ج 4 ، ص : 477
مطبقا عليه ، وإذا فقد الطاقة قال ضاق ذرعي وذراعي ويدي ، لأن الأصل في هذا إذا كانت يد الرجل طائلة نال ما لا يناله قصير اليد أي الذراع فصار مثلا بالعجز كما كان لفظ رحب مثلا للقدرة.
فلما عرفت الملائكة ذلك منه لما غشى وجهه من الحزن والكآبة عرفوه بأنفسهم كما مر في الآية 80 من سورة هود المارة «وَقالُوا لا تَخَفْ» علينا منهم «وَلا تَحْزَنْ» على ما نفعله بهم «إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» 33 لأنها منهم وراضية بفعلهم ، فانزاح عن وجهه الاكفهرار وقال ماذا تفعلون بهؤلاء الفسقة العتاة ؟ قالوا «إِنَّا مُنْزِلُونَ» بامر ربنا «عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً» عذابا عظيما لم يحلموا به «مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» 34 ويتجاوزون حدود اللّه ويخرجون عن طاعة رسوله ويتعدون ما أحل إليهم لما حرم عليهم ، فخسف اللّه بهم وبقراهم ورجموا بالحجارة ، كما سبق بيانه في القصة.
واعلم ان الضمائر في هذه الآيات وإن كانت مضافة للملائكة فهي في الحقيقة إلى اللّه لأنهم جاءوا بأمره ، وفعلوا بأمره ، وهو الفاعل الحقيقي كل شيء قال تعالى «وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها» في قراهم بعد تدميرها «آيَةً بَيِّنَةً» يراها من يمر بها لتكون عظة «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 35 إن خرابها كان بسبب فسق أهلها ، وذلك بعد أن أمروا لوطا وأهله بالهجرة عنها.
مطلب تحريم اللواطة وجزاء فاهلها ومخازي قوم لوط والهجرة الشريفة لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
واعلم أن في هذه الآيات من ذم اللواطة ما لا يخفى فهي كبيرة إجماعا ، وقد نصوا على انها أشد من الزنا حرمة ، وجاء في شرح المشارق للأكمل أنها محرمة شرعا وعقلا وطبا ، وإن عدم وجود الحد عليها تغليظا لأن الحد مطهر ، وهي لخبثها لا يطهرها الحد ، إذ لو كان لجعل لها الشارع حدا كالزنى والسرقة والشرب وغيره ، ولذلك فإنها مستقبحة مستقذرة ، وقد طهر اللّه الجنة من وجودها بل ورودها على خواطر أهلها المطهرين ، وذلك ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لعنها ولعن فاعلها وشريكه فيها ، واللّه استبعدها بقوله (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) الآية 80(4/477)
ج 4 ، ص : 478
من الأعراف في جزء 1 وسماها خبيثة بقوله (كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) الآية 75 من الأنبياء المارة وسماها هنا فاحشة ، فالجنة منزهة عنها ، وأهلها مبرءون منها ، ولا يرد على هذا خبث الخمر في الدنيا ووجودها في الآخرة ، لأن خبثها في الدنيا ناشيء عن إزالتها العقل الذي هو عقال عن كل خبث ، وخمر الآخرة لا يزيله ، قال تعالى (لا فِيها غَوْلٌ) الآية 49 من الصافات المارة ، وجاء في الفتوحات المكية أن أهل الجنة لا أدبار لهم ، لأن الدبر إنما خلق لخروج الفضلات منه في الدنيا ، ولا فضلات في الجنة.
وعلى هذا فعدم وجودها في الجنة ظاهر طبعا ، ولا أظن أن ذا غيرة ومروءة تسمح نفسه أن يلاط فيه في الدنيا وهي دار فسق فكيف تتصوره نفسه في الجنة ؟ وقدمنا في الآية 84 من سورة الأعراف في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث ، وفي الآية 73 من الزخرف المارة بيان مضار هذه الفعلة القبيحة وما يستحقه فاعلها وما جاء في حقه من الآيات والأحاديث وأقوال الفقهاء فراجعها.
قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» أي اذكر لقومك يا محمد بعد هذه القصص الثلاث قصته إذ أرسلناه كما أرسلنا من قبله ومن بعده «فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده واتركوا الأوثان «وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ» اعتقدوا صحته وتوقعوا حلوله «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» 36 حال مؤكدة لأن العثو هو الفساد «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» الحاصلة من هول صيحة الملك «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» 37 على ركبهم باركين خامدين ، أجساد بلا أرواح.
راجع الآية 93 من الأعراف ج 1 تقف على قصتهم «وَعاداً وَثَمُودَ» أهلكناهم أيضا لتكذيبهم أنبياءهم هودا وصالحا «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ» يا قوم محمد «مِنْ مَساكِنِهِمْ» في الحجر واليمن تشاهدونها بأسفاركم ، ففيهما مزدجر وعبرة وعظة لمن يعقل.
ثم أشار تعالى إلى سبب إهلاكهم بقوله «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» الرديئة وعدم إنصاف ذوي الحقوق «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» الحق بانخداعهم لوساوسه «وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» 38 ذوي بصر وبصيرة لما عملوه في الدنيا من البناء والجنان والصنايع وغيرها ولكن لم ينتفعوا ببصيرتهم وأبصارهم ، لأنهم صرفوها للدنيا فقط لذلك لم يصغوا لنصح أنبيائهم ، راجع قصتهما في الآيتين 72/ 84(4/478)
ج 4 ، ص : 479
من الأعراف في ج 1 أيضا «وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ» أهلكناهم أيضا لإصرارهم على بغيهم وعتوهم «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ» 39 أمرنا ولا منفلتين منه ، بل أدركهم وأهلهم جميعا ، راجع قصصهم في الآية 84/ 63 من سورة القصص والشعراء في ج 1 ، «فَكُلًّا» من هؤلاء الأقوام «أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً» كقوم لوط بعد الخسف «وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ» كقوم صالح «وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ» كقارون ورفيقه «وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» كقوم نوح وهامان وفرعون وقومه «وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بما أوقعه فيهم حاشاه «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 40 لعدم طاعتهم رسلهم واستعمال عقولهم فيما لم تخلق له.
هذا ، واعلم أن اللّه تعالى قصّ على نبيه في هذه الآيات ما لقيه الأنبياء من أقوامهم وما قابلوهم به إعلاما بأن شأنه شأنهم وشأن أقوامهم ، وإيذانا بأن النبي يصاحب قومه إذا آمنوا به ويهجرهم إذا كذبوه لينزل بهم عذاب اللّه ، لأن قدرة اللّه ورحمته أبتا أن تعذب قوما ونبيهم بينهم ، وقد أخبر اللّه جل شأنه حبيبه محمدا كيفية مهاجرة إبراهيم ولوط وغيرهما بسبب ما لقيا من أقوامهما وذكر له ما وقع لسائر الأنبياء من أقوامهم اشارة لحضرته بأن يهاجر هو أيضا وبترك قومه ووطنه أسوة بهم ، وقد أشار تعالى إلى السبب المفضي إلى الهجرة في الآيتين 6/ 36 من الأنفال الآتية في ج 3 ، حتى إذا هاجر ونزلت عليه يزداد طمأنينة ، وبما أن هجرته صلّى اللّه عليه وسلم وقعت بعد نزول هذه السورة بقليل بناء على أمره له بها فتذكر خلاصتها على أصح ما جاء فيها بصورة مختصرة ، وذلك أن قريشا لما رأت حزم النبي صلّى اللّه عليه وسلم وعزمه يشتد كلما زادوا بأذاهم له ولأصحابه خافت من أن يعظم أمره إذا تركوه وشأنه ولا يستطيعون رده (وقد حقق اللّه خوفهم) فاجتمع رؤساء قريش في دار الندوة دار قصي بن كلاب إذ كانت قريش لا تبت بأمر إلا فيها ليتشاوروا في أمر محمد ، إذ علموا أن فريقا من أصحابه هاجر إلى المدينة بعد أن هاجر فريق منهم إلى الحبشة وصار لهم شيعة من غيرهم وأصابوا من أهلها منعة مما زاد في حذرهم ، وقد أطلقوا على اليوم الذي اجتمعوا فيه لهذا(4/479)
ج 4 ، ص : 480
(يوم الرّحمة) وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأبو سفيان وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام ومنبهة ومندة ابنا الحجاج وأمية بن خلف ، وقد تمثل لهم إبليس في صورة شيخ فتغلغل بينهم ، قالوا من أنت ؟ قال من نجد سمعت باجتماعكم فأحببت حضوره ولن تعدموا مني نصحا ، فتركوه نظرا لشيخوخته لعنه اللّه ، وكانوا لا يحضرون مذاكراتهم إلا من تجاوز الأربعين ، ثم بدأوا المشاورة في كيفية التخلص منه صلّى اللّه عليه وسلم (وقد جاءهم رحمة) فأدلى كل منهم برأيه ، فكان رأي أبو البحتري حبسه حتى يموت ، فرد عليه النجدي بأنكم إذا حبستموه يخرج أسره من وراء الباب ويخلص منكم بواسطة أصحابه ، ورأى هشام أن يحمل على بعير ويطرد من البلاد ، فقال النجدي إنه يفسد غيركم كما أفسدكم ويستميل
قلوب من يحل بهم بحلاوة كلامه وطلاوة لسانه وحسن خلقه وكمال أدبه فيغزوكم بغيركم ويخرجكم من دياركم ، وقال أبو جهل نأخذ من كل بطن من قريش شابا وتسلطهم عليه فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في العشائر كلها ولا أظن أن بني هاشم يقدرون على حرب كل القبائل فيصار إلى الدية فنوديه كلنا ، قصاح الملعون هذا هو واللّه الرأي الصائب الذي ما بعده رأي ، وللّه در صاحبه ، فأجمعوا على ذلك وتفرقوا.
كان الشيخ محمد الراوي العاني والد الشيخ إبراهيم نزيل بغداد قدس اللّه سرهم من العارفين الكاملين ، وكان أحد مريدي ابن عمه الشيخ أحمد الراوي دفين دير الزور والد الشيخ عبد الوهاب المقيم بدير الزور يسمى (وردي) وكان يرى ما يرى ويذكر ما يراه للناس مما هو غير معقول ، فأحضرة عند حضوره إلى دير الزور وحذره أن يذكر ما يراه فلعله أن يكون من تسويلات إبليس عليه اللعنة ، ثم أرسل له بعد ذهابه أبياتا من جملتها :
قولوا لملاوردي سرّ الوجود عندي
فليكن على بصيرة من الشويخ النجدي
(لقبه بالنجدي أخذا من هذه القصة).
ثم انهم انتخبوا شبابا من فرقهم وأخبروهم بما قر رأيهم عليه وأرسلوهم ليحيطوا بدار محمد ، حتى إذا خرج فتكوا به كلهم بالاشتراك ، فنزل جبريل عليه السلام بالوحي على حضرة الرسول وأخبره بما بيته له قومه وأن(4/480)
ج 4 ، ص : 481
اللّه تعالى أذن له بالهجرة إلى المدينة وحذره من أن يبيت في مكانه ، فألهمه اللّه أن يأخذ قبضة من تراب عند خروجه ، فأخذها وخرج من بيته متوكلا على ربه ، ومر من بينهم فلم يره أحد منهم ، إذ أخذ اللّه أبصارهم ، فنثر على رءوسهم التراب وكان يقرأ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ.
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الآيتين 8/ 9 من سورة يس ج 1 ، وكان أرسل إلى علي كرم اللّه وجهه وأخبره الخبر وخلفه بمكانه وعلى مكة كي يؤدي الأمانات والودائع لأهلها ، لأن الناس كانت تأمنه على ما عندها لصدقه وأمانته وتسميه الأمين ، وذهب إلى بيت أبي بكر وأخبره الخبر ، فقال الرفقة يا رسول اللّه ، قال نعم ، فأخذه وذهب إلى الغار غار ثور واختبأ به ، وبات شبان قريش ينتظرون خروجه من الدار ليقتلوه ، لأنهم لم يتجاسروا على الدخول عليه في بيته لهيبته ، ولأن البيوت كانت محترمة عندهم ، ومن هنا أخذت قاعدة عدم الدخول على البيوت لإخراج من يختبىء فيها من المجرمين حرمة لأهلها وجواز الإحاطة بها من قبل الشرطة والدرك ، ولم يعلموا أنهم باتوا يحرسون عليا عليه السلام الذي فادى رسول اللّه بنفسه ، فلما أصبحوا خرج علي فثاروا عليه ثورة رجل واحد ليقتلوه كما أوصاهم رؤساهم ، فإذا هو علي ، فقالوا له أين صاحبك ؟ قال لا أدري وأنشد كرم اللّه وجهه يشير إلى ما منّ اللّه به عليه ، فقال لا فضّ قوه :
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول اللّه في الغار آمنا وقد سار في حفظ الإله وفي ستر
وبت أداعبهم وما يتهمونني وقد وطنت نفسي على القتل والأصر
ولما سقط في أيديهم وتيقنوا أنهم خابوا فيما بيّتوه له ولم يعلموا كيف أفلت منهم وزاد أساهم حينما رأوا التراب على رءوسهم وعرفوا أنه هو الذي حثاه عليهم وأنه لم يعبأ بهم ولم يكترث بمكرهم اقتفوا أثره فلم يجدوه ولم يقعوا على خبره ، وأرسلوا الرسل في طلبه يمينا وشمالا فلم يعثروا عليه ، ثم قصدوا الغار فرأوا العنكبوت معشعشا عليه فقالوا لو دخله لتمزق نسيج العنكبوت.
وسنأتي على بقية هذه القصة(4/481)
ج 4 ، ص : 482
الشريفة بعد تفسير سورة المطففين الآتية لأن محلها هناك ، وإنما سبقنا بذكرها هنا لمناسة ذكر الهجرة من إخوانه الأنبياء المار ذكرهم.
قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» ينصرونهم في الدنيا ويشفعون لهم في الآخرة «كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً» لتأوي إليه وهو في غاية الضعف والوهاء لا يدفع حرا ولا بردا ، وإنما اتخذتها شركا لصيد الذباب وشبهه «وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 41 ماهيته ، لأن الرياح تمزقه واللمس يخرقه ، وكذلك هؤلاء الذين اتخذوا الأصنام آلهة فإنها لا تغنيهم شيئا ولا تجلب لهم في الدنيا خيرا ولا تدفع عنهم في الآخرة ضرا ، لأنها أو هى شيء يعبد ، وأوهن شيء يقصد ، وفي هذه إشارة إلى أن هذه الدنيا فانية ويكفي فيها لا هلها ما يكفي العنكبوت ، وإيذان بأن من أصحابه من يلافي في هجرته شدة وعلة وأذى وهوانا ، وهذا مثل ضربه اللّه للمشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد اللّه مثل عنكبوت يتخذ بيتا من جلده ولعابه بالإضافة إلى رجل يبني بيتا من حجر أو حديد أو اسمنت ، وكما انك إذا استقريت بيوت الحيوانات والحشرات كافة تجد أوهنها من غير شك بيت العنكبوت فكذلك إذا استقريت عامة الأديان تجد بلا مراء أضعفها عبادة الأوثان.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ» هذا توكيد للمثل أي أن الذين يدعونهم ليسوا بشيء «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ» 42 بكل شيء.
وفي هذه الجملة تجهيل لهم إذ عبدوا الأحجار التي لا علم لها ولا قدرة وتركوا عبادة القادر العالم ، وتضليل لعقولهم على ترك عبادة الخالق الرازق وعبادة المخلوقين ومخلوقيهم الذي هو لا شيء «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ» التي ضربناها بتشبيه أحوال الكفرة الموجودين بالكفرة السابقين ومعبوديهم في بيت العنكبوت بينها و«نَضْرِبُها لِلنَّاسِ» الحاضرين ليتدبروها ويتصفوا بها «وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» 43 العارفون لأنهم أهل النظر والتدبر راجع الآية 42 من سورة الروم المارة روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد اللّه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم تلا هذه الآية وقال العالم من عقل عن اللّه فعمل بطاعته واجتنب سخطه.(4/482)
ج 4 ، ص : 483
مطلب في العنكبوت وأنواع العبادة والصلاة وفوائدها والذكر
.
قالوا والمراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء لصيد الذباب وغيره ، لا النوع الآخر الذي يحفر بيته في الأرض ويخرج بالليل كسائر الهوام وهي من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك ، لما أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلّى اللّه عليه وسلم : العنكبوت شيطان مسخها اللّه تعالى ، فمن وجدها فليقتلها.
فإنه حديث ضعيف كما أشار إليه الدميري وهو ليس بحجة ، وكذلك ما خرجه الخطيب عن علي كرم اللّه وجهه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم دخلت أنا وأبو بكر العار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن.
كما ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور لا يحتج به أيضا ، إذ لم تعلم صحته ، وكل ما لم تتحقق صحته لا يصلح للاحتجاج لاشتراط القطع بصحة ما يحتج به في الأحكام القولية والعقلية ، وعلى فرض صحته فإنه خاص بذلك العنكبوت الذي فعل ما فعل بإلهام من اللّه عز وجل لا مطلق عنكبوت ، وقد نص العلماء على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها ، والأصل في الأشياء الطهارة على أن الدميري ذكر أنها تخرجه من خارج جلدها لا من جوفها ، واللّه أعلم بحقيقة الحال.
ومثله النحل إذ لم يعرف على الضبط أن العسل هل هو من فمه أو من دبره ، راجع الآية 69 من سورته المارة ، وذكروا أنه يحسن إزالة بيتها من البيوت لما أسنده الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي كرم اللّه وجهه أنه قال طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر ، فإن صح هذا عنه فذاك وإلا فإزالته حسنة لما فيها من النظافة المندوبة شرعا في كل شيء.
وتاء عنكبوت مثل تاء طالوت وهاروت للمبالغة ويقع على الواحد والجمع والمؤنث والمذكر ، راجع الآية 75 من سورة الأنعام المارة ولها بحث في الآيتين 147/ 122 من سورة البقرة في ج 3.
قال تعالى «خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لا باطلا ولا عبثا ولا لعبا بل لحكمة مراعيا بها مصالح خلقه لا شتمالها على ما يتعلق بمعاشهم وشواهد دالة على شؤونه عز وجل التعلقة بذاته وصفاته ومساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم بدليل قوله «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخلق البديع والصنع العجيب «لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» 44 وعظة للموقنين ، وإنما خص(4/483)
ج 4 ، ص : 484
المؤمنين مع أن عموم الهداية والإرشاد في خلقهما يتحقق للكل ، لأنهم هم المنتفعون بعبرها وغير المؤمن يقتصر نفعه فيهما على ظاهر الدنيا وقد يزداد كفرا إذا نسب إليهما التأثير الفعلي الذاتي ، أما المؤمن فيزداد إيمانا بنسبة كل ما في الكون إلى خالقه فينتفع في الدنيا والآخرة.
قال تعالى «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» واستمر على تبليغه وداوم على تلاوته لتزداد تقربا من اللّه ، وذلك أن الكامل يقبل الكمال وهو صلّى اللّه عليه وسلم يترقى في الكمالات إلى يوم القيامة ، بل إلى يوم يلاقي ربه في الجنة المعدة لحضرته ، فلا يقال إنه غير محتاج إلى دعاء أمته لمخالفته قوله تعالى (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الآية 57 من الأحزاب في ج 3 ، وأما أمره بدوام تلاوة القرآن لأن في تلاوته تذكرا لما في تضاعيفه من المعاني ، وحملا للأمة على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن.
الأخلاق ومكارم الآداب ، وتذكيرهم بما لهم وعليهم «وَأَقِمِ الصَّلاةَ» أدأب على إقامتها ، وجاء هذا الأمر متضمنا أمر أمته بها لأنهم تبع له ، وقد خصّها بالذكر لأن ما يختص بالعبد من العبادة ثلاث : الأولى عبادة قلبية وهي الاعتقاد الحق ، وعبادة لسانية وهي الذكر الحسن ، وبدنية وهي العمل الصالح ، فالاعتقاد لا يتكرر لأن من اعتقد شيئا لا يعتقده مرة أخرى بل يستمر اعتقاده ، والذكر الحسن والعبادة البدنية يتكرران ، وكلها توجد في الصلاة ، فمن أقامها فقد أقام العبادات بأنواعها إلى ربه عز وجل.
وانظر إلى ما علل به هذه العبادة بقوله الجليل «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» راجع الآية 32 من الأعراف في ج 1 تجد معنى الفواحش كلها وما يتعلق بها أما المنكر فهو ما لا يعرف في الشرع وينكره العقل ، وإنما كانت الصلاة الحقيقية ناهية عن ذلك لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والتهليل والقراءة والوقوف بين يدي الإله العظيم والركوع لهيبته والسجود لجلاله والخشوع لمجده والخضوع لكبريائه ، فمن كان مراعيا لها محافظا على شروطها وأركانها
جرته إلى طرق الخير ونهته عن كل فاحشة ومنكر ، وصارت كأنها تنادي فاعلها : لا تعص ربا هو أهل لما أتيت به ، وهو المستحق لأن يعبد ويشكر.
