا على حفظ نفسه من العاهات تنزه عن الشّريك والمثيل والنّدّ والشّبيه «هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ» للوجد الأعيان من العدم إبداعا واختراعا وإنشاء «الْمُصَوِّرُ» خلقه في الأرحام والبيض والأكمام والطّين وغيرها ومكونها بما هي عليه كما شاء الذي جعل لكل منها ميزة على الآخر على كثرتها واختلافها فسبحانه من إله قادر متكبر «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى » الكريمة الشّريفة الدّالة على معان كثيرة راجع الآية 8 من سورة طه ج 1 تجدها كلها هناك مع ما يخطر ببالك عنها وإن له تعالى أسماء غيرها لا تعد ولا تحصى حيث يشتق له من كلّ ما يقع في ملكه اسم «يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من كلّ نام وجامد بلسان القال والحال «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (24) في أفعاله وأقواله وآثاره وقد ختمت(6/104)
ج 6 ، ص : 105
هذه السّورة بالمعنى الذي بدئت به وهو من بديع النّظم ويوجد سورة التغابن مختومة بما ختمت به فقط واللّه أعلم.
وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم.
تفسير سورة النّور
عدد 16 و102 و24
نزلت بالمدينة بعد سورة الحشر عدا الآية 55 على القول بأنها مكية.
وهي أربع وستون آية والف وثلاثمائة وستّ عشرة كلمة وخمسة آلاف وتسعمئة وثمانون حرفا.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدأت به ، وقد ختمت سورة النّساء والأنفال بما ختمت به ، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «سُورَةٌ» عظيمة جليلة مشتملة على قصص وأحكام وعبر ومواعظ وحدود وأمثال قد «أَنْزَلْناها» على رسولنا محمد ليتلوها على قومه وجميع خلقنا «وَفَرَضْناها» أوجبناها وكلفناه وأمته بما فيها من الأحكام «وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ» أيها النّاس «تَذَكَّرُونَ 1» بما فيها فتتعظون وتعتبرون بها فهي ظاهرة لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير.
ثم بين أول أحكامها فقال عز قوله «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» من أي ملة كانا وقد رفع أمرهما إليكم أيها الحكام «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما» إذا لم يكونا محصنين «مِائَةَ جَلْدَةٍ» ضربة على جلده مباشرة دون حائل ما ، وبهذا القيد يمتاز عن الضّرب لأنه يكون مع الحائل وغيره ، وما يستر العورة من البزّ الرّقيق لا يعد حائلا لأنه لا يقي ألم الضّرب «وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ» عليهما فتتأثروا أو تجرءوا على الشّفاعة بهما ، لأنها لا تجوز بوجه من الوجوه في حد من حدود اللّه تعالى ، لأنها تقتضي إلى تعطيل الأحكام فيفشو الفساد في الأرض وتكثر الجرأة على محارم اللّه إذا تهاون النّاس بها ولم ينفذوها ، وهذا لا يجوز «فِي دِينِ اللَّهِ» الذي يجب التصلب فيه والقيام بشعائره والمحافظة عليه «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فلا تتقاعوا عن تنفيذ أوامره وتهملوا حدوده «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (2) لا يقلون عن أربعة وذلك نصاب شهادة(6/105)
ج 6 ، ص : 106
الزنى ، وإنما أمر بالإشهاد زيادة في الرّوع والزجر وتشهيرا لحال الزناة وتحذيرا من الإقدام عليه وتنفيرا من قربانه.
ويشترط لإقامة هذا الحكم الشّرعي على الزاني أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما غير محصن ، ثابت عليه بأربعة شهود عيان ، وكذلك المرأة ، وسيأتي أن الإسلام ليس بشرط لإقامة هذا الحد.
وعلى العبد والأمة غير المحصنين نصف ذلك ، أما المحصنان من الأحرار فيرجمان بالأحجار والعظام وشبهها حتى بموتا ، أما العبد والأمة فلا يرجمان لأن الموت لا ينصف إذ يشترط للرجم الحربة والإسلام والإحصان والعقل والبلوغ والنّكاح الصّحيح والدّخول ، فإن فقدوا واحدا منها فلا رجم ، بل يصار إلى الحد أي الضّرب للحر أو الحرة مئة وللعبد والأمة خمسون.
مطلب كيفية الجلد وشروطه وتحوله لأهل الكتاب وغيرهم وما قيل فيه والاختلاف الواقع بين الخراج وما نسب إلى عمر رضي اللّه عنه في الرّجم وغيره :
وكيفية الجلد أن بجرد الرّجل ويضرب قائما ، ويرمى عن المرأة الفرو والحشو وما شاكلهما فقط ، وتضرب قاعدة ويجتنب الضّارب الرّأس والوجه والمذاكير والبطن والظّهر ، ولا يضرب ضربا مبرّحا يتعدّى إلى اللّحم بأن يفطر الجلد بل يقتصر على ما يؤثر في الجلد.
وهذه الآية مقيدة لآية الحبس المار ذكرها في الآية 14 من سورة النّساء ، وهذا هو السّبيل الذي وعد اللّه به هناك وشرعه في الزانية والزاني الذي أوجب عليهما الأذى أولا في الآية 15 منها أيضا لأنها مخصصة لها أيضا وللتعذيب الوارد في السّنة ، ولا يجري حد الرّجم والجلد على أهل الكتاب وغيرهم إلا إذا تحاكموا عندنا لنبوته في التوراة التي هي مرجع عام لمن كان قبل نزول القرآن ، أما الإنجيل فلا أحكام فيه كافية لما يتعلق بأمور العباد جميعها ، ولذلك يرجع للتوراة فيما لم ينص عليه الإنجيل المعدل لبعض أحكامها ، وقد جاء في الصّحيحين في حديث عبد اللّه بن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرّجم ؟ فقالوا نفضحهم ويجلدون ، فقال عبد اللّه بن سلام كذبتم فيما زعمتم إن فيها الرّجم ، فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع عبد اللّه بن صوريا يده على آية الرّجم وقرأ ما قبلها وما(6/106)
ج 6 ، ص : 107
بعدها ، فقال له عبد اللّه بن سلام ارفع يدك ، فرفع يده فإذا آية الرّجم فقالوا صدق يا محمد ، فأمر بهما النّبي صلّى اللّه عليه وسلم فرجما ، ومن هنا لم يشترط الإسلام ، وما جاء في بعض الأحاديث من اشتراط الإسلام لم نثبت صحتها ، والمختار في علم الحديث أنه إذا تعارض الرّفع والوقف حكم بالرفع عند صحة الطّريق إليه ، وما ورد في هذا الشّأن لم يصح طريقه صحة معتبرة.
هذا وإن سؤال حضرة الرّسول اليهود لا ليعلم حكم الرّجم لأنه معلوم عنده ، بل لتبكيتهم وإظهار كذبهم على ملأ النّاس وعامتهم.
ومن قال إن الرّسول حينما جاء إلى المدينة أمر بالحكم بالتوراة قول لا صحة له باطل لا يوجد ما يؤيده ، وإنما كان يعمل بشرعه الذي أنزل إليه ، والشّرائع الإلهية متشابهة ، ولأن شريعته صلّى اللّه عليه وسلم لم تنسخ التوراة كافة بل ما هو مخالف لما في القرآن فقط ، وأن كثيرا من أحكامها موافق للقرآن ، وان شرع من قبلنا إذا وافق شرعنا فهو شرع لنا أيضا ، والعمل فيه لا يعني أنه عمل بالتوراة بل بالقرآن هذا وإن ما رواه اسحق بن راهويه في سنده قال أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبد اللّه عن نافع عن ابن عمر عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال من أشرك باللّه فليس بمحصن ، وإذا كان ليس بمحصن فلا رجم عليه ، ولذلك استدل به على شرطية الإسلام بالرجم إلا ان هذا الحديث فضلا عن الاختلاف الوارد في رفعه ووقفه ورجوع راهويه نفسه عن رفعه ، فلم يعرفه هل هو مقدم على حديث ابن عمر المار ذكره الذي لا مرية فيه ، أم مؤخر عنه ؟ وقال أئمة الحديث إذا تعارض القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر فيقدم القول لأن الدّلالة القولية غنية عن الدّلالة الفعلية لا العكس ، إذ لا يخفى ان دلالة القرآن العظيم لفظية.
هذا وإن تقديم القول موجب لدي الحد ، وتقديم الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحدود ، والأولى في الحدود ترجيح الرّافع عند التعارض ، ولا يخفى ان كلّ مترجح محكوم بتأخيره اجتهادا ، وعلى هذا يكون المعول عليه في هذا الباب حديث ابن عمر الوارد في الصحيحين إذ لو كان الإسلام شرطا لما رجم حضرة الرّسول اليهودي واليهودية وعلى القول أن فعله ذلك على شريعتهم فيكون شرعا له ، ولأنه لا فرق بين زنى المسلم والكتابي والكافر من حيث هو زنى ، وإن قول الرّسول ان لهم ما للمسلمين وعليهم(6/107)
ج 6 ، ص : 108
ما عليهم يؤيد هذا.
وقد خالف الإمام أبو حنيفة رحمه اللّه الشّافعي واشترط الإسلام ، وإن صاحبه أبا يوسف وافق للشافعي بعدم الاشتراط ، والأحسن أن يقال إن الشافعي وافق أبا يوسف لأنه متقدم عليه ، وخالف أبا حنيفة لهذه العلة أيضا.
ولما عاب الخوارج على عمر بن عبد العزيز قوله بالرجم لأنه ليس في كتاب اللّه ألزمهم بأن أعداد ركعات الصّلاة ومقادير الزكوات ليسا في كتاب اللّه ، فقالوا له ثبت أعدادهما ومقاديرهما بفعله صلّى اللّه عليه وسلم والمسلمين بعده ، فقال لهم والرّجم أيضا ثبت بفعله صلّى اللّه عليه وسلم والمسلمين بعده ، فألقمهم الحجر وأخرس ألسنتهم ، لأن فعل الرّسول وكلامه مفسر للقرآن وواجب العمل بهما.
وما قاله عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه حسبما رواه البخاري خشيت أن يطول زمان حتى يقول قائل لا نجد الرّجم في كتاب اللّه عز وجل فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه عز وجل ألا وإن الرّجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ، فمن باب الكشف لمعارضة الخوارج وغيرهم فيه ، وهذا غير كثير على الفاروق الذي طفحت الكتب بفضائله ، وقد ألمعنا إلى بعضها في الآية 44 من سورة الاسراء في ج 1 فظهر من هذا أن الرّجم ثبت بالسنة الصّحيحة واجماع الصّحابة والأمة الاسلامية من بعدهم لا بالقرآن ، وليس هذا من باب النّسخ ، لأن الآية لها محمل على غير المحصنين ، ومن قال أن الرّجم ثبت بالآية المنسوخ تلاوتها وهي (الشيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما) لا يصح لعدم القطع بقرآنيتها وتلاوتها ، فضلا عن أنها على غير نمق كلام اللّه الذي لا يشبهه كلام خلقه من كلّ وجه.
وإن ما جاء في الحديث الذي رواه أبو ذر من أن سيدنا عمر تلا هذه الآية على المنبر وقال لو لا أن يقال إن عمر زاد في كتاب اللّه لكتبتها على حاشية المصحف ، وأن أحدا لم يرد عليه فطريقة ظنية لا يعتمد عليها ، لأن عمر لا يخشى مقالة أحد في الحق في زمن حضرة الرّسول وزمن صاحبه أبي بكر ، فكيف يخشى وهو أمير المؤمنين الذي لا يرد له أمر ، فلو ثبتت قرآنيتها عنده لكتبها لا سيما وهو في زمن لم يجمع فيه القرآن أو لم يدون في المصاحف ولقال في المصحف نفسه ، لأنه إذ ذاك وهو صاحب الأمر والنّهي ومعدن العلم بعد صاحبيه ، الذي قال فيه ابن مسعود وهو أمين الأمة عند موته(6/108)
ج 6 ، ص : 109
لقد مات تسعة أعشار العلم.
ومما يدل على عدم صحة هذا أن ليس هناك مصحف ليكتبها على هامشه ، لأن المصاحف دونت زمن عثمان رضي اللّه عنه ، أما سكوت من سمع خطبته المزعومة من الأصحاب على فرض وقوعها لا يعد حجة لأن الإجماع السكوتي مختلف في حجيّته ، بل الأرجح عدم حجيّته ، ومن هذا القبيل الطّلاق الثلاث بلفظ واحد ، إذ نسب إلى سيدنا عمر إيقاعه بتّا ، وإنه أمر بذلك لكف تهاون النّاس بالطلاق ، وإن الأصحاب لم يردّوا عليه فلم يعتد بسكوتهم لما ذكرنا ، ولهذا اختلفت آراء المحدثين في ذلك ، فمنهم من أبرم إيقاعه ثلاثا ، ومنهم من عده واحدا ، وعلى التسليم جدلا بحجية الإجماع السّكوتي لا يقطع بأن المجتهدين من الأصحاب كانوا حضورا لأن حضور عوامهم لا يكفي ، ولهذا قال علي كرم اللّه وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ تلاوته ، وهو أعلم من غيره بكتاب اللّه وسنة رسوله ، ولا يقال جمع بين الجلد والرّجم لأنه جلدها بصفتها غير محصنة ، فلما تبين له إحصانها رجمها ، وإن رأيه الصّائب عليه السّلام أن جلد غير المحصن حكم زائد ثبت بالسنة هو الرّأي المعمول به الموافق لكتاب اللّه وسنة رسوله ، وبذلك قال أهل الظّاهر وهو رواية عن احمد واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود من قوله صلّى اللّه عليه وسلم الثيب بالثيب جلد مئة ورمي بالحجارة ، وفي رواية غيره ويرجم بالحجارة.
ومن هذا الذي يقدم على معارضة أولى النّاس بحدود اللّه بعد رسوله ؟ هذا وإن أوهى الأقوال قول من قال إن الآية المنسوخة نسخت هذه القاضية بالجلد وهي غير موجودة ومطعون في وجودها أي نزولها ، فالعجب كلّ العجب من جرأة البعض على كلام اللّه تعالى ورغبتهم بالنسخ حتى توصلوا إلى هذا الحد الذي لا يقوله من عنده لمعة من ورع أو ذرة من تقوى أو لمحة من إيمان ، وقد أشرنا غير مرة إلى أن لا قرآن إلا ما هو بين الدّفتين لم يسقط منه حرف واحد أبدا ، فهذا الحكم الأوّل من الآيات البينات ، والحكم الثاني بينه
بقوله «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً» لأنها دونه وشر منه «وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ» لأنه دونها وشر منها أيضا ، ولهذا قال تعالى «وَحُرِّمَ ذلِكَ» أي نكاح الزانية(6/109)
ج 6 ، ص : 110
التي لم تتب والمشرك الباقي على شركه «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (3) التدنيس بمثلهن لأن طهارتهم ومروءتهم تأبى ذلك ، ولما أراد بعض فقراء المهاجرين ومن لا مال له ولا عشيرة أن يتزوج ببغايا المدينة لينفقن عليهم من مالهن استأذنوا رسول اللّه فنزلت هذه بالمنع ، لأن الزانيات رجس ونجس ، والمؤمن طاهر نظيف ، فلا يليق بكرامته أن يلوثها بالعاهرات ويدنس مروءته بهن ، أما باب الجواز فيكون فيما فيه بأس وما لا بأس فيه ، وعليه فإن العاهرة إذا تابت جاز نكاحها كما لو أسلمت المشركة ، والزاني والمشرك كذلك ، لعموم قوله تعالى في الآية الآتية وهي (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) إلخ وقدمت الزانية على الزاني في الآية الأولى لأنها لو لم تطمع الرجل نظرا أو كلاما أو ملامسة أو غمزا أو إشارة أو تبسما أو غيره ولم ترخص له وتمكنه من نفسها لم تقع الجريمة من الرّجل ، وأخرت في الثانية لأنها مسوقة لذكر النّكاح ، والرّجل أصل فيه لأنه الخاطب ، ومنه يبدأ الطّلب ، ومن قال أن المراد بالنكاح هنا الوطء لأن غير الزاني يتقذر الزانية ولا يشتهيها ، وهو صحيح إلا أن المعنى يكون حينئذ الزاني لا يزني إلّا بزانية ، والزانية لا تزني إلّا بزان وهو خلاف المراد لأن هذه الآية على حد قوله تعالى (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) الآية الآتية عدد 26 ، والمراد بها هنا تزهيد النّاس في نكاح البغايا لأن الزنى عديل الشّرك في القبح ، والإيمان قرين العفاف في الحسن ، وقد سئل صلّى اللّه عليه وسلم عمن زنى بامرأة ثم تزوجها ، فقال أوله سفاح وآخره نكاح ، فالعفيف يتباعد عن دنسهنّ ، والشّريف يتنزه عن حقيرهن قال :
إذا وقع الذباب على طعام كففت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه
وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ، ويقول إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان فلأن يتزوجها غير زان فمن باب أولى قال تعالى «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ» بالزنى «ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» على فعل الزنى بهن عيانا «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً» كما تقدم في حد الزنى في الآية الثانية المارة.
هذا إذا كان الرامي حرا ، أما إذا كان عبدا فأربعون جلدة ، وإن كان المرمي غير محصن فعلى(6/110)
ج 6 ، ص : 111
الرامي أي القاذف التعذير فقط ، وهو يختلف باختلاف الأشخاص ، وإن قذفها بغير الزنى كقوله يا فاسقة يا سارقة يا خبيثة فيكفي فيه شاهدان ، وفيه التعذير أيضا ، والتعذير إذا كان بالجلد فلا يبلغ أقل الحد أي الأربعين بل دونها ولو بضربة واحدة.
وشروط إحصان القذف الحربة والإسلام والعقل والبلوغ والعفة عن الزنى.
والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ» أي القاذفين بعد إقدامهم على القذف «شَهادَةً أَبَداً» مدة حياتهم لورودها على التأييد لثبوت فسقهم بقوله تعالى «وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (4) الخارجون عن طاعة اللّه تعالى.
تدل هذه الآية على أن القذف من الكبائر ، وقد عده صلّى اللّه عليه وسلم من الموبقات السّبع في الحديث الذي رواه الشّيخان وأبو داود والنّسائي بلفظ : اجتنبوا السّبع الموبقات الشرك باللّه ، والسّحر ، وقتل النّفس التي حرم اللّه إلّا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات.
قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» أنفسهم وثبت لديكم صلاحهم «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (5) بعباده الرّاجعين إليه بغفران ذنوبهم السّابقة وإزالة اسم الفسق عنهم وقبول شهادتهم.
ويفهم من هذه الآية أن التوبة وحدها لا تكفي من القاذف حتى يقرنها بعمل صالح ، وهو كذلك.
وقيل لا تقبل شهادتهم ولو تابوا ، وإن الاستثناء يرجع إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) والأول أولى ، لأن الاستثناء راجع إلى رد الشّهادة كما قاله عمر وابن عباس وغيرهم من كبار الصحابة ، ومن هنا أخذت قاعدة الاسقاط من الحقوق المدنية على مرتكبي الجنايات ، وقاعدة رجوع هذه الحقوق إليهم باستحصالهم على قرار من الحكومة ، وهذا الحكم الثالث من الآيات البينات ، والحكم الرّابع بينه بقوله «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ» على صحة قولهم «إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ» على رميهم «أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» (6) في رميه زوجته «وَالْخامِسَةُ» يزيد فيها جملة «أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ» (7) فيما رماها به ، وبهذا ينجو من إيقاع حد القذف عليه ، والحكم الخامس هو «وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ» الحد الذي ترتب عليها بشهادات زوجها المخمسة المقرونة(6/111)
ج 6 ، ص : 112
باللعن «أَنْ تَشْهَدَ» هي أيضا على نفسها «أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ» (8) فيما رماها به «وَالْخامِسَةَ» تزيد فيها ما أشار اللّه إليه بقوله «أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ» زوجها «مِنَ الصَّادِقِينَ» (9) فيما رماها به من الزنى لا في شهاداته المخمسة ، وهو كذلك يقرن اللعن في الشّهادة الخامسة فقط ، وجعل الغضب في جانبها بمقابل اللّعن الذي بجانبه لأنهن يستعملنه كثيرا ، فربما جر أن عليه لكثرة جريه على لسانهن وسقوط وقوعه عن قلوبهن ليكون رادعا لهن.
أخرج في الصّحيحين عن سهل بن سعد السّاعدي أن عويمر العجلاني جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقال له أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقنلونه أم كيف يفعل ؟
فقال صلّى اللّه عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها ، قال سهيل فتلاعنا وأنا مع النّاس عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول اللّه أن مسكنها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره ، فكانت تلك أي قضية الطلاق بعد التلاعن سنة للمتلاعنين.
وفي رواية : ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم انظروا ان جاءت به اسحم أدعج العينين عظيم الإليتين خدلج السّاقين ، ولا أحسب عويمرا إلا صدق عليها ، وان جاءت به اسحم أحيمر كأنه دحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها ، فجاءت به على النّعت الذي نعت صلّى اللّه عليه وسلم من تصديق عويمر ، وكان بعد بنسب إلى أمه.
هذا مختصر من حديث طويل ، وروى البخاري عن ابن عباس أن هلال ابن أمية قذف امرأته خولة عند النّبي صلّى اللّه عليه وسلم بشريك بن سمعاء ، فقال النّبي صلّى اللّه عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول اللّه إذا رأى أحد على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النّبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول البينة أو حد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن اللّه ما يبرىء ظهري من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه هذه الآية ، فأرسل إليهما فجاءا فقام هلال بن أمية فشهد والنّبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول يعلم اللّه أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت ، فلما كانت الخامسة وقفها وقال إنها موجبة أي ان هذه الشهادة الخامسة المقرونة باللعن والغضب توجب وقوعه عليها إن كذبت ، وإن غضب اللّه عظيم أجارنا اللّه منه ، وذلك ليحملها على الصّدق قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت لا أفضح قومي(6/112)
ج 6 ، ص : 113
سائر اليوم فمضت ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أنظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدليج السّاقين فهو لشريك بن سمحاء ، فجاءت به كذلك ، فقال النّبي صلّى اللّه عليه وسلم لو لا ما مضى من كتاب اللّه لكان لي ولها شأن.
وفي رواية غير البخاري أطول من هذا الحكم الشّرعي قذف الزوج زوجته كقذف الأجنبية بالشروط المارة الذكر ، والحد أو الرّجم كذلك ، إلا أن المخرج مختلف ، ففي الأجنبية إذا لم يأت بأربعة شهداء يحدّ إذا لم يقرّ المقذوف ، وفي الزوجة يسقط عنه بأحد الأمرين الشّهادة أو الاعتراف أو بالملاعنة ، وصفتها أن يلقنه الإمام أو نائبه بان يقول أشهد باللّه إني لمن الصّادقين فيما رميت به زوجتي هذه فلانة من الزنى بفلان ، إذا كان يعرفه وإلّا لا حاجة لا سمه.
وإذا أراد نفي الحمل أو الولد يقول زيادة على ذلك وان الحمل أو الولد ليس منى إنما من الزنى ، وفي الخامسة يقول بعد لفظ الشّهادة عليه لعنة اللّه إن كان من الكاذبين فيما رماها به ، فإذا فرغ وقعت الفرقة بينهما وحرمت عليه على التأييد وسقط عنه الحدّ وانقضى عنه نسب الحمل أو الولد ووجب على المرأة حد الزنى ، فإذا أرادت إسقاطه عن نفسها فتلقن أيضا بأن تقول أشهد باللّه أنه من الكاذبين فيما رماني به من الزنى بفلان أو بمطلق رجل ، وإن الحمل أو الولد من زوجي لا من غيره.
وتزيد في الشّهادة الخامسة فتقول عليها غضب اللّه إن كان زوجها من الصّادقين فيما رماها به من الزنى ، وكلّ من صح يمينه صح لعانه حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا ، فإذا أكذب نفسه لزمه الحد ولحقه الولد ، ويجوز له نكاحها هذا هو المختار الذي عليه الاعتماد وما جاء على خلاف هذا فهو مخالف لظاهر القرآن.
قال تعالى «وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» لفضحكم أيها النّاس حالا ولكنه ستّار يحب ستر عباده ، ولهذا اشترط أربع عدول سدا للباب لئلا يقدم كلّ أحد على ذلك فتظهر مفاسد لا تحمد عقباها «وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ» على من يتوب من عصيانه «حَكِيمٌ» (10) فيما فرضه من الحدود والأحكام على عباده ، وهذا الحكم السّادس من الآيات البينات.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ» أي هذا البهت المختلق «شَرًّا لَكُمْ» عند اللّه يا آل محمد «بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»(6/113)
ج 6 ، ص : 114
عنده لا نزال سبع عشرة آية في البراءة منه وهذا الخطاب لحضرة الرّسول وزوجته عائشة وأبيها أبي بكر وصفوان المتهم بها ويدخل في هذه الآية كلّ من استاء من المؤمنين لأجله «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ» من العصبة الّذين صبروا على هذه القرية «بقدر مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ» عقابا «وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ» وهو رأس المنافقين بن سلول «لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ» (11) لأنه هو الذي أشاعه وخاض فيه ولم يتب حتى مات على نفاقه والعصبة والعصابة ما بين العشرة إلى الأربعين.
قال تعالى «لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ» الإفك المذكور والقول الزور «ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً» عفافا وإخلاصا لا أن يسارعوا إلى الشّر إذ كان عليهم أن يكتموه أو يكذبوه ويحسنوا الظّن بحسب الظّاهر على الأقل في تلك الطّاهرة الزكية ربة العفاف والصون النّقية ، وكذلك فيمن عرفوا عفته وطهارته من أصحاب رسول اللّه المبرئين ولا يبادروا إلى التهمة بل يجب عليهم أن ينكروه ويجحدوه ويقولوا ما أشار اللّه إليه بقوله عز قوله «وَقالُوا» متبرئين منه ومتنزهين عنه «سبحانك هذا» الإفك المختلق في حق تلك الطّاهرة هو «إِفْكٌ مُبِينٌ» (12) ظاهر لا خفاء فيه ولو لا هنا بمعنى هلا ، وكذلك هي كلما وليت الفعل لا إذا وليت الاسم كقوله تعالى لو لا أنتم فتكون على معناها الأصلي أي حرف امتناع لوجود.
وقيل إن هذه الآية نزلت في خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاري رضي اللّه عنه ، إذا قال لزوجته ماترين فيما يقال فقالت لو كنت بدل صفوان ، كنت تظن ذلك ؟ قال لا ، قالت عائشة ولو كنت بدل عائشة ماخنت رسول اللّه لأنها خير مني ، وصفوان خير منك ، ولما استفاض هذا الخبر بكثرة ترداده من الأفاكين الآتي ذكرهم وتكريرهم إياه في كل مجلس دون جدوى بقصد انتشاره.
استشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أصحابه في ذلك فقال عمر رضي اللّه عنه انا قاطع بكذب المنافقين ، لأن اللّه عصمك من وقوع الذباب على جلدك ، لأنه يقع على النّجاسات وتتلطخ بها ، فلما عصمك عن ذلك القذر من التعذر فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون ملطخة بمثل هذه الفاحشة ؟
وقال عثمان رضي اللّه عنه إن اللّه ما أوقع ظلك على الأرض لئلا يقع إنسان قدمه(6/114)
ج 6 ، ص : 115
على ذلك الظّل ، فلما لم يكن أحدا من وضع القدم على ظلك ، فكيف يمكن أحدا من تلويث عرض زوجتك ؟ وقال علي كرم اللّه وجهه إن جبريل أخبرك ان على نعلك قذرا وأمرك بإخراج النّعل عنرجلك بسبب مالنصق به من القذر فكيف لا يأمرك بإخراج زوجتك بتقدير أن تكون متلطخه بشيء من الفواحش ؟
فاطمأن لقولهم وهو مطمئن من قبل ، ولكن ليختبر ما عندهم.
قال تعالى مكذبا لأهل الافك «لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ» أي بهتهم ذلك «بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» ليعلم صدقهم الظّاهري «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» (13) تشير هذه الآية إلى توبيخ كلّ من سمع بالإفك ولم يجدّ في دفعه وفيها احتجاج على المفترين بما هو ظاهرا الشّرع من وجوب تكذيب القاذف بلا بينة ، وترمي إلى التنكيل به إذا قذف مطلق امرأة ، فكيف بالصدّيقة حرم رسول اللّه وخيرته من خلقه وأم المؤمنين «وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» أيها النّاس بامهالكم للتوبه وعدم تعجيل العقوبة بالدنيا «وَالْآخِرَةِ» بالمغفرة والعفو بحلمه وكرمه «لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ» من الإفك رجما بالغيب من غير علم ولا وثوق «عَذابٌ عَظِيمٌ» (14) لعظم ما خضتم فيه.
واعلم أن لولا الأولى بمعنى هلا للتحضيض وهذه لا متناع الشّيء لوجود غيره والآتية كالأولى للتحضيض أيضا والرّابعة كهذه لا متناع الشّيء لوجود غيره ، والخامسة أيضا مثلها واذكروا أيها الأفاكون «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ» من بعضكم ليس إلا «وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» إنه حق أو صدق إذ لم يرسخ في قلوبكم صحته ، لأن الشّيء يقع أولا علمه بالقلب ، ثم يترجم عنه اللّسان ، وهذا الإفك ليس إلّا قولا يدور على الألسنة ، كذلك فيده اللّه بأفواههم وعظم وقوعه وهدد وأوعد عليه بقوله «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً» أيها المختلقون فتذيعونه في نواديكم وتشيعونه بالطرقات وتتفوهون به في سموكم في بيوتكم وغيرها بقصد إفاضته لدى العامة كأنه ليس بشيء «وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» (15) وزره كبير حوبه خطير عذابه ، لأنه طعن في حب حبيبه التي يعلم طهارتها من كذبكم «وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ» على طريق التعجب والاستفهام «ما يَكُونُ لَنا أَنْ(6/115)
ج 6 ، ص : 116
نَتَكَلَّمَ بِهذا»
بمجرد السّماع من قوم أفاكين قد تفوهوا به فيما بينهم وأشاعوه تقصدا بل كان عليكم أن تقولوا بلسان واحد «سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» (16) وإنما أمروا أن يقولوا هذا بهتان مبين بالآية الأولى ، وفي هذه هذا بهتان عظيم مبالغة في التبرّي مما خاضوا فيه ، ثم نبههم اللّه أيضا إيقاظا لما يقع من نوعه في المستقبل بقوله «يَعِظُكُمُ اللَّهُ» وهذا أبلغ من قوله ينهاكم «أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً» لا قولا ولا إشارة ولا رمزا ولا تخطرا ولا استماعا مقصودا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (17) بعفة اللّه تعالى ، واعلموا أن اللّه لا يعفكم فيحذركم ويمنعكم معاتبا من الخوض بكل ما يؤثمكم ويؤدي إلى هلاكم «وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» لتهذيب أخلاقكم وتحسين آدابكم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بكذبكم وافترائكم وبراءة السّيدة عائشة التي اتهمتموها ، ونزاهة صفوان الذي ألصقتم به هذه الفرية الكاذبة المختلقة ، ولذلك أظهر براءتهما بوحيه كما هو مدون في كتابه الأزلي لعلمه أزلا في هذه الحادثة المزعومة كبقية الحوادث المتقدمات والحقيقة الراهنة «حَكِيمٌ» (18) فيما يقضي ثم أكد وعيده وتهديده في أصحاب الإفك ومن يصغي لأقوالهم أو يحبذها بقوله في الحكم السّابع «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا» عائشة وصفوان الطّاهرين الزاكيين ، واللّفظ عام فيشمل كلّ مؤمن ومؤمنة «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا» بالذم والشّتم والسّب والحد والسّقوط من العدالة ، وقد أوقع صلّى اللّه عليه وسلم الحد في عبد اللّه بن أبي سلول وحسان ومسطح وحمنه ، ثم ان صفوان قعد لحسان وضربه بالسيف فكف بصره «وَالْآخِرَةِ» العذاب الشّديد لمن يموت منهم مصرا على نفاقه وقذفه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» حقيقة كذبهم فيما فاهوا به «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (19) إن اللّه يعاقب على ذكر هذه الفاحشة محبة
إشاعة السوءى ، فعليكم معاقبة من يتفوه بها ظاهرا في الدّنيا ، واللّه يعاقب على ما في القلوب من حب ذكر هذه الفاحشة إذا شاء في الآخرة أيضا «وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» لعجل عقوبتكم ولم يمهلكم للتوبة لتستحقوا عذاب الآخرة كاملا «وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (20) بعباده
ثم حذر تعالى عن اتباع ما يحوك في النّفس ويتردد في الصّدر من الوساوس القبيحة التي يدسها(6/116)
ج 6 ، ص : 117
الخناس في صدور النّاس عند الغفلة عن ذكر اللّه ، فقال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» بإصغائكم إلى هذا البهتان ، وهذا الخطاب عام أيضا للمؤمنين الموجودين عند نزول هذه الآية كافة وهو عام أيضا في كل من يأتي من المؤمنين إلى يوم القيامة «وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ» فيميل إليها «فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» كالشيطان ، ومن كان كذلك فمأواه جهنم إذا لم يتب «وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» أيها الخائضون في الإفك «ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً» ولا قبلت توبته ، بل بقي ملوثا بسوئها «وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» من الذنوب بتوفيقه إلى التوبة وقبولها منه «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالكم خيرها وشرها سرها وجهرها «عَلِيمٌ» (21) بأحوالكم وما في صدوركم قبل إظهارها ، ويعلم ما تستحقونه من الثواب والعقاب.
ولما حلف أبو بكر رضي اللّه عنه بان لا ينفق على مسطح لا شتراكه بالإفك أنزل اللّه جل شأنه الحكم الثامن والتاسع من الآيات البينات بقوله جل قوله «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ» من الاليّة وهو القسم أي لا يحلف ، والمراد بالضمير على ما أجمع عليه المفسرون أبو بكر رضي اللّه عنه ، ولا يمنع خصوصها فيه عمومها في غيره ، لأن العبرة لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب «أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الّذين منهم مسطح المذكور ابن خالته ، وهو مسكين مهاجر «وَلْيَعْفُوا» عمّا صدر منهم «وَلْيَصْفَحُوا» عما بدر منهم من السّوء «أَ لا تُحِبُّونَ» أيها المؤمنون «أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» بمقابل ما تغفرون بعضكم لبعض «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (22) لمن يجرؤ عليه وينسب له الشّريك والولد والصّاحبة وينكر وعده ويكذب رسله ويجحد كتابه إذا تاب وأناب ، ألا فتخلقوا بأخلاق ربكم وليرحم بعضكم بعضا ابتغاء وجه اللّه وطلبا لمرضاته وطمعا في ثوابه.
قال أكثر المفسرين إن المراد بهذه الآية أيضا أبو بكر رضي اللّه عنه والخطاب له خاصة ، وإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قرأها عليه فقال بلى واللّه أحب مغفرة اللّه ، وارجع نفقة مسطح التي كنت أنفقها عليه ولا أنزعها عنه أبدا.
وهذه الآية في فضل أبي بكر على غيره(6/117)
ج 6 ، ص : 118
بعد محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لان اللّه تعالى ذكرها في معرض المدح وفي لفظ الجمع مما يدل على علو شأنه عند ربه ، ويدخل في عمومها كلّ من حذا حذوه.
ومن هنا أخذ الحكم الشّرعي وهو من حلف على يمين ورأى خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه بنص هذه الآية.
وقد جاءت أحاديث الرّسول بمثلها كما قدمناه في الآية 222 من البقرة المارة.
والحكم العاشر هو قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ» عن الفاحشة العفيفات عن قربانها نقيات القلوب من كل سوء ، الطاهرات من كلّ عيب ، كعائشة رضي اللّه عنها «الْمُؤْمِناتِ» بكل ما جاء عن اللّه المصدقات لرسوله وكتابه بعد نزول هذه الآيات المبرئات للسيدة عائشة مما رميت به «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (23) فيها أيضا ، وهذا المعنى الكبير الغليظ خاص بمن يرمي السّيدة عائشة بعد إعلان نزاهتها من اللّه تعالى حقا وجمع الضّمير باعتبار ان رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين ويدل على التخصيص قوله تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» بما أشاروا فيها «وَأَرْجُلُهُمْ» على المشي بها لبعضهم المتفوه بالإفك جزاء «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24) من القبيح ، لأنه رمي أي قذف يستوجب العقوبة سواء أكان بالكلام أم بالإشارة.
مطلب في كفر من يقذف السّيدة عائشة بعد بيان هذه الأحكام العشرة المبينة بالآيات في أول السّورة إلى هنا وقصة الإفك :
ومما يدل على تخصيص هذه الآيات بالسيدة عائشة لأن رميها بما بهت عليها كفر ورمي سائر النّساء من غير أمهات المؤمنين لا يعد كفرا ، وإن رميها رضي اللّه عنها بعد نزول هذه الآيات كفر بلا خلاق ، لأنه جحد لكلام اللّه ، أما قبل نزولها فلا يعد كفرا بل يستحق الحد الشّرعي المار ذكره أول السّورة ، ولأن رميها بعد النّزول يعد استباحة بقصد الطّعن بحضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ، مثل الخبيث عبد اللّه بن سلول الممعن في عداوة حضرة الرّسول ، إذ كان مصرا على رمي السّيدة عائشة قبل نزول الآيات وبعدها ، قاتله اللّه ولهذا لم يوفقه اللّه للتوبة ولا للإيمان ومات على نفاقه وإصراره ، أما حسان ومسطح وحمنه فإنهم لم يستبيحوا ذلك ولم(6/118)
ج 6 ، ص : 119
يقصدوا الطّعن بحضرة الرّسول ، ولهذا وفقوا للتوبة والقبول ، والأعمال بالنيات قال تعالى «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ» وينالهم جزاؤهم بالعدل «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» (25) إذ ترتفع الشّكوك في ذلك اليوم ، ويحصل العلم الضّروري لكل أحد بما أخبرت به الرّسل ، هذا وإن اللّه تعالى لم يغلظ في القرآن شيئا من المعاصي تغليظه في رمي السّيدة عائشة ، وفأوجز وأشبع ، وفصل وأجمل ، وأكد وكرر ، وما ذلك إلّا لعلو منزلة بعلها صلّى اللّه عليه وسلم ، والتنبيه بفضلها وكرامة أبيها ، وقد برأها في هذه الآيات العظام.
ثم بين تعالى استحالة وقوع هذه القرية على السّيدة عائشة على الظّنون والأفكار ، وتنويها بطهارتها وطيب عنصرها بقوله عز قوله «الْخَبِيثاتُ» من النّساء «لِلْخَبِيثِينَ» من الرجال «وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ» لأن المجانسة من دواعي الانضمام والطّيور تقع على أشباهها «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» ولما كان حضرة الرّسول أطيب الطّيبين وأطهر الطّاهرين اختار له السّيدة عائشة من أطيب الطيبات وأزكى الزاكيات ، وقد أظهر أن ما نسب إليها اختلاق باطل وزور محض وإفك مفترى وخرافة تافهة ، ولذلك برأها اللّه تعالى بآيات بينات تنويها بعلو شأن بعلها وأبيها ونفسها مع انه جل ذكره برأ السّيد يوسف عليه السّلام بشاهد من أهل زليخا وبرأ موسى عليه السّلام باعتراف الباغية وبرأ مريم عليها السّلام بانطاق ابنها فكانت براءة عائشة أعظم للأسباب المارة «أُولئِكَ» إشارة إلى السّيدة عائشة وصفوان فقط والجمع يطلق على الاثنين فصاعدا كما نوهنا به في الآية 45 من سورة النمل ج 1 والآية 78 من سورة الأنبياء ج 2 وسيأتي نحوه في الآية 19 من سورة الحج «مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ» الأفاكون الخبثاء وأولئك «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (26) في الآخرة ، وهذا الحكم الحادي عشر وهو آخر ما نزل في السّيدة عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها ، وهي تلك الدّرة المصونة التي قبض حضرة فالرسول في حجرها ، ودفن في بيتها ، وكان ينزل الوحي في فراشها دون سائر نسائه ، ولم يتزوج بكرا غيرها ، وقد نوه حضرة الرّسول بفضلها ، وأنزل اللّه الآيات بطهارتها وطيبها ، فهل بعد هذا من فضل وكرامة(6/119)
ج 6 ، ص : 120
واعلم أن تفسير (لا يَأْتَلِ) بصدر الآية 22 المارة كان جريا على ما قاله بعض المفسرين وهو لا يستقيم إلّا إذا قدر (لا) على فعل (يُؤْتُوا) المفيد للمنع من الحلف على الإعطاء ، والمراد بالآية - واللّه أعلم - المنع من الحلف على ترك الإعطاء كما هو المفهوم من الآية ، فيكون قد وضع النّفي مكان الإيجاب ، ويجعل المنهي عنه مأمورا به وهو غير مراد ، والأحسن الأولى بل الأصح الأعدل أن يؤوّل فعل (لا يَأْتَلِ) بفعل لا يقصر بالإحسان إذ يجوز لغة أن تقول افتعلت مكان فعلت لا العكس راجع الآية 22 من سورة البقرة في بحث حذف (لا) ولبحثها صلة في الآية 93 من سورة المائدة الآتية.
وخلاصة قصة الإفك على ما ورد في الصحيحين أنه صلّى اللّه عليه وسلم خرج إلى غزوة بن المصطلق في هذه السّنة السّابعة من الهجرة وكانت عادته إذا سافر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها أخذها معه ، ولذلك فإنه استصحب السّيدة عائشة رضي اللّه عنها فيها لخروج سهمها ، وذلك بعد نزول آية الحجاب ، ولما قفل من غزوتة ودنا من المدينة قالت عائشة عند ما آذن أي أعلم بالرحيل مشيت حتى جاوزت الجيش فقضيت حاجتي ورجعت ، التمست صدري فإذا العقد مقطوع ، فرجعت ألتمسه ، فحبسني ابتغاؤه ، واحتمل الرّهط هودجي ورحلوه على بعيري يحسبون أني فيه ، وساروا فوجدت عقدي ورجعت فعدت إلى منزلي
الذي كنت فيه وقعدت لظني أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ، فغلبتني عيناي فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السّهي قد عرّس (أي نزل آخر اللّيل) وراء الجيش فادّلج (بالتشديد بالدال وهو السّير آخر اللّيل والدّلجة بضم الدّال وفتحه السير أول اللّيل وبالتخفيف السّير كلّ اللّيل أو آخره راجع الآية 46 من سورة الرحمن المارة) فأصبح عند منزلي ، فعرفني لأنه كان يراني قبل نزول الحجاب فاستيقظت على استرجاعه (أي قوله حين رآها متأثرا من نسيانهم إياها إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فخمّرت وجهي بجلبابي ، فأناخ راحلته ووطئ على يدها ، فركبتها وانطلقت بي الرّاحلة حتى أتينا الجيش ، وو اللّه لم يكلمني ، ولا سمعت منه غير استرجاعه ، فهلك من هلك في شأني ، ولما قدمنا المدينة اشتكيت (أي مرضت) والنّاس يفيضون بالإفك فيّ من حيث لا أشعر ، وقد رابني أني لا أرى اللّطف(6/120)
ج 6 ، ص : 121
الذي كنت أراه من النّبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فلمّا نقهت (أي شفيت) خرجت وأم مسطح ليلا إلى المتبرز «محل قضاء الحاجة» قبل اتخاذ الكنف ، فعثرت في مرطها ، فقالت تعس مسطح ، فقلت أتسبين رجلا شهد بدرا ، فقالت أولم تسمعي ما قال ؟
قلت وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا ، واستأذنت رسول اللّه أن آتي أبوي ، فأذن لي ، فقلت لأمي ماذا يتحدث النّاس ؟ فقالت هوني على نفسك ، فو اللّه لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر الا أكثرن عليها ، قلت سبحان اللّه ويتحدث النّاس فيه ، فبكيت اللّيل كله ، ثم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم دعا عليا وأسامة يستشيرهما ، فقال أسامة لا نعلم واللّه إلّا خيرا ، وقال علي غير مقالته الأولى لما رأى الرّسول قد أجهده الأمر ، ولم ينزل عليه وحي من اللّه بذلك (لم يضيق اللّه عليك يا رسول اللّه والنّساء غيرها كثير واسأل جاريتها) فاستدعاها ، وقال لها أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت لا والذي بعثك بالحق ، ثم استدعى زينب بنت جحش وكانت تساميني من أزواجه فسألها فقالت يا رسول اللّه أحمي سمعي وبصري واللّه ما علمت عليها إلّا خيرا ، فعصمها اللّه بالدرع (وهذه المقالة من علي كرم اللّه وجهه لما بلغت عائشه رضي اللّه عنها ، أغاظتها وصارت منذ ذلك اليوم لم تسم عليا باسمه بل تقول جاء النّبي ورجل وذهب ورجل) قالت ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرفأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، وأصبح عندي أبواي ، وقد بكيت ليلتين ويوما حتى ظنّا أن البكاء فالق كبدي ، فدخل رسول اللّه وجلس عندي وكان لم يجلس من يوم قيل ما قيل ، فقال يا عائشة بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللّه ، وإن ألمت بذنب فتوبي إلى اللّه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب اللّه عليه فقلص (أي انقطع) دمعي حتى ما أحس منه بقطرة ، فقلت لأبي أجب رسول اللّه ، فقال واللّه ما أدري ما أقول ، فقلت لأمي أجيبي رسول اللّه قالت واللّه ما أدري ما أقول ، فقلت لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به النّاس حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فئمن قلت إني بريئة واللّه يعلم إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر واللّه يعلم إني بريئة منه
لتصدقني فو اللّه ما أجد لي ولكم مثلا(6/121)
ج 6 ، ص : 122
إلا أبا يوسف إذ قال فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون ، ثم تحولت واضطجعت على فراشي وظننت بأن الرّسول سيرى رؤيا ببراءتي لا أن ينزل اللّه فيّ قرآنا ، لأني أحقر من أن يتكلم اللّه فيّ قالت واللّه مارام رسول اللّه مجلسه ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل اللّه هذه الآيات ، فقال أبشري يا عائشة أما اللّه فقد براك ، فقالت أمي قومي إلى رسول اللّه (أي لتقدم لحضرته الشّكر اللائق بمقامه تجاه بشارته لها) فقلت واللّه لا أقوم ولا أحمد إلّا اللّه الذي أنزل براءتي ، وقالت أن الرّجل الذي قيل له ما قيل يعني صفوان بقول سبحان اللّه فو الذي نفسي بيده ما كشفت من كنف (أي ستر) أنثى قط ، ثم قتل في سبيل اللّه.
ومن قوة دينها رضي اللّه عنها أنها كانت تكره أن يسب حسان بحضرتها مع أنه من أهل الإفك ولقوله رحمه اللّه في ذلك :
هجرت محمدا وأجبت عنه وعند اللّه في ذلك جزاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم فداء
(وفي رواية وقاد)
أتشتمه ولست له بكفء فشر كما لخيركما الجزاء (الفداء)
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدّلاء
وقد اعتذر عما وقع منه في حديث الإفك الذي نقله الملعون ابن سلول ، وقال رضي اللّه عنه فيها :
حصان ماتزنّ (تتهم) بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
أي جائعة لا تغتاب أحدا أبدا.
حليلة خير النّاس دنيا ومنصبا نبيّ الهدى ذي المكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤى بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب اللّه خيمها «1» وطهرها من كلّ سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعموا فلا رفعت سوطي إلي الأنامل
وكيف وودي ماحيبت ونعرتي لآل رسول اللّه زين المحافل
__________________________________________________
(1) خيمها : طبيعتها وسجيتها ، والخيمة معروفة.(6/122)
ج 6 ، ص : 123
له رتب عال على النّاس كلهم تقاصرت عنه سورة المتطاول
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ولكنه قول امرئ لي ما حل
(يقال محل به إذا سعى به إلى السّلطان فهو ماحل) ولاط بمعنى أصاب وأمر واقتضي وابتغي ، والمراد به هنا الأوّل ، أي ليس بصائب.
مطلب آداب الدّخول على الدّور وطوق الباب والدّخول بلا أذى والوقوف أمام باب الدّار وحومة النّظر إلى من فيها :
هذا إنهاء قصة الإفك ذكر اللّه شيئا من تأديبه إلى خلقه للمناسبة فقال أولا «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا» تستأذنوا ، وأصل الاستئناس الاستعلام والاستكشاف ، أي حتى تعلموا أيؤذن لكم أم لا ، وطريقة الاستئذان بالدخول لدار الغير تكون بما هو متعارف بالبلدة من الألفاظ كالكلام والتسبيح والتكبير والتحميد والتصفيق والتنحنح وطرق الباب «وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» بعد الاستئذان «ذلِكُمْ» الاستئذان قبل الدّخول والتسليم بعده «خَيْرٌ لَكُمْ» من أن تتهجموا البيوت بغتة على حين غرة من أهلها ، ولا تدروا ما يصادفكم من القبول أو الرّد إذا دخلتم حال غفلة أهلها ، فانتبهوا لهذا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (27) هذه الآداب فتنقيّدون بها وتعلمونها غيركم «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً» يأذن لكم كأن يكون فيها امرأة شابة لأنها لا تأذن عادة بالدخول للبيت الذي هي فيه إذا كانت وحدها أو تكون خالية من أهلها «فَلا تَدْخُلُوها» لما في الدّخول من الرّيبة والتهمة في المرأة أو مظنة السّرقة أو الاطلاع على ما في البيت ، ولهذا فاحذروا من الدّخول «حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ» من قبل من يملك الاستئذان والأذن من الخدم وأصحاب الدّار لا غيرهم ، ولو فرض أن الشّابة الموجودة وحدها أذنت له فلا يجوز له الدّخول عليها خشية الفتنة أو تقول النّاس فيما لا يرضى ، وكذلك لا يدخل بمطلق اذن العبد والجارية والصّغير حتى يستأذنا من أسيادهما وأهله لأنهم لا يملكون حق الأمر بالدخول ، والصّغير والصّغيرة لا يعقلان ولا يعرفان المحاذير الناشئة عنه ، وعلى هذا فليس لأحد الدخول إلّا إذا تحقق صدور الإذن من أهل(6/123)
ج 6 ، ص : 124
القول في البيت ، فلعله إذا دخل على اذن من لا يملك الإذن يلاقي ما لا يحب أو ما يكره من أهل البيت من وجود معذرة أو أمر ما ، ولهذا قال تعالى «وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا» حالا ولا تقفوا ولا تتفجروا أو تغتاظوا أو تغتضبوا.
واعلموا أن رجوعكم بسبب تلك الأعذار وبمطلق عذر يصدر عن أهل البيت «هُوَ أَزْكى لَكُمْ» وأطهر وأصلح لما فيه من البعد عن مواقع التهم وعن منع أهل البيت من أشغالهم ، وقد تكون معذرتهم لا تمكنهم من قبولكم لأن للناس أحوالا يكرهون اطلاع الغير عليها أو تأخير إنجازها أو تهيثهم للقبول «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» (28) لا يخفى عليه شيء من أمر الدّاخل والمدخول عليه وصدقهما ونيتهما ، ولما نزلت هذه الآية قالوا كيف بالبيوت بين مكة والشّام والمدينة ليس فيها مساكن ، يريدون الخانات المعدة لنزول المسافرين وكانت تعمر من قبل أهل الخير ويوضع فيها الماء وتترك ماوى للغادين والبادين دون أجر ما بخلاف ما عليه الحالة الآن اللّهم إلّا ما بقي من الخانات الموقوفة لهذه الغاية وما أحدثته وجددته الدّولة العثمانية على طريق الحاج من آثار من تقدمها من الحكومات التي كانت تعمل محلات هكذا لتسهيل أمر الحجاج والتيسير عليهم تأمينا لراحتهم ، فأنزل اللّه ثابتا فيما هو غير مسكون فقال جل قوله «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ» بغير استئذان إذا تحققتم أن ليس فيها أحدلأن الأذن شرع على البيوت لوجود المخدرات فيها أو وجود أناس في حالة لا يجوز أن يطلع عليهم أحد معها ، فإذا لم توجد هذه المحاذير فلا حاجة للاستئذان إذ قد يأتي الرّجل إلى أهل بيت لا يحبون دخوله عليهم مطلقا أو لا يريدون الزائر نفسه أو لوجود أحد يكرهه أو لا يحب أن يجلس معه أحد ، فإذا أتقنت هذه الأعذار وغيرها مما يصح أن يكون عذرا جاز لكم الدّخول ، ولا سيما إذا كان «فِيها مَتاعٌ
لَكُمْ» وضعتموه قبلا أو وضعه أحد لكم كما هي العادة الآن أيضا ، حيث يتركون في المنازل الواقعة على الطّرق وبالخاصة التي يرجعون إليها بعد قفولهم ، حتى أن بعض النّاس في بلادنا يضعون بعض أثقالهم عند قبور الصّالحين وفي قببهم لاعتقادهم أن أحدا لا يجرؤ على أخذها ، وهو كذلك لأن العقيدة فيهم والحمد للّه(6/124)
ج 6 ، ص : 125
سائدة ، ففي هذه المواقع لا حاجة للاستئذان إذ لا يوجد فيها أحد غالبا ، وإذا كان فيها قيما أو خادما فإنهم قد يودعون عنده بعض أشيائهم عند ظهورهم إلى المراعي ونزولهم للقرى وهكذا المساكن التي يأوون إليها بقصد اتقاء الحر والبرد أو الاستراحة والنّوم ، فلا حاجة أيضا للاستئذان وهكذا كلّ محل يتحقق لكم أن لا أحد فيه جاز الدّخول إليه لمطلق منفعه ، أما عبثا فلا ، لصريح الآية وتقييدها بالمتاع ، إذ قد يجد العابث مالا يحب ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما يريبك «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من أموركم وأعمالكم «وَما تَكْتُمُونَ» (29) من أسراركم ونياتكم.
هذا هو الحكم الشّرعي في ذلك ولها آداب أخر منها أن لا يقف أمام الباب لئلا يطلع على من في الدّار بل على يمينه أو شماله أي الجهة التي لا يفتح إليها لئلا ينظر لمن يأذن له ولا ينظر من شقوقه فيطلع على من هو داخل الدّار ، وإذا كان الباب مفتوحا فليرده ثم يطرقه ، بتؤدة وسكون لا بشدة وغضب لما فيه من قلة أدب المستأذن وعدم احترام صاحب البيت وإيقاع الرّيب في قلبه ، ولا يصح يا فلان ، وإذا قيل له من أنت ؟ فليقل فلان بن فلان أو يذكر شهرته إن كان معروفا بها ليعلم صاحب الدّار هويته ، حتى إذا لم يحب دخوله أو عنده من لا يحبه اعتذر ، أما إذا كان مجيئه مع الرسول فلا حاجة للاستئذان لأن الرّسول هو الآذن وإنما ذهب ليأتي به بإذن المرسل ، وإذا كان في البيت محارمه ليستأذنهم أيضا لعلهم في حالة لا يحبون اطلاعه عليها ، وإذا وقع بصره على صاحب الدّار يسلم عليه أولا ثم يستأذن بالدخول ، ولا يستعجل بل ينتظر قليلا لعلهم يصلحون شأنهم ومحلهم لأجله أو أنفسهم من تبديل لباس لا يليق بهم لقاؤه به أو يزيلوا ما يكرهون أو ما يكرهه هو النّظر إليه وغير ذلك.
ويجوز الدخول بلا استئذان إذا رأى حريقا أو طفلا على شفا حفرة أو رأس جدار أو أعمى عليهما أو سمع استغاثة داخلها أو علم وجود منكر فيها وكان يقدر على إزالته لإطفائه وتخليصه ومنعه ، أو رأى عقربا او غيرها قريبا من نائم او غافل او صغير او مجنون ، ففي هذه الأحوال له أن يدخل وان يستعين بغيره لدرأ هذه الأشياء ، أخرج أبو داوود عن عبد اللّه بن يسرة قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا(6/125)
ج 6 ، ص : 126
أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن او الأيسر ويقول السّلام عليكم.
وذلك إن الدّور لم يكن عليها يومئذ ستور فإذا كان لها وراء الباب مانع من الاطلاع على داخلها وما وراءها فيجوز ان يقف أمامه لعدم المحذور ، وأخرج أبو داود عن ابي هريرة قال قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا دعي أحدكم فجاء مع الرّسول فإن ذلك إذن له.
وأخرج مالك في الوطأ عن عطاء بن يسار ان رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال استأذن على أمي قال نعم ، فقال إني معها في البيت ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم استأذن عليها ، فقال الرّجل إني خادمها ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم استأذن عليها أتحب ان تراها عريانة ؟ قال لا ، قال فاستأذن عليها وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال اطلع رجل من حجر باب النّبي صلّى اللّه عليه وسلم ومع رسول اللّه مدري يرجل ، وفي رواية يحك به رأسه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لو علمت انك تنظر لصقت به فيك ، إنما جعل الإذن من أجل البصر ، والمدري المشط والقرن وهنا يراد به الثاني لمناسبة الحال واللّه اعلم.
ورويا عن ابي هريرة ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم ان يفقؤا عينه قال تعالى في الأدب الثالث «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ» عما لا يحل النّظر إليه قصدا روى مسلم عن جرير قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن نظرة النّجأة قال اصرف بصرك ، وأخرج أبو داود والترمذي عن بريدة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لعلي يا علي لا تتبع النّظرة النّظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية وروى مسلم عن ابي سعيد الخدري ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يقضي الرّجل إلى الرّجل في ثوب واحد ، ولا تقضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد أي لما في ذلك من الملامسة والنّظر إلى المنهي عنهما وفي ذكر الرّجل والمرأة إشارة إلى أن ذلك معفو في الأولاد والبنات الّذين هم دون البلوغ بل التمييز كما سيأتي في آخر هذه الآية «يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» عما لا
يحل من الزنى واللّواطة والاستحلاب والسّحاق وابدائها للنظر إليها «ذلِكَ» غض البصر عن المحرمات وحفظ الفروج عن الزنى ودواعيه «أَزْكى لَهُمْ»(6/126)
ج 6 ، ص : 127
من دنس الإثم «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ» (30) في اجالة النّظر وحركات الحواس والجوارح ، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم ونياتكم.
مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح :
هذا ويجوز النّظر إلى وجوه المحارم وشعورهن واثديتهن واعضائهن وأقدامهن وكذلك الجواري المعروضات للبيع وإلى وجه الأجنبية وكفيها إذا أراد خطبتها ، او كان شاهدا او حاكما يقضي عليها ، أو إذا كانت محترفة ، فلمن يشتري منها او يبيعها جواز النّظر إلى وجهها لمعرفتها فيما إذا كان وجب الرّدّ بالعيب والإشهاد على العقد او على نقد الثمن وغيره من متعلقات العقود.
قال تعالى «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» عما لا يحل من الزنى والسّحاق وإبدائه للنظر له كما تقدم في الأدب الثالث «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ» الخفية التي لم يبح كشفها للاجانب «إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ» المؤمنات بدليل الإضافة ولم يذكر في هذه الآية العم والحال مع أنهما من المحارم في جواز النّظر أيضا وهو قول الحسن البصري وقال لأن الآية لم يذكر فيها الرّضاع وهو كالنسب وجاء في آية الأحزاب 54 لا جناح عليهن في آبائهن ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم ، وقد ذكروا هنا إذ قد يذكر البعض لينبه به على الجملة ، قال الشّعبي إنما لم يذكرهما اللّه لئلا يصفهم العم والخال عند أولادهما ، ومعناه ان القرابات تشارك الأم والأب في المحرمية إلّا العم والخال وأبناءهما فإذا رآها العم والخال فلربما يصفانهما لا بينهما فيقربان تصورهما إليهما بالوصف من نظرهما إليهما وهو ليس بحرام ، إلا أنه من الدلالات المبغية على وجوب الاحتياط عليهن في التستر وهي من المروءة والغيرة ، أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وعنده ميمونة بنت الحارث إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليها فقال صلّى اللّه عليه وسلم احتجبا منه ، فقلنا يا رسول(6/127)
ج 6 ، ص : 128
اللّه أليس بأعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصران وذلك لأن النّظر كما هو محرم على الرّجال محرم على النّساء.
وأخرجه أبو داود أيضا وقدم غض البصر على حفظ الفرج ، لأن النّظر بريد الزنى ورائد الفجور وبذر الهوى طموح العين ، وفيه قيل :
كل الحوادث مبداها من النّظر ومعظم النّار من مستصغر الشّرر
والمرء مادام ذا عين يقلّبها في أعين العين موقوف على الخطر
كم نظرة فعلت في قلب فاعلها فعل السّهام بلا قوس ولا وتر
يسر ناظره ماضر خاطره لا مرحبا بسرور جاء في الضّرر
والمراد بالزينة هنا الأساور والخلاخل في الأيدي والأرجل والخضاب فيها والقرط في الأذنين والخواتم في الأصابع والقلائد في الأعناق والصّوافن في الشّعر والشّعر نفسه سواء المسترسل وغيره ، ومن هذا بدوا الأعضاء بسبب تضييق اللباس وما يضعنه على الثدايا والأرداف بقصد تصغيرهما وتكبيرهما وكلّ ما يطلق عليه اسم الزينة.
واعلم أنه كما لا يجوز إبداء شيء من ذلك لا يجوز النّظر إليه ممن لا يحل له وقد يجوز إبداء شيء من ذلك للحاجة كأن كانت تمتهن أو للضرور كالشهادة والحكم والحاكم والطّبيب المسلم ، لأن إبداء الوجه بشيء من ذلك يستلزم إبداء الكحل في العينين ، وإظهار الكفين يستوجب إظهار الخواتم والخضاب في ظاهرهما وباطنهما ، ولا يعني هذا جواز نظر الأجنبي إلى هذا الظّاهر دون حاجة كلا بل لا يجوز النّظر مطلقا لما فيه من الفتنة ولما يجر وراءه من العواقب السّيئة فكم نظرة أحرقت قلب ناظرها في الدّنيا وجسمه في النّار بالآخرة باتباع نفسه هواها ، وإذا كان إبداء الزينة منهن عنه فإن إبداء الوجه الذي كله زينة خلقة وحلية يكون منهى عنه من باب أولى فيثبت بهذا وبما قدمناه في الآية 59 من سورة الأحزاب أن ستر الوجه واجب ، والنّظر إليه غير جائز ، والسّفور حرام بالكتاب والسّنة واجماع الأمة تدبر ، ولا تلفت إلى أقوال الزائغين عن السّداد من أهل العتو والفساد بلا حجة ولا برهان اتباعا لما تسوله أنفسهم الخبيثة وما يوسوس له إليهم قرناؤهم من الجن والإنس والشّياطين وأهل البغي والعناد أولئك(6/128)
ج 6 ، ص : 129
الّذين غضب اللّه عليهم وأصمهم وأعمى أبصارهم ، والمراد بالجيوب في الآية هو شق الثوب مما يلي الصّدر وكانوا يتوسعون بذلك لإخراج الثدي لإرضاع الولد حتى تبدو صدورهن منها وكن يسدلن الخمر سدلا وهي الملافع وراءهن ، فأمرهن اللّه في هذه الآية أن يسدلن بعضها على صدورهن كي تكون كالمقانع يغطين النّحر والعنق والصّدر والأذان وما فيهما من الأقراط وما على صدورهن من الحلي وعلى أكتافهن من الشّعر حتى لا يبقى إلّا تدويرة الوجه فيسدلن عليه شيئا من طرفه الآخر لأن الوجه والكفين وإن كانا ليسا من العورة في الصّلاة ففي خارجها عورة يحرم النّظر إليها خشية الافتتان.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت يرحم اللّه نساء المهاجرين الأوّل ، لما أنزل اللّه (وَلْيَضْرِبْنَ) إلخ الآية ، شققن مروطهن فاختمرن بها.
والمرط كساء من صوف أو خز او كنان «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» من الجواري ، فكل هؤلاء يجوز النّظر لهم إلى محارمهم عدا ما بين السّرّة والرّكبة ، أما المملوكون المذكورون فلهم النّظر للزينة الظّاهرة فقط سواء كانوا فحولا أو خصيين أو عنينين ، قال سعيد بن المسيب لا تغرنكم سورة النّور فإنها في الإماء دون الذكور ، وظاهر القرآن يؤيد ذلك ، لأن الآية مسبوقة لما قبلها أي معطوفة على نسائهن ، والمراد بهن الأحرار فناسب عطف النّساء المملوكات عليهن.
وقال بعضهم إذا كان العبد عفيفا جاز له الدّخول على سيدته والنّظر إليها إلّا ما بين السّرّة والرّكبة مستدلين بأن السّيدة عائشة رضي اللّه عنها أباحت لعبدها النّظر إليها ، ويروى ذلك عن أم سلمة أيضا ، وروى أنس أن الرّسول أتى فاطمة بعبد وقال إنه ليس عليك بأس إنما هو غلامك ، إلا أن هذه الرّوايات لم تثبت صحتها ثبوتا يركن إليه ويمكن جعلها حجة للاستدلال ، وعلى فرض صحتها فأين العفة المطلوبة بالعبد الآن ، وأين عبيدنا وخدمنا من عبيدهم وخدمهم ، ونساؤنا من فاطمة وعائشة وأم سلمة رضي اللّه عنهن ، على أن قوله صلّى اللّه عليه وسلم للسيدة فاطمة لا بأس عليك إنه غلامك على فرض صحته يصرف إلى نظر الوجه واليدين إذ لا يمكن حجبهما عن الخادم الأمين لضرورة الأخذ والعطاء ، أما نساء الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم فلا قياس عليهن ، لأنهن أمهات المؤمنين أجمع ولا يمنع النّاس من النّظر إلى أمهاتهم ، ومع هذا كن(6/129)
ج 6 ، ص : 130
يحتجبن.
إن هؤلاء المارين كلهم بمثابة قسم واحد ممن يباح النّظر إليهم من الأقارب ثم بين القسم الثاني من الأجانب بقوله عز قوله «أَوِ التَّابِعِينَ» الّذين يتبعون الناس لأجل تناول فضلات طعام وخلقان ملابسهم من الشّيوخ الطّاعنين في السنّ الّذين قنت شهواتهم والمسوحين الّذين قطعت مذاكيرهم أو خصائهم ، والبله الّذين لا يعرفون أمر النّساء والمعتوهين والمجانين وأشباههم المرادين في قوله تعالى «غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ» الّذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن ولا تحثهم أنفسهم بفاحشة ما ، ولا يصفون للأجانب ما يرون منهن ، فهؤلاء لا بأس بان ينظروا من النّساء ما ينظر منهن محارمهن ، أما المجبوب الذي قطع ذكره فقط والمخصى والمخنّث الذي لا ينتشر ذكره فهم من أولي الإربة أي الحاجة بالنساء ، فلا يجوز تمكينهم من النّظر إلى النّساء لأنهم يشتهون ويعرفون أمور النّساء ويصفونهم للأجانب ولبعضهم ، ثم بين الأجانب الآخرين الّذين هم من القسم الثاني الّذين يجوز لهم النّظر بقوله جل قوله «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» أي لم يقدروا على الوطء لعدم الشّهوة ويدخل فيهم كلّ من لم يبلغ سن المراهقة والتمييز وهو الأولى لأن المراهقين قد يعرفون شيئا من ذلك فينبغي التحاشي عن اطلاعهم على الأجانب وعدم التساهل بشأنهم ، والشّر أوله نظرة والنّار أولها شرارة ، والحرب أولها كلام ، ألا فليحذرن اللائي يذهبن إلى الحمام من ذلك ، «وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ» معطوفة على ولا يبدين لأنهن إذا ضربن الأرجل حال مشيهن بأرجلهن «لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» وهو ظهور الخلخال وصوته إذ في باطنه حصى ليصوت عند ضرب الرجل بالأرض فتتنبه الرّجال للنظر إليهن فيكن كأنّهن قد عرضن أنفسهن بذلك «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً» رجالا ونساء أحرارا وعبيدا «أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ» مما صدر منكم من ذلك ، ولا تعودوا اليه أبدا ، وان ما وقع منكم من ذلك قبل صدور هذه الآية فهو عفو ، أما بعدها فلا ، إذ جاءكم النّهي من ربكم ، فاتعظوا أو لا تفعلوا منه شيئا ، واعملوا بما أمرتم به «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (31) فتفوزون بخير الدّنيا والآخرة ، وانما وصى اللّه عباده بالتوبة(6/130)
ج 6 ، ص : 131
لأنهم لا يخلون من خطأ وإن حرصوا كلّ الحرص ، وقد وعدهم بالفلاح ترغيبا لملازمتهم التوبة وأحوج النّاس إليها من يرى نفسه أن ليس له حاجة بها ، لأنه غافل لاه والغافل أكثر النّاس وقوعا بالخطا.
وبعد أن ذكر اللّه تعالى هذه الآداب الثلاثة المحتوية على آداب ثلاثة شرع يبين احكاما أخر غير الأحد عشر الأولى فقال جل قوله «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى » الغير متزوجين رجالا أو نساء «مِنْكُمْ» أيها الأحرار «وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ» عبيدكم المذكورين «وَإِمائِكُمْ» عبداتكم الصّالحات «إِنْ يَكُونُوا» هؤلاء الأيامى «فُقَراءَ» لا مال لهم فاعطوهم على فقرهم وزوجوهم «يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» الوافر العميم ، واحذروا أن يمنعكم الفقر من التزويج والزواج ، فإن اللّه وعد عليهما الغنى
«وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (32) ؟ ؟ بهم قادر على سد حاجتهم بل على إغنائهم من فضله وكرمه وإعطائهم أكثر منكم ، الا لا يمتنع الرّجل أن يزوج ابنته من الفقير لأن اللّه قد يغنيه بمقتضى هذه الآية ، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال قال صلّى اللّه عليه وسلم يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي قطع لمادة الشّهوة ، لأن الوجاء رض الخصيتين وهو نوع من الخصاء.
والباءة النّكاح.
وأخرج أبو داود والنّسائي عن معقل بن يسار قال قال صلّى اللّه عليه وسلم تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال الدّنيا متاع وخير متاعها المرأة الصّالحة.
وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) أي مع المرأة الصّالحة كما أشرنا بهذا في الآية 98 من ج 2 هذا وإن اللّه تعالى كما وعد على الزواج الغنى وعد على الطّلاق الغني أيضا ، راجع الآية 130 من سورة النساء المارة الحكم الشّرعي يسن على التأكيد لمن تتوق نفسه الجماع أن يتزوج ، وإذا خاف من عدم الوقوع بالحرام وجب عليه إذا كان قادرا على المهر والنّفقة بنسبة أمثاله ، وإلّا فعليه إدامة الصّيام كسرا لشهوته ، ومن لا تتوق نفسه ذلك وهو في أمن من الوقوع في الحرام فهو بالخيار قال تعالى «وَسَيِّداً وَحَصُوراً» يمدح سيدنا يحيى عليه السّلام لأنه لا يأتي النّساء ولا يرغب فيهن مع قدرته على الزواج(6/131)
ج 6 ، ص : 132
وتغلبه على نفسه ، وهو عليه السّلام مخصوص بذلك من عموم الأنبياء قال تعالى (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) أي اللاتي لا يتزوجن كما سيأتي بحثهن في الآية 91 من هذه السّورة ويفهم من حمد سيدنا يحيى وعدم ندب القواعد للزواج جواز عدمه للقادر عليه الحافظ لنفسه ، إلا أن الزواج أفضل لما فيه من التكاثر الذي ندب إليه حضرة المصطفى بحديثه الآنف الذكر ، يؤيده الخبر الوارد لا رهبانية في الإسلام.
وتفيد هذه الآية ان أمر تزويج الأيامى منوط بأوليائهم ، والعبيد والإماء إلى ساداتهم ، بدليل مخاطبتهم بذلك بقوله جل قوله (وَأَنْكِحُوا) وعليه فلا يجوز زواجهم بغير إذنهم وهو كذلك ، ويدل عليه قوله تعالى (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) الآية 15 من النّساء المارة وهذه تؤكد تلك لشمولها الأحرار أيضا وبما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري ، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا نكاح إلّا بولي ، ولهما عن عائشة عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل ثلاثا فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها ، فإن تشاحّوا فالسلطان ولي من لا ولي له.
ولهذا قال الإمام مالك عليه الرّحمة إن كانت المرأة دنيّة يجوز لها تزويج نفسها ، أي لأن أوليائها منها براء لدناءتها وإن كانت شريفة فلا.
مطلب ارجاء زواج الفقير لفناه.
وجواز الكاتبة ندبا.
وفي معنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً).
ومعنى قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) :
قال تعالى «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» فيتزوجوا حينذاك وإلا فعليهم ملازمة التقوى والصّبر والصّيام ومداومة العمل والتكسّب ، حتى إذا من اللّه عليهم تزوجوا «وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ» بلا أجل أو إلى أجل قليل أو كثير «مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والإماء «فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» قدرة على الكسب وأمانة على الوفاء وديانة تحفظهم من النّكث والنّقض وتجربة ليطمئن لها المكاتب.
وعلى هذا إذا وثقتم بهم وكاتبتموهم فأعينوهم امتثالا لأمره تعالى المنوه به في قوله «وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ» أي من الزكاة ، لأنهم من(6/132)
ج 6 ، ص : 133
الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية 62 من سورة التوبة إعانة لهم على أداء بدل المكاتبة لكم ، ومن الإعانة أن تحطوا عنهم منها ابتغاء وجه اللّه ، وقد نزلت هذه الآية في صبيح غلام حويطب بن عبد العزّى حين سأل مولاه أي يكاتبه فأبى فلما نزلت كاتبه على مئة دينار ، ثم وهب له منها عشرين فأداها له ، وقتل في واقعة حنين في السّنة الثامنة من الهجرة بعد فتح مكة ، وقد أشار اللّه تعالى إليها بقوله جل قوله (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) الآية 27 من سورة التوبة الآتية ، وسيأتي ذكر القصة بحذافيرها هناك إن شاء اللّه.
والحكم الشّرعي هو ان الأمر بالمكاتبة على طريق النّدب والاستحباب ، لأن الأمر معلق على فعل الخير والصّارف له من الوجوب التقييد لأن الأمر لا يكون للوجوب إلّا إذا كان خالصا من القيد والتخصيص والتعليق ، لهذا فإن الأحب للسيد ان يكاتب عبده طلبا لتحريره وابتغاء لوجه اللّه ، لأن المكاتبة تقدمة للعتق الذي رتب عليه الأجر الكثير.
روى أن سيرين أبا محمد العابد المشهور دفين الزبير من أعمال ولاية البصرة في العراق ، سأل سيده أنس بن مالك ان يكاتبه ، فأبى عليه ، فراجع عمر رضي اللّه عنه فاستدعى أنا وأمره بمكاتبته ، فلم يفعل ، فضربه بالدرة وتلا عليه هذه الآية ، إلا أن هذا لا يستدعي الوجوب لأن غاية ما فيه أن عمر توهم فيه الصّلاح وأحب ان يعتق فكان منه ما كان من الزهد والتقوى والمؤلفات ، رحمه اللّه رحمة واسعة ورضي اللّه عن سيدنا عمر ما أحد نظره وأصوب فراسته.
وكيفية المكاتبة ان يقول السيد لعبده كاتبتك على الف درهم تؤديها لي أقساطا كلّ شهر كذا او كلّ سنة فإذا أديتها كاملة فأنت حر فإذا أدى له تمام المبلغ عتق وصار حرا في كسبه وولده ، والأولاد الّذين يحصلون له زمن هذه المكاتبة أحرارا ايضا تبعا له ، أما الّذين قبل عقد المكاتبة فعبيد إلّا إذا نص على حريته في عقد المكاتبة ، وإذا لم يؤد تمام المبلغ المكاتب عليه فسخ العقد وبقي وأولاده مملوكين على حالتهم الأولى وما كسبه من المال لسيده ، لأن كسب العبد وما يملك من مال وولد لسيده أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال صلّى اللّه عليه وسلم المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
وأخرج الترمذي والنسائي عن ابي هريرة ان رسول صلّى اللّه عليه وسلم(6/133)
ج 6 ، ص : 134
قال ثلاث حق عليّ اللّه عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والنّاسخ الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل اللّه هذا وإذا مات المكاتب قبل إيفاء بدل المكاتبة وقبل مضي مدتها ووجد عنده ما يكمل البدل أخذه سيده ومات حرا ويكون ولده من بعده أحرارا وإلّا فيموت على رقه ويبقى أولاده مملوكين بعده كما كانوا قبل والأحب ان يترك السّيد ما بقي عليه طلبا لمرضاة اللّه تعالى ، فإذا وفقه اللّه وفعل مات المكاتب حرا وصار أولاده أحرارا بعده.
أخرج مالك في الموطأ ان عبد اللّه بن عمر كاتب غلامه على خمسة وثلاثين الف درهم ، فوضع في آخر كتابته خمسة آلاف وهكذا يستحب ان يضع عنه من آخر الأقساط لأن الوضع من أولها قد يحمله على الكل ويؤدي به إلى الأمل فيعجز عن الأداء ويبقى رقيقا وهو المتسبب ، لأن عدم الوضع من الأول ينشط المكاتب على العمل ويحمله على الأداء ويزيد في عزمه وحزمه على خلاص نفسه ويحزم على أداء تمام المبلغ ، إذ يحتم على نفسه انه مطلوب منه ، فإذا ترك له القسط الأخير كان عونا له في امره وكان صدقة تصدق بها عليه فيطيب خاطره ويقدر فضل سيده فلا يدعه «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ» إنما قال فتياتكم لأنهن المتوقع منهن بخلاف العجائز والصّغار ، والمراد بهن هنا العبدات ، لما جاء في الخبر لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فناي وفتاتي ، لأن الكل عبيد اللّه فلا يليق ان تنسب العبودية لنا ونحن العبيد.