روي عن أنس قال : كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثم لم يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه ، (4/484)
ج 4 ، ص : 485
فذكر ذلك لرسول اللّه ، فقال إن صلاته ستنهاه يوما ، فلم يلبث أن تاب وحسنت توبته واستقام حاله.
وقال ابن مسعود وابن عباس رضي اللّه عنهما : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي اللّه ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم تزده صلاته من اللّه إلا بعدا.
وقال الحسن وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه.
وروي عن جابر : قال رجل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق ، قال ستنهاه قراءته ، وفي رواية :
انه قيل يا رسول اللّه إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال إن صلاته لتردعه على كل حال.
وعليه فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها.
وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو إنا نرى كثيرا من المرتكبين الفحشاء والمنكر يصلّون ولا ينتهون لأن منهم من هو غافل عما يراد منه حال قيامه بين يدي ربه لاه عن ذلك ، فيكون بالمعنى المار ذكره ، ألا ترى أن اللّه تعالى قال (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) الآية 90 من سورة النحل المارة والناس لم يتمثلوا ولم ينتهوا ، وليس نهي الصلاة بأعظم من نهي اللّه ، تدبر.
وقيل إن الأمر والنهي لا يستلزمان الائتمار والانتهاء.
وقيل إن النهي لا يستلزم الانتهاء ، وهذا توهم باطل وتخيل عاطل ، لا يشهد له العقل ، ولا يؤيده النقل ، وما قيل إن نهي الصلاة عبارة عن الزمن الذي يشغله المصلي فيها لما ورد ان في الصلاة لشغلا ليس بشيء أيضا ، وما جاء بالخبر ان في الصلاة لشغلا عن كل ما يلهي عنها وعن كل ما في الدنيا بالنسبة لحالة المصلي لأن منهم من إذا دخل في الصلاة تمخضت ذاته لخالفها بحيث لو ضربته بالسيف لما أحسّ ، ومنهم من لا تحسبه في الصلاة ، كما جاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم أن الرجل إذا لم يتم سجودها ولا ركوعها تلف صلاته كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها ، فتقول له ضيعك اللّه كما ضيعتني.
والقول الفصل ان الصلاة المقبولة عند اللّه تعالى هي التي تنهى صاحبها ، والانتهاء علامة القبولة ، وان من يأتي بها ولا ينتهي فلو لم يكن يصلي لكان أشدّ إتيانا للفحشاء وأكثر فعلا للمنكر ، والمراد بالصلاة هنا المكتوبة ، راجع الآية 5 من سورة المؤمنين المارة ، «وَلَذِكْرُ اللَّهِ(4/485)
ج 4 ، ص : 486
أَكْبَرُ»
من جميع الطاعات ، وأفضل وأعظم ثوابا وأكثر أجرا ، روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سبق المفردون (بتشديد الراء وتخفيفها) يقال فرد الرجل إذا تفقه واعتزل الناس وحده.
وقرىء بالتخفيف والتشديد أبلغ وأتم ، قالوا وما المفردون يا رسول اللّه ؟ قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات.
وروى البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال :
لا يقعد قوم يذكرون اللّه تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم اللّه فيمن عنده.
وروي أن أعرابيا قال يا رسول اللّه أي الأعمال أفضل ؟ قال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر اللّه.
وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : معنى (ولذكر اللّه أكبر) ذكر اللّه إياكم أفضل من ذكركم إياه.
وروي مرفوعا عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهذا مما لا شبهة فيه لأن اللّه يذكر من ذكره قال تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) الآية 152 من البقرة في ج 3 ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : من ذكرني ذكرته في ملا خير من ملائه.
وقال ابن عطاء :
ذكر اللّه لكم أكبر من ذكركم له ، لأن ذكره بلا علة ، وذكركم مشوب بالعلل والأماني ، ولأن ذكره لا يفنى ، وذكركم لا يبقى ، ولن تبقى مع ذكر اللّه معصية.
وقال سلمان ذكر اللّه أكبر من كل شيء وأفضل ، فقد قال عليه الصلاة والسلام ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها لكم عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا وما ذاك يا رسول اللّه ؟ قال ذكر اللّه.
وأخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء بلفظه ومعناه.
وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل ، قال : ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه تعالى ، قالوا ولا الجهاد في سبيل اللّه ؟ قال ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع.
لأن اللّه تعالى يقول (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) ، وهذا لأنه لو لم يذكر اللّه لم يعرف فضل الجهاد ، فذكر اللّه هو السائق للجهاد ولكل عمل صالح.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الإيمان عن عزة قال : قلت لابن عباس رضي اللّه عنهما أي العمل أفضل ؟ قال ذكر اللّه أكبر ، وما قعد قوم في(4/486)
ج 4 ، ص : 487
بيت من بيوت اللّه تعالى يدرسون كتاب اللّه ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف اللّه تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره ، وما سلك رجل طريقاجل قوله «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ» من اليهود والنصارى إذ لا يوجد غيرهما أهل كتاب ، وما عداهما وثنيون مشركون كافرون بأصول الأديان ، لأن ذوي الأدبان التي كانت عند بعثة الرسول ستة : الإسلام والنصرانية واليهودية والصابئة والمجوس والمشركون ، راجع الآية 16 من سورة الحج في ج 3 ، الخطاب لحضرة الرسول وأصحابه تبعا له أي أنكم قادمون بهجرتكم هذه إلى بلدة فيها أهل كتاب مجبولون على حب الجدال لما وقر عندهم مما في الكتب المنزلة على أنبيائهم ، ويزعمون أنهم أدرى من غيرهم فيها ، فإذا جاءوك ليجادلوك فقابل خشونتهم بلينك ، وغلاظتهم بلطفك ، وجفاهم بعطفك ، وأمسك بادرة الغضب بجبال الكظم ، واجعل إقبالك عليهم بدل صدهم عنك ، ووصلك بمقابل هجرهم إياك ، وعطاءك تجاه منعهم لك ، وتقرب منهم كلما تباعدوا عنك.
وهذا معنى قوله تعالى «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» قال تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية 34 من سورة فصلت المارة ، أي لا تجادلهم إلا في هذه الصورة ، وادفع مشاغبتهم بالنصح ، وسورتهم بالإناءة ، ولغطهم بالإرشاد راجع الآية 125 من سورة النحل المارة ، واعمل بما بيناه هناك وعضّ عليه بالنواجذ ثم استثنى من المجادلين نوعا خاصا وهم المذكورون بقوله «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» وهم المجاوزون الحدّ في العناد والاعتداء الذين لم يلتفتوا إلى النصح ، ولم ينفع(4/487)
ج 4 ، ص : 488
فيهم الرفق ، فاستعمل معهم الفلسفة.
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية 30 من سورة التوبة في ج 3 ، ولا مجادلة أشد من السيف ، فهو قيل لا يعتد به ولا ينظر إليه ، إذ لا يتجه على ما نحن فيه ، لأن المراد بالجدال المناظرة وكونها على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره في مبادئ الدعوة للرشد ، قال في مجمع البيان الصحيح إنها غير منسوخة.
وقال بعض الأجلة إن المجادلة بالحسنى أوائل الدعوة مطلوبة ، لأنها تتقدم المجادلة بالعنف ، والمجادلة بالشدة تتقدم القتال ، فلا يلزم النسخ ولا عدم القتال بالكلية.
وأما كون النهي المستفاد من لا في (ولا تجادلوا) المحتج به صاحب هذا القيل من كونه يدل على عموم الأزمان فيلزم النسخ فلا يتم ما ذكره من السبب ، ويدفعه أن من يقاتل كمانع الجزية داخل في المستثنى ، فلا نسخ وإنما هو تخصيص بمتصل وكون ذلك يقتضي مشروعية القتال في مكة ليس بصحيح ، لأنه مسكوت عنه ، تأمل.
وقرأ ابن عباس الا بالتخفيف على أنه حرف تنبيه وأداة عرض دالة على الطلب بلين ورفق ، أي جادلوهم بالتي هي أحسن.
وعلى هذه القراءة لا يرد ما أورده مدعي النسخ البتة «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا» من القرآن «وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» وآمنا بما أنزل إليكم من التوراة والإنجيل والزبور من قبل اللّه لا التي بأيديكم كلها ، لأنكم حرّفتم وبدلتم بعضها قصدا ، وبعضها قد غيرت معناها الترجمة ، وهذا القول نوع من المجادلة بالأحسن ، أخرج البخاري والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون كتبهم بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآية 136 من البقرة ج 3 ، زاد في رواية : فإن كان باطلا لم تصدقوهم ، وإن كان حقا لم تكذبوهم ، ولأن التصديق والتكذيب ليسا نقيضين ، إذ يجوز ارتفاعهما بالشك.
وليعلم أن هذا الحديث الشريف صدر من النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآية لا مقارنا لها ، لأنها نزلت بمكة ، وهذا القول بالمدينة ، وقدمنا في الآية 17 من سورة السجدة المارة أن الأحاديث قد تذكر لمناسبة بعض الآيات سواء كان بعد نزولها أو قبله ، مما يدل على معناها ، وقولوا لهم أيضا «وَإِلهُنا(4/488)
ج 4 ، ص : 489
وَإِلهُكُمْ واحِدٌ»
فرد صمد لا شريك له ولا مثيل ولا ضد ولا ند ولا نظير «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» 46 مطيعون منقادون له وحده ، وفي هذه الجملة تعريض لهم باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه «وَكَذلِكَ» مثل ما أنزلنا على غيرك من الأنبياء كتبا «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» القرآن الذي منه هذه الآية الناطقة بما ذكر «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» قبلك من الطائفتين المذكورتين العالمين العاملين المصدقين فيهما كما أنزلناهما «يُؤْمِنُونَ بِهِ» بالقرآن المنزل عليك لأنه جاء مصدقا لما فيهما ، وهذا خاص بخواصهم الحريّين بأن ينسب إليهم إيتاء الكتاب ، كعبد اللّه بن سلام وأصحابه المنصفين ، ولا يقال على هذا التفسير تكون الآية مدنية ، لأن عبد اللّه بن سلام أسلم بعد الهجرة بكثير ، بل الآية مكية على ما سمعت ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن إيمانهم به ترتب على إنزاله على الوجه المذكور ، وفيها إعلام من اللّه تعالى بإسلامهم في المستقبل ، لقوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِهِ) ولم يقل آمنوا ليتحمل ذلك القول ويحتج به قائله ، تدبر.
«وَمِنْ هؤُلاءِ» قومك أهل مكة ومن حولها الذين رغبوا بإخراجك وعنك وأحبوا قتلك «مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» أيضا فكن مطمئنا بذلك يا سيد الرسل ، إذ ترى ما تقرّ به عينك «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا» هذه المنزلة عليك في هذا الكتاب «إِلَّا الْكافِرُونَ» 47 بجميع الكتب لأن الجحود لا يكون إلا بعد المعرفة ولهذا شنع عليهم وسماهم كافرين لتوغلهم بالكفر وإصرارهم عليه وتصميمهم على تكذيبك ، قال الراغب صاحب السفينة : الجحد نفي ما في القلب ثباته ، وإثبات ما في القلب نفيه.
وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه ، وما قيل إنها في حق كعب بن الأشرف وأصحابه لا يصح ، لأن الآية مكية ، وأولئك بالمدينة ، على أنهم يدخلون في مضمونها.
مطلب هل تعلم النبي صلّى اللّه عليه وسلم الكتابة والقراءة أم لا ، والنهي عن قراءة الكتب القديمة :
قال تعالى «وَما كُنْتَ تَتْلُوا» يا محمد «مِنْ قَبْلِهِ» أي الكتاب المنزل عليك «مِنْ كِتابٍ» أصلا لأنك لم تقرأ «وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ»(4/489)
ج 4 ، ص : 490
لأنك أمي لا تكتب ، وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفي عنه صلّى اللّه عليه وسلم من الخط ، فهو مثل العين في قولك نظرت بعيني في تحقيق الحقيقة وتأكيدها حتى لا يبقى للمجاز مجاز «إِذاً» لو كنت تقرأ وتكتب «لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» 48 من قومك وغيرهم ولا تهموك بأنك تنقل من كتب الأقدمين وتتلو عليهم ما تحفظه منها ، وإلا لاحتج أهل الكتابين عليك بأنك لست نبي آخر الزمان ، لأنه موصوف بكتبهم أنه أمي ، وإذا ثبت أنك أمي فليس لهم أن يشكو برسالتك وختمك للأنبياء ، ولا يرتابوا بالكتاب الذي أنزل إليك ، لأن هذا كله مذكور في التوراة والإنجيل المنزلين من قبلنا على أنبيائهم ، تقدم اللّه تعالى إلى رسوله في هذه الآية ليعلمه أنه قادم في هجرته على أناس مذكور في كتبهم نعته على ما هو عليه ، وأخبره فيها بأنهم إذا قالوا لك في جملة مجادلتهم أنك لست نبي فقل لهم كيف ، وقد أنزل اللّه علي كتابا ، وإذا قالوا لك لعلك تعلمته فقل إني أمي ، وأهل مكة ومن حولهم يعلمون ذلك لأني لم أبرحهم ولم أتعلم الكتابة من أحد ، ولم أكن قارئا ، ووصفي موجود لديكم بما يثبت أني خاتم الأنبياء ، وهذا مما يزيل الشبهة فيّ ، ولو كنت أقرأ وأكتب لشك فيّ مشركو العرب الذين لم يتركوا شبهة إلا وألصقوها فيّ ، ولا خصلة تنافي نبوتي إلا وصموني بها ، إلا أنهم لم يتهموني بالقراءة والكتابة لتحقق عدمهما فيّ لديهم ، وقد وصف أهل مكة بالبطلان باعتبار ارتيابهم بنبوّته ووصفهم له بالسحر والكهانة والتلقي من الغير ، وكفرهم به وبكتابه ، ومن المعلوم المحقق أن حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم
أمي كما هو الواقع ، ومن قال بخلاف هذا فقد خالف كلام اللّه المصرح بأميته في الآية 157 من الأعراف في ج 1 صراحة لا تقبل التأويل ، وان أهل مكة الذين كانوا يلتقطون الزلات عليه لو علموا منه ذلك لما سكتوا ، بل لأداعوا عنه ذلك ، كيف وأنه لما كان يجتمع مع الأغيلمة والعبيد اتهموه بأنه يتعلم منهم مع أنهم عجم لا يفقهون العربية المطلقة ، فكيف بالفصحى ؟ وقد رد اللّه عليهم في الآية 101 من النحل المارة كذبهم هذا لهذه العلة ، فراجعها ، فلهذا إن القول بأني غير أمي مخالف لصراحة القرآن ، ومخالفته كفر محض لأن كل من ينكر حرفا منه دون تأويل يكفر ، وتعليم مثل هذا القرآن ودراسته تحتاج إلى زمن طويل لما فيه من تفصيل الأحكام(4/490)
ج 4 ، ص : 491
وبلاغة الكلام وفصاحة الألفاظ ، ولا يمكن تلقيه بحالة لم يطلع عليها أهل مكة لأني بين أظهرهم صباح مساء وليل نهار ، وهذا قبل النبوة لم يختلف فيه اثنان ، أما بعدها فقد وقع اختلاف في تعليمه القراءة فقط ، وهذا العلم بالقراءة على طريق المعجزة ، ولهذا فإن ما جاء عن مجاهد والشعبي أنه عليه الصلاة والسلام ما مات حتى كتب وقرأ ، وروى هذا ابن أبي شيبة أيضا ، وإن حجتهم ما رواه ابن ماجه عن أنس قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر ، الحديث.
والقدرة على القراءة فرع عن الكتابة ، وما جاء في صحيح البخاري وغيره عند كتابة صلح الحديبية ما لفظه فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الكتاب ، وليس يحسن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه الحديث المشهور ، وقال بهذا أبو ذر وعبد بن أحمد الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة ، وحكاه عن السمّاني وصنف فيه كتابا ، وسبقه إليه ابن منّه ، هذا وإن معرفته الكتابة بعد أمّيّته ونبوته صلّى اللّه عليه وسلم لا تنافي المعجزة ، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم ، لهذا قال بعضهم صار صلّى اللّه عليه وسلم يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها ، وعدم معرفتها قبل بسبب المعجزة لهذه الآية ، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ ، وذلك بإقدار اللّه تعالى إياه بدون تعلم من أحد ، وهذا معجزة له أيضا وأول ذلك قراءة ما هو مكتوب على باب الجنة المار ذكرها ، وقوله هذا قد يتجه في القراءة
، أما في الكتابة فلا ، لما جاء في الحديث الصحيح : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب.
وعليه إن كل ما ورد من أنه كتب يكون معناه أمر بالكتابة ، كما يقال كتب السلطان بكذا لفلان ، ومن المعلوم أن للسلطان كتبة يكتبون له ذلك بأمره ، لا هو نفسه ، وقد جاء في الآيتين 94/ 105 (وإنا له لكاتبون) (ولقد كتبنا في الزبور) من سورة الأنبياء المارة ، فالمراد بالأولى واللّه أعلم حفظته الموكلون بتسطير أعمال الخلق ، وفي الثانية أمره للقلم بكتابة ما كان وما يكون الذي من جملته ما كتب في الزبور كما بيناه أول سورة القلم في ج 1.
هذا ، وتقدم قوله تعالى (من قبله) على قوله (ولا تخطه) كالصريح في أنه عليه الصلاة لم يكتب مطلقا.(4/491)
ج 4 ، ص : 492
أما كون القيد المتوسط راجعا إلى ما بعده فغير مطّرد ، إذ لا يجوز رجوع الضمير إلى ما بعده ، وإذا كان لا يجوز لعدم اطراده فلم يسلم رجوعه إلى ما بعده.
وقد ظن بعض الأجلّة رجوعه لما قبله ولما بعد فقال يفهم من الآية أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولو لا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة ، إلا أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجيّة المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيّته ، ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ليس نصا في نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام ، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، وكذا أكثر من بعث إليهم ، وهو بين ظهرانيهم من العرب أمّيّون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد.
وتأويل كتب أمر بالكتابة خلاف الظاهر كما لا يخفى.
وجاء في شرح صحيح مسلم إلى النواوي رحمه اللّه نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية المذكورة أعلاه (وليس يحسن يكتب فكتب) كالنص في أنه صلّى اللّه عليه وسلم كتب بنفسه ، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه ، إذ لا صارف عن الحقيقة ، ومن المعلوم أنه لا يجوز ترك الحقيقة إلا إذا تعذرت.
هذا غاية ما أحتج به ، وخلاصة القول أن كتابته صلّى اللّه عليه وسلم وقراءته على فرض صحتها فهي من معجزاته كما علمته مما ذكرناه قبلا ، لا عن تعليم من أحد ولما لم يصح عنه أنه كتب كتابا ما في جملته مكاتباته الملوك وغيرهم ومعاهداته معهم ، ولم يثبت شيء من ذلك البتة ، فما وقع منه عند كتابته صحيفة صلح الحديبية يكون أيضا من قبيل المعجزة ليس إلا ، فإن الحديث الوارد من أنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يمت حتى تعلم الكتابة ضعيف ، بل لا أصل له ، وما زعمه القاضي وأبو الوليد الباجي ومن تابعهما من أنه تعلم الكتابة أو كان يعلم الكتابة أخذا مما رواه البخاري في حادثة الحديبة هو زعم فاسد ، وكذلك من قوله صلّى اللّه عليه وسلم (رأيت مكتوبا على باب الجنة) إلخ ، لأن ذلك كله من باب المعجزة له صلّى اللّه عليه وسلم كما سبق لك تفصيله ، وكذلك يؤوّل قوله صلّى اللّه عليه وسلم إخبارا عن الدجال بأنه مكتوب بين عينيه كافر ، تأمل ، ثم تدبر ، وإياك أن يلحقك شك أو يخامرك ريب أو تطرأ عليك مرية.
قال تعالى «بَلْ هُوَ»(4/492)
ج 4 ، ص : 493
القرآن لا يرتاب فيه لوضوح أمره ولأنه «آياتٌ بَيِّناتٌ» لا تحتاج للروية ثابتات «فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه ، وبسبب رسوخه في الصدور لا يقدر أحد على تحريف أو تغيير أو تبديل شيء منه البتة ، لأن اللّه تعالى تعهد بحفظه من ذاك ، راجع الآية 42 من سورة السجدة والآية 9 من سورة الحجر المارتين ، وقد جاء في وصف هذه الأمة المحمدية :
صدورهم أناجيلهم.
والمراد بالذين أوتوا العلم ، علماء أصحابه كما رواه الحسن ، وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه أنهم الأئمة من آل محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
«وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا» هذه مع وضوحها «إِلَّا الظَّالِمُونَ» 49 أنفسهم مكابرة وعنادا «وَقالُوا» أولئك الظالمون «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ» كما نزل على من قبله من الأنبياء كموسى وعيسى وصالح وهود وإبراهيم وغيرهم من قلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى وإظهار الناقة وعدم إحراق النار لآمنا به ، وإذ لم يأت بشيء من ذلك ولا مما يشابه آيات من قبله فلا نؤمن به ، لأنه لو كان نبيا لأتى بمثل ما أتوا به.
«قُلْ» يا سيد الرسل «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» ما عندي منها شيء ولا أستطيع إظهار شيء إلا بإذن اللّه ، فهو الذي يعطيها من يشاء من عباده وينزلها بحسب مقتضيات حكمته ، لا دخل لي ولا للأنبياء قبلي بها البتة «وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 50 ما يوحى إلي إليكم ، وكذلك الأنبياء من قبلي ، وليس من شأني ولا من شأنهم إنزال الآيات أو قسر الأمم على الإيمان إلا بمشيئته.
ونظير هذه الآية الآية 38 من سورة الأنعام ، ومثلها في المعنى في يونس وهود المارات ، وفي الآية 134 من سورة طه في ج 1 والآية 7 من سورة الرعد في ج 3 وغيرها كثير.
قال تعالى ردا عليهم «أَ وَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ» يا محمد «الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» على مر العصور والدهور تتلوه عليهم وأنت أمي معلوم عندهم ، ويتلوه من منّ عليه بتعليمه منهم ومن غيرهم إلى يوم القيامة ، فإن كانت لهم عقول فهذه آية كافية لمن يريد أن يهديه اللّه ، ومن يضله اللّه لا تنفعه الآيات ، وناهيك بالقرآن أنه آية دائمة باقية ، وأن آيات الرسل كلّها انقرضت ولم يبق إلا خبرها «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إنزال القرآن وبقاؤه الآخر الدوران لأكبر(4/493)
ج 4 ، ص : 494
آية أتى بها الوسل ، ولهذا يقول اللّه «لَرَحْمَةً» عظمى «وَذِكْرى » بالغة وعظة باهرة «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 51 باللّه الذي أرسلك إليهم وبكتابه الذي أنزله عليك إليهم تغنيهم عن كل آية ، أما المعنتون فلو أتيتهم بكل آية لا يتعظون ولا يؤمنون ولا يتذكرون ، راجع الآية 115 من سورة البقرة في ج 3 تجد ما يتعلق بهذا إن شاء اللّه.
أخرج أبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال : جاء أناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها ما سمعوه من اليهود ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به غيره إلى غيرهم ، فنزلت هذه الآية.
وهذا يتجه إذا كانت الحادثة بمكة ، أما في المدينة فلا تكون سببا للنزول ، لأن الآية مكية ، وإنما على سبيل تلاوة ما نزل قبل والاستشهاد به عند وقوع الحادثة المتأخرة فجائز ، وهو طريق ضعيف مشى عليه بعض المفسرين ، والحق هنا عدم جوازه ، ولأن هذه الآية نزلت جوابا لقولهم (لو لا أنزل عليه آية من ربه) فجعل ذلك أي الذي ذكر في الخبر المار ذكره سببا للنزول بغير محله ، وهو خروج على الظاهر الواقع ، وفي هذه الآية والحديث إشارة إلى منع تتبع الكتب القديمة لغير متبحر في القرآن العظيم ، فقد أخرج ابن عساكر عن أبي ملكية قال : أهدى عبد اللّه بن عامر بن بركن إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد اللّه بن عمرو فردتها وقالت يتتبع الكتب القديمة وقد قال اللّه تعالى (أَ وَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) الآية ، فقيل إنه عبد اللّه بن عامر فقبلتها.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي صلّى اللّه عليه وسلم يتلوّن وجهه ، فقال والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم ، أنا حظكم من النّبيين وأنتم حظي من الأمم.
أي ليس لكم أن تتخطوا ما جئتكم به إلى غيره ، لأنه لا يخلو من حشو ، والقرآن براء من كل عيب ، لا يتطرق إليه ما ليس منه أبدا كما هو ثابت بكفالة اللّه تعالى القائل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من الحجرة المارة.
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه(4/494)
ج 4 ، ص : 495
ساعة فاستحسنه ، فقال للرجل اكتب من هذا الكتاب ؟ قال نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به فنسخ له في ظهره وبطنه ، ثم أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فجعل يقرؤه عليه ، وجعل وجه رسول اللّه يتلون ، فضرب رجل من الأنصار الكتاب ، وقال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب ؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم عند ذلك إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه ، واختصر لي الحديث اختصار فلا يهلكفكم المتهوكون. - أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة وقيل المتحيرون ، وقدمنا في الآية 43 من سورة القصص في ج 1 ما يتعلق بهذا وإن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين ولا سيما بصدر الإسلام فراجعه ففيه ما يكفيك ويثلج صدرك وتقر عينك «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً» بأني رسوله والقرآن كلامه وانكم كاذبون مبطلون ، واللّه عالم بأني بلغت وأنذرت ونصحت ، وانكم صددتم وأنكرتم وكذبتم ، وشهادة اللّه لي بإنزال الكتاب علي وإثبات المعجزة لي ، وانه سيجازي كلا بفعله ، لأنه «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وجميع ما يقع فيهما وما بينهما ، ومن جملتها شأني وشأنكم سرهما وجهرهما ، وهذه تقرير لصدر الآية من كفاية شهادة اللّه تعالى على ذلك.
وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما قال كعب بن الأشرف وأصحابه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم من يشهد أنك رسول اللّه لا صحة له في سبب النزول ، لأن الآية مكية بالاتفاق ، وسباقها مع كفرة قريش لا ذكر لأهل الكتاب فيهما «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ» وهو غير ما جاءت به الرسل من عند اللّه «وَكَفَرُوا بِاللَّهِ» وما جاء عنه.
واعلم أن الإيمان بالباطل كفر بلا شك ، وإنما ذكرت الجملة الأخيرة تأكيدا ولبيان قبح ما جاء في الجملة الأولى فهو كقول القائل أتقول الباطل وتترك الحق ؟ لبيان أن الباطل قبيح في ذاته «أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» 52 المغبونون في صفقتهم ، إذ اشتروا الكفر بالإيمان ، وهذه الآية وردت مورد الإنصاف في المكالمة على حد قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 35 من سورة سبأ المارة ، وكقول حسان :
فخيركما لشركما الفداء.
قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» على طريق(4/495)
ج 4 ، ص : 496
الاستهزاء والسخرية كقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية 30 من سورة سبأ أيضا ، وهي مكررة كثيرا في القرآن ، وذلك لعدم تصديقهم أن هناك بعثا وحسابا وجزاء ، ولهذا يقولون (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) الآية 32 من سورة الأنفال ج 3 ، وقد تكرر منهم هذا القول ، كما تكررت هذه الآية معنى في كثير من سور القرآن.
قال تعالى «وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى» ضربناه لعذابهم غير قابل التقديم والتأخير ، وعزّتي وجلالي يا سيد الرسل لَجاءَهُمُ الْعَذابُ» الذي يريدون سرعة نزوله قبل أن يتشدقوا بما تفوهوا به «وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» أي يباغتهم ويفاجئهم به من حيث لا يتوقعونه ، وهذا العذاب قيل هو في الدنيا فيما يقع عليهم من الأمر والجلاء والقتل أو الموت ، وقيل هو عذاب الآخرة.
والآية صالحة للمعنيين ، وكلا العذابين واقع بهم لا محالة ، ومما يرجح كون المراد منه عذاب الآخرة قوله تعالى «يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» إذ كرره بالظاهر لشدة هوله ، كيف وقد قرنه بقوله «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» 54 جميعهم لا يفلت منهم أحد والجملة حالية أي يستعجلونك بالعذاب والحال محل العذاب الذي هو جهنم لا عذاب فوقه محيط بهم «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» فيجللهم من أطرافهم كلها ، وهذا معنى إحاطة جهنم بهم «و نقول» نحن إله الكل مالك الدنيا والآخرة.
وقرىء بالياء أي يقول لهم الرب العظيم في ذلك اليوم «ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 55 من القبح في دنياكم ، ويضاهي هذه الآية الآية 16 من سورة الزمر المارة والآية 41 من الأعراف في ج 1.
مطلب في الهجرة واستحبابها لسلامة الدين وما جاء فيها من الآيات والأخبار وهي تسعة أنواع :
قال تعالى «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ»
فاتركوا الأرض التي أنتم فيها مضطهدون وفروا بدينكم إلى غيرها ، فإن الأرض غير ضيقة عليكم ، «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ»
56 أخلصوا عبادتكم لي في أرضي لا يمنعكم فيها أحد من إقامة شعائرها ، نزلت هذه الآية في إباحة الهجرة صيانة للدين ، ولا تختص بزمنه(4/496)
ج 4 ، ص : 497
صلّى اللّه عليه وسلم احتجاجا بخبر لا هجرة بعد الفتح ، بل هي عامة مطلقة ، حكمها باق إلى الأبد ، فبمقتضاها يجب على كل من كان في بلدة يتجاهر فيها بالمعاصي ولا يقدر على المنع ولا على إقامة دينه وإظهار شعائره كما ينبغي ، أن يهاجر إلى غيرها من البلاد التي يتهيأ له فيها ذلك كله ، لأنه إذا لم يكن آمنا على دينه لا يتمكن من إقامته فهو آثم ، لذلك عليه أن يهاجر إلى بلد يكون فيه أسلم قلبا وأصحّ دينا وأكثر عبادة وأحسن رفاقة.
هذا وقد حث اللّه على الهجرة في الآية 99 من سورة النساء الآتية في ج 3 ، بما يدل على أنها غير خاصة بزمن كما سنبينها هناك بصورة مفصلة إن شاء اللّه.
قال صلّى اللّه عليه وسلم : من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة.
وفي قوله تعالى (واسِعَةٌ)
عدّة ووعد لعباده المهاجرين بسعة الرزق ، أي لا تخافوا الضيق إذا تركتم دياركم من أجلي فإني أوسع عليكم «و كان ذلك.
وأعلم أن البقاع تتفاوت تفاوتا عظيما ، وقال العارفون لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني من مكة حرسها اللّه تعالى.
قال سهل إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين.
راجع الآية 9 من سورة الروم المارة.
قال تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ذكر اللّه تعالى هذه الآية بعد الآية المشيرة إلى الهجرة ليستعدوا له قبل مفاجاته ، لأنهم لا يدرون متى يفاجئهم ، لذلك خوفهم بالموت فيها ليهون عليهم أمر الهجرة ، إذ لا أصعب من ترك الوطن على النفس إلا الموت كي لا يبقوا بدار الشرك فيموتوا فيها ، وإذا سهل على الإنسان الموت سهل عليه ترك الوطن وحث نفسه على الهجرة منه لإخلاص العبادة لربه والمحافظة على دينه اللذين يذهب بهما إليه دون وطنه وأهله وعشيرته ، قال عليه الصلاة والسلام : يتبع الميت ثلاث ، أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله.
«ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» 57 بعد الموت حتما ، وإذا كان كذلك فاجنحوا في دنياكم إلى ما يصلح دينكم واتركوا غيره.
ويضاهي صدر هذه الآية الآية 35 من سورة الأنبياء المارة والآية 185 من آل عمران في ج 3 ، وهي مكررة في القرآن.
قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا(4/497)
ج 4 ، ص : 498
وتركوا أوطانهم وأهلهم وعشيرتهم رغبة فيما عند اللّه من الثواب «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً» علالي عالية نسكنهم فيها ونوطنهم بها ، ولا حول لهم عنها ، وهذه لا تشبه غرف الدنيا ولا تقاس بها فضلا عن أنها فانية وتلك باقية ، وأنها من صنع البشر وهي من صنع اللّه وإبداعه الذي أتقن كل شيء ، فلا يقدر أن يصفها واصف ، ومن بعض محاسنها أنها «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» ويكون أهلها «خالِدِينَ فِيها» أبدا والدنيا مهما طال أمدها فمصيرها الزوال ف «نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» 88 في الدنيا تلك الغرف الباقية في الجنة ، وهذه أيضا مكررة في الآية 20 من سورة الزمر المارة وفي غيرها ، قال ابن عباس : هي من الدرّ والزبرجد والياقوت ، أما المستحقون لهذه العرف وتلك الكرامة فهم «الَّذِينَ صَبَرُوا» على مشاق الدّين ومرارة الهجرة وفراق الوطن والبعد عن الأهل والأقارب والأحباب والالتجاء إلى أناس لا يعرفونهم ، وتحمل ما يلحقهم من الذل فرارا بدينهم وصيانة له وحفظا على شعائره ، كما صبروا على أذى المشركين وإهانتهم من أجله «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 59 بكل أمورهم لا على غيره ، ولما أمر صلّى اللّه عليه وسلم بالهجرة وحث عليها خلص عباده ليقتدي بهم الآخرون خاف بعضهم الفقر وضيعة الحسب في المدينة ، لأنهم لا يعرفون أحدا ولا يعرفهم أهلها ، وليس لهم مال ولا عقار ولا بساتين ، ولا يقدرون على أخذ ما عندهم في مكة إلى المدينة لبعد الشقة والمشقة ، وخوفا من الكافرين أن يستحلوا أموالهم وأنعامهم لأن خروجهم سيكون خلسة عنهم ، لئلا يطلعوا عليهم فيمنعوهم ويوقعوا
بهم الأذى ويهينوهم أنزل اللّه قوله عز قوله «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» لضعفها ووهنها ، أو لا تقدر على ادخاره ليوم حاجتها ، أو لتوكلها على خالقها ، فتصبح وتمسي ولا شيء عندها «اللَّهُ يَرْزُقُها» من فضله ، ويسوقها إلى ما قدر لها ، أو يسوق الرزق إليها بأن يسخّر من يقدمه لها دون طلب أو كلفة.
قال صلّى اللّه عليه وسلم : لو توكلتم على اللّه حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا.
ورحم اللّه القائل :
وأرزاق لنا متفرقات فمن لم تأته منها أتاها
«وَإِيَّاكُمْ» يرزق ، لأنكم أفضل من كثير من الطير والدواب والحيتان(4/498)
ج 4 ، ص : 499
والحشرات ، فإذا كانت مع ضعفها وعدم معرفتها يرزقها اللّه لتوكلها عليه وتفويض أمرها إليه ، فإنكم مع قوتكم واجتهادكم وفضلكم فإنه يرزقكم من باب أولى إذا توكلتم عليه.
قالوا لا يدخر إلا الإنسان والنملة والفأرة والعقق ، وعند البعض البلبل ، وقال آخر كل كوامن الطيور تدخر.
هذا ، وإذا كان الرزق من اللّه ، وجعل لكل سببا لتناوله وأمر بالسعي إليه ، والمسبب له هو وحده ، فلا تخافوا أيها المؤمنون على معاشكم حال هجرتكم ، ولا تأسفوا على ما تتركونه في مكة ، فإن اللّه يخلفه لكم.
ولما كان المراد إزالة ما في أوهامهم عما يلحقهم بسبب الهجرة على أبلغ وجه ، قال (يرزقها وإياكم) دون يرزقكم وإياها ، «وَهُوَ السَّمِيعُ» البالغ منتهى السمع بسمع قولكم ، ويعلم ما تحوكه قلوبكم ويتردد في صدوركم «الْعَلِيمُ» 60 البالغ في العلم بما انطوت عليه ضمائركم ، ومن هنا قال صلّى اللّه عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه - رواه البخاري ومسلم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه - واعلم أن اسم الهجرة يطلق على تسعة امور كل منها بسمى هجرة بنسبته :
الأول هجرة الصحابة رضي اللّه عنهم من مكة إلى الحبشة سنة خمس من البعثة سنة نزول سورة والنجم وذلك بسبب ما لحقهم من أذى المشركين مالا وبدنا ، ولهذا قال ذو النون من هرب من الناس سلم من شرهم ، ومن شكر مولاه استحق المزيد من الفضل والعناية ، ومن نظر في عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه.
الثانية الهجرة التي نحن بصددها من مكة إلى المدينة الكائنة سنة ثلاث عشرة منها أيضا ، أما الخروج هربا وطلبا فيقسم إلى تسعة أقسام : الأول الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وهذه باقية إلى يوم القيامة كما أشرنا إليه في الآية 50 المارة.
الثاني الخروج من أرض البدعة ، قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسبّ فيها السلف.
الثالث الخروج من أرض يغلب عليها الحرام ، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم.
الرابع الخروج من الأذية في البدن ، وهو فضل من اللّه رخص لعباده فيه إذا خافوا على أنفسهم في مكان ، فقد أذن(4/499)
ج 4 ، ص : 500
اللّه لهم بالفرار منه إلى غيره ، ولا يحل لهم البقاء إذا تحققت خشيتهم ، لأن محافظة النفس واجبة ، وأول من فعلها إبراهيم عليه السلام حين خاف قومه وأمنه النمروذ ، لأن الكافرين لا عهد لهم ولا ذمة ، وكذلك موسى بعد أن قتل القبطي وعلم أنهم يريدون قتله به.
الخامس الخروج خوف المرض من البلاد الوخمة المشتملة على المستنقعات والأوساخ وغيرها.
وقد أذن صلّى اللّه عليه وسلم للعرنيّين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج.
السادس الخروج خوفا من سلب المال فله ذلك أيضا ، لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، هذا إذا كان الداعي للهجرة الهرب من أحد هذه الأمور ، أما إذا كان الداعي طلب الشيء فيقسم جوار الخروج الذي هو بمعنى الهجرة إلى تسعة أقسام.
هذا وما قيل إن الهجرة انقطعت بالفتح يعنى فتح مكة ، فالمراد بها خصوص القصد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذ كان بقطن فيها إذ بعد وفاته ينعدم ذلك القصد ، فذلك القيل من هذه الحيثية ليس إلا ، أما زيارته بعد وفاته فسيأتي لها بحث أيضا.
الأول سفر العبرة ، وهو مطلوب للمستطيع ، قال تعالى (أَ وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية 9 من سورة الروم المارة ، وقد طاف ذو القرنين ليرى عجائبها ، الثاني سفر الحج وهو واجب على المستطيع ومن فروض العين.
الثالث سفر الجهاد وهو واجب أيضا مادام العدو خارجا عن ثغور بلاد المسلمين فمتى وطئها لا سمح اللّه صار فرض عين على كل مستطيع ، وتفصيله في كتب الفقه ، وستلمع له في محله إن شاء اللّه.
الرابع سفر المعاش ، وهو جائز إذا أراد التوسع بأكثر مما هو فيه ، وواجب إذا كان محتاجا له لنفسه أو لمن يعوله.
الخامس سفر التجارة والكسب الزائد على الحاجة وهو جائز أيضا لقوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) الآية 198 من البقرة ج 3.
السادس طلب العلم لأنه فريضة على كل مسلم ومسلمة ، حتى إنه يجوز للمرأة الذهاب بلا إذن زوجها إليه إذا كان لا يقدر على تعليمها علم الحال ولا يسأل لها العلماء.
السابع قصد البقاع الشريفة وهو مطلوب لثلاث ، قال صلّى اللّه عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى.
الثامن قصد الثغور للرباط فيها حفظا لكيان بلاد المسلمين ، وهو مندوب قال صلّى اللّه عليه وسلم : (4/500)
ج 4 ، ص : 501
رباط ساعة خير من عبادة سنة.
لأن العبادة نفعها قاصر على العابد فقط ، وهذا فيه نفع عام لجميع المسلمين وفيه إظهار لشوكتهم.
التاسع زيارة الأخوان للّه تعالى ومن أجله روى مسلم وغيره عنه صلّى اللّه عليه وسلم زار رجل أخا له في قرية فأرسل اللّه ملكا على مدرجته ، فقال أبن تريد ؟ قال أريد أخا لي في هذه القرية ، فقال هل له من نعمة تؤديها ؟ قال لا إلا أني أحبه في اللّه تعالى ، قال فإني رسول اللّه إليك بأن اللّه أحبك كما أحببته الثالث هجرة بعض القبائل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليتعلموا شرائع الدين ويعلموا قومهم ، وهي مطلوبة ، قال تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) الآية 133 من التوبة في ج 3 ، وحكمها باق إلى الأبد ، فيجب على كل أهل قرية إذا لم يوجد عندهم من يعلمهم أمر دينهم أن يوفدوا جماعة منهم هذه الغاية.
وتشير هذه الآية إلى استثناء طلبة العلم من الجهاد ، ولذلك فإن الحكومة العثمانية استثلت جميع طلاب العلم من الخدمة ، فسبتوا كثرة العلماء ، ولو لا ذلك القل أن تجد عالما الآن في بلاد العرب ، لأن الحكومة العثمانية كانت مسيطرة على البلاد وقد فرضت اللغة الرسمية التركية في البلاد وكانت رغبة الناس منصرفة إلى الدنيا وإلى تقليد الغالب ، ولذلك قلّ في هذا الزمن وبالأسف طلب العلم ورغبت الناس عنه ، لأن همهم الدنيا ، ومن كان همه الدنيا فهو إلى الهلاك أقرب وإن هذه تعد منقبة للأتراك إذ رغبوا الناس في العلم ، ومنقبة أخرى وهي استثناء آل البيت من الخدمة أيضا ، احتراما لصاحب الرسالة جدهم الذي نور العالم ، ومنقبة ثالثة وهي احترامهم العلم والعلماء والسادة والمشايخ والمواقع المقدسة والمحترمة ، وان آثارهم تدل على ذلك.