والبغاء الزنى في النّساء خاصة «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» عنه «لِتَبْتَغُوا» بإكراههن على الزنى «عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» من الاحتواء على كبهن الخبيث وأولادهن الحاصلين من الزنى ليكونوا عبيدا لهم تبعا لأمهاتهم «وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ» على
ذلك فيفعلنه مكرهات بعد هذا النّهي فهو آثم ، وهؤلاء إذا تبن بعد هذا عن تعاطي هذا الفعل القبيح «فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ» لهن ولهم ايضا إذا عدلوا عن إكراههن «رَحِيمٌ» (33) بهم جميعا إذا تابوا وأتابوا وإلّا فيكون الإثم على المكره إذا تحققت شروط الإكراه ، لأن آمر المطيعة المواتية للبغاء لا يسمى اكراها ، ولا أمره أمر إكراه.
وفي هذه الحالة يكون الإثم على الاثنين لا فترافهن الزنى ولرضاء السّيد فيه.
واعلم ان في إيثار(6/134)
ج 6 ، ص : 135
لفظ (إن) على (إذا) إيذان بأنهن كن يفعلن ذلك برغبة ورضا منهن ، وان المشتكيات منه نادرات شواذ.
روى مسلم عن جابر قال عبد اللّه بن سلول يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئا فأنزل اللّه هذه الآية.
وفي رواية ان جاريتين له يقال لهما سكينة وأمية كان يكرهما على الزنى فشكناه لرسول اللّه فنزلت.
وكان لهذا الخبيث ستّ جوارهاتان اللّغتان ما كانتا ترغبان بالزنى ومعاذه واروى وعمرة وفتيلة اللاتي كن يرغبن فيه.
والآية عامة في كلّ من يفعل ذلك ، وخصوص السّبب إذا كان اللّفظ عاما لا يقيده.
ولا إشكال في قوله تعالى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) لأن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية المارة ، فخرج النّهي على صيغة السّبب نفسه وان لم يكن النّهي شرطا فيه لأن الشّرط في ارادة التحصن حيث لا يتصور الإكراه إلّا عند إرادته ، فإن لم ترد المرأة التحصن فإنها تبغي بالطبع طوعا ، إذ من المعلوم أنه لا يجوز إكراههن على الزنى أردن التحصن أم لا ، وفي هذه الآية توبيخ الموالي لأنهن إذا رغبن بالتحصن فهم من باب أولى ان يرغبوا فيه وأحق ان يحبذوه.
وليعلم أن هذا ليس لتخصيص النّهي بصورة ارادتهن التعفف عن الزنى وإخراج ما عداها من حكمه ، كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن لخصوص الزنى او لخصوص الزمن او المكان او لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة بل للمحافظة على عاداتهم المستمرة ، لأنهم كانوا يفعلون ذلك وتقبيح حالهم وتشنيع قبائحهم ، لأن من له أدنى مروءة لا يرضى بفجور من في حوزته من الإماء ، فضلا عن أمرهن به وإكراههن عليه ، لا سيما إذا كن يردن التعفف.
هذا ويجوز ان تكون (ان) هنا بمعنى إذ على حد قوله تعالى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية 133 من آل عمران أي إذ كنتم وهنا ينتفي الشرط تأمل.
أما من قال ان في الآية تقديما وتأخيرا ويريد بذلك ان يكون نظم القرآن العظيم هكذا (وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) بعيد جدا ، وان كان حسنا ، لأن تلك آية على حدة لا علاقة لها في هذه الآية واللّه أعلم بنظم كتابه.
ولم يثبت عن حضرة المنزل عليه ما يدل على ذلك ولم ينقلها أحد من خواص الصّحابة ، لذلك لا يلتفت اليه وهناك قول(6/135)
ج 6 ، ص : 136
آخر بان هذا الشّرط في الآية هذه من معطل المفهوم على حد قوله (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ) الآية 6 من سورة الأعلى في ج 2 ، أي فذكر وان لم تنفع لقوله تعالى (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 57 من سورة الذاريات في ج 2 أيضا لأن مفهوم الأولى إن لم تنفع لا تذكر والتذكير مطلوب لا يعدل عنه للتأكيد عليه في الآية الثانية وتأييده بالأحاديث الصّحيحة ، فعلى هذا لو أبطلنا مفهوم تلك الآية المفسرة يكون المعنى جواز الإكراه عند إرادة التحصن ولا مفهوم في مثله ، لأن المفهوم اقتضى ذلك وانتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع على عدم جواز الزنى بحال من الأحوال وعدم جواز الأمرين مطلقا ، وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة أو عدم طلب الكف عن الإكراه عند عدم الإرادة وإنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذ ، لأنهن إذا لم يردن التحصن لم يكرهن على البغاء والإكراه إنما هو الزام فعل مكروه ، وإذا لم يكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة ، والأوّل أولى تدبر قال تعالى «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ» لحلالكم وحرامكم وطيبكم وخبيثكم «وَمَثَلًا» من أمثال «مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» لشبه حالكم بأحوالهم ، لأن قصة عائشة رضي اللّه عنها عجيبة كقصة يوسف وموسى ومريم عليهم السلام لأنهم اتهموا وهم براء منزهون مما رموا به ، راجع الآية 26 المارة «وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» 34 ربهم المنتفعين بمواعظه لأن تقديم ما فيه عظة لذوي
الألباب نافع لهم.
وترمي ألفاظ لو لا ولو لا ويعظكم إلى التنبيه والتحذير عن كل ما نهى اللّه عنه والترغيب والتحبيذ لكل ما أمر به لمن كان له قلب حي أو القى سمعه ليأخذ به ويقبله ، ثم شرع جل شرعه في ضرب الأمثال العظيمة فقال «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» منورهما لمن فيهما «مَثَلُ نُورِهِ» العجيب الشّأن الغريب الإمكان في الإضاءة على أربعة أوجه : الأوّل نور يظهر الأشياء للأبصار وهو لا يراها كنور الشّمس وأمثالها ، لأنه يظهر الأشياء الخفية في الظّلمة ولا يراها نور البصر.
الثاني نور البصر يظهر الأشياء للإبصار ويراها فهو أشرف من الأوّل الثالث نور العقل يظهر الأشياء المعقولة المخفية في ظلمة الجهل للبصائر وهو يدركها(6/136)
ج 6 ، ص : 137
ويراها.
الرابع نور الحق وهو يظهر الأشياء المعدومة المخفية في العدم للأبصار والبصائر من الملك والملكوت وهو يراها في الوجود في عالم النّاسوت واللاهوت كما كان يراها في العدم ، لأنها كانت موجودة في علمه وان كانت معدومة في ذواتها ، لأن علم اللّه تعالى لا يتغير ، وكذلك رؤيته باظهارها في الوجود بل كان التغير راجعا إلى ذوات الأشياء وصفاتها عند الإيجاد والتكوين فيتحقق قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بأنه مظهرها ومبديها وموجدها من العدم بكمال القدرة الأزلية ومنورهما بالكواكب في السّماء وبالأنبياء والعارفين والعلماء في الأرض ، وهذا النّور الجليل العظيم بالنسبة لعقولنا وما يمكن ان نفهمه على طريق ضرب المثل ، ذلك النّور في التمثيل والتقريب لعقول البشر «كَمِشْكاةٍ» كوّة طاقة في جدار حجرة لا منفذ لها باللغة الخشبية الموافقة للغة العربية راجع الآية 182 من سورة الشّعراء في ج 1 ، وقيل إن المشكاة ما يكون فيه الزيت والفتيلة من الأواني ، والأوّل أولى وهو ما عليه الجمهور «فِيها مِصْباحٌ» سراج ضخم ثاقب نوره وماج تنتشر منه الأجزاء العظيمة «الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ» بضم الزاي وفتحها بتخليس أي قنديل من الزجاج الصّافي الأزهر ، وإنما خص دون غيره لأنه أحكى للجواهر من غيره لما فيه من الصّفاء والشّفّافية كما خصّت الكوة الغير نافذة لأن المكان كلما ضاق أو تضايق كان أجمع للضوء والنّور «الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ» ينلألأ وفادا في صفاء الدّر وزهرته والكوكب يتضاعف نوره إذا درأ منقضا أي اندفع فكأنه يدرأ الظّلام بضوئه ، ودرّ الكواكب عظامها مثل السّيارات الخمس ، ولم يشبه بالشمس والقمر لأنهما يكسفان بخلاف الكواكب فإنها لا تكسف ، والزجاجة مثلثة الزاي كالنخاع والقصاص والوشاح والزوان والجمام والصّوان وغيرها من المثلثات التي يجوز فيها الضّم والفتح والكسر ، وذلك المصباح «يُوقَدُ» وقرىء توقد فعل ماض شدد القاف ، وهذه القراءة جائزة لأن فيها التصحيف فقط ، أي ابدال التاء بالياء فلا توجب زيادة في اللفظ ولا نقصا.
واعلم أنه كما توقد النّار بالحطب توقد الأنوار بالأدهان «مِنْ» زيت «شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ» بدل من شجرة وبركتها كثرة منافعها(6/137)
ج 6 ، ص : 138
وهي أول شجرة نبتت بالأرض بعد الطّوفان وتعمر أكثر من جميع الأشجار المثمرة ويسرج من زيتها ويدهن به ويؤتدم منه ويدخر ثمرها ولا يسقط ورقها.
مطلب في الزيتون ونوره تقالى ومعنى ضرب المثل وما ينقل عن كعب الأحبار :
أخرج الترمذي عن أسيد بن ثابت أو أبي أسيد الأنصاري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ، والزيت من أصفى الأدهان إذا أتقن عمله «لا شَرْقِيَّةٍ» تصيبها الشّمس عند شروقها فقط «وَلا غَرْبِيَّةٍ» تصيبها الشّمس عند غروبها فقط ولا هي في غرب يضرها برده ولا في شرق يضرها حرّه ولا في مفيأ لا تصببها شمس البتة ولا في مفحاة لا يصببها ظل البتة لأنها إذا كانت شرقية بحتة أو غربية صرفة لا يكون ثمرها جيدا لأن الشّمس لها دخل عظيم في النّباتات وأثمارها أجمع بما أودعه اللّه فيها من قوة بل تصاحبها الشّمس طول النّهار تكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين فيخرج ثمرها من أحسن الأثمار من نوعها وحسن الزيت تابع لحسن الثمر بالدرجة الأولى فيكون واللّه أعلم المراد بها كونها شامية قدسية لأنهما وسط بين الحرارة والبرودة بالنسبة لبلادنا وأرضها لا شك مباركه طيبة ، راجع الآية 76 من سورة الأنبياء ج 2 ، وزيتونها أجود من غيره لاعتدال الهواء والحرارة والبرودة فيهما غالبا «يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ» بذاته لشدة صفاته «وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ» قبل أن تشتعل ذبالة مصباحه أي فتيلته وإذا كان يضيء قبل مس النّار له فإنه يتضاعف عند مسها له ويزيد ضياؤه كأنه «نُورٌ عَلى نُورٍ» نور صفاء الزيت على نور صفاء المصباح في الزجاجة الدّرّية فيصير نورا متضاعفا من غير تحديد ، وليس المراد أنه نور فوق نور ولا مجموع نورين بل نور غير متناه ، وهذا هو النّور الذي شبه الحق جل جلاله نوره لخلقه بالنسبة لمداركهم ولما يرونه من أنواعه لا للواقع ، لأنه ليس لمثل نوره نور كما ليس لمثله مثل ، وكما أن ذاته لا تدرك ولا تكيّف فكذلك نوره جل جلاله ، وذلك لأن مدارك العقول فيه عقال ، وغاية السّعي لمعرفة كنهه كما هي ضلال.
واعلم أن أبا تمام لما مدح المأمون بقوله :
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس(6/138)
ج 6 ، ص : 139
وقيل له إنك أنقصت الخليفة لتشبيهه بالسوقة وهو فوق ما وصفت وان أحدا منهم لا يدرك بعض مقامه ولا جزء رتبته ولا شيئا مما هو عليه من الرّفعة والعزة ارتجل لهم بيتين قال فيها :
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا شرودا في النّدى والباس
فاللّه قد ضرب الأقل لنوره مثلا من المشكاة والنّبراس
أي القنديل ، ولهذا فلا يقال كيف يشبه الأدنى بالأعلى ، لأن التشبيه نسبي بقدر ما يعلم المخاطب من الأشياء الحسية ليكون أوقع في النّفس ، لأن التشبيه بشيء لا يعرفه المخاطب لا يكون له قيمة عنده ولا يتعجب منه.
واعلم أن هؤلاء الّذين شبه الخليفة بهم لهم ذكر حسن شائع بين النّاس أكثر من بعض الملوك فالتشبيه بخصلة عند رجل قد لا تكون عند المشبه به مدح له وان كانت عند من هو دونه فالاعتراض على أبي تمام في غير محله.
واعلم ان اللّه تعالى جلت قدرته وتعالت عظمته إنما أضاف النّور إلى السّماوات والأرض الدّلالة على سعة اشراقه ونشو اضاءته فيها ، فيستضيء به أهلهما لأن الضّياء منتشر من النّور ، قال الامام السّهيلي في المعنى :
ويظهر في البلاد ضياء نور يقيم به البرية ان يموجا
وقال تعالى (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) الآية 17 من البقرة المارة وقال جل قوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) الآية 5 من سورة يونس ج 2 ، لأن نور القمر لا ينتشر مثل ضوء الشّمس ، لا سيما في طرفين ، وهذا يدل على أن نور القمر مستفاد من الشّمس في مقابلة المضيء منها ، لأن اختلاف تشكلات القمر بالبعد والقرب من الشّمس مع خسوفه وقت حيلولة الأرض بينه وبينها دليل بان نورها فائض عليه ، وهذا من معجزات القرآن لأن في عهد نزوله لا يوجد من يعرف ذلك ، ولهذا قالت الفلاسفة أيضا ما يكون للشمس من ذاته والنّور ما يفيض عليه من مقابلتها ، وهذه الدّلالة ظنية ، وهي أحد أقسام الخمس اليقينات التي أشرنا إليها في الآية 43 من سورة النّساء المارة.
هذا ومن قال ان هذا المثل ضربه اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم وقال المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح(6/139)
ج 6 ، ص : 140
ثبوّته فليس بشيء ، وهو منقول عن كعب الأحبار وأضرابه ، وانما لم يعتمد على نقل كعب هذا لأنه غالبا ينقل عن التوراة لكثرة تبحره فيها ، فيظن من ليس له خبرة بالأحاديث والسّير أنه ينقل عن حضرة الرّسول ، وهو رحمه اللّه لم يشاهد الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لأن إسلامه كان زمن عمر رضي اللّه عنه ، وكلّ ما قيل فيه من تشبيه كعب أو غيره فهو فوقه قال ابن رواحه :
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تنبيك عن خبره
وقال الأبوصيري :
لو ناسبت قدره آياته عظما أحيا اسمه حين يدعى دارس الرّمم
فما تطاول آمال المديح إلى ما فيه من كرم الأخلاق والشّيم
أيمدح من أثنى الإله بنفسه عليه فكيف المدح من بعد ينشأ
إلى آخر ما قال في بردته وهمزيته اللّتين لم يمدح بأحسن منهما كما قيل.
وما قيل بأنه مثل لعبده المؤمن وحواسه السّيارات السّبع أو أنه مثل للقرآن يخالفه ظاهره وان كان فيه ما ذكروه من المعاني ، وان سبب عدولهم عن ظاهر القرآن زيادة في تنزيه الحق جل ذكره بان يكون لنوره مثل ، وهو كذلك ، إلا أن اللّه تعالى يضرب الأمثال بما يفهمه خلقه ويشاهدونه كي يستدلوا به عليه ليس الا ، وضرب المثل لا يكون الا بالمحسوس ، وإلّا فلا فائدة به ، لأن اللّه تعالى خاطب عباده بما يعقلون ، وأمر رسوله أن يكلمهم بما يفهمون ، راجع الآية 26 من البقرة المارة وما ترشدك اليه في معنى ضرب المثل «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ» الموصوف هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما «مَنْ يَشاءُ» من عباده بالهام منه فيوفقه لاصابة الحق بأقواله وأفعاله وإشارته وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ» تقريبا لا فهامهم وتسهيلا لسبل ادراكهم ليستأنسوا بالمحسوسات إلى المعقولات ، وبالمشاهدات إلى الغائبات «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (35) من ضرب الأمثال وما تدركه مخلوقاته وما لا ، ويبين لكم ما يمكن أن تعلموه ، وتلك المشكاة الموصوفة «فِي» جدار «بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ لها أَنْ تُرْفَعَ» وتعظم وتفخم ، فلا يذكر فيها الغير وهي المساجد ، لأنها أشرف بقاع الأرض غير ما ضم أجساد الأنبياء منها عليهم(6/140)
ج 6 ، ص : 141
الصلاة والسّلام ، ومن احترامها أن يذكر اللّه فيها ولا يخاض فيها حتى في المباح لأن الكلام فيها ما عدا الذكر يحبط العمل «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» جل شأنه ويتلى فيها كتابه وتقام فيها الصّلوات والأذكار آناء اللّيل وأطراف النّهار «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها» أي يصلي ، وأطلق التسبيح على الصّلاة لأنه جزؤها ، ويطلق الجزء على الكل أحيانا راجع الآية 20 من البقرة المارة ، وهؤلاء الكرام يديمون هذا التسبيح «بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (36) أوائل النّهار وأواخره ، وكذلك الليل ، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية 62 من الفرقان في ج 1 ، وهؤلاء المديمون ذكره صباح مساء ابتغاء خيره «رِجالٌ» عظام وأي رجال كبار فخام ، ورفع على أنه فاعل يسبح ، ولذلك وصفهم بأنهم «لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ» لا عن «إِقامِ الصَّلاةِ» بوقتها وإيتاء الزكاة لمستحقها بزمنها «يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» (37) لذلك ، فإنهم لا يؤخرون شيئا عن وقته كما أمروا به عدا ما هم عليه من الأعمال الصّالحة المذكورة لعلمهم بشدة هول يوم القيامة وتوغل معرفتهم باللّه وخالص يقينهم بأنهم مهما عبدوه لم يؤدوه حقه ولا بعض حقه ، وأن أعمالهم كلها لا تؤهلهم دخول الجنّة إذا لم يشملهم برحمته ولعلمهم أنه تعالى لا ينقيد بشيء ولا يسأل عما يفعل ، وقد وفقوا للخوف والخشية منه بفضله «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا» على أحسن أعمالهم بأكثر مما يأملون «وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» الذي لا حد له ولا مقدار بأكثر مما يتوقعونه منه «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (38) لأن الحساب من شأن المخلوقين الّذين يخشون النّفاد ، لا من صفات الخالق صاحب الجود الكامل والإحسان
الواسع والفضل العميم الذي لا يدخل تحت حساب الحاسبين ولا نهاية له.
هذا وان قوله تعالى (لا تُلْهِيهِمْ) إلخ ليس نهيا عن التجارة ولا يفيد معنى المنع منها ولا كراهيتها ، بل تشير إلى النّهي عن التهافت بها والاشتغال فيها عن عبادته جلت عبادته.
وما قيل أنها نزلت في أهل الصّفة لا يصح ، لأنهم فقراء لا مال لهم حتى يؤمروا بالزكاة ، ولأنهم تركوا الأشغال الدّنيوية كافة وانكبوا على عبادة(6/141)
ج 6 ، ص : 142
ربهم ، وإنما نزلت في أهل الأسواق الّذين إذا سمعوا النّداء تركوا أشغالهم وبادروا إليها ليقتدي بهم من بعدهم ويا حسرتاه الآن تراهم لا هين باللعب والشّغل عن الصّلاة ولا يجيبون المنادي ، فإنا للّه وإنا إليه راجعون من أناس لا يخافون أن يدخلهم اللّه في قوله في المثل الثاني المخيف المزدوج «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ» التي عملوها في الدّنيا تكون يوم القيامة «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ» جمع قاع وهي ما انبسط واستوى من الأرض «يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً» فيقصده ليشرب منه لشدة عطشه حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» فيخيب ظنه ويظهر له وهمه وسبعتبين له خطأه «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ» أي السّراب الذي توهمه ماء «فَوَفَّاهُ حِسابَهُ» على
ما كان منه في الدّنيا فعاقبه عليه وأحبط عمله الصّالح الذي كان يرجو ثوابه ، إذ لم يبتغ فيه وجه اللّه «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» (39) يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة رجل واحد بأسرع مما يتصوره المنصور كطرف العين وقل «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» عميق جدا «يَغْشاهُ» يغطي ذلك البحر «مَوْجٌ» عظيم وهو ما ارتفع من الماء بسبب الهواء «مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ» آخر تراكم عليه «مِنْ فَوْقِهِ» أي الموج الثاني «سَحابٌ» كثيف جدا فصارت كأنها «ظُلُماتٌ» أربعة ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السّحاب وظلمة الليل «بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ» بحيث يكون الواقع فيها «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» من تراكم الظّلمات الأربع مع أنها أقرب شيء منه ، فكيف يمكن أن يرى غيرها «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً» يهتدي به في الدّنيا «فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40) في الآخرة ، وهذان المثلان ضربهما اللّه تعالى للكافر إذ شبّه عمله الحسن الذي كان يتوحّى ثوابه بالسراب والقبيح بالظلمات ، فإذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يأمله ، لأنه عمله للرياء والسّمعة ، فكان حاله كالظمآن المحتاج إلى الماء إذا رأى سرابا تعلق قلبه به ، فإذا ذهب إليه ولم يجد ماء اشتدت حسرته وعظم غمه وتناهى فجره ولم تكفه خشية تلك بل وجد عنده عذاب اللّه الذي لا يطاق وزاده غضبا مشاهدة قبائحه من ظلمة عقيدته وظلمة أقواله وظلمة أفعاله وظلمة نيته ، إذ جسّمت له في ذلك اليوم العظيم ليتضاعف(6/142)
ج 6 ، ص : 143
عذابه فيه ، أجارنا اللّه من ذلك
ثم طفق يقص علينا جل قصصه من بعض بدائع مصنوعاته ، فقال أولا يا أيها الإنسان «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» كل بلسان حاله أو قاله «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» أجنحتها في الهواء «كُلٌّ» من تلك المسبحات والمسبّحين يسبحونه بلغات مختلفات وأحوال متباينات لا يعلم بعضها البشر ، وهو جل شأنه «قَدْ عَلِمَ» من كل «صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» وتعلم هي أيضا أنها تصلي وتسبح له «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» (41) من تسبيح وغيره قبل أن يفعلوه «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (42) بعد الفناء فيحاسب ويكافى ويجازى كلا على قدر عمله.
مطلب تأليف المطو والبرد وكيفية حصول البرق والرّعد وكون مخلوقات اللّه كلها من مادة الماء :
وقال تعالى ثانيا «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» يسوقه حيث يريد «ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ» لأن الرياح أول ما تثير السّحب تكون قطعا متفرقة «ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً» بعضه فوق بعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» بصورة بديعة طلا ووائلا وخفيفا وسحّا «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ» المطر الذي نراه فوقنا «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» مما يتكاثف من الماء ويتجمّد في الهواء البارد ويبقى عائما بقدرة القادر الحكيم ، ثم يتهاطل بانتظام عجيب إلى الأرض صغارا وكبارا وبين ذلك ، واعلم أن لفظ من الأولى لابتداء الغاية ، لأن ابتداء نزوله من السّماء ، ومن الثانية للتبعيض لأن ما ينزل هو بعض تلك المياه المتجمدة الشّبيهة بالجبال من حيث الكثرة ، ومن الثالثة للتجنيس لأنها تفيد أن تلك الجبال من برد لا من جنس آخر «فَيُصِيبُ بِهِ» أي البرد (مَنْ يَشاءُ» من خلقه فينتفع به أناس ويهلك به آخرون إذا شاء من إنسان وحيوان وزرع وغيره «وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» فلا يقربه شيئا من ذلك ولو كان نازلا عليهم أو لا ينزله على أراضيهم البتة حسب مقدراته الأزلية «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ» الحاصل من تصادم السّحب المنكاثفة ببعضها لشدة ضوءه «يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» (43) فيعميها «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» باختلافهما وطولهما(6/143)
ج 6 ، ص : 144
وقصرهما «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإزجاء والإزجاء والإنزال والاصابة والصّرف والتقلب «لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (44) الحية المتفكرة يتعظون بها ويخافون منزلها ويتأثرون ويتدبرون بنعم اللّه ونقمه وبدائع مكوناته ، لأن هذه الآية تشير إلى مسألة دقيقة وهي الألفة ، لأن السّحاب لا يأتلف صدفة بل على قاعدة منتظمة فنية اطلع عليها علماء عصرنا من أهل الدّنيا فقالوا إن قطع السّحاب لا تأتلف إلّا بتغاير نوع الكهربائية التي تحملها كلّ قطعة منه ، فالتي تحمل كهربائية سلبية ينسنى لها الائتلاف مع قطعة كهربائية ايجابية ، لأن تماثل قواها يقضي بتدافعها وتشتتها كما يشاهد عند تفرقه وتلاشيه في أيّام الصّيف وغيره ، سواء أكان ثقالا أو جهاما.
وقالوا إن قسما من أو كسجين الهواء يتحد مع الهدروجين بواسطة الشّرارة الكهربائية الحاصلة من البرق فيتولد الماء ، وهذا الاتحاد يسميه الكيمائيون بالألفة الكيميائية وهي سر من أسرار الغيب ، وهؤلاء الّذين يولدون الكهرباء الّذين توصلوا بعقولهم وأفكارهم تدريجا إلى الإبداع في الاختراع بسبب هذه القوة لا يعلمون ما هي ، فسبحان القادر الجاعل من المحسوسات ما هو غائب ، ومن المشاهدات ما هو منكر ، ومن البسيطات قوى عظيمة.
قال تعالى ثالثا «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» من كل مادب على وجه الأرض البارزة والمغمورة بالماء ويخرج من هذا العموم الملائكة لأنهم خلقوا من النّور والجن لأنهم خلقوا من النّار ، وكلّ من هذين النّوعين لم يشاهده البشر على صورته الحقيقية إلّا من اختصه اللّه بذلك أما آدم عليه السّلام فإنه خلق من الطّين ، والطّين لا يخلو من ماء فيكون داخلا في هذه الآية ، وهذا الماء المشار إليه نسبيّ بنسبة المخلوق منه ، ففي الإنسان وبعض الحيوان نطفة ، وفي غيرها ما يقابلها ، ويطلق على الكل ماء ، قال تعالى (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية 31 من الأنبياء ج 2 فالمخلوق من نطفة لا تسمى ماء لا بد أن يكون متكونا من شيء آخر ، وذلك الشّيء لا بد أن يكون أصله مركبا من الماء ، فيكون الكل من الماء اجمالا ، لأن فيه حياة كلّ نام ، وان ما خلق من التراب المتحجر كالفأر ، وما خلق من الزبل كالخنافس ، وما خلق من الطّين كالديدان وما خلق من النّار كالسمندل ، وما خلق من الثلج كاليخ أيضا داخل في هذه(6/144)
ج 6 ، ص : 145
الآية ، لأن كلا منها فيه ماء ، قال تعالى «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ» كالحيات والدّيدان والأسماك وغيرها «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ» كالإنسان والطّير وغيرها مما لا نعرفه «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ» كالبهائم والوحوش وغيرها كثير.
ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والرّتيلات وأم أربع وأربعين وأم سبع وسبعين وغيرها لقلتها بالنسبة لذوات الأربع ، ولأن اعتماد هذه الحشرات في المشي على أربع فقط وبقية الأرحل تبع لها «يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ممن يعقل ومما لا يعقل وما يعلم وما لا يعلم مما رآه البشر ومما لم يره «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ» من أنواع الخلق وأجناسه وأصنافه «قَدِيرٌ 45» لا يعجزه
شيء يكوّنه بكلمة كن كما يريده.
هذا وقد غلب في في هذه الآية اللّفظ اللائق بمن يعقل على مالا يعقل لشرفه ، فجعله أصلا واتبع به ما لا يعقل لخسّنه ، وهو أولى من العكس ، وقدم من يمشي على بطنه لأنه أعجب ممن يمشي على رجلين وأربع.
قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ» لكل شيء ليعتبر الخلق ويتعظوا بما وقع على الأقوام المخالفين من قبلهم ويرشدوا إلى طريق الهدى ، ويعرضوا عن الضّلال «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (46) ويضل من يشاء عنه فيدعه يتخبط في غياهب الجهل طبق ما قدره وقضاه في الأزل ثم أراد أن يقص علينا شيئا من أحوال خلقه فبين جل بيانه أن النّاس بعد بيان هذه الآيات المبينات افترقت إلى ثلاث فرق ، واحدة صدقت ظاهرا وكذبت باطنا وهم المنافقون المشار إليهم في قوله تعالى «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» بألسنتهم دون اعتقاد صحيح «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ» عن الطّاعة ويعرض عن الإيمان «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الاعتراف بهما «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» (47) راجع الآية 8 فما بعدها من سورة البقرة المارة تقف على أحوال المنافقين لأن من يوافق قوله عقيدته ولسانه قلبه هو المؤمن المخلص حقا وصدقا «وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» بشرع اللّه «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» (48) عنه ومن هؤلاء المنافقين بشر المار ذكره وقصته في الآية 65 من سورة النّساء فراجعها.
أما من قال إن هذه(6/145)
ج 6 ، ص : 146
الآية نزلت فيه فقد ذهل ، وإنما هذه الآية حكاية حال عنه وعن أمثاله وهي عامة في كلّ من هذا شأنه لورودها مورد العام ، فيدخل فيها المذكور وغيره ممن هو على شاكلته «وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» (49) لحكمه لم تكرر هذه الكلمة بالقرآن أي راضين بقضائه «أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك أو ريبة أو شبهة في حكمه «أَمِ ارْتابُوا» بنبوّته فلم يصدقوه وجحدوا كتابه «أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ» يجوز عمدا «اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ» بالحكم فيظلمهم وهو ينهى عن الظّلم ورسوله ، «بَلْ» لا شيء من ذلك وإنما «أُولئِكَ» المتوقعون شيئا منه مخالفا «هُمُ الظَّالِمُونَ» (50) أنفسهم باعراضهم وتوهمهم
«إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا» قوله وقبلناه «وَأَطَعْنا» أمره وامتثلناه «وَأُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم فيما يحكم اللّه ورسوله لهم وعليهم «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (51) في الدنيا والآخرة «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» (52) الناجحون عند اللّه في الدّارين.
ثم ذكر حالة ثانية من أحوالهم فقال «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ»
يقال لمن بلغ في الحلف غايته وشدة تأكيده جهد أي بلغ أقصى ما يحلف به «لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ»
بالخروج من ديارهم وأموالهم «لَيَخْرُجُنَّ»
امتثالا لأمرك يا رسول اللّه «قُلْ»
لهم «لا تُقْسِمُوا»
كذبا فإن طاعتكم هذه المزيفة «طاعَةٌ»
قولية «مَعْرُوفَةٌ»
بلا فعل ، لأنها ناشئة عن غير اعتقاد واخلاص ، بل عن رباء وخداع ، وقد أشار اللّه إليهم في الآية 166 من آل عمران بأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، وفي الآية 11 من سورة الفتح الآتية (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وذلك لأن إيمانهم غير صحيح ، وفي الآية 47 من المائدة الآتية أيضا أخبر اللّه عنهم بقوله (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»
53 وإنه يخبر رسوله به ليفضحكم «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» طاعة صادقة مخلصة بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عن تقديم هذه الطّاعة الحقيقة «فَإِنَّما» اللّه الذي أرسله إليكم يقول وهو أصدق القائلين «عَلَيْهِ»(6/146)
ج 6 ، ص : 147
أي الرّسول المأمورين بطاعته «ما حُمِّلَ» من تبليغ الرّسالة التي كلف بها وأمر باعلانها ، وقد قام بذلك وخرج عن عهدة ما كلف به «وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ» أيها المؤمنون من الإجابة والامتثال حالة كونكم مخلصين بهما صادقين ، وإلّا فقد عرّضتم أنفسكم لسخط اللّه وعذابه «وَإِنْ تُطِيعُوهُ» فيما يأمركم وينهاكم «تَهْتَدُوا» إلى الحق وترشدوا إلى النّجاة «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (54) وليس عليه أن يقسركم على نفعكم بالسيف لأن ذلك خاص بالمشركين وفرقة ثالثة صدقت ظاهرا وباطنا وهم المؤمنون المخلصون المذكورون في قوله تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» فيجعل منهم ملوكا وأمراء وحكاما ويورثهم أراضي الكفار والحكم عليهم «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» عليها كداود وسليمان عليهما السّلام وكما استخلف بني إسرائيل وسلطهم على الجبارين بمصر والشّام وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم بعد أن كانوا أضعف النّاس وأهونهم إذ كانوا تقتل رجالهم وتستحيا نساؤهم للخدمة وغيرها كما أشار إليه في سور طه والشّعراء والنّمل والقصص والأعراف وغيرها في ج 1 ويونس وهود والمؤمن وغيرها في ج 2 وفي سورة البقرة أيضا «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» وهو دين الإسلام الذي لا يقبل اللّه غيره فيسود الأرض إن شاء اللّه وتثبت دعائمه فيها ، فيظهر حكمه على أهلها طوعا أو كرها «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ» الذي كانوا فيه الذي كانوا ولم يزالوا بشيء منه «أَمْناً» على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وقراهم بحيث يخافهم النّاس ولا يخافونهم ، وإنما فعل ويفعل اللّه تعالى إن شاء لهم ذلك لأنهم «يَعْبُدُونَنِي» أنا اللّه وحدي علنا في كلّ مكان «لا يُشْرِكُونَ بِي
شَيْئاً» من الأوثان وقد أنجز اللّه تعالى لهم هذا الوعد والحمد للّه شكرا على ما فعل وسيمضيه إن شاء اللّه إلى آخر الدّوران «وَمَنْ كَفَرَ» بعد انجاز ذلك الوعد الذي رأوه بأعينهم ولمسوه بأيديهم وذاقوا ثمرته «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» 55 الخارجون عن الطّاعة المتجاوزون الحدود التي حدها لهم كان صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه بمكة من بدء البعثة إلى يوم الهجرة صابرين على أذى الكفار واضطهادهم ، ولما حلّوا(6/147)
ج 6 ، ص : 148
المدينة كانوا في بداية أمرهم لا يفارقون سلاحهم وأمروا بقتال الكفرة وهم لا يزالون على خوفهم ، فقال رجل منهم أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السّلاح عن عاتقنا ، فأنزل اللّه هذه الآية.
مطلب في معجزات الرّسول ، الإخبار بما يأتي ، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء ، ووجوب ملازمة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم :
روى البخاري عن عدي بن حاتم قال بينا أنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع النّسل فقال يا عدي هل رأيت الحيرة ؟ قلت لم أرها ولقد أنبئت عنها ، قال فإن طالت بك الأيام فلترى التطعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلّا اللّه (قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعّار طيء الذي قد سعّروا البلاد) ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى ، قلت كسرى بن هرمز ؟ قال كسرى بن هرمز ؟ ولئن طالت بك حياة لترين الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضة فيطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه ، وليلتين اللّه أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ، فليقولنّ ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك ؟ فيقول بلى يا رب ، فيقول ألم أعطك ما لا وأفضل عليك ؟ فيقول بلى ، فينظر عن يمينه فلا يرى إلّا جهنم ، وينظر عن شماله فلا يرى إلّا جهنم.
قال عدي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول اتقوا النّار ولو يشق تمرة ، فمن لم يجد تمرة فبكلمة طيبة.
(قال عدي فرأيت الظّعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلّا اللّه ، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز) ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلّى اللّه عليه وسلم يخرج الرّجل ملء كفه من ذهب أو فضة إلخ.
وفي هذا الحديث والآية دليل على صحة خلافة الخلفاء لأن الفتوحات كانت في أيامهم ، ودلالة على أن هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها ، وإنها من أوائل ما نزل بالمدينة.
وقال بعض المفسرين إن هذه الآية مكية.
وهي من جملة المغيبات التي أخبر اللّه بها رسوله كما أشرنا إليه في سورة القمر ج 1 ، والسّبب المذكور أعلاه في نزولها ينطبق عليها تماما ، عدا كون القول الواقع بالمدينة إذ قد يوشك أنه بمكة واللّه أعلم.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا(6/148)
ج 6 ، ص : 149
الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»
(56) أيها النّاس وفرقة كذبت ظاهرا وباطنا وهم الكافرون الّذين قال اللّه فيهم «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ» وانا لا تقدر عليهم «فِي الْأَرْضِ» بلى قادرون عليهم ، وهم في قبضتنا لا يستطيعون أن يفتلوا منا ، وسنذلهم بالدنيا بالجلاء والأسر والقتل والسّبي وضرب الجزية «وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة «وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (57) هي لأهلها.
ولما انتهى من بيان الفرق الثلاث وحال كلّ واحدة ومصيرها طفق يأمرنا جل أمره بما إن تمسكنا به من الآداب الدّاخلية فيما يخص العائلة نفسها هذبت نفوسنا وحسنت أخلاقنا وكفينا سوء آداب خدمنا وتعلقاتنا ، بقوله عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» باللّه ورسوله وكتابه إذا خلوتم بأزواجكم في الأوقات الثلاثة الآتية فنبهوا خدمكم وأولادكم إذا أرادوا الدّخول عليكم «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والخدم ذكورا كانوا أو إناثا «وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ» من أولادكم وبنانكم الّذين لم يحتلموا بعد ممن هم دون سن التمييز في اليوم واللّيلة «ثَلاثَ مَرَّاتٍ» بأوقات معينة أولها «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ» لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النّوم ووقت العود إلى الأهل «وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ» وهذا الوقت الثاني زمن القيلولة في الصّيف إذ تضعون ثيابكم التي لبستموها للقاء النّاس أو لأعمالكم إذ قد تبدو عورتكم أثناءها وقد تخللون باهلكم «وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ» وهو الوقت الثالث لأنه زمن النّوم والتجرد له ومداعبة الأهل ، فهذه «ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» لأنكم تحتاجون فيها إلى ما ذكر ، وكلّ منها عوره للمذكورين لأنه فضلا عن رؤية ما لا تحبون رؤيته منهم قد يتكلمون فيه بعضهم لبعض ولغيرهم وما عدا هذه الأوقات الثلاثة «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ» أي الخدم والعبيد والأولاد «جُناحٌ بَعْدَهُنَّ» إذا دخلوا عليكم بغير استئذان لأنهم «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ» قد يدخلون ويخرجون بصورة دائمة لخدمتكم والتمتع برؤيتكم ولما تقتضيه خدمة البيت ، ولهذا يطوف «بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ» لحاجة المخالطة «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشّافعي المعلم للآداب العالية والأخلاق الفاضلة(6/149)
ج 6 ، ص : 150
والعادات السّامية «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» التي أنتم بحاجة شديدة لمعرفتها والتحلي بها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (58) فيما يأمر وينهي بما ينفعكم ويضركم ويعلمكم محاسن الأخلاق ومعالي الآداب مع النّاس ومع أنفسكم.
قالوا دخل على أسماء بنت مرشد غلامها في وقت
كرهت فيه دخوله ، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم وجه مدلجا غلاما أنصاريا إلى عمر بن الخطاب وقت الظّهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عند ذلك ، وأخبر حضرة الرّسول فنزلت هذه الآية.
فما روي عن ابن عباس أنه قال لم أر أحدا يعمل في هذه الآية في الخبر الذي رواه عن عكرمة وأخرجه أبو داود ، وإلى قوله أن السّتور أغنت عن الاستئذان لا يفهم منه على فرض صحته ان هذه الآية منسوخة ، وكذلك ما حكي عن سعيد بن المسيب بأنها منسوخة لا وجه له ، وما هو وجه النّسخ يا ترى وبأي آية نسخت ولما ذا نسخت ؟
لا أدري روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت سألت الشّعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي ؟ قال لا واللّه ، قلت إن النّاس لا يعملون بها قال اللّه المستعان.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية ان أناسا يقولون نسخت واللّه ما نسخت ولكنها ممّا تهاون به النّاس.
ومن تهاونهم الآن عدم مبالاتهم بدخول الحمال والسّائل والعامل والقروي فضلا عن الخادم ولا حول ولا قوة إلّا باللّه.
قال تعالى مؤيدا ما تقدم في الآية السّابقة «وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا» في جميع الأوقات لأنهم خرجوا من سن الطّفولة والتمييز وصار حكمهم حكم الكبار «كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الأحرار الكبار ، لأنهم صاروا مثلهم «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ» ليهذّبكم وينقيكم من كلّ ما ينتقد به «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بخلقه وبما يصلحهم ويحسن أمورهم «حَكِيمٌ» (59) فيما شرعه لهم وبعد أن ذكر اللّه تعالى ما يتعلق بالآداب ذكر أحكاما تتعلق بالأحكام المارة ، فقال جل قوله «وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ» اللاتي قعدن عن الحيض والحبل بكرهن وعجزهن وقطع أملهن من الزواج ، وهن «اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً» بعد ما وصلن إليه من الحال «فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ»(6/150)
ج 6 ، ص : 151
الظاهرة كالملاءة والجلباب الذي فوق الخمار أمام الرّجال ، إذ لا مطمع فيهنّ على شرط أن يكنّ «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ» ما حيث يجب عليهن ستر النّحر والسّاق والمقعد وما فيها من الحلي ، راجع قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) في الآية 35 المارة «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ» عن وضع تلك الثياب فيغطين أنواع الزينة ومواضعها كافة بأن يسترنها كلها فهو «خَيْرٌ لَهُنَّ» لئلا يرمين بسوء أو يغتبن بسبب ذلك لأن الشّيخ والعجوز إذا تزينا بما هو من شأن الشّاب والشّابة تلوكهما ألسنة النّاس كما قيل :
عجوز ترجّى أن تكون صبية وقد لحب الجنبان واحدودب الظّهر
تدس إلى العطار ميرة أهلها وهل يصلح العطار ما أفسد الدّهر
وما غرني فيها إلّا خضاب كفوفها وكحل بعينيها وأثوابها العطر
نبيت بها قبل المحاق بليلة فكان محافا كله ذلك الشّهر
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما يجري بينهن وبين الرّجال من القول «عَلِيمٌ» 60 بما يقصدونه ويتوونه ، وفي هذا نوع ترهيب ، لأن من القواعد من فيها بقية جمال ولا تخلو من شهوة الرّجال ، كما أنه يوجد من الرّجال ، لذلك فالأجدر بها أن تستتر كالعادة ، وأن لا تخالط الرّجال ولا تجالسهم ، ويوجد فى هذه الأحوال بقية عند البدو وأعراب الأرياف وبعض الأمكنة في المدن ، إذ أن مثل هؤلاء القواعد يجلسن مع الرّجال ويتعاطين القهوة ويتسامرن معهم ويتولين الضّيافة بأنفسهن ، وإن أزواجهن وأوليائهن لا يرون بأسا بذلك ، وهذه من بقايا عوائد الجاهلية الأولى.
هذا ولما كان من النّاس من يتحرج الأكل عند بعضهم بعد نزول آية (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (189) من البقرة المارة إذ توسعوا في معناها إلى هذا الحد ، وكان المجاهدون إذا خرجوا للغزو يضعون مفاتيح بيوتهم عند العجزى والعرج والعمى والمرضى وعند أقاربهم ويأمرونهم بالأكل من بيوتهم وهم يمتنعون أيضا ، وقيل كان العميان والعرج والمرضى يتزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأنهم يرونهم يتقذّرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، وقد يقول الأعمى ربما أكل الأعرج أكثر مني ، والمريض ربما جلس مكان اثنين ، والأعرج والأقطع كذلك من أنهم يضيّقون بالجلوس على(6/151)
ج 6 ، ص : 152
غيرهم ، وكان أمثال هؤلاء يأتون إلى الرّجل فلا يجد ما يكفيهم فيأخذهم لبيت أخيه أو بيت من سمى اللّه في الآية الآتية فيتأثمون من ذلك ، فأنزل اللّه جل شأنه ثانيا «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أيها الأصحاء حرج «أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» بيوت أزواجكم وأولادكم ، لأن بيوت الأزواج والأولاد بيوت الزوج والأب ، إذ الزوجان نفس واحدة ، فبيت الزوج بيت المرأة وبالعكس وبيت الولد بيت الوالد وبالعكس ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلم أنت ومالك لأبيك.
فيكون بيت الولد بيت الوالد ، ولهذا لم يذكرهما اللّه «أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ» من وكلائكم والقيمين على مصارفكم وأموالكم وماشيتكم وضياعكم وعبيدكم وخدمكم وإماءكم ، لأن العبد وما ملكت يداه لسيده «أَوْ صَدِيقِكُمْ» الذي يصدقكم وتصدقونه في المودة ، لأن الأكل عند الصّديق والهدية له ومنه تزيد في المحبة ، وتقوي عرى المودة ، وتعظم الثقة ، وقد كان السّلف الصالح يدخلون دور أصدقائهم فيأخذون منها ما يشاءون ، وإذا جاءهم ضيف ولم يجدوا ما يقدمونه ، دخلوا دور أصدقائهم وأخذوا منها ما يقرون به ضيفهم دون استئذان بالأخذ لا بالدخول لأن ذلك واجب عليهم ، وهم أولى بأن يتحاشوا عنه ويتقيدوا بشروطه المارة في الآية 39 ، وإذا كانوا غائبين وأخبرهم عبيدهم وأهلهم بما فعل صديقهم من هذا يسرّون به ، وقد يعتقون عبيدهم لعدم معارضتهم فيما أخذه أصدقاؤهم من بيوتهم.
أما الآن فقد غلب الشّح على النّاس ، فلا يفعل شيء من هذا إلّا بإذن ، وقد لا يحصل إلّا باستدانة أو قرض وقد لا يحصل أبدا.
وقال ثالثا «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً» مع المرضى والعرج والعميان وغيرهم «أَوْ أَشْتاتاً» متفرقين إذا لم تسمح لكم أنفسكم بمؤاكلتهم ، كان بنو ليث لا يأكلون وحدهم حتى يجدوا أضيافا ، وربما قعد أحدهم ينتظر أضيافا والأكل أمامه حتى الصّباح ومن الصّباح حتى الرّواح ينتظرون أيضا حضور من يأكل معهم(6/152)
ج 6 ، ص : 153
وربما كانت معهم الإبل الجفل لا يشربون ألبانها حتى يأتي من يشاربهم ، فإذا أمسى أحدهم ولم يجد أحدا اضطر فأكل وحده ، وكان قوم من الأنصار كذلك ، وكان الغنى لا يأكل عند الفقير تعففا [و هذا من سجايا العرب الّذين بعث إليهم محمد صلّى اللّه عليه وسلم ولا يزال النّاس يقولون إجلالا وإنما هم شم الأنوف وعندهم عوائد كريمة لا توجد عند غيرهم ، ليت الأمة الآن منصفة ببعضها ، أما ما كان منهم من نهب وسلب وقتل وحرمان النّساء والأولاد الصّغار من الإرث ووأد البنات وغير ذلك فمن عدم وجود المرشد وعدم وجود كتاب يرجعون إليه ] فنزلت هذه الفقرة من تلك الآية.
ثم ذكر جل ذكره ما يتعلق بالآداب أيضا فقال «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي ليسلم بعضكم على بعض إذا دخلتم تلك البيوت لتأكلوا فيها أو بسلم صاحب البيت على أهله الّذين هم فيه لأنهم أحق بالسلام من غيرهم وإذا لم يكن فيها أحد فليقل السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين «تَحِيَّةً» منصوب بيسلموا لأنها بمعنى السّلام مصدر من غير جنس الفعل على حد قعدت جلوسا وقمت وقوفا «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» بيانا كافيا شافيا واضحا «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (61) فوائدها وتعلمون ما ترمي إليه من المعاني النّافعة الموجبة للألفة وغيرها فتزداد بينكم المحبة وقوة الإيمان باللّه ورسوله ، فتنمو المودة بينكم ، ويأمن بعضكم بعضا على مساله وعرضه ونفسه ويربو اليقين بما أنتم عليه من الدّين القويم.
قال
تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وتخلقوا بما يتلقونه عنهما وتأدبوا بما يأمرونهما وتمسكوا بأخلاقهما «وَإِذا كانُوا مَعَهُ» أي الرّسول حال المذاكرة «عَلى أَمْرٍ جامِعٍ» يجمع له أهل الحل والعقد للمشاورة في أمور المسلمين والمداولة بمصالحهم وفيما يتعلق بأمر الحرب والغزو والصّلح أو مطلق تدبير فيما يخص دينهم ودنياهم «لَمْ يَذْهَبُوا» عنه ويتركوه وحده أبدا ، وإذا طرأت لهم معذرة ماسة لا يذهبون «حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» لأن ذلك مما يهم المسلمين أجمع وما يتعلق بالعامة يرجح على الخاصة ، فضلا عن أن المؤمن لا تطيب نفسه بمفارقة صاحبه لا سيما عند الحاجة ، فلربما عنده رأي صائب يأخذ به المجتمع كله ، فيعود نفعه للمسلمين(6/153)
ج 6 ، ص : 154
كافة.
واعلم يا محمد «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ» للذهاب لشأن ألمّ بهم ولم يستبدوا فيتركوك ويذهبوا من تلقاء أنفسهم «أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» أما الّذين ينصرفون لحالهم دون أخذ رأيك ويتركونك في مداولات هكذا تستلزم أخذ رأي الجماعة فلم يكن إيمانهم صحيحا ولا مقبولا «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ» يا سيد الرّسل «لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» ممن يستغنى عن حضوره ورأيه.
أما الّذين ترى لزوما لأخذ رأيه فلك ألا تأذن له ، لأن ما أنت فيه أهم مما يذهب إليه «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ» إن رأيت لهم عذرا مقبولا في الاستئذان على جرأتهم لطلب الأذن في وقت عليهم ألا يطلبوه إذ ينبغي لهم بل يجب عليهم ألا يتخلوا عنك في مثل هذه الحالات ، لأن الأهم يقدم المهم «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لخطأهم ذلك الواقع قبل نزول هذه الآية «رَحِيمٌ 62» بهم ولذلك يرشدهم لطرق التوبة عما سلف منهم ، ولا يعجل عقوبتهم.
وهذه الآية تنبه على أن الأجدر بهم البقاء مع حضرة الرّسول وعدم الاستئذان ولو كان لهم عذر ، لأن فوات وقت الاجتماع به صلّى اللّه عليه وسلم لا يتلافى وأشغالهم يمكن تلافيها ، بل الاستغناء عنها ، وإن ترك ملازمة الرّسول وقت اللّزوم مخالف للآداب الواجب اتباعها معه اللازم مراعاتها أمامه.
قال تعالى فيما يؤدب به عباده تجاه رسوله صلّى اللّه عليه وسلم خامسا «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» لأنه فوقكم في كلّ شيء ، فلا يقابل بجميعكم ، وهو عند اللّه ليس كأحدكم ، فإذا دعاكم إلى شيء ، أو أمركم به فواجب عليكم امتثاله ولا يجوز لكم الإعراض عنه أبدا ، ولا يليق بمن أجاب الدّعوة أن ينصرف دون استئذان ، فكل ذلك حرام قطعا ، فاحذروه أيها النّاس ، ولا تتساءلوا في شيء من ذلك ، لأنه يؤدي إلى اغبراره منكم ، فيدعو عليكم وهو مجاب الدّعوة ، تدل هذه الآية الكريمة على وجوب توقيره عليه الصّلاة والسّلام وتعظيمة وإجلاله ، لأن اللّه تعالى وقره وعظمه وأجله ، ومن تفخيمه عند ربه الذي أوجبه على خلقه ألّا يسموه باسمه ، فلا يقولوا يا محمد يا أحمد بل يا رسول اللّه ، يا حبيب اللّه ، في حالتي القرب والبعد ، لأن اللّه تعالى خاطبه بيا أيها النّبيّ يا أيها الرّسول ، لذلك لا يليق بالأمة أن يسموه إلّا بما(6/154)
ج 6 ، ص : 155
يريد اللّه ، ومن احترامه ألّا يرفعوا صوتهم بندائه ، وإذا علم المنادي أن حضرة الرسول سمعه ولم يرد عليه فلينظر ولا يكرر النّداء فلعله شغل عنه بفكر أو بمخاطبة غيره أو كان في حالة تستدعي عدم الرّد كنزول الوحي أو حالة الوعظ وشبهها وسيأتي لهذا البحث صلة في سورة الحجرات الآتية إن شاء اللّه.
وتشير أيضا إلى احترام المعلمين والمدرسين والأساتذة وسائر أهل الفضل ، لأنهم يعلمون النّاس الخير وهذه الآيات من 58 إلى هنا والآية 29 إلى 35 المارات في آداب القرآن التي يريد اللّه تعالى أن يتأدب عباده بها صونا لأخلاقهم من المفاسد المذمومة.
ثم ذم اللّه المنافقين المخالفين لهذه الآداب بقوله «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ» واحدا بعد واحد فيتسللون «مِنْكُمْ لِواذاً» فيلوذ الواحد بالآخر ويستتر به لئلا يحس بانسحابه من المجتمع ، وذلك أنهم قاتلهم اللّه كان يثقل عليهم المقام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ويملّون من استماع خطبه ومواعظه القيمة ومحاضراته النّافعة ، لأن وغر النّفاق أوقر قلوبهم ، ودين الحسد أصدا صدورهم ، وضيّقها عن سماع الحق وقبوله وعن نصحه وإرشاده ، فصارت قلوبهم ضيّقه حرجة مظلمة لا تستطيع الاكتساب من نوره الفائض على القلوب الطّاهرة ، وأين للخفاش من مصاحبة النّور راجع الآية 12 من سورة المؤمن في ج 2 وما ترشدك إليه مما يتعلق في هذا البحث.
ثم هددهم اللّه تعالى وأوعدهم بقوله
«فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» فيعرضون عنه ويصدون غيرهم من «أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ» بلاء ومحنة في الدّنيا لا يتخلّصون منه «أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 63» في الآخرة يلازمهم فيها لا يطيقونه.
ثم نبّه عباده عما لا بد لهم من التفكر فيه فقال «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وأنتم أيها النّاس من جملة ما فيها فاحذروا مخالفة خالقهما الذي لا يعجزه شيء.
واعلموا أن مخالفته موجبة لإيقاع الفتنة بينكم بالدنيا والعذاب بالآخرة وأنه جل علمه «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» من الإيمان الخالص والمشوب بالنفاق ويعلم منكم الطّيب والخبيث علما حقيقيا وهو من بعض معلوماته.
قد المفيدة للتقليل أحيانا كما هنا «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ» يعلمه اللّه بل يعلم اللحظة التي تفارقون بها هذه الدّنيا وتمتثلون بها أمام عظمته في الموقف العظيم ، (6/155)
ج 6 ، ص : 156
وهناك «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» من طاعة وعصيان وكفر وإيمان ونفاق واخلاص «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (64) لا تخفى عليه خافية ، يوجد أربع سور مختومة بهذه اللّفظة هذه والنّساء والأنفال والطّلاق.
روي أن ابن عباس قرأ سورة النّور في الموسم على المنبر وفسرها على وجه لو سمعت به الرّوم لأسلمت.
وأخرج أبو عبد اللّه بن السّبع في صحيحه عن عائشة رضي اللّه قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تنزلوا النّساء الغرف.
أي لأنهن يعرضن أنفسهن لنظر الأجانب.
فيا أيها النّاس تقيدوا بتعاليم اللّه القائل في كتابه (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) راجع الآية 26/ 27 و60 من سورة النّساء واختر ما تشاء لتفوز من اللّه بالرضاء.
هذا واللّه أعلم.
وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الحج
عدد 17 - 103 - 52
نزلت بمكة بعد سورة النّور.
وهي ثمان وسبعون آية والف ومئتان وإحدى وسبعون كلمة وخمسة آلاف وخمس وسبعون حرفا.
ومنها الآيات من 52 إلى 55 نزلن بين مكة والمدينة ومثلها في عدد الآي سورة الرّحمن.
وتقدمت السّور المبدوءة بما بدئت فيه سورة النّساء ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ» واحذروا مخالفته «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ» التي أمرها بيده «شَيْءٌ عَظِيمٌ» (1) جدا ولا أعظم بمن وصفه اللّه بالعظمة.
ثم ذكر من أهوالها ما أوجب وصفها بالعظمة بقوله جل قوله «يَوْمَ تَرَوْنَها»
أي الزلزلة وهي حركة الأرض بشدة هائلة واضطرابها بقوة فظيعة ، عند اذن اللّه تعالى بخراب الأرض وانقراض هذا الكون ، وحينذاك «تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ»
فتنساه كأنه ما كان لما يلحقها من الدّهشة المزعجة «وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها»
من كبير الفزع وجليل الخوف على فرض وقوع هذه الزلزلة في الدّنيا فإن المرضعة(6/156)
ج 6 ، ص : 157
المعلّق قلبها عند رضيعها تغفل عنه وتتركه بل تنساه ولا يخطر ببالها وإن الحاصل لعظيم ما ترى تسقط ما في بطنها وهي لا تشعر به قبل تمام مدته ، وهو لا يسقط بذلك إلّا بأسباب باهظة وعمليات متعبة منهكة.
«وَتَرَى النَّاسَ»
أيها النّاظر إليهم إذ ذاك إذا تأتي منك النّظر «سُكارى »
بلا شراب حياري لهول ما يشاهدون من الخوف القاطع للقلوب «وَما هُمْ بِسُكارى »
حقيقة ، ولكنهم على هيئة وصورة الثمل الغافل الحائر مما يشاهد ما يحل به وبغيره في ذلك الموقف العظيم ، إذ تتفتت فيه الأكباد ، وترتعد فيه الفرائض ، وتتلجلج فيه القلوب ، فتبلغ الحناجر لأن ما هم قادمون عليه ليس بملك ظالم ولا سلطان غاشم يؤمل الخلاص منهما «وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ»
(2) لا مخلص منه ، لذلك قد أرهقهم خوف لحوقة بهم وأذهب عقولهم رؤياه ، فأفقدهم رشدهم ، وأضاع تمييزهم ، وأزال معرفتهم حالهم ، وأشغل كلا بنفسه.
مطلب في أهوال القيامية وكيفية الخلق وترتيبه وما قاله صاحب الجمل :
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول اللّه تعالى يوم القيامة يا آدم ، فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك ، فينادى بصوت إن اللّه يأمرك أن تخرج بعث النّار ، قال يا رب وما بعث النّار ؟ قال في كلّ الف تسعمائة وتسع وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، وترى النّاس سكارى الآية ، فشق ذلك على النّاس حتى تغيرت وجوههم ، قالوا يا رسول اللّه أينا ذلك الرّجل ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسع وتسعون ، ومنكم واحد ، ثم أنتم في النّاس كالشعرة السّوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار (الرقمة معروفة وهي كالفلس في ذراع الحمار والبغل أيضا) (وإني لأرجو أن تكونوا رباع أهل الجنّة ، فكبرنا ، ثم قال ثلاث أهل الجنّة ، فكبرنا ، ثم قال شطر أهل الجنّة ، فكبرنا.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» لشدة جهله «وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ» (3) متشيطن مضلّ عات في جداله.
واعلم أنه لا يوقف على مريد لأن ما بعده صفة له ، ولذلك(6/157)
ج 6 ، ص : 158
ينبغي للقارىء وصلها بما بعدها ولا يغتر بعلامة الوقف في المصاحف ويظن الوقف عليها لازم ، لأن الوقف يكون على تمام المعنى ، لأن كثيرا من الآيات يجب وصلها بما بعدها ، أما علامات الوقف التي وضعها القراء على كلمات القرآن مثل م وط ج وغيرها فهي المعتبر مراعاتها ، وعلى القارئ أن يتقيد بها فيعرف الواجب واللازم والجائز والممتنع ، واتقن هذه الإشارات الموضوعة على الكلمات في المصاحف المصرية التي طبعها فؤاد الأوّل ملك مصر رحمه اللّه «كُتِبَ عَلَيْهِ» أي ذلك الشيطان «أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ» أي تبعه من النّاس فأطاعه انقيادا لوساوسه «فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ» عن الحق ويرمه في الباطل ويوقعه في دسائسه «وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ» (4) إذ ما بعد الحق إلّا الضّلال ، ولا مرجع للضال إلّا جهنم المتسعرة بأهلها ، كما لا مصير إلى المحق إلّا الجنّة النّاعمة بأهلها «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ» بعد الموت ، ولكم شكّ في الحياة الآخرة ، وإنكم تستعظمون وجودها ، «فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ» راجع الآيتين 64 و67 من سورة المؤمن في ج 2 تجد تفصيل مراتب الخلق وعددها هناك.
واعلم أن العطف بثم في هذه الآية يفيد أن بين كلّ حالة وأخرى من البعد ما لا يخفى أما عطف ثم الأخير فهو لتباعد ما بين الخلقين كما يشير إليه قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) راجع الآية 14 من سورة المؤمنين والآية 54 من سورة الرّوم في ج 2 تقف على ما تريده من هذا البحث.
«مُخَلَّقَةٍ» صفة للمضغة أي تامة لا نقصان فيها ولا عيب «وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» أي قد تكون ناقصة معيبة في بعض الحواس والجوارح والتخطيط ، راجع الآية 9 من سورة الرّعد المارة.
قال صاحب الجمل على الجلالين هذا تقسيم على سبيل التسمح فإن كلّ مضغة تكون أولا غير مخلقة ثم تصير مخلقة ولو جاء النظم هكذا ثم من نطفة غير مخلقة ثم من نطفة مخلقة لكان أوضح.
ثم قال وكان مقتضى الترتيب السّابق المبني على التدريج من المبادئ البعيدة على القريبة أي تقديم غير المخلقة على المخلقة.
وهذه جرأة عظيمة منه وهفوة كبيرة كما وقع مثل هذا وأعظم من الخطيب الشّربيني في تفسير الآية 65 من سورة يونس في ج 2 عفا اللّه(6/158)
ج 6 ، ص : 159
عنهما وبصرنا بعيوبنا «لِنُبَيِّنَ لَكُمْ» أيها النّاس كمال قدرتنا وبالغ حكمتنا ولتعلموا أن من يقدر على هذا الخلق ابتداء يقدر على الاعادة لا محالة «وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ» من هذه النّطفة المخلقة فنبقيها فيه ونحفظها ونربتيها «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عندنا فنسقط منها ما نشاء حسبما اقتضته حكمتنا قبل تمام خلقه ونبقي منها ما نريد بمقتضى إرادتنا «ثُمَّ» تقضي قدرتنا الأزلية با كماله وبعد تمام الأجل المقدر له من علمنا «نُخْرِجُكُمْ» من بطون أمهاتكم بواسطة وبغير واسطة «طِفْلًا» ولا تزالون برعايتنا حتى تشبّوا «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» من كمال العقل والقوة والتميز وأنتم بأعيننا «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى» قبل ذلك «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» وهو حالة الهرم والخوف ، ومنكم من يعمر كثيرا وهو مالك لحواسه كافة ، عالم ما علمه ، كالأنبياء وبعض العلماء والعارفين ، لأنهم لا يتناولهم النقص
،
أما غيرهم فقد يرجعون لحالة الطّفولة «لِكَيْلا يَعْلَمَ» شيئا «مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ» كان يعلمه قبل الكبر «شَيْئاً» أبدا لأنه ينساه ولا يخطر بباله حيث يفقد العقل والتمييز ، راجع نظير هذه الآية الآية 71 من سورة النحل في ج 2 ونظيرتها الآية 68 من سورة يس في ج 1 تجد ما به الكفاية في هذا الشّأن.
وهذا دليل حسي على البعث بعد الموت ، وفي الدّلائل الحسية أيضا «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً» ميتة يابسة لا شيء فيها ونظيرتها آية فصلت 40 خاشعة راجعها في ج 2 أي ذليلة وهما من حيث المعنى سواء «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ» بالنبات والأزهار «وَرَبَتْ» انتفخت وارتفعت لتغلغل الري فيها وخروج النّبات منها «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (5) يسر الناظر حسنه واستواؤه وجماله راجع الآية 67 من سورة المؤمن في ج 2 تجد ما يتعلق بهذا البحث بصورة واضحة «ذلِكَ» الذي ذكر من كيفية بدء الخلق وإحياء الأرض والنّبات لتعلموا أيها النّاس «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» لا ريب فيه في ذاته وأفعاله وأوامره لا من غيره «وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (6) لا يعجزه شيء وإن إعادة من خلقه هي أهون عليه من خلقه ابتداعا «وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي(6/159)
ج 6 ، ص : 160
الْقُبُورِ»
(7) أحياء كما كانوا في الدّنيا قص اللّه في هذه الآية على أهل المدينة حالة النضر بن الحارث الذي كان يكثر الجدل بانكار البعث ويقول إن الملائكة بنات اللّه وقد أنزل اللّه في مكة بحقه الآيات الكثيرة ليعلموا حال المنكرين أمثاله كأبي ابن خلف وأضرابه العريقين في الشّرك والمخاصمة ، كما أنه جل شأنه قصّ حال أبي جهل واضرابه كعيقة بن معيط الّذين أنزل اللّه تعالى فيهم الآيات الكثيرة الحاكية بغضهم وعنادهم وكفرهم وعداوتهم لحضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم في مكة أيضا في هذه السّورة المدنية على شأنهم ، فقال جل قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» (8) بل جهلا وضلالا وعتوا وعناد «ثانِيَ عِطْفِهِ» لاوي عنقه وجنبه عن حضرة الرّسول متبختر متكبر آنفا معرضا عن اللّه «لِيُضِلَّ» بعمله هذا النّاس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وعن الإيمان وكتبه ورسله فمثل هذا الخبيث الصّادر عن ذلك «لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» من أنواع الهوان والذل والمهانة والرّذالة ، وقد قتل في بدر صبرا تحقيرا له «وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ» (9) الذي لا تطيقه القوى البشرية ويقال له «ذلِكَ» الذي لا قيته من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة أصابك «بِما قَدَّمَتْ يَداكَ» من تكذيب محمد والتكبر عن دينه والاستهزاء به واختيارك الشّرك على التوحيد وإنكارك هذا اليوم والحياة فيه.
وما وقع عليك من هذا ليس بظلم لك ، بل جزاء عملك باختيارك واقترافك القبائح «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (10) بل يجازي المسيء بحسب إساءته ويكافيء المحسن بأحسن من إحسانه.
هذا ، وما قاله بعض المفسرين من أن هذه الآيات نزلت في النّضر وأبي جهل أراد أن شبهها نزل فيها في مكة ، وإن هذه الآيات نزلت في المدينة تبعا لسورتها حكاية عن تلك الآيات المكيات وقد تلاها حضرة الرّسول على أهل المدينة بيانا لحال أولئك الكفرة لا إنها نزلت فيها ثانيا ، لأنهم قتلوا قبل نزولها ، ولأن شيئا من القرآن لم ينزل مرتين كما ذكرناه غير مرة وأوضحناه في سورة الفاتحة ج 1 ، ولهذا قال بعضهم إنها مكيات.
قال تعالى
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ» وطرف من الدّين لا في وسطه وقلبه ، لأن الإيمان إذا لم يتغلغل في القلب ولم يذق صاحبه(6/160)
ج 6 ، ص : 161
حلاوته ولم تخالط بشاشته الفؤاد كان دخوله فيه من غير عقيدة راسخة ولا رغبة كاملة ومحبة صادقة ، وكان شاكا مترددا دخله على طريق التجربة «فَإِنْ أَصابَهُ» حال تلبسه فيه «خَيْرٌ» من سعة وصحة وولد وجاه «اطْمَأَنَّ بِهِ» بسبب الخير الذي رآه بدخوله فيه «وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ» من فقر أو مرض أو عقر أو حقارة «انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» القهقرى وارتد كافرا تشاؤما منه ، ولهذا جعل اللّه مثله مثل المتحيّر المضطرب ، ومن كان هذا شأنه في الدّين «خَسِرَ الدُّنْيا» ففاته عزّها وكرامتها وأهين بالجلاء والأسر والسّبي والقتل أو بالجزية والمذلة «وَالْآخِرَةَ» خسرها أيضا لأنه لم يعدّ لها شيئا من الأعمال الصّالحة والأقوال والنّيات الحسنة «ذلِكَ» خسران الدّارين «هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» (11) الذي لا يخفى على أحد لشدة ظهوره فقيه النّدامة الفارغة والحسرة المحرقة والأسف العقيم.
وقرئ خسر بالفتح على الحال ، وقرئ خاصر بالضم على الفاعلية ، ومثل هذه القراءة التي لا زيادة فيها ولا نقص جائزة إذ لا شيء فيها سوى مد الخاء ، وأن المد والقصر والإدغام والفك جائز ، والمد قد يستعاض عنه بالفتحة القائمة كما في رسم بعض المصاحف ، تدبر.
وهذا المرتد الخامس.
مطلب ظهور غبن الكفرة وأهل الأديان السّتة والسّجود للّه تعالى وضرب المثل به :
«يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ» إن عصاه «وَما لا يَنْفَعُهُ» إن أطاعه «ذلِكَ» دعاؤه من دون اللّه «هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» (12) ، عن الصواب لأن هذا الخاسر الضّال «يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ» في طاعته وعبادته «أَقْرَبُ» له «مِنْ نَفْعِهِ» الذي كان يتوخاه منه في الدّنيا ويتوقع نفعه في الآخرة من الشفاعة وغيرها ، أي أنه يدعو لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا ، ويقال له في ذلك اليوم أن المولى الذي تدعوه «لَبِئْسَ الْمَوْلى » أي الناصر الذي ترجو معونته فيها «وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» (13) المصاحب والخليل المرافق هذا وقد ظن بعضهم أن هنا تناقضا ، وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) إذ نفى النّفع والضّر عن الأصنام ، وقد(6/161)
ج 6 ، ص : 162
أثبتها لها في هذه الآية إذ قال (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) وهذا ظن باطل ناشيء عن عدم قديره في كنه كلام اللّه المبرأ من كلّ ظن وشك وزعم ووهم وريب وشبهة ، فضلا عما يزعمه من التناقض ، لأن من أدرك المعنى وعرف المغزى زال عنه ما توهمه من إثبات النّفع والضّر في هذه الآية ونفيهما في الأولى لأن اللّه تعالى صفة الكافر على عبادته في الدّنيا جمادا ، لا يملك ضرا ولا نفعا ، وهو يعتقد فيه جهلا وضلالا أنه ينتفع فيه حين يستشفع به ، ثم قال يقول هذا الكافر يوم القيامة بدعاء وصراخ حين يرى استقراره بسبب الأصنام وإدخاله النّار بعبادتها ولا يرى أثرا للشفاعة التي ادعاها له في الدّنيا لمن ضره إلخ تدبر.
واعلم أن هذه اللام الدّاخلة على من ليست بزائدة كما ذكره بعض المفسرين إذ لا زائد في كتاب اللّه كما أشرنا إليه غير مرة ، وما قيل إن ابن مسعود قرأ بدون اللام لا يستدل به على زيادتها ، وأحسن الأقوال فيها أنها موطئة للقسم أي يدعو واللّه لمن ضره أقرب من نفعه إلخ.
هذا ويتجه انطباق الآيتين على رؤساء الكفرة الّذين كانوا يفزعون إليهم ، لأنهم قد يضرون وينفعون ، وذلك لأن اللّه تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضر ولا تنفع ، والآية الثانية تقضي كون المذكور فيها ضرا نافعا ، فلو كان المذكور في هذه الأوثان لزم التناقض ، فثبت أنهم الرّؤساء بدليل قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ إلخ) وهذا الاتجاه كما ترى والأوّل أولى وأسلم ، واللّه أعلم.
واعلم أن هذه الآيات الثلاث نزلت في أعراب المشركين الّذين كانوا يأتون المدينة من البادية فيدخلون بالإسلام ويقطنون فيها ، فإذا رأوا صحة بأجسادهم ونتاجا في مواشيهم ونسائهم وزيادة في أرزاقهم قالوا دين حسن فيركنوا إليه ، وإذا كان على العكس قالوا لم يصبنا من هذا الدّين إلّا الشّر ، فيتركون المدينة ويرجعون إلى باديتهم مرتدين ، وذلك لأن دخولهم في الإسلام لم يكن لمرضاة اللّه ولا لابتغاء وجهه ولا لأنه دين الحق ، بل لمطامع دنيويّة يزول بزوالها ، إذ لو كان إيمانهم عن رغبة صادقة ونية خالصة وحب قلبي طلبا لما عند اللّه في الآخرة لما ارتدوا مهما أصابهم من البلاء ونابهم من العناء وذاقوا من الفتن ، فلم يثنهم عنه شيء حتى القتل ولم يزدهم الامتحان فيه إلّا تمسكا به وشوقا بلقاء اللّه ، أملا(6/162)
ج 6 ، ص : 163
بإنالة وعده للصادقين بقوله «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» (14) لأوليائه في الكرامة كما يفعل ما يشاء لأهل معصيته من الهوان ، هذا ولما دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قوما من أسد وغطفان إلى الإسلام وكان بينهم وبين يهود المدينة حلف ، وقالوا تخاف ان أسلمنا أن لا تنصر ولا يظهر أمرك على اليهود ، فتنقطع المحالفة بيننا وبينهم ، فيقطعون عنا الميرة ولا يؤوننا ان نزلنا عليهم ، أنزل اللّه تعالى انزاله «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» أيضا ليس في الدّنيا فقط كما ظن هؤلاء «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ» حبل «إِلَى السَّماءِ» أي يعلق حبلا لجهة العلو كالسقف وغيره ، لأن كلّ ما علاك فأظلك هو سماء ، فيجعله في عنقه ويخنق نفسه خير له من هذا الظّن الفاسد في ربه.
وهنا عدل عن الحقيقة ، إذ صرف لفظ السّماء عن حقيقته الظّاهرة إلى المجاز وهو السّقف الذي يطلق عليه لفظ السّماء مجازا لاستحالة تعلق الحبل بالسماء الحقيقة لئلا يتعطل اللّفظ تأمل «ثُمَّ لْيَقْطَعْ» ذلك
الحبل أي يخنق نفسه فيه وسمى الإخناق قطعا ، لأن المختنق يقطع نفسه يحبس مجاريه وبعد ذلك «فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ» ذلك بنفسه «ما يَغِيظُ» (15) أي الذي يغيظه وهو نصر اللّه له كلا لا يرد من خنقه شيئا بل يبقى كيده في نحره ، وفيه قيل :
ان لم تكوني بهذا الحال راضية فدونك اليوم هذا الحبل فانشنقي
وهذه الآية عامة في معناها لكل من ظن هذا الظّن السّيء بربه ، وتفيد أن اللّه تعالى ناصر نبيه في الدّنيا والآخرة على رغم حسّاده وأعاديه ، وناصر أنصاره وأتباعه إلى يوم القيامة إذا صدقوا وداوموا على سنته «وَكَذلِكَ» كما أنزلنا على من قبلك من الرّسل كتبا وصحفا «أَنْزَلْناهُ» أي هذا الكتاب الحاوي على معنى كلّ ما نزل قبل عليهم.
عليك يا سيد الرّسل وجعلناه «آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي» به إلى دينه «مَنْ يُرِيدُ» (16) من عباده الّذين سبقت لهم السّعادة في علمه الأزلي «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ» لم تذكر هذه الكلمة في القرآن كله إلّا هنا «وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا»(6/163)
ج 6 ، ص : 164
وهؤلاء أصحاب الأديان السّتة الموجودون على وجه الأرض عند نزول القرآن لا غيرهم ، أما الفرق الأخرى الموجودون الآن فقد افترقوا بعد وانشقوا بعضهم على بعض وتشعبوا من هذه الأديان السّتة كما أخبر حضرة الرّسول ، وقد ذكرهم صاحب المواقف في أواخر الجزء الثالث على وجه التفصيل فمن أراد الاطلاع عليهم ومعرفة أديانهم وأهلها والوقوف على كنههم فليراجعه.
فهؤلاء ومن كان على شاكلتهم من المختلفين في أمر الدين المنزل عليك يا أكمل الرّسل لا تعبا بهم الآن «إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ» وبينك وأتباعك ومن اقتفى أثرك ومشى على طريقك «يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (17) تقدم تفسير مثله في الآية 62 من سورة البقرة المارة وسيأتي ما يقاربها في الآية 77 في المائدة عدا كلمة المجوس قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» كل بما يناسبه بما أراده اللّه منه ، وبما أن من النّاس من يسجد قولا وفعلا ، قال جل قوله «وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» لأن بعضهم يتركه ظاهرا وتكبرا وتمردا وهو في الحقيقة ساجد خاضع منقاد للّه تعالى بكليته.
سئل الحجاج هل قتلت أحدا بحق ؟
قال بلى ، قتلت ثلاثة وإني لأرجو أن أدخل الجنّة بسبب قتلهم ، وعدّ منهم رجلا أمره بالصلاة فقال ما يمنعني منها إلّا سجودها وركوعها لما يبدو من ذلك من تمثل العورة ، أي أنه يأنف من ذلك ولو كان أمام اللّه ، فقتله لذلك وما ذلك على اللّه بعزيز إذا حسنت نية الحجاج «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ» لكفرهم وابائهم عن السّجود مثل هذا الذي ذكره الحجاج لأن من يستكبر أن يسجد للّه فهو كافر «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ» بالشقاوة الواقعة منه عن رغبة واختيار «فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» بالسعادة التي أعرض عن أسبابها فسببت له الذل ، ومن يذلّه اللّه لا يكرمه النّاس ولا يصيرونه مكرما عندهم ، لأنه مهان عند ربه «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» (18) من إكرام أناس وإهانة آخرين بمقتضى أعمالهم ومنهم يسجد قولا ويأنف فعلا كالمار ذكره ، ومنهم من لا يسجد قولا ولا فعلا كالكفرة ، أما الطّيور والحيوانات والكواكب والجبال والأشجار والنّبات فتسجد(6/164)
ج 6 ، ص : 165
بحسبها كما أنها تسبحه بحسبها ، راجع الآية 45 من سورة الاسراء في ج 1.