الرابعة هجرة من أسم من أهل مكة ليأتي النبي صلّى اللّه عليه وسلم فيقر بإسلامه أمامه ، ثم يرجع إلى قومه لأن اللّه يسلم لنبي من صلّى اللّه عليه وسلم ، ولم يره لا يعد صحابيا.
الخامسة الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ، وهي واجبة عند القدرة ، إذ لا يحل لمسلم أن يقيم بدار الكفر لعدم تمكنه من إقامة دينه ، كما ينبغي ولأنه يكثر سوادهم ، وهو لا يجوز ، وإذا كانت الهجرة من بلاد البدعة مطلوبة ، فمن باب أولى وأحق أن تكون مطلوبة من بلاد الكفر لما فيها من المذلة على المسلم كما سيأتي في الآية 93(4/501)
ج 4 ، ص : 502
من سورة النساء ج 3 ، قال الماوردي فإن صار له فيها أهل وعشيرة وأمكنه إظهار شعاثر دينه لم يجز له أن يهاجر ، لأن المكان الذي هو فيه صار دارا للإسلام ولأن بقاءه فيها قد يجر لتكثير المسلمين فيها ، قال صلّى اللّه عليه وسلم لأن يهدي اللّه بك رجلا خير لك من حمر النعم.
السادس هجرة المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام بغير سبب شرعي مكروهة ، وما زاد على الثلاثة فحرام إلا لضرورة ، قال الباجوري في حاشية علي بن قاسم ، وهذا مأخوذ من قولهم يجوز هجر المبتدع لزجره عن بدعته والفاسق ، من فسقه ، وكذا يجوز الهجر إذا رجا صلاح المهجور كأن كان يحصل عند عدم اهجر خلل بفعل معصية من الهاجر أو المهجور فهجره لإصلاح دينه ولو جميع الدهر ، وعليه يحمل هجره صلّى اللّه عليه وسلم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ونهيه الصحابة عن كلامهم ، إذ تخلفوا عن غزوة تبوك وهجر السلف والخلف بعضهم بعضا ، فقد جاء بالإحياء أن سعد بن وقاص هجر عمار بن ياسر إلى أن مات ، وعثمان بن عفان هجر عبد الرحمن بن عوف إلى أن مات ، وهجر طاوس وهب ابن منبه إلى أن مات ، وهجر سفيان الثوري شيخه ابن أبي ليلى إلى أن مات ، ولم يشهد جنازته ا ه ص 127 ج 2 من فصل احكام القسم بين النساء ، هذا وحكي أن رجلا هجر أخاه فوق ثلاثة أيام فكتب له :
يا سيدي عندك لي مظلمة فاستفت فيها ابن أبي خيثمة
فإنه يرويه عن جده ما قد روى الضحاك عن عكرمة
عن ابن عباس عن المصطفى نبينا المبعوث بالمرحمة
أن صدود الإلف عن إلفه فوق ثلاث ربنا حرمه
السابعة هجرة الزوج زوجته إذا تحقق نشوزها ، قال تعالى (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) الآية 33 من سورة النساء ج 3 ، ويجوز هجرها زيادة على ثلاثة أيام بقصد زجرها عن المعصية ، وإذا كان لعذر شرعي ، أما بدون معذرة فلا ، وبها يجوز في المضجع.
والكلام أيضا حتى ترجع وتتوب.
الثامنة هجرة أهل المعاصي فهي مطلوبة في المكان ، والكلام والسلام ردا وابتداء إهانة لهم ، ولا يجوز بوجه من الوجوه إكرامهم ، راجع الآية 112 من سورة هود المارة ، تجد ما يكفيك وما ليس(4/502)
ج 4 ، ص : 503
لك غنى عنه.
التاسعة هجرة كل ما نهى اللّه عنه ، فلا يحل لمسلم أن يقرب شيئا حرمه اللّه أو ينهى عن شيء أحلّه ، لما جاء في الحديث الشريف المار آنفا من أن الهجرة إذا كانت للّه ورسوله يثاب عليها ، وفيها الأجر العظيم والخير الجزيل والرضاء من اللّه ورسوله ، وإذا كانت على العكس فلا ثواب فيها ، ولا تسمى هجرة شرعية ، كمن ذهب للحج بقصد التجارة فقط ، وكذلك من جاهد لأجل الغنيمة ، ومن تزوج بقصد الولد ، أي من قصد الحج والتجارة معا وإعلاء كلمة اللّه والغنيمة وكسر شهوة النفس وحفظها من الحرام مع الولد ، فاللّه أكرم من أن لا يثيبه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا ، وإنما خيركم من أخذ من هذه وهذه.
وروى ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنّه قال : أيها الناس ليس من شيء يقاربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به ، وليس من شيء يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ، ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي [بضم الراء القلب والعقل ، وبفتحها الخوف ، قال تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) الآية 75 من سورة هود المارة ، والمراد هنا الأول ] أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب ، لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي اللّه عز وجل ، فإنه لا يدرك ما عند اللّه إلا بطاعته.
وروى الترمذي عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول لو أنكم تتوكلون على اللّه حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا.
أي تذهب أول النهار صباحا ضامرة البطون وترجع آخره شباعا ممتلئتها ، ولا تدخر شيئا لغد.
هذا ما جاء في أمر الهجرة ، وسنتم قصّتها بعد تفسير المطففين الآتية إن شاء اللّه ، لأنها وقعت بعدها.
قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» في منافع خلقه وهي حركتها بانتظام بديع «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» لأنهم يعلمون أن آلهتهم عاجزة عن حفظ نفسها ، فضلا عن الخلق والتسخير ، ولكنهم عنادا وعتوا يعبدونها تقليدا لفعل آبائهم الضالين ، فقل لهم يا سيد الرسل بعد اعترافهم بذلك «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» 61 وينصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان التي لم تخلق ولم ترزق ، وقد أشار جل شأنه(4/503)
ج 4 ، ص : 504
بخلق السموات والأرض إلى اتحاد الذات ، وبتسخير الشمس والقمر إلى اتحاد الصفات ، ولما كان كمال الخلق ببقائه وبقاؤه بالرزق ، واللّه تعالى هو المتفضل به.
قال «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» فيوسعه عليهم إحسانا منه وكرما عليهم ولطفا بهم ، وهو ذو الطول والامتنان والعطف «وَيَقْدِرُ لَهُ» يضيق على من يشاء بمقتضى حكمته وسابق تقديره ، ولما كان هذا موجبا لاعتراض بعض الجهلة بين العلة لهم بقوله «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» 62 فيوسع لمن يعلم أن صالحه بالرزق ، ولو لم يرزقه لكفر ، ويضيق على من يعلم أن صالحه في الضيق ، ولو أغناه لبغى ، وان يفعل كلّا لكل بوقته حسب حكمته ، فقد جاء بالحديث القدسي : إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ، راجع الآية 25 من سورة لقمان والآية 27 من سورة الشورى المارتين ، والأخرى ان اللّه تعالى لا يسأل مما يفعل.
قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» فعل ذلك كله «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» يا خاتم الرسل على إظهار الحجة عليهم باعترافهم.
ثم نعى عليهم جهلهم بقوله «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» 63 ما يقولون ولا يفهمون ما يفعلون ولا يفقهون ما يريدون ، وفي هذه الآية دلالة على بطلان الشرك وإثبات التوحيد ، وفي الإضراب ببل إيذان بالإعراض عن جهلهم الخاص بالإتيان بما هو حجة عليهم باعترافهم ، لأنهم مسلوبو العقل ، فلا يبعد عنهم مثله.
مطلب حقارة الدنيا والتعريض للجهاد :
قال تعالى «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ» اللهو الاستماع الذات والاشتغال بما لا يعني ، واللعب العبث ، أي أنها عبارة عن لعب ساعة بين الأولاد ، ثم ينصرفون عنها لدورهم ، وهكذا الدنيا يلهون بها أهلها مدة ويتركونها بالموت ، والآية تشير إلى تصغيرها والازدراء بها ، لأنها عبارة عن قضاء نهمتهم فيها مدة قصيرة وهي بما فيها لا تساوي عند اللّه جناح بعوضة ، والآية جاءت كضرب المثل في سرعة زوالها ، وتقلّبهم فيها وفراقهم لها.
أخرج الترمذي عن سهل بن سعد(4/504)
ج 4 ، ص : 505
قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء.
وقال بعض العارفين الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب بيد مجذوم.
وإذا كانت هي حقيرة لهذه الدرجة فليعلم حقارة ما فيها من الحياة بالطريق الأولى «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» الحياة الحقيقية المشمرة الدائمة المنعم أهلها التي لا يعرض لها كدر ولا موت ولا فناء وهي في ذاتها حياة طيبه والحيوان مصدر حي سمي به ذو الحياة في غير هذا المحل وأصله حييّان فقلبت الياء الثانية واوا على خلاف القياس ، فلامه ياء كما قال سيبويه ، وقيل إن لامه واو نظرا إلى ظاهر الكلمة وإلى أن حياة علم رجل ولا حجة على كونه ياء في حيىّ ، لأن الواو في مثله يبدل ياء لكسر ما قبلها نحو شقي من الشقوة ، وهو أبلغ من الحياة ، لذلك جاءت بلفظ المبالغة ، لأن بناء فعلان يكون بمعنى الحركة والاضطراب اللازم للحياة ، ولهذا المعنى أطلق عليها ، مع أنه علم للنّام المدرك ، ولأن الآخرة فيها الزيادة والنمو ، قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية 27 من سورة هود المارة ، وهي محل الإدراك التام أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك ، ولذلك اختير عليها في هذا المقام المقتضى للمبالغة ، وقد علمتها في وصف الحياة الدنيا المقابلة الدار الآخرة ، والمراد بها هنا الخلود والسكون ويوقف على كلمة الحيوان لأن التقدير «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 64 حقيقة الدارين لما اختاروا دار اللهو واللعب الفانية على دار العزّة والكرامة الباقية.
ولا توصل هذه الجملة بالأولى لأنه يصير وصف الحيوان معلق بشرط علمهم ذلك وليس كذلك ، تدبر.
وما قاله بعضهم أن لو هنا للتمني فقيل غير سديد ، وعن مرمى الحقيقة بعيد ، ومن أخذ بالأولى فهو السعيد.
ونظير هذه الآية 32 من سورة الأنعام المارة ، إلا أن المذكور فيها من قبل الآخرة ، والمذكور هنا من قبل الدنيا ، وكذلك المذكور قبل تلك.
قال تعالى «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ» السفينة بقصد التجارة أو الزيارة وتارت عليهم العواصف «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وتركوا ذكر أوثانهم كأنهم من خلص عباد اللّه الذين لا يذكرون غيره ولا يدعون معه إلها آخر ، ولجئوا إليه بكليتهم كأنهم لم ينصرفوا إلى غيره ، ولم يذهلوا عن الحياة الأبدية ، (4/505)
ج 4 ، ص : 506
وذلك لعلهم أنه لا يكشف الشدائد غيره ، وفي هذه الآية تهكّم بالكفرة المشركين أهل البغي والفساد ، وتقريع بهم ، لأنهم لا يستمرون على حالتهم هذه «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ» وأمنوا من الغرق «إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» 65 باللّه غيره كعادتهم الأولى ، ونسوا الضيق الذي حل بهم والذي نجاهم منه ، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ركبوا البحر استصحبوا أصنامهم ، فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا ربنا يا ربنا ، قال تعالى قوله «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من نعمة الإجابة والإنجاء «وَلِيَتَمَتَّعُوا» في دنياهم هذه ، وليغفلوا عن الآخرة دار البقاء «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» 66 عاقبة ذلك حين يعاقون إذ يتدمون من حيث لات مندم.
واللام في الموضعين لام كي ، أي يشركون باللّه ليكونوا كافرين نعمته ، فليتمتعوا في هذه الدنيا قليلا فإن مرجعهم إلينا ، راجع الآية 68 من الإسراء ج 1 ، وهذه الجملة الأخيرة مؤذنة بالتهديد والوعيد لأولئك الكفرة سبب جحودهم نعمة انجائهم ورجوعهم إلى شركهم.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا» بلدهم مكة دون سائر البلاد «حَرَماً آمِناً» أهله مما يخاف الناس من السلب والسبي والقتل ، وقد حرم فيه ما لم يحرم بغيره من البلدان ، حتى شمل منه الطير والوحش والدواب.
أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهم قال : إن أهل مكة قالوا يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا وكثرة العرب ، فمنى بلغهم أنا قد دخلنا في
دينك اختطفتنا فكلنا أكلة رأس ، فأنزل اللّه هذه الآية تطمنّهم بالأمن مما يخافون دون غيرهم إكراما لرسولهم محمد وإجابة لدعوة جده إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، كما سيأتي في الآية 136 من البقرة ج 3 ، وقد مر شيء منه في الآية 36 من سورة إبراهيم فراجعها «وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» يختلسون اختلاسا أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأزواجهم وأنعامهم ودوابهم ، لأن النفار كان متحكما بينهم ، فقل لهم يا سيد الرسل «أَ فَبِالْباطِلِ» من الأصنام وغيرها «يُؤْمِنُونَ» بعد ظهور نعمة الحق الذي لا ريب فيه «وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ» التي أنعمها عليهم في هذا الدين الصحيح والرسول الصادق والكتاب المبين لكل شيء «يَكْفُرُونَ» 67 مع أن ذلك مستوجب(4/506)
ج 4 ، ص : 507
للشكر ما بالهم عموا عن الرشد والهدى ، وجنحوا إلى الضلال والردى.
وتقديم الصلة في الموضعين في هذه الآية للاهتمام بها ، لأنها مصبّ الأفكار ، أو للاختصاص على طريق المبالغة ، لأن الإيمان إذا لم يكن خالصا لا يعتد به ، ولأن كفران غير نعمة اللّه عز وجل بجنب كفران نعمته لا يعد شيئا.
وقرىء الفعلان بالتاء على الخطاب ، كما قرىء بالغيبة.
قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فزعم أن له شريكا «أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ» القران المنزل من لدنه «لَمَّا جاءَهُ» على يد رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، أي لا أظلم من هذا أحد البتة ، ولهذا عقبه بقوله «أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» 68 أمثال هؤلاء بل فيها منازل كثيرة تنتظرهم وتتميّز عليهم غيظا وحنقا.
تشير هذه الآية إلى تقرير مثواهم وإقامتهم ، فيها ، لأن الاستفهام فيه معنى النفي وهو داخل على المنفي ونفي النفي إثبات ، وعليه قول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
والمعنى ألا يستوجبون هذا الثواء ، وقد افتروا ذلك الافتراء على اللّه تعالى ، وكذبوا بالحق مثل ذلك التكذيب ، بلى واللّه هم أهل له ولا شرّ منه.
قال تعالى «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا» في شأننا ومن أجلنا وخالصا لوجهنا «لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» الدالة على الخير والبر الموصلة إلى الرشد والهدى في الدنيا المؤدية إلى الجنة في الآخرة «وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» 69 بالنصر والمعونة والظفر في الدنيا والثواب والمغفرة والرحمة في الآخرة.
وقد ختمت سورة النحل فقط بما ختمت به هذه السورة.
وتشير هذه الآية إلى أن اللّه تعالى يريد أن يأمر رسوله بمجاهدة الكفار الذين لم ينزعوا عن شركهم وتكذيبه وجحد كتابه ، لأنه إنما أمره بالهجرة عن دارهم لعدم تأثير العطف عليهم بهم ، وان الرحمة التي عاملهم بها واللين والعطف لم يزدهم إلا عتوا وعنادا ، ولم يزدهم التهديد والوعيد إلا استهزاء وسخرية ومكابرة في البغي والطغيان والعدوان ، ولهذا قدم في هذه الآية الجليلة التمهيدات اللازمة لإنزال العقاب فيهم وتعجيل ما استبطئوه من العذاب الذي يطالبون به ، وكانوا يوقنون عدم وجود عقاب أو عذاب كما يتيقنون عدم وجود بعث ولا حساب ولا جزاء ، فاستحقوا جزاء معاملتهم بالقسوة والشدة ، وآن وقت قسرهم على الإيمان(4/507)
ج 4 ، ص : 508
ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم فيوقع فيهم عذابه الذي لا مرد له.
قال بعض العارفين إن الآية صالحة للمجاهدة الظاهرة والباطنة ، فالذين جاهدوا أنفسهم في رضاء اللّه تعالى لنهدينهم إلى محل الرضاء.
واعلم أن من عرف اللّه تعالى عرف كل شيء ، ومن وصل إليه هان عنده كل شيء ، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر ، قال عبد اللّه ابن المبارك من اعتاصت عليه مسألته فليسأل أهل الثغور ، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية ، لأن الجهاد هداية أو مرتب على الهداية ، قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) الآية 18 من سورة محمد ج 3 ، وجاء في الحديث من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم.
وقال بعض الكمل والذين يشغلون ظواهرهم بالوظائف ليوصلن أسرارهم إلى اللطائف.
وقال سفيان ابن عينيه إذا أختلف الناس فانظروا ما عليه أهل التقوى فإن اللّه تعالى يقول (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية.
والتقوى هي المخرج من الشدائد ، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية 3 من سورة الطلاق ج 3 هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة المطففين
عدد 36 - 86 - 83
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية ، ومئة وتسع وستون كلمة ، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف.
لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ، إلا سورة الهمزة ، ولا سورة مختومة بما ختمت به ، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «وَيْلٌ» الشر الشديد والحزن المزيد والهلاك العظيم والعذاب الأليم ، قيل هو واد في جهنم خاص «لِلْمُطَفِّفِينَ» 1 الذين ينقصون الكيل والميزان ، ويدخل فيه الذراع وما ضاهاه ، أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم (ويل) واد في جهنم(4/508)
ج 4 ، ص : 509
يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ، وفي صحيح ابن حبان والحاكم واد بين جبلين يهوي فيه الكافر إلخ.
وروى ابن أبي حاتم عن عبد اللّه أنه واد في جهنم من قيح.
مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع ، والحكم الشرعي فيها :
ثم وصف اللّه تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» 2 الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم ، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» 3 ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا ، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل ، ولم يقل جل شأنه ينقصون ، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا ، ولهذا قال المطففين.
واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع ، لأنه حق عليه ، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك ، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك ، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم ، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له ، كما يقال نصحتك ونصحت لك ، وعليه قوله :
لقد جنيتك أكمؤا وعسقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
واعلم أن هذه السورة آخر ما نزل بمكة قبل الهجرة ، وقد ذم اللّه فيها التطفيف وحذر منه ، لأن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم قادم إلى المدينة ، وعادة أكثر أهلها التطفيف ليتلوها عليهم أول قدومه كي ينزجروا عن هذه الخصلة القبيحة المستوجبة العذاب الأكبر في الآخرة ، والذم الكثير في الدنيا ، وهذه أول رحمة من اللّه نالت أهل المدينة بقدومه صلّى اللّه عليه وسلم ، وكان كذلك ، لأنه عند دخوله استفتحهم فيها فظن من سمعها أنها نزلت بالمدينة حتى قال بعضهم إنه كان رجل في المدينة يدعى أبا جهينة يشتري بصاع ويبيع بصاع دونه ، وأنها نزلت فيه.
ومنهم من قال إنها نزلت بالطريق بين مكة والمدينة ، والصحيح أنها نزلت في مكة كما ذكرنا وهو أرجح الأقوال الواردة فيها ، واللّه اعلم.
وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائدا ويدفع لغيره ناقصا ، ويتناول القليل والكثير ، وإنما شدد اللّه تعالى في هذا لأن عامة خلقه(4/509)
ج 4 ، ص : 510
محتاجون إلى معاملات الناس وهي مبنية على الكيل والوزن والذراع ، والبايع أمين فيما يكيل ويزين ويذرع ، والناس يتبايعون ويتعاقدون بالأمانة التي هي ملاك الأمر بينهم أنفسهم وبينهم وبين ربهم ، والخيانة مذمومة ملعونة ملعون مرتكبها ، لهذا بدأ صلّى اللّه عليه وسلم دعوته في المدينة بها ليرتدعوا عما هم عليه من التطفيف ، وليصدقوا في معاملاتهم ، ويتناهوا فيما بينهم فتحسن معاملاتهم بعضهم مع بعض ، وينجرّ عملهم إلى الإحسان مع خلق اللّه قال نافع كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق اللّه أوف الكيل والوزن ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق.
وقال قتادة أوف يا ابن آدم كما تحب ان يوفى لك ، واعدل كما تحب أن يعدل لك.
وقال الفضيل بخس الميزان سوء يوم القيامة.
قال تعالى «أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ» المطففون «أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ» 4 من قبورهم محشورون مساقون «لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» 5 ألا يتحققون نشرهم من قبورهم فيه ألا يعلمون عظم ذلك اليوم وهوله ، وأدخلت هزة الاستفهام على لا النافية للتوبيخ ، لأنها ليست للتنبيه بل للإنكار والتعجب من سوء حالهم وجرأتهم على التطفيف الذميم وعدم خوفهم «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» في الموقف للحساب ويعرضون «لِرَبِّ الْعالَمِينَ» 6 فيتمثلون أمامه فيحاسبهم على النقير والفتيل والقطمير.
روى البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر أنه تلا هذه قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
وروى البغوي عن المقداد قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل.
زاد الترمذي أو ميلين.
قال سليم بن عامر واللّه ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض أو ما يكتحل به العين.
قال يكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبه ، ومنهم من يكون إلى ركبته ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق الجاما ، وأشار صلّى اللّه عليه وسلم إلى فيه.
وروى الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال خمس بخمس قيل يا رسول اللّه ما خمس بخمس ؟ قال ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، وما طفقوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا(4/510)
ج 4 ، ص : 511
بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر.
ورواه غيره مرفوعا.
وقال عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار ، فقيل له إن ابنك كيال ووزان ، فقال أشهد أنه في النار وكأنه رحمه اللّه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف ، ومن هذا ما روي عن أبي ذر رضي اللّه عنه لا تلتمسوا الحوائج ممن رزقه في رءوس المكاييل وألسنة الموازين.
وقد استدل بعض العلماء من قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) على منع القيام للناس لاختصاصه باللّه تعالى ، وليس بشيء ، لأن هذا القيام خاص للمرء بين يدي ربه ، وأما القيام للشخص إذا قدم عليه فلا بأس به ، كيف وقد قال صلّى اللّه عليه وسلم قوموا لسيدكم.
إذ في القيام زيادة احترام للمسلم وإظهار للمودة والمحبة ومدعاة للتآلف والتراحم.
وفي عدمه احتقار له ، وقد يؤدي إلى التقاطع والتباغض ، وربما أدى
إلى القتال ، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه ، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار - أو كما قال - .
هذا ، والحكم الشرعي : التطفيف حرام ومن الكبائر ، وتجب على معتاده التوبة حالا ، ورد ما طفف لصاحبه ، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم ، راجع شروطها في الآية 27 من سورة الشورى المارة ، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها ، لأنه منوط بالناس كافة.
قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف ، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين ، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم ، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية 14 من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية 22 الآتية ، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» 7 وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر ، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس ، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار ، وقد أشار إليهم صلّى اللّه عليه وسلم بقوله : التجار يحشرون فجارا يوم القيامة ، أي الذين هذا شأنهم ، أما المتباعدون عن الشبهات ، فقد قال فيهم : التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء ، ثم قال(4/511)
ج 4 ، ص : 512
تهويلا بكتاب الفجار وقبحه «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان «ما سِجِّينٌ» 8 هو شيء عظيم لا تدركه دراية دار فهو «كِتابٌ مَرْقُومٌ» 9 مكتوب فيه بخط غليظ لأن الرقم الخط الغليظ بحيث يعلم ما فيه من اطلع عليه عن بعد لأول نظرة بلا تفكر ولا إمعان ، قال الشاعر :
سأرقم في الماء القراح إليكم على بعدكم إن كان للماء راقم
وهذا الكتاب علامة على شقاوة صاحبه وكونه من أهل النار وفي لفظة سجين إشارة إلى سجن صاحبه في جهنم ومبالغة في شؤم ذلك السجن ، بفتح السين ولقب به الكتاب لأنه سبب الحبس ، وهو شر موضع في جهنم في مكان موحش مظلم في مسكن إبليس وذريته ، كما وردت الآثار بذلك ، وقيل إن سجين اسم الموضع لما أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا : إن الفلق جب من جهنم مغطى وسجين جب فيها مفتوح ، وهذا أولى ، إذ يكون الكتاب وسجين على ظاهرهما لولا قوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) إذ أبدل الكتاب منه ، وقد أجاب الإمام النسفي عن هذا في تفسيره بأن سجين كتاب جامع هو ديوان أهل الشر دوّن اللّه فيه أعمال الشياطين والكفرة من الإنس والجن ، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة ، أو معلوم بحيث يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، وعليه يكون المعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان بخط غليظ مميز عن غيره ، وقال بعضهم إن نون سجين بدل من لام ، وأصله سجيل مثل جبرين في جبريل ، ومرقوم من رقم الكتاب إذا أعجمه وبيّنه ، ويطلق الرقم على العدد عند أهل الحساب ، وليس بمراد هنا.
هذا واللّه أعلم.
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ» يوم يخرج ذلك الكتاب في ذلك اليوم العصيب «لِلْمُكَذِّبِينَ» 10 بذلك اليوم الفظيع لما ينالهم من وبال وحقارة على رءوس الأشهاد ، وذل ومهانة وعذاب لا تطيقه الأوتاد ، اللهم إنا نتبرأ إليك مما يوجب فضيحتنا يوم التناد
ثم وصفهم بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» 11 يوم الجزاء صفة كاشفة موضحة لحالهم.
قال تعالى متعجبا من جرأتهم على التكذيب في ذلك اليوم المهول «وَما يُكَذِّبُ بِهِ» أحد «إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ» 12 كثير الإثم منهمك في الشهوات القبيحة متجاوز(4/512)
ج 4 ، ص : 513
الحد فيها غال في التقليد ، لأنه جعل قدرة اللّه قاصرة عن الإعادة وعلمه تعالى قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد منها في الإعادة ، وجعل علة الإعادة محالة عليه ، وهو تعالى ليس عليه شيء محال البتة «إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا» الدالة على البعث والجزاء «قالَ» ذلك الأثيم لفرط جهله وقلة عقله وكثرة طيشه وشدة إعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه لو كان فيه لمحة من حلم أو لمعة من علم لما قال «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 13 خرافاتهم المتناقلة وأباطيلهم التي ألفوها على الآباء من قبل ، ولم يظهر لها أثر حتى الآن.
قيل نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث أو الوليد بن المغيرة ، وأيا كان فالآية عامة ، والكلام مطلق يدخل فيه كل من اتصف بصفات الذّم المارة هما وغيرهما «كَلَّا» ليس الأمر كذلك ، أي مثل ما قال ذلك الأثيم وأضرابه من الباطل والتكذيب «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» 14 من الآثام الخبيثة ، وهذه الجملة بيان لما أدى بهم إلى التقوه بذلك الكلام الفظيع ، أي ليس في آياتنا ما يصح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة ، ولكن أغشيت قلوبهم وغطبت بأوساخ الذنوب وصداها حتى غلب عليها السوء وحال بينهم وبين معرفة الحق كثافة الحجب الحاصلة من طبقات الرين عليها ، فلم تقدر أن تعي شيئا أو يوقر فيها شيء من الحق ، فقالوا ما قالوا.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن العبد إذا أخطأ بكت في قلبه نكتة ، فإذا نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، وإن عاد زيد فيها حتى تعلق قلبه ، وهو الران الذي قال اللّه (بل ران) إلخ.
وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه والسنائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عنه بلفظ : من أذنب ذنبا وبزيادة سوداء صفة لنكتة ، وقد يأتي الرّين بمعنى الطبع ، أخرج عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجير أنه عليه الصلاة والسلام قال : أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه ، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن ، ومجالسة الموتى قيل يا رسول اللّه من هم ؟ قال كل غني قد أبطره غناه.(4/513)
ج 4 ، ص : 514
مطلب القراءات السبع ، ورؤية اللّه في الآخرة ، والقيام للزائر :
هذا ، وقد وقف حفص على/ بل/ وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار ، وهذا الانفصال باللفظ تباعدا بين التنوين والنون الساكنة وأحد حروف الإظهار الخمسة عشر ، وقرأ غيره بإدغام اللام في الراء ولم يقف ، وقرى ء/ ران/ بالإمالة وهي إحدى القراءات السبع الجائز تداولها إذ لا نقص ولا زيادة فيها ، وقد ذكرنا قبلا أن المد والإشباع وتخفيف الحرف بالسكون عند توالي الحركات والوصل والقطع والتفخيم والترقيق والإمالة والإتباع ونقل الحركة وحذفها كله جائز لا حرج فيه ، وإن الممنوع هو ما يخالف رسم القرآن من دون ذلك ، وان ما قيل إن ابن عباس قرأ كذا وابن مسعود قرأ كذا وغيرهما بما فيه زيادة أو نقص أو تبديل لبعض الكلمات فهو عبارة عن كلمات تفسيرية لبعض كلم القرآن كتبوها على هامش أو بين سطور مصاحفهم لا غير ، فلا يجوز عدها من القرآن ، لأن تفسير الكلمات أو تأويلها لا يكون من القرآن ، ولا يجوز أن ينطق بها أو يقرأها على أنها من القرآن ، بل يتكلم بها في غير القراءة على أنها معان لبعض كلماته تدبر ، قال تعالى «كَلَّا» حقا وصدقا «إِنَّهُمْ» الذين اعتراهم الرين بسبب كثرة الذنوب حتى أعمى قلوبهم «عَنْ رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم «يَوْمَئِذٍ» في يوم الدين «لَمَحْجُوبُونَ» 15 عنه لا يرونه في الآخرة والحجاب عن رؤيته فيها عذاب أليم لهم غير العذاب الذي يستحقونه على كسبهم القبيح.
هذا ، وان اللّه تعالى حاضر في ذلك الموقف الذي هو حاكمه وناظر فيه جميع خلقه ، ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون ، وإن الحرمان من رؤيته عذاب عظيم لا بضاهيه عذاب.
وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة ، وإلا لم يكن للتخصيص فائدة ، ولأن اللّه ذكر الحجاب في معرض التهديد للكافرين ، فلا يجوز حصوله للمؤمنين ، ولأنه كما حجب قوما بسخطه دل على أن قوما يرونه برضاه ، لأن الكفار كما حجبوا في الدنيا عن التوحيد حجبوا في الآخرة عن الرؤية ، قال مالك بن أنس رحمه اللّه لما حجب اللّه أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه ، ومن أنكر رؤيته كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم والإهانة لهم ، لأنه لا يؤذن بالدخول على الملوك إلا(4/514)
ج 4 ، ص : 515
للوجهاء المكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم ، قال :
إذا اعتروا باب ذي عبيّة رجبوا والناس من بين مرجوب ومحبوب
ومعنى اعتروا غشوا ، والعبيّة بضم العين وتشديد الباء والياء الملك المتكبر ، ورجبوا هابوا وفزعوا لعظمة ودهشة مقابلته ، راجع بحث الرؤية في الآية 23 من سورة القيامة في ج 1 وما ترشدك إليه من المواضع.
ثم أخبر اللّه تعالى عن هؤلاء الكفرة بأنهم مع كونهم محجوبين يحرقون في النار أيضا بقوله جل قوله «ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ» 16 يقاسون حرقها عند ما يزجون فيها ، وهذا عندهم أشد بلاء من الحجاب ، أما عند المؤمنين فالحجاب عندهم أعظم أنواع العذاب ، قال الحسن :
لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا «ثُمَّ يُقالُ» لهم من قبل خزنة جهنم تقريعا وتوبيخا «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» 17 في الدنيا فذوقوه الآن جزاء تكذيبكم «كَلَّا» ليس الأمر كما يتوهم المتوهمون ويزعم الزاعمون من إنكار البعث ، فهو حاصل لا محالة.
ثم طفق يذكر مقام المؤمنين الموقنين القائمين بالعدل بالكيل والميزان الموقين للناس حقوقهم المؤدين حق اللّه المصدقين بكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء بقوله عزّ قوله «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» 18 وهذا بمقابلة كتاب الفجار ، ومقرّه بالسماء السابعة تحت العرش ، ولهذا قال منوها بعلوه ومعظما لشأنه «وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ» 19 أيها الإنسان هو في الحسن والعلو والكرامة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، معناه بما يريده اللّه ، وإن ما جاء في تفسيره وتأويله فبحسب ما يحتمله اللفظ بالنسبة العقول البشر كالحالة في سجين في القبح والمذمة ، وهو أيها السائل عنه «كِتابٌ مَرْقُومٌ» مكتوب بخط غليظ يعلم ما فيه من يطلع عليه عن بعد الأول نظرة دون دقة ورويّة ، وهو علامة على سعادة صاحبه وكونه من أهل الجنة ، وفيه إشارة إلى علو درجات صاحبه فيها ، ومبالغة في بركة ذلك العلو وشرفه ، لأنه وصف من العلو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ولقب به لأنه سبب لارتفاع صاحبه إلى أعالي درجات الجنة ، وهو في أحسن موضع بالجنة موضوع في مكان مؤنس منير تحت العرش ، وهو عبارة(4/515)
ج 4 ، ص : 516
عن كتاب جامع هو علم لديوان أهل الخير دون اللّه به أعمال الأنبياء والشهداء والملائكة والعارفين وصلحاء الأمة من الأولين والآخرين ، وعليون على ما ظهر لك من التفسير هو كتاب مرقوم مسطور فيه كل عمل صالح ظاهر الكتابة ، معلم بعلامة يعلم منها من رآه لأول لمحة أنه جامع لكل خير فيما كتب من أعمال الأبرار ، مدون فيه بخط واضح مميز عن غيره ، ومنه رقم الثوب أي نقشه لظهوره للرائي عن بعد وتمييزه عن الثوب
«يَشْهَدُهُ» من الملائكة «الْمُقَرَّبُونَ» 21 لكرامة أهله وشرفهم عند ربهم ، أخرج ابن المبارك عن قمرة بن حبيب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن الملائكة يرفعون اعمال العبد من عباد اللّه تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء اللّه تعالى من سلطانه ، فيوحي اللّه تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه ، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين ، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء اللّه من سلطانه ، فيوحي إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه ، إن عبدي هذا أخلص لي في عمله فاجعلوه في عليين.
مطلب مقام الأبرار والفجار ، وشراب كل منهما ، والجنة والنار :
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» 22 جمع بار وهم المتصفون بطاعة اللّه المنتهون عن مخالفته ، المؤمنون بالبعث ، الموفون الكيل والميزان ، وهذا بمقابلة قوله تعالى (إِنَّ الْفُجَّارَ) بما يدل على أن المراد بهم الكفار لا غير ، فهؤلاء الكرام مقرهم عند اللّه في نعيم الجنة الدائم ، وهذا بيان اللّه تعالى بحسن أحوالهم في الآخرة جزاء أعمالهم الطاهرة ، كأنه قيل قد علمنا كتابهم فما هو حالهم ، فيقال نعيم الجنان تراهم «عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة في الحجال «يَنْظُرُونَ» 23 إلى عظمة ربهم جل جلاله وإلى ما أعده إليهم في داره الباقية ، وإلى ما شاءوا من رغائب مناظر الجنة ، وهم في محلهم لا يحجب أبصارهم الحجال التي هم فيها ولا غيرها ، وفي قوله تعالى ينظرون إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة ، كما وردت بذلك الأخبار ، لما في النوم من زوال الشعور وغفلة الحواس ، وهذا لا يناسب ذلك المقام.
قال تعالى «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» الباهية الحسنة اللامعة النضرة «نَضْرَةَ النَّعِيمِ» 24 بهجته(4/516)
ج 4 ، ص : 517
ورونقه لما ترى من النور الساطع عليها الحاصل من سرور قلوبهم ، وفيها أيضا رمز لعدم النوم لأنه يسلب نور الوجه ويغير بهجته كما هو مشاهد في الدنيا ، والخطاب لكل من له حظ من الخطاب إيذانا بأن ما لهم من آثار النعمة واضحة لا يختصّ بها راء دون راء «يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ» 25 لم تمسه يد البتة ، والرحيق اسم نوع من أشربة الجنة أبيض اللون طيب الطعم كريم الرائحة لا غول فيها ولا إثم ، وقد ختم عليها لشرفها وبفاستها بكلمة كن فكانت ، كما أنها تفتح عند شربها بالإرادة ، ولذلك فلا يفض ختمها لمن يشربها إلا عند إرادة الشرب ، قال حسان :
يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
وهذه الخمرة غير الأنهار الجارية في الجنة ، ولها أناس مخصوصون ، فكما أن أهل الجنة درجات متفاوتون في السكنى والمقام والنزهة ، فكذلك هم درجات في المأكل والمشرب والملبس ، متفاوتون متفاضلون بنسبة تفاضلهم في الأعمال ، والفرق بينهما لا يقاس بالفرق بين تفاضل أهل الدنيا ، كما لا تقاس الدنيا بالآخرة ، وهذا الشراب «خِتامُهُ مِسْكٌ» خالص لا بضاهيه مسك الدنيا باللون والرائحة والطعم ، وانك أيها الشارب له تجد طعمه فيها عند شربها من غير طوح الشدادة لأنها ليست من خشب أو شمع أو غيره مما يفعله أهل الدنيا لخمرتهم الخبيثة ، بل هي بحيث عند ما تضعها بين الشفتين تصمحل في الشراب كأنها لم تكن ، ولهذا بقول اللّه تعالى لأهل الدنيا «وَفِي ذلِكَ» الشراب المختص للأبرار والكرام «فَلْيَتَنافَسِ» وليرغب فيه لا في خمرة الدنيا الدنسة المزيلة للعقل ، ولا في شهواتها المنافية للعزة والمهابة والكرامة ، «الْمُتَنافِسُونَ» 26 الراغبون ، ويتباهى به المتباهون ، فعلى العاقل أن يبادر لطاعة اللّه في دنياه ليتوصل إلى هذا النعيم المقيم ، لأنه مما يحرص عليه ويطمع فيه ويريده كل أحد لنفسه ، وينفس به أي يعز عليه ويبخل به ويفضله على غيره ، ويستأثر به ، وأصل التنافس التغالب في الشيء ، والنفيس مأخوذ من النفس لعزّتها ، كأن كلّا من الشخصين يريد أن يختص به لنفسه ، وقال البغوي : أصله من النفيس الذي تحرص عليه النفوس وتشح به على غيرها «وَمِزاجُهُ» مخلوط(4/517)
ج 4 ، ص : 518
ذلك الشراب المسمى بالرحيق ليس ماء عاديا مثل ما يخلط أهل الدنيا شرابهم البدي ليخفف نتنه وحدته ، بل يشاب «مِنْ تَسْنِيمٍ» 27 علم لماء عين بالجنة على غاية من الصفاء والحلاوة والبهاء والرقة ، خلقه اللّه تعالى خاصة لمزج شراب أهل الجنة الذي هو من ذلك النوع.
روي عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة بن اليمان أنها عين من عيون إحدى الجنان العالية.
وهو مصدر مأخوذ من سنم إذا ارتفع ومنه سنام البعير.
وهذه العين هي ارفع شراب أهل الجنة ، ومن خواصها أنها تأتي أهلها الذين يشربون منها أو يمزجون شرابهم منها من جهة الفوق ، لأنها تجري بالهواء بلا أخدود ، ماؤها كريم لكونه «عَيْناً» حال من تسنيم ، وضح يجيء الحال منه مع أنه جامد ، لتأويله بمشتق ، كجارية مثلا ، أو لأنه وصف بقوله تعالى «يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» 28 من اللّه تعالى الدانون عنده بتفضله عليهم لما أسلفوه من أعمال طيبة ، وهذه هي المدامة التي تواصى بها أهل الذوق من أهل الحقيقة الكاملين ، وقد أطنبوا في مدحها ووصفها ، ولم أقف على أفضل من أقوال ابن الفارض رحمه اللّه فيها بقصيدته الرنانة التي لم يسبق بمثلها واللّه أعلم وأولها :
شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وآخرها :
على نفسه قليبك من ضاع عمره وليس له فيها نصيب ولا سهم
وأحسن بيت فيها قوله فيها :
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ونور ولا نار وروح ولا جسم
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي بها لطريق العزم من لا له عزم
وكل بيت فيها أحسن من الآخر وأبلغ وأفصح ، وفيها من أنواع البديع ما لا يستغني عنه البديع.
هذا وقدمنا في الآية 46 من الصافات ما يتعلق في هذا البحث فراجعه.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» من عامة الخلق وخاصة الرؤساء منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشباههم في كل عصر «كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» كعمار وخباب وصهيب وبلال وسليمان وشبههم من فقراء المسلمين الصادقين المخلصين في الدنيا «يَضْحَكُونَ» 29 منهم لمّا يرونهم(4/518)
ج 4 ، ص : 519
استهزاء بهم وسخرية «وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ»
30 أيضا بأن يشير بعضهم إلى بعض بأعينهم وجوارحهم وشفاههم إشارات وحركات تدل على استحقارهم وإهانتهم والطعن بهم ، والسب والشتم والتغيير بما هم عليه من الفقر والكآبة ، فنزلت هذه الآية بهم.