ثم أشار تعالى لأهل الأديان السّتة المار ذكرهم بقوله «هذانِ خَصْمانِ» بلفظ التشبه لأنهم في الحقيقة صنفان أهل كتاب ومشركون ، وبما أن أهل الكتاب لم يعملوا به ولم يؤمنوا بمحمد فيكون الصّنفان مؤمنين وكافرين ، لأن الأصناف الخمسة متساوون بمعنى الكفر ، فهم بمثابة واحدة فيكونون صنفا والمؤمنون صنف ، وقد جمع الضّمير بقوله «اخْتَصَمُوا» كل منهم «فِي رَبِّهِمْ» في الدّنيا أي اختلفوا في دينه الذي شرعه لهم على لسان أنبيائه المرسلين إليهم راجع الآية 26 من سورة النّور المارة.
وقد بين اللّه كيفية الفصل بينهم فيما تقدم من الآيات وفي قوله تعالى «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» (19) الماء الشّديد الغليان المتناهي في الحرارة.
ثم بين مبالغة تأثيره فيهم بقوله «يُصْهَرُ» يذاب «بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ» من الشّحوم والأحشاء والأمعاء «وَالْجُلُودُ» (20) يذيبها أيضا
«وَلَهُمْ» عذاب آخر وهو «مَقامِعُ» سياط «مِنْ حَدِيدٍ» (21) يضربون بها «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ» من غمومها الكثيرة وحاولوا الهرب للتخلص من كربها وصعوبة بلائها «أُعِيدُوا فِيها» أعادتهم ملائكة العذاب إليها عنفا وقسرا بالضرب والكبح ويقولون توبيخا لهم وتقريعا حال ضربهم وردهم إليها «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» (22) وهذا حكم اللّه تعالى يوم القيامة على فريق الكافرين أهل النّار ، أما حكمه على المؤمنين أهل الجنّة فهو ما ذكره بقوله «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» (23) ويسميه العراقيون إبريسم ، وهو المفتول منه عرفا «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ» وهو ما ذكره اللّه تعالى (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 25 من سورة فاطر ج 1 وبقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية 75 من سورة الزمر ج 2 «وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ» (24) الطريق المحمود الموصل إلى جنته بسلام.
هذا ومن قال إن هذه الآية نزلت في(6/165)
ج 6 ، ص : 166
علي كرم اللّه وجهه وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين بارزوا عتبة وشيبة بنى ربيعة والوليد بن عتبة في بدر فغير وجيه ، لأن هذا الاختصام المشار إليه في هذه الآية تفريع عما جاء في الآية السّابقة التي أشرقا إليها وهو اختصام في الدّين لا في الحرب ، وهي متأخرة في قصة بدر ولم تأت بسباق قصة حكاية الحال حتى يصبح القول بما ذكر ، كما أن ما قيل إن هذا الاختصام بين الجنّة والنّار قول واه أيضا ، وإن ما رواه البخاري عن علي كرم اللّه وجهه أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرّحمن يوم القيامة لا يقصد منه هذه الخصومة ، وقد يراد بها - واللّه أعلم - ما وقع بينه وبين معاوية مع ابنه الحسن وبين الحسين ويزيد إلا أن وقوع هذا بعد وفاته يبعده عن الواقع ، تدبر.
وكذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال تحاجت الجنّة والنّار فقالت النّار اوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنّة فمالي لا يدخلني إلّا ضعفاء النّاس وسقطهم - الحديث - لا ينطبق علي هذه الآية وجوب حمل معناها على غير ظاهرها دون موجب أو صارف وهو غير جائز وما رواه قيس بن عبادة من أن أبا ذر أقسم أن هذه الآية نزلت في الّذين برزوا يوم بدر لا يصلح للاستدلال ، لأنه خبر واحد وأخبار الآحاد لا تكون حجة لدحض مثل هذا ، وإنما المراد في هذه الخصومة واللّه أعلم ما وقع من الاختلاف في أمر الدّين بين أهله المذكورين في هذه الدّنيا ، وأنه يجاء بهم يوم القيامة بين يدي اللّه عز وجل فيفصل بينهم على الوجه المذكور فيها ، كما ينبيء عنه ظاهر التنزيل.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بما جاء به محمد «وَيَصُدُّونَ» الناس مع كفرهم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فيمنعونهم من الدّخول في الإسلام «وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ» فيمنعونهم من دخوله وهو «الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ» عامة لا يختص به واحد دون آخر ، فهو قبلة ونسك وتعبّد إلى جميع الخلق «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ» المقيم القاطن «وَالْبادِ» الذي يأتيه من البادية ، فلا يجوز لأحد أن يمنع أحدا من دخوله والطّواف به.
وخبر إن هذه محذوف تقديره (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) بدلالة خبر «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ» أي أي مراد كان في أنواع الكفر والظّلم بدلالة التنوين والتنكير(6/166)
ج 6 ، ص : 167
نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (25) في الآخرة فضلا عما يصيبه من الهوان في الدّنيا أخرج الترمذي وأبو داود والنّسائي عن جبير بن مطعم أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلّى أي ساعة شاء من ليل أو نهار.
هذا ومن قال إن المراد بالمسجد جميع الحرم يترتب عليه عدم جواز بيع بيوت مكة وإن النّاس فيها سواء ، وهذا ينافيه قوله تعالى (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) الآية 41 الآتية إذ أضاف الدّيار إلى مالكيها.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
إذ نسب الدّيار إليهم نسبة ملك ، فلو كانت من الحرم لما نسبت إليهم ، وشراء السّيد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه دار السّجن بأربعة آلاف درهم يدل على جواز بيعها ، فلو كانت من
الحرم لما جاز له ذلك ولم يقروه عليه ، أما ما قاله عبد الرّحمن بن سابط من أن الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهلها بأحق في منزلة منهم ، وما روي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة في المعنى الذي ذكره عبد الرّحمن ، لا يدل على أنها من جملة الحرم الذي يشترك فيه النّاس أجمع وإنما يدل على كرم أخلاق أهل مكة وحسن قراهم للضيف ، ومساواتهم له بأنفسهم وجعلهم الضّيف كأحد في منازلهم ، وهو على حد قوله :
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضّيوف وأنت رب المنزل
مطلب إظهار قواعد البيت ، وعمارته ، والحج إليه ، وفوائد الحج ، والدّبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية :
قال تعالى «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» أي واذكر يا سيد لرسل لقومك زمن إظهار البيت لجدك ابراهيم وجعلنا إياه له متوأ ومسكنا يسكن يه ومأوى يرجع إليه ، وذلك حين أمره اللّه ببنائه بعد الطّوفان ، وكان لم يدر مكانه الذي كان فيه قبل الطّوفان لا ندثاره ، قالوا بعث اللّه ريحا خجوجا هي لشديدة الحر أو المتلوية في هبوبها.
ومعنى الحج الدفع والشّق والالتواء والجماع ، وله معان أخر غير هذه ، فكنست ما حوله حتى ظهر وبرز أساسه ، فعمره على النّحو الذي ذكر في سورة البقرة في الآية 136 المارة ، وقلنا له «أَنْ لا تُشْرِكْ(6/167)
ج 6 ، ص : 168
بِي شَيْئاً»
من الأشياء سماويا أو أرضيا «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» من أقذار الأوثان وأوساخ الكفر ليكون نظيفا طاهرا من الأرجاس والأنجاس كما كان من قبل حين بنته الملائكة وآدم من بعدهم ، وأبحه «لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ» فيه «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (26) لجلالي وعظمتي «وَأَذِّنْ» أعلم وناد «فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» قالوا فقال يا رب وما يبلغ صوتي في وسيع ملكك ، فقال تعالى عليك الأذان وعلينا الإسماع والإبلاغ ، فقام عليه السّلام على المقام المعروف اليوم وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا ، وقال بأعلى صوته أيها النّاس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إليه ، فأجيبوا ربكم ، فأجابه كلّ من يحج إلى يوم القيامة من الموجودين على ظهر الأرض إذ ذاك ، ومن أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ممن كتب اللّه له الحج ، قائلا لبيك اللّهم لبيك.
ولا يقال في هذا لأن المستمع هو الذي خاطب خلقه في عالم الذرّ بقوله (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ) كما تقدم في الآيتين 172 و173 من سورة الأعراف المارة في ج 1.
وإياك أن تستعبد هذا الإسماع أيها الإنسان أو تشك فيه فإذا كان الرّاد المحدث الآن يسمع أهل المشرق والمغرب بآن واحد بثانية واحد ، وإن اهتف يخاطب به كذلك وهو من صنع خلقه ، فكيف بخالق هذا الخلق أيعجزه ذلك ، كلا ثم كلا ، وهو القادر على كلّ شيء.
وإذا ناديتهم يا خليلي ستراهم «يَأْتُوكَ رِجالًا» مشاة «وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ» ركبانا والضّامر البعير المهزول من نصب السّير وتعب الثقل وقلة الأكل والشّرب.
ومما يدل على بعد الشّقة قوله «يَأْتِينَ» تلك الإبل الضّوار بركابها «مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (27) طريق بعيد والفج الطّريق في الجل وغلب على غيره وعمقه بنسبة علو الجبل المنشق منه عن يمينه وشماله ، وهؤلاء المدعون يأتون لهذا البيت «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» دينية ودنيوية مختصة في هذا البيت لا يشهدونها في غيره ولا توجد إلّا به ، راجع الآيتين 158 و96 من سورة البقرة والآية 97 من آل عمران المارات «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» على ما سينحرونه من الهدى «فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» ويكبرون عليها إذا أريد ذبحها يوم النّحر وأيّام التشريق بدليل قوله تعالى «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ(6/168)
ج 6 ، ص : 169
الْأَنْعامِ»
أضحية وهديا ، وإذا فعلتم هذا أيها النّاس امتثالا لأمري «فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» (28) الذي لا شيء عنده.
كانت العرب في الجاهلية لا تأكل لحوم ضحاياها وهداياهم ، فأمر اللّه تعالى بمخالفتهم وأباح لعباده الأكل منها ، أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه في قصة حجة الوداع قال وقدم علي كرم اللّه وجهه ببدن من اليمن وساق رسول اللّه مئه بدنة فنحر منها ثلاثا وستين بيده الشريفة صلّى اللّه عليه وسلم ، ونحر عليّ ما نحر أي ما بقي ، وأشركه في بدنه ، وفي عدد ما نحره صلّى اللّه عليه وسلم إشارة إلى مدة حياته إذ توفي في الثالثة والسّتين من عمره ، وفي هذا يعلم أن حضرة الرّسول قد أعطى من القوة ما لم يعطها غيره قط ، لأن أحدا لا يقدر على نحر عشر من الإبل دفعة واحدة ، فهو أكمل الخلق مادة ومعنى وخلقا وخلقا وقلبا وقالبا وروحا وجسما.
ثم أمر من كلّ بدنة ببضعة أي قطعة فجعلت في قدر وطبخت ، فأكل منها وشرب من مرقها ، مما يدل على جواز الأكل من لحوم الأضحية دون قيد أو شرط.
وقد اختلفت الأئمة في ذلك فمنهم من جوز الأكل من الهدايا الواجبة كدم التمتع والقرآن وما جبر بإفساد شيء من واجبات الحج وجزاء العيد ، واتفقوا على جواز الأكل من جميع هدايا التطوع والأضحية إذا لم تكن منذورة
،
وإذا أريد بالأيام عشر ذي الحجة يراد بالذكر مطلقه وما يتلى غالبا في أيّام الحج.
قال تعالى «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» أي لينتهوا من إزالة أدرانهم وأوساخهم ويقصوا شعورهم وأظفارهم ويستحدوا (يحلقوا عانتهم) وينتفوا آباطهم ويغيروا ما أحرموا به بالثياب النّقية ، لأن الحاج مادام محرما أشعث أغبر «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» التي التزموها وأوجبوها على أنفسهم.
وهذه الآية عامة في الحاج وغيره وإن ورودها في معرض الحج لا يقيدها بالحاج ، وهذا الأمر للوجوب وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 7 من سورة الإنسان والآية 170 من البقرة المارتين «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (29) يكثروا الطّواف فيه بدليل تضعيف الفعل وسمي عتيقا لأنه أول بيت وضع للناس كما مر في الآية 97 من آل عمران المارة والمراد بهذا الطّواف طواف الإفاضة وأول وقته يوم النّحر بعد الرّمي والحلق ، ويسمى طواف الزيارة وهو أحد فرائض الحج الثلاثة وأولها الإحرام وثانيها(6/169)
ج 6 ، ص : 170
الوقوف بعرفة ، أما طواف القدوم وهو أول وصوله إلى مكة فهو سنة ، وطواف الوداع وهو عند قرب خروجه منها واجب «ذلِكَ» شهود المنافع وذكر الإله والأكل من لحوم الهدي وإطعام الفقراء منهما وقضاء التفث وإيفاء النّذور والطّواف بالبيت كلها من تعظيم حرمات اللّه «وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ» بالاجتناب لكل ما لا يحل هتكه وإثبات جميع ما كلف اللّه به الحاج من مناسك وغيرها «فَهُوَ» أي ذلك التعظيم «خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ» عظيم نفعه لا يقدر قدر خيره إلّا هو.
ومما يدل على عظمة تفكيره «وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ» الإبل والبقر والغنم وغيرها - أكلا وذبحا واقتناء - فمن الأنعام ما يركب ويؤكل وهي الإبل ، ومنها يؤكل ولا يركب كالأغنام وشبهها.
واعلم أن الخيل والبغال لا تدخل في معنى الأنعام ولا يشملها لفظها.
ثم لستثنى جل جلاله من عموم ذلك فقال «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» تحريمه مما يأتي ذكره وتفصيله في الآية 4 فما بعدها من سورة المائدة بصورة أوضح مما تقدم في الآية 149 فما بعدها من الأنعام إن شاء اللّه ، فهذا المستثنى حرام نجس «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» كما تجتنبون ما حرّم عليكم أكلهم لاشتراكها في الرّجسية ، بل عبادة الأوثان أعظم وزرا وتلويثا للانسان من تلويث النّجاسة ، لأن فيها الإشراك باللّه وهو كفر محض وليس في أكل المحرم إلّا الحرمة التي يفسق فاعلها إذا لم يستحله ، وأعظم أنواع الكفر الشّرك.
جاء في الإصحاح 15 من إنجيل متى ليس ما يدخل في الفم ينجّس الإنسان بل ما يخرج من الفم.
وقال في الإصحاح 13 من فضلة القلب يتكلم الفم «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (30) الافتراء والكذب والبهتان وشهادة الزور ومأخوذة من الزور وهو الانحراف وكفى به إثما إنها عدلت الإشراك باللّه راجع الآية 72 من سورة الفرقان ج 1
فاتركوا هذا أيها المؤمنون وكونوا مخلصين «حُنَفاءَ لِلَّهِ» عادلين عن غيره مائلين له «غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» أحدا ولا شيئا «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره من صنم أو وثن «فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ» فسقط على الأرض «فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ» بسرعة وتذهب به «أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ» فتميل به وتطرحه في «مَكانٍ سَحِيقٍ» (31) بعيد فيصير(6/170)
ج 6 ، ص : 171
مسحوقا مكسرا ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن ، والمعنى أن المشرك باللّه يهلك نفسه إهلاكا ما بعده إهلاك ويدمّر نفسه تدميرا فظيعا شنيعا «ذلِكَ» الذي يجتنب الرّجس ويخلص للّه فقد عظم شعائر اللّه «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها» خصلة التعظيم ما تكون في الإنسان إلا «مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (32) التي هي مراكز التقوى وملاك القوى.
والشّعائر جمع شعيرة وهي العلامة من الأشعار الذي هو الأعلام وكلّ ما هو من معالم الحج يسمى شعيرة ، ومنها الهدايا والضّحايا وتعظيمها استحسانها واستسمانها «لَكُمْ فِيها» أي الهدايا المشعرة وذلك أنهم كانوا يطعنونها في سنامها من أيمنه أو أيسره حتى يسيل منها الدّم فيعلم من يراها أنها هدي فلا يتعرض لها «مَنافِعُ» في نسلها ودرعا وصوفها ووبرها وركوبها وبيع أولادها ما زالت عندكم تنتفعون بها «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» هو وقت نحرها إذا سماها هديا أو أوجبها ضحية وبعد التسمية لا حق له بشيء منها ولا بمنافعها ، إلا أنه يجوز ركوبها فقط لما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها ، فقال يا رسول اللّه إنها بدنة ، فقال اركبها ويلك - أخرجاه في الصّحيحين - فيظهر من هذا أن جعلها هديا لا يمنع من ركوبها «ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (33) وأن منفعتها العظمى بعد تلك المنافع تكون عند منحرها بالحرم المنتهية إليه إذ تذبح هناك وينال صاحبها منفعتها الكبرى الدائمة عند اللّه تعالى في يوم يكون صاحبها أحوج منه إلى غيره.
أما منفعتها الدنيوية ففانية ، والمراد بالبيت هنا ما يشمل الحرم كله على حد قوله تعالى (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) الآية 98 من سورة المائدة الآتية وهي كلها منحر.
قال تعالى «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم «جَعَلْنا مَنْسَكاً» بفتح السّين لإراقة الدّم وذبح القرابين خصصنا موضعا «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» عليها عند ذبحها شكرا لجلاله «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» التي يتقرب بها إليه دون غيرها ولذلك أضاف لها الأنعام لأن البهيمة مبهمة في كلّ ذات أربع في البر والبحر مما يؤكل ومالا «فَإِلهُكُمْ» أيها الحاضرون وإله الّذين من قبلكم ومن بعدكم إلى يوم القيامة وبعدها «إِلهٌ واحِدٌ» عالم قدير خالق رازق محيي مميت منعم معذب(6/171)
ج 6 ، ص : 172
«فَلَهُ أَسْلِمُوا» وانقادوا أيها النّاس لعظمته وأخلصوا لكبريائه والهجوا بذكره وحده على الذبح وغيره ، ولا تذكروا شيئا سواه أبدا «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» (34) له الخاشعين لهيبته الخاضعين لعبادته «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ» أمامهم وبمسمعهم «وَجِلَتْ» خافت أشد الخوف «قُلُوبُهُمْ» ورجفت لعظمته فيها وهيبته عليها فبشر هؤلاء يا سيد الرسل «وَالصَّابِرِينَ» بشرهم «عَلى ما أَصابَهُمْ» من البلاء والمحن الواقعة عليهم من اللّه ومن خلقه ، لانهم يعلمون أنها بقضائه وقدره «وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ» بأوقاتها الموفين بأركانها وواجباتها وسنتها بشرهم أيضا «وَ» بشر الّذين «مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (35) على المستحقين وخاصة الّذين يؤثرون الفقراء على أنفسهم بشرهم برضوان اللّه ورحمته.
قال تعالى «وَالْبُدْنَ» جمع بدنة تطلق على الإبل والبقر فقط لبدانتهما «جَعَلْناها لَكُمْ» أيها النّاس ملكا ، وجعلنا ذبحها في الحرم للحاج وغيرهم أضحية تذبحونها فيه ليتناولها أهله المحتاجون «مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» واعلام دينه «لَكُمْ فِيها خَيْرٌ» في الدّنيا بالذكر الحسن وفي الآخرة بالثواب العظيم إذا هديتموها وذبحتموها وتصدقتم بها على أهل اللّه وعياله ، وإذا أردتم ذبحها «فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ» بالفتح دون تنوين ، وقرئت منوّنة على لغة من يصرف مالا ينصرف ، قال الرّاجز
والصّرف والجمع أتى كثيرا حتى ادعى قوم به التخييرا
«وَالْمُعْتَرَّ» الملحف بالسؤال «كَذلِكَ» مثل ما سخّرناها لكم بأن تذبح وهي قائمة «سَخَّرْناها لَكُمْ» للركوب والحمل وذللناها لكم حتى صارت تنقاد للطفل لكمل استفادتكم منها ، ولو لا هذا التسخير لما استفدتم منها شيئا من ركوب وحمل وحليب رجزّ وبر وغيرها لأنها أقوى منكم ، (6/172)
ج 6 ، ص : 173
وقد فعلنا هذا لكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (36) نعمة ربكم على
واعلموا أيها النّاس أن هداياكم وضحاياك المدن والقرى حتى اليوم ، وذلك أنهم عند ما يذبحون نذرا أو خيرا أو عند إرادتهم البناء تبركا أو عند إكماله شكرا بزعمهم يلطخون باب الدّار والجدران بدم ما يذبحونه تقليدا على فعل الجاهلية بالكعبة المعظمة ، فرد اللّه عليهم بأن هذا العمل ليس من القربة المراد بها وجه اللّه والتي يثاب العبد على فعلها ، لأن اللّحوم والدّماء لن ترفع إلى اللّه تعالى بل يرفع ثوابها إذا كانت على وجه شرعي «وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» أي يرفع إليه العمل الصّالح والإخلاص فيه المعبر عنه بالتقوى التي يجب ان تنحلوا بها فهي التي يراد بها وجه اللّه ويثاب عليها.
قال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) الآية 40 من سورة فاطر ج 1 «كَذلِكَ» مثل هذا التسخير البديع «سَخَّرَها» أي البدن «لَكُمْ» أيها النّاس للاستعمال والذبح «لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ» عند ذبحها على ما هداكم لمعالم دينه وأرشدكم إليها «وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» (37) بالثواب العظيم عند اللّه تعالى إذا فعلوا ما أمروا به واجتنبوا ما نهوا عنه في هذه المناسك التي سماها اللّه تعالى منافع.
هذا وليعلم أن الحج من العوامل القوية على تآلف المسلمين واتحادهم على توثيق عرى المحبّة والعون على إجراء الحق بينهم وتوحيد كلمتهم.
قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الآية العاشرة من سورة الحجرات الآتية ويدعو إلى تعاضدهم وتآزرهم بما يتعلق بجميع شؤنهم وإصلاح كيانهم وإعلاء شأنهم حتى تكون العزّة لهم.
قال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 138 من سورة النّساء المارة وهو العامل الأقوى على لمّ شعثهم وتقويم اعوجاجهم حتى يكونوا الأمة الكريمة التي عناها اللّه بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 130 من آل عمران المارة.
وإنما فرضه اللّه تعالى على المستطيع من عباده ليرى حكمته البالغة ، ويقدر فوائده العظمى التي تعود على المسلمين بالخير الوافر والنّعم(6/173)
ج 6 ، ص : 174
الجزيلة ، إذا قدره حق قدره ، وعرف المغزى من فرضه ، واستغل ما وضع له وحاول جني ثماره ، لأن هذا الرّكن العظيم من أركان الإسلام يرمي إلى الاتحاد والتوثيق حتى يشعر بأن النّاس كلهم روح واحدة على ما هم عليه من بعد الشّقة ، ونفس واحدة على ما هم عليه من الاختلاف باللغة واللّون والسّعادة والسّكن.
قال تعالى (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) الآية 28 من سورة لقمان في ج 2 وإن الفطن ليلمس هذا القصد فى دعوة النّاس إلى الاجتماع في صعيد واحد متجهين لقبلة واحدة بزيّ واحد وغرض واحد ، فإذا فقه المسلمون وتيقظوا لهذا وانتهزوا الفرصة بزيارة هذا البيت ، وعرفوا ضالتهم المنشودة ومطلبهم السّامي منه ، فتعاونوا بعضهم مع بعض وتعرّف بعضهم إلى حوائج البعض ، وعرفوا كيفية الوصول إلى سبيل التعاون إذا ألم بهم حادث أو طرات عليهم مصيبة كيف ينقذون أنفسهم منها ، فيذرقون حلاوة هذا الاجتماع ولا يكونون كمن ذمهم اللّه في قوله (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» الآية 19 من سورة الحشر الآتية أجارنا اللّه من ذلك.
ثم أنهم إذا رأوا الأسود والأبيض والأحمر والأسمر متساوين في الخشوع لرب ذلك البيت ، لا فضل لعجمي على عربي ، ولا لغني على ؟ ؟ لا لشريف على حقير ، وشاهدوا الملك والمملوك والجهلة والعلماء ، والرّعية والأمراء سواسية ، وقفوا هناك على كلمة قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية 13 من سورة الحجرات الآتية لأنهم كلهم متساوون في تركهم بلادهم ، وفراق أهلهم وأولادهم ، وإجابة دعوة ربهم إلى بيته المطهر ، قال تعالى (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) الآية 136 من البقرة المارة ونظيرتها الآية 27 المارة إذ لم يفرق اللّه تعالى بدعوته بين واحد دون آخر ، ولم يكلف الفقير رحمة بحاله ليس إلا ، فإذا تجشم ذلك فله ما للغني من الثواب ، وقد يزيده ربه إذا حسنت نيته ، وإذا كان كذلك علم كلّ منهم أن هذا المؤتمر الإسلامي الجامع إنما عقد للخضوع إلى اللّه تعالى وللتّعاون في مصالح الدّين والدّنيا ، وتيقن إن هذا الدّين لا يدعو إلّا إلى خير واحسان.
قال تعالى (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الآية
30 من سورة الروم في ج 2.
فمن أجاب دعوة اللّه كان هو المتمسك بعروته(6/174)
ج 6 ، ص : 175
الوثقى ومن حزب اللّه (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الآية 22 من سورة المجادلة الآتية ، ولا شك أنهم هم الفائزون بقوله تعالى (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ) الآية 159 من المائدة الآتية.
أما المتقاعسون عنه مع القدرة ، فهم الّذين (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) الآية 19 من المجادلة الآتية.
هذا من جملة منافع الحج المعنوية أما منافعه المادية المحسوسة فمنها مشاهدة تلك البقاع المباركة التي ظهر فيها حضرة الرسول الكريم ومواقف الأنبياء قبله ، ذلك المرسل إلى النّاس كافة (شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) الآيتين 44 و45 من سورة الأحزاب المارة بدليل قوله جل قوله (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) الآية 158 من الأعراف ج 1 ، وفيها ما يرشدك إلى ما يتعلق فيها التي لبث فيها ثلاثة عشر عاما يدعو النّاس إلى توحيد اللّه وتنزيهه عن الشّرك ، وكان يعاملهم بالرفق واللّين والرّحمة مع ما هم عليه من الجفاء والغلظة والشّدة تبعا لقوله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية 125 من سورة النّحل ج 2 ، ويشاهد مواقع مكة المكرمة فيعتبر بما وقع فيها لسيدنا ابراهيم وابنه إسماعيل عليهما السّلام والأنبياء من قبلهما وبعدهما وما تركوه من آثار للاتعاظ والاعتبار ، فيعمل ويخشع.
قال تعالى (أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية 16 من سورة الحديد المارة ، فرؤية هذه المواقع المقدسة تعين القلب وتذكر الرّوح بما كان فيها من إعطاء العهد لربها في الآيتين 171 و172 من الأعراف في ج 1 فتجهد نفسها للوفاء به وتستمد من غيرها المعاونة على العمل الصّالح للدنيا والآخرة وتعتبر بمصير من نكث عهده مع اللّه ونقض ميثاقه كيف حل بهم عذابه في الدّنيا وما أوعدهم به من العذاب الأخروي ومن منافع الحج المغفرة الواسعة الشّاملة لأشياء لا يمحوها إلا الحج ، قال صلّى اللّه عليه وسلم الحج مبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة وجاء أن من الذنوب ما يكفرها إلّا الحج ، وقال عليه الصّلاة والسّلام من حجّ ولم يرفث ولم يفسق(6/175)
ج 6 ، ص : 176
رجع كيوم ولدته أمه.
وقد ضمن له الرّسول عن ربه عز وجل أن يرجعه سالما أو يدخله الجنّة.
قال تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) الآية 100 من سورة النّساء المارة وذلك لأنه لم يخرج إلّا للّه ، والأعمال بالنيات.
ومن منافعه أنه وسيلة للتوبة لأن من لم يتب في مثل ذلك المكان ولم يخلص فيه الملك الدّيان يخسر الدّنيا والآخرة.
ووسيلة إلى الانتهاء عن المعاصي جميعها ، قال تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) الآية 297 من البقرة المارة ، لأنه إذا كان ينهى عن ملامسة الزوجات الحلال فلأن ينهى عن غيرهن من باب أولى ، وذلك أو الحاج زمن الإحرام منهي حتى عن ملاذ اللّباس وزخارف الحياة ، وما ذاك لتجنب الفتنة بجميع أنواعها ، وهناك لا يشغل الغني جاهه ووجاهته ، ولا تفتن الفقير حاجته وفاقته ، فلا هو يحسد الأغنياء ، ولا هم يمتهنون الفقراء ، والكل أمام ان سواء حاسبين حساب المال ، تائبين بطبيعة الحال ، لا يعتبرون أنفسهم إلّا عبيد آبقين ، قد آبوا إلى مولاهم مخلصين ، راجين القبول والعفو عما مضى وإنه تعالى لا يخيب عبيده ، ومن كمال رأفته بهم لا يسعه ردهم ، وقد يتجلى عليهم بصفت الرحمانية وفضله الوافر ، وهو المنان عليهم ، فيبدل شرهم خيرا ، وعسرهم يسرا قال تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) الآية 70 من سورة الفرقان ج 1.
اللهم مهد لعبيدك أسباب الوصول إلى رحمتك وافتح لهم أبواب القبول ، ويسر لهم القيام بخدمتك (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) الآية 38 من سورة إبراهيم عليه السّلام.
مطلب المدافعة عن المؤمنين من قبل اللّه وأول آية نزلت في الجهاد :
قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» فلا يمكّن أعداءهم منهم إذا كانوا مؤمنين حقا ، لأنه جل شأنه وعد بذلك فقالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الآية 48 من سورة الرّوم وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية 51 من سورة المؤمن وقال تعالى (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ.
وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) الآية 172 من سورة الصّافات ج 2 راجع هذه الآيات تعلم كما أنت(6/176)
ج 6 ، ص : 177
عالم من قبل أن وعده منجز إن اللّه لا يخلف الميعاد الآية 9 من آل عمران المارة وقال عز قوله (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) وقال جل قوله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) الآيات الآية 112 من سورة التوبة الآتية والآيتين 112 و152 من سورة النّساء المارة ، كلا لا أحد أوفى وأصدق البتة ، وحاشاه من الخلف ، وإنما يقع منا نحن المسلمين المؤمنين اسما لا فعلا ، فلو كنا مؤمنين حقيقة إيمانا صحيحا كما أراده اللّه منا لكانت كلمتنا هي العليا دائما ولكنا أعزاء بعزة اللّه تعالى ورسوله المنوه بهما بالآيتين آنفا ، ولكنا تركنا فتركنا ونسينا فأهملنا ، قال تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) الآية 68 من سورة التوبة الآتية وقال تعالى محذرا ومنذرا (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الآية 19 من سورة الحشر المارة ، فإنا للّه وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) راجع هذه الآية 54 من سورة الأنفال المارة ونظيرتها الآية 11 من سورة الرّعد المارة أيضا وإنا واللّه قد غيرنا وبدلنا وخنا أنفسنا وإخواننا لأنا لم نساعدهم عند ما يتجاوز عليهم إذا كنا بأمن مما يصيبهم ، وهذه هي الخيانة العظمى ، لذلك تبع اللّه هذه الجملة بقوله «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» (38) لحقوقه ومن حقوقه نصرة المؤمنين ومعونتهم بعضهم لبعض ، لأن المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ولا يتخلى عنه إذا وقع في شدة أو أحاطت به الأعداء ، بل يجب عليه نصرته مالا وبدنا ، المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، فإذا لم يساعد بعضهم بعضا تفرقوا وانهاروا كما يتهار البناء غير المتقن أساسه ، هذه فلسطين ينتابها العدو فيخذل
أهلها ، ويسلب مالهم وملكهم ، ويقتل رجالهم ، ونحن نسمع ونرى ونقعد عنهم ونعد أنفسنا مؤمنين ، بل نحن القاعدون كالّذين أشار اللّه إليهم في الآية 82 من سورة التوبة الآتية المتخلفون عن مساعدة إخواننا ولا نتأذى لأذيتهم ، والمؤمنون الصّادقون كالجسم الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالسهر والحمى ، فإذا تناصر المؤمنون فتعاونوا وتشاركوا بالضر والنّفع وأخلصوا لربهم دافع عنهم ونصرهم ورفع كلمتهم وأعلى شأنهم ، كيف واللّه يقول (كَتَبَ(6/177)
ج 6 ، ص : 178
اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)
الآية من آخر سورة المجادلة ، وإنه تعالى يوفي لهم وعده المشار إليه في الآيات المارة ، ومتى ما تخاذلوا وتقاطعوا ولم يبال بعضهم ببعض أهينو كلهم ، واسترقوا وهلكوا أو ندموا من حيث لا ينفعهم النّدم ، راجع الآية 102 من آل عمران فما بعدها ، قال تعالى «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» من قبل أعدائهم بأن يقاتلوهم بالمقابلة ، وإنما أذن اللّه لهذا الصّنف بقتال أعدائهم «بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» من قبلهم وتوالت عليهم تعدياتهم القولية والفعلية وكانوا يشكون أمرهم لحضرة الرّسول فيأمرهم بالصبر إذ لم يؤذن لهم بالقتال حتى خرج قوم من هذا الصنف مهاجرين بدينهم من مكة إلى المدينة قاصدين الالتحاق بحضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم فاعترضهم قوم من مشركي مكة فاعتدوا عليهم فأنزل اللّه هذه الآية وهي أول آية نزلت بالقتال بعد أن نهى عنه رسوله في نيف وسبعين آية أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) الآية 197 هذه من سورة البقرة المارة ، وإنما رجح في الآية بأنها أول آية نزلت في القتال لأن نزولها قبل هذه الآية التي نحن بصددها ، ولأنها مقيدة بقتال من قاتل ، والآية التي نحن بصددها أكثر إطلاقا منها ، فمن هذه الحيثية يقال إنها أول آية نزلت في القتال على الإطلاق ، راجع الآية 54 من سورة النّساء المارة ، لأن الّذين نزلت هذه الآية بحقهم هم من ذلك القبيل : أما ما جاء في الإكليل للحاكم من أن أول آية نزلت في القتال (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فلا يصح ، لأن هذه الآية 113 من سورة
التوبة التي لم تنزل بعد لأنها متأخرة في في النّزول عن ذلك كله ، وهي نزلت جملة واحدة تأمل «وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (39) تشير هذه الجملة إلى الوعد لهم بالنصر دون معونتكم لهم ولكن اللّه تعالى يريد أن تتناصروا على العدو ليزداد التآلف بينكم ولتكونوا يدا واحدة على الأعداء لتهابكم وتعظموا بأعينهم فلا يجرأوا على إيقاع شيء فيكم.
ثم وصفهم اللّه بقوله «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ» وما كان سبب إخراجهم «إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» لا غير ، وهذا يوجب إبقاءهم فيها وإكرامهم وصيانتهم واحترامهم ، لا إخراجهم وإهانتهم «وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ(6/178)
ج 6 ، ص : 179
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ»
وتسليط أولياءه على أعدائه لاستولى المشركون على الموحدين الأقدمين من أمم الأنبياء الأوّل فضلا عنكم أيها المؤمنون المخاطبون ومن بعدكم ، ومنعوهم عن عبادة اللّه المفهومة من قوله عز قوله «لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ» هي معابد الرهبان في الوادي ، وتطلق على معابد الصّابئين أيضا «وَبِيَعٌ» هي معابد النّصارى التي يطلقون عليها الآن لفظ كنائس «وَصَلَواتٌ» اسم العبراني معناه كنائس وهي معابد اليهود ، ويسمونها الآن بيعا ، وهو عربي «وَمَساجِدُ» هي معابد المسلمين وتطلق على الجوامع التي لا تقام بها الجمع وتختص الجوامع بما تقام فيها ، وإنما خص اللّه تعالى هذه المواطن المقدسة لأنها «يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» أي لو لا ذلك لهدم في زمن كلّ نبي مكان عبادته ، ولكن اللّه تعالى أبى ذلك إذ سلط الرّسل وأتباعه على المشركين فمنعوهم منه إدامة لذكر اللّه الذي أوجب بقاءه في أزله إلى خراب هذا العالم «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» من الرّسل وأتباعهم ليعظم لهم الأجر ، وإلّا فهو غني عن نصرة أحد منهم «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» 40 منيع لا يغلبه غالب ولا يدركه طالب ولا يفلت من قبضته هارب.
ثم وصف اللّه تعالى ناصريه بقوله «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» وثبتناهم فيها وجعلنا لهم فيها السلطان على أهلها «أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» (41) ومرجعها إليه ، وفي هذه الآية توكيد لما وعد به أولياءه من الظهور على أعدائهم.
قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا حبيبي بعد ما تبين لهم من الحق الذي أنت عليه ، فما هو بمستبعد منهم «فَقَدْ كَذَّبَتْ» الرسل «قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ ، وَكُذِّبَ مُوسى » أيضا مع وضوح ما جاء به من الدّلائل الحسية ، وإذا كان كذلك فلا يحزنك تكذيبهم ، وإني ممهلهم حتى إذا علم النّاس أن الامهال لم ينجح بهم وأصروا على استكبارهم أهلكتهم شأن الّذين قبلهم «فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ» السالفين مثل ما أمليت لهؤلاء «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ» على الصّورة المارة كما يؤاخذ هؤلاء إن لم يرجعوا إلي ويفردوني بالعبادة ، فآخذهم بأنواع(6/179)
ج 6 ، ص : 180
العذاب والنّكال وأهلكهم إهلاك استئصال ، وإذ ذاك يقول القائل متعجبا من عظيم صنعي بهم ومبتهرا من كبير تعذيبي لهم ومتحيّرا من كيفية أخذه «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» (44) عليهم ، إذ أبدلت نعمهم نقما ، وراحتهم محنة وحياتهم موتا ، وعمارتهم خرابا ، وجنايتهم خربا.
وفي هذه الآية تخويف عظيم لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم السّابقين واللاحقين بأنهم إذا لم يخلصوا لربهم يكون مصيرهم مصير أولئك قال تعالى «فَكَأَيِّنْ» راجع الآية 60 من سورة العنكبوت وما ترشد إليه في معناها وتركيبها «مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ» أي زمن تلبسها بالظلم حال ظلم أهلها «فَهِيَ خاوِيَةٌ» في هذه الآية حذف كلمتين أخالية من السّكان ساقطة «عَلى عُرُوشِها» أي سقوفها «وَ» كم من «بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» متروكة هلاك مستعمليها من أهل البوادي.
والقرى عطف على قر «وَ» كم من «قَصْرٍ مَشِيدٍ» (45) أخليناه بتدمير أهله من المدن والحواض والعواصم معطوفة أيضا على قرية.
تفيد هذه الآية أن أهل البوادي والمدن ؟
أصروا على كفرهم وتكذيب رسلهم أهلكهم اللّه إهلاك استئصال ودمرته ومساكنهم وما يأوون إليه في البوادي.
مطلب في قصة قوم صالح عليه السّلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات :
قالوا إن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السّلام لما نجوا من العذاب جاء إلى بئر من أرض اليمن في سفح جبل عليه قصور.
ولما حضروا فيها مات صا ؟
عليه السّلام فسميت تلك البلدة (حضرموت) وكذلك لما قلبت المؤتفكة ومن أهلها مئة نسمة سميت (سلمية) وكذلك لما حل نوح عليه السّلام ومن معه أرض الجزيرة قرب الجودي وكانوا ثمانين نسمة بنوا قرية هناك فسميت قرية الثمانين ولما هاجر من العرب مئة نسمة إلى أراضي ماردين أنزلوهم بمحل سموه (محلمية وأطلق عليهم هذا الاسم حتى الآن ، أما بعلبك فسميت باسم الصّنم (بعل) وصاحبه (بك) ثم انهم بعد موت صالح بنوا بلدة هناك سموها حاضوراء فاقاموا ؟
وغنوا وكثروا ، ثم بغوا وعبدوا الأصنام ، فأرسل اللّه إليهم حنظلة بن صفوان(6/180)
ج 6 ، ص : 181
فقتلوه ، فأهلكهم وعطل بئرهم وقصورهم ولم يبق منهم أحدا كما ذكر اللّه القائل «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» هؤلاء الّذين لا يؤمنون بك يا محمد فينظروا إلى آثار الأمم المهلكة قبلهم بسبب تكذيبهم أنبيائهم «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها» كيفية إهلاكهم وسببه «أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» ما كان منهم وما وقع من أفعالهم وما كانوا يعاملون به أنبياءهم من الجفاء والإهانة فيتذكرون ويتعظون ويعتبرون ، ولكن لو فعلوا ذلك لم ينفعهم لأنهم لم يوفقوا للخير لسابق شقائهم «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ» عن الرّؤية لتلك الآثار ولو عميت فإن عماها لا يضر في الدّين ولا يمنع التفكر والتذكر «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46) فهي التي عماها يضرّ في ذلك ويمنع من الاعتبار ولهذا فلا تنفعهم الذكرى.
تشير هذه الآية الجليلة إلى أن هؤلاء عمي القلوب ويقال عمه القلوب بالهاء لا ينتفعون بشيء من الآيات لأن ما تراكم عليها من صدأ الكفر وظلمته حال دون النّظر إليها والتفكر بها من الأبصار التي في الرّأس لأنها لا تفيد بلا بصيرة قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ» يا سيد الرّسل «بِالْعَذابِ» الذي تعدهم به وتهددهم بعظمه فقل لهم إنه لآت لا محالة ، لأنه مما وعد اللّه «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» لأنه مقدر عنده إلى يوم وأيّام اللّه طويلة ليست كأيامكم «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (47) وأيّام العذاب من هذا القبيل ترى طويلة لشدة ما يقاسيه العذاب ، فلا تستعجلوا بطلبه وكيف تريدون أن ينزل بكم وأنتم تعلمون أن أيّام الشّدة في الدّنيا طويلة على ما تعلمون من قصرها وانتهائها ، فكيف بأيام الآخرة التي لا غاية لها معلومة ، فانتظروا ولا تغتروا بالإمهال «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ» فأدررت عليها الرّزق والولد والجاه لتستدرج لما هي عليه من الشّر لأنها خلقت شريرة لا ينفعها النصح ، فاغترت وتمادت بالعصيان ، حتى ظنت الإهمال لطول الإمهال ، وإنها لم تؤخذ «ثُمَّ أَخَذْتُها» على غرّة «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (48) لا إلى غيري مهما طال أمدهم وأمهلهم ، ترمي هذه الآية إلى تحذير الأمة من التمادي في المعاصي ، وعدم الاغترار بما يملي لهم.
وهم ما هم على ما هم عليه ، وإنها إذا لم ترجع إلى الحق(6/181)
ج 6 ، ص : 182
يكون مصيرهم مصير من قبلهم.
ألا فليقلع الظّالم عن ظلمه ويتيقن أنه مهما طال أجر وإمهاله فإنه لا يمهل ويؤخذ على غفلة فيخسر الدّنيا والآخرة ، لأنّ عمله في الدّنيا لم يقصد به وجه اللّه ، ولم يطلب به مرضاته ، ولم يتصرف بما من اللّه عليه بما يرضيه.
فيا أكمل الرّسل «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (50) ما أرسلت به إليكم ومبلغ لا مسيطر ولا جبار ولا مكره «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» منكم في هذه الدّنيا «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوب السابقة «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (50) في الجنّة بالآخرة جزاء أعمالهم الطّيبة
«وَالَّذِينَ سَعَوْا» أفسدوا «فِي آياتِنا» المنزلة على رسولنا «مُعاجِزِينَ» مثبطين النّاس عن الإيمان بها ، ما نعيهم عن سماعها ، مشاقين لها ، معاندين لقدرتنا ، ظانين لا نطيق صدهم في الدّنيا وتعذيبهم في الآخرة «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (51) فليفعلوا ما يشاؤون في هذه الدّار الفانية ، ومرجعهم إلينا في الآخرة الباقية ، وهي أول الآيات المكيات في هذه السّورة ، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى» قرأوا عليه قوله :
تمنى كتاب اللّه أو ليلة تمنى داود الزبور على رسل
وقال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) أي قراءة راجع الآية 78 من سورة البقرة المارة فلا ينظرون المعنى وإنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمني حصولها له ، وإذ انتهى إلى آية عذاب :
عفوه منها.
والتمني نهاية التقدير ، ومنه المنية وهي الموت باليوم المقدر والأمنية الصورة الحاصلة بالنفس من التمني ، وتكون بمعنى حديث النّفس أي خطر وتمنى بقلبه وهو المراد هنا واللّه أعلم.
ومما يؤيد هذا المعنى قوله جل قوله «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» أي مخيلته النّفسية مما يخطر بباله «فَيَنْسَخُ اللَّهُ» يمحو ويزيل ويعدم وينسى «ما يُلْقِي الشَّيْطانُ» من تلك التمنيّات الحاصلة في الصّورة النفسية بأن يبطلها ويذهبها حتى لا يبقى لها أثرا في تلك التصوّرات «يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ» يثبتها ويحفظها من الإلقاءات الشّيطانية والتسويلات النّفسية ، فلا يلتحق(6/182)
ج 6 ، ص : 183
بها ما ليس منها لسابق عهده تعالى بحفظ القرآن من غيره ، راجع الآية 9 من سورة الحجر المارة في ج 2 وما ترشدك إليه من المواقع «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما أوحاه لرسوله يحميه من خلط الشّيطان «حَكِيمٌ» 52 في تمكين آياته وصوتها من غيرها وفي امتحان عباده بها.
واعلم أن ذلك الإلقاء والنّسخ والإلهام ما هو إلا «لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً» محنة وبلاء واختبارا وامتحانا «لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة فتأخذهم أهواءهم غير مأخذ لخبثها «وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ» عطف على الّذين في قلوبهم مرض يريد بهم المشركين الجافية قلوبهم عن قبول الحق ليزدادوا شبهة ومرية فيه وشكا وريبا فيمن أنزل عليه وكفرا وجحودا بمن أنزله «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ» من هؤلاء الكفرة «لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» (53) عن الحق «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» باللّه ورسوله وما أنزل عليه «أَنَّهُ الْحَقُّ» الصريح والصّدق البالغ منزل عليك يا سيد الرّسل «مِنْ رَبِّكَ» الذي رباك وشرفك في هذه الرّسالة وهذا القرآن العظيم ، ذلك الإله الذي أحكم آياته وصانها عن غيرها وهذه الجملة معطوفة على جملة ليجعل ، ثم فرّغ عنها قوله «فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ» تطمئن وتسكن وتخضع وتخشع «لَهُ قُلُوبُهُمْ» فيذعنوا له ويعلموا أنه الحق فيهتدوا به «وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (54) عدل سوي لا يميلون إلى غيره ولا ينحرفون عنه ولا يشكون فيه «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ».
وشك فيمن جاءهم به وريب من إنزاله ومنزله «حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ» التي يموتون بها «بَغْتَةً» لا تمهلهم طرفة عين ليتمكنوا من الرّجوع عن كفرهم وشكهم «أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» (55) لا ليلة بعده ولا له مثل وهو يوم القيامة.
ولا وجه لمن قال أن في جعل اليوم يوم القيامة تكرارا لأن المراد بالساعة هو يوم القيامة ، ولأن السّاعة وقت يوم كلّ أحد ، ولأن اليوم الذي ذكر فيه العذاب ، ولأن السّاعة من مقدمات القيامة واليوم يومها ، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) هذا واللّه أعلم.(6/183)
ج 6 ، ص : 184
مطلب قصة الغرانيق وإثبات وضعها وما جاء فيها بالكتاب والسّنة والإجماع والقياس والعقل :
وقد نزلت هذه الآيات الأربع بمكة بعد سورة والنّجم كما أوضحناه بآخرها في ج 1 وسبب نزولها هو تسلية الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم عما أشاعه قومه من ذكر أصنامهم وتذكير له بأن السّعي لإبطال آيات الأنبياء أمر معهود من قبل لوقوعه مع الأنبياء السالفين ، وانه سيء مردود وهباء لا بقاء له ولا أثر ، واعلام بأن الأنبياء هو ومن قبله عليهم الصّلاة والسّلام إذا قرأوا شيئا من آيات اللّه ألقى الشّيطان بحسب طبعه وجبلّته الشّبه والتخيلات فيما يقرؤونه على اتباعه الخبثاء النّفوس مثله ليجادلوا به بالباطل ، ويردوا ما جاء به الرّسل قال تعالى (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الآية 121 من سورة الأنعام وقال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية 141 منها أيضا ج 2 وقال تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الآية 32 من الفرقان ج 1 ومن ذلك قولهم عند سماعهم قول اللّه تعالى بتحريم الميتة انظروا كيف يحرم ذبيحة اللّه لأنه هو أماتها ، فكأنه ذبحها ويحل ذبيحة لنفسه وغيره.
وعند سماعهم قوله جل قوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية 99 من الأنبياء المارة في ج 2 يلقون في قلوب أوليائهم أن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا من دون اللّه ، وان محمدا يعدّهم من حصب جهنم ، راجع تفسير هذه الآية واخساء ابن الزبعري فيها.
وعلى هذا يحرز أنه صلّى اللّه عليه وسلم عند ما قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الآية 19 من سورة النّجم المذكورة آنفا وكان صلّى اللّه عليه وسلم يرتل القراءة ويفصل بين الوقفات بسكنة قصيرة فترصد الرّصاد الملعون تلك الفواصل ، قدسّ الكلمات المشهورة المبينة هناك بين سكتاته محاكيا صوته عليه السّلام وألقاها في أذن أوليائه الكافرين فطبعت في قلوبهم الميّالة لها ، فظنوها من قراءته صلّى اللّه عليه وسلم فراقت لهم ، ولذلك لما سجد صلّى اللّه عليه وسلم سجدوا كلهم معه تبعا لأصحابه عند قراءة آية السّجدة من السّورة المذكورة ، ولم يقدح هذا السّجود بالمسلمين لأنهم لم يسمعوا ما سمعه الكفار ، وإنما سمعوا السّجدة فسجدوا كعادتهم(6/184)
ج 6 ، ص : 185
وكانوا عارفين ما يتلى عليهم لأنهم يصغون لكلامه بكليتهم ليحفظوه عنه ، وهم يعرفون كراهية الأصنام من حال الرّسول وذمّه لها وتحقيرها وأهلها ، فلا تخطر ببالهم ، وهذا أحسن ما قيل في هذا الباب وأصدقه وأحقه.
وما قيل إنه صلّى اللّه عليه وسلم نطق بتلك الكلمات سهوا أو خطأ أو نسيانا أو أنه تمنى أن ينزل عليه مدح آلهتهم فممتنع قطعا وحاشاه من ذلك ، وساحته براء مما هنالك ، ولا يوجد دليل أو أمّارة يميل إليها الفطن أو برهان أو إشارة ينحاز إليهما الفكر ، لأنه عليه الصّلاة والسّلام معصوم ومنزه عن أن يقول أو يخطر بباله أو يتصور بخياله شيئا من ذلك ولا يتقول بهذا القول ويزعم وقوعه منه إلّا منافق زنديق كافر ، ولا ينقل هذه الترهات إلّا من لا نصيب له من الهداية ، ولا يصغي إلى هذه الخزعبلات إلّا أهل الشكوك الّذين في قلوبهم مرض ، إذ لم يرد نقل أو خبر أو سند صحيح أو ضعيف أو غريب بذلك ليطمئن أو يركن إليها أو رواية يمكن أن يستند لها أصلا ، ويدلك على اختلافها اختلاف الرّوايات.
ومباينة الأقوال ومناقضة الأخبار وضعف ناقليها واضطراب رواتها وانقطاع أسنادها وتضارب عباراتها وتلفيق ألفاظها بصورة لا تقبل التأويل ولا التأليف أبدا ، وهذا كاف لردّها وإنكارها.
هذا وما قاله بعض العلماء بأن هذه الآيات الأربع نزلت بين مكة والمدينة بعيد عن الثبوت إذ لا مناسبة بينهما وبين ما وقع في الطّريق أثناء الهجرة ، وكذلك لا يصح القول بأنها نزلت يوم بدر لأنه لا يجوز أن يقول اللّه تعالى (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الآية المارة ، لأنه من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر كما أن ما جاء في تفسير بعض المفسرين بأن هذه السّورة مكية عدا الآيات الخمس 12 و13 و40 و41 و78 والآيات من 20 إلى 25 غير سديد لأن الحج لم يفرض بمكة والحوادث المشيرة إليها بعض الآيات منها لم تقع في مكة ، ومن المعلوم أن كل ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا ، كما أن كلّ ما نزل قبلها يسمى مكيا.
واعلم أن السّبب الدّاعي لعدّها مكية بدؤها
بيا أيها النّاس ، وتكرار هذه اللّفظة بها أربع مرات ، وإن هذه من مميزات المكي على المدني على أننا أشرنا في المقدمة بان المكي لا يوجد فيه يا أيها الّذين آمنوا البتة ، والمدني لا يخلو من لفظ يا أيها النّاس ، (6/185)
ج 6 ، ص : 186
واشارة بعض الآيات إلى أحوال أهل مكة ، وإلّا في الحقيقة هي مدنية عدا الآيات الأربع التي نحن بصددها ، وأنهن على القول نزلن بعد سورة النّجم كما أشرنا إليه آنفا في هذه السّورة وفي سورة النّجم أيضا ، كما هو الواقع واللّه أعلم.
قال تعالى «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم العقيم الذي لا ليل بعده ولا يوم من أيّام الدّنيا «لِلَّهِ» وحده ، وهو قبل ذلك اليوم كله للّه أيضا ، إلا أن ملوك الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا ، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه ، إذ يكونون الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا ، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه ، إذ يكونون مملوكين فيه للّه هم وما ملكوا كما كانوا في الدّنيا في الحقيقة هكذا مملوكين للّه الذي «يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» في ذلك اليوم العظيم.
ثم بين نتيجة هذا الحكم بقوله عز قوله «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (57) هذا وقد أشبعنا هذا البحث في سورة النّجم ، وأثبتنا أن القول بغير ما ذكرناه باطل موضوع فراجعه تعلم ان القرآن والسّنة والإجماع والقياس والعقل يأبونه ، أما القرآن فلقوله تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الآيتين 44 و45 من سورة الحاقه في ج 2 وقوله تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) الآية 5 من سورة يونس ج 2 أيضا وقوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) الآيتين 4 و5 من سورة النّجم في ج 1 فلو قرأ صلّى اللّه عليه وسلم تلك الكلمات لظهر الكذب في الحال ، وهذا لا يقوله مسلم وقوله تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) الآية 174 وقوله (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) الآية 75 من سورة الاسراء وكلمة كاد عند البعض بمعنى قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل ، وكلمة لو لا تفيد انتفاء الشّيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الرّكون لم يحصل أيضا ، وقوله تعالى (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) الآية 32 من سورة الفرقان في ج 1 وقوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) الآية السّابعة من سورة الأعلى ج 2 ، فكيف بعد هذا يتصور منه النّسيان في تبليغ الوحي ، وقد نفاه اللّه عنه وأخبر بنثبيت فؤاده بما يوحيه إليه.
وأما السّنّة(6/186)
ج 6 ، ص : 187
فمنها ما روي عن محمد بن اسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتابا وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النّقل وأن رواتها مطعون فيهم.
وقد روى البخاري في صحيحه أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قرأ سورة والنّجم وسجد فيها وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق ، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق ، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة وليس فيها حديث الغرانيق البتة.
وأما العقل فمن المعلوم ضرورة أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان أعظم سعيه في تبكيت الأصنام والأوثان وأن نسبة ما ذكر إليه صلّى اللّه عليه وسلم يوجب تعظيمها ومن جوز عليه تعظيمها فقد كفر ، لأنه بعث لرفعها من على وجه الأرض وقتل من يعبدها إذ لو جوز ذلك عليه صلّى اللّه عليه وسلم لارتفع الأمن عن شريعته ، ويجوز أن يكون مثل ذلك في جميع الأحكام والشّرائع وهو باطل لا يجوز في شيء منها وحينئذ يبطل حكم قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية 70 من سورة المائدة الآتية إذ لا فرق عقلا بين نقصان الوحي والزيادة فيه ، وإن الإجماع فقد أجمع على هذا الأولون والآخرون والقياس يأبى عدمه.
فبهذا وبما ذكرناه في الصّفحتين المارتين وما أثبتناه في سورة والنّجم يثبت وضع هذه القصة التي ذكرها بعض المفسرين بناء على خبر الواحد الذي لا يعارض هذه الدّلائل النّقلية والعقلية المتواترة هذا واللّه أسأل ونبيه أتوسل أن ينقي قلوب هذه الأمة المحمدية من كلّ ما يضرها في الدين والدّنيا والآخرة ، ويثبت عقيدتها في دينها القويم انه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير.
لما قال بعض أصحاب رسول اللّه قد علمنا ما اعطى اللّه الشّهداء ونحن نجاهد معك ، فإذا لم نقتل ومتنا حتف أنفسنا فمالنا عند اللّه غير سعادة الدنيا أنزل اللّه قوله «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً» في
الآخرة «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (58) لأن رزق النّاس بعضهم بعضا ورزق السّلطان أعوانه وجنوده له نهاية ، ورزق اللّه عباده دائم لا من فيه.
ورزق هؤلاء بعضهم بعضا على طريق المجاز لأن الرّازق الحقيقي هو اللّه الذي سخر بعضهم لبعض.
ثم أقسم جل قسمه(6/187)
ج 6 ، ص : 188
«لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ» ويسرون منه ، إذ لم يروا مثله ولا ينالهم فيه مكروه ولا يحتاجون لاحد يتوسط لهم به ، ولا كلفة بتناوله «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ» بنيات هؤلاء المجاهدين المهاجرين الذي سيعطيهم هذا الجزاء الجزيل «حَلِيمٌ» 59 بإمهال من قاتلهم عنادا على ما هم عليه من الحق «ذلِكَ» الأمر الذي قصصناه عليك يا سد الرّسل هو الحق الذي لا مرية فيه «وَمَنْ عاقَبَ» غيره «بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ» بأن أوقع على من ظلمه بمثل ما وقع منه «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ» بعد ذلك الاقتصاص الذي لا جناح عليه بفعله بمقتضى قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من البقرة المارة وقوله جل قوله (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 43 من سورة الشّورى ج 2 «لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» لأنه مظلوم حق على اللّه نصرته «إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ» عما فعل بمن اعتدى عليه على طريق المقابلة ، لأن ذلك حقه قد رخص اللّه له استيفاءه منه «غَفُورٌ» 60 لأمثاله المؤمنين لأخذه بالرخصة التي منحه اللّه إياها ، وعدم أخذه بالعزيمة ، وجنوحه للأخذ بالرخصة فعل لا مؤاخذة عليه ولا عتاب.
«ذلِكَ» نصر اللّه للبغي عليه «بِأَنَّ اللَّهَ» الذي «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» قادر على نصرته مهما كان ضعيفا وخصمه قويا.
والإيلاج إدخال الشّيء بالآخر مع اضمحلال المدخول فيه ، لأن الليل إذا دخل على النّهار صار ضياءه ظلاما وكذلك النّهار إذا دخل على اللّيل صيّر ظلامه ضياء ، بحيث لا يبقى للمدخول عليه أثر ، ويحصل من هذا الإيلاج الزيادة والنّقص فيهما ، وهذا لا يقدر عليه إلّا اللّه «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» بكل ما يقع في كونه «بَصِيرٌ» (61) بجميع المبصرات ومن جملتها قول المعاقب وفعله «ذلِكَ» الإيلاج البديع بذلك أيها المفكر المعتبر المتعظ «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» المستحق للعبادة وحده لا شريك له الواجب الوجود الممتنع النّظير «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» من الأوثان «هُوَ الْباطِلُ» المفترى من اختلاق قليلي العقول «وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» (62) في سلطانه وبرهانه ونظير هذه الآية الآية 30 من سورة لقمان ج 2.(6/188)
ج 6 ، ص : 189
مطلب تعجيب اللّه رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشّرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة.
قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ» أيها الإنسان العاقل «أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» بالنبات من بعد ما كانت يابسة قاحلة من غير فعل أحد في بذره وحرثه ومناظرته «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» بإخراجه وجعله رزقا لمخلوقاته «خَبِيرٌ» 63 بالنافع منه للإنسان والحيوان والضّار منه لهما وحاجتهما إليه «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبما فيهما كيف يشاء وكلهم محتاج إليه «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ» عنهم «الْحَمِيدُ» 64 بإنعامه على عباده ومخلوقاته كلها ، المستحق لأنواع الحمد بآلائه المتواترة عليهم ، ولا غنى لهم عنه «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ» أيها النّاس (ما فِي الْأَرْضِ) من الدّواب والمعادن وغيرهما «وَالْفُلْكَ» سخرها لكم «تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» على الماء بالرياح وسخر لكم ما في بطنه من الأسماك والجواهر «وَيُمْسِكُ السَّماءَ» بقدرته البالغة من «أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا» إذا أراد وقوعها فإنها تقع «بِإِذْنِهِ» عند خراب هذا الكون بالوقت المعين له عنده ، راجع أول سورة الانفطار المارة في ج 2 «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (65) بالغ الرّحمة بعباده.
وفي هذه الآية ردّ على من يقول إن السّماء متمسكة بنفسها أي بذاتها لأنها كسائر الأجرام بالجسمية فتكون قابلة للميل الهابط كقبول غيرها وليس كما زعم بل هي ممسكة بامساك اللّه إياها ، راجع الآية 42 من سورة فاطر في ج 1 وهي نظير هذه الآية في المعنى ، واللّه أصدق القائلين وهو أعلم بما يقول.
وما يقوله الغير في هذا الهيكل العلوي وما فيه من الكواكب ما هو إلا عن ظن وتخمين لا عن حقيقة راهنة.
قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم بعد أن لم تكونوا شيئا «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم في الدّنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا يوم القيامة بعد انقضاء أمد وجودكم في البرزخ «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» 66 لهذه النّعم كثير الجحود لها وما ينبغي له ذلك قال تعالى «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً» مذهبا وطريقة وشريعة «هُمْ»(6/189)
ج 6 ، ص : 190
أهل هذا المنسك المخصّص لهم لا بد «ناسِكُوهُ» مقتفون أثره وعاملون به ومقيدون بما فيه دون الأمم الأخرى ، لأنه تعالى شرع لعباده شرائع على لسان رسله ليتعبّدوا بها لا ليجادلوا ويخاصموا من أجلها ، فالأمم التي قبل موسى منكم صحف إبراهيم ومن قبله ، ومن موسى إلى عيسى منسكهم التوراة ، ومن عيسى إلى محمد التوراة والإنجيل المعدل لبعض أحكامها ، ومن بعثة محمد صلّى اللّه عليهم أجمعين وسلم إلى يوم القيامة منسكهم القرآن يعملون به دون غيره.
قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية 52 من المائدة الآتية «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» يا سيد الرّسل أهل الكتابين الموجودين في زمنك بأن شريعتهم ما كان عليه آباؤهم لأن كلّ شريعة تنتهي بإنزال ما بعدها من الشّرائع السّماوية على لسان رسل اللّه ، بنقض العمل بها عند ما تحل محلها شريعة إلهية أخرى ، فشريعتهم لمن كان قبل بعثتك وقد نسخت بشريعتك التي نسخت كلّ الشّرائع المخالفة لها سواء بالذبائح المعبر عنها بالنسك أو غيرها ، وقد جاءت جامعة لأصول وفروع جميع الشّرائع ، حاوية لأحسنها.
قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة المارة «وَادْعُ» يا سيد الرّسل جميع النّاس إلى شريعتك هذه ، لأنا أرسلناك إليهم كافة ، راجع الآية 39 من سورة سبأ ج 2 وما ترشدك إليه من المواقع وأمر النّاس كافة بالإخلاص «إِلى رَبِّكَ» بان يطيعوك ويعملوا بما أنزل عليك وعزتي وجلالي «إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» (67) وهم على ضلال معوج في نزاعك «وَإِنْ جادَلُوكَ» بعد ما تبين لهم هداك وأصروا على منازعتك في أمر الدّين «فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» (68) من مخالفتي مع علمكم أني على الحق ، وإذا أصروا على جدالهم فأعرض عنهم ، وقل «اللَّهُ يَحْكُمُ» بَيْنَكُمْ» وبيننا وبين الخلق أجمع «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (69) وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل.
ولا نسخ في هذه الآية لأن اللّه تعالى لم يأمر نبيه بقسر أهل الكتابين على قبول دينه ، بل بالاكتفاء بأخذ الجزية منهم وقد ضربها عليهم ولم تزل تؤخذ منهم إلى يوم القيامة ، لأن الأتراك المسلمين لا يزالون يتقاضونها منهم ، وهكذا بعض ملوك المسلمين ، أما ما يقع(6/190)
ج 6 ، ص : 191
في تنفسات الزمن من إعفاء بعضهم من ذلك وحمايتهم من قبل الغير فلما انقضاء عند ما يعود المسلمون إلى التمسك بدينهم وينبذون التقاليد الأجنبية ويوحدون كلمتهم.
قال تعالى «أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» كلية
وجزئية جلية وخفية «إِنَّ ذلِكَ» العلم مثبت «فِي كِتابٍ» عظيم عند اللّه تعالى هو الوجه المكنون الحاوي على ما كان وسيكون قبل كونه «إِنَّ ذلِكَ» العلم العظيم جميعه «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (7) سهل كعلم شيء واحد
«وَيَعْبُدُونَ» بعض خلقه مع علمهم بأن شيئا لا يستحق العبادة غيره وأن لا ربّ على الحقيقة سواه «مِنْ دُونِ اللَّهِ» الجليل الذي خلقهم وسواهم وعلمهم «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» عليهم من حجة أو برهان أو دليل أو أمارة «وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» أن يعبد بل جهل مركب ، لأنهم يزعمون ما يعبدونه من الأوثان يشفع لهم عند اللّه يوم القيامة وينصرهم في الدّنيا من النّاس «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» (71) ينصرهم من عذابه إذا حل بهم في الدّنيا والآخرة.
وإنما سماهم ظالمين لظلمهم أنفسهم بذلك الاعتقاد فيما تعمله أيديهم من الأصنام.
قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ» عند سماع تلاوتها أي تظهر على وجوههم علائم الكراهة فتراها عابسة مكفهرّة «يَكادُونَ يَسْطُونَ» يثبون ويبطشون «بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا» أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ والحنق عليهم ، وهذه حكاية حال من أحوال بعض الكفرة المشركين وكفرة أهل الكتابين القائلين بنبوة عزير وعيسى وآلهتهما والملائكة وكونه ثالث ثلاثة «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ» لكم «مِنْ ذلِكُمُ» الخير الذي تكرهونه الآن وتعرضون عن سماعه هو «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أمثالكم فهي مصيركم ومصيرهم «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (72) هي لمن يصير إليها «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ» حال مستغربة جديرة بأن تسمى مثلا تشبها ببعض الأمثال السّائرة «فَاسْتَمِعُوا لَهُ» وأصغوا إليه وتدبروه واعقلوه ، وهو أن المشركين جعلوا لي شبيبة إليه إذ قد «ضَعُفَ الطَّالِبُ» الذباب السّالب «وَالْمَطْلُوبُ» 73 المسلوب منه وهي أوثانهم لأن منها ما هو جماد وهو أضعف من الذباب بدرجات كثيرة وعابدوها أجهل من كلّ جاهل داخل من كلّ مثال ، لأن الذي لا يحمي نفسه من الذباب كيف تطلب منه الحماية ، وكيف يعبد ، وكيف يرجى منه جلب نفع أو دفع ضر ؟ وإن كان حيوانا فهو كذلك أيضا بل أكثر شرا لاحتياجه للأكل والشّرب والحراسة ، وإن كان إنسانا فكذلك ، لأنه لا يقدر أن يحرس نفسه من أقدار اللّه ولا يتحرك إلّا بإذن اللّه وإرادته ، وهو متبرئ من عبادتهم ، وان اللّه خالقهم وخالق كلّ شيء ، أفلا يعبدونه مع كمال عظمته وبالغ قدرته ويركنون إليه عند حاجتهم في الشّدة والرّخاء ، ولهذا فاتركهم يا سيد الرّسل فإنهم جهال «ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ولا عرفوه حق معرفته ولا مجدوه حق تمجيده وما علموا
غاية قبح فعلهم إذ أشركوا به وسموا باسم ما هو أبعد الأشياء عنه ، تقدم مثل هذه الجملة في الآية 68 من سورة الزمر والآية 91 من الأنعام ج 2 ولفظ الذباب لم يكرر في القرآن «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ» على خلق الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات كلها «عَزِيزٌ» 74 غالب قاهر لجميع الأشياء وهذه الجملة تعليل لما قبلها من نفي معرفتهم له تعالى.
قال ابن عباس كانوا يطلبون الأصنام طيبا فيقع الذباب عليها فيسلبها طيبها فلا تقدر على منعه ولا يقدر الكفرة حراسها على استرداد ما سلبه منها فكيف يقدرون على خلقه ، ثم ساق حكاية أخرى من أحوال الكفرة من قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) الآية 22 من سورة الفرقان ج 1 وقولهم (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) الآية 31 من سورة(6/191)
ج 6 ، ص : 192(6/192)
ج 6 ، ص : 193
المؤمنين ج 2 وهي مكررة كثيرا في القرآن ، فأخبرهم اللّه بمعرض الرّد عليهم بأنه يجتبي من هؤلاء وهؤلاء ما يشاء بقوله «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» كجبريل وإخوانه «وَمِنَ النَّاسِ» رسلا أيضا كمحمد وإخوانه عليهم الصّلاة والسّلام ومن قبلهم ممن شاء وخصته السّعادة ولهذا لا يعبا بأقوالهم التافهة «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لها وعالم بوقوعها منهم قبل خلقهم «بَصِيرٌ» بمن يختصه للملكية والرّسالة.
قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 135 من الأنعام ج 2 وهو
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» وجميع ما هو كائن وما سيكون من رسل الفريقين والمرسل إليهم أجمع «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (73) كلها ويحاسب أهلها عليها قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» بجميع أنواعه وأصنافه وأجناسه قولا وفعلا ونية «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (77) فتفوزون بأنواع الخير عند اللّه في الدّنيا والآخرة.
واعلم أن الخير كله مجموع في أربعة : النظر والحركة والنّطق والصّمت ، فكل نطق لا يكون في عبرة فهو غفلة ، وكلّ حركة لا تكون في عبادة فهي فترة ، وكلّ نطق لا يكون في ذكر فهو لغو ، وكلّ صمت لا يكون في فكر فهو سهو.
هذا وتقدم البحث فيما يتعلق بالسجود في الآية 15 من سورة الرّعد المارة ، وفيها ما يرشدك لبحثه في غيرها.
واعلم أن السّجدات المتفق عليها في القرآن العظيم أربع عشرة ليس منها هذه ، والسّجود فيها واجب وقال بعض الأئمة بسنية السّجود عند تلاوة هذه الآية مستدلا بما أخرجه الترمذي وأبو داود عن عتبة بن عامر قال قلت يا رسول اللّه أفي الحج سجدتان ؟ قال نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما.
وأخرج مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قرأ الحج فسجد فيها سجدتين ، وقال ان هذه السّورة ، فقلت بسجدتين وناهيك به قدوة ، وقد أخذ بهذا الشّافعي رحمه اللّه وقال أبو حنيفة ومالك والحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري إنها سجدة صلاة بدليل اقترانها بالركوع ، ولو كانت سجدة تلاوة لما اقترنت به كسائر سجدات القرآن ، وقد مرت السّجدة الأولى في الآية 16 منها قال تعالى «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ» بأن تستفرغوا جهدكم تبذلوا طاقتكم(6/193)
ج 6 ، ص : 194
ووسعكم فيه.
ومن الجهاد أن لا يخاف الرّجل في قول الحق لومة لا ثم وتقدم بيان فضله في الآية 191 من سورة البقرة «هُوَ اجْتَباكُمْ» أيها النّاس واختاركم لدينه وخدمته ، والاجتباء رتبة عظيمة ومنقبة كريمة خصنا اللّه بها ، فهي سعادة ما فوقها سعادة ، قال الأبوصيري :
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركنا غير منهدم
وهذا الاختيار من عناية اللّه تعالى بهذه الأمة ومن عنايته اختيار محمد صلّى اللّه عليه وسلم رسولا لنا واختيارنا لشريعته ، ولهذا قال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 110 من آل عمران والحمد للّه على أفضاله وعلى هذه المزية الكريمة والمنحة المثلى ، وعلى قوله جل قوله «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» لأنها ميزة جليلة لنا أيضا إذ لم يصيق وبشدد علينا فيما عرضه ، بل رخص وسهل ، ويسر عليكم أيها المؤمنون في صومكم وصلاتكم وحجكم وزكاتكم وتوبتكم وطهارتكم وجعل ملّتكم «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» سمحة نقية وهذا الخليل جدكم «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» (78) لقوله تعالى حكاية عنه وعن ابنه إسماعيل عليهما الصّلاة والسّلام.
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) الآية 138 من البقرة وهذه التسمية ثابتة لكم «مِنْ قَبْلُ» في الكتب المتقدمة «وَفِي هذا» القرآن لأنها مذكورة في اللّوح المحفوظ ، ولهذا فضلكم على سائر الأمم وجعل دينكم الإسلام وسماكم المسلمين «لِيَكُونَ الرَّسُولُ» محمد صلّى اللّه عليه وسلم «شَهِيداً عَلَيْكُمْ» يوم القيامة بأنه بلغكم رسالته «وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» بأن الرّسل بلغو أممهم رسالات ربهم بناء على أخبار نبيكم لكم في كتابكم واخباره حق أكثر من المشاهدة وأقوى ، لأن العين قد تخطئ المبصر فلا تعرفه حقيقة ، والرّسول لا يخطى في التبليغ البتة لعصمته من قبل اللّه تعالى ، وهذا من المخصوص ، لأن الشّهادة لا تكون إلّا في هذا عن الغيب ، وقد تكون على السّماع في أمور مخصصة أيضا كما أشرنا إليها في الآية 143 من سورة البقرة المارة «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» في كلّ أموركم وثقوا بما وعدكم به على لسان رسولكم «هُوَ مَوْلاكُمْ» وناصركم وحافظكم لا مولى لكم غيره «فَنِعْمَ الْمَوْلى » هو(6/194)
ج 6 ، ص : 195
لمن يتولى أموره «وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (79) لمن يفوض أمره إليه ، فإنه ينصره ويسدد أموره ويسبغ عليه رحمة ويمده من فضله ويوفقه لما به صلاحه ونجاحه.
ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة المنافقين
عدد 18 - 104 - 63 نزلت بالمدينة بعد سورة الحج.
وهي إحدى عشرة آية ، وثمانون ومئة كلمة ، وتسعمائة وستّ وسبعون حرفا.
وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت به في سورة الانفطار ج 2 ومثلها في عدد الآي العاديات والقارعة والضّحى والجمعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «إِذا جاءَكَ» يا محمد «الْمُنافِقُونَ قالُوا» لك بلسانهم «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» حقا بما علمنا في كتبنا فلا تعبأ يا حبيبي بقولهم هذا ، ولا تصغ لشهادتهم ، وقل لهم إني رسول اللّه إن شهدتم وإن لم «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» فأنت في غنى عن شهادتهم الكاذبة الصّورية «وَاللَّهُ» الذي أرسلك بشيرا ونذيرا لخلقه كافة «يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ» الّذين جاءوا إليك بشهادتهم عفوا «لَكاذِبُونَ» 1 في شهادتهم لأنهم أضمروا عكسها في قلوبهم وان من أخبر بشيء وهو معتقد خلافه فهو كاذب وإن هؤلاء المنافقين الّذين لا تتجاوز شهادتهم حناجرهم «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ» التي يحلفونها لك على صدق شهادتهم المزورة من قولهم لك قبل انهم لمنكم وانهم معكم وقولهم الآن نشهد والشّهادة يمين كلها «جُنَّةً» وقاية يتقون بها السّبي والجلاء والقتل وما يتخيلون إيقاعه بهم من قبلك وأصحابك «فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أنفسهم ومنعوا غيرهم من أتباعه «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (2) من الكذب والبهت والنّفاق والإعراض عن دين اللّه وصد النّاس عنه مع علمهم بأحقيته «ذلِكَ» إقدامهم على هذه الأعمال القبيحة «بِأَنَّهُمْ آمَنُوا» بألسنتهم فقط ولم يظهروا ايمانهم الا عند مشاهدة المؤمنين «ثُمَّ كَفَرُوا»(6/195)
ج 6 ، ص : 196
صرا بحضورهم وعلنا فيما بينهم «فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ» حتى لا يدخلها الإيمان الخالص جزاء إيمانهم المزيف «فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» (3) معنى ما يتلو عليهم الرّسول ولا يتدبرون مغزاه ، لأنهم لا يتلقونه عن قبول وإذعان ، بل عن ردّ واعتراض وإنكار وكراهية «وَ» هؤلاء الفجار «إِذا رَأَيْتَهُمْ» أيها الرّائي «تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ» طولا وامتلاء وحسنا وهيئة وقامة «وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» لما هم عليه من الفصاحة والمعرفة بمواقع الكلام ، ولكنهم في الحقيقة ليسوا بشيء «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام ، لأن الذي ترى منهم من البلاغة وحسن النّطق كله فيما يتعلق بأمور الدّنيا أما ما يتعلق بالدين وأمور الآخرة فهم عنه بمعزل قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، لأنهم متغلغلون فيها منهمكون في زخارفها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) لاهون عنها طارحوها وراءهم.