وجاء في البحر أن عليا كرم اللّه وجهه وجماعة من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فصاروا يضحكون منهم ويستخفون بهم فنزلت قبل أن يصل علي وجماعته لحضرة الرسول ليخبروه بذلك ، وعند وصولهم إليه تلاها عليهم ، وهي صالحة للوجهين وعامة في كل من يفعل فعلهم إلى يوم القيامة ، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
وهنا الآية واقعة حال من أولئك الكفرة قبل نزول هذه الآية بدليل قوله تعالى (كانُوا) وجيء بها هنا تمهيدا لذكر بعض أحوال أولئك الأشرار مع هؤلاء الأبرار.
قال تعالى «وَإِذَا انْقَلَبُوا» في مجالسهم ورجعوا «إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» 31 متلذذين فرحين مستبشرين بما فعلوه من الاستخفاف بأولئك الكرام ، معجبين بما ذكروهم فيه في غيبتهم عن أهلهم ويتفكهون به لما له من الوقع في قلوبهم الخبيثة «وَإِذا رَأَوْهُمْ» رأى الكافرون المؤمنين «قالُوا» بعضهم لبعض على مسمع منهم «إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» 32 في انتسابهم إلى محمد وإيمانهم به ، يريدون جنس المؤمنين لا الذين مروا بهم فقط ، وجاء التأكيد بأن واللام لمزيد الاعتناء بسبهم فيقولون إنه خدعهم بقوله وتركوا هذه اللذائذ المحسوسة لما يرجيهم به من شهوات الآخرة الموهومة ، فهم قوم تركوا الحقيقة أملا بالخيال ، وهذا هو عين الضلال لأنهم يظنون أنهم على شيء والحال ليس هم على شيء أصلا ، قاتلهم اللّه أتى يؤفكون ، ألم يعلموا أنهم هم الظالمون الضالون ، ولكن السيء لا يرى إلا السيء ، فالمؤمن مرآة أخيه ، والكافر مرآة نفسه ، والدن ينضح بما فيه ، فلما ذا يقولون هذا ، واللّه تعالى يقول «وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» 33 لهم يراقبون أعمالهم ، ولم يتوكلوا عليهم ، بل أمروا بإصلاح أنفسهم وتهذيبها مما يضرها ، وتطهيرها مما يدنسها ، فاشتغالهم بها أولى من تتبع أحوال غيرهم وتسفيه أحلامهم وترك أنفسهم تمرح في هواها وتحارب مولاها ، ألا يحملون أنفسهم على قبول الحق ، وينهونها عن الضلال ؟ قال تعالى «فَالْيَوْمَ» أي يوم القيامة(4/519)
ج 4 ، ص : 520
يوم البعث والحساب والجزاء ترى «الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» 34 بمقابلة ضحكهم عليهم بالدنيا حين كانوا يرونهم أذلاء مهانين بأعينهم بسبب تسلطهم عليهم وإيقاع الهوان بهم بعد العزة والرفاه ، وإرهاقهم بأنواع العذاب بعد التنعم والترف إذ انقلب الأمر بالعكس عند ما أفضى المؤمنون إلى الآخرة ، فصاروا يسخرون من الكفار كما كانوا يستهزئون بهم في الدنيا حالة عزّهم وكبريائهم ، إذ غاب عنهم ما كانوا فيه ، وتباعد عنهم ما كانوا يأملون ، وزجوا في العذاب ، ولاقوا من الأسى ما لم يكن بالحسبان ، وذلك سبب ضحك المؤمنين منهم ، لأن ما لا قوه في الدنيا من الوبال قد زال وانقلبوا إلى رضاء ربهم ورحمته ، كما أن أولئك زال عنهم نعيم الدنيا ، وغشيهم عذاب الآخرة الدائم ، فاستوجبوا الضحك عليهم لما هم فيه من البلاء ، والمؤمنون في السرور والهناءة ، وهناك الضحك لا هنا :
هذى الجمال لا جمال خيبر هذا أبرّ ربنا وأظهر
قال تعالى (أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية 33 من تبارك المارة ، فأولئك في الجحيم وهؤلاء «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» 35 هذه الجملة حال من فاعل يضحكون أي يضحكون منهم حالة كونهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان وهم متكئون على سررهم ، وأرائك الجنة من الدر والياقوت ، قال أبو صالح : تفتح للكافرين أبواب النار وهم فيها ويقال لهم أخرجوا فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم ، فيفعل فيهم ذلك مرارا ، والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون منهم.
مطلب معني ثوب وفضل الفقر والفقراء وما يتعلق بهم :
قال تعالى «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ» بعمل اللّه هذا بهم في الموقف وفي الجحيم ، وهل جوزوا في الآخرة جزاء «ما كانُوا يَفْعَلُونَ» 36 بالمؤمنين في الدنيا من الأذى والاستهتار والضحك وغيره ، وهذا الاستفهام استفهام تقرير ، أي بل إنهم جوزوا حق جزائهم على إجرامهم في الدنيا ، وحق لهم أن يفعل بهم هذا لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم حسابا.
واعلم أن ثوّب وأثيب بمعنى واحد ، قال أوس :
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي(4/520)
ج 4 ، ص : 521
ومثاله في الشر قول أبى عبده :
ألا أبلغ أبا حسن رسولا فمالك لا تجيء إلى الثواب
وقال المبرّد هو فعل من الثواب يثوب إلى من علم جزاء عمله خيرا أو شرا ، ويعرف بالقرينة ، والثواب والتثويب والإثابة سواء ، وفعل ثوب يطلق على المجازات بالخير والشر ، ولكن اشتهر بالخير وجاء هنا مرادا به الشر على طريق التهكم كقوله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية 31 من آل عمران في ج 3 ، وقوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية 49 من سورة الدخان المارة ، فكأنه تعالى شأنه يقول للمؤمنين هل كافيناكم على عملكم الدنيوي وأثبناكم جزاءه خيرا ، وهل جازينا الكفرة على أفعالهم وعاقبناهم عليها ، أم لا ، فيكون هذا القول من اللّه للمؤمنين زائدا في سرورهم وحبورهم لما فيه من تعظيمهم وإكرامهم ، وزائدا للكافرين في أسفهم وحزنهم لما فيه من هوانهم وشقائهم ، وما حل بهم هذا إلا بسبب تكبرهم على الفقراء وإهانتهم لهم مع كفرهم وجحودهم ، وما كان استخفافهم بفقراء المؤمنين إلا بسبب غناهم وكثرة اتباعهم التي هي من نعم اللّه عليهم ، فبدلا من أن يشكروها ويخبتوا للذي خصّهم بها ، طغوا وبغوا ، قال تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) الآية 7 من سورة العلق ، وقد سئل أبو حنيفة رحمه اللّه عن الغنى والفقر ، فقال وهل طعى من طغى من خلق اللّه إلا بالغنى ، وتلا هذه الآية.
وإن المحققين يرون الغنى والفقر من قبل النفس لا من كثرة الأموال والأولاد والعشيرة ، ولهذا كان الأصحاب رضوان اللّه عليهم يرون الفقر فضيلة ، وقد حدث الحسن رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما ، فقال جليس الحسن أمن الأغنياء أنا أم من الفقراء ؟ فقال تغديت اليوم ؟ قال نعم ، قال فهل عندك ما تتعشى به ؟ قال نعم ، قال فإذا أنت من الأغنياء.
وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يبيت طاريا ليالي ماله ولا لأهله عشاء ، وكان عامة طعامه الشعير ، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع ، وكان يأكل خبز الشعير غير منخول ، وقد عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأبى أن يقبلها ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يقول اللهم توفني فقيرا ولا تتوفني غنيا ، واحشرني في زمرة المساكين.(4/521)
ج 4 ، ص : 522
وقال جابر رضي اللّه عنه : دخل النبي صلّى اللّه عليه وسلم على ابنته فاطمة الزهراء رضي اللّه عنها وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل ، فبكى وقال تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة.
قال تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) الآية 3 من سورة والضحى في ج 1 ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم الفقر موهبة من مواهب الآخرة وهبها اللّه تعالى لمن اختاره ولا يختاره إلا أولياء اللّه.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم هل تنصرون إلا بفقرائكم وضعفائكم ، والذي نفسي بيده ليدخلن فقراء أمتي الجنة قبل اغنيائها بخمسمائة عام والأغنياء يحاسبون على زكاتهم.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به (أي ثوبين خلقين أو كساءين باليبن من غير الصوف) لو أقسم على اللّه لأبرّه.
أي لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه إياها ، ولم يعطه من الدنيا شيئا ، ولو أقسم على اللّه تعالى بإعطائه لأعطاه إياها ، ولكنه لا يفعل.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به (ثم بين صفة الذين لا يؤبه بهم بقوله) الذين إذا استأذنوا على الأمير لا يؤذن لهم ، وإن خطبوا النساء لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم ينصت لهم ، حوائج أحدهم تلجلج في صدره ، لو قسم نوره على الناس يوم القيامة لوسعهم.
هؤلاء الفقراء الذين كانوا ولا يزالون أهل الدنيا يسخرون منهم ، وهم خير منهم عند اللّه تعالى.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم اتخذوا عند الفقراء أيادي (في الدنيا) فإن لهم دولة يوم القيامة ، أي يحتاج إليهم الأغنياء والأمراء ، فإذا أكرموهم بالدنيا فإنهم يشفعون لهم في الآخرة ، اللهم وفقنا لرضاك ، ومتعنا بالعافية ، واسبل علينا سترك ، واجعلنا أهلا لعفوك ، واجعل رزقنا كفافا ، ولا تحوجنا إلى شرار خلقك ، واغرس في قلوبنا حب الفقراء والمساكين من عبادك الصالحين ، ووفقنا للتصدّق عليهم من كرمك وفضلك وجودك المسبل علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا أيها الناس حال الفقراء في الآخرة الدائمة ، فما هو حال الأغنياء فيها لأن حالهم في الدنيا ليس بشىء مهما كان إذا لم يكن لهم عند اللّه مقام في الآخرة ، لأن هذه الدنيا مهما بلغ العبد فيها من الثراء في المال والجاه فمصيرها الزوال ، فاسعوا رحمكم اللّه لما يبقى ، وأكرموا الفقراء لأنهم سيسخرون من الأغنياء يوم القيامة كما كان الأغنياء يسخرون منهم في الدنيا.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا(4/522)
ج 4 ، ص : 523
قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.
وهذا آخر ما نزل في مكة المكرمة من سور القرآن الكريم ولم يبق من القسم المكي إلا آيات أثبتناها ضمن سورها المدنية كما سنأتي على ذكرها في محلها إن شاء اللّه ، وسنشير إليها كما أشرنا في القسم المكي إلى الآيات المدنيات المثبتة ضمن سورها المكية ، وقد ذكرنا شيئا من هجرة الرسول بعد نزول سورة المطففين واجتماع قريش على الصورة المبينة في الآية 40 من سورة العنكبوت المارة ، وقد وعدنا بإكمال قصة الهجرة بعد تفسير الآية 60 منها ، وهانذا أوفي بذلك فأقول ومن اللّه التوفيق :
مطلب بقية قصة الهجرة وفضل أبي بكر الصديق وجوار ابن الدغنة له :
إن حضرة الرسول وأبا بكر لما ذهبا إلى الغار ، وجاء المشركون إليه ، فلم يدخلوه لما رأوا عليه من نسج العنكبوت الدال على عدم دخوله من قبل أحد رجعوا يتحرونة خارج مكة ، لأنهم يعلمون أن أحدا لا يدخله داره بعد أن تحالفوا وتواثقوا على قتله ، وبقي صلّى اللّه عليه وسلم ورفيقه في الغار ثلاثة أيام.
روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا ، فقلت يا رسول اللّه لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه ، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ؟.
قال الشيخ محي الدين النووي :
معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد ، وهو كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) الآية من آخر سورة النحل المارة ، ويشير قوله هذا إلى عظيم توكله صلّى اللّه عليه وسلم حتى في هذا المقام ، وتؤذن بفضل أبي بكر واختصاصه برفقته هذه لحضرة الرسول التي أشار اللّه إليها في قوله (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن اللّه معنا) ، وقوله في صدر هذه الآية 42 من سورة التوبة ج 3 (إلّا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار) وتعد هذه من أجل مناقبه رضي اللّه عنه في هذه الحادثة من أوجه كثيرة ، منها اللفظ الدال على أن اللّه تعالى ثالثهما كما مر في الحديث ، ومنها التنويه في الآية المذكورة بصحبته ، (4/523)
ج 4 ، ص : 524
ومنها بذله نفسه لحضرة الرسول ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة اللّه تعالى وطاعة رسوله ، ومنها ملازمة النبي صلّى اللّه عليه وسلم ومعاداة الناس من أجله ، ومنها أنه جعل نفسه وقاية لحضرة الرسول ، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه ذكر عنده أبو بكر ، فقال وددت أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه ، وليلة واحدة من لياليه.
أما الليلة فليلة سار مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى الغار ، فلما انتهيا إليه قال واللّه لا تدخله حتى أدخل قبلك ، فإن كان فيه شيء أصابني دونك ، فدخله وكنسه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدّه به ، ووجد ثقبين آخرين فألقمهما رجليه ، ثم قال لرسول اللّه أدخل ، فدخل ووضع رأسه في حجره ونام ، فلدغ أبو بكر في رجله من الثقب ، فلم يتحرك مخافة أن ينتبه حضرة الرسول ، فسقطت دموعه على وجهه الشريف ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم مالك يا أبا بكر ؟ قال لدغت فداك أبي وأمي ، فتقل على محل اللدغة فذهب ما يجده من ألم ببركته صلّى اللّه عليه وسلم.
وما قيل إنه انتقض عليه وكان سبب موته بعيد عن الصحة ، لأن ما بين اللدغة وبين موته ما يزيد على إحدى عشرة سنة ، فلا يعقل بقاء أثر اللدغة تلك المدة ، على أن السم إذا برىء منه صاحبه نفع وجوده كما هو معلوم طبا ومشاهدة ، وأما يومه فلما قبض صلّى اللّه عليه وسلم ارتدت العرب ، وقالوا لا نؤدي الزكاة فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه ، فقلت يا خليفة رسول اللّه تألّف الناس وارفق بهم ، فقال لي : أجبار في الجاهلية حوار في الإسلام ، إنه قد انقطع الوحي وتم الدين ، أينقص وأنا حي ؟
- أخرجه في جامع الأصول ولم يرقم عليه علامة لأحد - قال البغوي : وروي أنه حين انطلق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى العار جعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلقه فقال له رسول اللّه مالك يا أبا بكر ؟ فقال أذكر الطلب فأمشي خلقك ، وأذكر الرصد فأمشي بين يديك ، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول اللّه حتى أستبرئ الغار ، فدخل فاستبرأه ، ثم قال انزل يا رسول اللّه ، فنزل وقال له إن أقتل وأنا رجل واحد من المسلمين ، وإن قتلت هلكت الأمة.
قال الزهري لما دخل رسول اللّه الغار وأبو بكر أرسل اللّه سبحانه وتعالى زوجا من حمام حتى باضت أسفل النقب ، ونسجت العنكبوت بيتا ، وقيل أتت يمامة على فم الغار وقال صلّى اللّه عليه وسلم(4/524)
ج 4 ، ص : 525
اللهم أعم أبصارهم ، فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت.
هذا وقد وجدت في بعض التفاسير هذه الأبيات منسوبة لأبي بكر رضي اللّه عنه ، فأثبتها وهي :
قال النبي ولم يجزع يوقرني ونحن في سدف في ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن اللّه ثالثنا وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره كيد الشياطين قد كادت لكفار
واللّه مهلكهم طرّا بما صنعوا وجاعل المنتهى منهم إلى النار
ومنها أنه صلّى اللّه عليه وسلم لما اختفى في الغار كان مطلعا على باطن أبي بكر في سرّه وإعلانه بأنه من المؤمنين الموقنين المخلصين ، ولذلك اختار صحبته في ذلك الوقت الرهيب والمكان المخوف ، ومنها أن هذه الهجرة كانت بإذن اللّه تعالى فخص بصحبته فيها الصديق دون غيره من أهله وعشيرته ، وهذا التخصيص يدل على فضل أبي بكر وشرفه على غيره ، ومنها أن اللّه تعالى عاتب أهل الأرض كلهم بقوله عز قوله (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) الآية المارة من التوبة سوى أبي بكر ، وهذا دليل كاف على فضله على أهل الأرض كلهم عدا صاحبه ، ومنها أنه رضي اللّه عنه لم يتخلف عن رسول اللّه في سفر ولا حضر بل كان ملازما له في الشدة والرخاء وهذا مما يدل على صدق محبته له وكثرة مودته بحيث لا تستطيع نفسه الكريمة مفارقة حضرة الرسول في اليسر والعسر ، ومنها مؤالسته للنبي صلّى اللّه عليه وسلم في الغار وبذل نفسه له وفداء زوجه أمامه كما تقدم ذكره حال المشي وحال الدخول وحال الاستقرار في الغار مما يحقق تمحضه فيه ، ولهذا جعله اللّه تعالى ثاني رسوله بقوله عز قوله (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) الآية المارة من التوبة ، وفي هذا نهاية الفضيلة وغاية الكرامة له.
وقال بعض العلماء : إن أبا بكر ثاني رسول اللّه في أكثر الأحوال ، ومنها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم دعا الخلق إلى الإيمان باللّه وبكتابه فكان أبو بكر أول من أجاب دعوته ، وهو أول من دعا إلى الإيمان بعد رسول اللّه فاستجاب له عثمان وطلحة والزبير ، فآمنوا على يديه وحملهم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأقروا له بالإيمان ، ومنها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لم يقف في موقف من غزواته إلا وأبو بكر(4/525)
ج 4 ، ص : 526
معه لشدة حرصه عليه ، ومنها أنه لما مرض صلّى اللّه عليه وسلم قام مقامه في الإمامة بأمره صلّى اللّه عليه وسلم مما يدل على تفضيله على سائر الأصحاب ، ومنها أنه ثانيه في تربته صلّى اللّه عليه وسلم لأنه دفن بجانبه وفي هذا دليل على فضله أيضا ، ومنها أن اللّه تعالى نص على صحبته دون غيره بقوله جل قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) الآية الآنفة الذكر من التوبة ، ومنها أن اللّه تعالى كان ثالثهما ، ومن كان اللّه معه فهو كاف على فضله وشرفه على غيره ، ومنها إنزال السكينة على أبي بكر واختصاصه بقوله تعالى (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) الآية المذكورة أيضا ، قال ابن عباس المراد أبو بكر لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل ذلك.
هذه نبذة قليلة من فضائله رضي اللّه عنه قال الأبوصيري :
وما حوى الغار من خير ومن كرم وكل طرف من الكفار عنه عمي
فالصدق في الغار والصديق لم يرما وهم يقولون ما في الغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية اللّه أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
هذا وبعد أن بقي النبي صلّى اللّه عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاثة أيام بلياليها لا حامي لهما إلا اللّه ولم تترك قريش محلا إلا دخلته تفتش عليه ، وكان أبو بكر منذ أخبره حضرة الرسول بإذن اللّه بالهجرة ووافق على استصحابه معه استحضر راحلتين ليركبا عليهما وصار يعلفهما ، وقيل أن يذهبا إلى العار استدعيا رجلا من بني عدي وسلماهما إليه وأمراه بإكرامهما ، وواعداه أن يحضرهما إليهما بعد صبيحة ثلاث إلى الغار ، وفي الوقت المذكور أتى بهما إليهما فخرجا من الغار والناس نيام بعد والعيون منقطعة ، فركب كل منهما واحدة واستصحبا الديلى دليلا ومشيا على بركة اللّه قاصدين المدينة ، كما جاء في الحديث الصحيح الذي هو من إفراد البخاري المروي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين الإسلامي ، ولم يمر علينا يوم إلا ويأتينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية ، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو الحبشة ، حتى إذا بلغ برك الغماد (بفتح الراء وكسر الغين موضع بينه وبين مكة خمس ليالي مما يلي البحر لأن طريقهما كان على الساحل)(4/526)
ج 4 ، ص : 527
لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة ، فقال أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي ، فقال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار ، فارجع واعبد ربك ببلدك ، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة ، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج ، تخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق. - ولو قال كما قال مؤمن آل فرعون (أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) الآية 28 من سورة المؤمن المارة لأن الجلاء أخر القتل عندهم بل أشد ، ولكنه لا يدين بدين اللّه حتى يقول ذلك بتوفيق اللّه ، وإنما وصفه بأوصافه الكريمة وهو لها أهل - .
فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة ، وفي رواية : فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر ، وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها ويقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به ، فإنا نخشى أن يفتن نساؤنا وأبناؤنا ، فقال ذلك ابن الدغنه لأبي بكر ، فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره ، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذّف عليه نساء المشركين وأنباؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه ، وكان رجلا لا يكاد يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، فأفزع ذلك اشراف قريش من المشركين ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم ، فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره ، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره ، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه ، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا ، فانهه ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فله أن يرد إليك ذمتك ، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال له قد علمت الذي عاهدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإمّا أن ترجع إلي ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له ، فقال أبو بكر إني أردّ إليك جوارك وأرضى(4/527)
ج 4 ، ص : 528
بجوار اللّه ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلم يومئذ بمكة ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم للمسلمين إني أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان.
فهاجر من هاجر قبل المدينة ، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر قبل المدينة ، فقال له صلّى اللّه عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ، فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال نعم ، فحبس أبو بكر نفسه على رسول اللّه ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر وهو الخبط أربعة ، أشهر.
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة : فبينما نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي ، واللّه ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، قالت فجاء رسول اللّه فاستأذن فأذن له ، فدخل فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك ، فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ، قال فإني قد أذن لي في الخروج ، قال أبو بكر الصحبة يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نعم ، قال أبو بكر فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه إحدى راحلتي هاتين ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالثمن ، قالت عائشة فجهزناهما أحسن الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها (التي تشد به وسطها) فربطت به فم الجراب ، فبذاك سميت ذات النطاقين ، قالت ثم لحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور ، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد اللّه بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن (صادق فطن مرن سريع الفهم سريع الانتقال) ، فيدلج (الإدلاج بالتخفيف السير أول الليل وبالتشديد آخره) من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كباثت فيها ، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة (المنحة الشاة ذات اللين) من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء ، فيبيتان في رسل (بكسر الراء وسكون السين اللين) حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عدي هاديا خرّيتا(4/528)
ج 4 ، ص : 529
(الخرّيت الماهر في الدلالة) قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي (أي أخذ نصيبا من حلفهم وعهدهم) وهو على دين كفار قريش ، فآمناه ودفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال ، فأتاهما صبح ثلاث ، فارتحلا ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي ، فأخذ بهم طريق الساحل ، وفي هذا قال الأبو صيري ينعى حال قريش وقبح صنيعهم مع حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم :
ويح قوم جفوا نبيا بأرض ألفته ضبابها والضباء
أخرجوه منها وآواه غار وحمته حمامة ورقاء
وجفوه وحن جذع إليه وقلوه ووده الغرباء
وكفته بنسجها عنكبوت ما كفته الحمامة الحصداء
واختفى منهم على قرب مرآ ه من شدة الظهور الخفاء
الأبيات من قصيدته التي قل أن توجد قصيدة مدح يبلاغتها وجمعها للمعاني ، ولهذا قالوا ما مدح خير البرية بأحسن من البراءة والهمزية ، وكلاهما له رحمه اللّه.
مطلب قصة سراقة بن مالك الجشعمي حين الحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة ابن مالك بن جشعم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جشعم يقول : جاءنا رسول كفار قريش لما هاجر رسول صلّى اللّه عليه وسلم إلى المدينة ومعه صديقه رضي اللّه عنه ، يخبرنا أنهم أرسلوا في أثرهما الرسل ، وبئوا العيون ، ونصوا الأشراك ، وأقاموا الأرصاد ليحولوا دون هجرته ، فلم يظفروا به ، وأنهم جعلوا جائزة قدرها مئة ناقة لمن يقتل أحدهما أو يأسره ، ومئتان لمن يقتلهما أو يأتي بهما ، قال سراقة فيلنا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس ، فقال يا سراقة إني قد رأيت أسودة بالساحل (أي أشخاصا) أراهما محمدا وأصحابه ، قال سراقة فعرفت أنهم هم ، فقلت له إنهم ليسوا هم ، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم ، ثم لبنت في المجلس ساعة ، ثم قمت ، فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج الفرس وراء الأكمة (هي التل المرتفع) فتحبسها علي ، وأخذت رمحي ، فخرجت من ظهر البيت كي لا يراني أحد ، لأختص(4/529)
ج 4 ، ص : 530
بتلك الجائزة دون قسيم أو شريك ، قال فخططت بزجه الأرض ، وخفضت عاليه ، حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تضرب بي (تعدو عدوا دون الإسراع) ، ثم صرت أشتد في أثرهم حتى دنوت منهم ، فعثرت فرسي ، فخررت عنها ، فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي (الجعبة التي فيها السهام) فاستخرجت منها الأزلام (الأقداح التي كانوا يتفاءلون بها) فاستقسمت بها أضرهم أم لا ، فخرج الذي أكره ، فركبت فرسي وعصيت الأزلام ، فلا زالت تضرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات يمينا وشمالا ، وإذ ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين ، فخررت عنها ثم زجرتها فلم تكد تخرج يديها فنهضت ، فلما استوت قائمة إذا الأثر بين يديها غثان (غبار) ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسمت بالأزلام ثانيا فخرج الذي أكره ، فناديتهم بالأمان فوقفوا ، فركبت فرسي حتى جئتهم ، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم ان سيظهر أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقد رأيت أن الخوف دخل أبا بكر ، ولكن الرسول ثابت فؤاده ، ولما تاديت بالأمان ترجلت خشية أن يصيب فرسي ما أصابها قبل ، حتى إني خشيت على نفسي أن يصيبها ما أصاب فرسي ، فقلت له يا رسول اللّه إن قومك قد جعلوا فيك وفي صاحبك الدية ، وإنهم يريدون قتلكما وإني راجع رادهم عنك ، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزأني (لم يأخذا مني شيئا) ولم يسألاني إلا أن قالا أخف عنا ما استطعت ، فقلت يا رسول اللّه أدع اللّه أن يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع وأردّ عنك ، واكتب لي كتاب أمن بأنك إذا أظهرك اللّه وملكت رقاب الناس وجئتك أن تكرمني ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده ، وأمر عامر بن فهيرة أن يكتب لي العهد ، فأبيت إلا أن يكون الكاتب أبا بكر ، فأمره ، فكتب له رقعة من أديم ما أراد من العهد ، أمانا له عند ظهور أمره.
وهذا مما يؤيد عدم معرفته صلّى اللّه عليه وسلم الكتابة كما ذكرنا في الآية 48 من سورة العنكبوت المارة ، قال ثم عرضت عليه ثانيا أن يتزود من مالي ما شاء فقال يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في إبلك ومواشيك ، فقلت مرني بما شئت ، فقال لا تترك أحدا يلحتنا ، وقال كيف بك يا سرافة إذا(4/530)
ج 4 ، ص : 531
تسورت بسواري كسرى ؟ فقلت متعجبا كسرى بن هرمز ؟ قال نعم ، فرجعت ومضى رسول اللّه ومن معه لجهة المدينة ، قال سراقة ولما عدت إلى مكة اجتمع إليّ الناس يسألونني عما حدث لي مع رسول اللّه ، فأنكرت أولا رؤيته بتاتا ، ولكنهم عادوا علي واستخبروني فأخبرت أبا جهل بما حدث فلامني على ما كان مني ، فأنشدته معتذرا بما ألقى اللّه على قلبي ولساني فقلت :
أبا حكم واللّه لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
قالوا ولما كان عام الفتح وكان رسول اللّه عائدا من غزوة حنين بالجعرانة ، إذا بصائح يصيح يا رسول اللّه ، حتى أنخرط في كتيبة الأنصار وهو ينادي يا رسول أنا سراقة بن مالك ، وهذا كتاب عهدي منك ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أدنوه ، فهذا اليوم يرى وفاء ، وقال له إن وعد الحرّ دين ، فأسلم وحسن إسلامه وحظي بسواري كسرى زمن خلافة ابن الخطاب ، وأخبر بأن هذا مما أخبره محمد صلّى اللّه عليه وسلم بهما عام الهجرة.
فهي من معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم.
قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين ، كانوا تجارا قافلين من الشام ، فكسا الزبير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض ، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة (أرض ذات حجارة خارج المدينة فينتظرونه حتى يردّهم حر الظهيرة ، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على ظهر أطم من آطامهم (أشرف على بناء مرتفع من أبنيتهم) لأمر ينظر إليه ، فبصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي نفسه أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه ، قال فثار المسلمون إلى السلاح وظهروا يتلقون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الاثنين غرة ربيع الأول سنة 54 أربع وخمسين من ميلاده الشريف ، الثالث عشر من البعثة المقدسة ، فجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقام أبو بكر للناس يتلقاهم ويصرفهم والتي صامت ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يعرف رسول(4/531)
ج 4 ، ص : 532
اللّه يحيي أبا بكر لأنه هو الذي يتلقاهم ويصافحهم ويجلسهم مجالسهم ، ويقصد بذلك عدم تكليف حضرة الرسول واحتراما وتكريما لمقامه ، فظنوا أنه هو الرسول ، ولما قربت الشمس من مجلسهما ورأى أبو بكر أن الشمس أصابت حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم قام فظلل عليه بردائه ، فعرف الناس كلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عند ذاك ، فلبث صلّى اللّه عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي أخبر اللّه عنه بأنه أسس على التقوى في الآية 110 من سورة التوبة في ج 3 ، وصلى فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، ثم ركب راحلته فسار والناس تمشي خلفه حتى بركت عند مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وسلم الآن بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مريدا للتمر (بيدر التمر) وهو ملك لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حين بركت به راحلته : هذا إن شاء اللّه المنزل ، ثم دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمريد ليتخذه مسجدا ، فقالا بل نهيه لك يا رسول اللّه ، فأبى رسول اللّه أن يقبله منهما هبة ، حتى ابتاعه منهما بما أرضاهما ، ثم بناه مسجدا ، وطفق رسول اللّه ينقل مع أصحابه اللين والتراب ويعين أصحابه في بنائه ، وكان يقول أثناء شغله معهم :
هذي الحمال لا حمال خيبر هذا أبرّ ربنا وأطهر
يعني بذلك أن الحجارة التي تحملها لبناء المسجد أفضل عند اللّه تعالى مما يحمل من خيبر من المال والميرة وغيرها من أنواع التجارة ، وفي رواية بالجيم من التجميل أو من الجمال وعليه يكون المعنى أن ما تحمله الجمال من خيبر مما هو جميل بنفسه أو أن الجمال فقط وهي الإبل ليست بشيء بالنسبة لما هم فيه من بناء المسجد الشريف والرواية الأولى أشهر ، قالوا وكان يقول صلّى اللّه عليه وسلم :
اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
وقيل إنه تمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسمّه ، قال ابن شهاب : ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول اللّه تمثل بيت شعر تام غير هذا البيت ، وهو من الرجز ولا يسمى الرجز شعرا ، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا في الآية 68 من سورة الشعراء والآية 70 من سورة يس في ج 1 ، أخرجه البخاري ، وقد أخرج الدارقطني وابن(4/532)
ج 4 ، ص : 533
شاهين وابن مردويه وغيرهم عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأبي بكر رضي اللّه عنه أنت صاحبي في الغار وأنت رفيقي على الحوض.
وأخرج ابن عساكر من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما وأبي هريرة مثله ، وأخرج هود ابن عدي عن طريق الزهري عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لحسان هل قلت في أبي بكر شيئا ؟ قال نعم ، قال قل ، فقال رضي اللّه عنه من جملة ما قال في حقه :
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدوّ به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول اللّه قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول اللّه حتى بدت نواجذه ، ثم قال صدقت يا حسان هو كما قلت ، وقال بعضهم إن شبان قريش ذهبوا نحو الغار بأسلحتهم حتى كانوا عنه قدر أربعين ذراعا فتقدم أحدهم وهو أمية بن خلف فقال إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد ، فانصرفوا ، وزاد البيهقي في الدلائل أن أبا بكر صار يمشي مرة عن يساره ، ومرة عن يمينه ، وانه قال لحضرة الرسول لا آمن عليك وان محمدا صلّى اللّه عليه وسلم صار يمشي على أطراف أصابعه حتى حقيت رجلاه ، فلما رأى ذلك أبو بكر حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى فم الغار ، قالوا وجرح صبع أبي بكر أثناء كله الغار ، فجعل يمسح الدم ويقول :
ما أنت إلا أصبح دميت وفي سبيل اللّه ما لقيت
وذهب الذين كانوا في طلبه صفر الأكف سود الوجوه ، وصار له بعض من كان عليه ، وهذا أول خير من فضائل الهجرة ، إذ صاروا يتلاومون على فعلهم الذي سبب هجرته عنهم فقد أخرج ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن أنس رضي اللّه عنه قال : لما خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأبو بكر التفت أبو بكر ، فإذا هو بفارس قد لحقهم ، فقال يا نبي اللّه هذا فارس قد لحق ربنا ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم اللهم اصرعه ، فصرع عن فرسه ، فقال يا رسول اللّه مرني بما شئت ، قال تقف مكانك لا تتركنّ أحدا يلحق بنا ، فكان أول النهار جاهدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وآخر النهار مسلحة له ، وكان هذا الفارس سراقة المار ذكره في الحديث الأول الذي رواه البخاري.
وصح من حديث الشيخين وغيرهما أن القوم طلبوا رسول(4/533)
ج 4 ، ص : 534
اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأبا بكر ، وقال أبو بكر ولم يدركنا إلا سراقة على فرس له ، فقلت يا رسول اللّه هذا الطلب قد لحقنا ، فقال لا تحزن إن اللّه معنا كما أشار اللّه بهذا في الآية 42 من سورة التوبة في ج 3 ، حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة ، قلت يا رسول اللّه هذا الطلب قد لحقنا وبكيت ، قال لم تبك ؟ قلت أما واللّه ما أبكي على نفسي ولكن أبكي عليك ، فدعا عليه الصلاة والسلام ، وقال اللهم اكفناه بما شئت ، فساخت فرسه إلى بطنها في أرض جلدة (قوية) ووثب عنها ، وفي رواية : قال اللهم اكفناه بما شئت وكيف شئت ، فساخت قوائم فرسه في الأرض ولم تقو على مغادرتها فهال الأمر سرافة وانخلع قلبه فزعا وهلعا ، فترجل خشية أن يصيبه ما أصاب فرسه ، ونادى الأمان يا محمد أنظرني أكلمك ، أنا لك نافع غير ضار ، وقال يا محمد إن هذا عملك فادع ربك أن ينجيني مما أنا فيه ، فو اللّه لأعمين على من ورائي من الطلب ، واني راجع رادهم عنك ، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي رغنمي في موقع كذا وكذا فخذ منها حاجتك ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا حاجة لي فيها ، ودعا له ، فانطلق راجعا إلى مكة وقال ما قال كما مر آنفا ، ورجع إلى أصحابه من بقية الطلب ، ومضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة.
الحديث.
قالوا وكان في استقبال الرسول جماعة من أهل المدينة غير المهاجرين ، وكان معهم الفتيات يفتين فرحا باستقباله صلّى اللّه عليه وسلم ، ومن جملة ما نقل عن أناشيدهن :
أقبل البدر علينا من ثبات الوداع وجب الشكر علينا ما دعى للّه داع
ومنهن من قلن :
نحن بنات من بني النجار يا حبذا محمد من جار
ويضربن بالدف ويظهرن معالم الفرح والسرور بقدومه بما جرت عليه عادتهم رضي اللّه عنهن وأرضاهن ، فيظهر من هذه المعجزات التي أظهرها اللّه على يدي رسوله في مكة وآخرها قضية سرافة أن حضرة الرسول لم يهجر بلده مكة وقومه وعشيرته فيها عن ضعف أو خوف ، كيف وقد أخبره اللّه تعالى في إنزال العذاب فيهم مرارا فلم يفعل لشدة حرصه على إسلامهم ، وكان يجابه ربه بقوله اللهم اهد(4/534)
ج 4 ، ص : 535
قومي فإنهم لا يعلمون ، وإنما كانت هجرته هذه اتباعا لأمر اللّه تعالى وتقديره الأزلي في ذلك ، وكان فيها الخير والبركة وعلو الكلمة وشرف السمعة ، وان قومه بعد رجوعهم من طلبه وسماعهم قول سراقة وما جرى له معه ، راجعوا أنفسهم ورأوا أنهم مقصرون تجاهه ، وانشقوا في الرأي وأوقعوا اللوم على الذين قرورا قتله في دار الندوة حتى نشأ عنه تركه إياهم وصاروا يمحصون أقواله ويفندون أفعاله ، فلم يروا منها ما يوجب النقد أو النفع الخاص أو الضرر لأحد ، أو أن ذلك لطلب الرياسة أو المال أو غيره ، وإنما يدعو لتوحيد اللّه ، وهذا شيء لم يألفوه من قبل ولم يتلقوا شيئا منه عن آبائهم فخالقوه ، ويدعو للاعتراف بالبعث بعد الموت وهو لا تقبله عقولهم ، وان هذين الأمرين ما كان أحد منهم يقسر على الاعتراف بهما ، وإنما على طريق النصح والإرشاد وليس إلا ، لذلك تيقنوا ان سقط في أيديهم وندموا على ما فعلوا وعنقوا غيرهم عليه ، وقالوا إنه سيجد في المدينة أنصارا وأعوانا ربما أنّهم سيهاجموكم في عقر داركم هذه ، وقد أوقع اللّه الرعب في قلوبهم وصاروا يترقبون خوف الكرة عليهم بمن دان بدينه ، وكان ذلك ، إذ أظهره اللّه عليهم وأتم أمره فيهم ، كما سيأتي في قصة الفتح إن شاء اللّه تعالى عند تفسير الآية الأولى من سورة الفتح في ج 3 ، هذا وما ذكرناه من الأحاديث هو خلاصة ما جاء في الهجرة وسببها وكيفيتها ، ومن أراد التفصيل فعليه بمراجعة سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية ، ففيهما الكفاية.
ومما تقدم تبين لك أيها القارئ عظيم فضل سيدنا علي كرم اللّه وجهه ، لأنه هادى بنفسه الكريمة في طاعة ابن عمه محمد صلّى اللّه عليه وسلم حينما دعاه حالة إحاطة شبان قريش بداره وأخبره بما قصدوه من قتله ، وقال له أنت تنام في مكاني في بيتي وتبقى لتؤدي الأمانات وغيرها كما مر آنفا ، فلم يتلكأ وقبل عن طيب نفس ورضى قلب ، فتركه صلّى اللّه عليه وسلم على فراشه وخرج على الصورة المارة ، وحثا على رءوس شبان قريش التراب ولم يحسوا به.
هذا وان ما قاله بعض المتنطعين من ان رسول اللّه هاجر مكرها وخشية من القتل قول لا قيمة له ، كيف وقد تعهد اللّه له بالنصر وحماه من مواقف الكفر كلها طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة ، وقد خيره اللّه في إهلاك أهلها فأبى عليهم وسأل ربه هدايتهم ، وانه خرج من(4/535)
ج 4 ، ص : 536
بين شبان قريش الذين كانوا سالين سيوفهم ليقتلوه عند خروجه فلم يتعرض له أحد منهم لأنه بحجاب من اللّه تعالى الذي معه في كل أحواله ، ولكن ما كانت الهجرة إلا تنفيذا لما هو في علم اللّه ولأن خير الإسلام وأهل مكة متوقف عليها ، راجع الآية 103 من آل عمران ج 3 ، كما أن ما قاله بعض من لا خلاق له في الدنيا ولا نصيب في الآخرة ولا حظ له عند اللّه تعالى من أن حضرة الرسول إنما استخلف عينا على فراشه ليقتله شبان قريش المحيطون بداره ويتخلص منه ، وان سبب مصاحبة أبي بكر له ليكيده به ، ما هو إلا قول زور وكذب وافتراء وبهت غني عن الرد ، إذ لا يصدقه عاقل ولا يقول به جاهل كيف وهو ابن عمه ووزيره ووصيه وصهره وسيفه وعدته للنوازل ، وهو منه بمنزلة هرون من موسى ، قاتل اللّه صاحب هذا القيل ومن يصغي إليه ، وما هو إلا ناشىء عن محض عداء وخالص فتنه من قلب ضال ولسان مضل ، أبعده اللّه في الدنيا عن الصواب ، وشدد له في الآخرة العذاب ، وأهانه بالهوان يوم المعاد (ومن يضلل اللّه فماله من هاد).
هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه العظيم.
ثم الجزء الثاني من هذا التفسير المبارك ، وهو يحتوي على ست وثلاثين سورة من القرآن العظيم ، أو لها يونس وآخرها المطففين ، وقد أثبتناها بحسب نزولها الذي استفرق ثلاث سنين وسبعة أشهر وثلاثة عشر يوما ، وذلك من 27 رجب سنة 10 من البعثة إلى ربيع الأول سنة 13 منها ، فيكون مدة نزول القسم المكي من القرآن العظيم عدا الآيات المدنيات منه اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما ، وثلاثة أيام ، باعتبار أول النزول في 17 رمضان سنة 41 من ميلاده الشريف والأظهر في 22 منه.
ويليه القسم المدني أوله سورة البقرة ، وآخره سورة النصر.
والحمد للّه رب العالمين أولا وآخرا.
وقد وقع الفراغ منه يوم السبت 1 رجب سنة 1357 الموافق 25 آب سنة 1938 وبهذا التاريخ نفسه صار البدء بالجزء الثالث ، ومن اللّه العناية والتوفيق ، والهداية إلى أقوم طريق ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.