راجع هذه الآية 8 من سورة الرّوم ج 2 في بحث الغافلين عن الآخرة المنصرفين إلى الدّنيا فتراهم يا سيد الرّسل من حيث الدّين أشباه رجال كما يتخيل من سماة بعض المتعممين الّذين يقال فيهم :
يحسبه الجاهل ما لم يعلما شيخا على كرسيه معهما
وبعض الملتحين في القول فيهم :
ألا ليت اللّحى كانت حشيشا فنعلفها دواب المسلمينا
ومما يدلك على هذا أن الرّعب قد ملأ قلوبهم وصاروا بحيث «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» وانهم المرادون بها ويظنون منها إيقاع الشّر فيهم وتوقع الضّر بهم سواء كانت من ناشد ضالته أو ممن ندت له دآبة أو مناد في المعكر ، حتى أنهم من شدة خوفهم يلقون الخوف في غيرهم لسوء ما يراهم عليه من الاضطراب ، وهؤلاء الجبناء «هُمُ الْعَدُوُّ» اللدود لك ولأصحابك «فَاحْذَرْهُمْ» يا سيد الرسل ولا تأمنهم على شيء ولا تغتر بأيمانهم الكاذبة وإيمانهم الصّوري «قاتَلَهُمُ» اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (4) جملة تعجبية من أنواع افترائهم وانصرافهم عن الحق وإصرارهم على النّفاق «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ» ربه عما سلف منكم وأخلصوا إيمانكم له «لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» أمالوها إعراضا(6/196)
ج 6 ، ص : 197
عن سماع هذا القول «وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ» عما دعوا إليه أنفة منه «وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» (5) عن الإجابة إلى استغفارك مع أنك تدعوهم لخيرهم ، ولهذا فاتركهم يا حبيبي «سَواءٌ عَلَيْهِمْ» الأمر «أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» لأنهم خرجوا عن الطّاعة «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (6) الخارجين على رسولهم ودينهم.
راجع الآية 81 من سورة التوبة لآتية الدّالة على قطع أملهم والآيات قبلها وبعدها التي فضح اللّه بها أحوال المنافقين كلها ، فلم يبق لهم خصلة مكتومة من أفعالهم القبيحة تجاه الرّسول وأصحابه إلا أوضحها ، وهؤلاء «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ» لبعضهم ولمن هو على شاكلتهم «لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» من النّاس «حَتَّى يَنْفَضُّوا» عنه وقد خاب ظنهم فإن اللّه مغنيه عن نفقتهم وكيف يحتاج لهم : وللّه خزائن السّموات والأرض ، وبيده مفاتح الرّزق وهو مولاه يكفيه عن كلّ خلقه على رغم أنوفهم ، وكيف يحتاج إليهم وقد كلفه اللّه أن يجعل له جبال مكة ذهبا تلك الجبال التي شاهدناها التي سيكون لها شأن عظيم عند ترقي العلم الدّنيوي ويستخرج منها معادن إن لم تكن ذهبا تأتي بالذهب «وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ» (7) أن الأرزاق بيد اللّه يؤتيها من يشاء من عباده ويمنعها عمن يشاء «يَقُولُونَ» أيضا هؤلاء المنافقون «لَئِنْ رَجَعْنا» من غزوة بني المصطلق بطن من خزاعة بن جذيمة وهو المصطلق وتسمى غزوة المريسيع اسم لماء من مياههم وغزوة محارب وغزوة الأعاجيب لعظم ما وقع فيها كما سنقصها بعد «إِلَى الْمَدِينَةِ» وانتهينا من غزوتنا هذه «لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا» أي من المدينة يربدون أنفسهم قاتلهم اللّه «الْأَذَلَّ» يريدون حضرة الرّسول وأصحابه أذلهم اللّه ، وقد خسئوا وخابوا «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» لا لهم «وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» (8) ذلك لخبث عقيدتهم وسوء نيتهم.
مطلب غزوة بني المصطلق وما وقع فيها وما فاه به عبد اللّه بن سلول على حضرة الرّسول وأصحابه وما رده عليه ابنه :
وخلاصة هذه القصة هو أنه كان ضرار أخو جويرية أم المؤمنين بنت الحارث(6/197)
ج 6 ، ص : 198
بن أبي ضرار سيد بني المصطلق جمع جموعه لحرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولما بلغه ذلك خرج اليه بأصحابه رضي اللّه عنهم سنة ستّ من الهجرة لليلتين خلتا من شهر رمضان فلقيهم على المريسيع من ناحية قديد إلى السّاحل ، فتزاحم النّاس واقتتلوا فهزمهم اللّه وأمكن رسوله منهم واستاق أبناءهم ونساءهم وأموالهم غنيمة.
ومن وقائع هذه الغزوة التي وعدنا بذكرها آنفا ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال غزونا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقد بات معه أناس من المهاجرين حتى كثروا ، وكان منهم رجل لعاب فكسع أنصاريا ، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا ، وقال الأنصاري يا للأنصار ، وقال المهاجري يا للمهاجرين ، فخرج رسول اللّه فقال ما بال دعوى الجاهلية ، ثم قال ما شأنهم ؟ فأخبر بكسعة المهاجر للأنصاري ، فقال دعوها فإنها خبيثة.
وقال عبد اللّه بن أبي بن سلول قد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال عمر رضي اللّه عنه ألا أقتل يا رسول اللّه هذا الخبيث ؟ بارك اللّه فيك يا سيدي يا عمر كلما تكون قضية فيها ما يغضب اللّه ورسوله إلّا قوّم نفسه لينتقم للّه ورسوله.
راجع أول سورة الممتحنة المارة وقصة الفتح الآتية والآية 60 فما بعدها من سورة النّساء المارة ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لا يتحدث الناس إنه كان يقتل أصحابه ، أي لا تفعل حتى لا يترنم النّاس في ذلك فيقولوا إنه كان يقتل أصحابه إذ لا يعلمون أحقية القتل لمثله.
وفي رواية مسلم فقال لا بأس ، ولينصر الرّجل أخاه ظالما كان أو مظلوما ، أي إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره ، وزاد الترمذي ، فقال له ابنه عبد اللّه لا تنقلب حتى تقرّ أنك أنت الذليل ورسول اللّه العزيز ، ففعل.
وقد ذكرنا في الآية 43 من من سورة النّساء إن هذه الحادثة كانت سنة خمس ، والصّحيح سنة ستّ كما جاء هنا واللّه أعلم.
وروى البخاري ومسلم عن زيد بن أرقم قال خرجنا مع رسول اللّه في صفر أصاب النّاس فيه شدة ، فقال عبد اللّه بن سلول لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتى ينفضوا من حوله ، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأزل ، قال فأتيت رسول اللّه فأخبرته بذلك ، فأرسل إليه فسأله فاجتهد يمنه ما فعل ، فقالوا كذب زيد رسول اللّه ، قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة(6/198)
ج 6 ، ص : 199
حتى أنزل اللّه بتصديقي (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ثم قال دعاهم رسول اللّه ليستغفر لهم ، قال فلووا رؤوسهم ، قال أصحاب السّير جاء عبد اللّه رضي اللّه عنه بن عبد اللّه بن أبي بن سلول فقال لحضرة الرّسول إن كنت تريد قتله يا رسول اللّه فدعني آت لك برأسه ، لأن النّاس تعلم أني أبرّ النّاس به ، فإن قتله غيري يا رسول اللّه يصعب علي ما تلوكه بعد ألسنة النّاس ، وأنا ما أنا عليه من البر بالوالدين والغيرة على السّمعة ، لذلك يا سيدي أحشى أن لا تدعي نفسي أنظر إلى قاتله غيرة منها وخشية من تقول النّاس ، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النّار ، فقال له صلّى اللّه عليه وسلم بل لترفق به وتحسن صحبته ما كان معنا ، وقال أسيد بن حضير يا رسول اللّه ارفق به فوالله لقد جاء اللّه بك وقومه يعملون له التاج كي يتوجوه ، وأنه يرى أنك سلبته ملكه قال أصحاب السّير ولما قرب عبد الله بن أبي من المدينة وأراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله رضي اللّه عنه وأرضاه وقال له وراءك ، قال ويلك مالك ، قال واللّه لا تدخلها أبدا إلّا أن يأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأزل فشكاه إلى رسول اللّه ، فأرسل إليه أن خلّ عنه ، فقال إذا جاء أمر الرّسول فقم فدخل المدينة.
وقيل قالوا اذهب إلى رسول اللّه يستغفر لك ، فقال أمرتموني أن آمن فآمنت ، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت ، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد ، فأنزل اللّه هذه السّورة.
وذكر قصة المريسيع فيها لا يعني أنها نزلت بوقتها بل كانت في سنة ستّ كما ذكرنا وقد أنزل الله في هذه الغزوة فرض التيمم كما أشرنا إليه في الآية 42 من سورة النّساء المارة وأشار إليها جل شأنه في هذه السّورة كغيرها من القصص فإنها قد تقع في
زمن يخبر عنها في زمن آخر قبل وقوعها أو بعده أو زمنه ، كما أن أسباب النّزول كذلك ، فإنه قد يرافق الحادثة وقد يتقدمها أو يتأخر عنها.
قالوا ثم اشتكى عبد اللّه ولم يلبث إلّا أياما ومات على نفاقه كما سيأتي ذكره في الآية 84 من سورة التوبة الآتية إن شاء اللّه.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» (9) في الدّنيا بسبب عقلتهم وانهما كهم في حب أموالهم وأولادهم المؤدي إلى خسارتهم في الآخرة(6/199)
ج 6 ، ص : 200
قال تعالى «وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ» أيها النّاس «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» فيتعذر عليه الإنفاق في حياته وفيما يؤتى به يوم القيامة في الموقف ويسأل عن تقصيره هذا يعتذر «فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» ولم تمتني بغتة «فَأَصَّدَّقَ» بمالي على عيالك فلا يقبل منه ، لأنه أمهله أعواما كثيرة ولم يفعل وكان يمكنه التصدق قبل حلول أجله لو كان صادقا فيما يقوله ويتمناه ، وكان بوسعه التصدق ولكنه كان كاذبا يسوف طيلة السّنن التي قضاها حال صحته وقدرته على التصدق ولم يفطن لهذا ولم يذكره ، وكذلك قوله «وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» (10) لا صحة له ، لأن اللّه يعلم لو أمهله فيما أراد لا يفعل شيئا من ذلك لاغتراره بالدنيا ولهوه في زخارفها فلم يخطر بباله حال الرّخاء ما خطر بباله حال الشّدة ، فوقع في الأسف والدّامة والحسرة بعد فوات وقت قبولها فلم يصلح لإجابة طلبه بل للقاء النّار.
وهذه الآية من تتمة ما نزل في المنافقين لأن المؤمن لا يسأل الرّجعة عند حلول الموت ، ولأن ما بعده خير له مما قبله ، وهو يحب لقاء اللّه واللّه يحب لقاءه ، فلا يغتر بالدنيا ولا بطول العمر والتمتع بالعافية والرّفاه فيمنع الزكاة ويسوف بالتوبة ويصر على المعاصي كالكافر والمنافق ، بل يتوب ويتصدق وهو صحيح صحيح ،
ولهذا قد ردّ اللّه على المنافق قوله وتمنيه بقوله عز قوله «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها» أبدا لما ثبت باللوح هكذا ولا يقدم ولا يؤخر عن وقته المقدر له «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (11) بالدنيا لو ردّكم إليها لاستمريتم على أفعالكم القبيحة وحرصكم على المال وتقاعسكم عن فعل الخير كما كنتم واكثر ، قال تعالى (لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 27 من الأنعام ج 2 وهذه الآية عامة في كلّ من هذا شأنه ، ونزولها في المنافقين لا يمنع شمولها لغيرهم ولا يخصصها فيهم ، لأن العبرة لعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب فنسأل اللّه العفو والعافية والتوفيق إلى أقوم طريقها وأقول :
إليك بسطت الكف في فحمة الدّجى نداء غريق في الذنوب غريق
رجاك ضميري كي تخلص حجتي وكم من فريق شافع لفريق
فاشفع يا رسول اللّه بعبدك الجامع لهذا.
ويا رب وفقه لإكماله وانفع به عبادك ، (6/200)
ج 6 ، ص : 201
واجعله خالصا لوجهك الكريم ، إنك على كلّ شيء قدير ، وبالإجابة جدير.
هذا واللّه أعلم.
وأستغفر اللّه.
ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين ، ومن تبعهم بإحسان آمين.
تفسير سورة المجادلة
عدد 19 و105 - 58
نزلت بالمدينة بعد سورة المنافقين وهي اثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة والف وسبعمئة واثنان وتسعون حرفا.
ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت غير سورة الجن كما لا يوجد سورة مختومة بما ختمت غير آل عمران ومثلها في عدد الآي سورة البروج.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» مبادلتكما الكلام ومراجعتكما فيه يا سيد الرّسل أنت والمرأة «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لمن يناجيه «بَصِيرٌ» (1) بأمر من يشتكي إليه يجيب دعاء المضطر من عباده ، وسبب نزول أوائل هذه السّورة هو أن خولة بنت ثعلبة قالت يا رسول اللّه إن زوجي أديس بن الصّامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال ، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلى وكبر سني ظاهرني وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإياه فتنعشني به ؟ وذلك أن الظّهار الآتي بيانه كان زمن الجاهلية مما تحرم به المرأة على البتات ، ولذلك لم يفتها حضرة الرّسول لأنه لم يتلق من ربه ما يبطله وقال لها صلّى اللّه عليه وسلم حرمت عليه ، فقالت والذي بعثك بالحق وأنزل عليك الكتاب ما ذكر الطّلاق وأنه أبو ولدي وأحب النّاس إليّ ، فقال حرمت عليه ، فقالت أشكو إلى اللّه فاقني ووحدتي ، ثم قالت يا رسول اللّه قد طالت له صحبتي ونثرت له بطني ، فقال ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر بشأنك بشيء ، فجعلت تراجع الرسول ، وكلما قال لها حرمت قالت أشكو إلى اللّه فاقتي ووحدتي وشدّة حالي ثم قالت يا رسول اللّه إن لي منه صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا ، وإن ضممتهم إليه(6/201)
ج 6 ، ص : 202
ضاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السّماء وتقول اللّهم إليك أشكو فأنزل اللّه أوائل هذه السّورة.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت الحمد للّه الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول ، فأنزل اللّه (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) وذم الظّهار بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ» حتى يجعلوهن مثلهن «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» لا زوجاتهم «وَإِنَّهُمْ» المظاهرون الّذين يجعلون زوجاتهم كأمهاتهم «لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» كذبا باطلا لأن الأمهات محرمات على التأبيد بتحريم اللّه تعالى ، والزوجات لا يحرمن بمجرد تشبيههن بالأمهات «وَإِنَّ اللَّهَ» المنفرد بأمر عباده كثير الصّفح والسّماح والمنّ والعفو عنهم وعما سلف مما وقع من المظاهرين «لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».
مطلب في الظّهار وحكمه والمخلص منه وكيفيته والمشاورة والنّجوى والتكلم بغير لغة القوم :
الحكم الشّرعي هو أن الظّهار من طلاق الجاهلية كالإيلاء راجع الآية 227 من البقرة تجد بحثه وهو أن يقول الرّجل لزوجته أنت علي كظهر أمي ، ومعناه علوّي عليك حرام كعلوي على أمي ، وعلوه على أمه حرام لأنهم يريدون بهذا العلو الجماع ، لأن الرّجل يعلو المرأة فيه ، وكذلك لو قال كبطن أمي أو شبه عضوا منها بعضو أمه ، وكذلك إذا شبهها بإحدى محرماته بلفظ من هذه الألفاظ فيكون مظاهرا من زوجته ، ثم بين اللّه تعالى المخرج من مأزق هذا اليمين مما يجعله حلّا منه ويسترد به زوجته لعصمته فقال «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» أي يرجعون عن أقوالهم لنسائهم من الألفاظ التشبيهية لهن بأمهاتهم أو غيرهن من محارمهم ليحلوا ما حرموا على أنفسهم منهن ، وكيفية العود أن يبقيها عنده ولا يخرجها من بيته ، ولكن لا يعاملها معاملة الأزواج حتى يكفر عن يمينه بما ذكره اللّه ، فيعد هذا رجوعا وندما على ما وقع منه.
ثم ذكر الله تعالى الكفارة التي يتحلى بها يمينه بقوله أولا «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» عتق عبد من عبيده إذا كان له عبيد ، وإلّا فيشتري عبدا ويعتقه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا»(6/202)
ج 6 ، ص : 203
إذ يجب عليه العتق أولا ثم يعامل زوجته معاملة الأزواج إذ لا يجوز له قربانها قبل التكفير «ذلِكُمْ» الحكم الشّرعي شرعه اللّه لكم في تحليل المظاهرات «تُوعَظُونَ بِهِ» أيها المؤمنون وتتأدبون من أن تعودوا لمثله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (3) لا يحتاج إلى إخبار لأن أعمالكم كلها من جملة معلوماته الأزلية وإنها معروفة عنده «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» رقبة يعتقها ولم يقدر على شرائها لضيق ذات يده فصيام شهرين متتابعين تكون كفارته تخفيفا عليه وتبسيرا من ربه ، وهذا الصّيام أيضا يجب أن يتمه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» مثل كفارة العتق «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» أن يصوم لكبره أو مرضه المزمن «فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» كفارته تسهيلا عليه من لطف اللّه تعالى والإطعام يكون لكل مسكين نصف صاع من البر أو صاع من غيره وهو ما يغذي الرّجل يوما واحدا من أوسط الطّعام كما سيأتي بيانه مفصلا في الآية 92 من سورة المائدة ، وكذلك يجب أن يتصدق بهذا الإطعام قبل المجامعة «ذلِكَ» البيان الشّافي والتخفيف الكافي «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وتزدادوا إيمانا وشكرا وحمدا إذ لم يجعل عليكم حرجا فيما شرعه لكم إكراما لرسولكم كما هو مدون في أزله وتعملوا بما أمرتم به عن اعتقاد ويقين وصدق وحزم وتتركوا ما كان عليه أسلافكم من أمور الجاهلية التي قلدتموهم بها.
واعلم أن هذه لا تعد ناسخة لما كان في الجاهلية ، لأن الظّهار لم يقرر في الإسلام كشرع ولم يعمل به كمأمور به ، وإنما كان عادة مستقة من عوائد الجاهلية ، والنّسخ لا يدخل إلا على ما كان مشروعا كما أشرنا إليه في الآيتين 17 و150 من سورة البقرة ، وما كان عليه عمل الجاهلية لا يسمى شرعا لأنهم لم يأخذوها من شرع قديم أو يكتسبوها من تعاليم الأنبياء ، إذ لا شرع ولا كتاب لهم بل من عوائد آبائهم ، لأن نبيهم إسماعيل عليه السّلام اندرست شريعته ولم يترك لهم كتابا يرجعون اليه ، ولهذا لم يفت به حضرة الرّسول ، لأنه حكم من الأحكام ولم ننزل عليه فيه شيء ، وهو لا ينطق عن هوى.
قال تعالى «تِلْكَ» الأحكام المتلوة عليكم أيها النّاس في «حُدُودُ اللَّهِ» التي لا يجوز تخطيها المفروض عليكم اتباعها «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» (4) يوم القيامة عدا ما ينالونه في الدّنيا تدل هذه الآية دلالة قاطعة(6/203)
ج 6 ، ص : 204
على أن من لم يقبل شيئا من أحكام اللّه منكرا صحته فهو كافر ، وعليه فإن من يصلي بلا وضوء جاحدا فرضيته فهو كافر ، وإلّا فيستحق العقاب ، لأن اللّه أمره به عند الإقدام على الصّلاة كما سنبينه في الآية السّادسة من المائدة الآتية ، وقد مر نهي الجنب عن الدّخول فيها في الآية 23 من سورة النّساء ، ولهذا عبّر ممن لم يتقيد بحدوده بالكافرين ، وأعقبها بقوله عز قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بمخالفة أمرهما وانتهاك حرماتها ومعنى المحادة المعاداة والمشاقة للّه ورسوله «كُبِتُوا» أحزوا وذلّوا وهلكوا منكبين على وجوههم «كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» بمعاداتهم اللّه ورسله رمشافقتهها هم «وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ» بمنع المخالفة والانقياد للشريعة والتباعد عن الشّقاق «وَلِلْكافِرِينَ» بها الجاحدين حقيقتها «عَذابٌ مُهِينٌ» (5) لهم يشينهم مرآه بين النّاس في المشهد العظيم «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» للحساب «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في دنياهم من خير
أو شر جهرا أو سرا مباحا أو حراما إذ أَحْصاهُ اللَّهُ» عليهم كله فحفظه في كتابهم وَنَسُوهُ مع أنهم اقترفوه لعدم مبالاتهم به «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» بما يعمله خلقه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم خفيها وعلانيتها كيف وهو القائل (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الآية 285 من البقرة ولا تكون المحاسبة إلّا عن علم أي يعلمه ويحاسبكم عليه.
فيا أيها الغافل «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» خفية وجلية لا يعزب عن علمه شيء وانه «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى » تشاور وأسرار بين «ثَلاثَةٍ» من الخلق وحدهم «إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ» حاضر معهم يعلم ما يتناجون به كما هو عالم به أزلا من قبل مناجاتهم «وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ» اثنين أو واحد «وَلا أَكْثَرَ» سبعة فما فوق إلى ما لا نهاية «إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا» في الأرض أو السّماء أو فيما تحتها وفوقها وبينهما وما فوق الماء وتحته «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في مناجاتهم ومكانها وزمانها كسائر أعمالهم الأخرى «يَوْمَ الْقِيامَةِ» حينما تنشر الأعمال بالصحف على أربابها كي يتحقق لديهم ذلك ويقولوا بعد أن كانوا ينكرون «إِنَّ(6/204)
ج 6 ، ص : 205
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»
(7) لا تخفى عليه خافية ، وإنما خص الثلاثة والخمسة في المشاورة لأن العددين أقل ما يكفي في المشاورة ، ولأن الاثنين يوشك أن يتفقا على غلط أو يتخالفا في الرّأي فالثالث يكون كالحكم.
ويوشك أن ينقسم كل اثنين من الخمسة فيذهب إلى رأي فيكون الخامس كالحكم أيضا يرجح رأي من ينضم إليها ، فينم الغرض الذي من أجله شرعت المشاورة.
قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى » وهم اليهود والمنافقون إذ كانوا إذا رأوا المؤمنين طفقوا يتناجون بينهم قصدا كي يظن المؤمنون أنهم قد علموا سوء بسراياهم وغزاتهم فيحزنون ، فشكوهم إلى الرّسول فمنعهم من ذلك ولم يمتنعوا ، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ» من النّجوى ولم يمتثلوا أمر الرسول «وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ» إساءة له ولأصحابه «وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ» أولئك الخبثاء «بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» فيقولون السّام عليك بدل السّلام وراعنا بدل انظرنا واسمع غير مسمع كما مر في الآية 104 من البقرة ومع هذا فإن الرّسول يغض عنهم ولا يرد عليهم مع علمه بنياتهم بذلك ، ولذلك تمادوا في مثل هذه الألفاظ المراد بها غير ظاهرها المعروف «وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ» في شأن محمد وأصحابه وعليهم وهو يزعم أنه نبيه لفعل إذ لا يعجزه شيء ولا يغفل عما نقول ، فلو كان نبيا لانتقم له منا ولكنه ليس بني قاتلهم اللّه ، بلى واللّه إنه لنبي وإن اللّه معذبهم على ذلك ومنتقم لنبيه منهم إذ يقول جل قوله «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ» عذابا يوم القيامة «يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (8) هي لمن يصلى بها ، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت دخل رهط من اليهود على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا السام عليك ، قالت عائشة رضي اللّه عنها فقلت عليكم السّام واللّعنة ، قالت فقال رسول اللّه مهلا يا عائشة ان اللّه يحب الرّفق في الأمر كله ، فقلت يا رسول اللّه ألم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم أي أنه سمع ويرد عليهم قولهم بحيث كأنه لم تحاشيا عن المقابلة بالسوء.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم «إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ(6/205)
ج 6 ، ص : 206
الرَّسُولِ»
وهذا مما يؤيد ويؤكد أن المراد بهؤلاء المؤمنين ، المنافقون لا المخلصون لأنهم لا يتصور عنهم مشاورة بمعصية الرّسول ، وإنما سماهم مؤمنين بحسب الظّاهر وبمقتضى زعمهم ، راجع الآية 159 من آل عمران المارة وما ترشدك اليه من المواضع في بحث الشّورى والمشاورة.
والنّهي عام يدخل فيه المنافق دخولا أوليا وغيره بالتبعية ، كما أن قوله تعالى «وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (9) يوم القيامة فيحاسبكم على ما وقع منكم عام أيضا.
قال تعالى «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ» إذا كانت بالسوء وإنها لا تضر المؤمن وانه يسوق اتباعه على فعلها «لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لأنهم يظنون أنها فيهم أو فيمن يتعلق بهم ، ولذلك تغضبهم «وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ» أي نجوى الشّيطان واتباعه المتناجين لا تضر المؤمنين «شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» لأن الضّر والنّفع منه وبيده أمرهما «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (10) لا على غيره ، وعليهم ألّا يلتفتوا إلى نجواهم ، ولا يلقوا لها بالا ، لأن من يتوكل على اللّه لا يخيّب أمله ولا يبطل سعيه.
واعلم أن النّجوى تطلق غالبا على الشّر والمشاورة على الخير ويجوز استعمال كلّ منهما موضع الآخر ، وهي من سوء أدب المجالسة التي نهى اللّه عنها وأدب عباده بها ، ولذلك لا ينبغي أن يتشاور اثنان بحضرة واحد أو يتكلما بلغة لا يعرفها أو يرامزان بأي نوع من أنواع الإشارة ، لأن هذا مما يقلقه ويغيظه ويسلب راحته ، ولذلك نهى الشّارع عنه.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إذا كانوا ثلاثة فلا يتنج اثنان دون الثالث.
زاد ابن مسعود في رواية فإن ذلك يحزنه.
وهذه الزيادة في سند أبي داود والكلام الذي لا يعرفه الثالث بمثابة المشاورة لما ورد من عرف العربية وتكلم بغيرها فذلك علامة النّفاق ، أي إذا تكلم بغيرها اثنان بحضور ثالث لا يعرفها ، أما إذا كان الكل يحسنونها فلا بأس.
وهذا لا يعني تقبيح تعليم اللّغات الأجنبية ، كلا ، بل هو مطلوب ، فقد ورد من تعلم لسان قوم أمن مكرهم.
ولا يخفى أن كل لسان يتكلم به الرّجل بمقابلة انسان آخر لا يعرفه ، فهو نصّ عنه ، أما بحضور من يعرفه أو بحضور جماعة فلا بأس به.
وقد نهى عنه إذا كان ينافق فيه ويتبجح(6/206)
ج 6 ، ص : 207
به أمام من يعرفه.
أو أمام صاحب تلك اللّغة ليبين له أنه يعرف لغته وأنه يميل إليها بقصده التقرب منه ، أما إذا كان التكلم بين جماعة لحاجة فجائز ، والمذموم التكلم بها لغير حاجة يخشى من اطلاع الغير عليها بحضور من لا يعرفها ، لأنه من علائم النّفاق.
روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من أحسن منكم أن يتكلم بالعربية فلا يتكلمن بالفارسية فإنه يورث النّفاق.
ويدل هذا الحديث على أن جميع اللّغات غير العربية إذا تكلم بها بلا موجب من تعليم أو تفاهم أو حاجة كما مر يورث النّفاق ، وإنما اختار الفارسية بحديثه صلّى اللّه عليه وسلم دون غيرها من اللّغات لأنها أقدس منها وأكثر أهل الشّرق يتكلمون بها.
مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك :
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ» التي أنتم جالسون بها لقدوم غيركم عليها «فَافْسَحُوا» وسعوا لهم ليجلسوا بينكم لأن هذا من آداب المجالسة وكرم الأخلاق التي يهذبكم اللّه بها ويريدكم إليها ويأمركم بها فإذا فعلتم ذلك «يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» في جميع أموركم من الأمكنة والأعمال والأرزاق وغيرها لاطلاق اللّفظ «وَإِذا قِيلَ» لكم أيها المؤمنون «انْشُزُوا» ارتفعوا وانهضوا عن مواقعكم ليجلس فيها إخوانكم القادمين عليكم الّذين يرى النّاس لهم فضلا من علم أو فصاحة أو أدب أو شجاعة أو أمارة أو فعل ما «فَانْشُزُوا» وأخلوا لهم مواضعكم وأكرموهم بالجلوس فيها ولا تضاموا أو تغضبوا ، وليكن ذلك عن طيب قلب منكم محافظة على التفاضل الذي سنة اللّه في خلقه المنوه به في قوله «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» على غيرهم بكثرة الطّاعة وامتثال الأوامر «وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» كثيرة يرفعهم على غيرهم في الدّنيا والآخرة قال تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الآية 9 من سورة الزمر ج 2 ، والآية 254 من البقرة المارة ، وهي مكررة في القرآن العظيم باللفظ وبالمعنى وهذا التفاضل نسبي بين النّاس أجمعين ، حتى الأنبياء ، قال تعالى (لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) الآية 56 من(6/207)
ج 6 ، ص : 208
سورة الإسراء ج 2 ، وقال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) الآية 253 من البقرة المارة وفي الرّزق أيضا قال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية 71 من سورة النّحل ج 2 «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (11) وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء أناس من المهاجرين والأنصار إلى مجلس الرّسول فسلموا فرد عليهم السّلام ثم سلموا على الجالسين فردوا عليهم السّلام وبقوا قائمين حيال رسول اللّه لعدم وجود محل يجلسون فيه ، لأن المجلس غاص بالناس ، فشق قيامهم على حضرة الرسول لمكانتهم عنده ، فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فأقام من المجلس يقدر أولئك النّفر وأجلسهم ، فشق ذلك على الّذين أقامهم وعرف الكراهية في وجوههم ، فلما أنزل اللّه هذه الآية طابت نفوسهم وركنت إلى أمره الذي هو من أمر اللّه وفيها تعليم لعباده واخبارهم بأنهم متفاضلون ، وإن من الأدب أن يحترم الأدنى الأفضل ، قال صلّى اللّه عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت.
ومن كمال الآداب احترام من هو دونه أيضا بالملاقاة والتكلم والمجالسة على أن لا يتجاوز فيه الحد بالنسبة له ، مثل أن يقوم العالم أو الفاصل لمن هو دونه ، فيقدم له الحداء فهذا بعد تخاسا لا أدبا ، إذ لكل شيء حد يجب الوقوف عنده ، لأن الإفراط والتفريط قد يقضيان للحط من كرامة الرّجل ويوجبان الغيبة له ، ورحم اللّه امرأ جبّ الغيبة عن نفسه ، بأن يتحاشى أن يفعل ما يغتاب عليه به فيقطع ألسنة الناس عنه ، ومما جاء في فضل العلم ما أخرجه الترمذي عن بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدّرداء وهو بدمشق ، فقال ما أقدمك يا أخي ؟ قال حديث بلغني انك تحدثه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال أما جئت لحاجة غيره ؟ قال لا قال أما قدمت في تجارة ؟ قال لا ، قال ما جئت إلّا في طلب الحديث ؟ قال نعم ، قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك اللّه به طريقا إلى الجنّة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، (6/208)
ج 6 ، ص : 209
وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم ، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر.
وأخرج أبو داود نحوه وهذا الفضل لا يختص بمن يأتي لطلب العلم من مكان بعيد ، بل إذا ذهب لطلبه من دار لأخرى في بلده أو حيه ينال هذا الأجر ، واللّه ذو الفضل العظيم يضاعف لمن يشاء بحسب بعد المكان وقربه وحسب نية الطّالب ، فأين من يطلبه ويتعرض لنفحاته.
وجاء في بعض الأخبار كن عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرّابعة فتهلك ، أجارنا اللّه من الهلاك.
وروى البخاري ومسلم عن معاوية ابن أبي سفيان قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من يرد اللّه به خيرا يفقهه في الدين
.
وأخرج الترمذي مثله عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ، وروى البغوي بسنده عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون اللّه ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه ، أما هؤلاء فيدعون اللّه ويرغبون إليه ، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل.
وإنما بعثت معلما.
ثم جلس فيهم.
مطلب في تقديم الصّدقة عند مناجاة الرّسول وعفوها وبعض أحوال المنافقين في الدّنيا والآخرة :
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ» أي إذا أردتم مناجاته والتكلم معه «فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» أي قبل مناجاتكم له تصدقوا ثم ناجوه «ذلِكَ» التصدق قبل المناجاة لحضرته «خَيْرٌ لَكُمْ» في دينكم ودنياكم لما فيها من احترام الرّسول والثناء الحسن والأدب الوافر والأخلاق الكاملة والاعتراف بالفضل والمحبة الصّادقة لحضرته وفي آخرتكم لما فيها من طاعة اللّه ورسوله وامتثال أوامره عن طيب قلب «وَأَطْهَرُ» لأن الصدقة زكاة المال والمتصدق «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا» ما تنصدقون به «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (12) بعباده الفقراء ، ومن رحمتة بهم عفوهم من تقديمها ولهم أن يناجوه بلا تصدق.
لما أكثر النّاس من سؤال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في الصّغيرة والكبيرة وشق ذلك عليه أراد اللّه تعالى أن يخفف عنه ويثبط النّاس عن ذلك فأمرهم(6/209)
ج 6 ، ص : 210
بالتصدق عند إرادة مناجاته لا عظامها ونفع الفقراء ولئلا يقوم كلّ أحد فيما أهمه وما لم يهمه على سؤاله وليختصروا على الأهم الذي لا بد لهم من معرفته أو القضاء به إلّا ببيان الرّسول ، فنزلت هذه الآية ، فتوقف النّاس لأنهم لم يعرفوا بعد هذه الجهة ولم يعلموا ما هي هذه الصّدقة وكم هي ، قال علي كرم اللّه وجهه قال لي الرسول ما ترى في قدر هذه الصّدقة أدينار ؟ قلت لا يطيقون ، قال فكم ؟ قلت شعيرة أي وزنها ذهبا ، قال إنك لزهيد أي قليل المال قدرت على قدر حالك فتصدق علي بدينار ، ونزلت الرّخصة في الآية الآتية ، فكان عليه السّلام يقول في خفف اللّه عن هذه الأمة ، وقال آية في كتاب اللّه لم يعمل بها أحد غيري وفيها منقبة عظيمة له عليه السّلام وهو أبو المناقب ، وليس فيها طعن على أحد لأن الزمن لم يتسع للعمل بها ، إذ نزلت الرّخصة بتركها فور اذاعة أمر الصّدقة بين النّاس والتحدث بها على أثر تصدق سيدنا علي كرم اللّه وجهه لأن القصد منها زيادة احترام حضرة الرّسول ، وقد حصلت بمجرد نزول الآية ووقر في قلوب النّاس معناها وعرفوا المراد من مغزاها وتحاشوا عن كثرة المراجعة له.
قال الكلبي ما كان إلّا ساعة من نهار ، وقال مقاتل كان بين هذه الآية وبين آية الرّخصة عشرة أيّام.
وهو الأصح إذ لا يمكن إذاعتها للآفاق دون هذه المدة بالنسبة لذلك الزمن.
قال تعالى «أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ» مع حضرة الرّسول «صَدَقاتٍ» أي خفتم العيلة والفاقة أم بخلتم بهذه الصّدقة أو خشيتم من أدائها «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به من التصدق فقد خفف اللّه عنكم ويسر عليكم وأزال عنكم المؤاخذة على عدمها وسهل لكم مناجاة الرّسول بدونها وجعلها لكم مجانا كما كانت إذا حصل المقصود منها وهو تعظيم حضرة النّبي واحترامه والتباعد عن الإفراط في سؤاله والميزة بين المؤمن والمنافق من حيث تلقي هذا الأمر بالقبول «وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في عدم مسارعتكم إلى فعل هذه الصّدقة.
وتشير هذه الآية إلى تأخرهم عن أداء تلك الصّدقة حال نزول هذه الآية ذنب بالنسبة لمن هي لأجله وإلى زيادة تعظيم قدر الرّسول عند ربه عز وجل ، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(6/210)
ج 6 ، ص : 211
تداركا لما فاتكم في المسارعة لإنقاذ أمره قبل إنزال التخفيف والترخيص بعدمه أي إذ فاتكم التصدق في المناجاة وفرطتم بها فلا تفرطوا بإقامة الصّلاة وأداء الزكاة وطاعة اللّه ورسوله فيما يأمركم وينهاكم ، بعد بل سارعوا له واغتنموا فعله ولا تقاعسوا ولا تتوانوا عنه أو تعتذروا منه وفيها إشارة إلى فعل أحد هذه الثلاثة قبل المناجاة لحضرة الرّسول بدلا من الصّدقة «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (11) وهذه إحدى الآيات الثلاث التي نوهنا بها في المقدمة في بحث النّاسخ والمنسوخ وبينا توجيهها هناك وإنها غير ناسخة للآية قبلها والآية الثانية مرت في سورة المزمل ج 1 والثالثة في سورة الأنفال المارة ، راجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة ج 1 ولما اختلا المنافقون باليهود ونصحوهم (بل غشوهم) عن موالاة الرّسول ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين وقالوا لهم نحن نتولاكم من دونه أنزل اللّه عز وجل «أَ لَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وهم اليهود «ما هُمْ» أولئك المنافقون «مِنْكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان «وَلا مِنْهُمْ» أي اليهود الّذين ولوا أمرهم المنافقين وهم كما وصفهم اللّه مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء الآية 43 من سورة النّساء المارة «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ» بأنهم مؤمنون مثلكم «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (14) انهم كاذبون يحلفهم «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة لكذبهم وحلفهم على الكذب إنه ليس بكذب «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (15) في دنياهم هذه إذ «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» وقاية يتقون بها حفظ أنفسهم من الجلاء والأسر والقتل وأموالهم وأولادهم ونسائهم عن الاستيلاء عليها والسّبي «فَصَدُّوا» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وأعرضوا عن رسوله في الدّنيا «فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (16) جزاء ذلك ، قالوا إن حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم قال لأحدهم عبد اللّه بن نبتل في قولهم لليهود لا توالوا الرّسول إلخ كما مر آنفا فحلف أنه لم يقل وجاء بأصحابه فحلقوا كذلك فكذبهم اللّه تعالى في هذه الآيات التي أنزلها على رسوله فيما وقع منهم قاتلهم اللّه ما أكذبهم ، وهؤلاء أشد من مغالاتهم ، لأن حب المال والدّنيا هو الذي حدا بهم إلى ذلك ، ولا ريب أن الّذين لا يؤمنون بالآخرة يغريهم حب المال والرّئاسة(6/211)
ج 6 ، ص : 212
قال تعالى «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ» المنافقون المتولون لليهود والحالفون كذبا متخذون إيمانهم وقاية لصون دمائهم وأموالهم وأولادهم ، الصادون النّاس عن سبيل اللّه المعرضون عنه هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (17) أبدا لا يتحولون عنها.
واعلم يا حضرة الرسول أن هؤلاء المنافقين وأصحابهم اليهود «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» في الموقف المهيب فيسألهم عما وقع منهم في الدّنيا من هذه الأحوال وغيرها وهو غني عن سؤالهم لأنه يعلم كلّ ما وقع منهم أزلا ولكن ليفضحهم على رؤوس الأشهاد «فَيَحْلِفُونَ لَهُ» في ذلك المشهد العظيم «كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ» يا أكمل الرسل بأنهم صادقون وهم كاذبون «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ» من قبول أيمانهم الكاذبة عند اللّه كما كانت تقبل منهم بالدنيا ظاهرا ، كلّا ليسوا على شيء من ذلك أصلا «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ» (18) في الدّنيا والآخرة تشير أداة التنبيه في مطلع هذه الآية والتوكيد بأن واللام على توغلهم بالنفاق والكذب وتعودهم عليهما وفساد ظنهم على رواج إيمانهم بين يدي علام الغيوب وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد.
قال تعالى «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ» أي استحوى واستولى عليهم فملك قلوبهم وغلبهم على أمرهم وأحاط بهم من كلّ جانب ، وجاء هذا الفصل على خلاف قاعدة اللّغويين من أن الواو إذا تحركت بالفتحة تقلب الفاء على هذه القاعدة يكون استحاذ إلّا أنه جاء على الأصل ، ومثله استصوب واستشوف ، والأحوذي السّائس الضّابط للأمور ، قالت عائشة رضي اللّه عنها كان عمر أحوذيا أي مدبرا للأمور ضابطها وهؤلاء الّذين استولى عليهم الشّيطان «فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ» إذ أشغل ليهم عن التفكير والمراقبة بجمع حطام الدّنيا وتدبير شئونها ، فأشغل حواسهم الظّاهرة والباطنة وحصرها في أمور الدّنيا وصرفها عما يتعلق بالآخرة فلم يبق في
قلوبهم خطرة للتفكير في آلاء اللّه أو لمحة لشكر نعمائه أو حركة للنظر في ملكوت أرضه وسمائه وأشغل ألسنتهم عن ذكر اللّه بالغيبة والنميمة وقول الزور في الكذب والافتراء والبهتان ، فلم يترك لها فسحة لتلاوة شيء من ذكره ولا فرجة لتحميده وتسبيحه ، وأشغل جوارحهم بالأكل والشّرب واللّباس والمساكن(6/212)
ج 6 ، ص : 213
فلم يفسح لهم طريقا للانفاق وعمل الخير ومساواة الفقراء والمساكين «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم هم «حِزْبُ الشَّيْطانِ» وأولياؤه وحلفاؤه وأنصاره «أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ» (19) في الدّارين.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» يعادونهما وأوليائهما ويتعدون حدودها ولا يعملون بأوامرها «أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ» (20) في جملة من أذلهم اللّه في الدّنيا وإن ما هم عليه من النّعم الفانية لا قيمة لها لأن مرجعهم للآخرة التي سيهانون فيها ويحقرون ويعلمون أن ما رأوه في الدّنيا هو ذلّ أيضا بسبب تكالبهم على جمعها وعدم مبالاتهم بجمعه إذ لا يتورعون عن مغصوب وحرام ، فالعز الذي نالوه من هذا المال هو ذل أيضا من حيث النّتيجة.
قال تعالى «كَتَبَ اللَّهُ» في لوحه المحفوظ أذلا «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» المحادين والمخالفين والمعرضين مهما كانوا عليه من قوّة ومنعة «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ» لا يغلب منيع لا ينال «عَزِيزٌ» (21) لا يدرك عظيم لا يرام راجع الآية 172 من الصّافات في ج 2 والآية 56 من المائدة الآتية واعلم يا سيد الرّسل انك «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فإذا رأيت متصفا بالإيمان موادا لهؤلاء فاحكم بنفاقه وبأن إيمانه صوريّ لا ينتفع به ، لأن المؤمن لا يوالي الكافر ولا يخالف اللّه ورسوله ولا يحب أعدائهما ، لذلك من الممتنع جدا أن تجد قوما مؤمنين متصفين بتلك الصّفات «وَلَوْ كانُوا» أي المحادون «آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» فلا ينبغي أن يوالوهم ، بل يجب عليهم أن يخذلوهم ولو كانوا أولى الناس بهم.
ولهذا البحث صلة في الآية 34 من سورة التوبة الآتية فراجعها.
ولهذا فإن عبيدة بن الجراح رضي اللّه عنه قتل أباه يوم أحد ، وعبد اللّه استأذن حضرة الرّسول بقتل أبيه عبيد اللّه أبي بن سلول كما مر في الآية 8 من سورة المنافقين ، وأبا بكر الصّديق رضي اللّه عنه أراد قتل ابنه يوم بدر فمنعه حضرة الرسول من مبارزته ، ومصعب ابن عمر قتل أخاه عبد اللّه وأبو عبيدة بن الجراح وحمزة بن عبد المطلب وعلي كرم اللّه وجهه قتلوا عتبة وشيبة بن ربيعة ، والوليد ابن عتبة يوم بدر وهم من عمومتهم ، وعمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام(6/213)
ج 6 ، ص : 214
ولم تثنهم قراباتهم لهم عن عزمهم لأجل اللّه وصرفهم في اللّه فقتلوهم ابتغاء مرضاة الله وهذا من قوة إيمانهم بالله وشدة الصّدق لرسوله وغاية الوثوق بوعد اللّه ونهاية التمسك بنصرة اللّه رغبة فيما لهم عند اللّه وأمثال هؤلاء هم الّذين تكفل اللّه بنصرتهم ولو يوجد الآن من هؤلاء عصبة لما حل بالمسلمين ما حل من الذل والهوان والقتل والأسر والجلاء والاستيلاء على أوطانهم وأموالهم وذراريهم ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
اللهم ألهم أمة محمد رشدهم ووحد كلمتهم على الحق وانصرهم على عدوهم «أُولئِكَ» الّذين هذا شأنهم الّذين لا تأخذهم في اللّه قرابة ولا صداقة ولا لومة لا ثم في ارحم أو حبيب فيعادون من حادّ اللّه ورسوله ويوالون من والاهما ويحبون من وادّ اللّه ورسوله هؤلاء الأبرار المخلصون «كَتَبَ» الله وأثبت «فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» للكامل الخالص «وَأَيَّدَهُمْ» قواهم وأعزّهم «بِرُوحٍ مِنْهُ» قذفه في قلوبهم فنورها وقوى عزائمهم وألقى الخوف في قلوب أعدائهم والرّعب فيمن يناوئهم فينصرهم في الدّنيا «وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» في الآخرة «خالِدِينَ فِيها» لا يتحولون عنها أبدا إذ «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ» الراضون المرضيون العاملون المخلصون هم «حِزْبُ اللَّهِ» المؤيد بتأييده المنصور بنصره «أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (22) الناجحون الفائزون الرّابحون فيعملهم فليعمل العاملون وبأوصافهم فليتنافس المتنافسون اللّهم اجعلنا ، منهم هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم وسلم.
تفسير سورة الحجرات
عدد 20 - 106 و29
نزلت بالمدينة بعد المجادلة وهي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة والف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا ، تقدم بيان السّورة المبدوءة بما بدأت به أول سورة الممتحنة المارة ، ويوجد أربع سور مختومة بما ختمت به هذه النّمل والمنافقون وهود ومثلها في عدد الآي التغابن فقط لا ناسخ ولا منسوخ فيها :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(6/214)
ج 6 ، ص : 215
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»
نهى اللّه تعالى عباده ، بعدم التقدم على نبيه لأن التقدم بين يدي رسوله تقدم بين يدي اللّه وقد أراد وهو أعلم بهذا التقدم مطلقه فيشمل التقدم بالقول والفعل وهذا من جملة تأديب اللّه تعالى عباده احتراما لحبيبه صلّى اللّه عليه وسلم الذي قدمه على خلقه أجمع وقد حذر ومنع جل جلاله في هذه الآية من أن يتكلم أحد قبل أن يتكلم أو يمشي إذا كان معه قبل أن يمشي أو يفعل شيئا ما قبل أن يفعل «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في محافظة حقوق نبيكم وتأدبوا بين يديه أي بحضوره ، لأن الحاضر أمام الرّجل كأنه واقف أو قاعد بين يديه «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما تقولونه «عَلِيمٌ» (1) بما تفعلونه وهذه الآية عامة في جميع الأحوال لا يخصصها ما روي عن جابر بأنها نزلت حينما أراد صلّى اللّه عليه وسلم الذبح يوم الأضحى أي لا تذبحوا قبل أن يذبح لأن أناسا ذبحوا قبله فأمرهم بإعادة الذبح لما روي عن البراء بن عازب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النّسك في شي ء - أخرجه الترمذي.
ولا يقيده أيضا ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها من أنها نزلت في النّهي عن صوم يوم الشّك لما جاء عن عمار بن ياسر قال : من صام يوم الشّك أي في اليوم الذي يشك فيه النّاس (هل هو من شعبان أو من رمضان) فقد عصى أبا القاسم.
أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح بل مطلقة جارية على عمومها في كلّ ما من شأنه معنى التقدم عليه صلّى اللّه عليه وسلم ، ومن جملة الآداب التي علمها اللّه لعباده وأمرهم بها تجاه حضرة رسوله الأعظم قوله :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» أي تأدبوا عن هذا أيضا لا تفعلوه لأنه ليس مثلكم إلّا في البشرية ، أما في غيرها فهو فوق خلق اللّه أجمع ، قال البوصيري :
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق اللّه كلهم
دع ما ادعته النّصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم(6/215)
ج 6 ، ص : 216
أي اجتنب هذا وقل في مدحه ما شئت ، لذلك يجب عليكم حينما تخاطبونه أن تخاطبوه بصوت منخفض بقدر ما تسمعونه لأن الزيادة على ذلك مخلّة بالأدب معه والاحترام تجاهه والتوقير لمقامه.
واعلموا أن جعل كلامكم أعلى من كلامه أو زيادة على الحاجة المقتضية للاسماع نقص للتعظيم المطلوب منكم أمامه ، وموجب لوصمكم بقلة الأدب وسوء الأخلاق ، ومفض لإحباط أعمالكم ومحق ثوابها ، ولهذا قال تعالى «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» (2) بذهاب أجرها بسبب عدم تفخيمكم نبيكم وإخباتكم له ، فلو علمتم أن رفع الصّوت والجهر به أمام رسولكم يذهب ثواب أعمالكم ويصفكم بسوء الأدب وأنه يقضي لإزعاج حضرة الرّسول ويؤدي لكراهته لما فعلتموه ، ولهذا ينهاكم اللّه ويحذركم لتتعظوا وتحترزوا من كل ما يؤدي لعدم توقيره.
فنقيدوا بهذه الآداب ولا تخطرها لتكونوا على بصيرة من أمركم لقاء نبيكم ، لأن هذه الآية تشير إلى ذم من يصدر منهم مثل ذلك ، كما أن قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى » تفيد المدح لمن يغض صوته ويخضع له هؤلاء الّذين اختبرهم اللّه بذلك قد هيأ أفئدتهم لتقراه وجعلها مخلصة له موقنة به «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم وستر لعيوبهم «وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (3) عند ربهم.
مطلب في خطيب وشاعر بني تميم وما رد عليهما خطيب وشاعر حضرة الرّسول وفي سرية عتبة الفزاري وسرية الوليد بن عقبة :
قال جابر : إن سبب نزول هذه الآيات هو لما جاء بنو تميم نادوا يا محمد أخرج إلينا ، فإن مدحنا زين وذمنا شين ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إنما ذلكم اللّه الذي مدحه زين وذمه شين ، فقالوا جئنا نشاعرك ونفاخرك ، قال لا بالشعر ولا بالفخر أمرت ، ولكن هاتوا ، فقام منهم عطاء بن حاجب فذكر فضله وفضل قومه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لخطيه ثابت بن قيس أجبه ، فأجابه بما أسكته وفند قوله وأثبت أنهم دون ذلك بكثير ، ولم يزل به حتى أفحمه وعرّفه أنه دون ما قال ، ثم قام شاعرهم الزرقاوي وأنشد بإطراء قومه فقال :
أتيناك كيما يعرف النّاس فضلنا إذا خالفونا عند ذكر المكارم(6/216)
ج 6 ، ص : 217
وإن رءوس النّاس من كلّ معشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإن لنا المرياع في كلّ غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم
ولما انتهى أمر صلّى اللّه عليه وسلم شاعره حسانا أن يجيب شاعرهم ، فقال :
بني دارم لا تفخروا إن فخركم بصير وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال صلّى اللّه عليه وسلم لقد كنت يا أخا دارم غنيا أن يذكر منك ما ظننت أن النّاس قد نسوه ، فكان قوله عليهم أشد من قول حسان الذي ذكرهم بما هو واقع منهم ، ومعلوم لديهم ، لأنه تأييد له وتأكيد ، ثم رجع حسان لشعره فقال :
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم أن يقسموا في المغانم
فلا تجعلوا للّه ندا وأسلموا ولا تفخروا عند النّبيّ بدارم
وإلّا ورب البيت قد مالت القنا على هامكم بالمرهفات الصّوارم
فقام منهم الأقرع بن حابس وقال إن خطيبهم أحسن من خطيبنا وشاعرهم أجود من شاعرنا وأسلم.
ثم أعطاهم رسول اللّه وكساهم وتخلف عنهم عمرو بن الأهشم فأعطاه مثلهم ، فأزرى به بعضهم بسبب تخلفه وارتفعت أصواتهم وكثر لغطهم عند رسول اللّه ، فنزلت.
واعلم إنما يصح هذا إذا كانت هذه الحادثة قبل إسلام الأقرع وقبل سنة الوفود أما بعدهما فلا يصح أن يكون سببا للنزول لأن إسلام الأقرع كان قبل واقعة حنين والوفود كانوا سنة تسع فليراجع.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال أنا من أهل النّار ، واحتبس عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم فسأل عنه سعد ابن معاذ فقال يا أبا عمر ما شأن ثابت أيشتكي فقال سعد يا رسول اللّه إنه لجاري وما علمت له شكوى ، قال فأتاه سعد فذكر له قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال ثابت أنزلت هذه ، ولقد علمتم اني من أرفعكم صوتا على رسول اللّه ، فأنا من أهل النّار ، أي ولذلك احتجب عن رؤية حضرة الرّسول لأنه علم أن رفع الصّوت قلة أدب وعدم احترام لحضرته الكريمة ، فذكر ذلك سعد للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال رسول اللّه بل هو من أهل الجنّة ، ثم صار أبو بكر وعمر وغيرهما لا يكلمون حضرة الرّسول إلّا كأخي السّرار(6/217)
ج 6 ، ص : 218
وصار حضرة الرّسول يستفهم مخاطبه من شدة ما يخفض صوته ، ثم أنب اللّه قوما آخرين لم يتقيدوا بآداب اللّه التي يريدها من عباده أمام رسوله ، فقال عز قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» (4) إن ذلك سوء أدب منهم وقلة احترام لنبيهم ، وانهم مؤاخذون عليه ، ولكن سفههم وقلة عقولهم وعدم مبالاتهم حدا بهم إلى هذا الحد.
قال تعالى «وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ» ولم يجرءوا على مناداتك كما ينادون أحدهم «لَكانَ» صبرهم مراعاة لحسن الأدب وتوقيرا للمنادى «خَيْراً لَهُمْ» في دنياهم لئلا يوصموا بسوء الأدب تجاه نبيهم المعظم عند اللّه ، وفي دينهم الموجب عليهم احترامه وتمييزه عنهم وفي آخرتهم ، لأن ما وقع منهم من قلة الأدب يدون في صحيفتهم ويعد من جملة سيئاتهم ، وسيذكرون بها يوم الحساب وقد يشملها عفو اللّه «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لما وقع منهم لأنه عن جهل لا عن قصد «رَحِيمٌ» (5) بهم إذا تابوا وأنابوا.
قال ابن عباس بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سرية إلى ابن العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري ، فلما بلغهم ذلك تركوا أهلهم وهربوا ، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول اللّه ، فجاء رجالهم ليفدوهم ، فوافقوا رسول اللّه قائلا وصارت ذراريهم تبكي فجعلوا ينادون يا محمد أخرج إلينا ، فخرج إليهم وحكم فيهم الأعور بن يشامّه من أهل دينهم بطلبهم ، فحكم أن يعتق النّصف ويفادي النّصف ، فرضي صلّى اللّه عليه وسلم ورضوا هم أيضا.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ» أي خبر سوء وهو المراد به هنا ويكون في الخير كما يكون في الشّر راجع الآية 94 من سورة النّساء المارة «فَتَبَيَّنُوا» أطلبوا البيان لذلك الأمر المخبر به ذلك الفاسق واستكشفوا حقيقته ولا تعتمدوا على قوله فتقعوا في الخطأ إذا نفذتم ما يقتضي لذلك الخبر ، فإياكم أن تعجلوا في إنفاذه واحذروا عاقبته من «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» فتضروهم قبل أن تقفوا على جلية أمرهم لما يلحقكم من الغضب الموجب للمسارعة بالانتقام فتندموا من حيث لا ينفع النّدم «فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» (6) إذ يتبين خطأكم.
وسبب نزول هذه الآية أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن(6/218)
ج 6 ، ص : 219
أبي معيط إلى بني المصطلق بعد واقعتهم الملح إليها في الآية 8 من سورة المنافقين المارة ، لأخذ صدقاتهم ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فخرجوا لملاقاته تعظيما لأمر الرّسول ، فحدثته نفسه أنهم يريدون قتله ، فرجع وقال يا رسول اللّه أرادوا قتلي ، فغضب رسول اللّه وهمّ بغزوهم ، ثم أنهم لمّا رأوا رسول اللّه رجع دون أن يصل إليهم أو يكلمهم ، فطنوا لما كان بينه وبينهم من العداوة فأتوا المدينة ، وقالوا يا رسول اللّه سمعنا بقدوم رسولك فخرجنا نتلقاه إكراما لك فبدا له الرّجوع قبل أن يلقانا ، وإنا نعوذ باللّه من غضبه وغضبك ، فلما سمع قولهم والعداوة التي ذكروها زال منه بعض ما كان وبعث معهم خالد بن الوليد وقال له خفية عنهم انظر إذا رأيت ما يدل على أنهم مؤمنين فخذ منهم الزكاة وإلا فالسيف ، فوافاهم مسمع أذان المغرب والعشاء ولم ير إلّا الطّاعة ، فأخذ صدقاتهم وقدم بها على رسول اللّه وأخبره بالأمر الذي رآه منهم فنزلت وهي كالآيات قبلها عامة في معناها تأمر بالتريث والأناة وترك الاستعجال ، والتثبت من الأخبار وعدم الاعتماد على قول الفرد مثل الوليد المذكور ، الذي ظن غير ما في نية القوم وتوهم ما ليس يخطر ببالهم بسبب عداوة تصورها في قلبه كانت قبلا فمحاها الإسلام من قلوبهم فأخطأ عليهم بكلام وفعل لم يصدر منهم ، ولو لا تأتي حضرة الرّسول ومجيئهم إليه وإخبارهم بما وقع من رسوله لوقع فيهم ما لا يحمد ظلما.
وإذا كان مثل الوليد يقع منه هذا الغلط عند رسول اللّه فغيره من باب أولى عند الغير ولا سيما في هذا الزمن الذي قل فيه الأمن وفقدت منه الثقة ومحي فيه الاعتماد وفقد الصدق ، وإنما سماه اللّه تعالى فاسقا لأنه تسارع وأخبر بما لم يتحققه ، فكان بعمله هذا خارجا عن الطّمأنينة متجاوزا حدود التأني ، قائلا ما لم يسمع ، وباهنا قوما غافلين عما خطر بباله.
ألا فلينتبه العاقلون ، ولينته الجاهلون عن التسرّع فيما ينقل إليهم ، وليحققوا حتى لا يتسببوا لظلم البريء بإخبار فاسق ، وليسمحوا مهما وجدوا طريقا الصّلح.
واعلم أن لفظ فاسق يطلق على من تعدى الحدود وخرج عن ملاك الأمر.
قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ» الواجب تعظيمه وتوقيره واحترامه ، فاحذروا أن تخبروه بباطل فإن اللّه مولاه يطلعه على(6/219)
ج 6 ، ص : 220
خبايا الأمور وما تكنه الصّدور فيفضحكم ويكشف ستركم ويظهر ضغائنكم «لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ» الذي تحدثونه به ويأخذ برأيكم دون تأن وتروّ «لَعَنِتُّمْ» أنمتم وهلكتم ، ولكنه ، لم يطعكم ، وذلك أن بعض الناس زينوا لحضرة الرّسول الإيقاع ببني المصطلق بسبب إخبار الوليد بأنهم أرادوا قتله مع أن إخباره غير مرتكز على حقيقة ، وناشىء عن سوء ظنه وعدم ترويه وتصوره ما لم يكن عند القوم من خوفه الذي استولى على قلبه وارجعه عن تنفيذ أمر الرّسول وسول له ما قاله له ، وقد مدح اللّه حبيبه بقوله «وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» فتربصتم ، ولم تأخذوا بقوله المجرد العاري عن الصّحة ، وفعلتم ما علمتم به من خطأ المختبر وصواب التروي والأناة في الأمر ، لأن لإيمان الصّادق يمنع صاحبه من العجلة ويأمره بالتأني والمراد بتزيين الإيمان زيادته لأنه يزداد في كلّ لحظة عند المؤمن المخلص حسنا وثباتا ولا يسأم منه بخلاف سائر المحبوبات فإن السّأم قد يلحقها ، مثله مثل كتاب اللّه كلما كررت قراءته ازداد قلبك رغبة فيه بخلاف سائر الكتب ، قال الأبوصيري :
فلا تعد ولا تحصى عجائبها ولا تسأم على الإكثار بالسأم
يريد أن آيات اللّه تعالى لا توصف بالملل ومهما كررتها تزداد رغبة فيها على حد قوله :
يزيدك وجهه حسنا إذا ما زدته نظرا
«وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ» وهذه الجملة فيها من محسنات البديع المقابلة على حد قوله :
ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس في الرّجل
لأنه قابل كره بحبّب ، وزيّن ، والفسوق والعصيان بالإيمان ، وهذه الكلمات الثلاث جاءت بمقابلة الإيمان الكامل وهو ما اجتمع فيه ثلاثة أمور تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان فذكر جل ذكره بمقابله حبب إلخ ...
وهو التصديق بالجنان ، وذكر الفسوق الجامع لأنواع الكذب وغيره بمقابلة الإقرار باللسان وذكر(6/220)
ج 6 ، ص : 221
العصيان بمقابلة العمل بالأركان ، وعليه البيت قابل ما أحسن بقوله وأقبح ، والدّين بالكفر والدّنيا بالإفلاس ، لأن علم البديع كغيره من العلوم التي أخذت من القرآن العظيم فهو أصل لجميعها وهي فرع عنه قال تعالى «أُولئِكَ» الّذين حبب إليهم الإيمان فأحبوه وتمسكوا به فتغلغل في قلوبهم «هُمُ الرَّاشِدُونَ» (7) المهتدون إلى الأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة الّذين يطيعون أوامر اللّه ورسوله ولا يقفون أمام أمره كخالد بن الوليد رضي اللّه عنه إذا تلقى أمر الرّسول برحابة صدره وذهب إلى القوم فوجدهم على غير ما عزي لهم فحقن اللّه دماهم وصان أصحاب الرسول من الوقيعة في إثم قتالهم لأنهم راسخون على إيمانهم وأن خروجهم لم يكن كما زعم الوليد بل احتراما لرسول اللّه الذي أرسله إليهم وتكريما له فكان تحبب الإيمان الذي منه التأني والتروي في الأمور وتكريه الكفر الذي فيه العجلة والمسارعة «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ» لكم أيها المؤمنون «وَنِعْمَةً» عليكم زائدة على نعمه في تحسين أخلاقكم وتهذيب آدابكم وخيرا كثيرا وأدبا كريما «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما بينهما من التفاضل العظيم «حَكِيمٌ» (8) فيما يفعل من تفضيل أناس على آخرين كما هو حكيم في جميع أفعاله وفي جملة تأديب اللّه تعالى نفوس عباده وتهذيبها قوله جل قوله «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» جمع الضّمير باعتبار معنى الطائفتين على حد قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 41 من سورة النمل ج 1 ولبحثها صلة في الآية 26 من سورة النّور المارة وما ترشدك اليه من المواضع.
مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها :
ثم أمرهم جل أمره بما هو من شأن المؤمن وحق المسلم على المسلم بقوله «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما» أيها المؤمنون لأنّ في قتالهما نقصا من عددكم وإثارة لغرس العداوة فيكم والبغضاء التي يتوارثها الأبناء عن الآباء بينكم «فَإِنْ بَغَتْ» تعدت واستطالت «إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى » فلم تنتصح ولم تقبل الصّلح وأصرت على بغيها ومواصلة عداوتها «فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي» يا أيها الحكام وأديموا مقاتلتكم(6/221)
ج 6 ، ص : 222
لها «حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ» وترجع عن غيها وتسلم لما في كتاب اللّه الموجود بأيديكم من الصّلح وإزالة الشّحناء وقطع مادة البغض «فَإِنْ فاءَتْ» عدلت ورجعت عن مواصلة العداء وجنحت للسلم «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ» الذي يحملها على الإنصاف والرّضى بحكم اللّه ، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما القتال لئلا يكون بينهما قتال آخر ، لأن القتال الصّحيح يزبل حزار الصّدور ويمحو مادة الحقد ، وإنما قيد الصّلح بالعدل ليعلم أنه بعد خضوعهما لحكم اللّه لا يجوز أن يميل المصلحون عليهما أو على أحداهما بسبب عدم قبولهما الصّلح مبدئيا ، لأن تسليمها لأمر اللّه أزال ذلك وأوجب أن تعامل مع الفرقة المقابلة لها معاملة حقية متساوية ، ولهذا أكد اللّه تعالى تلك الجملة بقوله «وَأَقْسِطُوا» أيها الحكام وولاة الأمور والمتوسطون بين النّاس بالصلح بينهما ولا يحملنكم عدم الرّضاء بالصلح أولا أن تحيفوا بهم أو تجوروا عليهم بل يجب عليكم أن تمحوا ذلك من صدوركم ولا تتحظروه بقلوبكم «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (9) في أحكامهم وأقوالهم وأعمالهم وسائر أمورهم.
واعلم أن فعل أقسط ضد فعل قسط راجع الآية 23 من سورة الجن في ج 1 ثم بين المادة الموجبة للعدل بقوله «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» في الدّين والولاية لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى فإذا تنازع هؤلاء الاخوة «فَأَصْلِحُوا» أيها الاخوان المؤمنون «بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» المختلفين وهذه الجملة تقرير للأمر بالصلح بين المتقاتلين ثم أكد تحذيرهم من الميل لطرف دون آخر بقوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أن ترجحوا أناسا على آخرين ولو كانوا أولي قربى منكم وأحسنوا نيتكم بالإصلاح بين النّاس كلهم وعاملوهم سواسية «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (10) من قبل اللّه فتنالوا رحمته الواسعة التي حملتكم على التدخل بالإصلاح بين إخوانكم رحمة بكم وبهم من أن يتجاوز أحدهما على الآخر أو يأخذ ماله بغير وجه شرعي لأن الجزاء من جنس العمل.
أخرج به جرير عن السّدى قال.
كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد ، فأرادت أن تزور أهلها ، فحبسها في علية ، فبعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها ، وكان الرّجل قد خرج فاستعان بأهله ، فجاء بنو عمهم ليحولوا بين المرأة وأهلها فتراجعوا(6/222)
ج 6 ، ص : 223
واجتلدوا بالنعال ، فنزلت فيهم هذه الآية.
وقال قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مماراة بحق فقال أحدهما للآخر لآخذن حقي منك عنوة لكثرة عشيرته ، فتدافعوا بينهم وتناولوا بعضهم فنزلت.
وكلّ هذا جائز لأن يكون سببا للنزول ، لأن الآية عامة في جميع المسلمين وحكمها باق إلى يوم القيامة ، وكذلك الآية التي بعدها فهي عامة في كلّ من يقع منه شيء مما نهى عنه فيها وفي كل الآيات لأن العبرة لعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب.
أما ما رواه البخاري ومسلم عن أنس قال : قيل للنبي صلّى اللّه عليه وسلم لو أثبت عبد اللّه بن أبي الحديث إلى أن قال فبلغنا أنها نزلت فيهم.
وما روياه عن أسامة بن زيد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ركب على حمار إلى أن قال : وذلك قبل أن يسلم عبد اللّه بن سلول قبل واقعة بدر فلا يصحان أن يكونا سببا للنزول.
ومما يدل على ضعف القول الأوّل كلمتا قيل وبلغنا المشيرتان إلى توهين الرّواية ، وعلى ضعف الثاني أنه قبل إسلام عبد اللّه لأن هذه نزلت بعد إسلامه بكثير وعبد اللّه منافق لم يزل على نفاقه وما كان إسلامه إلا صوريّا ومات على نفاقه كما أشرنا إليه آخر سورة المنافقين ، وهو أحقر من أن ينزل اللّه فيه قرآنا أو يسميه مؤمنا ، وقد تسامح من عدّ ما جاء في هذين الحديثين سببا للنزول ، لأن هذه الآية متأخرة عن حادثة بن سلول المارة في سورة المنافقين فظهر أنها نازلة في طائفتين من المؤمنين وفي اقتران هذه الآية بالشرط إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يصدر القتال من المؤمنين لا أن ذلك لم يقع ، بل وقع حقيقة ، وإن المقاتلة تستعمل مجازا المضاربة ولم تزل تستعمل لغة حتى الآن يقول الرّجل لابنه
وغيره لأقتلك وهو يريد أضربك ، لا القتل بمعنى الذبح ، من لفظ البغاة يطلق على الخارجين على الإمام والحكم فيهم أن يرسل الإمام إليهم من ينصحهم ويكشف شبهتهم ويقف على الأسباب الدّاعية لخروجهم ويدعوهم إلى الطّاعة والانقياد لحكم اللّه ، وإذا علم عذرا بخروجهم من ظلم ونحوه وجب على السّلطان إزالته ، فإن لم يكن شيء من ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أمر الدّنيا أيضا وأصروا على بغيهم بقصد قلب الحكم أو الانحياز لدولة أخرى فله أن يقاتلهم حتى يركنوا إلى الطّاعة ويسلموا تسليما مطلقا.
واعلم أن قتال الخوارج يمتاز على قتال الكفار بثلاثة أمور ، أن لا يتبع مدبرهم إذا هرب ، ولا(6/223)
ج 6 ، ص : 224
يقتل أسيرهم إذا استسلم ، ولا يذقف أي لا يجهز على جريحهم بأن يقتل أو يضرب مرة أخرى ليموت بل يترك وشأنه حتى يشفى أو يموت.
ومن جملة ما أدب اللّه به هذه الأمة وهذبها وحسن أخلاقها هو قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ» عند اللّه وبعض خلقه وعدم معرفتكم بالأخيرية لا يكفي «وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» من حيث لا يعلم السّخر فضيلة المسخور منه ، وقد يعرفها غيره ، قال عليه السّلام إن أحدكم ليرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» لا تطغوا ولا تحضروا أو تعيبوا بعضكم بعضا ولو بالاشارة أو الرّمز ، لأن من عاب أخاه فقد عاب نفسه ، ولا يخلو أحد من عيب ، فكيف يعيب المعيب غيره ؟ ورحم اللّه امرأ شغله عيبه عن عيوب النّاس راجع أول السّورة الهمزة في ج 1.
قال ابن عباس جاء ثابت بن قيس بن شماس حتى انتهى إلى حضرة الرّسول ، فقال لرجل كان بينهما تفسح ، فقال له الرّجل أصبت مجلسا فاجلس ، فسئل عنه فقال الرّجل أنا فلان ، فقال له ثابت بن فلانة وذكر أما له كان يغيرها في الجاهلية ، فاستحى الرّجل ونكس رأسه ، فنزل أول هذه الآية وقال أيضا أن حفصة رضي اللّه عنها قالت إلى صفية بنت حيي رضي اللّه عنها ، يهودية بنت يهوديين ، قال أنس فشكتها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال لها ، إنك لابنة نبي ، يريد اسحق عليه السّلام ، وإن عمك لنبي يريد إسماعيل عليه السّلام وإنك لتحت نبي يريد نفسه صلّى اللّه عليه وسلم ، فكيف تفتخر عليك ؟
فنزل الشّطر الثاني منها.
وقال جبير بن الضّحاك قدم علينا رسول اللّه وليس منا رجل إلّا وله اسمان او ثلاثة ، فجعل رسول اللّه يقول يا فلان فيقولون يا رسول اللّه إنه يغضب من هذا الاسم فنزل آخرها وهو قوله تعالى «وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ» أي لا يدعون أحد أخاه بلقبه الذي يكرهه ولا ينبغي ان يقال لكتابي أسلم يا يهودي يا نصراني ، وكذلك غير الكتابي فلا يقال يا مشرك يا مجوسي يا بوذي يا صابئي لقوله تعالى «بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ» لكل أحد ويكون أشد قبحا شؤما وأعظم وزرا إذا كان «بَعْدَ الْإِيمانِ» لأن المؤمن لا يليق ان(6/224)
ج 6 ، ص : 225
يدنس إيمانه بما يؤثمه عند ربه ، وإذا وقع منه فعليه ان يسارع للاستغفار والاستسماح ولهذا قال تعالى «وَمَنْ لَمْ يَتُبْ» بعد هذا النّهي فيسخر من أخيه أو يسميه بما يكره أو يعيبه او يحقره فيكون مخالفا لأمر اللّه في ذلك ، وإذا كان له اسمان فليسمه بأحبهما إليه ، ولذلك أتيهم اللّه بقوله «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (11) أنفسهم بتعديهم عليها ومخالفتهم أمر اللّه تعالى وتجاوزهم على إخوانهم لأن من يسمى بما يكره فكأنما عيّره وعابه ، ومن عيّر أخاه فقد ظلم نفسه واستحق العقاب على او العتاب على ذلك وكذلك كلّ ما يحزن المسلم من قول او فعل وعليه ان يسره فمن حسن إسلام المرء إدخال السّرور على أخيه المؤمن ، ومن جملة تأديب اللّه تعالى عباده والسّير بهم إلى المثل الأعلى قوله جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» يوقع صاحبه بالسوء ويستحق العقوبة عليه وإذا كان بعضه إثما فعليه ان يتباعد عنه كله لأنه لا يعرف الذي يأثم به منه ، وينبغي أن يظن خيرا أو يترك لئلا يقع فيما يكره أو يثلب ولهذا قال تعالى «وَلا تَجَسَّسُوا» على عيوب النّاس ولا تتبعوا عوراتهم التي سترها اللّه عليهم فتفضحوهم واللّه يحب السّتر ، وجاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم من كشف ستر أخيه كشف اللّه ستره «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» بما فيه وبما ليس فيه لاطلاق النّص ، فليقل أحدكم خيرا أو ليصمت.
وتوجد أشياء مستثناة من هذه الآية سيأتي ذكرها بعد.
ثم إن اللّه تعالى لما مثل لخلقه ما يناله المعتاب من عرض أخيه بقوله «أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» كأنهم قالوا لا يحب أحدنا ذلك ، فلما استجوبهم واعترفوا بأن أحدا لا يحب جيفة أخيه بغير ضرورة وأنه لا يمكنهم إنكار كراهيته.
قال تعالى «فَكَرِهْتُمُوهُ» كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فلا تغتابوا أحدا بما يكره ، ولا تجسسوا عليه ، ولا تظنوا فيه سوء ، وإن ما وقع منكم قبل صدور هذا النّهي توبوا منه ولا تعودوا إليه «إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ» على من تاب يقبل توبته ويعفو عنه «رَحِيمٌ» (12) بعباده يبين لهم مضارهم ومنافعهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم.
قيل إن رجلين من الأصحاب أرسلا سلمان الفارسي إلى حضرة الرّسول ليطلب لهم(6/225)
ج 6 ، ص : 226
طعاما فأرسله الرّسول إلى خادمه أسامة بن زيد ، فذهب فقال ما عندي ؟ فرجع سلمان وأخبرهما فقالا بخل أسامة ، ثم أرسلاه لمكان آخر فلم يأتيهما بشيء ، فقالا لو بعثناه إلى بئر معونة لغار ماؤها ، فانطلقا يتجسسان على أسامة هل عنده شيء أم لا ، فلما جاءا إلى رسول اللّه قال لهما مالي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما ؟
قالا يا رسول اللّه ما تناولنا يومنا هذا لحما ، قال ظللتما تأكلون لحم سلمان وأسامة ، فأنزل اللّه هذه الآية.
وهي عامة لم تقيدها هذه الرّواية ولم يخصصها شيء غيرهما ، وباق لحكمها ما بقيت الدّنيا.
وإنما مثل تعالى باللحم وخصه بالأخ ليكون آكد في المنع والكراهية ، لأن العدو قد يحمله الحق على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي اللّه عنه ، ويكون اللّحم على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي اللّه عنه ، ويكون اللّحم ميتا لأنه أبلغ في الزجر لأن النّفس مهما كانت مضطرة لا تميل إليه بخلاف المذبوح.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إياكم والظّن ، لأن الظّن أكذب الحديث ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد اللّه إخوانا كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره ، التقوى هاهنا التقوى هاهنا التقوى هاهنا (كررها صلّى اللّه عليه وسلم ثلاثا وفي كلّ منها يشير إلى صدره الشّريف ، يؤمن بذلك إلى التقوى بالقلب لا بشقشقة اللّسان ، لأن اللّه ينظر إلى القلب لا إلى الصّورة) بحسب امرئ من الشّر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله ، إن اللّه لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم.
واعلم أن الحكم الشّرعي في هذا هو أنه يحرم على الرّجل أن يغتاب أخاه أو يسمع إلى حديثه بقصد التجسس عليه وأن يظن به سوءا ، ومن أكبر الكبائر وأفظعها التجسس على المسلمين وإفشاء أسرارهم الحربية إلى أعدائهم أو إلى من يوصل إليهم ، ويسن للرجل أن يستر ما يراه من عيوب إخوانه روى مسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لا يستر عبد عبدا في الدّنيا إلّا ستر اللّه عليه يوم القيامة.
وروي عنه قال أتدرون ما الغيبة ؟ قلت اللّه ورسوله أعلم ، قال ذكرك أخاك بما يكره ، قلت وإن كان في أخي ما أقول ؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فقد بهته.
وأخرج أبو داود والترمذي عن عائشة قالت(6/226)
ج 6 ، ص : 227
قلت للنبي صلّى اللّه عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا تعني قصرها ، فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته.
فقال ما أجب أني حكيت له إنسانا ولي كذا وكذا ، ومعنى حكى شبّه الشّيء بغيره فيما يمدح أو يذم ، والظّاهر أن المراد هنا الذم.
وأخرج أبو داود عن أنس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وصدورهم ، فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟
قال هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون في أعراضهم.
هذا ، وما ورد : احترسوا على أموالكم بسوء الظّن ، وإن سوء الظّن من أزكى الفطن ، هذا مما يعود لنفس الظّان ، لأن من يريد أن يدين أحدا دينا أو يزوجه بنتا أو يعقد معه عقدا فله التبصر بحاله.
قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية الخامسة من سورة النساء المارة ، فراجعها ففيها ما تريده في هذا البحث ، ومن أين يعرف السّفيه من غيره إذا لم يحصل له الظّن الموجب للتحقيق عن حاله فهذا من الظّن الجائز حفظا لنفس الرّجل وماله من أن يقع بغير موضعه ، وبنت الرّجل من ماله ووضعها عند من يكرمها خير من وضع المال عند من يرده ، وقد ورد : النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته.
فيكون التبصر بشأنها ألزم من غيره ، وكذلك يجوز التجسس لمعرفة حال من يريد أن يدينه أو يزوجه ، وأحسن انواع التجسس هو ما يعود لحفظ جيش المسلمين من العدو والتوصل لمباغتة داره وجنده ، لأن حضرة الرّسول كان يرسل العيون في الغزوات ويقول الحرب خدعة ، وأقبحه من يتجسس على المسلمين ليوصل أخبارهم لعدوهم فهذا ممن يخون الله ورسوله والمسلمين اجمع ، وكذلك يجوز غيبة الفاسق المجاهر بفسقه بقصد ردعه وعدم اغترار النّاس فيه لما جاء في الحديث الصّحيح : أذكروا الفاجر بما فيه يحذره النّاس.
وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 35 من سورة الإسراء ج 1 فراجعها قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» فيما بينكم لا لتفاخروا والشّعوب رءوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج ، والقبائل ما تشعب منها كبكر من ربيعة وتميم من مضر ، والعمائر متفرعة من القبائل كشيبان من بكر ودارم من تميم ، والبطون من العمائر كبني(6/227)
ج 6 ، ص : 228
لؤي وغالب من قريش ، والأفخاذ من البطون كبني هاشم وبني أمية من لؤي ، والفضائل من الأفخاذ كبني العباس من هاشم ، والعشائر من الأفخاذ أيضا ، والبيت من العشيرة فتقول بيت فلان من عشيرة فلان ومن فخذ فلان إلخ وليس بعد هذا شيء يوصف أو ينسب إليه إلّا الجد ، وكلّ من هؤلاء مهما بلغوا من العلو والكثرة في العدد والثروة لا ينبغي أن يتفاضل به إذا كان خاليا من تقوى اللّه القائل «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» فلا تفاخر ولا تفاضل بين الناس في الدّنيا إلّا بها ، لأنها تستوجب الكرامة من اللّه عند اللّه في الآخرة لا بالأنساب ولا بالمكاثرة «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ» بأنسابكم وتكاثركم وغناكم لا حاجة لأن يتطاول بها بعضكم على بعض «خَبِيرٌ» (13) بالأفضل عنده الذي يستحق كرامة.
وعندكم الذي يستوجب احترامكم لما قال ثابت بن قيس للرجل الذي لم يفسح له بين فلانة كما مر في الآية 11 ، قال صلّى اللّه عليه وسلم أنظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت ؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود ، قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت هذه الآية.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي النّاس أكرم ؟ قال أكرمهم عند اللّه أتقاهم ، قالوا ليس عن هذا نسألك ، قال فأكرم النّاس يوسف نبي اللّه بن يعقوب نبي اللّه بن اسحق نبي اللّه بن خليل اللّه ، قالوا ليس عن هذا نسألك ، قال عن معادن العرب تسألون ؟ قالوا نعم قال خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
أي تعلموا أحكام الشّرع ، فإذا لم يفقه الخيار انحطت درجتهم عن غيرهم فالعبد التقي خير من الشّريف الشّقي والسّوقة العالم خير من الحسيب الجاهل ، فالعاقل لا يترك التقوى اتكالا على النّسب.
فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشّرك الحسيب أبا لهب
ولما قدم نفر من بنى أسد وأظهروا الإسلام لرسول اللّه وصاروا يمنّون عليه بقولهم أتتك العرب على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كغيرنا وطلبوا منه الصّدقة وكانت سنة مجدبة ، فأنزل اللّه «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «لَمْ تُؤْمِنُوا» إيمانا حقيقيا «وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا»(6/228)
ج 6 ، ص : 229
أي استسلمنا مخافة الهلاك من الجدب والجلاء والسّبي والقتل ولو كان إيمانكم كاملا لما مننتم به عليّ «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» دخولا حقيقيا حتى الآن ولم تخلصوا فيه إخلاصا صادقا مع انه لنفعكم «وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ظاهرا وباطنا طاعة لا تريدون بها إلّا وجه اللّه و«لا يَلِتْكُمْ» ينقصكم اللّه «مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً» بل يجزيكم ثوابها كاملا ويزيدكم من فضله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما بدر منكم «رَحِيمٌ» (14) بجميع عباده يريد لهم الخير ومن الخير عدم المنّة بالإسلام ، لأن المنّة للّه الذي اختاركم إليه ولرسوله الذي أرشدكم إليه قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» إيمانا خالصا لا لغرض ولا لعوض ، ولم يقصد به إلّا ابتغاء وجه اللّه «ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا» في أمر دينهم كله «وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (15) بإيمانهم لأنهم أيدوه بالجهاد مالا وبدنا ، ولا دليل أصدق على الإيمان من الاقتداء باللّه ورسوله ، والاقتداء بالنفس والمال ، فلما نزلت هاتان الآيتان أتوا إليه وحلفوا أنهم صادقون بإيمانهم ، وقد علم اللّه منهم غير ذلك فأنزل جل إنزاله «قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ» الذي أنتم عليه وهو خلاف ما تقولون ، فلا تكتموا ما في قلوبكم على اللّه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وأنتم من جملة من فيها «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (16) لا يحتاج إلى أخباركم ، فيعلم الصّادق من الكاذب ، والمخلص من المنافق ، ويخبر رسوله بذلك فيذكره لكم على رؤوس الأشهاد.
قال تعالى «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ» يا سيد الرّسل «أَنْ أَسْلَمُوا» بقولهم المار بصدر الآية 14 «قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (17) بإيمانكم ولكنكم كاذبون به «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يخفى عليه شيء مما يقع فيها ومن ما فيها وفوقهما وتحتهما «وَاللَّهُ بَصِيرٌ» بدقائق الأمور خبير «بِما تَعْمَلُونَ» (18) سرا وجهرا ، روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رهطا وأنا جالس ، فترك منهم رجلا هو أعجبهم إلي فقلت مالك عن فلان والله أني لأراه مؤمنا ؟(6/229)
ج 6 ، ص : 230
فقال صلّى اللّه عليه وسلم أو مسلما ، ذكر ذلك سعد ثلاثا وأجابه بمثل ذلك ، ثم قال اني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النّار على وجهه.
الحكم الشّرعي :
يعتبر كلّ من نطق بالشهادتين من الجن والإنس مسلما ويعامل معاملة المسلمين ويدفن في مقابرهم ، وليس لنا أن نقول له انك لست بمؤمن ، لأن العبرة للظاهر وأمر الباطن مفوض إلى اللّه ، ولم يقل الرّسول ما قال إلّا بإخبار اللّه إياه ، أما نحن فليس لنا ذلك ، كما أنه لو فرض أن هناك مؤمنا سرا ولم يعلن إسلامه ولم ينطق أمام أحد بالشهادتين ، قال نعامله معاملة المسلمين ولا ندفنه في مقابرهم ، وعدم معاملتنا له لا تضره واعلم أن الإسلام والإيمان واحد عند أهل السّنة والجماعة دون خلاف ، ومنهم جعل الإسلام غير الإيمان ، ومنهم على العكس مستدلا بحديث جبريل عليه السّلام إذ فرق فيه بين الإسلام والإيمان.
والإسلام لم يقرّ فيه الزيادة والنّقص بخلاف الإيمان ، راجع الآية الثانية من سورة الأنفال المارة وما ترشدك إليه في هذا البحث ، وله صلة آخر سورة التوبة الآتية.
ومنهم من جعل هذا الاختلاف بالتعبير فقط ، وهو أن تعلم أن بين العام والخاص فرقا ، فالإيمان لا يحصل إلّا بالقلب ، والإسلام الذي هو الانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان ، وعليه فإن الإسلام أعم والإيمان أخص ، لأن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا غيره ، فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص ، متحدان في الوجود ، فذلك المؤمن والمسلم.
هذا ، وإن البغاة المار ذكرهم في الآيتين 9 و10 المارتين الّذين قال فيهم العلماء إن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن اللّه تعالى سماهم مؤمنين مع كونهم باغين ، يدل على هذا ما روي عن علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه وهو القدوة في قتال أهل البغي ، وقد سئل عن أهل الجمل وصفين المشركون هم فقال لا ، إنهم من الشّرك فرّوا ، فقيل أمنافقون هم ؟ فقال لا ، إن المنافقين لا يذكرون اللّه إلّا قليلا (أي وهؤلاء يكثرون من ذكر اللّه تعالى) فقيل ما هم إذا قال إخواننا بغوا علينا.
والباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العدل ، فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ونصبوا لهم ، إماما يرجعون اليه مع وجود(6/230)
ج 6 ، ص : 231
الإمام الذي خرجوا عن طاعته فالحكم فيهم هو ما تقدم آخر الآية العاشرة المارة ص 425 فراجعها تقف على ما تريد مما يجب أن يعاملوا به مما هو موافق للشرع الاسلامي.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين ، وعلى من تبعهم بإحسان والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة التحريم
عدد 21 - 107 و66
نزلت بالمدينة بعد الحجرات ، وهي اثنتا عشرة آية ، ومئتان وسبع وأربعون كلمة ، والف وستون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، ومثلها في عدد الآي سورة الطّلاق وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت بها في سورة الأحزاب ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» من النّساء «تَبْتَغِي» بذلك التحريم «مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ» لما وقع منك في ذلك «رَحِيمٌ» (1) بك يحل لك ما تحرم على نفسك.
مطلب في اثبات قصة التحريم وتفنيد الرّوايات فيها لأن اللّه تعالى لم يبين ما هو الذي سرّه الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم لزوجاته :
روى البخاري ومسلم عن عائشة أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا قالت فتواطأت أنا وحفصة إن أتانا ودخل علينا النّبي صلّى اللّه عليه وسلم أن نقول هل إنا نجد منك ريح مغافير ، فدخل على إحداهما فقالت له أكلت مغافير - هو صمغ حلو له رائحة كريهة ينضجه شجر المعرفط وهو نبات له ورق عريض يفرش على الأرض له شوكة وثمرة خبيثة الرّائحة - فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه وفي رواية قد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا فنزلت هذه الآية.
وما قيل من أن هذه الآية في قضية مارية حينما واقعها حضرة الرسول في بيت حفصة أو في بيت عائشة المذكورة في الصّحيحين فلم تأت من(6/231)
ج 6 ، ص : 232
طريق صحيح ، والأخبار فيها متعارضة ، لأن رواية ابن عباس في بيت حفصة وما نقله الكشاف أنها في بيت عائشة ، وفي رواية أنس التي أخرجها الحاكم والنّسائي لم تعين الأمة ولا البيت ، وإنما ذكرا فيها أن عائشة وحفصة لم تزالا برسول اللّه حتى جعلهما حراما على نفسه.
قال النّووي في شرح مسلم الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية.
وقال الخافجي نقلا عنه ، الصواب أن شرب العسل كان عند زينب خلافا الحديث المروي في الصّحيحين عن عائشة أيضا بأن العسل شربه عند حفصة وإن عائشة وسودة وصفية تواطأن عليه بذلك ، أي اتفقن فيما بينهن على ذلك القول ، لأن الخطاب في الآية إلى اثنتين لا إلى ثلاثة.
وقال الطيبي فيما نقله عن الكشاف من أنه صلّى اللّه عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت ذلك حفصة ، فقال لها اكتبي عليّ ، وقد حرمت مارية على نفسي ، وأبشرك بأن أبا بكر وعمر سيملكان بعدي أمتي.
ما وجدته في الكتب المشهورة فضلا عن تضاربها واختلاف رواتها واضطرابهم بالاسم والزمان والمكان ، ولا أراها إلّا موضوعة أو ملفقة فلا عمدة على شيء فيها ، ولهذه الأسباب اعتمدنا الرّواية الأولى الثابتة في الصحيحين والتي لا طعن فيها ، تأمل قال تعالى «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» بأن أوجب عليكم كفارة لتحليل يمينكم.
وإنما جمع الضّمير تضخيما لسيد المخاطبين وإعلاما بأن هذا الحكم ليس له وحده بل لأمنه أيضا «وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ» جميعا وناصركم ومغيثكم ومؤيدكم «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بما يقع منكم «الْحَكِيمُ» (2) يحلل ويحرم ويرخص في الأمور وقد يسر عليكم في كفارة الأيمان وسهلها لكم رحمة لكم.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال إذا حرم الرجل امرأته فهو يمين يكفرها ، وقال لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة.
وفي رواية إذا حرم امرأته ليس بشيء.
والحكم الشّرعي فيها لو قال أنا عليك حرام ونوى الطّلاق يقع ، ولو قال أنا حرام ولم يقل منك وعليك لا يقع ، وإن نوى ولو قال لامرأته مرتين أنت علي حرام ونوى بالأول الطّلاق وفي الثانية اليمين فهو على ما نوى.
راجع بحث الكنايات في فتاوى الهندية والبزّازية والخانية والأنقروي وغيرها من كتب الفتاوى والفقه كالدرر والدّر وغيرها.
قال تعالى مبينا القصة(6/232)
ج 6 ، ص : 233
التي هي سبب التحريم «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً» لم يذكره اللّه ما هو ، والمجمع عليه أنه قصة شرب العسل عند زينب وحلفه أو تحريم مارية ، أو أمر الخلافة على ما مرّ لك ، وقوله لحفصة أنه لا يعود إليه كما أنه تعالى لم يذكر التي أسر إليها إلّا أن أكثر الأخبار تدل على أنها حفصة ، ولذلك خصصناها بالذكر واللّه أعلم «فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ» أخبرت حفصة عائشة بالأمر الذي علمته «وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» بان أطلعه على اخبارها واتفاقها مع عائشة على مسألة المغافير المارة ، وقد «عَرَّفَ بَعْضَهُ» إلى حفصة بأن قال لها إنك قلت لعائشة كذا وكذا مع اني نهبتك ان تبوئي بما قلته لك من شرب العسل وغيره «وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» وهو قوله إني حلفت فلا تخبري أحدا فلم يقله لها ، ولم يؤنبها عليه ، إلا أنه غضب من افشائها ما أسره لها ، مع أنه أمرها بكتمانه وهمّ بطلاقها ، فأتاه جبريل وقال له لا تطلقها فإنها صوامة قوامة ، وانها من نسائك في الجنّة.
وهذا وان كان ليس بشيء إلّا أنه بالنسبة لمقام حضرة الرّسول شيء عظيم ، كما أن ما يقع منهن لو وقع من الغير لما سمي ذنبا البتة ، ولكن الأنبياء يعدونه كبيرا بالنسبة لمقامهم من اللّه عز وجل ، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين.
قال تعالى «فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا» النبأ الذي ذكرته مع أنه لم يطلع عليه أحد إلّا أنا وعائشة «قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» 3 بكل ما يقع في ملكه ، قبل لما بلغ ذلك عمر وظن أن حضرة الرّسول طلقها قال لها لو كان في الخطاب خير لما طلقك رسول اللّه.
قال تعالى «إِنْ تَتُوبا» على طريق الالتفات وهو أبلغ من المعاتبة ، والخطاب لعائشة وحفصة لأنهما اللّتان تواطأتا على ذلك كما مر آنفا وترجعا «إِلَى اللَّهِ» عما وقع منكما من الاتفاق والتعاون على أذى حضرة الرّسول وعلى كتمان ما يأمر كنّ بكتمانه ، لأنه الواجب عليكما طلبا لرضائه ، لأن اللّه تعالى يغفر لكما ما بدر منكما ، لأن ما تواطأتما به عليه «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» به أي زاغت ومالت هما هو الواجب عليكما من الإخلاص لحضرته بأن تحبا ما يحبه وتكرها ما يكرهه ، وامتثال أمره مهما كان ، وقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن الامتثال لما أراده منكما(6/233)
ج 6 ، ص : 234
لأن ذلك مخالفة لحضرته تستوجب العقوبة ، وهي إثم تجب التوبة منه عليكما ، لأن طاعته واجبة ، ثم هددهما بقوله «وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ» وتتعاونا بما يسوءه قولا وفعلا «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ» وحافظه من كيدكن وناصره عليكما وعلى كلّ من يناوئه «وَجِبْرِيلُ» وليه أيضا «وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» أوليائه وفي طليعتهم أبواكما ينصرانه عليكما «وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ» النصر والتولي من اللّه وجبريل وكلّ مخلص من المؤمنين والملائكة الكرام «ظَهِيرٌ» (4) له على كلّ من يناوئه فما يغني تظاهركما عليه.
واعلمن أيها النّساء كلكن إذا أصررتن على ما أنتنّ عليه فمصيركن الهلاك فبادرون بالندم وأسرعن بالتوبة مما وقع منكن واسترضينه ، فإذا رضي عنكما فلعل ربّه أن يقبل توبتكما وإذا أصررتما فما تدريان «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» لأن تصييركن بوجودكن عنده وفضلكن بما نلتنه من قربه ، فإذا طلقكن زالت منكن تلك الصّفات ولم يبق لكن فضل على غيركن.
ثم وصف النّساء اللاتي يبدلهن بهن بأنهن «مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ» مهاجرات وقيل صائمات لأن السّائح لا زاد له فشبه بالصائم «ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً» (5) وهذا من باب الإخبار عن القدرة لا عن الكون ، لأنه قال إن طلقكن وقد علم أنه أنه لا يطلقهن ، فأخبر عن قدرته بأنه إذا طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن.
مطلب استئناس عمر رضي اللّه عنه مع حضرة الرّسول وما قاله أبو رواحة إلى زوجته حتى تخلص مما اتهمته به :
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين في أزواج النّبي صلّى اللّه عليه وسلم اللّتين قال اللّه عز وجل فيهما إن تتوبا إلى اللّه فقد إلخ حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان بعض الطّريق عدل وعدلت معه بالأدواه الرّكوة التي فيها ماء ، والعدول هو الميل إلى جانب الطّريق الملوك والبراز محل قضاء الحاجة ، فتبرز ثم اتاني ، فصببت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النّبي صلّى اللّه عليه وسلم اللّتان قال اللّه فيهم إن تتوبا إلخ ؟
قال عمر ووا عجبا لك يا ابن عباس قال الزهري كوه منه ما سأله عنه ولم يكتمه ، (6/234)
ج 6 ، ص : 235
قال هما عائشة وحفصة ، ثم أخذ بسوق الحديث قال كنا معشر قريش قوما نغلب نساءنا ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، قال وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي (هي أماكن بأعلى أراضي المدينة جمع عالية) فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك ، فو اللّه ان أزواج النّبي صلّى اللّه عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى اللّيل ، فانطلقت فدخلت على حفصة ، قلت أتراجعن رسول اللّه ، فقالت نعم ، فقلت أتهجره إحداكن اليوم إلى اللّيل ، قالت نعم قلت لقد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت أفتأمنّ إحداكن أن تغضب اللّه عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت رسول اللّه ولا تسأليه شيئا وسلي ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أو سم (أكثر حسنا وجمالا) وأحب إلى رسول اللّه منك (يريد عائشة) ، وكان لي جار من الأنصار ، فكنا نتناوب النّزول إلى رسول اللّه فينزل يوما فيأتيني بخبر الوحي ، وأنزل يوما وآتيه بمثل ذلك ، وكنا نتحدث ان غسان تبعث الخيل لتغزونا ، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني ، فخرجت إليه ، فقال حدث أمر عظيم ، قلت ماذا حدث أجاءت غسان ؟ قال بل أعظم منه وأهول طلق رسول اللّه نسائه ، قلت قد خابت حفصة وخسرت ، قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون ، حتى إذا صليت الصّبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول اللّه ؟ قالت لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربة (الغرفة والعلية ولها معان ليست مرادا هنا) فأتيت غلاما له أسود ، فقلت استأذن لعمر ، فدخل ثم خرج ، فقال قد ذكرتك له فصمت ، فانطلقت حتى أتيت المشربة ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ، فجلست قليلا ، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام ، فقلت استأذن لعمر ، فدخل ثم خرج فقال ذكرتك له فصمت ، فوليت مدبرا ، فإذا الغلام يدعوني فقال أدخل فقد أذن لك ، فدخلت
فسلمت على رسول اللّه ، فإذا هو متكىء على رمال حصير (أي حصير مضفور ، من رملت الحصير إذا ضفرته أي ليس له وطاء غيره) قد أثر في جنبه ، فقلت أطلقت يا رسول اللّه نساءك ؟ فرفع رأسه إلى فقال لا ، فقلت اللّه أكبر لو رأيتنا يا رسول اللّه قد كنا معشر قريش نغلب النّساء ، فلما قدمنا(6/235)
ج 6 ، ص : 236
المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت إذا راجعتني ، فقالت ما تنكر أن أراجعك ، فو اللّه إن أزواج النّبي يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى اللّيل ، فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب اللّه عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت ، فتبسم صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم قال عمر فدخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول اللّه منك ، فتبسم أخرى ، فقلت استأنس يا رسول اللّه ؟ قال نعم ، فجلست فرفعت رأسي في البيت ، فو اللّه ما رأيت فيه ما يرد البصر إلّا أهبة (جمع أهاب وهو الجلد) ثلاثة ، فقلت يا رسول اللّه أدع اللّه أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والرّوم وهم لا يعبدون اللّه فاستوى جالسا ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب ، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدّنيا ، فقلت استغفر لي يا رسول اللّه وكان أقسم لأن لا يدخل عليهن شهرا من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة لعائشة من شدة موجدته أي غضبه الشّديد عليهن حتى عاتبه اللّه ، قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت لما مضت تسع وعشرون دخل علي رسول اللّه بدأ بي ، فقلت يا رسول اللّه إنك أقسمت أن لا تدخل شهرا وإنك دخلت في تسع وعشرين ليلة أعدهن ، قال إن الشّهر يكون تسعا وعشرين ، وفي رواية قلت يا رسول اللّه ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن اللّه معك وملائكته وجبريل وميكال وأنا وأبو بكر والمؤمنون ، فنزلت هذه الآية.
هذا ويعلم من قوله تعالى إذ أسرّ إلخ جواز أسرار بعض شأن الرّجل لزوجته أو صديقه ممن يأتمنه ويعتمد عليه ، ويلزم ذلك المسر اليه الكتمان.
وتشير هذه الآية إلى لزوم حسن معاشرة الزوجة والتلطف بعتابها
عند تقصيرها ، ونؤمى أيضا إلى الإعراض عن زلتها.
روي أن عبد اللّه بن رواحة أحد النّقباء كانت له جارية فأتهمته زوجته أنه واقعها حيث رأته معها فأنكر عليها ذلك تعريضا ، فقالت له إن كنت صادقا فاقرأ القرآن فأنشد :
شهدت فلم أكذب بأن محمدا رسول الذي فوق السّموات من على
وان أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل في دينه متقبل(6/236)
ج 6 ، ص : 237
وان التي بالجزع من بطن نخلة ومن دانها كلّ عن الخير معزل
قالت زدني ، فأنشد :
وفينا رسول اللّه نتلو كتابه كما لاح معروف من الصّبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا به موقنات إن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا رقدت بالكافرين المضاجع
فقالت زدني أيضا ، فأنشد :
علمت أن وعد اللّه حق وان النّار مثوى الكافرينا
وان محمدا يدعو بحق وان اللّه مولى المؤمنينا
وان العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام ملائكة اللّه مسوّمينا
فقالت أما وقد قرأت اكثر من ثلاث آيات من القرآن فقد صدقت وصدق اللّه وكذب بصري.
وهذا من كمال يقينها رحمها اللّه ورحم زوجها ، وذهب بالحال وأخبر رسول اللّه بذلك كله فتبسم صلّى اللّه عليه وسلم وقال خيركم خيركم لنسائه.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ» بأن تنهوهم عما نهى اللّه عنه وتأمروهم بما أمر به وتعلموهم ما ينفعهم ويضرهم من أمر الدّين وما لهم وما عليهم من الحقوق للّه ولخلقه وخاصة أزواجكم لأنكم مسؤولون عنهم ومكلفون بتعليمهم وبذلك تخلصون من أن تصلوا «ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» وهذه نار مخصوصة لا تتقد إلّا بالناس والحجارة بان يكونا كبريتا لها ، تتقد به والعياذ باللّه وتقدم مثل هذه الجملة في الآية 34 من سورة البقرة «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ» لم يخلق اللّه رحمة في قلوبهم ولا شفقة ولا لطفا ولا رأفة وهم شديدوا الانقياد لأوامر اللّه تعالى «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (6) به في أعداء اللّه من انواع العذاب ، ولم يتأثروا مما يفعلونه في المعذبين ، لأن اللّه لم يخلق فيهم حنانا على أحد ، ولم يتريثوا في إنفاذ أمره بل يوقعونه حالا كلمح البصر أو أقرب.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا» اخرسوا لا تنبسوا بينة شفة فقد انقطعت المحاججة و«لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ»(6/237)
ج 6 ، ص : 238
حيث تقدم لكم الإنذار والإعذار في الدّنيا فلا محل له في الآخرة «إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (7) في الدّنيا من الخبائث في هذا اليوم الذي وعدتم به ، الذي لا يقبل فيه عذر البتة ، واعلم أنه لا يوجد في القرآن مثل صدر هذه الآية قطعا ، وهذا من لطفه تعالى ، إذ كان نداؤه يا أيها النّاس ، يا أيها الّذين آمنوا يا بني آدم ، يا أهل الكتاب ، بما يشم منه عدم دخول الغير في هذا الخطاب ، ولذلك خصصه بالكافرين وله الحمد ، ومن عطفه أيضا على المؤمنين أنه أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يعاملنا باللطف ، إذ قال (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) راجع آخر سورة النّحل في ج 2 «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ» في هذه الدّنيا من جميع السّيئات «تَوْبَةً نَصُوحاً» صادقة خالصة لا عودة فيها إلى الذنب قبل حلول آجالكم ، راجع بحث التوبة في الآية 36 من سورة الشّورى المارة في ج 2 فإذا أتيتم توبة محضة «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» بها.
واعلم أن عسى هنا وفي كلّ موضع من القرآن تفيد التحقيق كما سيأتي في الآية 103 من سورة التوبة الآتية «وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» بل مكرمهم بكرامته راجع الآية 192 من آل عمران المارة ، وحين يمشون على الصراط يوم القيامة يكون «نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» أمامهم «وَبِأَيْمانِهِمْ» من جوانبهم واستغنى بذكر اليمين عن الشّمال اكتفاء به ، وإلا فالنور محيط بهم من جميع جوانبهم من الجهات السّت ، وإذا رأوا نور المنافقين انطفا ، إذ يكون لهم نور كما للمؤمنين بأول الأمر ، ثم يسلب منهم زيادة في حسرتهم وأسفهم «يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» اجعله مصاحبا لنا دائما مثل إخواننا المؤمنين الكاملين الّذين هم مع الأنبياء والشّهداء «وَاغْفِرْ لَنا» ما سلف منا «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (8) فيجيب اللّه دعاءهم ، ويبقي المنافقين في الظّلمة المستمرة ، أجارنا اللّه منها ، لأن إيمانهم كان صوريا ، فيلقون عقابه من جنسه ، إذ يريهم النّور ويدخلهم في الظّلمة كما كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، راجع الآيتين 12 و13 من سورة الحديد المارة قال تعالى(6/238)
ج 6 ، ص : 239
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» بالقول فهم مخزيّون في هذه الدّنيا «وَمَأْواهُمْ» في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (9) هي لأهلها.
مطلب في المثل الذي ضربه اللّه تعالى لنساء الأنبياء وقصة آسية زوجة فرعون ومريم ابنة عمران :
قال تعالى «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ» واعلة الكافرة راجع الآية 97 من سورة هود في ج 2 لتقف على السّبب الذي غمسها في النّار ، وامرأة لوط واهلة الكافرة أيضا ، راجع ما وقع منها في الآية 77 من سورة هود أيضا «كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ» نبيّين كريمين خليلين «فَخانَتاهُما» بالكفر بدينهما والتجسس عليهما وإخبار قومهما بمن يؤمن بهما ومن يأتي إليهما وتحريض قومهما لا بالبغي وحاشاهما منه.
قال ابن عباس ما بغت امرة نبي قط.
لأن البغي يقدح فيهم ويمس جانبهم العالي النّزيه المبرأ من كل عيب ، المنزه من كلّ ما به وصمة مطلقا ، «فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» اي لم ينجياهما من عذاب اللّه مع كونهما محترمين عنده لوجود الحائل وهو الكفر «وَقِيلَ» لهما يوم القيامة «ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (10) فيها ، لأن محبة الكافر للمسلم مع بقائه على كفره لا تنفعه عند اللّه ، وكذلك حجة المعاصي ، قال تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الآية 67 من سورة الزخرف ج 2 ، راجع تفسير الآية هذه ففيه بحث نفيس لا غنى لك عنه.
وإذا كان كذلك فكيف تنفع حجة الكفرة لأوثانهم التي هي نفسها عاجزة محتاجة إلى من يحرسها ؟ وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث أيضا في الآية 31 من سورة ابراهيم في ج 2 فراجعه.
قال تعالى «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ» المؤمنة آسية بنت مزاحم التي كانت مصاحبة لزوجها المتناهي في الكفر «إِذْ قالَتْ» حينما عذبها على إيمانها بموسى وأرادها على الكفر ولم تفعل «رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ» لأني تركت بيت فرعون وجنته في الدّنيا من أجلك رغبة بما عندك في الآخرة «وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ»(6/239)
ج 6 ، ص : 240
الخبيث الذي أرادني عليه «وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» الّذين وكلهم فرعون بعذابي وصبرت حتى ماتت على إيمانها ولم يثنها عنه تعذيب المعذبين ، رحمها اللّه رحمة واسعة ، ولا شك أن اللّه أجاب دعاءها بفضله وكرمه.
وقد بين اللّه في هذين المثلين أن وصلة الكافر للمؤمن لا تضره ولا تنفع الكافر مادام على كفره كما أن وصلة المؤمن للكافر لا تنفعه ولا تضر المؤمن إذا لم يمل إليه ويواليه راجع آخر سورة الممتحنة المارة ومن هذا القبيل وصلة السّيدة مريم عليها السّلام وما أوتيت من الكرامة مع قومها الكافرين فلا تنفعهم ولا يضرونها.
قال تعالى في براعتها مما وصمها به قومها «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» وتمتعت بالعفة في حياتها الدّنيوية كلها «فَنَفَخْنا فِيهِ» بواسطة الأمين جبريل عليه السّلام من جيب درعها نفخة «مِنْ رُوحِنا» التي خلقناها في الأزل لحياة ابنها عيسى عليه السّلام راجع الآية 92 من سورة الأنبياء ج 2 لنقف على كيفية النّفخ هذا وقد أضاف اللّه تعالى الرّوح اليه إضافة تشريف ، لأنه هو الذي خلقها وأبقاها عنده للوقت المقدر لبعث ابنها لأنها له ، كما يقال بيت اللّه وهو لخلقه ، وناقة اللّه وهي لقوم صالح عليه السّلام ، وقد جرت عليها السّلام على أذى قومها وو صمهم لها وهي براء «وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها» التي بشرها بها جبريل عليه السلام بما لها عند اللّه من الكرامة ، وبإيجاد عيسى منها من غير أب ، وبهذا المعنى أطلق عليه كلمة اللّه ، لأنه خلق بلفظ كن ، وهي كلمة اللّه التي أوجد فيها جميع الخلق النّامي منه والجامد «وَكُتُبِهِ» المنزلة على أنبيائه ، صدقت بها أيضا ، ومنها إنجيل ابنها الذي تلقاه عن ربه «وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ» (12) للّه تعالى وهي من نسل القانتين ، لأن رهطها وعشيرتها من بيت الصّلاح والنّبوة ، ولما كان القنوت صفة تشمل كلّ من يقنت ذكرا كان أو أنثى غلب في الذكور هنا ، فيدخل فيه القانتات واعلم أن في هذين المثلين تعريضا بأمّي المؤمنين حفصة وعائشة رضي اللّه عنهما على ما فرط منهما في تواطئهما على ما يغيظ حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ، وتحذير لهما من العود إلى مثله ، واعلاما لهما بأنهما إذا لم يخلصا له كاخلاص آسية ومريم إلى اللّه تعالى لم ينتفعا من صحبته في الآخرة ، وأن لا يتكلا على كونهما(6/240)
ج 6 ، ص : 241
زوجتين له لان الزوجية لا تكفي للخلاص من عذاب اللّه كما هي الحالة في زوجني نوح ولوط لأنهما خلدتا في النّار لعدم نصحهما لزوجيهما وعدم إيمانهما بهما ، وإذا أردت أن تقف على حقيقة الصّحبة ومنافعها ومضارها راجع ما ألمعنا اليه في الآية 10 المارة.
أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال قال صلّى اللّه عليه وسلم حسبك من نساء المسلمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم.
وتقدمت قصة ما شطتها مع فرعون بالآية 10 من سورة الفجر في ج 1 ، وأما قصتها هي ما رواه ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها كانت من أجمل نساء زمانها ، وقد قصتها هي مارواه ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها كانت من أجمل نساء زمانها ، وقد غاظها فرعون بما فعل بما شطتها المار ذكرها وقصتها ، وقد عيل صبرها من هول ما رأت من الفظاعة التي أجرتها عليها شرطة فرعون بأمره فجلست تفكر ماذا تفعل معه وهي بعصمته ، فدخل عليها وهي على تلك الحالة ، فقال لها ما بالك ؟
قالت له بالي إنك شر الخلق ، فقال لها هل الجنون الذي كان في الماشطة أصابك ؟
قالت ما بي من جنون ولا بها ، وإن الرّب الذي لي ولها ولمن في السّموات والأرض هو اللّه الواحد الذي لا شريك له ولا رب غيره ولا يستحق العبادة إلا هو ، فبصق عليها وضربها وأخبر أبويها بذلك لينصحاها ، فجاءا وقالا لها يا آسية ألست من خير نساء العالمين وزوجك إلههم ؟ قالت أعوذ باللّه أن يكون فرعون إلها إن الإله الحق واحد لا شريك له في ملكه ، فإن كان ما يدعيه فرعون حقّا من الألوهية فليتوخ تاجا تكون الشّمس أمامه والقمر خاتمه والكواكب حوله ، ولم يزالا بها يقنعانها ويهددانها وهى ثابتة على إيمانها باللّه كافرة بفرعون مؤنّبة لمن يعده إلها ، وصارت تصرح بذلك بعد أن كانت تسرّ به ، فلما رأى الخبيث منها هذا الإصرار ورأى أن التهديد لم يجدها نفعا ولم يثنها عن عقيدتها وصارحته بالإيمان باللّه والكفر به ودعته إلى الإيمان باللّه ، أخرج أبويها ومدها بين أربعة أوتاد وصار يعذبها بالضرب والكي بالنار إلى أن ماتت مصرة على إيمانها باللّه وحده ، كافرة بما سواه ، رحمها اللّه رحمة واسعة.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد للّه رب العالمين.(6/241)
ج 6 ، ص : 242
تفسير سورة التغابن
عدد 22 - 108 - 64
نزلت بالمدينة بعد سورة التحريم.
وهي ثماني عشرة آية ، ومئتان وأربعون كلمة ، والف وسبعون حرفا.
ومبدأها كمبدأ الآية الأولى من سورة الجمعة فقط ، وختمت بما ختمت به سورة الحشر والجاثية ، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ» الدنيوي والملكوت الأخروي يتصرف فيهما كيف يشاء ويحكم بمن فيهما كما يريد «وَلَهُ الْحَمْدُ» من كافة خلقه على نعمائه راجع بحث الحمد في المقدمة وبحث التسبيح أول سورة الحديد المارة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1) لا يعجزه شيء ولا يفلت منه أحد ولا يفوته فائت لا مانع ولا مدافع له ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» أيها الناس من نفس واحدة «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» في هذه الدّنيا كما أنتم في الأزل عند اللّه وسيعيدكم في الآخرة كذلك «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (2) قبل أن تعملوه لا يعزب عنه شيء من أعمالكم الموافقة لما هو في علمه ومدونة في لوحه.
روى مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن اللّه خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم.
راجع ما يتعلق في هذا البحث في الآية 58 من سورة هود في ج 2 وما ترشدك إليه من المواضع.
قال تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لا عبثا ولا لهوا ولا لعبا وباطلا «وَصَوَّرَكُمْ» أيها النّاس في أرحام أمهاتكم ، وجعل فيكم روحا منه لارادة غيركم ، وجمّلكم «فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» في هذه الدّنيا لأنها على صورته ، فقد صح عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال إن اللّه خلق آدم على صورته.
وفي رواية على صورة الرّحمن.
وهذه نافية لقول من قال إن الضّمير في صورته يعود على آدم لا على اللّه جل جلاله ، وهو بعيد جدا عن المعنى ، وقد أراد هذا القائل التحاشي عن وصفه تعالى بسمات خلقه ، مع أنه لا مانع من القول أن اللّه تعالى له وجه ويد لا كأوجه خلقه(6/242)
ج 6 ، ص : 243
وأيديهم ، وهو ما مشى عليه الماتريدية أجمع ، أما الأشعرية فلا يقولون بهذا ، ويقولون ما جاء في القرآن من هذه السّمات بالقدرة والكمال والرّحمة وشبهها «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (3) في الآخرة لا إلى غيره راجع الآية 7 من آل عمران المارة في بحث الأرحام وما يتعلق بها «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من حركة أو سكون «وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ» أيها النّاس في صدوركم وتحدثون به أنفسكم ويلوح في خاطركم «وَما تُعْلِنُونَ» من أقوالكم وأفعالكم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (4) في مكامنها ودخائلها وما تحوكه من نية أو خطرة أو هاجس قال تعالى «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» من الأمم السالفة كيف فعلنا بهم لما كذبوا رسلنا وأصروا على جحودنا أهلكناهم «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» جزاء ما وقع منهم في الدّنيا ، فدمرناهم تدميرا فظيعا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (5) في الآخرة لا تطيقه القوى البشرية ، ولا الجبال الرّاسيات ، فاتعظوا أيها النّاس بما جرى بهم ، واعتبروا بسوء عاقبتهم ، وارجعوا لربكم كيلا يصيبكم ما أصابهم «ذلِكَ» الذي حل بهم من العذاب الدّنيوي ، والذي سيجازون عليه في الآخرة «بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا» ساخرين بهم ومستهزئين «أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا» استفهام انكاري أي كيف يهدي البشر مثله ؟ وهذا من سخافة عقولهم لأنهم ينكرون هداية البشر لمثله ولم ينكروا على أنفسهم إضلال البشر لمثله وعبادة الأوثان وطلب الخير في الدّنيا والشّفاعة في الآخرة منها «فَكَفَرُوا» بالله ورسله بما جاءوهم من عند اللّه ولم يأخذوا بما جاءوهم لهدايتهم «وَتَوَلَّوْا» عن الانقياد لطاعتهم والإيمان بربهم ، وأصروا على الكفر والطغيان «وَاسْتَغْنَى اللَّهُ» عنهم وعن إيمانهم «وَاللَّهُ غَنِيٌّ» عن جميع خلقه برهم وفاجرهم «حَمِيدٌ 6» لمن
آمن به وصدق رسله ثم ذكر نوعا آخر من سفههم الذي كانوا عليه ، فقال «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا» بعد موتهم في الدّنيا فأنكروه ولم يصدقوا الرّسل بإخبارهم بالبعث يوم القيامة تبعا لعقيدتهم الجاهلية ، إذ كان آباؤهم ينكرون ذلك ويجحدون الحساب والعقاب والثواب «قُلْ» لهؤلاء الحمقى يا سيد الرّسل «بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ» من قبوركم(6/243)
ج 6 ، ص : 244
يوم القيامة يوم يقوم النّاس لرب العالمين مخلوقين خلقا ثانيا من أجزائهم لمتفتتة ، ويعودون كما كانوا عليه في الدّنيا «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» في ذلك اليوم «بِما عَمِلْتُمْ» في دنياكم وتعلمون جهلكم بالخلق الأوّل أدى لجهلكم بالخلق الثاني «وَذلِكَ» البعث بعد الموت والإنباء بما كان منكم وعليكم في الدّنيا «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» 7 سهل
هين لا كلفة فيه ، وكما أن خلقكم أول مرة بمجرد قول كن فكذلك تكون إعادتكم ، وهي كلمة جزئية لا صعوبة فيها لو أنها تصدر من الخلق فكيف إذا صدرت من الخالق بلا صوت ولا حرف «فَآمِنُوا بِاللَّهِ» الذي خلقكم أيها النّاس ثم أماتكم بأنه يحييكم ثانيا «وَرَسُولِهِ» الذي أرسله لهدايتكم آمنوا أيضا «وَالنُّورِ» أي الكتاب «الَّذِي أَنْزَلْنا» عليه كما أنزلنا على من قبله من الأنبياء آمنوا أيضا ، إذ لا يكفي الإيمان باللّه دون الإيمان برسوله وكتابه ، كما لا يكفي الإيمان بالكتاب والرّسول دون الإيمان بمنزل الكتب ومرسل الرّسل «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (8) لا يغرب عنه مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض ، واحذروا أيها النّاس «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ» هو يوم القيامة إذ يجمع فيه الأولون والآخرون من أهل السّماء والأرض.
مطلب يوم التغابن في الآخرة وفتنة الأموال والأولاد في الدّنيا والأمر بالتقوى حسب الاستطاعة وذم البخل وفضل الصّدقة :
ذلك اليوم المسمى يوم الجمع هو «يَوْمُ التَّغابُنِ» الذي يظهر بالأعمال والأقوال الذي ما بعده تغابن ، بخلاف تغابن الدّنيا الذي يكون بالتجارة وشبهها فإنه فان لا قيمة له ، لأن هذا يضع اللّه تعالى به سعداء الدّنيا فقط منازل الأشقياء في الآخرة والأشقياء بالدنيا بسبب الفقر والفاقة والصّبر على الأذى فيها من أجل إيمانهم باللّه ورسله الّذين ماتوا على ذلك مكان السّعداء في الآخرة ، وإذ ذاك يظهر غبن الكافر بتركه الإيمان الموصل للسعادة الأخروية ، فيتأسف ويندم ولات حين مندم ، ويرد العود إلى الدّنيا ليعمل الخير وهيهات ، وكذلك يظهر غبن المؤمن المقصر في الأعمال الصّالحة لأنه يرى من كان دونه في الدّنيا أعلى منه رتبة في الآخرة وأحسن مكانا ومكانة عند اللّه وأعلى درجة في الجنّة ، فيندم أيضا على تقصيره(6/244)
ج 6 ، ص : 245
ويعضّ يديه على تفريطه ، قال عليه الصّلاة والسّلام ما من أحد إلّا ندم يوم القيامة إن كان محسنا ندم أن لا ازداد ، وإن كان كافرا ندم ، أن لا أقلع عن كفره.
«وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً» في دنياه مع إيمانه فإنه تعالى «يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ» في الآخرة «وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» لا يتحولون عنها «ذلِكَ» التكفير والإدخال هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (9) الذي لا أعظم منه لما فيه من بلوغ الغاية التي كان يتوخاها في حياته ومنتهى الأمل الذي كان يؤمله بعد وفاته «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على ذلك اليوم الذي يتغابن به النّاس «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها» أبدا لا يخرجون منها ، وقد حذف من الجملة الثانية اكتفاء بوجودها في الأولى ، وقدم مثله في الآية 35 من سورة الرّعد فراجعها «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (10) النار لأهلها ، وهذه الجملة بمقابلة الجملة الأخيرة في الآية قبلها وهي (الفوز العظيم) وهذا تغابن لا أعظم منه ، لأن أناسا ينعمون في الجنّة وآخرين يعذبون في النّار ، ويرى بعضهم بعضا ويتعارفون فيها كما كانوا في الدّنيا ، فهل يوجد أعظم من هذا التغابن كلا.
واعلموا أيها النّاس إنه «ما أَصابَ» أحد «مِنْ مُصِيبَةٍ» سقم أو ضر أو فقر أو عناء أو عصيان أو كفر أو كلّ شر «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وقضائه وقدره وإرادته ، وكذلك الصّحة والعافية والغنى والطّاعة والإيمان والهناءة وكلّ خير هو بقدره وقضائه وإرادته ورضاه ، وكل ذلك مدون في لوحه قبل خلق الخلق ، راجع الآية 22 من سورة الحديد المارة «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ» ويعتقد أن المصائب بقضائه وقدره ، وأن من يصبر على ما أصابه ويسلم أمره إليه ويعلم أن لا محيد له عما كتبه عليه «يَهْدِ قَلْبَهُ» فيوفقه للإيقان المحض بما يقذف فيه من النّور والمعرفة ، ويجعله راضيا بكل ما يصيبه فيكون من الّذين رضى اللّه عنهم ورضوا عنه المعلومين عنده في أزله «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (11) من كلّ ما يصيب عباده قبل أن يصيبهم ، لأنه مقدره عليهم في غيبه ويعلم الصّابر والجازع والرّاضي والغضبان ، راجع الآية 10 من سورة الليل ، والآية 121 من سورة طه في ج 1 ، والآية 78 من سورة النّساء المارة(6/245)
ج 6 ، ص : 246
فيما يتعلق في هذا البحث ، وفيهما ما يرشدك لمراجعة غيرهما من المواضع.
قال تعالى «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» كرر الفعل تأكيدا وإعلاما بأن طاعة أحدهما لا تغني عن طاعة الآخر وعدم قبول إحداهما بغير الأخرى «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» أيها النّاس عن هذه الطّاعة ، فالوبال على أنفسكم في الدّنيا والآخرة «فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (12) فقط وقد بلغ ونصح وأرشد وأنذر وأعذر وقام بكل ما كلف به ، وليس عليه أن يقسركم على الأخذ بقوله والاقتداء بفعله ، بل بل يترككم وشأنكم ، فاعملوا أيها النّاس الخير وتيقنوا أن ربكم «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» لا رب غيره ولا معبود سواه ، هو المحيي المميت الضّار النّافع ، فآمنوا به وأطيعوه «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (13) في جميع أمورهم وهو يهديهم إلى سواء السّبيل الموصل إلى جنته ، ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ» لفظ من هنا للتبعيض ، لأن منهم أولياء لهم أودّاء بارّين بهم مقسطين لهم يأمنونهم كأنفسهم وإن منهم «عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» من أن يوقعوا فيكم أذى ، وأنتم غافلون عنهم محسنون الظّن بهم ، وذلك بسبب ما بأيديكم من حطام الدّنيا وهذه الآية عامة مستمرة شاملة ما قبلها وبعدها إلى يوم القيامة.
وسبب نزولها أن رجالا منعهم أزواجهم وأولادهم من الغزو في سبيل اللّه خوفا من أن يقتلوا ويتركوهم وان رجالا أسلموا ومنعهم أزواجهم وأولادهم من الالتحاق برسول اللّه ، فحذرهم اللّه من طاعتهم ، ولما جاءوا أخبروا عند نزول هذه الآية بأن إخوانهم الّذين هاجروا قبلهم تفقهوا في الدّين ، فهموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فأنزل اللّه هذه الآية وأردفها بقوله «وَإِنْ تَعْفُوا» عنهم «وَتَصْفَحُوا» عما وقع منهم «وَتَغْفِرُوا» زلتهم هذه «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لكم ولهم ولكل من ينيب إليه ويستغفره «رَحِيمٌ» (14) بعباده يحب العفو عنهم.
تحذر هذه الآية من الرّكون إلى الأزواج والأولاد ، فعلى العاقل يكون شديد الحذر من غير الصّالحين من ان هذين الصّنفين ، فإن كثيرا من الزوجات والأولاد قتلوا أزواجهم وآبائهم بقصد التزوج بغيره والاستيلاء على ماله ولا سيما في هذا الزمن ولا حول ولا قوة إلا(6/246)
ج 6 ، ص : 247
باللّهِ نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
عظيمة وبلاء جسيم ، يختبركم اللّه بهم ، فهم سبب وقوعكم في تناول الحرام والاعتداء على الغير ، فإياكم والافتتان بالمال والولد من أن يسوقاكم إلى ما يغضب اللّه وينسيكم أنفسكم فتهلكوا.
وإياكم إياكم أن تستغنوا بالمال ، فإن اللّه يفقركم ، أو تعتمدوا على أولادكم إلّا بما يرضي اللّه ، فإذا فعلتم ما أمرتم به بشأن المال والولد وانتهيتم مما نهيتم عنه فيهما وفي الأزواج سلمتم من فتنتهم وأمنتم من شرهم ونفعوكم في الدّنيا والآخرةَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»
(15) لمن يفوض أمره إليه ولا يعتمد إلّا عليه ولا يغتر بمال أو ولد أو جاه أو قوة ، راجع الآية 29 من سورة الأنفال المارة المصدرة به بلفظ اعلموا تنبيها إلى أن ما فيها لازم الأخذ واجب التقيد فيه «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» غاية جهدكم ونهاية وسعكم ، وهذه الآية كالتفسير لقوله تعالى (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) الآية 103 من آل عمران المارة لا ناسخة لها كما قاله بعض المفسرين ، لأن
حق التقوى تفريغ ما في الوسع من طاقة العبد لا أكثر ولا أقل كما بيناه في الآية الملح إليها «وَاسْمَعُوا» ما يتلى عليكم من كتاب اللّه وسنة رسوله سماع قبول واعملوا بهما طاقتكم «وَأَطِيعُوا» اللّه ورسوله فيما يأمرانكم به وينهاكم عنه ، برغبة وطيب نفس «وَأَنْفِقُوا» مما رزقكم اللّه على عياله وأرحامكم لأن المال الذي أعطاكم إياه من فضله وجوده فنحكموه لتجودوا به على أنفسكم وغيركم ممن أوجب عليكم رزقهم منه وعلى الفقراء والمساكين فإذا فعلتم هذا كان «خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» عند ربكم وأعظم أجرا ، ولا تميلوا إلى الشّح فيما منّ به عليكم فيكون عاقبته شرا لأنفسكم «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (26) الفائزون عند اللّه في الآخرة المنتفعون بما خولهم به من النعم الواجدون ثوابها وجزائها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
واعلموا أيها الناس انكم «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» بأن تتصدقوا من حلالكم طلبا لمرضاة اللّه وابتغاء وجهه وتقربا إليه على فقرائه «يُضاعِفْهُ لَكُمْ» من عشرة إلى ما شاء اللّه ، لا تحديد على الكريم الجواد الذي يعطي بغير حساب ، لأنه جل شأنه لا يخشى من النّفاد ويعطي بلا عوض ولا لغرض «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم(6/247)
ج 6 ، ص : 248
وما تقدم من شحكم «وَاللَّهُ شَكُورٌ» لفعل عباده المتصدقين «حَلِيمٌ» 17 بعدم تعجيل سلب نعمه من البخلاء علمهم يرجعوا ويتوبوا فيتصدقوا مما منحهم اللّه على عياله واللّه سبحانه «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» يعلم ما في النّيات والضّمائر كما يعلم الأقوال والأفعال الظّاهرة لا يختلف علمه فيهما «الْعَزِيزُ» الغالب على عباده القادر على سلب النّعم من لم يشكرها «الْحَكِيمُ» (18) بإبقائها على الشّاكرين وزيادتها لهم ، وما هو مقدر على السّلب والإبقاء من حكم لا يعلمها غيره ، وقد يعلمها البشر عند ظهورها.
وختمت هذه السّورة بهذا الاسم الكريم لما انطوت عليه من حكم جليله.
هذا واللّه أعلم.
وأستغفر اللّه.
ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين ، ومن تبعهم بإحسان آمين.
تفسير سورة الصّف
عدد 23 و109 - 61 نزلت بالمدينة بعد سورة التغابن وهي أربع عشرة آية ومثنان وإحدى وعشرون كلمة ، وتسعمئة حرف ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، وبينا السّور المبدوءة بما بدئت به أول سورة الحديد المارة ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من شيء «وَهُوَ الْعَزِيزُ» المنيع الجانب القاهر كلّ شيء على تسبيحه وتنزيهه طوعا أو كرها قالا أو حالا ، راجع الآية 45 من سورة الإسراء ج 1 وأول سورة الحديد المارة «الْحَكِيمُ» (1) بأفعاله وأوامره ونواهيه فلا يخلق إلّا عن حكمه ، ولا يأمر إلّا بحكمة ، ولا يفعل إلّا لحكمة ، قال عبد اللّه بن سلام قعدنا نفرا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فتذاكرنا ، فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى اللّه لعملناها ، وكانت نزلت آية الجهاد العاشرة من سورة التحريم المارة ، وتباطأ بعضهم عنه ، وكان يتمنى نزول الأمر بالجهاد ، فأنزل اللّه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ» (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ(6/248)
ج 6 ، ص : 249
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ»
(3) وكان من عادة العرب الّذين هم عرب يفعلون ولا يقولون فيقضون حوائج المحتاجين ودين المدينين ونصرة المظلومين ولا يدرى بهم ، ثم قلت المروءة عند بعضهم فصاروا يفعلون ويقولون ، ثم تدانوا وتخاسسوا فصاروا لا يقولون ولا يفعلون ، ثم تدنت نفوسهم ورذلت فصاروا يقولون ولا يفعلون ، فذمهم اللّه تعالى في هذه الآية وأنبهم بأن القول بلا فعل مما يوقع العبد في غضب اللّه ويبعده عنه ، ومن هذا القبيل من يعد بشيء وبقوله ولا يفعله ، ومن يتعهد ولا يوفي ، ويحلف ويخلف ، ويواثق وينكث.
ثم بين جل جلاله العمل الذي يحب اللّه فاعله عند لزومه أكثر من غيره ، فقال «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ» إعلاء لكلمته وابتغاء مرضاته «صَفًّا» تجاه أعدائه لا يزولون ولا يروغون عن أماكنهم إلّا للتقدم ليكيدوا عدوهم ، فتراهم في تضامنهم وتلاحقهم ومتانتهم في صفوف الحرب «كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» (4) بعضه ببعض لا ترى فيهم فرجة تمكن العدو من الدّخول فيها بينهم ، أو يجعل بسببها خللا في صفوفهم ، وكان التراص في ذلك الزمن مطلوبا لأن من الفرسان من يقحم بفرسه فيمزّق الصّف المخلل والذي فيه فرجة فيفتك فيه بما أوتي من عزم وحزم فيفرقه ويقع الرّعب في قلوب الآخرين فينصرون ، والتراص باب من أبواب الحرب في زمن الأصحاب فمن بعدهم ، أما الآن وقد أحدثت الصّواعق والقاذفات والدّبابات فقد يكون في مكان دون مكان بحسب قوة العدو وآلاته وعدده ، وقد ورد عنه صلّى اللّه عليه وسلم أن اللّه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البنيان ، وهو يشير إلى التحذير من الهزيمة ، لأنه من الكبائر المهلكة ولهذا يجازى عليها بالإعدام ولعذاب الآخرة أشد وأمر ، راجع الآية 94 من سورة البقرة والآية 176 من آل عمران والآية 15 فما بعدها من سورة الأنفال المارات.
قال تعالى «وَ» أذكر لقومك يا سيد الرّسل «إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي» بتعنتكم وتطاولكم على اللّه إذ تقولون أرنا اللّه جهرة ولن نصبر على طعام واحد وتتهمونني بأني آذر ، وتحرضون الباغية عليّ ، وتنسبون لي قتل هارون أخي وعضيدي على إرشادكم كما مر في الآيتين 56 و62 من الأحزاب المارتين ، وتنكرون رسالتي(6/249)
ج 6 ، ص : 250
«وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» خاصة وطاعتي عليكم واجبة تعظيما لمن أرسلني وإن الأنبياء مبرّءون من العيوب ومعصومون بعصمة اللّه وهم بشر مثلكم لا قدرة لهم على إجابة ما تقترحونه عليهم إلّا بإذن اللّه «فَلَمَّا زاغُوا» عن الحق وأسروا على عنادهم «أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» عن الهداية وخذلهم وحرمهم من نور الإيمان وأضلهم عن اتباعه وأعماهم عن سبيله فخرجوا عن السّبيل إلى السّبل فضلوا وأضلوا وخسروا ، راجع الآية 152 من الأنعام في ج 2 «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5) الخارجين عن طاعته.
تنبه هذه الآية إلى أن أذى الرّسل يؤدي إلى الكفر ونزع نور الإيمان بحيث لا يبقى فيه قابلية للهداية «وَ» أذكر لقومك يا أكمل الرّسل أيضا «إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» بدلالة الوصف الموجود لي في توراتكم وإخبار الأنبياء قبلى إني آتيكم رسولا من قبل اللّه وقد بعثت لكم «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» بالإنجيل الذي أنزله اللّه علي وخفف به بعض ما في التوراة من التشديد راجع الآية 50 من آل عمران المارة تقف على هذا التخفيف «وَ» كما بشرت بي الأنبياء أممها ، فقد جئت «مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» قال أبو موسى في حديث طويل سمعت النّجاشي يقول
أشهد أن محمدا رسول اللّه ، وأنه الذي بشّر به عيسى ، ولو لا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر النّاس لأتيته حتى أحمل نعليه - أخرجه أبو داود - راجع تفسير الآية 199 من آل عمران المارة تعرف النّجاشي وعقيدته وصلاة الرّسول عليه.
وقال عبد اللّه بن سلام : مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى بن مريم ، فقال أبو داود والمدني قد بقي في البيت موضع قبر - أخرجه الترمذي - أي بقي في الحجرة المدفون بها حضرة الرّسول وصاحبيه موضع ليدفن فيه عيسى بن مريم راجع الآية 62 من سورة الزخرف ج 2 وفي اسم احمد إشارة إلى أن الأنبياء كلهم حامدون للّه ومحمد وأحمدهم له ، وإن الأنبياء كلهم محمودون ، ومحمد أكثرهم حمدا روى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال قال صلّى اللّه عليه وسلم لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا احمد ، وأنا الماحي الذي يمحو اللّه بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر النّاس(6/250)
ج 6 ، ص : 251
على قدمي يوم القيامة ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي «فَلَمَّا جاءَهُمْ» الرسول المبشر به من قبل موسى وعيسى بالبينات «قالُوا» أي المرسل إليهم «هذا» الذي جاء به محمد من الآيات «سِحْرٌ مُبِينٌ» (7) ظاهر لا يخفى على أحد ، فقد كذبوا وافتروا على الرّسول من اتهامهم له بالسحر ، وعلى المرسل من كونه غير نبي ، والافتراء على الرّسل افتراء على المرسل ، ولهذا يقول جل قوله «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ» فيقول هذا سحر يدل التصديق والإجابة إليه وهذا كذب يدل الاعتراف به ، فمثل هذا لا أظلم منه البتة «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (7) أنفسهم بالإنكار والجحود عقوبة لهم «يُرِيدُونَ» هؤلاء الظّلمة بافترائهم هذا «لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ» بأقوالهم المجردة عن الصّدق «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ» بإظهاره على غيره وعلو كلمة الإسلام على سائر الأديان «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (8) رغما عنهم شاءوا أم أبو «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» فلا يبقى على وجه الأرض دين إلّا وقد نسخ به وغلب أهله من قبل الإسلام لقوة دليله وعظيم برهانه وجليل سلطانه «وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (9) ذلك ، فإنه ظاهر عليهم.
ونظير هاتين الآيتين الآيتان 23 و24 من سورة التوبة الآتية.
وهذا سيكون ان شاء اللّه ، ويتم بنزول عيسى عليه السّلام إذ يحكم النّاس ويدينهم بدين محمد صلّى اللّه عليه وسلم فلا يبقى إذ ذاك دين على وجه الأرض يعبد اللّه فيه إلّا دين الإسلام ، لأن الأديان السّائرة تضمحل وبنضم بعض أهلها لدين الإسلام ، وكان هذا زمن الرّسول ومن بعده وإلى الآن ، ثم تجتمع الكلمة على الإسلام فقط إن شاء اللّه فلا يبقى إلّا مؤمن وكافر.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (10) كما ينجي التاجر الرّابح من الفقر ويغنيه غنى ما بعده غنى ،
وكأنهم قالوا ما هي هذه التجارة ؟ فأنزل اللّه قوله «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ» الإيمان والجهاد هما أحب الأعمال إلى اللّه تعالى التي تسألون عنها ، وأكثر ثوابا من جميع الأعمال(6/251)
ج 6 ، ص : 252
فهي التجارة الرّابحة «خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (11) ما ينتج عنها لأن نتيجه الإيمان دخول الجنان ورضى الرّحمن ، ونتيجة الجهاد علو الشّأن ورفعة المجد ، وهذا أفضل من ربح المال مع بقاء النّفس ذليلة حقيرة بسبب تسلط عدوها عليها ، لأن النّفس الأبية التي تحب الموت في سبيل عزها لتوهب لها الحياة الطّيبة التي هي أحسن من كلّ شيء ، والفعلان بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا وجوابهما فعل يغفر الآتي ، أي إذا فعلتم هذا فإنه تعالى «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» الدنيوية ويعزّكم في دنياكم لاختياركم طريق العز «وَيُدْخِلْكُمْ» في الآخرة «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (12) لأن فيه خير الدّنيا والآخرة فلا أعظم فوزا منه لأنه مما يعمل العاقل له في دنياه ليناله في عقباه «وَ» تجارة «أُخْرى تُحِبُّونَها» وهي في الدّنيا فقط «نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ» على أعدائكم «وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» (13) لبلاد أعدائكم واستيلائكم عليها واغتنام ما لدى أهلها ، وقد كان هذا والحمد للّه في صدر الإسلام وبعده ، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة واتبعوا الشّهوات فحرموا تلك الفتوحات والغنائم وملاذ النّصر والظّفر ، لإضاعتهم أمر دينهم وتفرق كلمتهم وتكالبهم على الدّنيا وخوفهم من الموت ، وعسى أن يردهم اللّه لاقتفاء آثار أوائلهم فينالوا ما نالوه ويذوقوا طعم العز والظّفر.
ونظير هذه الآيات الآية 25 من سورة الأنفال المارة فما بعدها ، وقد رتب فيها الحياة على الجهاد ، زرع اللّه في قلوبنا حبه لإعلاء كلمته ، وجعلنا من المحبين لدعوته المقصودين بفضله ، وما ذلك على اللّه بعزيز «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» بالنصر والفتوح يا سيد الرّسل في هذه الدّنيا والفوز والسّعادة في العقبي ماداموا مؤمنين حقا ، وإنما سمى الجهاد تجارة لما فيه من الرّبح العظيم والعزّ في الدّنيا ورضى اللّه والجنّة في الآخرة ، وهذه تبشر المؤمنين حال نزولها بقرب فتح مكة إنجازا لوعد اللّه به لهم ، وقد كان ذلك ، وفيها بشارة عامة لكل مؤمن يتصف بما ذكره اللّه في هذه الآية بالنصر والفوز على أعدائه في كلّ مكان وزمان.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ» لنبيكم وأجيبوا دعوته ولبوا كلامه وابذلوا شيئكم له «كَما قالَ(6/252)
ج 6 ، ص : 253
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ»
أصحابه الّذين آمنوا به «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» على إعلاء كلمته وإظهار دينه وخلاص عباده مما يشينهم «قالَ الْحَوارِيُّونَ» ملبّين دعوته رغبة بما وعدهم اللّه على لسانه «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ» جنوده المجيبون لأمره المؤدون لشعائره المعينون له على أعدائه ، أي كونوا أنتم يا أمة محمد مثل هؤلاء الأبرار لتفوزوا بخير الدّنيا والآخرة ، فجاهدوا بأموالكم وأنفسكم مع إمامكم مع سلطانكم مع أميركم ، ولا تهنوا وقد كنتم الأعلون «فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ» بالسيد عيسى عليه السّلام وأجابت دعوته وجاهدت في سبيل اللّه فغنمت ، إذ نشرت دعوته بعد رفعه بين النّاس ، فآمن بهم خلق كثير فعلى المؤمنين من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم أن يتعاونوا ويقوموا دائما ببث دعوته والسّعي على طريقته ليفوزوا ببغيتهم ويظفروا بأعدائهم ، فتعلو كلمتهم فيحوزون خير الدّنيا والآخرة ، ولا يكونون لا سمح اللّه مثل المعنيين بقوله جل قوله «وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ» به فلم تجب دعوته ولم تؤمن به ونصبت له العداء من أجل تكليفهم لهدى اللّه ونفعهم بآلائه فخسرت وخابت.
فكونوا يا أمة محمد من الطّائفة الأولى التي ملأت الأرض لتعلو كلمتهم ويرفع مجدكم فتدخلوا في قوله تعالى «فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ» وعدو ربهم «فَأَصْبَحُوا» أولئك المؤمنون «ظاهِرِينَ» (14) على الكافرين اللّهم أيد المؤمنين على الكافرين برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
هذا واللّه أعلم.
وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الجمعة
عدد 42 و110 و62
نزلت بالمدينة بعد سورة الصّف.
وهي إحدى عشرة آية ، ومائة وثلاثون كلمة وتسعمئة وعشرون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بدئت سورة التغابن بما بدئت به فقط ، ومثلها في عدد الآي سورة المنافقين والضّحى والقارعة والعاديات فقط ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.(6/253)
ج 6 ، ص : 254
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من دابة وجماد وجن وإنس وملائكة وحوت وطير لهذا الإله الجليل «الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (1) في ملكه وحكمه.
واعلم أن التسبيح ثلاثة أقسام خلقه وهو إذا نظرت إلى كلّ شيء من المكونات الإلهية ، دلتك خلقته على وحدانية اللّه تعالى وتنزيهه ، وأنه الخالق الموجد له ومعرفة وهو جعل اللّه تعالى في كلّ شيء ما يعرف به ربه ، بحيث لو سألته من سماك وسواك ينطق بلسان حاله أو قاله بلا تردد أو توقف معترفا بأن اللّه تعالى مكونه ومميزه عن غيره ، يدلك هذا قوله عز وجل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 15 من سورة الإسراء ج 1 ، وضرورة بان يجري اللّه تعالى لفظ تسبيحه وتنزيهه عما لا يليق به على كلّ جوهر أوجده في كونه من غير معرفة له بذلك ، راجع أول سورة الحديد المارة.
واعلم أن هذا الإله العظيم المعلوم لدى كلّ خلقه المسبح بكل لسان «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ» أهل مكة ومن حولها لأنهم لا يقرءون ولا يكتبون ولا يحسبون «رَسُولًا مِنْهُمْ» أمّيّا مثلهم ومن جنسهم فجعله «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ» التي أنزلها عليه لإرشادهم ونصحهم ، وهذه معجزة دالة على تصديقه كافية عن كلّ معجزة «وَيُزَكِّيهِمْ» بذلك من دنس الشرك ودون الكفر ووسخ العصيان «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» الذي أمره اللّه بتلاوته عليهم ليعرفوا معالم دينهم وما يرمي إليه «وَالْحِكْمَةَ» يعلمها لهم أيضا وهي الفقه فيه ليفطنوا لمراميه ويعلموا مغازيه ويتفهموا تعاليمه الحكيمة التي ترفع شأنهم بين الأمم وتعلى كلمتهم عليهم وتهديهم إلى طرق النّجاح والفلاح «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ» بعثته إليهم «لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2) ظاهر وهم مائلون عن الحق وطرقه لا يميزون بين الحلال والحرام ، غافلون عما شرعه اللّه لأمم الأنبياء يدينون بما تسول لهم أنفسهم يتبعون شهواتهم في ذلك ، تراهم عاكفين على عبادة الأوثان مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ، مائلين إلى هوى أنفسهم ، لا يدينون بدين ، ولا يعرفون رب العالمين.
واعلم أن هذه التي بصدر هذه الجملة مخففة من الثقيلة واسمها محذوف (أي أنهم)(6/254)
ج 6 ، ص : 255
مطلب الفرق بين إن النّافية والمخففة ومما يدل على عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم والفرق بين لم ولما :
ووجود اللام في (لَفِي) دليل عليها وتسمى اللام الفارقة بين النّافية التي هي بمعنى ما وإن المخففة ، لأن اللام لا تأتي بعد إن النّافية «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ» عطف على الأميين وهم كلّ من آمن بهذا النّبي الأمي واتبع دينه إلى يوم القيامة «لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» لم يدركهم وسيجيئون بعدهم ، أي فكما أنه صلّى اللّه عليه وسلم مبعوث لأهل مكة ومن حولها في ذلك الزمن مبعوث أيضا للأجيال الحادثة الآتية بعدهم وهذه الآية أيضا فيها دلالة على عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم التي المحنا إليها في الآية 28 من سورة سبأ في ج 2 وعلى كونه خاتم الأنبياء كما أشرنا في الآية 40 من سورة الأحزاب المارة ، وعلى فضله العام المنوه به في الآية 253 من سورة البقرة المارة ولهذا البحث صلة في الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1 فراجعها.
واعلم أن النفي بلمّا متصل إلى زمن التكلم بخلاف النّفي بلم فإنه منقطع عنه ، فإذا قلت جئت ولم يأت زيد مثلا فيحتمل أنه جاء بعد مجيئك ، وإذا قلت ولما يأت فيكون المعنى لم يأت إلى زمن التكلم.
هذا وجاء في الحديث المخرج في الصّحيحين عن أبي هريرة قال كنا جلوسا عند النّبي صلّى اللّه عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم إلخ قال له رجل يا رسول اللّه من هؤلاء الّذين لم يلحقوا بنا ؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا ، قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول اللّه يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هولاء.
راجع الآية الأخيرة من سورة القتال سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلم المارة لتعلقها بهذا البحث.
واعلم أن هذا الحديث لا يخصص الآية بالفرس والأكراد ولا يقيدها بهم كما قال بعضهم لأن الآية عامة فيهم وفي غيرهم إلى يوم القيامة من كلّ من يأتي بعد ويدين بدين الإسلام من الملل والنّحل كافة ، لأن المسلمين أمة واحدة عربهم وعجمهم أبيضهم وأحمرهم أسودهم وسمرهم وأصفرهم «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (3) الذي أيد هذا النبي الأمي ومكّنه في أمره العظيم ونصره على من أرسله إليهم ونشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها «ذلِكَ» الفضل الذي خص به هذا الرّسول المحترم(6/255)
ج 6 ، ص : 256
هو «فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده برحمته ولطفه لا بعمل ولا بقوة قال في الجوهرة :
ولم تكن نبوة مكتسبة ولو رقى في الخير أعلى عقدة
وقال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 124 من سورة الأنعام ج 2 «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (4) على خلقه ومن أعظم فضله عليهم إرسال محمد صلّى اللّه عليه وسلم لهدايتهم وإنقاذهم من الظّلمات إلى النّور ، وأعظم فضله على أنبيائه أن خصهم برسالته ، وجعلهم هداة لخلقه.
واعلم أن مطلق الفضل يمنّ به اللّه على من من يشاء من عباده ، وقد يكون لسبب اجتهاد العبد سواء كان دنيويا أو أخرويا أما النّبوة فلا تكون بالاجتهاد أبدا ولو قام اللّيل وصام النّهار طول عمره وتصدق بجميع ما عنده.
قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ» فكلفوا علمها والعمل بها من الحمالة بالصدر والقلب لا من الحمل على الظّهر أو الأيدي «ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» فلم يعملوا بها ولم يقوموا بحقها ولم يؤدوا ما افترضه اللّه عليهم بها ، لأن من علم الشيء ولم يعمل به فكأنه لم يعلمه ، فمثله في حالة هذه «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» كتبا عظاما جمع سفر وهو الكتاب الكبير الضّخم فوبخهم اللّه تعالى على مبلغ علمهم فيما أنزله إليهم وصدودهم وحدهم عنه بقوله جل قوله «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله لإرشادهم «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (5) أنفسهم لعدم قبولهم نعمة اللّه وتكذيبهم بآياته ولا يوجد بالقرآن آية مبدوءة بكلمة بئس إلّا هذه والآية 11 من الحجرات المارة وهذا مثل ضربه اللّه لليهود والّذين أعرضوا عمّا في التوراة وعن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، كما أعرضوا عن الإيمان بعيسى عليه السّلام إذ لم ينتفعوا بما فيها ولا بما تلقوه من آثار الأنبياء السّالفين فلم يهتدوا بهديهم ، لأن من جملة هدى التوراة والأنبياء الّذين عملوا بها الإيمان بالرسل الّذين يأتون بعد موسى الّذين منهم عيسى ومحمد وقد كفروا بهما ، ولذلك شبهوا بالحمار الذي يحمل الكتب على ظهره ولم يدر ما هي فلا ينتفع بها ، ولا فرق عنده بين أن يحملها أو يحمل حطبا ، وهذا المثل يدخل فيه من يقرأ القرآن ولم يعمل به ولم يفهم مراده من معانيه ، ولا(6/256)
ج 6 ، ص : 257
مغازيه من مراميه ، ولم يفطن لما انطوى عليه من حكم وعلوم ، وكذلك من أعرض عنه اعراض من لا يحتاج إليه وهجره في بيته كالمتاع الذي لا يسأل عنه ، وهؤلاء هم الّذين شكاهم الرّسول إلى ربه بقوله تعالى (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) الآية 21 من الفرقان في ج 1.
ويدخل هذا في قوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) الآية 124 من سورة طه في ج 1.
ومما يؤسف أن أكثر أهل هذا الزمن هكذا وخاصة الشّباب الّذين لا يهمهم شأنه لانصرافهم إلى الكتب الحديثة التي لا علاقة لها بالدين والقرآن وتوغلهم في الرّوايات والقصص وغيرهما مما هو كذب وتخيل ، وترى الفصيح منهم يقرأ السفر فلا يغلط فيه وإذا قرأ آية من القرآن يتخبط فيها فلا حول ولا قوة إلا باللّه ، يا ويح آبائهم ويا خسارتهم اللّهم اهدهم وسائر المسلمين إلى سواء السّبيل واحفظهم من أن يدخلوا في معنى هذه الآية قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ» محمد فمن دونه وتقولون نحن أبناء اللّه وأحباؤه «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (6) في زعمكم لأن ما بينكم وبين اللّه إلّا الموت والمحب حريص على الاجتماع مع محبوبه وسريع الطّلب إلى الالتحاق به والآخرة لأحباب اللّه خير من الدّنيا ولكنكم كاذبون في دعواكم قال تعالى ردا على زعمهم هذا «وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الكفر المبعد عن الإيمان باللّه فضلا عن تلبسهم بالجحود والظّلم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ»
(7) أمثالهم الّذين يكرهون الموت لما فيه من الويلات عليهم وتهالكهم على الدّنيا وتكالبهم على البقاء راجع الآية 96 من البقرة المارة المصدرة بلن وهذه بلا وكلاهما نفي للمستقبل إلّا أن لن أكد من لا بالنفي وقد جاءت الآية الأولى بالتأكيد وهذه بدونه قال تعالى «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» حتما لا ينجيكم منه أحد ولا مهرب منه راجع الآية 78 من سورة النساء «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (8) في هذه الدّنيا ويجازيكم بحسبه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.(6/257)
ج 6 ، ص : 258
مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» أجمعت الأمة على أن المراد بهذا النّداء الأذان بين يدي الخطيب حين جلوسه على المنبر لا الأذان الأوّل على المنائر ، روى البخاري عن السّائب بن زيد قال كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر النّاس زاد النّداء الثاني على الزوراء (موقع عند سوق المدينة مرتفع) زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك ولا بي داود قال كان يؤذن بين يدي رسول اللّه إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد.
وسمى هذا اليوم جمعة لأن اللّه تعالى جمع خلق آدم فيه وفرغ فيه من خلق الدّنيا بما فيها من المخلوقات فاجتمعت فيه.
ورواه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خير يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنّة وفيه أخرج منها ولا تقوم السّاعة إلّا في يوم الجمعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل اللّه فيها شيئا ألا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها وأول من سماه في العرب كعب بن لؤي وكان يسمى يوم العروية وأول من جمع النّاس فيه بالمدينة سعد بن زرارة قبل تشريف النّبي صلّى اللّه عليه وسلم إلى المدينة وأول جمعة جمعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالمدينة في بطن وادي بني سالم بن عوف أفتتخذوه مسجدا وقد المعنا لما يتعلق في هذا البحث في الآية 124 من سورة النّحل والآية 4 من سورة الدّخان في ج 2 والآية المذكورة تحتوي على ما يتعلق بسائر الأيام فراجعها وما ترشدك إليه من المواضع.
هذا وإذا سمعتم النّداء أيها النّاس «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» امضوا وسارعوا لا تجروا وتركضوا ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصّلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا «وَذَرُوا الْبَيْعَ» دعوه واتركوه ولبّوا داعي اللّه ، ولفظ البيع يتناول الشّراء لأنه يطلق عليه «ذلِكُمْ» المبادرة إلى صلاة الجمعة وترك العمل عند سماع النّداء «خَيْرٌ لَكُمْ» عند اللّه من الانشغال في الأمور الدّنيوية كلها «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (9) ما يصلح لكم في الدّنيا(6/258)
ج 6 ، ص : 259
ويهذب نفوسكم فيها ويوصلكم إلى خير الآخرة التي خلقتم لأجلها ، قال تعالى (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات في ج 2 واعلم أن ثمرة العبادة وما تشتمل عليه من الصّدق والأمانة والوفاء وإن كانت في الدّنيا الثناء والمدح وائتمان النّاس على أموالهم وأعراضهم ، إلا أن ثمرتها الحقيقة الدّائمة التي ينعم بها صاحبها تكون في الآخرة.
الحكم الشّرعي يحرم البيع والشّراء وجميع الأعمال الدّنيوية عند الأذان الأخير حتى ان الفقهاء قالوا بعدم صحة العقود كلها إذ ذاك وكلّ عقد يقع آنذاك فهو باطل ، ولا يجوز السّفر فيه أيضا ، بدليل ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي اللّه عنه ، قال بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن رواحه في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة ، فغزا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول اللّه ثم ألحقهم ، فلما صلّى رآه صلّى اللّه عليه وسلم فقال ما منعك أن تغزو مع أصحابك ؟ قال أردت أن أصلي معك ثم أتبعهم ، فقال لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غزوتهم.
ورأى عمر رجلا يقول لو لا أن اليوم جمعة لخرجت ، فقال أخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر.
وهذا أولى من القول بعدم جواز السّفر فيها بعد طلوع الفجر ، لأن النّهي عن السّفر والبيع وغيره وقت الأذان الثاني ، أما قبله فلا مانع وتنعقد في ثلاثة مع الإمام ، ولا تصح إلّا في المصر ، وبإذن الوالي ، ويجوز تعددها إذا لم يوجد جامع يسع المصلين كافة بقدر الحاجة ، فإذا كان يكفي المصلين جامعان فلا حاجة إلى الثالث ، وهكذا كي تصح الجمعة بإجماع العلماء ، أما إذا كان التعدد زائدا على الحاجة ففيه أقوال بعدم صحتها ، وأقوال بصلاة الظّهر بعدها احتياطا ، ويجوز تركها للمريض ولمن يتعاهده ولمن يخاف من عدو أو ظالم وعند المطر والوحل.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه خطب في يوم ذي أرواح (جمع ريح لا
روح بمعنى النّفس والأرواح بمعنى الرّاحة والرّحمة ونسيم الريح) فأمر المؤذن حينما بلغ حي على الصّلاة أن يقول الصّلاة في الرّحال ، فنظر القوم فقال كأنكم أنكرتم عليّ ؟ إن هذا فعله من هو خير مني ، يعني النّبي صلّى اللّه عليه وسلم وإنها عزيمة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطّين والرّحض والزلق.
وهي فرض عين على كلّ مسلم حرّ بالغ عاقل ذكر مقيم.
أخرج أبو داود عن طارق(6/259)
ج 6 ، ص : 260
ابن شهاب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال الجمعة حق واجب على كلّ مسلم في جماعة إلا على أربعة : عبد مملوك وامرأة وصبي ومريض ، وتجب على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النّداء في موضع تقام فيه الجمعة.
وأخرج أبو داود عن عبد اللّه بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال الجمعة على من سمع النّداء.
وهي آكد من الظّهر إذ لأظهر لمن بصليها ، وأوجب الحنفية صلاة أربع ركعات في البيت بنية آخر ظهر احتياطا من أن يكون التعدد لغير حاجته.
ولا تصلى في الجامع لئلا يعتقد العوام فرضيتها ، لأن اللّه لم يفرض فريضتين بوقت واحد على عباده ، وأوجب الشّافعية صلاة الظّهر حالة التعدد لعدم تحققه هل هو لحاجة أم لا ، والأحسن عندهم أن تصلى في الجامع بجماعة وعليه العمل في الأمصار كافة ، وتفصيل هذا البحث في كتب الفقه فلتراجع.
وسبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم عن جابر.
قال بينما نحن نصلي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذ أقبلت غير تحمل طعاما فانقتلوا إليها حتى ما بقي مع النّبي صلّى اللّه عليه وسلم إلّا اثنا عشر رجلا ، فنزلت هذه وفي رواية قال والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا وأراد باللهو ما يفعلونه عند استقبال القوافل بالطبول والتصفيق.
وشروط صحة الخطبة : حمد اللّه بما هو أهله ، والصّلاة على النّبي صلّى اللّه عليه وسلم ، والوصية بتقوى اللّه ، وتلاوة آية من القرآن في الخطبة الأولى ، والدّعاء للمؤمنين في الثانية.
ويستحب عدم تطويلهما ويراعى أحوال النّاس والمواسم ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يطيل الصّلاة ويقصر الخطبة وإطالة الصّلاة في الصّبح والعشاء بحسب رغبة المصلين مطلوبة وقصرها في الظّهر والعصر والمغرب مسنون ، لأنها أوقات اشتغال النّاس.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال كان النّبي صلّى اللّه عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما.
وروى مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرّحمن بن الحكم يخطب جالسا ، فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا ، وقال اللّه تعالى (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً) إلخ الآية قال تعالى «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» بيعا وشراء وعملا وغيره من أسباب الرّزق «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» بعد فراغكم منها ، ومن ذكر اللّه تعالى بعدها قائما وقاعدا ومضطجعا ، فقد ذكر اللّه(6/260)
ج 6 ، ص : 261
كثيرا فأديموا ذكره «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (10) بفضل إدامة ذكر اللّه ، لأنه بنور القلب ويقذف فيه المعرفة التي توضح له سبيل النّجاح في كلّ الأمور.
ثم ذمهم اللّه تعالى على ما وقع منهم فقال عزّ قوله «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» أي التجارة يلهون بها عن صلاة الجمعة ولقلة أدبهم انصرفوا «وَتَرَكُوكَ» يا محمد «قائِماً» على المنبر ولم يقدروا قدرك وما تلقيه إليهم من النصح والإرشاد «قُلْ» لهم يا أكمل الخلق «ما عِنْدَ اللَّهِ» من الفضل المخبوء لكم بسبب سماع خطبته «خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ» وأعظم ريحا «وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (11) لأنه يرزق بلا مقابل.
روى مسلم عن جابر قال كانت خطبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوم الجمعة يحمد اللّه ويثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم مساكم ويقول بعثت أنا والسّاعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السّبابة والوسطى ويقول :
أما بعد فخير الحديث كتاب اللّه وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلال ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا (أولادا صغارا لا أحد لهم ولا مال) فإليّ وعليّ.
تفيد هذه الخطبة أن رسول اللّه كان يزجر النّاس في خطبته ويعلي صوته فيها أحيانا لأن الوقت يستدعي ذلك ، ولأن القوم حديثوا عهد شرك ، وإن منهم لا يزال في نفاق ، وهو مرسل من اللّه لتوطيد دعائم الدّين وتوحيد رب العالمين ، وقد أمر بقتال من لم يؤمن ، ومن دواعي هذه الأمور الزجر وعلو الصّوت.
ومما جاء في محذورات الجمعة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت.
وفي رواية ومن لغى فلا جمعة له.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمر وأبي هريرة أنهما سمعا رسول اللّه يقول على منبره لينتهبنّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ اللّه على قلوبهم ، ثم ليكوننّ من الغافلين.
وأخرج أبو داود والنّسائي عن أبي الجعد الضّمري وكانت له صحبة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع اللّه على قلبه ومن طبع اللّه على قلبه يجعله في أسفل درك جهنم.
وللترمذي مثله.
وروى البخاري عن سلمان قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطّهور(6/261)
ج 6 ، ص : 262
ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام الا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى.
وفي رواية وزيادة ثلاثة أيام ومن مسّ الحصى فقد لغا أي اشتغل عن سماع الخطبة به.
وأخرج أبو داود والنّسائي عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من غسّل واغتسل وبكّر وابتكر ومشى ولم يركب ودنى من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها.
واعلم أن بعض العلماء حسن الانصراف بعد سلام الإمام محتجا بقوله تعالى (فَانْتَشِرُوا) وهو خطأ ، لأن اللّه تعالى قال فإذا فضيت الصّلاة إذا سلم الإمام وإن صلاة سنة الجمعة البعدية والأوراد التي أمر رسول بها بعد الصّلوات من تمام الصّلاة لما يترتب عليها من الأجر العظيم عند اللّه تعالى كما أخبر به رسوله والتحذير من تركها حرمانه من الأجر الذي أخبر به حضرة الرّسول ، وفي الأخذ بقول هذا المتطفل ترغيب لترك السّنة التي أمر رسول اللّه بفعلها بعد الفرائض التي منها الجمعة ، وترك التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير بعد الصّلوات التي أمر رسول اللّه بتلاوتها أيضا ، فعلى أرباب العقول أن لا يأخذوا بأقوال هكذا عندية مبنية على ما تخيلوه تأويلا وتفسيرا ، وأن يتمسكوا بظاهر الشرع وما عليه السّلف الصّالح ومن تبعهم من العلماء العاملين ، لأن الذي يبادر الباب بعد السّلام كأنه فارّ من قفص أو هارب مما يكره كأنه ليس له عند ربه حاجة يدعوه بها ، وكأنه تخلص من كان على عاتقه في الصّلاة ، والأحسن له من أن يسابق غيره إلى الخروج من المسجد ويندفع معه على الباب أو يقف ليتحين الفرصة بوجود فرجة يخرج منها أن يصلي على الأقل ركعتين بعدها ويتلو الأوراد ثم يخرج بهدوء وسكينة ، فقد جاء في صحيح مسلم سنته أربع ركعات بعد الجمعة وفيه من شغله أمر فليركع ركعتين في المسجد وركعتين في بيته ، لأن هذا الفعل تهاونا في الجمعة ، وقد أجمعت الفقهاء على سنيتها.
هذا وقد بينا ما يتعلق بالأذكار الواردة بعد الصّلوات في الآية 39 من سورة ق والآية 92 من الفرقان في ج 1 وفيهما يرشدانك إلى المواضع الأخرى.
أما ما جاء في فضل التبكير للجمعة فمنه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة(6/262)
ج 6 ، ص : 263
غسل الجنابة ثم راح في السّاعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في السّاعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في السّاعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا أحرم الإمام قعدت الملائكة يستمعون الذكر.
وفي رواية كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأوّل فالأول ، فإذا جلس الإمام طووا الصّحف (وكلمة راح في الحديث السّابق بمعنى خف إلى الصّلاة ومشى إليها وأخذته الأريحية طلبا
لثواب اللّه تعالى) وروى البخاري عن عبادة قال أدركني أبو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة ، فقال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من اغبرت قدماه في سبيل اللّه حرمه اللّه على النّار.
فقد جعل الذهاب إلى الجمعة بمنزلة الذهاب إلى الجهاد في سبيل اللّه.
فما بال أناس يتركونها بلا عذر ويحرمون أنفسهم هذا الثواب العظيم ، ويتعرضون لمقت اللّه ؟ روى مسلم عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم.
وعن أبي الجعد الضّمري وكان له صحبة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع اللّه على قلبه - أخرجه أبو داود والنّسائي - وورد عنه عليه السّلام في حديث طويل قال فيه واعلموا أن اللّه فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا ، من تركها تهاونا واستخفافا بحقها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع اللّه شمله ولا بارك له في أمره ، الا فلا صلاة له ، الا فلا زكاة له ، الا فلا صوم له ، الا أن يتوب فمن تاب تاب اللّه عليه.
وحديث مسلم الذي أشرنا إليه آنفا هو أنه قال إذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعا فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت ، وسنده فيه فراجعه فما بعد هذا عذر لمن يخرج فورا ، ولنا رسالة خاصة في هذا البحث ، وفي الأوراد والسّنن التي ينبغي فعلها بعد الفرائض في الرّد على من منعها أو حبذ تركها.
هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.(6/263)
ج 6 ، ص : 264
تفسير سورة الفتح
عدد 25 - 111 و63
نزلت بالمدينة بعد الجمعة عدا الآيات من 10 إلى 27 فإنها نزلت في الطّريق عند الانصراف من الحديبية فتعد مدنية أيضا ، لأن إقامة الرّسول كانت في المدينة وكلّ ما نزل بعد الهجرة يعد مدنيا وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمة والفان وأربعمائة حرف ، وقد بينا السّورة المبدوءة بما بدئت به في سورة الكوثر ج 1 ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ومثلها في عدد الآي التكوير والحديد فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ» يا سيد الرّسل بما أمرناك به من مجاهدة أعدائك بعد حادثة الحديبية وقبول الصّلح فيها لأنها مقدمة لافتتاح مكة والبلاد المقدر فتحها على يديك حيث تلاها فتح خيبر وأعقبها بحادثة الأحزاب والفتوحات الأخرى من بلاد قريظة وبني النّضير وغيرها ، ومن هذا يعلم أن مقدمة الفتوح هو صلح الحديبية الذي صعب وتعذر واشتد الضّيق فيه على المسلمين حتى يسره اللّه تعالى بمنه وكرمه وسهله والهم رسوله قبول الشّروط المجحفة التي اقترحها المشركون وكرهها أصحاب رسول اللّه إذ كان ظاهرها الغبن والحيف على المؤمنين ، ولم يعلموا أنها باطنا تنطوي على الرّيح والفوز لهم ، إذ سبب اختلاط المشركين بالمسلمين فاطلعوا على محاسن الإسلام ومكارم الدّين الحنيف وما يأمر به من مكارم الأخلاق وفواضل الآداب فملأ قلوبهم حبه ، وشارفوا على مزايا حضرة الرسول فرغبوا في صحبته ودخل منهم في دينه خلق كثير قبل الفتح.
والمراد بهذا الفتح المشار إليه في هذه السّورة فتح مكة شرفها اللّه وأعزها كما روى عن أنس رضي اللّه عنه.
وقال مجاهد هو فتح خيبر الواقع عقب الحديبية.
مطلب قصة الفتح وأعني بالفتح فتح مكة لا غير وبيان الّذين هدر دمهم رسول اللّه وما وقع فيه وسببه :
ومن قال بأن الفتح هو صلح الحديبية تكلف بأن يعدل إلى خلاف الظّاهر فضلا عن أن صلح الحديبية كان سنة ستّ وهذه السّورة نزلت في السّنة الثامنة إذ وقع فيها فتح مكة كما سيأتي ، ومما يؤيد أن المراد بهذا الفتح فتح مكة قوله تعالى «فَتْحاً مُبِيناً» (1) ظاهرا(6/264)
ج 6 ، ص : 265
واضحا ولم يكن فتح الحديبية بغاية الظّهور المشار إليه في هذه الآية ، ولا فتح خيبر ، ولا غيرها أيضا ولا يصح إطلاقه إلّا على فتح مكة ، لأن كلّ فتح دونها ليس بشيء إذ ذاك ، ولأن كلمة الإسلام إنما علت بفتحها وما رفع شأن المؤمنين إلّا بعد فتحها الذي صار قاطعا للكفر ، ما حيا آثاره ، معلنا كلمة الإسلام ، معظما أهله ، خضعت فهى صناديد قريش وطلبوا الأمان من سيد الأكوان ، واستسلموا لحكمه خاشعين خاضعين.
ومن قال إن المراد بهذا الفتح فتح بلاد الرّوم إذا غلبت فارس فليس بشيء أيضا وهو خلاف الظّاهر ولا علاقة لفتح الرّوم بظهور الإسلام ، وكذلك القول إن المراد بالفتح فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسّيف والعنان ، لأن هذا تابع للفتح الفعلي لمكة ، وقد كان والحمد للّه مصداقا لقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ) الآية الخامسة من سورة الحديد ، وقوله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الآية 139 من آل عمران المارتين ، وخلاصة هذه القصة هو أنه لما صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قريشا عام الحديبية كما تقدم في الآية 10 من سورة الممتحنة دخلت بنو بكر في عهد قريش وخزاعة فيه عهد محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
ثم إن بني بكر عدت على خزاعة وهم على ماء لهم يسمى الوتير وأصابوا منهم رجلا وتحاربوا فيما بينهم ، وكان من قريش أنها ردفت بني بكر بالسلاح وقاتلت معهم ، وبهذا انتقض ما كان بين قريش وحضرة الرّسول من الميثاق بسبب ما استحلوه من خزاعة حليفته ، ولهذا قدم عميدهم عمرو بن سالم الخزاعي على رسول اللّه في المسجد وخاطبه على ملأ من النّاس بقوله ...
يا رب إني ناشد محمدا :
خلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولدا وكنا ولدا
ثمة أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك اللّه نصرا أعتدا
وادع عباد اللّه يأتوا مددا فيهم رسول اللّه قد تجردا
إن تمّ حسنا وجهه تريدا في فيلق كالبحر يجري مزيدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وهم أذل وأقل عددا هم بيتوتا في الوتير هجدا(6/265)
ج 6 ، ص : 266
وقتلونا ركعا وسجدا فانصر هداك اللّه نصرا أيدا
فقال صلّى اللّه عليه وسلم قد نصرت.
وعرض صلّى اللّه عليه وسلم إلى عنان السّماء وقال مشيرا إليه لتشهد بنصر بني كعب رهط عمرو بن سالم ، ثم جاء بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة وعرضوا لرسول اللّه بما أصابهم من مظاهرة قريش بني بكر ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشدّد في العقد ويزيد في المدة رهبا من الذي صنعوا فلم يحسوا إلّا وأبو سفيان بالمدينة ، وهذا من معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم ومن الغيب الذي أطلعه اللّه عليه ، وقد دخل على بنته أم حبيبة رضي اللّه عنها فأراد أن يجلس على فراش رسول اللّه فطرته من أمامه وقالت له أنت رجل نجس لا أحب أن تجلس على فراش رسول اللّه الطّاهر المطهر ، فقال لها واللّه لقد أصابك بعدي شرّ ، فتركها ثم أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه ، فذهب إلى أبي بكر وكلمه بأن يكلم له محمدا ، فقال ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر فكلمه بذلك فقال أنا أشفع لك لا واللّه ، لو لم أجد إلّا الذي لجاهدتكم بها ثم اتى عليا وعنده فاطمة والحسن يدب بين يديهما واسترحمه أن يشفع له فقال ويحك يا أبا سفيان لقد أدى عزم الرسول على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ، فالتفت إلى فاطمة واستشفعها وقال تأمري بينك هذا فيجيرني بين النّاس فيكون سيد العرب إلى آخر الدّهر ، فقالت ما يجير أحد على رسول اللّه.
فقام أبو سفيان في المسجد بمشورة من علي وقال أيها الناس إني قد أجرت بين النّاس وانما فعل هذا وهو لم يجره أحد ليعلم النّاس أنه قد أجير فلا يتعدى عليه أحد وإنما أمره علي بذلك لما رأى - كرم اللّه وجهه - من تلبّكه ، فأرشده إلى ذلك ليأمن على نفسه إذ رأى ممن أراد أن يستجير بهم قلب الجن ، فاعتراه خوف ورعب وذل وهوان ، الجأه إلى فعل ما فعل ، ولأنه استجار بابنه الحسن وهو طفل فأبت مروءته إن لم يجره ان يدله على ما إذا قاله ظن النّاس أنه قد أجير ، وكان ذلك ، ثم رجع إلى مكة آيسا مما كان يتوخاه مبلسا مما رآه.
ولما وصل قصّ على قومه ما لا قاه ، ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الناس بالجهاد ، وأعلمهم بأنه سائر إلى مكة ، وقال اللّهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نبغتها في بلادها ، وإذ ذاك كتب حاطب بن أبي بلتعة الكتاب إلى(6/266)
ج 6 ، ص : 267
قريش يعلمهم بمقدم رسول اللّه وأصحابه ، كما تقدمت قصته أول سورة الممتحنة المارة واستخلف رسول اللّه على المدينة أبا دهم كلثوم بن حصين بن عيبنة بن خلف الغفاري ، وخرج صلّى اللّه عليه وسلم في عشرة آلاف ، وقيل اثنى عشر الفا ، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار لعشر يقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة ، حتى نزل بحر الظهران ، وقد أعمى اللّه الأخبار عن قريش ، ولقى العباس مهاجرا بأهله في الطريق وهو آخر من هاجر ، فحمله رسول اللّه على بغلته وقال ووا صباح قريش واللّه لئن دخل رسول اللّه مكة عنوة ليكون إهلاكا لقريش إلى آخر الدّهر.
قال العباس فجئت الأراك لعلي أجد من يخبر أهل مكة بمكان رسول اللّه ليستأمنوه إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ، فقلت أبا حنظلة : فقال أبا الفضل فقلت نعم ، قال ما بالك فداك أبي وأمي ؟ فقلت ويحك يا أبا سفيان جاءك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بما لا قبل لكم به ، واللّه ليضربن عنقك ، قال فما الحيلة ؟ قلت اركب عجز هذه البغلة حتى آتيك به فاستأمنه لك ، فركب ، قال العباس فدخلت به على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقلت هذا أبو سفيان ، فجاء عمر وقال دعني أضرب عنقه يا رسول اللّه ، فقال له العباس قد أجزته ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ويحك يا أبا سفيان ، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك يا رسول اللّه وأكرمك ، قال ألم يأن لك أن تعلم إني رسول اللّه حقا ، وإن اللّه وحده لا شريك له ، وإن البعث حق ، قال بأبي وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك الرّحم.
أما هذه فإن في النّفس منها حتى الآن شيئا ، فقال له العباس قلها قبل أن يضرب عنقك فقالها وأسلم.
ثم قال العباس يا رسول اللّه انه يحب الفخر فاجعل له شيئا قال فليناد عند دخول الجيش المبارك مكة شرفها اللّه من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أعلق عليه ببابه فهو آمن.
ثم قال يا عباس احبسه بمضيق الوادي حتى يرى جنود اللّه ، قال فخرجت به حتى وقفت به حيث أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وصارت تمر القبائل ، فجعل يقول كلما تمر واحدة مالي ولهؤلاء! حتى مر رسول اللّه في كتيبته الخضراء ، وإنما سميت خضراء لكثرة الحديد فيها فلا يرى منهم إلا الحدق ، فقال سبحان اللّه من هؤلاء يا عباس ؟ قلت هذا رسول اللّه في المهاجرين(6/267)
ج 6 ، ص : 268
والأنصار ، فقال ما لأحد ولهؤلاء من قبل ولا طاقة ، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما ، قلت ويحك إنها النّبوة ، قال نعم.
ثم تركه فلحق بقومه ، ولما قرب منهم صاح بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم ، قالوا فمه ، أي بماذا تأمرنا وماذا نفعل ؟ قال من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، قالوا وما تغني عنّا دارك ؟ قال من أغلق بابه فهو آمن ، فتفرق الناس إلى المسجد وإلى دورهم ، فجاء حكيم بن خزام وبديل بن ورقاء رفيقاه وأسلما وعمدا إلى مكة ، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في أثرهما الزبير وأمره على خيل المهاجرين والأنصار ، وأمره أن يركز رأيته بأعلى مكة بالحجون ، وقال له لا تبرح مكانك ، وأمر خالد بن الوليد فيمن اسلم من قضاعه وبني سليم وأمرهم أن يدخلوا من أسفل مكة ، وقال الزبير وخالد لا تقاتلا إلّا من قاتلكما وأمر سعد ابن عبادة أن يدخل في بعض النّاس من كدى ، فقال سعد اليوم يوم الملحمة يوم تحل تدخل ، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله ، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم المحرمة ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لعلي عليه السّلام أدركه وخذ الرّأية منه وكن أنت الذي تدخل ، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله ، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم وان تعلفوا بأستار الكعبة.
وقيل قال لسعد بل اليوم يوم المرحمة.
ثم دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم متواضعا لربه الذي أكرمه بالفتح المبين ، حتى أن رأسه الشّريف يكاد يمس واسطة رحله ، ولم يقع قتال إلّا في جهة خالد ، إذ عارضه المشركون بالدخول من حيث أمره الرّسول ، فقتل منهم بضعة عشر رجلا ، وقيل سبعين ، وإن حضرة الرّسول أنبه على ذلك إن كان على ما قيل إنه أرسل إليه من قال له ضع السّلاح عنهم ، وإن هذا يقول إلى خالد يأمرك رسول اللّه أن تضع السّلاح فيهم.
وان جبريل عليه السّلام قال لرسول اللّه لما ذا تعاقب خالدا وهو إنما فعل لإبرار قسمك ، وذلك أن صلّى اللّه عليه وسلم لما رأي حمزة ممثلا به في واقعة أحد أخذته الحدة وقال واللّه لأمثلن بسبعين منهم ، وهناك أنزلت الآيات من آخر سورة النّحل التي أولها (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا) إلخ كما المعنا إليه في الآية 122 من آل عمران المارة فراجعها.
وقتل من المسلمين ثلاثة : سلمة بن الميلاد الجهني وكرز بن جابر وخنيس ابن
خالد بن الوليد.
أما الّذين هدر دمهم رسول اللّه فهم : عبد اللّه بن سعد بن(6/268)
ج 6 ، ص : 269
أبي سرح لارتداده عن الإسلام فاستاء منه أخوه من الرّضاع عثمان بن عفان وعبد اللّه بن حنظلة لأنه قتل مولاه المسلم واتخذ مغنيتين تهجوان حضرة الرّسول قتلت إحداهما واستأمنت الأخرى رسول اللّه فأمتها ، والحويرث بن فضيل بن وهب لشدة إيذائه حضرة الرّسول ، ومقيس بن خبابة لقتله الأنصاري وارتداده ، وسارة مولاه بني عبد المطلب لأنها كانت مبالغة في إيذائه بلسانها فاستأمنت الرّسول فأمنها وعكرمة بن أبي جهل ، وقد استأمنت له حضرة الرّسول زوجته أم حكيم بن الحارث فأمنها ، ثم جاءت أم هاني لنستأمن رسول اللّه على رجلين أراد على قتلهما فقال مرحبا وأهلا قد أجرنا من آجرت.
ثم دخل صلّى اللّه عليه وسلم البيت المكرم فطاف به وصلّى وأخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة وفتحها ، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها وطرحها ثم وقف على بابها فقال : لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده.
ألا كلّ مأثرة أو دم أو ما يدعى فهو تحت قدمي هذين ، إلا سدانة البيت (التي ألمعنا إليها في الآية 58 من آل عمران فراجعها) وسقاية الحاج ، الا وقتل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدّية مغلظة مئة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها.
يا معشر قريش إن اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ) الآية 13 من سورة الحجرات المارة يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم ؟ قالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم ، قال فاذهبوا فأنتم الطّلقاء.
فأعتقهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثم جلس فبايعه النّاس على الإسلام والنّصرة ، وثم له الفتح على هذه الصّورة.
ثم ظنت الأنصار أنه يقيم بمكة بعد أن أتم اللّه له وعده ويتركهم فنظر فرآهم يتنابسون بذلك ، فقال لهم ما معناه كلا إن الحياة معكم والموت معكم ، فاطمأنت نفوسهم وامر على مكة أسيدا وعاد إلى المدينة ومن أراد زيادة إيضاح قصة الفتح فعليه بمراجعة السّير.
وهذا الفتح الواقع من طريق الغزو والجهاد «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» إذ رتب عليه هذا الأجر العظيم لك يا سيد الرّسل ، لأن ثواب الجهاد أعظم ثواب ، فأجدر أن يكون سببا لمحو ما فرط(6/269)
ج 6 ، ص : 270
منك قبله وانطماس ما سيفرط منك بعده من كلّ ما تعده ذنبا بالنسبة لمقامك الكريم وإلّا فإن اللّه قادر على أن يفتح لك البلاد ويخضع لك العباد دون غزو أو جهاد ولكن ليكون سنة لمن بعدك ويكون ثوابه كفارة للذنوب لهم أيضا.
وقد بينا ما يتعلق في ذنوب الأنبياء في الآية 16 من سورة البقرة المارة.
وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي فيها هذا البحث «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ» بفتح البلاد الأخرى وينصرك على كلّ من يناوئك ، ويظهر دينك على سائر الأديان ، ويمكنك في البلاد والعباد «وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (2) في جميع أمورك الحاضرة والمستقبلة كما هي الحال فيما مضى من أمرك لتكون ظاهرا دائما «وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» (3) لم يسبق له مثيل وحيد في نوعه فريد في بابه لا ذلّ ولا خذلان بعده أبدا «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» فملأها طمأنينة وثباتا ووقارا حتى ساروا معك جميعهم فلم يتخلف عنك إلّا من أذنته بالتخلف ، إذ لم يقع في هذه الغزوة معارضة ما من أحد ، بل كان كل منهم منقادا عن شوق ورغبة وحزم «لِيَزْدادُوا إِيماناً» ويقينا وصبرا وطاعة «مَعَ إِيمانِهِمْ» الذي هم عليه.
وكأن قائلا يقول كيف نصره اللّه مع قلة عدده وعدده بالنسبة إلى أعدائه ؟ فقال تعالى جل قوله «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يكاثر ولا يغالب ولا يقابل إذ يجعلهم عونا للمؤمنين على أعدائهم ويكثر سوادهم ويقلل أعدائهم بأعينهم «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بجنوده الموجودين فيهما وكثرتهم وقوتهم «حَكِيماً» (4) في نصر نبيه وأصحابه على أعدائهم بإراءتهم القليل كثيرا لإيقاع الرّعب والخوف والذل في قلوب أعدائه ، وإذا أراد أرسل صاعقة تدمرهم أو صيحة من أحد ملائكته تقصف قلوبهم فتميتهم حالا ، أو يخسف بهم الأرض أو يغرقهم في الماء فيهلكهم عن آخرهم ، كما فعل بالأمم السّابقة ، وهو القادر على إلقاء الرّعب في قلوب أعدائه والجبن والخوف من أوليائه ، ويلقي الثبات في قلوب المؤمنين فيبيدوا أعداءهم مهما كانوا ، وهو القادر على إبادة الكفار بما أراد من عذاب دون سبب ، ولكنه أراد أن يقهرهم ويهلكهم بصورة ظاهرة بواسطة جيشه المبارك الذي تسلح بقوة اليقين ومتانة الايمان ووقاية العزم وحماية الحزم.(6/270)
ج 6 ، ص : 271
وقاية اللّه أغنت عن مضاعفة من الدّروع وعن عال من الأطم
«لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» الّذين جاهدوا معه «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» بسبب طاعتهم وثباتهم وبذل أموالهم وأنفسهم فى إعلاء كلمة اللّه ونصرة رسوله ويجعلهم «خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» قبل دخولها ، ثم بدخلهم فيها طاهرين مطهرين «وَكانَ ذلِكَ» التكفير والتخليد في تلك الجنّات «عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً» (5) لهم لا أعظم منه ، ولهذا جعل النصر والفتح على ما كان من بروزهم وجهادهم طائفين مختارين ، ولا يخفى أن العطف بالواو لا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا ، ولهذا جاءت جملة (وَيُكَفِّرَ) بعد جملة ليدخل.
روى البخاري ومسلم عن أنس ، وأخرج الترمذي ، عن قتادة عن أنس قال أنزلت على النّبي صلّى اللّه عليه وسلم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) إلخ مرجعه من الحديبية ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لقد أنزلت علي اللّيلة آية أحب إلي مما في الأرض ، ثم قرأ صلّى اللّه عليه وسلم ، فقالوا أصحابه هنيئا مريئا
يا رسول اللّه ، لقد بين لك ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا فنزلت (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) وليس المراد نزول السّورة كلها ، لأن نزولها كان بعد ذلك كما ذكرنا ، وأن المراد بهذه الآية آية المبايعة الآتية وما يتعلق بواقعة الحديبية المارة في الآية 10 من سورة الممتحنة بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلم (أنزلت علي اللّيلة آية) ولو كان كذلك لقول سورة لهذا يحتمل أنه سمعها بعد ذلك تدبّر «وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ» وقدم المنافقين هنا وفي أمكنة أخرى ، لأنهم أشد بلاء على المؤمنين من الكافرين لاختلاطهم معهم واطلاعهم على أسرارهم باعتبار أنهم مؤمنون ظاهرا لا يحترز منهم ، أما الكافرون فيحترز منهم ويتحاشى عن إفشاء السّرّ بينهم لظاهر عداوتهم ، ولذلك فإن عذابهم يكون أشدّ من عذاب الكافرين ، قال تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) بعد قوله (إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) كما أشرنا اليه في هاتين الآيتين 140 و145 من سورة النّساء المارة ، ثم وصفهم بما هم متلبسون به بقوله «الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ» أي بان اللّه لا ينصر رسوله وأصحابه ولا يرجعهم إلى المدينة في غزوتهم هذه «عَلَيْهِمْ» جزاء ظنهم هذا «دائِرَةُ السَّوْءِ»(6/271)
ج 6 ، ص : 272
والهلاك والعذاب الذي يتوخون أن يصيب المؤمنين «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» لما يحقدون على المؤمنين «وَلَعَنَهُمْ» زيادة على لعنهم الأوّل «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (6) ومنقلبا قبيحا لأملها «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (7) كررت هذه الآية تأكيدا ، ولأن جنود السّموات والأرض منهم للرحمة قد مرّ ذكرهم في الآية الأولى قبل ذكر إدخال المؤمنين الجنّة ليكونوا معهم فيثبتوهم على الصّراط وعند الميزان ، فإذا دخلوها الفوا إلى جوار اللّه ورحمته ، فلا يحتاجون بعدها إلى شيء ، ولذلك ختم تلك الآية بقوله عَلِيماً (حَكِيماً) ومنهم للعذاب فأخر ذكرهم في هذه الآية بعد ذكر تعذيب الكافرين والمنافقين ليكونوا معهم فلا يفارقوهم أبدا ، ولذلك ختم هذه الآية بقوله (عَزِيزاً حَكِيماً) كقوله (أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) الآية 20 من سورة الزمر ج 2 وقوله (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) الآية 43 من سورة القمر في ج 1 «يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً» على الأنبياء قبلك وأممهم وأمتك ومن توالد منهم إلى يوم القيامة «وَمُبَشِّراً» أهل الخير بالجنة دائمة النّعيم «وَنَذِيراً» 8 لأهل الشّر بالنار دائمة الجحيم ، وإنما جعلنا نبيّكم أيها العرب مخصوصا بهذه المزية «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ» تنصروه نصرا مؤزرا مع التعظيم والتبجيل «وَتُوَقِّرُوهُ» تحترموه مع الإجلال والتكريم «وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (9) وهذه الضّمائر كلها للّه تعالى.
وما قيل إن ضمير تعزروه فما بعده لحضرة الرّسول وضمير تسبحوه لجلالة الإله لا يصح إلّا أن يجعل الوقف على وتوقروه وقفا تاما ثم يبتدأ مستأنفا بما بعده ، وهذا بعيد ، لذلك جرينا على خلافه وهو الأولى والأحسن بدليل التعليل أول الآية واجراء نسق العطف على ما هو عليه وقرئت هذه الأفعال كلها بالتاء دلالة على ذلك ، ويجوز قراءتها بالياء على التبعة بطريق الالتفات والمعنى على ما هما عليه.
وهذه الآيات التي نزلت بالطريق بعد منصرف رسول اللّه من الحديبية كما أشرنا إليه أول السّورة.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» أي المبايعين والمبايع له ، واعلموا أيها المؤمنون انكم ألزمتم أنفسكم في هذه المبايعة الشّريفة النّصرة(6/272)
ج 6 ، ص : 273
لحضرة الرّسول بصورة المعاهدة والمواثقة «فَمَنْ نَكَثَ» فيها ونقض عهده الذي أعطاه لك يا سيد الرّسل «فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» ولن يضرّ اللّه شيئا بل يعود ضرره على نفسه «وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ» في هذه البيعة والعهد «فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (10) في الآخرة وفخرا كبيرا في الدنيا.
واعلم أن الهاء في عليه المارة في هذه الآية تقرأ بالضمّ ، ولا يوجد في القرآن غير هذه الهاء مضمومة بعد على تفخيما للفظة الجلالة ، وأجمعت القراء عليه بالتلقي من حضرة الرّسول وأصحابه من بعده ، ويوجد في الآية 69 من سورة الفرقان في ج 1 (فِيهِ) تقرأ بإشباع الهاء كسرا ، كذلك وردت بالتلقي أيضا فلا يجوز كسر الأوّل ولا تخفيف الثاني تبعا لقواعد الإعراب والنّطق لأنهما مستقاة من القرآن والمنزل عليه.
واعلم أن هذه البيعة هي الواقعة تحت الشّجرة في الحديبية المشار إليها في الآية 17 من سورة الممتحنة المارة ، ومعنى المبايعة هي العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل طاعته
للسلطان ويلزمه الوفاء بها وبكل عهد ألزم نفسه به ، راجع الآية 92 من سورة النّحل في ج 2 وما ترشدك إليه.
وتسمى هذه البيعة بيعة الرّضوان لابتداء الآية بقوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ) إلخ كما سيأتي بعد في هذه السّورة ، والمبايعة مع الرّسول مبايعة مع اللّه تعالى ، كما أن المبايعة مع السّلطان المسلم مبايعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ،
قال تعالى «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ» من غفار ومزينه وجهينة وأشجع وأسلم ، وذلك حين رجوعه من غزوته هذه إلى المدينة ، أي غزوة الحديبية معتذرين من تخلفهم عن الذهاب معه ، وهذا من الإخبار بالغيب أيضا لأن هذه الآيات نزلت في الطّريق قبل وصوله المدينة وتقدم المعتذرين لحضرته بالاعتذار وهو قولهم لك إنا لم نتخلف عنك كلا ولا جبنا ولا لأمر آخر وإنما «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا» عن استصحابك إذ ليس لنا من يخلفنا عليهم ويقوم بأمورهم فيكون خليفتنا فيهم «فَاسْتَغْفِرْ لَنا» يا رسول اللّه ، لانا معترفون بالإساءة والتقصير مع عذرنا هذا راجع الآية 64 من سورة النّساء المارة ، فأكذبهم اللّه بقوله «يَقُولُونَ» لك يا أكمل الرّسل هذا القول «بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي(6/273)
ج 6 ، ص : 274
قُلُوبِهِمْ»
من حقيقة التخلف لأنهم أرادوا به تقليل سواد جيش المؤمنين وخذلانهم وأن يبينوا لأهل مكة أنهم ليسوا مع الرّسول بسبب ما هو كامن في قلوبهم من النّفاق والعداء للرسول وأصحابه ، فهذا هو سبب تخلفهم لا ما اختلقوه من العوز الكاذب ، وان طلبهم الاستغفار صورة ، لأنهم لا يعتقدون منفعته وحقيقته «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الكاذبين إذا كان الأهل والمال عائقين عن الذهاب للجهاد أو لمجرد استصحابك «فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا» القتل أو الهزيمة أو خلل بالمال والأهل أو مجرد عقوبة على تخلفكم هذا «أَوْ أَرادَ بِكُمْ» ما يضاد ذلك من كلّ أنواع الخير مما يعدّ رزقا تنتفعون به «نَفْعاً» هل ينفعكم غير اللّه ، وهل يكشف الضّر عنكم غيره ؟ فسيقولون لك كلا لا أحد البتة ، ولذلك فلا محل لقبول عذرهم «بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (11) وقد أخبر اللّه رسوله بأنكم ستعتذرون في هذه الأعذار الواهية بألسنتكم وتخفون ضدها ، والأمر ليس كما ذكرتم بل كما قلت لكم «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً» وقلتم إن أهل مكة سيستأصلونهم جميعا فلا يرجعون إلى المدينة «وَزُيِّنَ ذلِكَ» الظن من قبل الشّيطان «فِي قُلُوبِكُمْ» وقطعتم بصدقه «وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ» بأن اللّه تعالى مخلف وعده لرسوله فينهزم ويغلب «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» (12) بائرين هالكين «وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ويظن بهما هذا الظّن السّيء الذي يؤدي إلى كفره «فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» سماهم كافرين هنا لأنهم ظنوا باللّه اخلاف وعده لرسوله ، ومن يظن هذا الظّن فهو كافر ويكون مأواه «سَعِيراً» (13) نارا متأججة ، لأنه لم يصدق قول اللّه ورسوله ولو صدق لما ظن هذا الظّن ، ثم إن اللّه تعالى لم يقطع أمل المنافقين منه إذا
تابوا وأنابوا ونصحوا ، وقد فسح لهم الأمل بقوله جل قوله «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يقيم فيهما من يشاء من خلقه وكلّ من وما فيهما ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء ، ويختار طائعهم وعاصيهم «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (15) بخلقه لا يزال يقبلهم(6/274)
ج 6 ، ص : 275
إذا رجعوا إليه مخلصين ، ثم ان حضرة الرّسول بعد أن وصلوا المدينة صار يعرض بغزو خيبر لأن اللّه فتحها وتخصيص غنائمها بالّذين شهدوا الحديبية وأخبره اللّه بما سيقول الّذين لم يشهدوها معه بقوله «سَيَقُولُ» لك «الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ» وقد أظهر اللّه تعالى كذب عذرهم في قولهم هذا لأنهم لم يحتجّوا بأشغالهم وأموالهم وأهليهم كما ذكروا قبل عند طلبهم الاستغفار لما في هذه الغزوة من أمل الغنيمة ، بخلاف الحديبية لأنها كانت للزيارة فقط ، وبان بهذا أن مبنى حالهم على الطّمع ليس إلا «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا» بطلبهم هذا الالتحاق معكم «كَلامَ اللَّهِ» الأزلي القاضي بعدم ذهابهم وباختصاص غنائم خبير لأهل الحديبية ، فإذا قبلتم طلبهم فينبغي أن تشركوهم بالغنائم ، واللّه تعالى لم يرد ذلك ، فكأنهم غيروا كلام اللّه ، وهذا هو قصدهم ليس إلّا فيا سيد الرّسل «قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا» أبدا ما دمتم على نفاقكم لا مطلقا لمنافاته لما يأتي بعد «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ» وأوحى إلى نبيه به «مِنْ قَبْلُ» وصول المدينة أثناء رجوعه من الحديبية لا الآن «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا»
على ما يصيبنا مما تعنونه.
قال تعالى «بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (15) من كلام اللّه مما فيه نفع لهم فقط وهذا هو الذي سبب حرمانهم لا من كون المؤمنين يحمدونهم.
فيا أكمل الرّسل «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى » قتال «قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» وعزم قوي ، فإن أطعتم «داعيكم إلى قتالهم كنتم مؤمنين حقا ولكم الأجر من الله
والنّعمة والمغفرة كما سبق من ذنوبكم كلها إلى يوم تلبيتكم هذه الدّعوة ، وإذا أعرضتم وثبّتم على نفاقكم فلكم العذاب الأليم على ما اقترفتموه وهؤلاء الّذين ستدعون إلى قتالهم «تُقاتِلُونَهُمْ» فتقتلونهم «أَوْ يُسْلِمُونَ» فيسلمون لكم ويؤمنون باللّه ورسوله ولكم بذلك الثواب الذي ما فوقه ثواب ، لا يقاس بكل الغنائم ، قال صلّى اللّه عليه وسلم لأن يهدبك اللّه رجلا خير لك من حمر النّعم.
وفي هذه الآية بشارة لتحقيق أحد الأمرين النّصر والظّفر أو الإسلام والإيمان «فَإِنْ تُطِيعُوا» من يدعوكم لقتالهم «يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً لقاء إطاعتكم هذه وكذلك كلّ طاعة لرسولكم وإمامكم وأميركم(6/275)
ج 6 ، ص : 276
يكون لكم فيها الأجر الحسن والثواب الجليل «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ» عن واقعة الحديبية «يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» (16) لا تطيقه أجسامكم ، وهؤلاء القوم الّذين وصفهم اللّه بالحزم البالغ هم هوازن وثقيف لأنهم من أشد العرب بأسا ، وقد نزلت هذه الآية فيهم ، واللّه أعلم ، والدّاعي هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا التفسير والتأويل أنسب بالمقام لأنه بمعرض الامتحان للمنافقين المذكورين ، وان قوله تعالى (لَنْ تَتَّبِعُونا) مقيد بأمرين في غزوة خيبر لما سبق من أن اللّه تعالى خصص غنائمها لأهل الحديبية ، واستمرارهم على النّفاق ، وعليه فإنهم إذا آمنوا وصدقوا بقلبهم ولسانهم ونصحوا اللّه ورسوله فلا مانع من اتباعهم لحضرة الرّسول في غزواته الأخر.
وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بهم فارس والرّوم حينما دعاهم إلى حربهما عمر رضي اللّه عنه زمن خلافته وإن هذه من قبيل الأخبار بالغيب بعيد عن المعنى المراد بسياق الكلام وسياقه ، وأبعد منه القول بأنهم بنو حنيفية أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب حينما دعاهم لحربهم أبو بكر رضي اللّه عنه في خلافته ، لأن ما نحن فيه ينافي هذين الأمرين لما فيه من عود الكلام إلى غير مذكور ، ولا يوجد ما يدل عليه ، ولا هو معلوم أو مشهور راجع الآية 22 من سورة ص في ج 1 وما هو في معناها مما رمزنا إليه في تفسيرها وإن عود الكلام إلى ما سبق له ذكر كما جرينا عليه أولى بالمقام وأنسب للمعنى المراد وأحسن ، ولأن هاتين الحادثتين وقعتا بعد نزول هذه الآية بسنتين وكونها من الأخبار بالغيب جائز ككثير من أمثالها ، ولكن مناسبتها لما قبلها يبعد ذلك واللّه أعلم ، واعلم أن كلّ من تخلف عن دعوة الإمام إلى الحرب دون عذر شرعي فهو منافق يدخل دخولا أوليا في هذه الآية ، لأن تخلفه دليل على عدم نصحه لامامه ، وإن ما في قلبه مخالف لما في لسانه ، وإن حضرة الرّسول لو لم يدعهم إلى جهاد هوازن وثقيف حينما استنفر النّاس لحرب حنين وبني المصطلق الآتي ذكرهما بعد في سورة التوبة الآتية التي قصد بها اختبارهم وإظهار رجوع من رجع منهم عن نفاقه لما جاز ، بل لا متنع أبو بكر وعمر من الاذن لهم بالخروج معهم إلى الجهاد كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لا متناع رسول اللّه من أخذها منه ، وكما(6/276)
ج 6 ، ص : 277
امتنعا من إعادة مروان بن الحكم من منفاه لأن حضرة الرّسول طرده من المدينة لأنهم لا يخالفون رسولهم قيد شعرة قولا ولا فعلا حيا كان أو ميتا ، وهذا مما يدل على صحة ما ذكرناه وعلى أن الدّاعي هو حضرة الرّسول لا أبو بكر ولا عمر رضي اللّه عنهما.
واعلم أن من قال أن الدّاعيين أبو بكر وعمر استدل على صحة خلافتهما ، إذ وعد المدعوين بالثواب على طاعة الدّاعين وليس بشيء ، وخلافتهما لا يمتري فيها إلّا منافق أو حسود فاسق.
ولما سمع الزمنى والمرضى والعرج والعميان هذه الآية قالوا كيف حالنا يا رسول اللّه ؟ فأنزل اللّه جل شأنه «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» في التخلف عن الجهاد لعدم قدرتهم على الكر والفر ويدخل في هذه الآية الفقير الذي لا يمكنه استصحاب ما يلزمه من أدوات الجهاد ولم يمنحه الإمام أو الأمير شيئا يكفيه لذلك ويدخل في هذه الآية من يمرض المريض كما سيأتي في الآيتين 93 و94 من سورة التوبة الآتية ، أما ما جاء في آية النّور 62 المارة المضاهية لهذه الآيات من حيث اللّفظ فهي في حق الأكل لا في حق الجهاد إذ كلّ منها جاءت لمناسبة ما قبلها «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ» عن
أمرهما ويعرض عنهما «يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً» (17) في الدنيا والآخرة.
قال تعالى «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ» من الصّدق والإخلاص في بيعتهم لك والوفاء بما عاهدوك به وواثقوك عليه ، لأنهم صرحوا بالموت وعدم الفرار في مبايعتهم وما بعد هذا من وفاء كما علم ما في قلوب المنافقين من الشّك والنّفاق والظّن السّيء «فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ» وثبتهم واطمأنت نفوسهم «وَأَثابَهُمْ» على ذلك «فَتْحاً قَرِيباً» (18) لأراضي خيبر وقراهم «وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها» منها ومن غيرها فيما يأتي من الزمن إلى يوم القيامة إن شاء اللّه «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (19) ولم يزل كذلك على الدّوام والاستمرار «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ» مغانم خيبر لتسدوا حاجتكم فيها ، وهي في جنب ما يأتيكم بعد قليل من كثير ، وفيها إشارة إلى كثرة(6/277)
ج 6 ، ص : 278
الفتوحات والغنائم التي يعطيهم اللّه تعالى إيّاها في المستقبل «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» أي أهل خيبر إذ وقع في قلوبهم الرّعب فلم يجرؤا على قتالكم ، وكذلك حلفاؤهم أسد وغطفان كفّهم عنكم وألقى في قلوبهم الرّعب فمالوا إلى الصّلح كما سيلقيه في قلوب أهل مكة فيستسلمون لكم «وَلِتَكُونَ» هذه الفتوحات والغنائم «آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» وعبرة يعرفون بها مكانتهم عند اللّه وضمانة لهم بالنصر والفتح وعظة لأعدائكم كي لا يجرءوا على مقابلتكم ، ودلالة على صدق ما وعد الرّسول بذلك وإيقانا بأن إخباره بالغيب حق وصدق ثابت واقع لا مرية فيه ، فيزدادوا إيمانا ويقينا بما يخبر «وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (20) بمنه وفضله
«وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها» فهي مؤخرة تأتيكم بعد «قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها» وحفظها لكم ومنع الغير من تناولها حتى وإن فتحها من قبلكم أيها المؤمنون فتأخذونها أيضا قال ابن عباس هي فارس والرّوم ، لأن العرب كانت لا تقدر على قتالهما ، وكان ذلك زمن الخلفاء الرّاشدين.
وهذا من الإخبار بالغيب فيدخل فيه كلّ ما وقع من الفتوحات والغنائم بعد نزول هذه الآية ، سواء الذي زمن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم أو زمن الخلفاء الرّاشدين فمن بعدهم «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (21) بذل لعظمته كلّ شيء ولا يعجزه شيء فتشمل هذه الآية كلّ فتح وغنيمة حازها المسلمون مما وقع ويقع إلى آخر الدّوران ، فنسأل اللّه أن يقدرهم على إعادة عزّهم وعلو كلمتهم ، ويجمع شملهم ، ويوحد خطتهم ، إنه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير ، وما شيء على اللّه بعزيز.
قال تعالى «وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أسد وغطفان حلفاء خيبر ، وذلك لنهم قالوا لبعضهم إذا اشتغل المسلمون بحرب حلفائنا أهل خيبر نميل عليهم فنسبي ذراريهم فمنعهم اللّه بإلقاء الخوف في قلوبهم ولذلك قال «لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ» منهزمين «ثُمَّ لا يَجِدُونَ» لو أقدموا على قتالكم «وَلِيًّا» يواليهم عليكم «وَلا نَصِيراً» (22) ينصرهم أبدا.
واعلموا أن ما يفعله اللّه لأوليائه من النّصر خذلان لأعدائه ، وليس هذا بأمر مبتدع بل هو «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ» في نصرة أحبابه وكبح أعدائه الجارية قبل للأنبياء وأتباعهم جارية لك ولأصحابك يا محمد «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ(6/278)
ج 6 ، ص : 279
اللَّهِ تَبْدِيلًا»
(23) ولا تغييرا بل تبقى مستمرة للرسل وأتباعهم إذا ساروا على سنتهم مادام الملوان ، وإن اللّه كما أنجز وعده لمن قبلك منجزه لك ، لا يحول دون ما يريده حائل البتة.
ثم شرع يذكر حضرة الرّسول وأصحابه نعمته في صلح الحديبية ، فقال «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ» في حرمها ، لأن قسما من الحديبية داخل فيه ولو وقع الحرب فيها لامتد إلى نفس البيت حتما «مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» أي مكنكم منهم بالمبايعة الحقيقة الواقعة عن رغبة شديدة في القتال «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» (24) لا يخفى عليه شيء ولا يفلت منه شيء ولا يغفل عن شيء.
أخرج مسلم عن أنس رضي اللّه عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة (يوم الحديبية) هبطوا على رسول اللّه من جبل النّعيم مسلحين يريدون الغدر برسول الله صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، فأخذهم سبايا فاستحياهم وقال عبد اللّه بن معقل المزني هم ثلاثون شابا ، فدعا عليهم رسول اللّه فأخذ اللّه أبصارهم وأخذناهم ثم خلى سبيلهم رسول اللّه ، فنزلت هذه الآية بمعرض المن على رسول اللّه من ربه عزّ وجل قال تعالى «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعوكم من دخوله «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً» محبوسا وممنوعا عن «أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ» الذي يذبح فيه تقربا إلى اللّه «وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ» ستضعفون عند أهل مكة «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» أثناء القتال لو فرض إيقاعه فيوشك «أَنْ تَطَؤُهُمْ» فتوقعوا بهم القتل لعدم معرفتكم بهم بسبب اختلاطهم مع أعدائكم أو تتسببوا بقتلهم من قبل أعدائكم انتقاما «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ» اثم عظيم بسبب قتلهم وتغريمكم دينهم والزامكم الكفارات بسبب قتلكم إياهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» منكم بأنهم مؤمنون لاختلاطهم مع الكفار ، فلو لا هذا لما القى في قلوبهم قبول الصّلح الذي فيه اجحاف عليكم فقبلتموه على علاته ، والا لأذن لكم بالقتال في بطن مكة ليس في حرمها فقط ، ولدخلتم مكة عنوة بإذن اللّه وحاربتموهم في عقر دارهم وتوفقتم عليهم وأديتم الزيارة التي جئتم لأجلها رغما عنهم ، ولكن لم بأذن اللّه لكم في ذلك وحال دون هذه الواقعة المنصورة خوف إضرار أولئك(6/279)
ج 6 ، ص : 280
المساكين وعدم تأثيمكم ، ولوجود أناس من الكفار علم اللّه أنهم سيؤمنون بعد ، إذ لم يحن الوقت المقدر لإيمانهم ، كما أن فتح مكة لم يأت أجله ولم يفعل اللّه تعالى ذلك إلا «لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من أهل مكة الّذين ما نعوكم من دخولها فيهديهم للأسلام ، وقد كان ذلك ، أما إنهم «لَوْ تَزَيَّلُوا» تفرقوا وامتازوا المؤمن من الكافر وأمن ذلك المحذور «لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (25) بأن هديناكم للقتال ومنعناكم من قبول الصّلح ونصرناكم عليهم سبيا وجلاء وقتالا ، ولكن لم يرد اللّه هذا لما ذكر.
ثم ذم اللّه الكفرة على ما وقع منهم أثناء كتابة
الصّحيفة بما اتفق عليه من الصّلح بقوله «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ» الأنفه والاستكبار ، إذ لم يقروا بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، ولا محمد رسول اللّه محتجين بعدم اعترافهم بهما ، مع أنهما حق صريح لأن اللّه أنزل البسمة على رسوله وشرفه بالرسالة ، وقد أخبرهم بذلك ، ولكن تعاظمهم أبى عليهم قبول الحق حتى في الكتابة ثم أنهم لم يتركوهم ليزوروا البيت ويذبحوا هديهم فيه لئلا يقال أنهم غبنوا في ذلك ورغموا عليه ثم انهم اشترطوا على محمد أن يرد من جاءه منهم ولم يردوا من جاءهم من أصحابه.
فكانت هذه الشروط المجحفة «حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ» استولت عليهم فأخذت على قلوبهم بها ليس إلا ، وإلّا فماذا يضرهم لو تركوهم يزورون ويذبحون نسكهم ويكتبون اسم اللّه ورسوله ويقابلونهم بالمثل فيمن يأتي من الطّرفين ، ولهذا اغتاظ المؤمنون وأبو ألا أن يكون ما رفضوه أو يقاتلونهم «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» طمأنيته ووقاره وانائته «عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» فأزال غضبهم وحنقهم ووسع صدورهم حتى خضعوا لذلك وعصمهم اللّه من أن يداخل قلوبهم شيء من الأنفة التي أخذت سهيلا ورفاقه الّذين تولوا تدوين شروط المعاهدة المشار إليها في الآية 10 من سورة الممتحنة المارة وقبولها مع الكراهة.
قال تعالى (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) الآية 18 من سورة النّساء المارة ، وكان كذلك كما ذكرناه في الآية 75 من سورة النّساء أيضا فراجعها «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى » المندرج تحتها السّمع والطّاعة والإخلاص والثبات والصّبر والوفاء وكل(6/280)
ج 6 ، ص : 281
خير «وَكانُوا» أصحاب محمد أهل بيعة الرّضوان «أَحَقَّ بِها» بتلك الكلمة المنطوية على فروع كثيرة من كفار المتلبسين بكلمة الكفر «وَأَهْلَها» المؤمنون المتلبسون بها ، لأنهم الموحدون اللّه المتصفون بتقواه فهم أولى بالتّسربل بها ، لأن اللّه كتبها لهم في علمه الأزلي «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (26) ومن جملتها علمه بأن هذا الصّلح الذي يراه المؤمنون مجحفا فيهم خير لهم لما فيه من الفوائد التي سيطلعهم اللّه عليها بعد ، والنّوائب للكافرين التي سيريهم إياها.
هذا وكان صلّى اللّه عليه وسلم قبل أن يخرج إلى الحديبية رأى في المنام أنه دخل المسجد الحرام وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين ، فقصها على أصحابه ، فلما كان الصّلح ورجعوا دون أن يدخلوها قال المنافقون أين رؤياه التي رآها ؟ فشق ذلك على المسلمين ، فأنزل اللّه على طريق الحكاية عن رسوله صلّى اللّه عليه وسلم قوله عز قوله «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه ، ثم أقسم جل شأنه تأكيدا لإنجاز وعده هذا لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضوان اللّه عليهم «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ» لا يقوتكم وإرادتكم ولتكونن «آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» منها «لا تَخافُونَ» أحدا أبدا ، وهذا الاستثناء في قوله تعالى مع أن وعده حق واخباره صدق لا شبهة فيه عبارة عن تعليم عباده الأدب لئلا يجزموا بشيء مهما كان محققا ومهما كان عزمهم فيه جازما بإنجازه ، لأنهم لا يعلمون ما يقدر اللّه من الحوائل دون تنفيذ ما صمموا على إجرائه ، ولذلك أراد منهم الاستثناء في كلّ أمورهم بان لا يقسموا على فعل شيء أو يجزموا على اجرائه إلّا أن يقرنوا مشيئه اللّه معه ، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الآية 24 من سورة الكهف في ج 2 «فَعَلِمَ» اللّه تعالى من الخير في هذا الصّلح لكم «ما لَمْ تَعْلَمُوا» أنتم ولا غيركم عاقبته الحسنة ، ولو علم أعداؤكم نتيجته كما وقعت لما فعلوه ، لأن اللّه كادهم فيه «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ» قبل نهاية أجل تلك المعاهدة «فَتْحاً قَرِيباً» (27) عظيما هو فتح مكة المذكور في الآية 75 من سورة النّساء المارة ، وقد شرح فيه صدور المؤمنين وروج ما فيها من الاغبرار ، ثم رجعوا من العام(6/281)
ج 6 ، ص : 282
المقبل ودخلوا مكة محلقين ومقصرين ، وأعقبه اللّه بفتح مكة قبل مرور سنتين على ذلك الصّلح ، وقد مر سبب نقضه وكيفيته في قصة الحديبية في الآية 10 من سورة الممتحنة المارة ، وقصة خيبر وقصة الفتح مرتا آنفا ، وإلى هنا تنتهي الآيات النازلة في الطّريق ، وإنما كانت متوالية وموضحة للحادثة ، ولم تكن بالاشارة والتعريض كغيرها لازالة ما في قلوب المؤمنين من الغيظ الذي لحقهم بسبب تلك الشروط التي أدرجت في صك المعاهدة ، لأنهم رأوها منقصة لقدرهم وضارة بهم لعدم علمهم بعاقبتها ، إذ وقع الخسار والخيبة والذل لأعدائهم فيها مما لم يتصوروه ولهذا قال بعض المفسرين إن هذه السّورة نزلت كلها في الطّريق تسامحا لنزول هذه الآيات.
مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء :
قال تعالى : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ» دين الإسلام دين ابراهيم عليه السّلام «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره ، وسيكون هذا بعد نزول عيسى عليه السّلام فعلا إن شاء اللّه ، أما بالقوة فقد ظهرت تعاليمه وعمت وجه الأرض ودان به أهلها من حيث لا يعرفونه ، وهذه شهادة من اللّه تعالى لهذا الدّين الحنيف «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (28) على ذلك فلا قيمة لإنكار المنكرين وتكذيب المكذبين مع هذه الشّهادة القيمة.
ثم صرح باسم هذا الرّسول الذي أظهره دينه على الأديان ، فقال عز قوله «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» كما صرح باسمه الشّريف في الآية 144 من آل عمران والآية 2 من سورته المارات أي أن هذا الرّسول العظيم صلّى اللّه عليه وسلم «وَالَّذِينَ مَعَهُ» من أصحابه الكرام والمؤمنين الصّادقين «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» أوداء رؤفاء بعضهم على بعض بمثابة الوالد على الولد ، لا يثنيهم عن مقاتلة الكفار أحد لشدة إيمانهم باللّه ومتانة عزمهم وقوة شكيمتهم واتفاق كلمتهم ، وبمقابلة هذه الأوصاف الرّقيقة يقابلون أعداءهم بتلك الأوصاف الغليظة ، ومع هذا فإنك «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» لمرضات ربهم «يَبْتَغُونَ» بتواددهم بعضهم وعبادتهم(6/282)
ج 6 ، ص : 283
لربهم جل وعلا «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» لا سمعة ولا رياء ولا غرضا ولا عوضا «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ» نورا ساطعا يوم القيامة «مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» غرّة في جباههم وتجميلا في أيديهم وأرجلهم ، يسطع نورا أيضا من آثار الوضوء فإنهم يحشرون غرا محجّلين كما جاء في الحديث الصّحيح ، لأعضائهم بريق ولمعان يعرفون بهما بين النّاس «ذلِكَ» المثل الموصوف به محمد وأتباعه في هذا القرآن هو «مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» أيضا ، وقد تم الكلام هنا فينبغي أن يوقف عليه ثم يبتدأ القارئ مستأنفا بقوله تعالى «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ» فراخه وما تفرع عنه في جوانبه أي شواطئه «فَآزَرَهُ» عضده وقواه ومكنّه «فَاسْتَغْلَظَ» ذلك الزرع وقوي وتمكن «فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ» أصوله وقصبه وجذوعه وصار «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» بادي الرّأي لحسن نباته وكثرة فروعه وقوة جذوره ، وهذا مثل ضربه اللّه تعالى إلى سيدنا محمد وأصحابه في الإنجيل بان قوما يخرجون بعد فينبتون نبات الزرع أي يكونون قليلين ثم يكثرون ، فالزرع محمد والفروع أصحابه والمؤمنون به ، وإنما جعلهم اللّه كذلك «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» ويوقع في قلوبهم الرّعب منهم بسبب اتحادهم ومحبتهم بعضهم لبعض ، وتعاونهم على عدوهم ، وبذلك «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً» لذنوبهم وسترا لعيوبهم في الدّنيا «وَأَجْراً عَظِيماً» (29) في الآخرة ، وهذا مما يزيد غيظ الكافرين فضلا عن أنه تعالى وعدهم النصر في الدّنيا والعزة في العقبى.
وفي هذه الآية ردّ لقول الرّوافض بأنهم كفروا بعد وفاته صلّى اللّه عليه وسلم فحاشا ثم حاشا ، وهل يعد اللّه هذه المغفرة والأجر إلّا لأوليائه الّذين ثبتوا على ما عاهدوا اللّه عليه وماتوا على ما واثقوا رسوله به ، راجع الآية 10 من سورة الحشر المارة تقف على ما يتعلق في هذا البحث.
أما ارتداد من لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ولم تتشربه جوارحهم عند وفاته صلّى اللّه عليه وسلم ولا يكون دليلا لقولهم ، كيف وقد أخبر رسول اللّه عنهم فيما أخرجه الترمذي عن عبد الرحمن بن عرف أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال أبو بكر في الجنّة وعمر في الجنّة وعثمان بن عفان في الجنّة وعلي بن أبي طالب في الجنّة وطلحة في الجنّة والزبير في الجنّة وعبد الرّحمن(6/283)
ج 6 ، ص : 284
ابن عوف في الجنّة وسعد بن أبي وقاص في الجنّة وسعد بن زيد في الجنّة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة.
وأخرج عن سعيد بن زيد مثله وقال هذا أصح من الأوّل وعن أنس بن مالك قال قال صلّى اللّه عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر اللّه عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرأهم أبيّ بن كعب ، ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة عبيدة بن الجراح ، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه ، قال عمر فتعرف له ذلك يا رسول اللّه ؟ قال نعم - أخرجه الترمذي في موضعين - وروى البخاري عن أنس أن رسول اللّه صلّى الله
عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال أثبت أحد (قال أنس أراه ضربه برجله) فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان وهذا من الإخبار بالغيب ومن جملة معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم لأن عمر وعثمان ماتا شهيدين وقضية قنلهما معروفة ومشهودة رضي اللّه عنهما وأرضاهما راجع الآية عشرة من سورة الحشر تجد ما يتعلق بهذا - وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه فبعد هذا أيها النّاس أيليق بمسلم أن يذكر أصحاب محمد بسوء ، وهل يجوز أن يقال فلان منهم أخطأ وفلان أصاب ولو فعل كذا لكان كذا وقد جفت الصّحف ورفعت الأقلام بما وقع منهم ، وهم أعلم النّاس وأحسنهم وأرضاهم للّه بعد رسوله ، فعلى العاقل أن يكف لسانه وسمعه عن ذكرهم إلّا بخير ، ويعتقد أن ما وقع منهم مجرد اجتهاد تحروا فيه الحق ، وإن ساحتهم براءة مطهرة من كلّ ما هو خلاف الأولى بحسب اجتهادهم رضي اللّه عنهم وأرضاهم وحشرنا في زمرتهم ، واللّه يتولى المغالين بعد له وينصر المؤمنين بفضله ، ويمكنهم من أعدائهم بقوته ، ويعلي كلمتهم برحمته آمين.
هذا واللّه أعلم.
وأستغفر اللّه.
ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين ، ومن تبعهم بإحسان آمين.(6/284)
ج 6 ، ص : 285
تفسير سورة المائدة
عدد 26 و112 و5
نزلت بالمدينة بعد سورة الفتح عدا الآية (5) المذكور فيها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إلخ ، فإنها نزلت في عرفات في حجة الوداع والتي واقف فيها.
وهي مئة وعشرون آية ، وأربعة آلاف ومئة وثلاثون كلمة ، وعشرة آلاف وخمسمائة حرف ، تقدمت السّور المبدوءة بما بدئت في سورة الكافرين ج 1 ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» العهود والمواثيق والإيمان والوعود وكلّ ما ألزمتموه أنفسكم مما يسمى عقدا ويدخل فيه عقود الأنكحة والبيع والشّراء والرّهن والشّركة وغيرها مما أحله اللّه لكم وحرمه عليكم.
ثم شرع بتفصيلها فقال عز قوله «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» يدخل فيها كلّ بهيمة لأن النّكرة إذا أضيفت عمت ، ولكن هذه الإضافة على تقدير من أي بهيمة من الأنعام المحلل أكلها فيخرج من عمومها ذوات الحوافر وما لم يعرف من الأنعام كالضواري والسّباع وبقية الوحوش مما لم يؤكل أما الظّباء وبقر الوحش وحماره وما يؤكل من أمثالها فتؤكل ، وقال ابن عباس ومن بهيمة الأنعام الجنين والحكم الشّرعي فيه هو إذا ذبحت أمه وخرج حيا ذبح وأكل بلا خلاف ، وإن خرج ميتا فلا ، وما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال في الجنين ذكاته ذكاة أمه أي كذكاتها بأن يذبح مثلها لا أن ذبح أمه ذبح له ولو خرج ميتا ، وقال الشّافعي يؤكل ولو خرج ميتا ، لما جاء في بعض الأخبار أنه ككبدها ، وكأنه رضي اللّه عند تلقى الحديث برفع ذكاة ، فيكون المعنى ذكاته هي ذكاة أمه وتلقاه أبو حنيفة ومن تبعه بالنّصب ، وعليه يكون المعنى ذكاته كذكاة أمه رحم اللّه الجميع ورضي عنهم وأرضاهم فكل ما يطلق عليه لفظ بهيمة على ما ذكر أعلاه حل لكم أيها النّاس «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» تحريمه فيما يأتي فهو حرام عليكم ، وهذا التحليل ليس على إطلاقه أيضا فيما أحل لكم ، إذ قد يستثنى منه في بعض(6/285)
ج 6 ، ص : 286
الأحوال منها ما هو في قوله تعالى «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ» لأنه وان كان حلالا إلا أنه يحرم عليكم «وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» في حرم مكة شرفها اللّه ، إذ لا يجوز لكم صيد شيء من تلك البهائم ولا أكله تبعا لحرمة صيده ، وليس لكم أن تعترضوا على أحكام اللّه فيما يحلل ويحرم «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» (1) في شؤون خلقه لا يسأل عما يفعل ، ولا راد لحكمه ، ولا معقب لما يحكم ، فله أن يتعبدكم بما تعلمون سببه ونفعه وضره ومالا «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» بسبب أنكم لا تعقلون المراد منها ولا فائدتها ولا نتيجتها ، بل عليكم أن تعتقدوا ما حرم عليكم لمجرد تحريمه ، وحل ما أحله لكم بمطلق تحليله ، بقطع النّظر عن الأسباب الداعية لذلك.
وسبب نزول هذه الآية أن الخطيم شريح بن هند بن ضبة البكري أتى المدينة وحده وترك خيله وراءها ودخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال إلام تدعو النّاس ؟ فقال إلى شهادة أن لا أله إلّا اللّه وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة ، فقال حسن الا إن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وخرج فقال صلّى اللّه عليه وسلم دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر ، وما الرّجل بمسلم ، فلما ذهب مرّ بسرح المدينة فاستساقه ، فلما كان العام القابل خرج حاجّا مع بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة وقلد الهدي ، فقالوا يا رسول اللّه هذا الخطيم فخلّ بيننا وبينه فقال إنه قلد الهدي ، فقالوا هذا شيء كنا نفعله بالجاهلية ، فأبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فنزلت بمنع التعرض لمن يقدم البيت بأحد شعائر أعلام الدّين ومناسك الحج والعمرة ، إلا أن هذا على فرض صحته لا يقيد الآية بما ذكر ولا يخصصها فيه بل هي عامة في النهي عن استحلال كلّ شعيرة من شعائر اللّه «وَلَا» تحلوا أيها النّاس «الشَّهْرَ الْحَرامَ» بأن تقاتلوا فيه من لم يقاتلكم فيه ، أما إذا بدأكم أحد بالقتال فيه فقاتلوه لأنه يكون دفاعا مشروعا.
راجع الآية 192 من البقرة «وَلَا» تحلوا «الْهَدْيَ» المساق إلى البيت الحرام «وَلَا الْقَلائِدَ» البدن المقلدة إعلاما بأنها مهداة إلى البيت ، إذ لا يجوز أخذها بوجه من الوجوه لاختصاصها بالحرم «وَلَا» تحلوا قتال «آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» أي قاصدينه «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً» منه في الآخرة وربحا في الدّنيا بتجارتهم فيه.
تشير(6/286)
ج 6 ، ص : 287
هذه الآية إلى تحريم ذلك كله وتحذير النّاس من استحلال شيء منه لما فيه من إهانة البيت الواجب تعظيمه الذي جعله اللّه أمنا للناس ومخالفة أمر اللّه في ذلك.
مطلب في النّسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة :
قال علماء النّاسخ والمنسوخ لم ينسخ من المائدة إلّا هذه الآية ، والنّاسخ لها قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الآية 5 من التوبة فتكون ناسخة لقوله تعالى (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) الآية المارة فقط ، وإن قوله (وَلَا آمِّينَ) الفقرة منها منسوخة بقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) الآية 30 من التوبة أيضا.
وقال بعضهم لم ينسخ منها إلّا جملة (وَلَا آمِّينَ) والنّاسخ لها الآيتان المذكورتان من التوبة الآتية.
وقال بعضهم لم ينسخ إلّا كلمة القلائد لأنها من أعمال الجاهلية لأنهم كانوا يقلدون الهدي بشيء من لحاء الشّجر وشبهه ، وقد ترك هذا بالإسلام.
والقول الحق أن لا نسخ لشيء من ذلك أبدا كما ذهب إليه الواحدي وجماعة من علماء التفسير.
وهذه الآية كلها محكمة كسائر السّورة ، ومما يرد على القائلين بالنسخ هو أن اللّه تعالى لم يندبنا إلى إخافة من يقصد بيته من أهل شريعتنا ، لا في الشّهر الحرام ولا في غيره ، وهو الأوجه ، لأن الآية مطلقة وليس لنا أن نقيدها بغير المؤمنين فنصرفها عن ظاهرها ونقول بالنسخ ، ولأن آية براءة في المشركين خاصة فنصرفها إليهم كما صرفها اللّه ، لأن المشرك لو قلد نفسه بجميع ما يدل على الشّعائر الإسلامية لا يؤذن له بالدخول إلى المسجد الحرام بعد نزول تلك الآية وإلى الأبد حتى يسلم ، والقول الحق هو أنه ما دام يوجد للآية محمل على إحكامها فلا يليق أن نصرفها لغيره وننتحل طرقا للنسخ فنخرج عن صدد ما ترمي إليه آيات اللّه ، فرحم اللّه علماء النّاسخ والمنسوخ ما أغلاهم فيهما ، ولو صرفوا جهدهم هذا لغيره لكان خيرا لهم «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» هذا أمر إباحة كقوله تعالى (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) لأن اللّه حرم الصّيد على المحرم حالة إحرامه بالحرم وحرم البيع حالة النداء إلى الجمعة ، فإذا أحل المحرم جاز له الصّيد كما إذا قضيت الصّلاة حل له البيع ، راجع آخر سورة الجمعة المارة «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» يحملنكم ويكسبنكم(6/287)
ج 6 ، ص : 288
ويوقعنكم في الجريمة «شَنَآنُ» بغض وكراهة «قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» في حادثة الحديبية وغيرها «أَنْ تَعْتَدُوا» عليهم بعد أن فتح اللّه عليكم وأظهركم عليهم وأعتقهم رسولكم لقوله أنتم الطّلقاء بعد أن استسلموا اليه ، ولهذا صدر اللّه هذه السّورة بالأمر بالوفاء «وَتَعاوَنُوا» أيها المؤمنون «عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى » فيما بينكم واعفوا عمن أساء إليكم وغضوا عن مساويهم ومنهم الخطيم المذكور ، لأن مجيئه إلى الحرم متلبسا باعلام الحج قبل نزول آية منع المشركين منه ، فلا تتعرضوا له «وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» بقصد الانتقام والتشفي بل اجتنبوا كلّ ما يؤثمكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» بجميع أموركم وفيما بينكم وبين غيركم واحذروا عقاب اللّه أن تقدموا على شيء من محارمه «إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (2) لمن يتعد حدوده فلم يتمثل أوامره ويجتنب نواهيه ثم بين المراد من قوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) المذكورة في الآية الأولى بقوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» والمراد بالميتة الميتة حتف أنفها ، لأن الموت في غالب الأحوال لا يكون إلّا عن مرض وهو يقلل من نفع الحيوان وكثيرا ما يجعله ضارا وقد يصاب آكله من نوع ذلك المرض ، وإذا كان الموت عاديا فإن دمه يبقى في عضلاته بما يحمل من مواد ضارة وأخرى سامّة قد تؤدي إلى وفاة الآكل ، أما ما يقال بان الطّبخ يذهب ذلك فليس بصحيح لأن من المواد ما لا ينهكها الطّبخ مهما بولغ فيه ، وقد ذكرنا أن طاعة اللّه واجبة فيما له سبب وما لا ، وعلينا أن نعلم أن اللّه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلّا لدفع ضرر عنا أو قصد منفعة لنا وذلك حفظا لسلامتنا وراحتنا وكياننا ، ولئلا نصاب بأمراض جسمية وعقلية بأنفسنا.
واعلم أن المراد بهذا الدّم هو السّائل في الحيوان الحي أو غيره والمتجمد في الميت لأنه نسيج أعد لنقل ما تحتاجه العضلات من الأوكسجين والمواد الغذائية والتخلص من النّقايات مثل ثاني أكسيد الكربون وحمض اليولينا وغير ذلك من المواد الضّارة بالجسم التي يحملها الدّم في أعضاء الإخراج ، وبذا يكون ضرره عظيما ، ويشتد ضرره إذا كان الحيوان المأخوذ منه الدّم مريضا ، وإذا مات الحيوان احتبس الدّم في عروقه فتفسد حالا لأنه أسرع أجزاء الجسم(6/288)
ج 6 ، ص : 289
فسادا للطافته.
واعلم أنه قد يحصل من أكل لحم الميتة والدّم ضرر عظيم لأن جميع مكروباته تتجمد في العروق المتخلطة
في اللّحم ، يدلّك على هذا انه بصير كالمصل وهو دليل تسممه ويراد بهذا الدّم في هذه الآية المسفوح المبين في الآية 145 من سورة الأنعام المارة في ج 2 لأن القاعدة أن المطلق يحمل على القيد ، والذبح الشّرعي يصفى الدّم ويخرج ما هو في العروق فيتخلص اللّحم من المواد الضّارة وقدمنا المستثنيات من الميتة والدم في الآية 173 من سورة البقرة المارة فراجعها ، وقد وعدنا ببيان أسباب التحريم ومعاني هذه المحرمات والمراد منها في هذه السّورة لذلك ذكرنا ما وفقنا عليه من ذلك في الدّم والميتة ، أما الخنزير فينطوي تحريم أكله على حكم بالغة أيضا لأنه ينقل أمراضا خطيرة لآكله أهمها (الدويدات) المعروفة الآن (ترانكنيلا) ، فإذا أكل إنسان لحم خنزير قد يصاب بحدوث هذه الآفة فتسبب له مرضا فظيعا ، وأوله الإسهال والحمى مع آلام شديدة في جميع العضلات ، وقد يعتريه هذا عند أقل حركة لأنه ناشيء عن وجود ديدان هذا الطّفيل في الألياف العضلية ، وقد يزداد الألم في عضلات النّفس فيؤدي إلى وقف حركتها ويسبب الموت اختناقا ولم يعرف حتى الآن علاج هذا المرض ومرض السّرطان ، والأطباء منهمكة فيها وعسى اللّه أن يطلعهم عليه أو يرشدهم لتحريم أكله طبا كما هو محرم شرعا.
هذا ومع شدة مراقبة اللّحوم في البلاد الأجنبية فإن المصابين في هذا المرض كثيرون ، وخاصة في البلاد المتمدنة الرّاقية بزعمهم فما بالك إذ في المدن الصّغيرة والقرى التي لا احتياط فيها.
وينقل أيضا الدّودة الوحيدة المسماة (ألتبنا) التي لا ينقلها من الحيوان إلّا الخنزير فهو العائل لها دون غيره ، فإذا أكل الإنسان لحم الخنزير ولم ينهك جيدا في الطّهي أصابه ذكل ولهذا ترى المصابين من أكلته كثيرين لأنهم اعتادوا أن يأكلوه على درجة غير كافية من النّضج لا تكفي لقتل ذلك الطّفيل ، وقد يورث آكله على هذه الحالة الجذام والعياذ باللّه ، وقد انتشر في هذه السّنة في بيروت بسبب أكله لأن الإفرنسيين سببوا كثرته فيها وعوّدوا أكله من لم يعتده ، بما حدا بالمفوض الإفرنسي فيها أن أذاع بلاغا نقلته الجرائد بلزوم أنهاك لحم الخنزير بالطبخ وعدم أكله دون ذلك.
واعلم أن الأمراض(6/289)
ج 6 ، ص : 290
التي تنشأ عن أكله تنتقل إلى الغير فلا يقتصر ضررها على المصاب بل يكون مصدرا للعدوى.
وإنما يلازم ذلك الطّفيل الخنازير خاصة لأنها متوغلة بأكل الجيف والعفونات والأقذار ، فضلا عن أن أكله يورث قلة المروءة والغيرة لأنك لا تجد حيوانا يشاهد مثله حين ينزو على الأنثى إلّا حاربه غير الخنزير فإنه يعينه على الفعل إذ يسنده بظهره حالة نزوّه ويركيه على الأنثى ، ولهذا نجد المدمنين على أكله لا يبالون بما يصيب أعراضهم ولا يهمهم شأن نسائهم لأن اللّه تعالى أزال مادة الحياة منهم ، أجارنا اللّه وحمانا من كلّ سوء ووقانا بفضله ولطفه.
قال تعالى «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» أي ذبح على غير اسم اللّه بأن يبتدأ باسم الموثن عند الذبح ، وهذا أمر تعبدي تعبدنا اللّه به صونا لألوهيته من أن يشرك بها غيرها.
قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الآية 121 من سورة الأنعام في ج 2 ولا حق لنا أن نقول لما ذا بعد أن صرح لنا بتحريمه لأن أفعال اللّه لا تعلل «وَالْمُنْخَنِقَةُ» الميتة خنقا بدل الذبح كما يفعله الهندوس وغيرهم ، وبعضهم يضربون الحيوان ضربة قوية على رأسه بآلة حديدية فيخر ميتا «وَالْمَوْقُوذَةُ» المقتولة ضربا «وَالْمُتَرَدِّيَةُ» الواقعة بنفسها أو المطروحة من مكان عال أو جبل شاهق فتموت «وَالنَّطِيحَةُ» من شاة أو بقرة أو غيرهما حتى تموت ، فهذه كلها حكمها حكم الميتة وفيها ما فيها ، إلا أنه لما كان موتها بسبب أفردها بالذكر لئلا يتذرع أحد بأنها لا تسمى ميتة ولا تدخل في حكمها «وَما أَكَلَ السَّبُعُ» بأن أكل بعضه فمات ، والسّبع يطلق على كلّ حيوان له ناب يعدو على النّاس والدّواب كالأسد والذئب والنّمر وغيره ، فكذلك أيضا حكمها حكم الميتة ، ثم استثنى تعالى شأنه من هذه الأحوال فقال «إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ» بأن أدركتموه حيّا حياة مستقرة كعين تطرف أو ذنب يتحرك أو رجل ترفس فذبحتموه قبل أن يموت فيحل لكم أكله ، لأن الذكاة كما ذكرنا آنفا تصفى تلك الدّماء السّامة وتخلص اللحم من المواد الضّارة بحكمة اللّه تعالى ، أما الحياة غير الثابتة في الحيوان مما يرى في حركاته بسبب تفلص الدّم في عروقه أو اختلاج أطرافه وجوانبه فلا تعد حياة مجيزة لأكله
لأن هذه الحركات والاختلاجات قد تكون في الحيوان بعد الذبح(6/290)
ج 6 ، ص : 291
بل بعد السّلخ ، لذلك لا عبرة بها ولا يحل أكلها لأن جمود العين وعدم تحرك الذنب ورفس الرّجل مما يدل على عدم وجود حياة حقيقة في الحيوان تحل أكله «وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ» التي كانت تعظمها الجاهلية وهي أحجار منصوبة حول الكعبة بزمنهم كانوا يذبحون عليها لأصنامهم ، فهذه وما هو في حكمها الآن كالذبح على الأحجار لأجل البناء خاصة الذي لا يقصد به وجه اللّه ولا يسمى عليه اسمه بل ذكر اسمه الشّيخ الفلاني أو الولي الفلاني فأكله حرام ، أما إذا قال للّه وذكر عليه اسمه تعالى ثم قال وثوابه إلى الشّيخ أو الولي أو حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم فلا بأس بأكله ، وهذا الأمر بعدم أكل المذبوح على النّصب تعبديّ أيضا لصيانة اسم الإله من الإشراك بغيره وتعظيم ما لم يكن معظما ، وهذا يشمل جميع ما يؤكل لا يختص بشيء من الأنعام.
قال تعالى «وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» القداح السبعة المستوية التي يتفاءلون بها عند إقدامهم وإحجامهم ، على أمر من الأمور ، وقد كتبوا على أحدها (أمرني ربي) وعلى الثاني (نهاني) وعلى الثالث (منكم) وعلى الرّابع (من غيركم) وعلى الخامس (ملصق) وعلى السّادس (العقل) والسّابع مغفل لا شيء عليه ، فإذا أرادوا سفرا أو زواجا أو تجارة أو اختلفوا في نسب أحد أو أمر قتل أو تحمل دية أو غير ذلك جاءوا إلى هبل أكبر أصنامهم وأعطوا مئة درهم لصاحب القداح حتى يحملها لهم فيجيلها ثم ينشرها أمامه ، فإذا خرج أمرني ربي فعلوا السّفر والزواج والتجارة وشبهها ، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا شيئا من ذلك ، وإن خرج منكم فالولد المختلف عليه في النّسب يكون منهم ، وإن خرج من غيركم فليس منهم ، وإن خرج ملصق كان على حاله ، وإن خرج العقل فيتحمل الدّية ، وإن خرج المغفل الذي ليس عليه كتابة نشروها ثانيا ، وهكذا حتى يخرج المكتوب عليه مما يريدون ويوافق ما نشروها لأجله.
وقال بعضهم ان الأزلام ثلاثة فقط واحد مكتوب عليه أمرني ربي ، والآخر نهاني ربي ، والثالث مغفل لا شيء عليه ، وعلى الأوّل عندهم المعول «ذلِكُمْ» العمل الذي اخترعتموه محرم عليكم فعله لأنه «فِسْقٌ» خارج عما أحل لكم أيها المؤمنون لأنه من مفتريات الجاهلية «الْيَوْمَ» بعد أن شرفكم اللّه بالإسلام وتمكن فيكم الإيمان ، فقد(6/291)
ج 6 ، ص : 292
«يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» أن ترجعوا إليه ثباتا ، لأنكم تركتم الكفر وعوائد الجاهلية وركنتم إلى الإسلام وانقطع أملهم منكم ، إذ لو بقيتم على عوائدهم لبقي لهم أمل فيكم ، لذلك يجب عليكم ترك عاداتهم كلها كما تركتم دينهم الباطل لأنها أشياء باطلة من مخترعاتهم الدّاهية «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي» أنا اللّه الذي أحيي وأميت وأجازي وأكافي ، لا رب غيري ولا إله سواي يعبد ، الحلال ما أحللته والحرام ما حرمته.
والجملة نزلت بعرفة في حجة الوداع هي قوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» حدوده وأحكامه حلاله وحرامه فرائضه وسننه «وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فلم أدع شيئا يتعلق بأمر دينكم ودنياكم إلّا بينته لكم «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» من سائر الأديان فلا يقبل منكم غيره (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية 86 من آل عمران المارة.
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) الآية 19 منها أيضا ، وهذه الجملة واقعة كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كسائر الآيات المتقدمة والمتأخرة في النّزول عن سورها فإنها تكون معترضة كذلك «فَمَنِ اضْطُرَّ» لتناول شيء مما حرم عليه «فِي مَخْمَصَةٍ» شدة جوع فأكل مما حرم عليه لعدم وجود شيء حالة كونه «غَيْرَ مُتَجانِفٍ» مائل «لِإِثْمٍ» مما أكل بأن كان زيادة على سد الرّمق «فَإِنَّ اللَّهَ» الذي رخص لكم هذا «غَفُورٌ رَحِيمٌ» (3) لا يؤاخذكم على ذلك بل يغفر لكم ذنبكم رحمة يحالكم لأن الضّرورات تبيح المحظورات ، أما إذا استعمل الإنسان شيئا من هذه لغير ضرورة أكل أو زيادة على سد الرّمق غير مستحل له فيفسق شرعا لخروجه عن الطّاعة لما حده اللّه عليه ، وإذا استحل شيئا منها يكفر ، وقد بيّنا ما يتعلق في هذا وما قبله من المحرمات والمستثنيات في الآية 174 من سورة البقرة المارة.
روى البخاري ومسلم عن طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال فأي
آية ؟ قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إلخ ، فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه ، نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة من شهر ذي الحجة سنة(6/292)
ج 6 ، ص : 293
عشر من الهجرة ، والنّبي واقف بعرفة ، فقرأها في خطبته وقال أيها النّاس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها.
وإنما قال تعالى يوم نزلت هذه الآية (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) مع أنه كان ولم يزل راضيا عن دين الإسلام قبل وبعد لبلوغه إذ ذاك رتبة الكمال ، إذ بلغ أقصى درجاته من أصول وفروع ، وليحثنا على التمسك به وزيادة المحافظة عليه ، روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول قال جبريل قال اللّه عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السّخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه.
وروى أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي اللّه عنه ، ولهذا حفظ زمانها ومكانها إذ قال له صلّى اللّه عليه وسلم ما يبكيك ؟ قال إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلّا نقص ، قال صدقت.
وفي رواية أن الذي بكى هو سيدنا أبو بكر رضي اللّه عنه فعلى فرض صحتها لا ينافي بكاء عمر أيضا إذ يجوز أن كلاهما وقع منه ذلك ، ولكن هذه الحادثة تؤيد ما جرينا عليه من أن الذي بكى هو عمر لأن السّؤال وقع من اليهودي له لا لأبي بكر.
وقد أخذ من هذه الآية نعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأنه هو صاحب الدّين ولم يعش بعدها إلا واحدا وثمانين يوما إذ كانت وفاته يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا حدود ولا أحكام ولا فرض ولا سنه عدا قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية 282 من البقرة إذ تأخر نزولها عن سورتها ، وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث عند تفسيرها فراجعه ، وذكرنا آنفا أن هذه الآية لا تعدّ مكية وإن كان نزولها بمكة لأن كلّ ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا.
هذا وإنما قال صلّى اللّه عليه وسلم أحلوا حلالها وحرموا حرامها وكلّ سور القرآن يجب أن نحل حلالها ونحرم حرامها لزيادة الاعتناء على حد قوله تعالى (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الآية 36 من سورة التوبة ، على أنه لا يجوز الظّلم في شيء ما في جميع الأشهر ، وإنما خص الحرم بعدم الظّلم لزيادة الاعتناء ولاشتمال هذه السّورة على ثمانية عشر حكما لا توجد في غيرها ، أولها للمنخنقة وآخرها (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية 106 الآتية قال(6/293)
ج 6 ، ص : 294
تعالى يا سيد الرّسل «يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ» من المأكولات «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» من كلّ ما تستطيبونه مما لم يرد نص بتحريمه والطّيب ما استطابته العرب أولو القوى الطّيبة والعقول السّليمة ، لأن هذا الصّنف لا يستلذ إلا بالطيبات.
مطلب في أحكام الصّيد وما يؤكل منه وما لا ، وما هو المعلم من غيره والصّيد بالبندقية والعصا وغيرهما.
«وَ» أحل لكم صيد «ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ» الكواسب للصيد كالكلب والنّمر والفهد والعقاب والصّقر والبازي والشّاهين والباشق وغيرهما أحل لكم صيدها حالة كونها «مُكَلِّبِينَ» أي مؤدبين هذه الحيوانات ومعلميها على الاصطياد بأن تمسكه لكم ولا تأكله لأنها لا ترسل إلى الصّيد ولا يجوز أن يؤكل من صيدها إلّا إذا كانت معلّمة ، ولهذا قال تعالى «تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ» به من العلم بأصول إرسالها والاصطياد بها ، فإذا تعلمن «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» من الصّيد فهو حلال «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» حين إرسال الحيوان والطّير عند الذبح إذا أدركتموه حيا «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تخالفوا تعاليمه هذه وغيرها فإنه محاسبكم عليها «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» 4 إذا حاسب وسرعة حسابه هو أنه تعالى يحاسب الخلق كلهم محاسبة رجل واحد مثل طرفة عين أحدكم.
تنبه هذه الآية إلى أنه تعالى يحاسبكم إذا أقدمتم على خلاف تعاليمه ، قال عدي بن حاتم وزيد الخيل بن المهلهل يا رسول اللّه إنا قوم نصيد بالكلاب و(باليزادة) العصا العظيمة فماذا يحل لنا ؟ نزلت هذه الآية.
واعلم أن شروط التعليم في الحكم الشّرعي هي أنك إذا أوسدت الكلب أو غيره على الصّيد أي أغربته به (وأوسد بمعنى أسرع) وإذا أشليته أي دعوته شلى بمعنى رجع ، وإذا زجرته عن الصّيد انزجر ، وإذا أخذت الصّيد أمسكت عنه فلا تأكل منه شيئا ، وأن لا ينفر منه إذا أراده ، وأن يجيبه إذا دعاه ، فإذا وجد هذا التأديب في الجوارح مرارا أقلها ثلاث كانت معلمة يحل قتلها وأكل صيدها وإلّا لا.
روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم(6/294)
ج 6 ، ص : 295
فقلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب ، فقال إذا أرسلت كلبك المعلم ذكرت اسم اللّه عليه فكل مما أمسك عليك إلّا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ، وإن خالط كلابا لم يذكر اسم اللّه عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره.
وفي رواية.
لا تدري أيها قتل.
قال وسألته عن صيد المعراض فقال إذا أصبت بحده فكل وإذا بعرضه فقتل فاوقذ فلا تأكل لأنه يصير بحكم الميتة ضربا وهو حرام.
وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر الميتة ضربا وهو حرام.
وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر إذا لم يمت بها كما تقدم بالآية الثالثة المارة آنفا وإذا رميت الصّيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلّا أثر سهمك فكل فإن وقع في الماء فلا تكل لاحتمال أنه مات خنقا بسبب الغرق فيه ، وأما صيد البندقية فإنه يؤكل سواء أدركه حيا فذبحه أو ميتا ، وقد أفنى بهذا شيخ الإسلام المرحوم زنبلي على أفندي في فتاواه ج 2 ص 244 في كتاب الصّيد استدلالا بما مر.
روى البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني ، قال قلت يا رسول اللّه إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي ؟ قال أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا بها ، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها ، وما صدت بقوسك فذكرت اسم اللّه عليه فكل ، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم اللّه عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل.
على أنه إذا سمي التسمية وكان مسلما فلا بأس ، قال في فتاوى الفيضية : وإن تركها ناسيا يحل ، والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء - كذا في الكافي ج 2 ص 230 - هذا وإن القرآن العظيم لم يتعرض لنجاسة الكلب وأكله ، وقد جاء في الحديث الصّحيح :
إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب.
وهذا مما يدل على نجاسته وحرمة أكله ، ولهذا بالغ المسلمون في تجنب الكلاب ، لأن إرشاده صلّى اللّه عليه وسلم ينطوي على فوائد كثيرة من النّاحية الطّيبة ، لأن الكلاب تسبب أمراضا بملامستها لأنها تحمل جراثيم كثيرة أهمها داء الكلب والعياذ باللّه ، وهو لا يظهر مبدئيا على الكلب فإذا عض إنسانا انتقل ذلك الدّاء العضال اليه ، وإذا لا مس شخص شعر(6/295)
ج 6 ، ص : 296
كلب مصاب بدودة (الأكيزكوس) فيلتصق بعض بويضاتها المتناثرة من براز الكلب على شعره ، فإذا تناول الشّخص طعاما بعد ذلك تكونت في الحوصلة في كبده أو في الرّئتين أو في المخ ، وقد ينشأ عنه الموت ، ولهذا فإن البلاد التي يكثر فيها احتكاك الإنسان بالكلب يكون هذا المرض فيها متفشيا ، حتى انه بلغ عدد المصابين بذلك في ايسلندا ومراعي اوستراليا 15 في 100 ، وقد حفظ اللّه البلاد الإسلامية من هذا الدّاء لتجنب أهلها مباشرة الكلاب اتباعا لتحريض الشّرع الشّريف عن مقاربتها ، وهذا من جملة الحكم البالغة فهنا لها ديننا الحنيف الذي أنجبت تعاليمه العظماء الّذين دان لهم الدّهر بالفضائل ، وإن الأمة الإسلامية العربية لم تصل إلى العزّة والمجد وتملك الشّرق والغرب إلّا بفضل تمسكها بتعاليم دينها السّامية ولم ينحط قدرها ويتسلط عليها عدوها إلّا عند ما تقاعست عن تلك التعاليم حتى صاروا على ما هم عليه الآن من ذل وهوان واستعمار ، اللهم وفقهم للعود إلى دينك كما أردت ، واهدهم لما فيه رشدهم.
واعلم أن تحريم أكل الميتة لا يسري إلى عدم الانتفاع بشعرها وجلدها وعظمها كما جرى عليه أبو حنيفة رضي اللّه عنه خلافا لما ذهب اليه الشّافعي رحمه اللّه في ذلك ، وأجاز مالك الانتفاع بعظمها فقط ، وإن تحريم أكل الحيوان المنصوص عليه في هذه الآية مؤيد بقوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية 146 من سورة الأنعام والآية 116 من سورة النّحل في ج 2 وآية البقرة 172 المارة ، فالتنزيل المكي والمدني اقتصر على تحريم الميتة والدّم والخنزير ، وما في آية المائدة هذه يدل على أن تناول غيرها من الحيوان جائز بدليل قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية 40 من البقرة ، وهذه الآية الكريمة وإن كانت تفيد الإطلاق إلّا انها تقيدت بما ورد في الآيات الأخر المذكورة أعلاه وهو ظاهر القرآن ، فلا يحتاج لتأويل أو تفسير أو قياس ، والمطلق يحمل على المقيد كما أشرنا إليه آنفا.
هذا وقد أورد الفقهاء في كتبهم أحاديث صحيحة جاءت عن حضرة الرّسول بتحريم أكل كلّ ذي ناب من السباع وكلّ ذي مخلب من الطّير والحمير الأهلية ، فعلى الورع أن يتقيد بما جاء عن حضرة الرّسول لأنه لا ينطق عن الهوى ، وقد أمر اللّه بذلك فقال عز قوله(6/296)
ج 6 ، ص : 297
(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر المارة على شرط أن يوثق بصحة ما ورد عنه صلّى اللّه عليه وسلم قال تعالى «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» التي سألتم عنها وقد كررها تأكيدا «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» فلا حرج بالأكل عندهم ومعهم وعلى مائدتهم مما يحل أكله عندكم وشربه ، أما المجوس والمشركون ومن ليس لهم كتاب سماوي فلا يحل أكلهم للمؤمنين ولا جناح على المؤمنين أن يطعموهم من طعامهم ، ولا قيمة لقول من قال أن المراد بالطعام هو الحبوب المطحونة غير المطبوخة ويحرم طعام أهل الكتاب ويعتقد نجاستهم المذكورة في الآية 28 من سورة التوبة الآتية نجاسة حسية لا معنوية لمخالفة صراحة هذه الآية والإجماع وما كان عليه عمل الأصحاب ، كما لا وجه لقول من قال إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الآية 122 من سورة الأنعام في ج 2 لأنها مطلقة ، وليس الأمر كذلك ، لأن الأصل أنهم يسمون عند الذبح فيحمل أمرهم على هذا.
قل إنا إذا تيقنا أنهم يذبحون على غير اسم اللّه فلا يحل لنا الأكل منه ، وليس علينا أن نسأل عن هذا ، ولا يجوز أن نأخذ بقول لا يعتمده الكتاب ولا السّنة.
على أن أبا حنيفة رحمه اللّه قال لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا ، وعلى أي دليل استندنا.
وقال الشّافعي رضي اللّه عنه إذا صح الحديث فهو مذهبي وقال غيره تأويلا لقوله إذا صح الحديث فهو مذهبي بما
يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط «وَالْمُحْصَناتُ» العفيفات الحرائر أحل لكم أخذهن سواء كن «مِنَ الْمُؤْمِناتِ» أو من غيرهن لقوله تعالى «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أيضا «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» مهورهن «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» أي متزوجين غير زانين «وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» صاحبات يفجرون بهن ، وهؤلاء الصّديقات اللائي هنّ في الحقيقة عدوّات قد تنفرد الواحدة منهن لأن يبغي بها صاحب واحد تخلص اليه فقط فلا تزاني غيره ، ومنهن من تزاني غيره أيضا ، وهذا حرام قطعا لا فرق بالزنى بها وبالمسب لة ، راجع الآية 25 من سورة النّساء المارة فيما يتعلق في هذا البحث(6/297)
ج 6 ، ص : 298
ففيه كفاية «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ» فيما أحل اللّه وحرم ويتخذ أشياء محرمة بزعمه أنه لا بأس بها «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» محق ثوابه وحرم من أجره إذا مات على حالته تلك دون توبة.
واعلم أن قيد المؤمنات بالحرائر ليس بشرط إذ يجوز له أن يتزوج بالإماء كما أوضحناه في الآية 32 من سورة النّور المارة.
واعلم أن اتخاذ الأخدان للزنى بهن يدل على الاستحلال ، ومن استحل شيئا مما حرم اللّه فهو كافر ، ولهذا قال تعالى «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (5) واعلم أن لفظ المحصنات يطلق على المتزوجات كما أشرنا اليه في الآية 23 من سورة النساء المارة ، وعلى الحرائر كما هنا ، ولفظ الأجور يطلق على المهور كما في هذه الآية وآية 25 من النّساء والآية 11 من سورة الممتحنة المارة أيضا ، وقد ذكرناه أن ما ذهب اليه بعض المفسرين من كون لفظ أجورهن الواردة في الآية 24 من سورة النّساء هي بدل المتعة هو الذي دعا أكثر المفسرين وحدابهم على تفسير قوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) الآية 24 منها بان المراد في هذا الاستمتاع هو المتعة ، ولو لا هذا التفسير لم يقل أحد بأن المتعة ثبتت بالقرآن ونسخت بالسنة ، لأن القول الحق انها ثبتت بالسنة ونسخت بها كما بيناه هناك ، فراجعه.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» إذا أردتم القيام إلى فعلها إذ لو أريد فعل الصّلاة لزم تقديم الصّلاة على الوضوء ، وما قيل بأنه يوجد قراءة شاذة بعد لفظ الصّلاة (وأنتم محدثون) باطل لا أصل له ويحرم القول به ، لأن القراءة لما بين الوقتين ثابتة بالتواتر ، فإذا جوزنا قراءة ما لم يثبت تواتره لزم الطّعن في القرآن وهو براء من كلّ طعن ، وهذا يفضي إلى القول بأن القرآن كان أكثر مما هو في المصاحف كما قيل في سورة الأحزاب التي أوردنا على القائل فيها بما هو أهله ، راجع هذا البحث في آخرها ففيه كفاية.
ويفهم مما يأتي بعد أن المراد من مفهومه وأنتم على غير طهارة شرعية ، وأن حذف ما هو مفهوم المعنى من اختصارات القرآن وإيجازاته وكثيرا ما يحذف جملة أو كلمة أو حرف بناء على ذلك بدلالة جملة أو كلمة أو حرف عليها ، وهو من أنواع البديع المحسن للكلام وجواب إذا «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ(6/298)
ج 6 ، ص : 299
إِلَى الْكَعْبَيْنِ»
وبهذا يرتفع الحدث الأصغر ، ثم ذكر ما به يرتفع الحدث الأكبر بقوله «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» أي اغسلوا جسدكم كله ، لأن التضعيف في الفعل يدل على المبالغة.
وإذا كان الحرج منفيا في هذا الدّين الحنيف وعلم اللّه أزلا أن الماء قد يضر استعماله أحيانا وقد لا يوجد ، ويوجد مع الحاجة اليه لنفس أو حيوان أو طبخ ، فرخص اللّه تعالى في عدم استعماله في قوله عز قوله «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» المكان المنخفض مطلقا ويطلق على المختص بقضاء الحاجة غالبا ، ولذلك استعير لها كما استعير عن كلمة الجماع ب «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» فاجنبتم «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» كافيا لهاتين الطّهارتين أو أحدهما أو كان ولم تقدروا على استعماله لخوف أو مرض أو حاجة ، فلم يجعل اللّه عليكم ضيقا ويلزمكم باستعماله لأداء عبادته ، بل جعل لكم من فضله خلفا عنه إذا تعذر عليكم بقوله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» طاهرا نقيا ، راجع الآية 43 من سورة النّساء في بحث التيمم ومعنى الصّعيد.
مطلب في أحكام التيمم وكيفيته وجواز الوضوء الواحد لخمس صلوات وإن كلمة إنا لا تفيد العموم وفروض الوضوء وكيفيته :
ثم بين كيفية التيمم بقوله «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» أي التراب المعبر عنه بالصعيد الذي معناه وجه الأرض بدلا من الوضوء والغسل وإنما أباح لكم هذا لأنه «ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» في الطهارة كما لم يجعل عليكم حرجا في غيرها «وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» عند ما تقومون لعبادته بالماء طهارة حقيقة وعند فقده بالتراب طهارة حكمية تعبّدكم بها «وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» برخصه كما أتمها بعزائمه «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (6) نعمه وتعلمون أنه لم يكلفكم بشيء إلّا أثابكم عليه قولا أو فعلا هذا واعلم أن لا محل للقول بان ظاهر الآية يدل على لزوم الوضوء لكل صلاة لما ثبت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد ، وجاء في الصحيحين أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ.
على أنه يسن(6/299)
ج 6 ، ص : 300
أن يجدد الوضوء لكل صلاة ، أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من توضأ على طهر كتب اللّه له عشر حسنات.
وما قبل إن النّبي وأصحابه كانوا يتوضئون لكل صلاة لا دليل عليه ، إذ لو كان المراد وجوب الوضوء لكل صلاة لما جمع حضرة الرّسول بين أربع صلوات ، وفي رواية خمس صلوات بوضوء واحد ، ولما قال في هذا الحديث من توضأ على طهر ، ولأن كلمة إذا لا تفيد العموم ، إذ لو قال رجل لامرأته إذا دخلت الدّار فأنت طالق فدخلت طلقت لأول مرة فقط ، فإذا دخلت ثانيا وثالثا لا يقع عليه شيء ، فدل هذا على أن كلمة إذا لا تفيد العموم.
هذا وإن فروض الوضوء المتفق عليها أربعة الأوّل غسل الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن طولا ، وما بين شحمتي الأذنين عرضا وإذا كان له لحية خفيفة وجب إيصال الماء إلى أصول الشّعر ، وإذا كانت كثيفة بأن لا ترى بشرة ما تحتها كالخفيفة كفى إمرار الماء على ظاهرها ، الثاني غسل اليدين إلى المرفقين والغاية داخلة في المغيا ، الثالث مسح ربع الرّأس لأنه أقل حد الإطلاق على الكل يؤيده فعل الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم بالحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة ، ورأى الشافعي رحمه اللّه بكفاية مسح شعرة واحدة لأن الباء للتبعيض فيصدق على الشّعرة وهي بعض شعر الرّأس لا بعض الرّأس ، والأوّل أولى لسنية مسح جميعه عند الكل ، الرابع غسل الرّجلين إلى الكعبين فالكعبان داخلان ، كدخول المرفقين باليدين ، لأن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه كما في هذه الآية ، لأن المرفق والكعب من جنس اليد والرّجل ، أما إذا كان من غير جنسه فلا يدخل كما في قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) الآية 180 من البقرة لأن اللّيل ليس من جنس النّهار راجع تفسير هذه الآية وما ذكرناه مؤيد بفعل الرّسول وزاد الشّافعي استنباطا من مفهوم هذه الآية المفسرة فرضين آخرين الأوّل ويكون الخامس النّية عند غسل الوجه لأن الوضوء مأمور به وكلّ مأمور به يجب أن يكون منويا ، مستدلا بقوله صلّى اللّه عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ، والثاني وهو السّادس الترتيب بحسب نسق الآية ، وقال أبو حنيفة إن اللّه لم يوجب النّيّة في هذه الآية وإيجابها زيادة على النص ، والزيادة على النّص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد أو بالقياس أو بالحديث(6/300)
ج 6 ، ص : 301
غير جائز ، وكذلك الترتيب لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا بلا خلاف عند اللّغويين كافة ، ولم تأت الآية بالفاء أو ثم المفيدين لذلك ، أما حديث النّيات فيفيد كمال الأعمال لا نفسها ، ولا الفاء في قوله فاغسلوا ملتصقة بذكر الوجه واقعة في جواب إذا ليس إلا ، فظهر من هذا أن فروض الوضوء أربعة لا غير ، وما قيل أن الوضوء كان واجبا لكل صلاة ثم نسخ قيد واه لا حقيقة له ، وقد قال صلّى اللّه عليه وسلم المائدة في آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها ، وحديث سنيّة الوضوء على الوضوء لم يقصد منه إلّا زيادة الأجر ، وان ما قال الإمامية أن الرّجلين ممسوحة لا مغسولة استنادا لما جاء عن ابن عباس أنه قال الوضوء غسلتان ومسحتان ووافقه عليه قتادة وقول أنس نزل القرآن بالمسح والسّنة بالغسل ، وقول عكرمة ليس في الرّجلين غسل انما نزل فيها المسح ، وقول الشّعبي ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم ، وما كان عليه المسح أهمل ، وقول
ذوو الظّاهري يجمع بين الغسل والمسح ، وقول الحسن البصري يخير المكلف بين الغسل والمسح فهذا كله أخذ على ظاهر القرآن من قراءة الجر غير المتواترة ، أما على قراءة النّصب المتواترة والتي عليها المصاحف المجمع عليها فلا يتجه.
ولهذا قال جمهور العلماء من الأصحاب الكرام والتابعين والأعلام والأئمة الأربعة بكونها مغسولة بفعل النّبي صلّى اللّه عليه وسلم والتحديد الوارد في الآية ، لأنه جاء في المغسول لا الممسوح ، ولهذا لم يجعل اللّه تعالى حدا لمسح الرّأس كما جعله في الأيدي والأرجل ، فلو كانت الأرجل ممسوحة لما قال إلى الكعبين ، وهذا كان في الغسل لا يقابله قول ما ، وأما من قال ان الجر في (وَأَرْجُلَكُمْ) من عطف المجاورة مثله في (هذا حجر ضب ضرب) بجر ضرب على أنه نعت لحجر لا لضب فليس بجيد ، لأن الجر على المجاورة انما يكون لضرورة أو عند حصول الأمن من الالتباس كما في المثل على حد قولهم خرق الثوب المسمار برفع الثوب ونصب المسمار لمعلومية عدم الالتباس ، وفي الآية ليس كذلك ، ولم تنطق به العرب مع حرف العطف ، فظهر أن الغسل ثابت بنص القرآن المفسر بفعل الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم ، فقد روى البخاري ومسلم عن عمران مولى عثمان بن عفان رضي اللّه عنهما أن عثمان دعا بإناء فأفرع على كعبه ثلاث مرات(6/301)
ج 6 ، ص : 302
فغسلها ، ثم أدخل يمينه في الإناء فتمضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجليه ثلاثا إلى الكعبين ، ثم قال رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلّى ركعتين لا يحدث بهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ورويا عن عبد اللّه بن زيد بن عاصم الأنصاري نحوه ببعض زيادات.
وأخرج أبو داود عن عبد خير عن علي كرم اللّه وجهه بزيادة : واستنشق ثلاثا فتمضمض ونثر من كف واحد وزيادة ، فمن سره أن يعلم وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فهو هذا وأخرج أبو زيد عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص مثله بزيادة فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم على اللّف والنّشر المرتب.
وفي رواية فقد تعدى وظلم.
وإنما عد مسيئا أو متعديا لزيارته على الحد الأعظم من فعل الرّسول ، وظالما لأنه نقص عن حد الكمال ، فحرم نفسه من الأجر المرتب عليه.
وروى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال تخلف عنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصّلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته ويل للأعقاب من النّار مرتين أو ثلاثا.
ورويا عن أبي هريرة نحوه.
وأخرج مسلم عن جابر قال أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النّبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال ارجع وأحسن وضوءك ، قال فرجع فتوضأ ثم صلّى وأخرج أبو داود عن خالد عن بعض أصحاب النّبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه رأى رجلا يصلي وفي قدميه لمعة قدر الدّرهم لم يصبها الماء ، فأمره أن يعيد الوضوء والصّلاة ، فهذا كله مأثور عنه صلّى اللّه عليه وسلم وكله يؤيد أن الرّجلين مغسولة لا ممسوحة ، وأن غسلها فرض وقد ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة صحيحة منها ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر قال كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشى فأدركت رسول اللّه قائما يحدث النّاس فأدركت من قوله ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلّا وجبت له الجنّة.
فقلت ما أجود هذا ، قال قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت ، فإذا عمر قال رأيتك جئت آنفا ، قال ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله(6/302)
ج 6 ، ص : 303
إلا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلّا فتحت له أبواب الجنّة الثمانية يدخل من أيهما شاء.
وروي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من كلّ خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كلّ خطيئة كان بطشتهما يداه مع الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كلّ خطيئة مشتهما رجلاه مع الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب.
ويراد بهذه الذنوب واللّه أعلم التي لم يتعلق بها حق الغير ، على أن اللّه تعالى قادر على عفو الجميع وإرضاء النّاس من فضله وكرمه وجوده الواسع.
ورويا عن نعيم بن عبد اللّه المجمر عن أبي هريرة أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن من أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل.
وفي رواية أنتم الغرّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء.
وفي رواية لمسلم قال سمعت خليلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء.
ورويا عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه ، ثم يتوضأ كما يتوضأ الصّلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء يخلّل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه الماء ثلاث غرفات بيديه ، ثم يفيض الماء على سائر جسده.
هذا وأما ما يتعلق بالتيمم فقد تقدم بيانه في الآية 43 من سورة النّساء فراجعها.
ومما يدلّ على أن المراد بالملامسة في هذه الآية الجماع لا اللّمس باليد مما ثبت أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقبل نساءه ويصلي ، فلو كان المراد منها مطلق اللّمس لما فعل ولتوضأ عند وقوع مثل ذلك منه ، ولهذا قال به أبو حنيفة ولكن الشّافعي رحمه اللّه قال المراد اللّمس باليد وكأنه لم يثبت لديه ما ثبت عند أبي حنيفة من فعل حضرة الرّسول وكان أقدم منه ، لأنه ولد يوم وفاته يوم الثلاثاء سنة 150 من الهجرة ، ولهذا ترى العلماء يعطلون قراءة الدّرس فيه احتراما لوفاة الأوّل وولادة الثاني.
مطلب تذكير رسول اللّه ببعض النّعم التي أنعم اللّه بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر ، وقصة موسى عليه السّلام مع الجبارين :
قال تعالى «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» أيها المؤمنون بالإيمان(6/303)
ج 6 ، ص : 304
والعافية والرّزق وثواب اللّه على أعمالكم الحسنة «وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ» حين أخذ العهد عليكم في الأزل ، وهو اعترافكم بالربوبية حين خاطبكم بقوله (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) كما مر في الآية 172 من سورة الأعراف ج 1 أي تذكروا هذا أيضا فذكره يحدو بكم على القيام بعبادته ، ولذلك نبه جل شأنه عليه بقوله «إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» يحثهم على الوفاء به لأنهم التزموا بذلك العهد ، قال بعض المفسرين أن المراد بالميثاق هنا المبايعة لحضرة الرّسول على السمع والطّاعة ، وإنما اضافة لحضرته مع صدوره من نبيه لكون المرجع إليه ولقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) الآية 11 من سورة الفتح المارة والأوّل أولى لما في الثاني من عدم الانطباق على ظاهر الآية إلّا بتأويل «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها النّاس بالمحافظة على هذا الميثاق لأنكم مطالبون به ومحاسبون عليه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (7) لا يخفى عليه شيء يعلم المحافظ على عهده بقلبه ولسانه والنّاكث فيهما والمعترف بلسانه دون قلبه وبالعكس.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ» في كلّ ما يلزم القيام به من العمل بطاعته والاجتناب عن نهيه قولا وفعلا حالة كونكم «شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» العدل من غير محاباة لأحد بود أو قرابة ومن غير حيف من بغض أو عداوة «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» يحملنكم ويدعونكم «شَنَآنُ» بغض أو عداوة «قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا» في أحكامكم وشهاداتكم ، وقد عدّي فعل يجرمنّكم بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى فعل يتعدى فكأنه قال لا يحملنكم بغض المشركين ومنهم الخطيم شريح بن شرحبيل المار ذكره في الآية الثانية النّاهية على عدم ترك العدل والتعدي عليه بارتكاب ما لا يحل بل «اعْدِلُوا» بشأنه وشأن كلّ أحد سواء كان قريبا أو بعيدا ، صديقا أو عدوا ، وضيعا أو رفيعا ، شريفا أو سخيفا ، غنيا أو فقيرا لأن إجراء العدل مع الجميع «هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » الموجبة لقرب اللّه تعالى الموصلة لجنته «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في أقوالكم وأفعالكم وحركاتكم وسكناتكم سركم وجهركم «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (8) من العدل والحيف في الأحكام والشّهادة والجد والهزل بأقوالكم وأفعالكم وإشاراتكم ورمزكم ونياتكم ، وهو(6/304)
ج 6 ، ص : 305
الأمر للوجوب لأنه لم يقيد ولم يعلق على شيء وما كان كذلك فهو واجب امتثاله لا مندوب ، والعدل أساس الملك وهو مبعث الرّاحة للعامة والخاصة ، وملاك كل شيء وقوام الأمور بين النّاس ، وهو الأصل الذي يرجع إليه في الدّنيا والآخرة قال تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بما عاهدهم عليه وواثقهم به وماتوا على ذلك فيكون «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» عامة لذنوبهم وستر شامل لعيوبهم في الدّنيا «وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (9) في الآخرة لا أعظم منه ، وناهيك به أنه من الرّب العظيم ولا يعطي العظيم إلّا العظيم.
قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» ونكثوا عهودنا ونقضوا مواثيقنا وخانوا أمانتنا «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (10) لجورهم في الأحكام وكتمهم للشهادة وميلهم عن الحق في أقوالهم وأعمالهم خبيثو النّيات الّذين يموتون مصرين على قبائحهم يحرفون فيها لأنهم أهلها كما أوعدهم اللّه على لسان أنبيائهم وفي هذه الجملة اشارة إلى خلودهم في النّار لأن المصاحبة تقتضي الملازمة ، وفيها دلالة على أن غيرهم لا يخلدون في النّار
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» كررت هذه الجملة للتأكيد بلزوم تذكر النّعمة وشكر المنعم والشّكر بمقابل النّعمة واجب ولغيرها مندوب ، وهذه النّعمة غير تلك المذكورة في الآية السّابقة لأنها لمطلق التذكر وهذه بمقابل ما أزاله عنهم ورفعه المبين بقوله «إِذْ هَمَّ قَوْمٌ» هم بنو ثعلبة وبنو محارب «أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ» بأن يهلكوكم حينما أحرمتم بالصلاة إذ أجمعوا على الغدر بكم إذ ذاك «فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» وحماكم من كيدهم وحال دون غيرهم بكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» الذي وقاكم من مثل هذه الأمور دون حول منكم ولا قوة ولا علم ولا مشاهدة لتراقبوه في جميع شؤونكم وتوكلوا عليه حالة الشّدة والرّخاء «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (11) به المصدقون بوعده ، وهذه حادثة قديمة يذكر اللّه بها رسوله وأصحابه المؤمنين عند ما أراد بنو كاسب وبنو ثعلبة أن يفتكوا به وبأصحابه حين اشتغالهم بالصلاة ، فاطلع اللّه رسوله على سريرتهم ، وأنزل صلاة الخوف المار ذكرها في الآية 111 من سورة النّساء ، والحادثة التي أنعم اللّه بها على رسوله مثل الحادثة(6/305)
ج 6 ، ص : 306
الأخرى يوم حاصر حضرة الرّسول غطفان بنخل إذ جاءه رجل من المشركين وقال يا محمد أرني سيفك ، فأعطاه إياه ، ثم شهره عليه وقال له من يمنعك مني ؟ فقال ، اللّه ، فسقط السّيف من يده ، ونحو حادثة يهود بنى النّضير حينما ذهب إليهم بطلب إعانته على دية الرّجلين الّذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري بعد انصرافه من بئر معونة فتلقوه بالترحاب وأجلسوه ليجمعوا له الدّية فتآمروا على أن يطرحوا عليه ، حجرة من أعلى الحصن فأنزل اللّه جبريل عليه السّلام وأخبره بنيتهم وما أجمعوا عليه فقام من مكانه وتركهم بعصمة اللّه تعالى إياه في هاتين الحادثتين ، وعصمه وأصحابه في الحادثة الأولى المشار إليها في هذه الآية والمشار إليها في الآية 173 من آل عمران المارة المنبئة عن مثل هذه النّعم ، لأن سياقها ينطبق على هذه الحوادث وغيرها مما فيه عصمة اللّه لرسوله وأصحابه وحادثة بن النّضير الأخرى حينما طلبوا منه الصّلح وقرروا الغدر به المار ذكرها في الآية 12 من سورة الرّعد المارة ، وما ضاهى هذه الحوادث ، إذ تصلح هذه الآية أن تكون سببا للنزول في كل منها لموافقتها المعنى ، وقد ذكرنا غير مرة بأن سبب النّزول يجوز تعدّده ومقارنته للحادثة وتأخره عنها ، وقد يطلق لفظ القوم على الواحد كلفظ النّاس المار ذكره في الآية 173 من آل عمران المذكورة آنفا وإن ضرر الرّئيس ونفعه يعود على المرءوس ، وما يراد به فهو مراد بهم.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» لما ذكر اللّه تعالى بعض غدر قوم محمد بمحمد ونقضهم عهده اردف بذكر غدر قوم موسى بموسى ونكثهم ميثاقه تسلية له صلى اللّه عليهما وسلم فقال «وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً» رئيسا وعمدة وشريفا وعميدا وزعيما «وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ» أنصركم وأعينكم وأحفظكم من كلّ سوء يراد بكم «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي» الحاضرين معكم موسى وهرون ومن قبلهم «وَعَزَّرْتُمُوهُمْ» ووقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم على أعدائي «وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» بأن تعطوا قسما من أموالكم للفقراء عن طيب نفس بلا من ولا أذى ، فإذا قمتم بهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية المؤذنة بالقسم وعزتي وجلالي «لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ(6/306)
ج 6 ، ص : 307
سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ»
جزاء قيامكم بها هذا هو جواب القسم العظيم ثم فرّع عنه بقوله «فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ» العهد «مِنْكُمْ» ونقضه «فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» (12) واستحق العقاب المرتب على ذلك.
وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أن اللّه تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وكانت مسكن الجبارين من الكنعانيين ، وأمره أن يسير إليها وأن يأخذ من كلّ سبط كفيلا على امتثال ما يأمرهم به ، ففعل وسار بهم حتى قارب أريحا ، فأرسل النّقباء عيونا ، فلقيهم عوج بن عنق وعنق أمه من بنات آدم عليه السّلام ، فأخذهم بحجزته أي شدهم على وسطه ، والحجزة معقد الإزار وموضع التكة من السّراويل ، وقال لزوجته هؤلاء يريدون قتالنا إلّا أطحتهم برجلي ، فقالت لا بل أتركهم ليخبروا قومهم بما رأوه من قوتك فيهابوك ، فتركهم ، ولما رجعوا قالوا إذا أخبرنا بني إسرائيل بما رأينا من هذا الرّجل يرجعون ولا يقاتلون ، بل نخبر موسى وهرون فقط ، وأخذوا على بعضهم العهد في ذلك ، ولما وصلوا قومهم نكثوا وأخبر كلّ نقيب سبطه ، عدا يوشع بن نون وكالب بن يوقنا فإنهما لم يخبرا سبطهما ، ولم ينكثا عهدهما ، وسيأتي تمام هذه القصة عند قوله تعالى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) الآية 23 الآتية.
قال تعالى «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» الذي أخذ منهم ونكثهم عهدهم «لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً» لا تؤثر فيها المواعظ ولا تلينها الزواجر ولا ترققها العبر وصاروا فضلا عن ذلك «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» بالتبديل والتغيير والتأويل والتفسير على ما هو خلاف المراد وضد المعنى «وَنَسُوا حَظًّا» نصيبا وافرا «مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» من أحكام التوراة التي فيها خيرهم وخلاصهم ، ولم يعملوا به لأن من جملة ما ذكّروا به الإيمان بعيسى بن مريم ومن بعده بمحمد عليهما الصّلاة والسّلام ، وهذا من بعض خياناتهم «وَلا تَزالُ» يا سيد الرّسل «تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ» بعد خائنة مثل نقضهم العهود ومعاهدتهم أهل الشّرك ضدك وهمهم بقتلك غدرا كما كانوا مع أنبيائهم الأوّل موسى وهرون فمن بعدهما «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» يوشك أن يحافظوا على العهود(6/307)
ج 6 ، ص : 308
ويتذكروا بما أمرهم اللّه في التوراة ، فيدخلون في دينك «فَاعْفُ عَنْهُمْ» الآن يا حبيبي «وَاصْفَحْ» عن زلاتهم كلهم لأنك لا تعلم الذي يؤمن بك من غيره ، لذلك أحسن إليهم وعاملهم باللين «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (13) في أقوالهم وأعمالهم.
وبمناسبة ذكر غدر قوم موسى بموسى ومحمد بمحمد عليهما الصّلاة والسّلام تطرق إلى ذكر بعض غدر قوم عيسى بعيسى عليه السّلام ، فقال «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ» أيضا على السّمع والطّاعة والإيمان بالرسل كما أخذناه على من قبلهم ومن جملة ذلك الإيمان بك يا محمد ، وكذلك لم يوفوا بشيء منه ونكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم كالّذين من قبلهم «فَنَسُوا حَظًّا» قسطا جزيلا وجانبا كبيرا «مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» في الإنجيل المنزل على رسولهم من لزوم الإيمان بك ونصرتك «فَأَغْرَيْنا» أوقعنا وألصقنا ومكنّا «بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» بسبب الاختلاف بينهم في أمر دينهم وجعلنا كلّ فرقة منهم تفسق بالأخرى بالدنيا «وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ» في الآخرة «بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» (14) مع أنفسهم وقومهم وأنبيائهم ويجازيهم عليه قال تعالى «يا أَهْلَ الْكِتابِ» اليهود والنّصارى «قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا» محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب الذي أخذنا على رسلكم العهد بالإيمان به وألزمناهم أن يأخذوا عليكم مثله بلزوم الإيمان به ، وقد فعلت الرّسل ذلك وبلغوكم ولكنكم أبيتم وصددتم أنفسكم وصنعتم غيركم عن الإيمان به أيضا وخالفتم أمر اللّه وأمر رسلكم وأمر هذا الرّسول الذي أرسلناه بالهدى إليكم ، وقد جاءكم «يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ» أل فيه للجنس فيشمل جميع الكتب المنزلة التوراة والإنجيل وما قبلهما وأني أطلعته على ما فيهما من ذلك ، وأن لا يؤاخذكم على
ما سبق منكم فيسامحكم «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» مما تفعلونه وتخفونه ولا يتعرض له ، فيجدر بكم أن تصدقوه وتؤمنوا به بعد أن أراكم هذه المعجزة وهي علمه بما في كتبكم ، وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب ، فآمنوا به لتفلحوا فإنه «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ» ببعثته وهدى لتقتدوا به لأنكم في ظلمة وعماء من أمر دينكم ، ومن كان في الظّلمة يريد طرق الاهتداء(6/308)
ج 6 ، ص : 309
إلى النّور فاهتدوا بهذا النّور الذي جاءكم به «وَكِتابٌ مُبِينٌ» (15) للحق من الباطل ، والرّشد من الضّلال ، والحرام من الحلال ، ألا وهو القرآن العظيم الجامع لما في الكتب السّماوية كلها ، فاغتنموا أتباعه فإنه «يَهْدِي بِهِ» بهذا الكتاب «اللَّهُ» تعالى كل «مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ» بسلوك الطّرق التي يرضاها والتي تكون لهم «سُبُلَ السَّلامِ» من الآفات الدّنيوية المؤدية إلى طرق النّجاة من عذاب اللّه الأخروي «وَيُخْرِجُهُمْ» أي الّذين اتبعوه وسلكوا سبل رضوانه «مِنَ الظُّلُماتِ» التي هم غارقون فيها ظلمة العقيدة وظلمة العصيان وظلمة التكذيب التي أصدأت قلوبهم فمنع تكاثف رينها وصولهم «إِلَى النُّورِ» الذي هو التصديق به والطّاعة له والإيمان بجميع ما جاءكم به ، وتلك الهداية لا تكون لأحد إلا «بِإِذْنِهِ» جل جلاله إذ لا يقع في الكون شيء إلّا بأمره وإرادته «وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (16) لا عوج فيه.
وهذه الآية تدل دلالة ظاهرة لا غبار عليها أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم مرسل من
اللّه تعالى إلى أهل الكتاب كغيرهم من الأمم ، بصريح الخطاب وتخصيصه بهم ، فهي وحدها كافية للرد على من يقول أن رسالته صلّى اللّه عليه وسلم خاصة للعرب المشركين فضلا عن بقية الآيات ، راجع الآية 28 من سورة سبأ والآية 5 من سورة الكهف في ج 2.
ولما بين اللّه تعالى اختلاف النصارى.
ذكر الفرقتين الكافرتين منهم وهم اليعقوبية والملكانية ، فقال جل قوله مبينا سبب كفرهم «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» وذلك أنهم يقولون إن اللّه تعالى وتنزه حل في بدن عيسى ، ثم ذكر ما يدل على فساد قولهم وعقلهم وعقيدتهم هذه بقوله عز قوله يا سيد الرّسل «قُلْ» لهؤلاء القائلين بالحلول «فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» فهل يوجد من يقدر على دفع إهلاكه عنهم أو من يحول دونه ؟ كلا كيف «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما» من الخلق كلهم عبيده وعيسى واحد من جملتهم ، ولا يقال بما أنه لا أب له نسب إلى اللّه ، لأن اللّه تعالى «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» من غير أبوين كآدم ومن غير أم كحواء ومن غير أب كعيسى ومن أبوين مثل(6/309)
ج 6 ، ص : 310
سائر الخلق ، راجع الآية 46 من سورة النّور المارة فيما يتعلق في هذا البحث ، ومنه تعلم أن لا اعتراض على اللّه فيما يخلق لأنه لا يسأل عما يفعل «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (17) لا يعجزه شيء وإذا كان المخلوق من غير أب يسمى إلها فمن باب أولى أن يكون آدم ثم حواء لأن الإيجاد من الأم أهون من الإيجاد من الأب فقط ، والإيجاد من الأب أهون من الإيجاد بلا أم ولا أب ، ولم يسبق أن سمى أحد آدم إلها ولا حواء ، فكيف يسمون عيسى إلها ، راجع الآية 64 من آل عمران المارة للاطلاع على هذا البحث ، وحكاية أسير الرّوم.
ثم ذكر ما يتبجح به أهل الكتابين مما ليس كائنا بقوله عز قوله «وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى » فيما سبق «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» خاصة من دون النّاس فيا أكمل الرّسل «قُلْ» لهؤلاء الكذبة إذا كنتم تزعمون ذلك «فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ» التي ترتكبونها ، لأن المحب لا يعذب حبيبه ولا يوقعه بما يوجب تعذيبه ، ولهذا ردّ اللّه عليهم بقوله «بَلْ» ليس الأمر كما ذكرتم لأنكم «أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» لا أبناؤه ولا أحباؤه وهو المختار بأمر خلقه «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» من عباده كما تقتضيه كلمته الأزلية لا مانع لما يريد ، ولا راد لحكمه ، «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (18) لا إلى غيره.
وبسبب هذه المقالة أن اليهود يقولون إن اللّه أوصى إلى إسرائيل إني أدخل ولدك النّار أربعين يوما بقدر مدة عبادتهم العجل ، ثم أخرجهم ، فلذلك يعنون أن اللّه يعطف عليهم كعطف الأب على ولده ، وهذا معنى ما حكاه اللّه عنهم في قوله (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) الآية 80 من البقرة المارة وهي مكررة في غيرها ، وإن النّصارى تأولوا قول المسيح أثناء حديثه لهم (إني أذهب إلى أبي وأبيكم) وقوله لهم (إذا صليتم قولوا يا أبانا الذي في السّماء تقدس اسمك) ، فذهبوا إلى ظاهر هذا القول وقالوا إن المسيح ابن اللّه ؟ راجع الآية 32 من سورة التوبة الآتية ، لأنهم لم يعلموا مراد المسيح إذا صحت هذه المقالة عنه بأن الأب الأكبر لهذا البشر كله هو اللّه ربه ومربيه ومدبر أمره وهو أشفق عليهم من أبيهم الصّلبي ، فلهذا وبسبب انتسابهم لأسلافهم الأوائل(6/310)
ج 6 ، ص : 311
رأى اليهود والنّصارى لأنفسهم فضلا على غيرهم من الأمم ، وعظموا أنفسهم وفضلوها على من سواهم حتى قالوا نحن أبناء اللّه وأحباؤه ، على أن الأناجيل الأربعة الموجودة بأيدي النّصارى قد جاء فيها مرة أرسلني أبي الذي هو في السّماء ، وطورا أرسلني إلهي الذي هو في السّماء ، مما يدل على أن المراد بالأب في قوله هو اللّه إذا كان في الأصل هكذا ، لأن الأناجيل لم تدون زمن المسيح بل بعده بمائة سنة وقد تطرقتها التراجم المختلفة فأول بعضهم الإله بمعنى الأب ، والأب بمعنى الإله وأثبته كذلك ، وهذه الأناجيل الأربعة المنسوبة إلى متّى ويوحنا ومرقس ولوقا لا يعرف على الحقيقة من دونها أولا ، لذلك لا تخلو من الدّسّ اليهودي ، وهناك إنجيل برنابا قد جاء على ما في القرآن ، ولكن النّصارى لم تعتبره مع أنه حواري من
أنصار المسيح الّذين يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل ، وإن بولص وغيره قد اهتدوا بعده وهو الذي عرف التلاميذ به ، فيكون إنجيله هذا هو الواقع ، إذ تلقاه بنفسه من السّيد عيسى عليه السّلام ودوّنه كما تلقاه بوقته خلافا للأناجيل الأربعة الموجودة الآن ، فإنها لم تدون في زمنه ودونت على طريق التلقي من الغير بعد مائة سنة ، وقد يكونون غير موثوقين أو خانهم حفظ ذاكرتهم.
مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه :
قال تعالى «يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا» محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب «يُبَيِّنُ لَكُمْ» أحكام الدّين الحق والشّرائع الصّحيحة «عَلى فَتْرَةٍ» انقطاع طويل «مِنَ الرُّسُلِ» وهي 571 سنة ما بين عيسى ومحمد صلّى اللّه عليهما وسلم وبين ميلاد عيسى وبعثة محمد 911 وبين ميلاده وهجرة محمد 924 وبعد الميلاد والوفاة 934 ورفع إلى السماء 904 ، وعليه يكون بين رفع عيسى وميلاد محمد 538 سنة ، وبين رفعه والبعثة 578 ، وبين رفعه والهجرة 591 وبين رفعه والوفاة 604 وقد وقع التحريف والتبديل بالكتب السّماوية المتقدمة على القرآن خلال هذه الفترة بسبب اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم واختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق ، وتطرق من هذا الاختلاف شيء إلى العبادات والعقائد مما ليس منهما لتقادم العهد.(6/311)
ج 6 ، ص : 312
فصار عذرا ظاهرا لاعراض الخلق عن معرفة كيفية عبادة الخالق وماهيتها ، وصارت الحاجة ماسة إلى إرسال من ينقذ الخلق من هوتهم ، فأرسل اللّه تعالى حبيبه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم لإزالة ذلك كما أشرنا إليه في المقدمة آخر الخاتمة ، بشريعة سمحة موافقة لمصلحة البشر أجمع وملائمة لعصرهم فليس لكم يا أهل الكتاب ويا أيها المشركون «أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» إنما أرسلنا محمدا إليهم مرشدا ومجددا لئلا يحتجوا بهذه الحجة ويقولوا هذا القول «فَقَدْ جاءَكُمْ» الآن «بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» بين لكم أمر دينكم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (19) ومن قدرته إرشاد الخلق بلا إرسال رسل وإنما أرسلهم لئلا يتذرعوا بالمعاذير راجع الآيات 271 و272 من سورة الأعراف المارة ج 1 قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» أي اذكر لقومك يا سيد الرّسل قول السّيد موسى «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ» كثيرين فلم يبعث في أمة من الأمم كما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء منهم «وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً» بعد ان كنتم خدما وخولا للقبط أذلاء مخذولين «وَآتاكُمْ» من النعم المترادفة «ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» (20) قبلكم ولا في زمانكم وقد عددها اللّه تعالى في مواقع كثيرة من القرآن منها في الآية 47 إلى 74 من البقرة وعدد تعاليمهم في الآية 75 فما بعدها في آيات كثيرة من البقرة وغيرها وما وقع منهم من عناد وكفر فيها وفي آل عمران وغيرها.
ومن جملة مخالفتهم نبيهم قوله تعالى حكاية عنهم «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ» المطهرة المباركة قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ومهبط الوحي الإلهي «الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» دخولها وأباح لكم سكناها وأمركم بالسير إليها ، وهي أراضي الطّور وما حولها من أريحا وفلسطين ودمشق وبعض الأردن ، وهذا أمر منه بالجهاد مع الجبارين الكنعانيين كما سبق في الآية 12 المارة «وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ» فترجعوا القهقرى منهزمين مولين أعداءكم ظهوركم خوفا منهم ، فترتدوا عن دينكم بعصيانكم أمر رسولكم وعدم وثوقكم بما وعدكم ربكم ، فتخالفوا أمره «فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (21) الدنيا والآخرة وإنما حصل لهم التردد بعد أن ساروا معه وامتنعوا(6/312)
ج 6 ، ص : 313
عن الجهاد لأن نقباءهم أخبروهم بما رأوا من عوج بن عنق الذي أشرنا إليه في الآية 12 المارة ، ولهذا «قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ» لا طاقة لنا بقتالهم ولا قوة لنا على بطشهم «وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها» إن شئت أو أبيت «فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» (22) إليها معك ثم صاروا يبكون ويلومون أنفسهم على طاعة موسى بخروجهم من مصر يقولون يا ليتنا متنا فيها وبقينا على ما كنا عليه ، وهموا بالانصراف والرّجوع إلى مصر ، وإنما لحقهم هذا الرّعب قبل الوصول وقبل نشوب الحرب لأنهم قوم تعودوا الذلّ والاستعباد وخساسة النّفس والرّضاء بالهوان ، ولم يذوقوا لذة العزّة والمهابة والحرية وأن السّيد موسى عليه السّلام يريد أن يرفعهم من حضيض الأرض إلى أوج السّماء دفعة واحدة ، ولكن :
وإذا كانت النّفوس صفارا خسئت في مرادها الأجسام
ولم يعلموا بعد أنه :
وإذا سخّر اللّه سعيدا لأناس فإنهم سعداء
فلما رأى موسى عزمهم على الرّجوع وخبتهم عن اللّقاء وفضلوا أن يكونوا خدما للقبط كما كانوا على صيرورتهم ملوكا وأنبياء ، وخافوا أن تقتل أولادهم وأنفسهم في الجهاد ، وأن يغنم أموالهم العدو ، ولم يخافوا من القبط الّذين قتّلوا ذكورهم واستحيوا نساءهم للخدمة خرّ موسى وأخوه هرون ساجدين للّه ليريهما ما يقدر لهما وماذا يعملان مع قومهما ، وصار يوشع وكالب يخرقان ثيابهما خوفا من نزول العذاب لما رأيا من غضب موسى وهرون ، وهما المعنيان بقوله تعالى «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ» مقت اللّه وعقابه الّذين «أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا» بالثبات على الإيمان والوفاء بالعهد ، إذ لم يخبرا سبطيهما بما رأياه من الجبار عوج ابن عنق المار ذكره في الآية 12 «ادْخُلُوا» يا قومنا «عَلَيْهِمُ» أي الجبارين «الْبابَ» باب مدينة أريحا ولا تهابوهم ، فإذا دخلتموه «فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» (23) عليهم لأن اللّه وعدكم النّصر فهلم ادخلوا «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (24) به وبوعده ، قالوا فلما سمعوا هذا القول من كالب ويوشع أرادوا(6/313)
ج 6 ، ص : 314
أن يرجموهما بالحجارة فضلا عن عدم الالتفات إلى قولهما ، والتفتوا إلى موسى ثم «قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها» أي الجبارون المذكورون فإذا أردت يا موسى «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا» هؤلاء الجبارين «إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (25) ننتظر ما ينجم عن قتالكم ، فإن ظفرتم بهم دخلنا وإلّا فقد سلمنا من بأسهم «قالَ» موسى بعد أن رفع رأسه وأخوه من السجود ورأيا ما هموا به على كالب ويوشع وما أراداه منهما وما أرادوه هم من وجود من يرأسهم ويرجعهم إلى مصر وعلم إياسه منهم «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي» الذي هو في طاعتي أينما وجهته لتنفيذ أمرك «فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» (26) وهذا دعاء عليهم ، لأنه طلب الحكم من اللّه فيما بينهما وبينهم ، وكان هرون يؤمن على دعائه ، فأوحى اللّه إليه بإجابة دعائه الذي ألهمه أثناء سجوده «قالَ» اللّه عز وجل يا موسى أتركهم «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» لا يرون هذه الأرض المقدسة بل يبقون متحيرين في أمرهم ، وهذا التحريم على الأسباط العشرة الّذين نقضوا العهد وأخبروا قومهم بما رأوا من بأس الجبارين وان عوجا اقتلع صخرة من الجبل عظيمة وأراد إلقاءها عليهم فبعث اللّه لهدهد فثقبها فوقعت في عنقه فصرعته أما يوشع وكالب ، فقد دخلاها ، فلما سمع موسى كلام ربه استاء على قومه شفقة منه عليهم مع إساءتهم له فقال له ربه «فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» (27) الخارجين عن الطّاعة فإنهم يستحقون أكثر من هذا ، وقد أراد اللّه تعالى وهو أعلم بهذه المدة أمرين الأوّل جزاء شؤمهم وتمردهم على نبيهم وعصيانهم أمره مدة أربعين يوما التي كان يعالجهم فيها لدخول الأراضي المقدسة وهم يمتنعون ، فجعل عليهم التّيه والتشرد مثل تلك المدة سنين عقوبة لهم ، والثاني حتى ينقرض كبارهم الّذين ألفوا الرّقّ والذل والهوان وتعودوا الخدمة والمهانة فصغرت نفوسهم عن مستواها وحقرت ولم يبق فيها حب الطموح إلى العزّة والكرامة ، وينشىء اللّه بعدهم منهم من ينشأ جديدا في تلك الصحراء التي لا يد عليهم فيها إلّا يد اللّه ، فيربون أحرارا أعزاء بنفوس أبية لا تعرف الضيم والرّق والذل الذي كان عليه آباؤهم ، فلا تلمس أنوفهم ولا يداس حماهم ولا(6/314)
ج 6 ، ص : 315
توطأ أرضهم ، فيقدمون على الجهاد بحزم وعزم ، فيبطشون ويظفرون ، فيكون منهم الملوك والأمراء والأنبياء.
قالوا إن اللّه أوحى إلى موسى عليه السّلام حين سجد وأخوه (بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ، ولآتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كلّ يوم سنة ، ولألقين جيفهم في هذا الفضاء ، أما أبناؤهم الّذين لم يعملوا الشّر فسيدخلونها) قالوا وكانت أرض التيه تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا ، وكان القوم ستمئة الف ، وكانوا يرحلون اليوم كله فإذا أمسوا وجدوا أنفسهم بمكانهم ، وهذا من باب فوق العادة لأنه معجزة لرسولهم عقابا لعنادهم وجزاء لعصيانهم ، قالوا ثم شكوا إلى موسى الضّنك الذي لا قوة في تيههم من الجوع والعطش والتعب ، فدعا اللّه ربه ، فأنزل عليهم المنّ والسّلوى وظللهم بالغمام وأمر موسى بضرب الحجر فضربها فتفجرت عن اثنتي عشرة عينا لكل سبط عين ، وجعل كسوتهم قائمة معهم لا تخلق وتكبر مع كبرهم وهذه
أيضا من جملة المعجزات التي أظهرها اللّه لنبيهم في التيه ، ومن خوارق عوائد اللّه تعالى ولا شيء عليه بعزيز ، فانظر رعاك اللّه تلطف موسى بقومه ورحمته بهم على ما هو عليه من الشّدة وما هم عليه من التعنت والخلاف لأمره وأمر ربه ، وهذا مما يطمع العباد في ربهم ، اللهم لا تغفلنا عن مكرك ، ولا تنسنا ذكرك ، واسبل علينا سترك ، وانشر علينا رحمتك ، ولا تؤاخذنا بسوء أعمالنا وأفعال السّفهاء منا برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
مطلب موت هارون وموسى عليهما السّلام وقصة ولدي آدم عليه السّلام :
قالوا ومات في التيه كلّ من دخله مجاوزا عمره العشرين سنة غير يوشع وكالب ولم يدخل أريحا منهم ممن قال لن ندخلها أبدا ، وكان موسى وهرون ممن مات في التيه أيضا ، قالوا ولما أراد اللّه وفاة هرون أوحى اللّه إلى موسى عليهما السّلام أن ائت بهارون إلى جبل كذا ، فلما أتاه به وجد هارون شجرة ومبيتا فيه فراش على سرير فيه رائحة طيبة ، فأعجبه ونام عليه ، فلما أحس بالموت قال يا موسى خدعتني ، وقبض اللّه روحه ورفع إلى السّماء ورجع موسى إلى بنى إسرائيل ، فسألوه عن هرون فقال لهم مات فاتهموه بقتله ، فدعا اللّه فأنزل لهم ذلك السّرير(6/315)
ج 6 ، ص : 316
وعليه هرون ميتا فصدقوه ، ثم رفع ولم يعلم موضع قبره في الأرض أي محل قبض روحه ، ثم نبأ اللّه يوشع عليه السّلام فصار موسى يغدو ويروح عليه حتى كره الحياة وأحب الموت بعد أن كان يكرهه ، قالوا إن اللّه تعالى قال لموسى ضع يدك على متن ثور فلك بكل ما غطست يداك من شعرة سنة ، قال أي رب ثم مه ؟ قال ثم الموت ، قال إذا فالآن ، وسأل ربه أن يدنيه من الأراضي المقدسة رمية حجر ، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير أحسن منه ؟
فقال لمن هذا ؟ قالوا لعبد كريم على ربه ، فقال هذا العبد من اللّه بمنزلة ما رأيت كاليوم قط مثلها ، فقالوا يا صفي اللّه أتحب أن يكون لك ، قال وددت ، قالوا فأنزل فنزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربه عز وجل ثم تنفس أسهل تنفس فقبض اللّه روحه الطّاهرة عليه الصّلاة والسّلام ، ودفن فيه وهو تحت الكثيب الأحمر ، وكان عمره مائة وستة وعشرين سنة ، وهرون أكبر منه ، قالوا وبعد مضي الأربعين سنة دعى يوشع بني إسرائيل لحرب الجبارين فلبوا دعوته فسار بهم وكان معه تابوت الميثاق ، فأحاط بأريحاء ستة أشهر حتى أسقط سور المدينة ، ودخلوها عتوة ، وقتلوا الجبارين وهزموهم ، قالوا وقبل أن يقضوا عليهم قاربت الشّمس على الغياب ، وكان يوم جمعة فدعا يوشع عليه السّلام ربه فأخرها حتى تم له الانتقام من أعدائه قبل دخول السّبت المحرم عليهم فيه القتال.
وقال مشيرا إلى هذا أمير الشّعراء السّيد شوقي المصري بقوله :
شيعوا الشّمس ومالوا بضحاها فانحنى الشّرق عليها فبكاها
ليتني في الرّكب لما أفلت يوشع همت فنادى فثناها
إلى آخر الأبيات التي رثى بها سعد زغلول رحمهما اللّه ، وقال الآخر :
فحدثت نفسي أنها الشّمس أشرقت وإني قد أوتيت آية يوشع
بما يدل على أن قضية رد الشّمس شائعة متواترة مشهورة لسيدنا يوشع كما هي لسيدنا داود عليهم الصّلاة والسّلام ، راجع ما قدمناه مما يتعلق في هذا البحث في الآية 31 من سورة ص ، وأول سورتي القمر والإسراء في ج 1 ، ثم تتبع ملوك الشام فاجتاح منهم واحدا وثلاثين ملكا واستولى على بلادهم وصارت كلها لبني(6/316)
ج 6 ، ص : 317
إسرائيل ، وفرق العمال في نواحيها ، وجمع الغنائم فأطلق عليها النّار فلم تأكلها ، فقال إن بكم غلولا أي سرقة من الغنائم لأنها لم تبح لهم ولا لغيرهم إلّا لمحمد وأصحابه وأمته بعده ، راجع الآية 41 من سورة الأنفال وأولها تجد هذا البحث مستوفى فيهما ، ولمعرفة السّارق أمر سيدنا يوشع بحضور رجل واحد من كلّ قبيلة ليبايعه فتهافت النّاس ولم يزل يصافحهم واحدا بعد واحد حتى لصقت يده بيد رجل منهم ، فقال له أن الغلول فيكم ، فأتوا به ثم جازا له برأس ثور من ذهب مكلل بالجواهر كان اختلسه رجل منهم فأحضر فوضعه هو والرّأس في القربان فأكلتهم النّار ، قال تعالى «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يا سيد الرّسل «نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ» هابيل وقابيل ، وهذه قصة أخرى يقصها اللّه على رسوله من أمر غيبه اخبارا «بِالْحَقِّ» ليذكرها لقومه «إِذْ قَرَّبا قُرْباناً» هو اسم لما يتقرب به إلى اللّه تعالى من صدقة أو ذبيحة أو نسك أو غيره «فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما» هابيل بأن جاءت نار من السّماء فأكلته «وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ» قابيل إذ بقي قربانه في الأرض فأكلته الطّير والسّباع «قالَ» قابيل حاسدا لأخيه هابيل إذ تقبل قربانه دونه «لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ» ولم ولم أخطئ ؟ قال لردّ قرباني وقبول قربانك «قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (27) بأسه التمثيل أمره ثم قال له بعد أن ذكره عقاب اللّه إن فعل ما أراده وعذابه العظيم عليه ، لأن ردّ القربان ليس له به دخل إنما هو أمر اللّه ، واستعطفه واسترحمه فلم ينجح به فقال «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي» من أجل عدم قبول قربانك الكائن من اللّه وحده ، فافعل ما بدا لك ، فإني لا أقابلك «ما أَنَا بِباسِطٍ» مادّ «يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ» كما انك مادّها لتقتلني «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» (28) وذلك لأن الدّفاع عن النّفس لم يشرع بعد ، وإلّا
فهو أقوى منه على ما قالوا ، ثم قال له على طريق التخويف من العاقبة «إِنِّي أُرِيدُ» بعدم إرادتي قتلك وعدم الذبّ عن نفسي «أَنْ تَبُوءَ» تحتمل وترجع إلى اللّه «بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» الذي لم يقبل لأجله قربانك ، كما سيأتي بالقصة «فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» الخالدين فيها كما يفهم من معنى الصّحبة «وَذلِكَ» الجزاء(6/317)
ج 6 ، ص : 318
الفظيع عند اللّه هو «جَزاءُ الظَّالِمِينَ» (29) أمثالك الّذين يقدمون على قتل النفس عمدا بلا حق ، فلم يؤثر ما أبداه له ولهذا قال تعالى حاكيا حاله وإصراره على الشّر «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ» ولم يلق بالا للنصح والتهديد والوعظ ، فتحين فرصة للغدر به بغياب أبيهما «فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ» (30) الدنيا لغضب أبيه وأمه وفقد أخيه والآخرة بغضب اللّه وعذاب النّار والحرمان من الجنّة ،
ولما فعل فعلته لم يعلم ماذا يفعل بجثته فحمله على ظهره لأنه أول قتيل أهريق دمه على وجه الأرض من بني آدم ، لذلك لم يعرف ما يفعل به بعد قتله «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ» وكان معه غراب مقتول (ولم يكرر لفظ الغراب ويبحث في القرآن) كان تقاتل معه فقتله ، فحفر الأرض برجليه ودفنه فيها ، وإنما بعثه اللّه إليه «لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ» فتنبه لذلك وفعل بأخيه ما فعل الغراب ، ثم قال مؤنبا نفسه على فرط جهله وحمقه ، إذ علم أن الغراب أفطن منه «قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» خير من أظل حاملا له ، ولما دفنه رأي نفسه وحيدا «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» (31) على قتل أخيه وحمله إياه مدة سنة على ما قيل ولم ينتبه لأن يعمل فيه ما عمله الغراب بأخيه الذي قتله مثله وزاد عليه بالمعرفة ، إذ دفنه حالا.
قال تعالى «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» القتل العمد ظلما «كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ» بغير «فَسادٍ فِي الْأَرْضِ» كقطع الطّريق والنّهب والسّلب فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» في الغدر لأنه يستوجب غضب اللّه تعالى والعذاب الدائم في جهنم ، فلو فرض أنه قتل جميع النّاس لا يزاد على عذابه هذا شيء إذ ما بعد التخليد في النّار من عذاب ، وذلك لأن الجناية على النّفس عمدا من أعظم المحرمات بعد الإشراك باللّه ، ولهذا كان مثل تخريب العالم ، وعليه قوله صلّى اللّه عليه وسلم :
لزوال الدّنيا أهون على اللّه من قتل امرئ مسلم.
وقال : سباب المؤمن فسق وقتاله كفر «وَمَنْ أَحْياها» استخلصها من أسباب الهلاك وأنقذها من العطب من قتل أو حرق أو غرق أو غيره من هدم أو ترد أو ظالم وشبهه «فَكَأَنَّما(6/318)
ج 6 ، ص : 319
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»
وفي هذه الآية ترغيب من اللّه لمن يتسبب من عباده في إنقاذ النّاس من الهلاك ، ولهذا شرع الدّفاع عن النّفس والمال والعرض وغيره ، وإذا قتل في هذا السّبيل قتل شهيدا ، وإذا قتل لا شيء عليه ، وإن القوانين الأرضية استقت هذا من القوانين السّماوية ، فأعفت المعتدى عليه في نفسه وماله وعرضه من العقاب ، حتى إنه لو فعل ذلك من أجل غيره يعفى في بعض الحالات ويعد معذورا في أخرى ، فيخفف عنه الجزاء ، وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون أن حواء عليها السّلام كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى ، ولدت في عشرين بطنا أربعين ، عشرين ذكورا ومثلهم إناثا ، أولهم قابيل وتوءمته إقليما وآخرهم عبد المغيث وتوءمنه أم المغيث ، ولم يمت آدم حتى بلغ ولده أربعون ألفا ، ولم يمت منهم أحد ، وكانوا يتزاوجون على الخلف بأن لا يأخذ الأخ توءمته بل التي بعدها وتوءمها يأخذ النّبي قبله وهكذا ، فأمر اللّه آدم أن يزوج قابيل لودا أخت هابيل ، وهابيل إقليما أخت قابيل لأنهما متقاربان في السنّ ، فقال قابيل لأبيه عند ما كلفه بذلك إن أختي أحسن من أخت هابيل وأنا أحق بها لأني وإياها حملنا وولادتنا في الجنّة وهابيل وأخته حملها وولادتها في الأرض ، فقال له آدم وإن كان كذلك فلا يحل لك أن تخالف أمر اللّه ، فأبى أن يقبل ولم يصغ لوعظ أبيه وزجره وتهديده ، فقال إذ عققتني فقرّبا أنت وأخوك قربانا فأيكما قبل قربانه أخذ أقليما ، ففعلا ولكن قال قابيل في نفسه إن تقبل قرباني أو لم يتقبل فلا أتزوج إلا أختي ، وقال هابيل في نفسه ما يكون من اللّه فأنا راض به ، ولهذا والحكمة الأزلية قربا تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل كما مر في الآية 28 وتقدم في الآية 183 من آل عمران كيفية قبول القرابين فراجعها ، فصارح قابيل إياه بعدم قبوله ، وقال إن فعلت يتحدث بين الملأ أنه خير مني فيفتخر ولده على ولدي ، وأضمر الشّر لأخيه وتهدده وتوعده بالقتل ،
ولما سنحت له الفرصة حال غياب أبيه حمل حجرا ليرضّ بها رأسه ، فاستعطفه وزجره كما تقدم ولم ينجح به فوطن هابيل نفسه للاستسلام طلبا للثواب ، وتركه ولم يقابله بشيء ، قالوا ولم يعرف أولا أحد كيفية القتل ، فتمثل له الشّيطان عليه اللّعنة وقد أخذ طيرا فوضع(6/319)
ج 6 ، ص : 320
رأسه على حجر ورضه بحجر آخر فقتله ، فلما رأى قابيل ذلك فعله بأخيه هابيل إذ رض رأسه بين حجرين حالة نومه فقتله غيلة ، ثم انه تاب ولكن لم تقبل توبته ، لأن النّدم وحده لا يعد توبة إذ ذاك ، وإنما هو من خصائص هذه الأمة ، راجع الآية 57 من سورة البقرة في كيفية توبة بني إسرائيل ، على أن غالب ندمه كان على حمله أخيه بعد قتله مدة سنة ، حتى رأى الغراب وعمله بأخيه فعمل مثله ، ولم يصرح بالندم إلّا بعد الدّفن ، ولأن قتله تعمدا عنادا باللّه وبأبيه وعدم ارتداعه بعدم تقبّل القربان من اللّه ، وقالوا إنه تركه بالعراء مدة ، فلما رأى تقرب السّباع منه لتأكله حمله على ظهره ، ولما أنتن وتحير في أمره ولم يدر ماذا يفعل به ليتخلص منه بعث اللّه له الغراب ليعلمه كيفية دفنه.
قالوا ولما قتله رجفت الأرض سبعة أيّام ، واسود جلده إعلاما بغضب اللّه عليه والعياذ باللّه ، قالوا ولما رجع آدم عليه السّلام من مكة إذ كان غيابه فيها ولم يجد هابيل سأل قابيل عنه ، فقال ما أنا عليه بوكيل ، قال بل قتلته ، ولذلك اسود جلدك ، فمكث آدم مائة سنة لا يضحك ، ورثاه بكلمات سريانية ووصى شيئا يحفظها ، ولم تزل الكلمات تنقل حتى زمن يعرب بن قحطان فعرّبها على ما قيل بهذه الأبيات :
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبّر قبيح
تغير كلّ ذي لون وطعم وقل بشاشة وجه مليح
ومالي لا أجود يسكب دمع وهابيل تضمنه الضّريح
أرى طول الحياة عليّ غما فهل أنا من حياتي مستريح
لأنه كان يعرف السّريانية والعربية ومن قال أنه من نظم آدم فقد أخطأ لأن الأنبياء منزهون عن الشّعر ، ولأن لغة آدم السّريانية فضلا عن ركاكة هذه الأبيات وإن هذا لفي شك أيضا ، لأن الإسرائيلات التي بعد هذا بكثير لا يوثق بصحتها لطول الزمن وعدم الضّبط وقلة الكتاب ، فكيف بما صدر عن آدم ولم يدون ، وإن قوله ولد هو وأخته في السّماء كان لعدم ثبوت هذا المكان كما ذكر ، وإن اللّه لم يذكر عن ذلك شيئا وهي كما ذكرها اللّه فقط ، وإن شيث عليه السّلام(6/320)
ج 6 ، ص : 321
ولد بعد بلوغ آدم مئة وثلاثين سنة ، وبعد قتل هابيل بخمسين سنة ، واسمه هبة اللّه بالعربية لأنه خلف عن هابيل ، وعلمه اللّه ساعات اللّيل والنّهار ، وأنزل عليه خمسين صحيفة ، وصار وصي آدم من بعده وولي عهده ، قالوا وبعد أن عرف آدم أن قابيل قتل هابيل طرده وشرّده وهدده بالقتل إن بقي ، فأخذ أخته أقليما وهرب إلى عدن خوفا من القتل الذي سنّه في الأرض ، فتصور له إبليس وقال له إنما أكلت النّار القربان الذي قربه أخوك لأنه كان يعبدها ، فبنى له بيتا وأوقد فيه نارا وصار يعبدها من دون اللّه ، فهو أول من عبدها ، وأول من سنّ القتل على وجه الأرض ، وأول من خالف أمر اللّه بتزوجه أخته الشّقيقة ، واقتدى به من بعده بهذه الخصال القبيحة ، فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة ثم انتقم اللّه منه إذ مات برمية من ابن له أعمى ، فقال له ابنه قتلت أباك فلطمه وقتله أيضا ، قال صلّى اللّه عليه وسلم بشر القاتل بالقتل.
قتلوا واتخذ أولاده من بعده آلات الطبل والمزامير وانهمكوا في الملاهي والمعاصي ولم يزالوا حتى أغرقهم اللّه بالطوفان فلم يبق من نسله أحد.
قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ» الواضحات من اخبار من قبلهم فلم يتعظوا بها «ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ» الذي كتبناه عليهم من التشديد في عقاب القاتل وشرعنا القصاص على جميع الخلق ، وبالغنا فيه بحقهم بان جعلنا قتل النّفس الواحدة كقتل الجميع ، ولم ينجح بهم ولم يزالوا وهم «فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» (32) أي أكثرهم متجاوزون الحد في العصيان ودائبون على اخلاف الوعد ونقض العهد في حق اللّه تعالى ، واستحلوا محارمه وحرموا ما أحله لهم ، فلأن يخالفوا أمرك يا سيد الرّسل من باب أولى لأنهم قتلوا طائفة من الأنبياء بغير حق ، وهم الآن يترصدون لقتلك مع أنهم مأمورون باتباعك ، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفن من دمها لأنه أول القتل من سنّ سنة وقال صلّى اللّه عليه وسلم من سن سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.(6/321)
ج 6 ، ص : 322
مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق :
قال تعالى «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا» إذا قتلوا الأنفس فقط «أَوْ يُصَلَّبُوا» إذا أخذوا المال مع القتل تشديدا للعقوبة «أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ» اليمنى مع الرّجل اليسرى أو الرّجل اليسرى مع اليد اليمنى إذا أخذوا المال فقط «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» إذا وجدوا في الطّريق وأخافوا النّاس أو في البرية أيضا لغاية القتل والنهب والسّلب ولم يقع منهم قتل ولا أخذ مال فينفوا إلى مكان لا يتمكنون معه من القيام بهذه المفاسد ، وفي حبسهم معنى النّفي وأبلغ «ذلِكَ» الذي كتبه اللّه على هؤلاء المفسدين من الحد يكون «لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا» وهوان بين المجتمع الإنساني ، وذل يأنفه كلّ ذي عقل ، ويتباعد عنهم كلّ ذي مروءة ، وينفر منهم كلّ شهم «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (33) عند اللّه إذا ماتوا قبل توبتهم ، فإذا تابوا وكانوا مسلمين أو كانوا كافرين فأسلموا وسلّموا أنفسهم لإجراء الحد عليهم فعقوبتهم الدّنيوية هي ما ذكر في الآية وهي كفارة لهم ، وإن لم يسلموا أنفسهم وبقوا على طغيانهم فهم في خطر المشيئة ، أما الكفار إذا أسلموا بعد ذلك فإسلامهم كفارة لهم لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، وإنما يلزم بعده أداء الحقوق الشّخصية فقط «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» من كفرهم ومحاربتهم للّه ورسوله وتركوا الإفساد في الأرض «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» بأن أمسكتموه وكانوا في قبضتكم ، فهؤلاء لا سبيل لكم عليهم على مطلق الإضافة ، أما إذا كانوا قاتلين أو ناهبين ، فأولياء القتيل لهم طلب القصاص أو العفو وأخذ الدّية وأهل المال لهم طلبه منهم أو تركه ، واللّه تعالى يقبل توبتهم فلا طريق لأولي الأمر عليهم إذا أقلعوا عما كانوا عليه من تلقاء أنفسهم ولهذا قال تعالى منبها على ذلك «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (34) لأمثال هؤلاء وبعد مغفرة اللّه لا حقّ لأولياء الأمر أن يعاقبوهم لأنهم وكلاء اللّه في أرضه وليس للوكيل أن يفعل شيئا نهاه عنه موكله إذا أسقطه.
هذا وإذا كان النّائبون(6/322)
ج 6 ، ص : 323
قبل القبض عليهم كفرة فلا يطالبون بالقصاص لما ذكرنا من أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تدرا الحدود الواجبة حال الكفر ، وذلك ليكون داعيا للاسلام ، وإذا علم أنه مطالب بما فعل حال كفره ، بعد الإسلام لا يسلم.
وحكم هذه الآية عام ومستمر إلى يوم القيامة وإن نزولها بحق جماعة مخصوصين كان شأنهم ذلك لا يقيدها بهم ولا يخصصها فيهم ، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن أناسا من عكل وعرينة قدموا على النّبي صلّى اللّه عليه وسلم وتكلموا بالإسلام ، فقالوا يا نبي اللّه إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف ، واستوخموا المدينة.
فأمر لهم صلّى اللّه عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعى النّبي صلّى اللّه عليه وسلم واستاقوا الذود ، فبلغ ذلك النّبي صلّى اللّه عليه وسلم فبعث الطّلب في أثرهم فحلقهم وأخذهم ، فاعترفوا لحضرة الرّسول بجرمهم ، ولم يبدوا عذرا يدرا الحد عنهم ، فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة (محل بظاهر المدينة تحت واقم) حتى ماتوا على حالهم.
قال قتادة بلغنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصّدقة وينهى عن المثلة ، زاد في رواية قال قتادة فحدثني بن سيرين أن ذلك قبل أن تنزل الحدود قال أبو تلابة فهؤلاء قوم كفروا وقتلوا وسرقوا بعد ايمانهم وحاربوا اللّه ورسوله فأنزل اللّه فيهم هذه الآية وصار العمل عليها حتى الآن والى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
هذا وينبغي صلب مثل هؤلاء المفسدين على الطّريق العام ليكون أبلغ في الزجر ، ويختار الحبس على النّفي إذا تيقن أنه يؤذي في المحل الذي ينفى اليه ، وإذا تاب هؤلاء المفسدون بعد القبض عليهم فلا تقبل توبتهم لأنها لا تكون خالصة بل للتخلص من الحد وهي توبة لا قيمة لها كالتوبة حال اليأس ، لذلك يجب أن تقام عليهم الحدود المذكورة في هذه الآية ، قالوا إن داود باشا حاكم العراق في القرن الثاني عشر للهجرة قد اشتهر بالعدل والتقوى وأعمال الخير وأفعال البر وإنشاء الجسور وإصلاح الطّرق وعمارة البيوت للفقراء وبناء المساجد والجوامع والتكايا ، وصار يصرف جميع واردات العراق في هذه الجهات وشبهها ، وكان له خادم فقتل نفسا فأمر بقتله ، فاختفى ثم دخل عند الشّيخ خالد النّقشبندي ذي(6/323)
ج 6 ، ص : 324
الجناحين دفين دمشق ، فبلغ الشّرطة خبره فحضروا ليأخذوه ، فلم يسلمه للشرطة فحضر داود باشا بنفسه وتحاجّ مع الشّيخ وتلا عليه هذه الآية ، فقال له الشّيخ إنه تاب قبل أن تقدروا عليه ، وتوبته مقبولة بحكم هذه الآية ، فلم يقبل الحاكم وطلب تسليمه ليقتله بحكم الآية الأولى ، فصاح عليه الشّيخ لا أرسله لك يحكم الآية الثانية ، فأغمي عليه ولما أفاق قبل يدي الشّيخ واستعفاه وقبل توبته وأدى الدّية لأهله بعد أن عفا أهل القتيل عنه وقالوا إنه حينما صاح الشّيخ رأى الحاكم نفسه بين يدي سبع يريد أن يلتقمه كرامة من الشّيخ ، ولهذا فعل ما فعل ، وهذا الحاكم غضب عليه السّلطان لعدم رفع شيء من واردات العراق إلى الخزينة العامة وأرسل من يقتله إذا لم يسلم نفسه اليه ، ولما سلم نفسه اليه لم ير السّلطان ما يوجب قتله إذ تبين له أنه صرفها بصورة شرعية ، فعفا عنه وأرسله إلى المدينة خادما للحرم الشّريف ، فليحسنه فصار يكسو الحجرة الشّريفة بعد المكسة إلى أن توفي رحمه اللّه رحمة واسعة.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» بفعل الطّاعات والعمل بما يرضيه جل شأنه من صلة الرّحم والتصدق على الأرامل والفقراء وقضاء حوائج العاجزين والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فهذه وما يشبهها كلها وسائل إلى اللّه تعالى تقرب العبد منه وتطلق الوسيلة على الحاجة قال عنترة :
إن الرّجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخصّبي
وعلى هذا يكون المعنى اطلبوا حاجاتكم من اللّه لا من غيره فإنه بيده مقاليد السموات والأرض ، والوسيلة منزلة في الجنّة ، قال صلّى اللّه عليه وسلم سلوا اللّه لي الوسيلة فإنها درجة في الجنّة لا ينالها إلّا عبد واحد وأرجو أن أكون أنا هو.
وجاء في حديث آخر من قال حين يسمع النّداء (الأذان) اللهم رب هذه الدّعوة التامة والصّلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة.
واستدل بعض النّاس بهذه الآية على جواز الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة فيما بينهم وبين اللّه تعالى ، وتحقيق الكلام في هذا أن الاستغاثة بالمخلوق الحي وجعله وسيلة بمعنى أنه يطلب الدّعاء منه لا شك في جوازه ولا يشترط(6/324)
ج 6 ، ص : 325
فيه أن يكون أفضل من المستغيث به لما صحّ أنه صلّى اللّه عليه وسلم لما استأذن عمر في العمرة قال له لا تنسنا من دعائك ، وأمره أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له ، وأمر أمته بطلب الوسيلة له وأن يصلوا عليه ، وقد استسقى الأصحاب بالعباس رضي اللّه عنهم ، وإذا كان المستغاث به ميتا فلا يجوز لأنه بدعة ، إذ لم ينقل عن السلف الصّالح أنهم استغاثوا أو طلبوا شيئا من الأموات.
أما التوسل بجاههم لما يعتقد فيهم من التقرب إلى اللّه وعند اللّه ومن اللّه فلا بأس به ، وكذلك زيارة قبورهم كما ذكره صاحب المدخل رحمه اللّه في الجزء الأوّل في باب زيارة القبور ، وجواز شد الرّحال إليها ، أما ما قاله صلّى اللّه عليه وسلم لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجده والمسجد الأقصى والمسجد الحرام فلما فيها من التفاوت بالأجر ، أما بقية المساجد فلا تفاوت فيها ، لهذا لا يشملها ولا يدخل فيه زيارة قبور الأنبياء والصّالحين ، إذ فيهم تفاوت لأن منهم من هو أقرب إلى اللّه من غيره فيجوز شد الرّحال لزيارتهم والتبرك بهم أمواتا كما يجوز أحياء لأن مجالستهم بركة وقد تنزل الرّحمة عليهم فيستفيد منها من كان عندهم ، وقد حبّذ هذا العارفون كلهم ولم يمنعه منهم أحد وهم أدرى من غيرهم ، فمنهم يؤخذ وبهم يقتدى وعنهم يتحدث ، وحديث شد الرّحال خاص بالمساجد الثلاثة ولا يصلح أن يكون حجة للمنع من زيارته المحلات الأخر التي يتبرك بها ، تدبر «وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ» أعداءه لإعلاء كلمته «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (35) في دنياكم في العز والوقار وفي آخرتكم في الفوز والنّجاة من النّار.
مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به :
واعلم أن من هذه الآية الكريمة ومن قوله صلّى اللّه عليه وسلم إن أرواح المؤمنين لتلتقي على مسيرة يوم وما رأى أحد صاحبه ، ومن قول الفقهاء ينبغي لمن يقول في التحيات أثناه الصّلاة السّلام عليك أيها النّبي ورحمته وبركاته أن يتصور النّبي أمامه كأنه يخاطبه في التحية ، ومن أمر الشارع باستقبال القبلة وتقبيل الحجر الأسود أخذ السادة الصّوفية الرّابطة وأجمعوا عليها وأمروا بها ، وقد أشرنا إلى هذا في الآية(6/325)
ج 6 ، ص : 326
58 من سورة الإسراء في ج 1 ، ومن أراد تفصيل هذا البحث فليراجع كتاب الهداية والعرفان للصاحب ، وكتاب البهجة السّنية للخاني ، ووضعت الرّابطة للاستعانة بالشيخ الكامل الذي إذا رئي ذكر اللّه لدفع الخطرات الشّيطانية عن القلب وطلب الواردات الإلهية إليه ، لأنه بيت الرّب القائل جل قوله ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن.
فهات هذا المؤمن المخلص الذي صار قلبه محلا الرّحمن وتوسل به إليه ، أما لا فلا ، فحسنوا رحمكم اللّه نياتكم وطهروا بيت الرّحمن من كلّ ما لا يليق به ، وظنوا بالناس خيرا ليحصل لكم الأمان فتدخلوا الجنان واللّه من وراء القصد.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» وماتوا على كفرهم «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من المال والملك والولد «وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ اللّه يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ» ذلك الفداء على فرض ان لكل كافر ملك الدّنيا هذه ودنيا أخرى معها ، ثم قدمها ليفدي بها نفسه من عذاب اللّه في ذلك اليوم لم يقبل منه «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (36) لا سبيل للنجاة منه وتراهم «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ» لشدة ما يقاسون من عذابها «وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها» لعدم استطاعتهم الخروج لأن عليها ملائكة غلاظ شداد لا رحمة في قلوبهم يمنعونهم من الخروج راجع الآية 6 من سورة التحريم المارة لتقف على وصف هؤلاء الملائكة «وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» دائم ثابت لا ينقص ولا يتحول عنهم ، قال تعالى «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا» ما لا يحل لهما أخذه من مال الغير ، وهذا القطع يكون جزاء «نَكالًا» عقوبة عظيمة «مِنَ اللَّهِ» الذي نهى عن السّرقة ليرتدع النّاس عن فعلها «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» قوي في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره «حَكِيمٌ» في ترتيب هذا الحد على السارق ليقطع دابر السّرقة ، هذا وقد ذكر اللّه تعالى من أول هذه السّورة إلى هنا ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها كما أشرنا آنفا وهي المنخنقة 2 والموقوذة 3 والمتردية 4 والنّطيحة 5 وما أكل السّبع 6 وما ذبح على النّصب 7 والاستقسام بالأزلام 8 والجوارح المعلمة 9 وطعام أهل الكتاب 10 والمحصنات منهم 11 وبيان(6/326)
ج 6 ، ص : 327
الطهارة والتطهير 12 والوضوء عند إرادة الصّلاة 13 وجزاء قطاع الطّريق إذا قتلوا 14 وعقابهم إذا قتلوا وسلبوا 15 وجزاؤهم إذا سرقوا فقط 16 وعقابهم إذا لم يسرقوا ولم يقتلوا 17 وجزاؤهم إذا تابوا 18 وقبول توبتهم قبل القبض عليهم مع ما يلزمهم في هذه الأحوال كلها.
ثم بين سبعة أحكام أخر كذلك لم تذكر في غيرها وهي 1 حكم السّارق والسّارقة 2 حكم قتل الصّيد 3 البحيرة 4 السّائمة 5 الوصيلة 6 الحام 7 حكم الوصية والإشهاد عليها قبل الموت بما يدل على عظيم هذه السّورة والقرآن كله عظيم ، إلا أنه ما من عموم إلّا وخصص لا سيما الآيات التي فيها أحكام فهي أهم من غيرها وقد جعل في القرآن الحسن والأحسن ، راجع الآية 55 من الزمر والآية الثانية من سورة يوسف في ج 2 ، روى البخاري ومسلم عن عائشة أن قريشا أهمها شأن المخزومية التي سرقت فقالوا ، من يكلم فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، قالوا ومن يجترىء عليه إلّا أسامة بن زيد حب رسول اللّه ؟ فكلمه أسامة ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أتشفع في حدّ من حدود اللّه ثم قام فاختطب ، ثم قال إنما أهلك الّذين من قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحد وايم اللّه لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها.
ورويا عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لعن اللّه السّارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده.
والحكم الشّرعي إذا سرق السّارق ما يساوي ربع دينار تقطع يده وان البيضة الواردة في الحديث يراد بها بيضة الدّرع ، والمراد بالجمل ما يساوي ربع دينار ويشترط أن يكون السارق بالغا عاقلا
عالما بالتحريم ، فلو كان حديث عهد بالإسلام لا يعلم حرمة السّرقة لا يقطع ، وكذلك الصّبي والمجنون ، ويشترط أن يكون المسروق في محل محرز كدور السّكن والخيم ، أما إذا كان من البادية والبساتين والدّور غير المأهولة وغير السورة المنقطعة من السّكان والزروع والكروم فلا قطع فيها ، وكذلك لا قطع على من يسرق مال أبيه وأمه والعبد من سيده والشّريك من شريكه لوجود الإباحة في البعض معنى وهي ما يدرأ بها الحد ، وإذا سرق بعد أن قطعت يده تقطع رجله من مفصل القدم على الخلاف ، وهكذا إذا سرق ثالثا ، وإذا سرق رابعا لا تقطع يده الأخرى بل يحبس ، لأن في قطعها(6/327)
ج 6 ، ص : 328
تعطيلا له عن الأكل والعمل بصورة بانه مما يؤدي إلى هلاكه ولم يجعل اللّه الهلاك في هذا الحد ، فلو أن المسلمين ساروا على ما حده اللّه لا نقطع دابر الفساد كله ، لأن النّاس إذا رأوا عار قطع اليد الملازم للسارق يرتدعون عن السّرقة ، أما الحبس الذي عليه أحكام هذا الزمن بنوعيها الجناية والجنحة فلم تكن رادعة لقطع دابر السّرقات مهما شدد فيها لصعوبة أسباب ثبوتها ، فلذلك ما زالت السّرقات تتكاثر ، وما زال السّراق يتبرمون ، ولهذا شدد الشّارع فأوجب قطع اليد عند الثبوت ، لأن هذا يزيد في الزجر ويقطع دابر السّرقة وتتأثر النّاس في عارها ويتحاشون أن يلصق بهم.
قال تعالى «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ» لنفسه بالسرقة وظلم غيره بأخذ ماله «وَأَصْلَحَ» نفسه بعدها بالعمل الصّالح «فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» ويقبل توبته «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لعباده الرّاجعين إليه «رَحِيمٌ 39» بهم يريد لهم الخير ، وليعلم أن هذه التوبة لا تسقط عنه الحد ، لأنه جزاء لما فعل ، أخرج أبو داود وابن ماجه والنّسائي عن أبي أمية المخزومي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أتى بلصّ قد اعترف اعترافا لم يوجد معه متاع فقال له إخالك سرقت ، فقال بلى ، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا كلّ ذلك يعترف ، فأمر به فقطع ، ثم جيء به فقال له صلّى اللّه عليه وسلم أستغفر اللّه وتب اليه ، فقال الرّجل أستغفر اللّه وأتوب اليه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم اللّهم تب عليه.
وهذا إذا كان مؤمنا ، أما إذا كان كافرا وأسلم فقد سقط عنه الحد ويبقى المال فقط ، وإذا حاول السّرقة فلم يسرق لأمر ما فلا حدّ عليه ، لأن اللّه فرض الحد على الفاعل القاصد ، وهكذا القتل إذا قصده ولم يقتله أو قتل خطأ أو مناولا فلا شيء عليه ، راجع الآية 92 من سورة النّساء ، قال تعالى «أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (40) قدم تعالى في هذه الآية التعذيب على المغفرة لأنه بمقابلة قطع السّرقة على التوبة ، وهذه الآية تبطل زعم القدرية والمعتزلة القائلين بوجوب الرّحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأنها تدل على أن التعذيب والرّحمة مفوضان للمشيئة ، والوجوب ينافي ذلك ، وبما أن الكل في ملكه والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء فلا(6/328)
ج 6 ، ص : 329
معنى للوجوب ، وقد أكد ذلك بختم الآية بجملة (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي يعذب ويغفر بسبب وبلا سبب
قال تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» فإنا نكفيك شرهم فلا تبال بهم ولا تهتم بشأنهم لأنهم «مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» أي منافقون «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» أي طائفة منهم وهؤلاء لا يعبأ بهم لأنهم «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ» افتراء من أنفسهم وذلك أنهم كانوا يجلسون عند حضرة الرسول فيقولون قال كذا وكذا ولم يقله فهم «سَمَّاعُونَ» عيون وجواسيس «لِقَوْمٍ آخَرِينَ» منهم «لَمْ يَأْتُوكَ» لينقلوا كلامك لهم على صحته بل «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ» التي وضعها اللّه من فرض فرائضه وتحليل حلاله وتحريم حرامه.
اعلم أنه لا يوجد في القرآن آية مصدرة بيا أيها الرّسول غير هذه الآية 70 الآتية ، أما الآيات المصدرة بيا أيها النّبي فهي اثنتا عشرة ، ثلاث بالأنفال 65 و66 و71 وخمسة بالأحزاب 1 و28 و45 و50 و59 وواحدة بالتوبة 74 ، وواحدة في الممتحنة ، وواحدة في الطّلاق ، في التحريم 12.
واعلم أن الفرق بين قوله تعالى عن مواضعه في الآية المارة وبين قوله من بعد مواضعه في هذه الآية أنهم في هذه الآية يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النّصوص الصّحيحة وليس فيها بيان أنهم يحرفون تلك اللّفظة من الكتاب ، وفي الآية السّابقة يجمعون بين الأمرين التأويلات الفاسدة وتحريف اللّفظ من الكتاب ، وفي الآية السّابقة يجمعون بين الأمرين التأويلات الفاسدة وتحريف اللّفظ ، ففي قوله تعالى (عَنْ مَواضِعِهِ) إشارة إلى التأويل الباطل وفي قوله (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) رمز إلى إخراجه من الكتاب بالكلية ، أما آية البقرة 46 التي عبارتها (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) فهي في تبديل كلام اللّه الذي أسمعهم إياه في المناجاة حينما ذهبوا مع موسى عليه السلام ، تدبر.
ثم بين تعالى وجه هذا التحريف بقوله جل قوله «يَقُولُونَ» لقومهم «إِنْ أُوتِيتُمْ هذا» المحرف المزال عن مواضعه «فَخُذُوهُ» واعملوا به لأنه حق بزعمهم «وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ» عينا وأتاكم محمد بما يخالفه «فَاحْذَرُوا» أن تأخذوه وتعملوا به ، لأنه من عنده لا من عند اللّه قاتلهم اللّه ، وهذا من بعض ما يفتنون به بعضهم بقصد صدهم عن الدّين الحق الذي جاءهم به محمد صلّى اللّه عليه وسلم(6/329)
ج 6 ، ص : 330
«وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ» وإضلاله عن الهدى «فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» تقدر به على إخلاصه لسلوك الحق ، لأن كلا ميسر لما خلق له في الأزل لا تبديل لخلق اللّه ، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف ، راجع الآية 29 من سورة الأعراف ج 1 ، وفي هذه الآية دلالة على قطع رجائه صلّى اللّه عليه وسلم من إيمانهم به وعدم الالتفات إليهم والمبالاة بهم ، والاهتمام بشأنهم «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» من اهوان الكفر لسابق علمه في اختياره له وأمثال هؤلاء «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» وهوان على ما هم عليه من النّفاق والتجسس والتحريف لكلام اللّه وكلام رسوله «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (41) جزاء عملهم هذا.
ثم كرر ما هم عليه من الصّفات الذميمة تأكيدا لسوء حالهم فقال «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» وكلّ ما لا يحل كسبه سحت ، وجاء في الحديث بمعنى الرّشوة ، لأنهم كانوا يحللون ويحرمون بها ، وتقرأ بضمتين كالعنق وبالفتح على المصدرية «فَإِنْ جاؤُكَ» يا سيد الرّسل لتقضي بينهم فيما يختلفون فيه بعضهم مع بعض «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ» ولا يمنعك ما تراه منهم أن تحكم بينهم «أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» إن شئت ألا تحكم ، وهذا أمر تخييري «وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ» فلم تقض بينهم بسبب صدودهم عنك وعدم إيمانهم بك ونصب العداء لك فإنهم لا يقدرون عليك بشيء ما فاتركهم «فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً» لأن اللّه عاصمك منهم كما هو عاصمك من غيرهم «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» العدل الذي شرعناه لك «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (42) بأحكامهم الّذين لا تأخذهم في الحق لومة لا ثم ، فلا يجوزون ، ولا يميلون لقوي أو غني ، ولا يميزون بين الخطير والحقير ، ولا يحيفون لعداوة أو كراهية ما.
وخلاصة هذه القصة أن رجلا وامرأة من أشراف اليهود بخيبر زنيا وكانا محصنين ، وفي شرعهم يجري عليهم الحد وهو الرّجم ، بمقتضى حكم التوراة ، فكره اليهود رجم المرأة لشرفها ، فقالوا إن هذا الرّجل بيثرب يعنون محمدا صلّى اللّه عليه وسلم يقضي بين النّاس وليس في كناية الرّجم فاذهبوا اليه واسألوه عما يجب عليها ، فبعثوا رهطا وقالوا لهم اسألوه عن الزانيين المحصنين ما حدهما ، فإن أمركم بالحد فاقبلوا ، وإن أمركم(6/330)
ج 6 ، ص : 331
بالرجم فلا ، فذهبوا اليه فسألوه فقال عليهما
الرّجم ، فأبوا قبول حكمه ، ونفوا وجوده في التوراة فنزل جبريل فقال يا محمد اجعل بينك وبينهم ابن حوريا حكما منهم ، وذكر له وصفه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم هل تعرفون فيكم شابا أمره أعور يسكن فدك يقال له ابن حوريا! قالوا نعم ، قال فأي رجل هو فيكم ، قالوا علم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل اللّه على موسى في التوراة ، قال فأتوني به ، فأتوا به ، قال أترضونه حكما بيننا ؟ قالوا نعم ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ناشدتك اللّه الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون وبالذي ظللكم بالغمام وأنزل عليكم المن والسّلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرّجم على المحصن ؟ فقال اللّهم نعم والذي ذكرتني به لولا أني خشيت أن ينزل علينا العذاب إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ، ولكن كيف هي في كتابكم قال إذا شهد أربعة رهط عدول أنه أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليها الرّجم ، فقال والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل اللّه في التوراة ، فقال ما كان أول ما ترخصتم به ؟ قال زنى ابن عم الملك فلم نرجمه ، ثم زنى بعده رجل فقال قومه لا وللّه حتى يرجم ابن عم الملك ، فلم يمكنوا أحدا من رجمه ، فاجتمعنا ووضعنا الجلد والتحميم ، (تسويد الوجه) مكان الرّجم ، راجع الآية 9 من سورة النّور المارة تجد حديث البخاري ومسلم بهذا الشّأن ، وهذا من معجزات حضرة الرّسول ومن الأخبار بالغيب ، لأنه ذكر لهم ابن حوريا باسمه ووصفه ومكانه وهو لم يره ولم يسمع به قط ، قالوا ثم أمر رسول اللّه برجمها ، وقال اللّهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأنزل اللّه هذه الآيات في حكام اليهود ، وروى مسلم عن البراء بن عازب ، قال مر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حدّ الزنى في كتابكم ؟ قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال له
ناشدتك اللّه هكذا تجدون حسد الزنى في كتابكم ؟ قال لا وكرر ما قاله ابن حوريا.
الحكم الشرعي إذا كان المتحاكمون معاهدين كما في هذه الآية فالحاكم مخيّر بين أن يقضي بينهم وبين ألّا يقضي ، لأن المعاهدين غير ملزمين بأحكام المسلمين أما(6/331)
ج 6 ، ص : 332
غيرهم فيجب على الحاكم أن يحكم بينهم سواء كانوا كافرين أو ذميين أو مسلمين أو مخالفين ويجب أن يكون الحكم بمقتضى ما أنزل اللّه.
قال تعالى «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ» الرجم للزاني المحصن كغيره من الأحكام الأخر المتعلقة بأمر دينهم ودنياهم وآخرتهم «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ» عن حكمك الموافق لما في كتبهم ويعرضون «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» التحكيم الذي لجأوا اليه ورضوا به ، وهذا تعجيب من حالهم لأنهم يعلمون يقينا أن الزاني المحصن يرجم بنص التوراة ثم يطلبون من حضرة الرّسول أن يحكم لهم بخلاف ما شرعه اللّه له ولأمته الموافق لما في التوراة ، ولذلك كان يحكم في الرّجم وهو لا ينطق ولا يتأول ولا يفعل شيئا عن هوى ، ولكن لا عجب لأنهم لا يصدقون بكتابك ولا يؤمنون بك وانهم يحكمون على ما يلائم المصلحة بحسب الأشخاص «وَما أُولئِكَ» الّذين هذه حالتهم «بِالْمُؤْمِنِينَ» 43 بكتابهم ولا نبيهم ، فلو آمنوا بها لآمنوا بكتابك ، لأن الحكم بالكتابين واحد ، فلا معنى إذا لقولهم إنهم آمنوا بالتوراة وبموسى ، لأن من مقتضى الإيمان بهما الإيمان بك وبكتابك.
قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» لمن اتبعها وآمن بها فتكشف له الشّبهات وتوضح له المشكلات ، وكان «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا» لحكم اللّه فيها كموسى وهرون ومن بعدهما إلى زمن محمد صلّى اللّه عليه وسلم «لِلَّذِينَ هادُوا» أي اليهود ، وسموا بذلك لقولهم «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» الآية 156 من الأعراف في ج 1 وفي قوله تعالى (أَسْلَمُوا) إشارة إلى أن الأنبياء لم يكونوا يهودا ولا نصارى بل كانوا مسلمين على ملة ابراهيم عليه السّلام ، راجع الآية 67 من آل عمران المارة «وَالرَّبَّانِيُّونَ» الزهّاد التحصين في العبادة ، راجع الآية 80 من آل عمران أيضا يحكمون بها «وَالْأَحْبارُ» أيضا جمع حبر بفتح الحاء وكسرها العلماء والعارفون «بِمَا اسْتُحْفِظُوا» أوئتمنوا واستودعوا «مِنْ كِتابِ اللَّهِ» وقد أخذ عليهم العهد أن يحفظوا كتابه ويعلّموه النّاس ويقضوا فيه بينهم «وَكانُوا» أولئك الأنبياء والرّبانيّون والأحبار «عَلَيْهِ شُهَداءَ» بأن كتاب اللّه حق وصدق أنزله على موسى «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ» لتعملوا(6/332)
ج 6 ، ص : 333
بأحكام اليهود وتكتموا ما في كتاب اللّه من أجلهم ولأجل نفعكم منهم «وَاخْشَوْنِي» أنا اللّه القادر على عقابكم إن خالفتم «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا» من الرشاء الذي تأخذونه وحب بقاء الرّئاسة والجاه ، فتستبدلوا بآياتي غيرها ، أو تحرفوا بعضها ، أو تغيّروا معناها بهتا منكم وافتراء علي ، واحكموا بما أنزلت عليكم في التوراة «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» جحودا وكفرانا «فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (44) بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن.
قال تعالى «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» تقتل إذا قتلت غيرها عمدا ، وبهذه الآية استدل بعض العلماء على أن الرّجل يقتل بالمرأة وعدها ناسخة لقوله تعالى (الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ) الآية 179 من البقرة المارة ، مع أن هذه الآية حكاية حال عما في التوراة وخبر من الأخبار فيها ، والأخبار لا تكون ناسخة للأحكام ، وعلى هذه لا يقتل الرّجل بالمرأة ، ولا الحرّ بالعبد ، والآية في هذا محكمة غير منسوخة البتة ، ودعوى من ادعاه لا قيمة له للسببين المذكورين أعلاه ، ولكن العمل الآن في المحاكم على هذه الآية 45 من هذه السّورة ، والحق أن يكون العمل على آية البقرة 179 لأن هذه الآية 45 عبارة عن اخبارنا بما كتبه اللّه على بني إسرائيل ليس إلا ، وليس كلّ ما فرضه عليهم نكلف به لأن شريعتنا جاءت ناسخة لما قبلها في كلّ ما يخالفها ، فما وافق شرعنا عملنا به ، وما خالفه فلا ، تأمل.
«الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» تفقا «وَالْأَنْفَ» يجدع «بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ» تقطع «بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ» تقلع «بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» فيما يمكن أن يقتص من الجارح كاليد والرّجل والذكر والأنثيين ، أما فيما لا يمكن فيه كالرّض والجرح في البطن والكسر الملتئم وبقية الجراحات مما لا يمكن إجراء القصاص فيها ففيها حكومة عدل ، إذ قد يخاف التلف في اجراء القصاص ، فيخرج عن كونه قصاصا كما أمر اللّه ، ويسمى ما دون الدّية هكذا جروح ارشا ، وهذا التعميم يعد تخصيصا لأن الجروح تعم الكل «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ» أي القصاص فعفى عن أخيه «فَهُوَ» التصدق المراد به العفو «كَفَّارَةٌ لَهُ» عن ذنوبه التي كان اقترفها قال عليه الصّلاة والسّلام من تصدق(6/333)
ج 6 ، ص : 334
بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولدته أمه.
وأخرج الترمذي عن أبي الدّرداء قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدّق به إلا رفعه اللّه درجة وحط عنه به خطيئة.
وأخرج أبو داود والنّسائي عن أنس قال ما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رفع اليه بشيء فيه قصاص إلّا أمر فيه بالعفو «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (45) أنفسهم وأتباعهم وقدمنا ما يتعلق بالقصاص في الآية 179 من البقرة فراجعها وقدمنا أنواع القتل والدّيات في الآيتين 92 و93 من سورة النّساء المارة فراجعها.
قال تعالى «وَقَفَّيْنا» عقبنا واتبعنا «عَلى آثارِهِمْ» أي النّبيّين «بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» وكلّ ما هو أمام الرّجل هو بين يديه «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ» معدلا لبعض أحكامها ، يوافق عصره ويصلح لأمته «فِيهِ هُدىً» للناس وتخفيف على أمته وتيسييرا لما هو عسير وتسهيل ما هو شاق «وَنُورٌ» يستضيء به من آمن وصدق بعيسى في زمانه حتى بعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلم «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» ولا تكرار هنا لأن ضمير مصدقا في الآية الأولى يعود إلى عيسى ، وفي هذه يعود إلى الإنجيل «وَهُدىً» يهتدي به من اتبع أحكامه إلى طريق الصّواب ، ولأن فيه بشارة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم يهتدي بها ممن وفقه اللّه للسداد «وَمَوْعِظَةً» لما فيه من الأمثال والزواجر والعبر «لِلْمُتَّقِينَ» (46) لأنهم هم الّذين ينتفعون فيه «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ» على أنفسهم وغيرهم على السّواء «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (47) الخارجون عن الطّاعة المتجاوزون حدود اللّه.
أخرج مسلم عن البراء بن عازب قال أنزل اللّه تبارك وتعالى ومن لم يحكم ومن لم يحكم ومن لم يحكم إلخ الآيات في الكفار كلها.
وقال العلماء إن الآيات المذكورات نزلت في الكفار وفيمن غير حكم اللّه من اليهود ومن ترك الحكم بكتاب اللّه ردا لكتاب
اللّه ، ومن يدل حكم اللّه وحكم بغيره عمدا مختارا فيخرج المخطئ والسّاهي والمكره ، ويفسق غير الجاحد ، وهذا هو الموافق لعموم الآيات ، فكان في الحديث الأوّل اقتصار ، وجاء التخصيص فيما أخرج أبو داود(6/334)
ج 6 ، ص : 335
عن ابن عباس أنها أي تلك الآيات في قريظة والنّضير خاصة.
قال تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرّسل «الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ» آل فيه للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرها «وَمُهَيْمِناً» شاهدا «عَلَيْهِ» أي الكتاب المذكور الدّاخل في معناه جميع الكتب الإلهية المنطوي على معانيها كافة ومما يدل على أن مهيمنا بمعنى شاهد ما قاله حسان :
إن الكتاب مهيمن لنبيّنا والحق يعرفه ذو الألباب
ويأتي بمعنى آمين أيضا وله معان أخر ذكرناها آخر سورة الحشر المارة «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ» يا سيد الرّسل أي بين أهل الكتاب إذا تخاصموا عندك عفوا من أنفسهم دون تكلف وطلب منك كما تحكم بين قومك «بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» عليك فيه «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» أي اليهود برجم الضّعيف وجلد القوي والشّريف إذا زنيا كما يدون بل أجر على كلّ أحد من المحصنين الرّجم مهما كان ، وإياك أن تنحرف «عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» في هذا الكتاب كما فعل اليهود ، وهذا الخطاب وإن كان موجها لحضرة الرّسول إلّا أنه مراد به غيره من الأمة كما سبق تنفيده في سورة الزمر الآية 65 ج 2 وغيرها هو ممائل لهذا ، لأن إيقاع أهواء اليهود وغيرهم محال عليه صلّى اللّه عليه وسلم ولكنه خاطبه به على طريق الإلهاب ليتعظ الغير به «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ» أيها اليهود والنّصارى والإسلام «شِرْعَةً» ترجعون إليها في أموركم الدّينية فيما بينكم وبين ربكم والدّنيوية فيما بينكم وبين غيركم من جميع النّاس على الإطلاق «وَمِنْهاجاً» طريقا واضحا نسلكونه في أحكامكم وأموركم يؤدي بكم للفوز والنّجاح في الدّنيا والآخرة ، فقد جعل اللّه تعالى التوراة والإنجيل والقرآن شرائع لخلقه أحل لهم ما شاء ، وحرم عليهم ما شاء ، وأمرهم بالعمل بها ليعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه ويظهر ذلك للناس لأنه جل جلاله عالم من قبل ، بما يقع منهم من طاعة وعصيان وكفر وإيمان ويعلم أن الدّين كله واحد وأصوله واحدة ، وهي التوحيد للّه وتصديق الرّسل والاعتراف بالمعاد ، وإن جميع الأديان السّماوية من لدن آدم إلى آخر الدّوران ترجع إلى هذه الأصول ، وإن طرق الرّسل واحدة وإرشادهم لهذه الأصول واحدة ودعوتهم واحدة لا تباين ولا(6/335)
ج 6 ، ص : 336
تخالف فيها ، لأن المرسل واحد ، قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ...) وقال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وأمر بعدم التفرق راجع الآيات 90 من الأنعام و13 و52 من الشّورى والمؤمنين في ج 2 و156 من الأعراف ج 1 و162 من النّساء المارة وما تشير إليها من المواقع ، وإن ما جاء على زعم من لا خلاق له من التباين هو في فروع الدّين لا في أصوله وأن اللّه تعالى له أن يتعبد عباده بما شاء لما شاء في كلّ وقت «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» على شريعة واحدة ودين واحد ، ونظير هذه الآية الآية 119 في سورة هود في ج 2 أي متفقين لا مختلفين «وَلكِنْ» لم يشأ ذلك ، وإنما جعلكم باختلاف وتفرق في أمر الدّين «لِيَبْلُوَكُمْ» يختبركم وليمتحنكم «فِي ما آتاكُمْ» من الشّرائع وتعبدكم بها بمقتضى حكمته فيها من الاختلاف في معالم الدّين وفروعه المتباينة تخفيفا ونثقيلا ليبين للناس المنقاد لأمره كيف كان من المعرض عنه وفق ما هو ثابت في أزله تعالى «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» يا أمة محمد بالأعمال الصّالحة المقربة إلى اللّه قبل انقضاء آجالكم لتنتهوا «إِلَى اللَّهِ» هو «مَرْجِعُكُمْ» ومصير جميع الخلق اليه «جَمِيعاً» إسلامكم ويهودكم ونصاراكم وكفاركم على اختلاف مللكم ونحلكم ويوم ترجعون إليه «فَيُنَبِّئُكُمْ» على رءوس الأشهاد في الموقف العظيم «بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (48) من الشّرائع وغيرها فيظهر إذ ذاك المحق من المبطل والموافق من المخالف والصّادق من الكاذب ظهورا مبينا لا شبهة فيه.
قال تعالى «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» عليك في هذا القرآن «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» بسائق شهواتهم النّفسية الرّديئة ذات المقاصد الدّنية «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ» بما يرجونه منك من اجراء ما لا يرضي اللّه مما يخالف أحكامه التي أنزلها إليك فيميلوك «عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ» فيحملوك على ترك العمل به أو بشىء منه مجاراة لأهوائهم الباطلة وهذا الخطاب لحضرة الرّسول على سبيل التوبة ويراد منه الزجر والرّدع للغير من أن يراجعوا حضرته بما يراه من الحق أو يطلبوا منه مراعاة بعضهم في الأحكام حسب مطامعهم العاطلة وآرائهم الباطلة ، لأنه صلّى اللّه عليه وسلم معصوم من الافتتان بالكلية ، (6/336)
ج 6 ، ص : 337
راجع الآية 74 من سورة الإسراء في ج 1 «فَإِنْ تَوَلَّوْا» واعرضوا عنك ولم يرضوا بحكمك الذي أنزله اللّه عليك وأمرك بالعمل به لنفسك وغيرك «فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ» وهو إرادتهم الحكم بغير ما أنزل اللّه فيعاقبهم عليها في الدّنيا كما عاقبهم على بعضها
قبل بالقتل والأسر والسّبي والجلاء «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ» (49) خارجون عن طاعتنا متجاوزون حدودنا.
هذا ولم يختم اللّه تعالى هذه الآية الخاصة بأمة محمد بما ختم به الآية في أمة موسى والآيتين في أمة عيسى لأمر أراده اللّه فله الحمد والشّكر.
ولا تكرار في هذه الآية أيضا ، لأن الأولى عدد 44 المارة كانت في مسألة الزنى ، وهذه في قضايا القصاص والجروح إذ راجع رؤساؤهم حضرة الرّسول وقالوا يا محمد قد عرفت بأنا سادات قومنا وأشرافهم وإنا إن اتبعناك اتبعك كلّ اليهود وان بيننا وبين النّاس خصومات نريد أن نتحاكم إليك فيها ، فإذا قضيت لنا عليهم آمنا بك وصدقناك ، لأن قتلانا أفضل من قتلاهم ، ولسنا سواء بالجروحات أيضا لأنها كانت بيننا على التضعيف ، وذلك أنه كان بنو النّضير إذا قتلوا رجلا من قريظة أعطوهم ديته سبعين وسقا من التمر ، وإن قتل بنو قريظة رجلا من النّضير أعطوهم مئة وأربعين ، وكذلك الجراحات ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إن القرض بالنضيري وفاء ، لا فضل لأحدكم على الآخر فنهضوا وقالوا لا نرضى بحكمك ، فنزلت هذه الآية قطعا لأطماعهم من أن يراجعوه في مثلها على سبيل المنع ليعلموا أن ما أوصى اللّه إليه من الحدود واجبة التطبيق على الشّريف والوضيع ، وإنه لا يزيغ عنه قيد شعرة ، وإنه يقيمه على كلّ أحد على السّواء على حدّ كلكم من آدم وآدم من التراب.
وانظر إلى قوله صلّى اللّه عليه وسلم لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ، راجع الآية 38 المارة.
قال تعالى ردّا عليهم وتقريعا بهم وتوبيخا لهم «أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ» منك يا سيد الرّسل وهو ظلم وجور وحيف ويعرضون عن حكم اللّه المسوي بين الكبير والصّغير القاضي بالإنصاف والانتصاف «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (50) أن لهم ربا عدلا ، ودينا قيما ، وحكما حقا ، كلا لا أحسن ولا أقوم ولا أصدق ولا أقسط من حكم اللّه ، كيف وهو الآمر(6/337)
ج 6 ، ص : 338
بالقسط ، فأعرض يا سيد الرّسل عن أمثال هؤلاء ولا تقبل مطالبهم الواهية ، ولا تصغ لأقوالهم المزيقة ، وأنت لست بحاجة إلى إسلامهم وولايتهم ، فأنا كافيك عنهم وعن كلّ من لا يوقن بك ، ولا يستسلم لحكمك.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ» لكم من دون اللّه فإنهم لا يصدقونكم في ولايتهم ولا يميلون إلى نصرتكم «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» لأن طريقتكم غير طريقتهم ، والبون بينكم شاسع ، فلا تتولوهم أبدا راجع الآيتين 28 و118 من آل عمران والآية 57 الآتية «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» بعد هذا المنع «فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» وليس منكم لرضائه بدينهم ومعاملتهم وأحكامهم المجحفة ، فيظلم نفسه مثلهم ، ويضل عن طريق الصّواب وسبل الهوى «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (51) أنفسهم وغيرهم.
كان المنافقون لضعف قلوبهم وقلة يقينهم وشدة تجنيهم يقولون فيما بينهم إذا اشتد الأمر على المؤمنين ودال عليهم الكفار نلحق باليهود ، فنأخذ أمانا منهم ويقول بعضهم إنا نلحق بالنصارى ونأخذ أمانا منهم كما وقع من أمثالهم في حادثة أحد المارة في الآية 122 من آل عمران وكما سيأتي في الآية 24 من سورة التوبة الآتية ، فأنزل اللّه هذه الآية ، ثم بين حال هؤلاء المنافقين بقوله «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» يريد المنافقين لخلو قلوبهم من الإيمان «يُسارِعُونَ فِيهِمْ» أي في مودة اليهود والنّصارى وموالاتهم عند بدر أيّ ضائقة عليهم «يَقُولُونَ» أولئك المنافقون وأشباههم «نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ» من دوائر الدّهر وحوادثه ، فيصيب الكافرون المؤمنين ويستولوا عليهم ، ولا يتم الأمر لمحمد فنغلب على أمرنا ، قال تعالى مخسئا لهم ومكبر رأيهم الفاسد وردا لما ينصرونه من الغلبة إذ وقعت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا كاليهود الّذين جبلوا على الجبن والبغضاء بينهم زيادة على الذلة والمسكنة راجع الآية 62 من البقرة المارة تقف على مثالبهم التي من جملتها ما مر في الآية 65 من الأعراف ج 1 ، وسيأتي بعد كثير منها في هذه السّورة والتي بعدها أكثر «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ» المطلق للبلاد والنّصر العام على الكافرين أجمع ، وإظهار دين اللّه في البرّ والبحر وإعلائه على سائر الأديان ونصرة المؤمنين على الخلق ، هذه(6/338)
ج 6 ، ص : 339
على القول بأن هذه الآية نزلت مع سورتها في محلها هذا وهو الأولى.
وقال بعض المفسرين أن المراد بالفتح هنا فتح مكة لأن هذه التفوهات وقعت من المنافقين قرب فتح مكة إذ كان حضرة الرّسول يعرض به لأنه كلما رجع من غزوة يعرض بالأخرى ليكون المؤمنون على أهبة الغزو دائما ، وعلى هذا القول تكون هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها ، وهي صالحة للقول بقيد نزولها في فتح مكة ، والقول الأوّل على التعميم فيصدق مفعولها على سائر الفتوحات ، وقد ذكرنا أن سبب النّزول قد يتقدم ويتأخر ويقارن الحادثة «أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ» بقتل هؤلاء المنافقين المرجفين وسبيهم وإجلائهم وكافة اليهود وقطع أملهم من الأراضي الحجازية «فَيُصْبِحُوا» هؤلاء المذمومون «عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ» من طلب موالاة الكفرة «نادِمِينَ» (52) ولا شك أن لفظ عسى من اللّه للتحقيق والكريم إذا أطمع في خير فعله ، وقد كان والحمد للّه وندم من ندم على ما أسرّ وأعلن من تلك التفوهات «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا» بعضهم لبعض أو لليهود على القول الآخر بعد إنجاز ما وعد اللّه من الفتح «أَ هؤُلاءِ» المنافقون «الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» كناية عن المبالغة في الحلف ليصدق المحلوف له أي إيمانا مكررة موثقة «إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» أيها المؤمنون على الكافرين أو أيها اليهود على المؤمنين وأنصاركم عليهم ، كيف أظهروا الميل إلى موالاة اليهود وهم قد عظموا الإيمان أنهم معكم.
وقال بعض المفسرين إنهم أجهدوا إيمانهم أن يكونوا مع اليهود كما حكى اللّه عنهم بقوله (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) الآية 21 من سورة الحشر المارة ، وعليه يكون المعنى أنهم لمعكم أيها اليهود بالموالاة ، وإنهم يرجون أن تكون لكم الدّولة ، ولم يفعلوا أيضا ما تعهدوا به إليهم ، لذلك «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» في شأن الموالاة على كلا القولين ، وبغتوا بما صنعوا من المساعي عند مشاهدتهم خيبة رجائهم وانعكاس ما تصوروه وترقبوه «فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» (53) الدنيا ، إذ لم يوفوا المؤمنين ما تعهدوا به لهم من النّصرة ، ولم تكن لليهود الّذين عاهدوهم على القتال دولة يلجأون إليها معهم.
والآية صالحة للمعنيين المذكورين ، والأوّل أولى لظاهر الخطاب في حقكم ، واللّه أعلم.
وخسروا الآخرة أيضا لأنهم(6/339)
ج 6 ، ص : 340
لم ينصحوا للّه ورسوله ، قال أبو موسى الأشعري لعمر بن الخطاب إن لي كاتبا نصرانيا ، فقال مالك وله قاتلك أما سمعت قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية 51 المارة ، ألا اتخذته حنيفا ، قال له دينه ولي كتابته ، فقال لا أكرمهم إذا أهانهم الله
، ولا أعزهم إذا أذلهم اللّه ، ولا أدينهم إذا أبعدهم اللّه ، قال له أبو موسى لا يتم أمر البصرة إلّا ، فقال له عمر رضي اللّه عنه مات النّصراني والسّلام أي هب أنه مات النّصراني فما تصنع بعد موته فاصنعه الآن ، واستغنى عنه بغيره ، وهذه الآية عامة في جميع المؤمنين السّابقين واللاحقين ، لأن خصوص السّبب لا يمنع عموم الحكم.
مطلب في الّذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرّسول وبعد واخبار الرّسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام :
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» إلى دين آخر ، فإنه لن يضر اللّه شيئا وإنما يضر نفسه «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ» بدلهم ثابتين على الإيمان «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» وهذه الآية من الأخبار بالغيب إذ كان في علم اللّه الأزلي إن أناسا بعد فقد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم يرجعون عن الإسلام ومنهم من يرتد عن دينه في زمنه ، فأعلمه اللّه بذلك قبل وقوعه ، ومن هؤلاء الأسود العنسي ذو المجاز رئيس بني مدلج إذ تنبأ باليمنو استولى على بلاده فيها وأخرج عمال رسول اللّه منها ، فكتب النّبي إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فيه ، فأهلكه اللّه تعالى على يد فيروز الدّيلمي ، وأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، بقتله قبل ورود خبره ، وقبض رسول اللّه في الغد وقد أتى خبر قتله آخر ربيع الأوّل سنة 11 من الهجرة بالوقت الذي ذكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهذه معجزة أيضا ، لأنه من الإخبار بالغيب ، وكذلك مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول اللّه أما بعد.
فإن الأرض مناصفة بيني وبينك ، فكتب له حضرة الرّسول إنها للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
وتنبأ طلحة بن خويلد رئيس بني أسد فبعث اليه صلّى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله وانهزم إلى الشّام ثم أسلم بعد ذلك.
ومن الّذين ارتدوا بعد وفاته صلّى اللّه عليه وسلم فزارة الّذين رأسهم عيينة بن حصن ، وغطفان الّذين(6/340)
ج 6 ، ص : 341
رأسهم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم الّذين رأسهم الفجاءة بن عبد ياليل ، وبنو يربوع الّذين رأسهم مالك بن نويرة اليربوعي ، وكندة الّذين رأسهم الأشعث بن قيس وبنو بكر قوم الخطيم بن زيد وقوم سجاح بنت المنذر من بني تميم التي ادعت النبوة وتزوجت بمسيلمة الكذاب ، وقد أهلكهم اللّه جميعا على يد خليفته أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه ، وقتل وحشي بن عدي قاتل الحمزة مسيلمة الكذاب ، فقال قتلت خير النّاس في الجاهلية يريد حمزة ، وشرهم في الإسلام يريد مسيلمة ، وهؤلاء الّذين يحبهم اللّه ويحبونه احياء من أهل اليمن من النّخع وكندة وبجيلة وغيرهم ممن دخل في الإسلام في خلافة أبي بكر وعمر الفاروق وجاهدوا في حرب القادسية.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا ، الإيمان يمان والحكمة يمانية.
ومن دخل في الإسلام بعد ذلك من فارس الّذين قال الرّسول فيهم لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس.
راجع الآية الثالثة من سورة الجمعة المارة ، وآخر سورة محمد عليه الصّلاة والسّلام أيضا.
ثم وصف اللّه جل شأنه هؤلاء بقوله «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» من شدة رحمتهم تراهم خافضي الجناح لهم متواضعين مترفقين فيهم مشفقين عليهم ، يعاملونهم باللين معاملة الوالد ولده «أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» غلاظ شداد عليهم مظهرين قوتهم وألفتهم عليهم كالأسد على فريسته «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مع إخوانهم المؤمنين من عادى اللّه ورسوله من الكافرين والمنافقين والموالين إليهم الّذين إذا أرادوا الخروج مع الرّسول خافوا مواليهم أن يلوموهم ، فلا يجاهدون معه خشية لومهم لضعف دينهم وعدم مبالاتهم به ، وهذه الآية تضاهي الآية الأخيرة من سورة الفتح المارة في المعنى فلا يبالون بهم «وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» ولا عذل عاذل في نصرة دينهم من أحد ما ، لأنهم أقوياء فيه حريصون عليه ، روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصّامت قال بايعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على السّمع والطّاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف باللّه لومة لائم.
ذلك الإيمان الخالص وقوة الجأش وشدة البأس هو «فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده ، (6/341)
ج 6 ، ص : 342
ويسلبه عمن يشاء من أهل عناده ، «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (54) بمن يستحق فضله فيهبه له من كرمه العميم.
فيا أيها المؤمنون الرّاسخون في الإيمان «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» الذينهم من حزب اللّه «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» المفروضين عليهم «وَهُمْ راكِعُونَ» (55) للّه ساجدون لهيبته «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» ويخلص لهما إخلاصا حقيقيا «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ 56» الفائزون بخيري الدّنيا والآخرة.
نزلت هذه لآية في عبادة بن الصّامت رضي اللّه عنه لمقالته الآنفة الذكر في عبد اللّه بن سلام حين قال يا رسول اللّه إن قومنا قريضة والنّضير هجرونا وأقسموا أن لا يجارونا ولا يجالوسنا.
وهي عامة في جميع المؤمنين المخلصين ، ولا وجه لقول من قال بتخصيصها في سيدنا علي كرم اللّه وجهه لأنها نزلت وهو راكع لأنه من جملة المؤمنين الموصوفين فيها وهو سيدهم.
واعلم أن مجموع حروف هذه الآية (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ) إلخ بحسب الجمل (1379) وتقدم أن آية الصّافات (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) إلخ أن مجموعها 1360 وآية المؤمن الأخيرة وهي (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) في ج 2 كذلك مجموعها 1360 فنسأل اللّه أن يجعل فتحا للاسلام وسبيلا إلى النّصر والتوفيق لهم ما بين هذين التاريخين ، وأن يتم لهم وحدتهم ويزيل عنهم أعداءهم ، ويجمع كلمتهم ، ويوفقهم لما له النّجاح والفلاح.
وقد بينا في تفسير هذه الآيات والآية 58 من المجادلة المارة التي مجموعها 1958 بحساب الميلادي ما يتعلق بهذا البحث فراجعها ، واسأل ربك أن يمحق كلمة الكفر ويكسر شوكتهم ، وأن يكون الأمر كله في الأرض لعباد اللّه الصّالحين ، وأن يطيل عمرنا مع حسن العمل وقوة الجوارح والاستغناء عن شرار النّاس ، حتى نرى أياما زاهرة بالإسلام عامرة بالإيمان قبل ذلك التاريخ وما ذلك على اللّه بعزيز.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» من اليهود والنّصارى «وَالْكُفَّارَ» عبدة الأوثان الّذين كفرهم أغلظ من كفر غيرهم «أَوْلِياءَ» لكم ونصراء وأحباء «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تفعلوا شيئا من ذلك أبدا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (57) باللّه(6/342)
ج 6 ، ص : 343
ورسوله إيمانا خالصا ، راجع الآية 51 المارة.
ثم ذكر بعض مساويهم فقال «وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» وأذنتم لاقامتها «اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً» استخفافا بدينكم «ذلِكَ» صدور الهزؤ واللّعب منهم على شعائركم ومناسككم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» (58) معنى الصّلاة والأذان ولا يفقهون المراد منها ولا يعلمون مكانة فاعلها عند اللّه لجهالتهم وسفههم.
نزلت الآية الأولى في سويد ابن الحارث ورفاعة بن سويد بن التابوت اليهودي ، لأنهما أظهرا الإسلام ووالاهما بعض المسلمين مع علمهم أنهما يبطنان الكفر ويظهران الإسلام استهزاء بهم ، فحذرهم اللّه من موالاتهم ، والثانية في اليهود الّذين يتضاحكون عند سماع الأذان ، ورجل
نصراني في المدينة كان إذا سمع الشّهادتين يقول حرق اللّه الكاذب ، فطارت عليه شرارة ذات ليلة من يد خادمه وهو نائم فأحرقته وأهله في بيته.
قال تعالى يا سيد الرّسل «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا» أي هل تجدون ما ينقم به علينا ويتكبر عليه من الأعمال والأقوال «إِلَّا» شيئا واحدا تزعمونه موجبا للنقمة وهو «أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ» على الأنبياء السّالفين ، وهذا مما لا ينكر عليه ولا يوجب الانتقام على حد قوله :
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم ينسى بهم أهليه والولدا
أي أن هذا ليس بعيب مما يستوجب الذم لينتقم من فاعله وإنما هو أمر جليل وفعل كريم يستوجب المدح والتعظيم ، ولهذا وصمهم اللّه بقوله عز قوله «وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» (59) خارجون عن منهج الصّواب متجاوزون الحد في الاعتدال ، وذلك أنهم سألوا حضرة الرّسول عمن يؤمن به من الرّسل فعد من آدم إلى عيسى ، فقالوا واللّه لا نؤمن بمن يؤمن بعيسى.
وإنما قال أكثركم لعلمه تعالى أنه يؤمن أناس منهم «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ» الذي نقمتم به علينا وأنكرتم نبوّته «مَثُوبَةً» أي عقوبة وقد وضعت المثوبة موضع العقوبة تهكما وتبكيا كما توضع البشارة موضع النّذارة قال تعالى فبشرهم بعذاب اليم الآية 8 من سورة الجاثية وعلى طريقة قول القائل(6/343)
ج 6 ، ص : 344
تحية بينكم ضرب وجيع «عِنْدَ اللَّهِ» هو «مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ» يعني أنتم أيها اليهود أشر النّاس إذ مسخ اللّه أسلافكم قردة وخنازير بسبب عدم طاعتهم أوامر اللّه ورسوله ، إذ نهاهم عن صيد السّمك يوم السّبت فاحتالوا وحفروا حياضا قريبة من السّاحل وشرعوا منها ساقية ، فصارت الأسماك تدخل إلى الحياض يوم السّبت حتى إذا امتلأت سدوها من جهة البحر وتركوا الأسماك فيها حتى إذا دخل يوم الأحد أخذوها من الأحواض وأكلوها ، فمسخهم اللّه تعالى عقوبة لاحتيالهم عليه «وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» منهم أيضا وهو العجل الذي صاغه لهم السّامري وقال لهم هذا الحكم الذي ذهب اليه موسى قد نسيه هنا وعكفوا على عبادته من دون اللّه الذي أنجاهم وأغرق أعداءهم على مرأى منهم ، ومنحهم النّعم العديدة ، راجع الآية 88 من سورة طه المارة في ج 1 والآية 156 فما بعدها من الأعراف أيضا «أُولئِكَ» الّذين فعل بهم المسخ هم «شَرٌّ مَكاناً» من غيرهم عند اللّه «وَأَضَلُّ» من سواهم «عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» (60) الطريق السّوي المستقيم التائهين في وسطه.
ولا يقال هنا إن الموصوفين بالدين الحق محكوم عليهم بالشر ، لأن الكلام خرج على حسب اعتقادهم لأنهم قبحهم اللّه حكموا بأن دين الإسلام بسبب اعتقاده بنبوة غيره ، عيسى عليه السلام الذي هو من أولي العزم شر ، ولم يعلموا أن عدم الإيمان به يستوجب عدم الإيمان بغيره من الأنبياء ، لأن اليهود أيضا ينكرون نبوة غيره ، كما أن النصارى كذلك ، وكلّ ذلك كفر وشر ، وهذا أشر بكثير من كلّ شر فيقال لهم إذا سلمنا جدلا أن الأمر كما تقولون فإن الأشربة كلها متمحضة بمن لعنه اللّه وغضب عليه إلخ ، فهؤلاء هم أشر مما تقولون على زعمكم الباطل لو فرض صحته فكيف وهو كذب وافتراء.
ثم التفت إلى فضح حال المنافقين الموالين لليهود الأشرار فقال عز قوله «وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا» عليكم حين مجيئهم متقمصين «بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا» متلبسين «بِهِ» أيضا كما دخلوا لم يعلق بقلوبهم شيء من الإيمان «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» (61) منه وما يظهرون.(6/344)
ج 6 ، ص : 345
مطلب في مثالب اليهود والتفرقة في الدّين وما ينشا عنها وأن تبليغ الرّسول مقصور على القرآن وأمره بترك حراسته :
«وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ» يا حبيبي «يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» من الكذب والظّلم والتهور والحيف وسائر أنواع الإثم واصناف العداء «وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» الرشوة في الأحكام وكلّ ما لا يحلّ تناوله يسارعون إليه واللّه انهم «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (62) من الجنايات والرّذائل «لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» أي هلا نهوهم عن ذلك وهو واجب عليهم منعهم عن تناوله وتعاطيه ولكنهم لم يفعلوا أيضا واللّه انهم «لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» (63) بسبب سكوتهم عن الحق وكتمهم إياه وإقرارهم البطل وعدم نهيهم عما نهى اللّه عنه بكتابهم.
قال ابن عباس ما في القرآن آية أشد توبيخا لعلماء اليهود من هذه الآية قال الضّحاك لا آية أخوف عندي منها يريد أن العالم إذا لم ينته دينه النّاس عن المعاصي يكون مثل هؤلاء يضلون أنفسهم وغيرهم.
قال تعالى «وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» عن الإنفاق على عباده أي أنه يبخل عليهم «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» لأعناقهم وهذه كلمة دعاء عليهم أي غلت أيديهم بالدنيا بالبخل ولذلك تراهم أبخل النّاس وفي الآخرة بالأغلال الحديدية والطّرد من رحمة اللّه الدّال عليه قوله «وَلُعِنُوا بِما قالُوا» على اللّه الجواد الكريم الواسع العطاء ، وهذا قريب من قولهم (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) في الآية 181 من آل عمران المارة قاتلهم اللّه وأخزاهم.
قال ابن عباس ان اللّه تعالى بسط على اليهود حتى صاروا أكثر النّاس أموالا فلمّا لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ضيّق عليهم إذ ذاك (ولما أصروا على ما هم عليه بسط اللّه عليهم الدّنيا فتراهم أكثر النّاس أموالا حتى الآن) فقال فنخاص الخبيث لما سمع كلام ابن عباس أرى يد اللّه مغلولة أي ينسب إليه البخل بسبب ذلك ، تعالى اللّه علوا كبيرا عنه وتنزه ، ولم ينكر عليه أحد من اليهود بل رضوا بمقالته القبيحة هذه ، فكأنهم قالوها كلهم ، فأنزل اللّه هذه الآية ردا عليهم ، أي قل لهم يا سيد الرّسل ليس الأمر كما تتهمون الحضرة الإلهية «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» كرما منه لأحبابه ورأفة وجودا على جميع خلقه بما فيهم أعداؤه ينزل لكل منهم(6/345)
ج 6 ، ص : 346
رزقه بنسبته وبمقتضى ما تراه حكمته «يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» على من يشاء ولا يصح هنا قول من قال إن معنى مغلولة مكفوفة عن العذاب إلّا بقدر تحلة القسم لمنافاته سياق الآية ولعدم ذكر ما يتعلق بالعذاب المشار إليه في قوله تعالى (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) الآية 80 من سورة البقرة المارة أي بقدر مدة عبادتهم العجل ، وهذا القول شبيه بقولهم هذا وكلاهما لا أصل له «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ» من اليهود ومن اقتفى أثرهم أو والاهم وسار على طريقتهم «ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهو القرآن الذي كذبوا به «طُغْياناً وَكُفْراً» لإقامتهم على البغي وتماديهم في الغي ، لأنهم كلما أنزلت آية كفروا بها فيزدادون كفرا على كفرهم ، وقد اغريناهم بعضهم على بعض «وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» بسبب اختلافهم بأمر الدّين ، لأنهم فرق كالنصارى ، منهم قدرية ، ومنهم جبرية ، ومنهم مشبهة ، وكذلك مع الأسف افترق المسلمون بعد عصر الخلفاء الرّاشدين فرقا كثيرة اسماعيلية ونصيرية ودرزية وشيعة ورافضة ومغفلة ويزيدية وغيرهم خلافا لما أمرهم اللّه راجع الآية 32 من سورة الرّوم في ج 2 وما ترشدانك إليه فنسأل اللّه أن يجمع شملهم ويوحد كلمتهم على الحق ، وهذا التفرق مصداقا لقوله صلّى اللّه عليه وسلم افترقت الأمم إلى اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النّار إلّا ما انا عليه وأصحابي.
وقد أشرنا إلى هذا في الآية 19 من سورة الحج المارة فراجعها.
ثم وصف اللّه تعالى أولئك اليهود بقوله عز قوله «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» أي انهم كلما حاربوا غلبوا ، وهكذا إلى الأبد إن شاء اللّه لم تقم لهم قائمة ، كيف وقد اخبر اللّه عنهم بقوله «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» الآية 62 من البقرة المارة وهي مكررة ، فتراهم كلما فسدوا بعث اللّه عليهم من يهلكهم ، فقد فسدوا قبلا فبعث اللّه عليهم بختنصر البابلي ، ثم رجعوا إلى اللّه ، حتى إذا كثروا ونعمرا أفسدوا ثانيا ، فبعث اللّه عليهم طيطوس الرّومي ، ثم رجعوا إلى اللّه حتى أنستهم نعمته ذكره أفسدوا أيضا ، فسلّط اللّه عليهم المجوس أي الفرس ، ثم أفسدوا وطغوا وبغوا وتعدوا واعتدوا فسلط اللّه عليهم
المؤمنين ، ثم أفسدوا فسلط اللّه عليهم هتلر الألماني فشتتهم(6/346)
ج 6 ، ص : 347
وأوقع بهم البلاء ، ولم يزالوا إنشاء اللّه تحت الرّق والعسف إلى يوم القيمة كيف وقد قال تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) الآية 167 من سورة الأعراف ج 1 فراجعها.
وإن هذا الزعيم الألماني بعد أن اطلع على سوء نيتهم وعدم رعايتهم المعروف لبلاده مع أنهم ساكنون فيها أباد كثيرا منهم ونفى وأجلى وسلب وقتل وشرد وشدد عليهم ، حتى إنهم صاروا يهاجرون مع الأسف إلى بلاد العرب إذ لا يحملهم أحد غيرهم لصفاء قلوبهم وتمسكهم بدينهم الموصي بمراعاة أهل الكتاب واحترامهم وصايا اللّه ورسوله بهم القائل ، لهم مالنا وعليهم ما علينا.
ولكنهم الآن ليسوا بأهل كتاب ولا يستحقون هذه المعاملة الحسنة لأنهم يتربصون بالمؤمنين الدّوائر ، وقد ساعدهم الإنكليز والأمير كان ففتحوا لهم طريق فلسطين وأباحوا لهم شراء الأملاك فيها فصاروا يشترون من الفقراء أراضيهم وكرومهم وحتى مساكنهم بأضعاف قيمتها حتى يطمعون الآخرين والأغنياء أيضا ، لا بارك اللّه فيمن يملكهم أو يساعدهم أن يمدهم ، لأنهم جرثومة فساد لا يطأون أرضا إلّا أفسدوها ، وقد أغروا شبان فلسطين حتى استردوا ما أخذوه من ثمن أملاكهم بواسطة عواهرهم وملاهيهم التي فتحوها لهم وخز عبلاتهم التي من طرق الفجور ، وسيلقون عليهم الويل والثبور بذلك ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه القائل «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» بالمكر والخديعة والغدر والغش والإغراء والحيل ، وهذا ديدنهم إلى الآن وإلى الآن وإلى أن يهلكهم اللّه «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (64) كافة من كلّ الأمم ومن لا يحبه اللّه يبغضه ، ومن يبغضه اللّه يا ويله.
قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ» يهودهم ونصاراهم لعموم اللّفظ «آمَنُوا» بمحمد وكتابه «وَاتَّقَوْا» اللّه وتركوا ما هم عليه وتمسكوا بدين محمد النّاسخ لدينهم وغيره من الأديان «لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» التي عملوها قبل ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ويمحو كلّ ذنب ويمحق وزره «وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (65) جزاء إيمانهم.
واعلم أن هذه الآية والتي بعدها على حد قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) الآية 96 من الأعراف ج 1 فراجعها «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» وعملوا بما فيهما ونفذوا أحكامهما «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ»(6/347)
ج 6 ، ص : 348
على أشعيا وأرميا وداود وغيرهم «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ» من ثمار الأشجار المظللة عليهم كالنخل والعنب والزيتون والرّمان وغيرهما «وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» من الزروع والحبوب والخضر وغيرها وذلك بإنزال الغيث وجعل البركة فيه توسعة لأرزاقهم ، لأن من مقتضى الإيمان بتلك الكتب ومن أنزلت عليهم الإيمان بالقرآن ، ومن أنزل عليه لأنها تأمر بذلك.
واعلموا أيها النّاس أن أهل الكتابين ليسوا سواء «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ» غير مغالية ولا معاندة ولا مخاصمة قد تذعن للحق وتسلم «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ» على العكس فقد «ساءَ ما يَعْمَلُونَ» (66) من كتم الحق وإظهار الباطل والعناد والغلو والتكذيب والافتراء والبهتان قبلا وحالا ومستقبلا ، إذ لا يرجى منهم الخير.
تفيد هذه الآية أن طاعة اللّه ورسوله والعمل بما جاء عنهما سبب لسعة الرّزق بدلالة آية الأعراف الآنفة الذكر في هذه الآية المفسرة وآية نوح عليه السّلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) الآية 11 فما بعدها وقوله تعالى (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) الآية 15 من سورة الجن في ج 2 ، هذا ولا يقال هنا إن كثيرا من المطيعين فقراء ، لأنا لا نعلم حقيقة طاعتهم ولا صحة فقرهم فكم من فقير بلباس غني وغني بلباس فقير ، وقد اتضح لنا أن كثيرا من هذين الصنفين على غير ظاهرهما ، وإذا كان يوجد شيء من ذلك ، فاعلم أن اللّه تعالى يعطي كلّا بحسبه ومقتضى حكمته ، فكم من غني أفسده غناه ، وفقير أكفره فقره ، ولو اطلعتم على الغيب أيها النّاس لاخترتم الواقع لأنكم لا تعلمون ما هو مقدر عليكم من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلّا اللّه ، فرب غني يتمنى أن يكون أفقر النّاس ، ولا يكون بما هو عليه من المصائب ، وكم من فقير لا يصلحه إلّا الفقر فاحمدوا اللّه واسألوه العافية واشكروه على ما هداكم اليه وأقامكم فيه ومنّ به عليكم تنجحوا وتفوزوا ، وقد جاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا أصبحت معافى في بدنك آمنا في سربك عندك قوت يومك فعلى الدّنيا العفا.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» واجهر به ولا ترعو من أحد ، فاصدع بما آتيتك ولا تترك شيئا من الوحي أبدا «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ» ما أمرت به كله(6/348)
ج 6 ، ص : 349
وأبلغته لأمتك إذا «فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» حق تبليغها ، لأن من كتم شيئا فكأنما كتم الكلّ ، فداوم على التبليغ ولا تخش أحدا مهما كانت قوته ومكانته «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» ويحفظك ويمنعك من أن يصل إليك أذاهم.
والمراد بالناس هنا الكفرة لأنهم هم الّذين كانوا يريدون قتله ليتخلصوا منه ، وهو إنما جاء لخيرهم رحمة لهم ونعمة عليهم وهم كثيرو الأذى عليه في القول والفعل وهو يقول اللّهم اهدهم فإنهم لا يعلمون وذلك بسائق شدة عداوتهم له ولذلك لم يهتدوا إلى ما جاءهم به من الحق «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» (67) لإنزال أي أذى فيك ويعمي أبصارهم من أن ينالوك بسوء كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا دعا اليهود إلى الإسلام يستهزئون به ويقولون تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النّصارى عيسى.
يريدون إلها ، راجع الآية 13 من سورة مريم ج 1 فيسكت عن دعوتهم ، وإذا أمر المنافقين بالجهاد وكرهوه أمسك عن أمرهم ، وإذا سأله اليهود عن بعض الأحكام أحجم عن اجابتهم لعلمه أن سؤالهم عبارة عن تعنت ومكابرة فيضيق ذرعه من ذلك ويحجم عن إبلاغهم بعض الآيات لعدم ميلهم إليها ، فشجعه اللّه في هذه الآية وأمره بلزوم تبليغهم ما يتلقاه من الوحي كله سمعوا له أو أعرضوا عنه وأن لا يبالي بما يراه من الصّدود والسخرية ، وأعلمه بأنه هو الكفيل لحضرته من أذاهم وفقا لما هو مدون في لوحه المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير يقال إن حضرة الرّسول لما أوذي من قبل الكفار وشجّ وكسرت رباعيته في حادثة أحد نزلت عليه هذه الآية تشجيعا له مما أصابه ، لأن هذه الآية بعد تلك الحادثة بسنتين ، وسورة المائدة هذه من آخر القرآن نزولا ، ولم تكن هذه الآية مسنثناة منها ، إذ لم يقل بذلك أحد يعتد بقوله ، ولا يوجد نقل صحيح فيه ، ولا خبر واحد عدل أيضا ، فهو قول واه وإن الإمام فخر الدّين الرّازي ذكر في تفسيرها عشرة آخرها أنها نزلت في فضل علي كرم اللّه وجهه ، وعند نزولها أخد صلّى اللّه عليه وسلم بيده وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فلقبه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال : هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وهذا قول ابن عباس والبراء ومحمد بن علي رضي اللّه عنهم.
تدل هذه(6/349)