الفقير إليه عبد القادر ملا حويش الغازي(4/536)
ج 4 ، ص : 537
فهرست القسم الثاني من الجزء الثاني
صفحة الموضوع 1 سورة فصلت 4 مطلب لما ذا كان خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ومنى خلق آدم 8 مطلب ردّ النبي صلّى اللّه عليه وسلم على رسول قريش والأيام النحسات 11 معنى الهداية وشهادة الأعضاء وكلام ذويها وما يتعلق بذلك 15 ما للمؤمنين عند اللّه ومراتب الدعوة إلى اللّه ودفع السيئة بالحسنة 17 في النزع وسجود التلاوة وعهد اللّه في حفظ القرآن وما يتعلق بذلك 21 القرآن هدى لأناس ضلال لآخرين بآن واحد ، عدم جواز نسبة الظلم اللّه 26 سورة الشورى 28 تسمية مكة أم القرى وإقامة الدين 33 الاستقامة ، الميزان ، آل البيت ، عدم الأجرة على التعليم ، ومعنى ليس كمثله شيء ومقاليد السموات.
42 بسط الرزق وضيقه والتوبة وشروطها والحديث الجامع ونسبة الخير والشر 46 أرجى آية في القرآن.
التناسخ والتقمص معجزات القرآن.
الفواحش إلخ 57 التوالد والتولد وأقسام لوحي ومن كلم اللّه ورأى من الرسل 60 سورة الزخرف 62 نعمة المطر نعمة الدواب والأنعام وما يقال عند السفر والرجوع منه 69 هوان الدنيا عند اللّه وتناكر القرينين يوم القيامة ، الخلافة لقريش ، وما نزل في بيت المقدس.
77 إهلاك فرعون ، ونزول عيسى ، وما نزل في عبد اللّه بن الزبعري 73 في نزول عيسى أيضا ، والصحبة وما فيها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا 92 سورة الدخان 93 ليلة القدر وليلة براءة وفضل الأزمنة والأمكنة 98 آية الدخان.
وبكاء السماء والأرض.
وقصة موسى وتبع وألقاب الملوك 106 ادعاء أبو جهل في الدنيا ومأواه في الآخرة نعيم الجنة ومعنى الموتة الأولى(4/537)
ج 4 ، ص : 538
109 سورة الجائية 115 مطلب مذهب القدرية.
ذم الهوى.
الدهر وما قيل فيه 122 سورة الأحقاف 123 دعاء الفكرة.
تبرؤ الرسول من علم الغيب 130 خصائص أبي بكر.
رد عائشة على مروان معرفة الراهب ، وفيمن نزلت هذه الآية 132 في قوله تعالى (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) وكيفية إهلاك قوم عاد 137 تكليف الجن.
دخولهم في رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
وأولو العزم من هم 141 سورة الذاريات 143 قيام الليل وتقسيم الأعمال والصدقات وآيات اللّه في سمائه وأرضه 146 أنواع الرزق.
حكاية الأصمعي.
ضيف إبراهيم 156 سورة الغاشية 159 الإبل وما ينبغي أن يعتبر به ، والتحاشي عما يكذبه العوام والعامة 162 سورة الكهف 165 خطيب أهل الكهف وحمل الزاد من التوكل على اللّه 170 أسماء أهل الكهف وقول أبي يوسف في الاستثناء والملك الصالح وقصة أهل الكهف 176 أمر النبي بملازمة الفقراء والاعراض عن الكفرة فيهما كانوا وقعة أصحاب الجنة 182 مثل الدنيا ، وتمثيل الأعمال بمكانها وزمانها ونطفها يوم القيامة كما في السينما 185 إبليس من الجن ليس من الملائكة وأنواع ذريته وما جاء فيهم من الأخبار 190 قصة موسى مع الخضر 195 عدم جواز القراءة بما يخالف المصحف.
الحضر ولي أم نبي حي أم ميت 199 من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله.
والآيات المدنيات 204 ليس ذو القرنين مقدونيا ولا يونانيا ولا رومانيا 210 سورة النحل 212 جواز أكل لحوم الخيل وتعداد نعم اللّه على خلقه(4/538)
ج 4 ، ص : 539
216 إعراب لا جرم ولفظها ، قدم لسان العرب ، تبلبل الألسن ، وذم الكبر 220 التوفيق بين الآيات والحديث وآيات الصفات 224 التعريض الثاني بالهجرة.
عدم الأخذ بالحديث إذا عارض القرآن 227 أنواع السجود للّه تعالى ، تطاول العرب باتخاذ الملائكة آلهة 232 جواز تذكير اسم الجمع وشبهه ، كيفية هضم الطعام ، صيرورة اللبن في الضرع 235 ما هو السكر وما يخرج من النحل وأقسام الوحي 245 أجمع آية في القرآن ، قول ابن عباس فيمن حب عليا رضي اللّه عنهما وأنواع العهود 252 التقية في الكفر والكذب والأخذ.
بالعزيمة والرخصة.
والتعريض للهجرة ثالثا 255 ضرب المثل ، وما هي هذه القرية وعظيم فضل اللّه 259 يوم الجمعة والآيات المدنيات وكيفية النصح والإرشاد والمجادلة وما يتعلق فيها 264 سورة نوح 266 مطلب أطوار الإنسان وعبدة الأوثان وعذاب القبر 274 الانتساب إلى ما بعد عدنان.
محاورة الكفرة.
وسؤال الملكين في القبر 271 سورة ابراهيم 283 نفع الخلة ومضرتها.
عدم إحصاء نعم اللّه.
ظلم الإنسان نفسه 289 في الغفلة.
والقب والشكرى فتح لام كي وكسرها وما يتعلق بها 294 سورة الأنبياء 295 وصف الكفرة.
كلام اللّه غير محدث.
ومعنى اللهو إلخ 299 برهان التمانع فساد السموات والأرض وما يتعلق بهما 304 الأفلاك وما يتعلق بها.
الشمائة.
وزن الأعمال.
لإخبار بالغيب 314 إلقاء إبراهيم في ثنار ماذا قال وما قيل له في مدح الشام 318 الجمع ما فوق لواحد.
أحكام داود وسليمان.
سير البساط وما يتعلق بذلك 323 قصة أيوب عليه السلام.
من تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام.
333 إخساء عبد اللّه بن الزبعرى وجماعته ، من كان كافرا في أصل الخلقة(4/539)
ج 4 ، ص : 540
339 سورة المؤمنين 339 مطلب الخشوع والمحافظة على الصلاة والزكاة والأمانة والعهد إلخ 345 مراتب الخلق وتعداد نعم اللّه على خلقه 351 هجرة عيسى عليه السلام مع أمه والنجار لمصر.
أصول الدين متساوية وما أمر اللّه به المؤمنين أمر به الأنبياء صلوات اللّه عليهم 357 توبيخ الكفرة على الطعن بحضرة الرسول.
خطبة أبي طالب على ملأ من قريش وإقرارها 360 أصاب قريش القحط ثلاث مرات ، اعترافهم باللّه وعبادتهم غيره ومتعلقات برهان التمانع 366 التقاطع بين الأقارب والأحباب والمحبة النافعة وغيرها وما يتعلق بذلك 369 سورة السجدة 370 أهل الفترة من هم نسبة أيام الآخرة إلى أيام الدنيا 375 الآيات المدنيات.
قيام الليل.
الحديث الجامع وجملة أحاديث متعلقة بالبحث 381 سورة الطور 383 معجزات القرآن.
طبقات الأرض.
الميكروب 388 الحجج العشر.
عذاب القبر.
قيام الليل.
الإخبار بالغيب دعاء المجلس 392 سورة تبارك الملك 392 إمكان القدرة.
فوائد الكواكب 398 تبري الرسول عن علم الغيب وأمرهم الرسول سؤال الكفرة 400 سورة الحاقة 402 أحوال القيامة وإعطاء الكتب وحال أهلها 406 سورة المعارج 406 ما هو اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة 412 سورة النبأ 417 سورة النازعات 421 المياه كلها من الأرض.
ذم الهوى.
انقسام الخلق إلى قسمين.
السؤال عن الساعة 425 سورة الانفطار 427 الحفظة الكرام.
الشفاعة.
سليمان بن عبد الملك(4/540)
ج 4 ، ص : 541
429 سورة الانشقاق 435 سورة الروم 435 بيان غلب الروم 436 قد يكون العاقل أبله في بعض الأمور ، وغلب فارس وقتل الترجمان 440 مآخذ الصلوات الخمس وفضل التسبيح.
دلائل القدرة على البعث 444 جواز الشركة.
معنى الفطرة لخلق اللّه.
كل إنسان يولد على الفطرة 448 ما قاله البلخي للبخاري.
حق القريب على قريبه.
الربا وما شابهه 452 ظهور الفساد في البر والبحر والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر إلخ 456 إسماع الموتى.
تلقين الميت في القبر.
إعادة روحه إليه والأحاديث الواردة 459 أدوار الخلقة.
أجناس.
صيغة أفعال وفعائل الكفر والجهل 463 سورة العنكبوت 463 لا بد من اقتران الإيمان بالعمل الصالح 466 برّ الوالدين.
ما وقع لسعد بن أبي وقاص وأمه وأبي بكر وابنه وعباس وأخويه لأمه 472 التعريض بالهجرة لسيدنا محمد وإبراهيم وإسماعيل ولوط عليهم الصلاة والسلام 477 اللواط وجزاء فاعله ومخازي قوم لوط والهجرة الشريفة الفعلية 483 العنكبوت وأنواع العبادة والصلاة وفوائدها والذكر ومجادلة أهل الكتاب 489 هل تعلم حضرة الرسول القراءة والكتابة أم لا ، والنهي عن الكتب القديمة 496 استحباب الهجرة لسلامة الدين وما جاء من الآيات والأخبار وهي تسعة أنواع 504 حقارة الدنيا والتعريض للجهاد وما يتعلق فيهما 508 سورة المطففين 509 التطفيف بالكيل والوزن والذراع والحكم الشرعي في ذلك 514 القراءات السبع ورؤية اللّه في الآخرة والقيام للزائر 516 مقام الأبرار.
والفجار وشرابهما والجنة والنار 520 معنى (ثوّب) وفضل الفقر والفقراء وما يتعلق بهم 523 بقية قصة الهجرة.
وفضل الصديق وجوار ابن الدغنة له 529 قصة سراقة بن مالك الجشعمي حين لحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم 531 تمام قصة الهجرة واستقبال حضرة الرسول وإقامته في المدينة ...(4/541)
ج 5 ، ص : 3
[الجزء الخامس ]
[خطبة الكتاب ]
بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه المستحق الحمد لذاته ، المحمود بأفعاله وصفاته.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد أكمل النبيين وخاتم المرسلين ، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأنصاره أجمعين ، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد فإني بعد أن ختمت القسم المكي من هذا السفر الجليل - كل في قسمين حسب طباعتهما - شرعت وباللّه التوفيق وبيده أزمة التحقيق في القسم المدني منه كما وعدت في المقدمة ، فأسأله تعالى وهو خير مسئول التيسير والتسهيل والعون على إتمامه والسلوك به إلى أحسن سبيل.
وقد ذكرت أن حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بعد أن وصل إلى المدينة واستقر به الحال ورأى أن منهم من يطفف الكيل والميزان ، تلا عليهم سورة المطففين المارة آخر الجزء الثاني ، ثم أنزل اللّه تعالى عليه سورة البقرة ، ولهذا شرعت في 1 رجب سنة 1358 الموافق 16/ 2/ 1929 بتفسيرها سائلا الحضرة الإلهية ومتوسلا بسيد البرية أن يمنّ عليّ بإكماله كما تفضل علي بإكمال ما قبله ، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
تفسير سورة البقرة
عدد 1 - 87 و2
قد ذكرت في الجزأين المكيّين أن العدد الأول للسورة المفسرة بحسب النزول ، والذي يليه بالنسبة لما قبله ، والأخير بحسب ترتيب القرآن.
نزلت هذه السورة الكريمة في المدينة المنورة عدا الآية 281 فإنها نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع السنة العاشرة من الهجرة ، وتسمى سورة الزهراء ، وسنام القرآن ، وهي أول خير بدأ به أهل المدينة بعد تلاوة المطففين.
وما قيل إن المطففين نزلت بالمدينة لا صحة له وإنما قال من قال به بسبب تلاوتها من حضرة الرسول عند قدومه.
وسميت بالبقرة لورود ذكرها فيها ، والزهراء لما روى مسلم عن أبي أمامه قال :
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ، (5/3)
ج 5 ، ص : 4
اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران لأنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان (كل ما يظل الإنسان من سماء وغيرها) أو كأنهما فرقان من طير (الجماعة من الطير) صواف يحاجان عن صاحبهما ، اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة (السحرة).
وتسمى سنام القرآن لأن سنام كل شيء أعلاه وكأن هذه التسمية كانت بسبب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : أي القرآن أفضل ؟
فقالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال سورة البقرة ، ثم قال أي آيها أفضل ؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال آية الكرسي.
ومن منع تسميتها بالبقرة لا دليل له ، لأن أغلب سور القرآن سميت بما جاء فيها كما بيناه في المقدمة.
وهي مئنان وست وثمانون آية ، وستة آلاف ومئة وإحدى وثمانون كلمة ، وخمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرفا.
لا نظير لها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى : «الم» (1) تقدم الكلام فيه مفصلا أول سورة الأعراف وما بعدها من السور المبدوءة بالحروف المقطعة من بيان المعنى المراد منه ، ومن كونه اسما للسورة ، ومن أنه فواتح بعض أسماء اللّه الحسنى ، وأنها سرّ من أسرار اللّه ورمز بينه وبين حبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وغير ذلك فراجعه في ج 1 و2.
قال الشعبي هي سر اللّه فلا تطلبوه.
وقيل في المعنى :
بين المحبين سر ليس يغشيه قول ولا قلم للخلق يحكيه
وقد استأنس بعض الشيعة فاستنبط جملة من أوائل هذه السور تدل على خلافة علي كرم اللّه وجهه بعد حذف المكرّر منها وهي (صراط علي حق نمسكه) وهي من الظرائف.
واستنبط الآلوسي رحمه اللّه صاحب تفسير روح المعاني جملتين تنضمن الأولى الرد على صاحب الجملة المذكورة ، وهي (صح طريقك مع السنة) والثانية تشير لما ورد في حق الأصحاب وهي (طرق سمعك النصيحه) إلماءا إليه ، وقد ذكرت أنه لا يعلم ماهيتها وما تشير إليه على الحقيقة إلا اللّه تعالى والمنزلة عليه والراسخون في العلم على أحد القولين بالوقف كما سيأتي في الآية 7 من آل عمران الآتية ، لأنها من المتشابه ، وكل الأقوال الواردة فيها مجرد اجتهاد ليس إلا :
وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك(5/4)
ج 5 ، ص : 5
«ذلِكَ الْكِتابُ» الذي وعدناك به يا سيد الرسل (أي في الآية 6 من سورة المزمل في ج 1 وهي : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الترادد ، ولا يسأم منه تاليه الذي «لا رَيْبَ فِيهِ» ولا شك ولا شبهة بأنه من عند اللّه ، وانه في نفسه حق وإن قال الجاحدون ما قالوا ، وهو «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (2) لأنّهم هم المنتفعون به ، فطوبى لأهل التقوى التي هي جماع كل بر ، وملاك كل خير ، فلو لم يكن لهم فضل غير ما في هذه الآية لكفاهم ، وهؤلاء المتقون هم «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» الذي أنبأهم به رسولهم من البعث والحشر والحساب والجزاء والجنة والنار وغيرها «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» المفروضة فيؤدونها كاملة من الخشوع والخضوع المشار إليهما في الآية الأولى من سورة المؤمنين في ج 2 ، ومن كما لها أن تكون بجماعة «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (3) عن رغبة وطيب نفس طاعة للّه تعالى على عياله وشكرا لآلائه عليهم وعلى الأصناف الثمانية الآتي دكرهم في الآية 60 من سورة التوبة الآتية ، ومن رغّب القرآن بالإنفاق عليهم «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» من الوحي الجليل «وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» منه على الأنبياء السالفين من كتب وصحف ، لأن من لا يؤمن بجميع الكتب وجميع الرسل ليس بمؤمن «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» (4) أنها آتية لا محالة ، لأن من لم يوقن بوقوعها وبما فيها فليس بمؤمن أيضا ولو آمن بالكتب والرسل «أُولئِكَ» الموقنون بما ذكر القائمون به حق القيام إيقانا خالصا وإيمانا محضا «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (5) الفائزون الناجحون يوم القيامة.
ونظير هذه الآية الآية 3 من سورة لقمان في ج 2.
وقد يأتي الفلاح بمعنى البقاء كما قيل :
لو كان حي مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح
(الأسنّة) وأصله الشق ، كما قيل : إن الحديد بالحديد يفلح.
واعلم أن اللّه تعالى صدر هذه السورة بهذه الآيات الأربع (عدا الم) لأن بعض القراء عدها مع ما بعدها آية واحدة.
في حق المؤمنين ، والآيتين بعدها بحق الكافرين ، وثلاث عشرة آية بعدهما بحق المنافقين ، والبقية في الأحكام والأخبار وغيرها.(5/5)
ج 5 ، ص : 6
مطلب الإيمان يزيد وينقص وحال المنافقين وفضيحتهم وأفعالهم :
اعلم أن الإيمان إذا فسر بمقتضى اللغة بمعنى التصديق فلا يزيد ولا ينقص ، لأنه لا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى ، وإذا فسر بلسان الشرع بأنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، فانه يزيد وينقص ، وهذا ما ذهبت إليه مع أني حنفي المذهب ، والحنفية لا يقولون بذلك ، لأنه مذهب أهل السنة من أهل الحديث المؤيد بقوله تعالى (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الآية 124 من سورة التوبة الآتية ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.
إذ أثبت الزيادة بالآية ، ونفى الإيمان أو كماله بالحديث ، لأنه وإن كان التصديق نفسه لا يزيد ولا ينقص إلا أن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها ، وعلى هذا فإن من آمن بلسانه ولم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يزك فلا يسمى مؤمنا بل مسلما ، قال تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الآية 15 من الحجرات الآتية ، على أن إيمانه هذا المجرد عن العمل قد يدخله الجنة ، راجع الآية 82 من سورة الأنعام ج 2 ، والآيتين 47/ 117 من سورة النساء الآتية ، وما ترسدك إليه لتعلم أن مجرد الإيمان كاف لدخول الجنة إذا شاء اللّه ، وهذا معنى جامع بين ظواهر جميع النصوص الواردة بزيادة الإيمان ونقصه ، لأنه لا يعقل أن أقول إن إيماني مثل إيمان أبي بكر رضي اللّه عنه ، وان إيمان العارفين كإيمان أحاد الناس الذي تزلزله الشبهة وتعتريه الشكوك عند المناظرة.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا اللّه ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان.
وهذا يدل أيضا على أن الأعمال الصالحة من الإيمان ، وقدمنا أول سورة فاطر في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث فراجعه.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» تخوفهم وتحذرهم عاقبة أمرهم يا سيد الرسل فهم «لا يُؤْمِنُونَ» (6) وهذه الآية الكريمة في الذين حقت عليهم كلمة العذاب ، وذلك لأنه «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلا يعقلون بها «وَعَلى سَمْعِهِمْ» فلا يسمعون بها سماع قبول ، وإذا حرموا من هاتين الحاستين فلا يفقهون شيئا ، والختم والطبع خلق الظلمة والضيق(5/6)
ج 5 ، ص : 7
في الصدر وجعلهما حائلين عن سماع الدعوة النبوية وفهم منافعها ورؤية حقيقتها ما دام مختوما عليها فلا يعونها «وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» لئلا يروا داعي الحق ولا يلتفتوا لقوله ولا يصغوا لرشده ونصحه لسابق سقائهم «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ 7» لصرفهم هذه الجوارح لغير ما خلقت لها اختيارا ورغبة ، فلذلك حرموا منافعها.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ» أي بألسنتهم نفاقا ليبينوا لحضرة الرسول وأصحابه أنهم معهم وقد أبطنوا الكفر بذلك والجحود له.
نزلت هذه الآية وما بعدها في المنافقين من المشركين واليهود كعبد اللّه بن أبي بن سلول ومعقب بن قشير وعبد بن قيس وأضرابهم ، ولذلك وصفهم اللّه تعالى بالنفاق لأن من يقول بلسانه ما ليس في قلبه فهو منافق ، ولهذا أكذبهم اللّه بقوله عز قوله «وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 8» حقيقة ، لأن العبرة للتصديق القلبي لا القول اللساني عند اللّه تعالى ولهذا كذبهم ، أما عندنا فإن من آمن بلسانه عاملناه معاملة المسلمين لأنا لم نطّلع على ما في قلبه ، وليس لنا أن نقول هذا مؤمن بلسانه فقط ، ومن كفر بلسانه عاملناه معاملة الكفرة ولو كان مؤمنا في قلبه ، لأن علم القلب غير منوط بنا ، والناس هنا جمع إنسان ، وسمي آدم إنسانا لنسيانه عهد ربه ، راجع الآية 116 من سورة طه المارة في ج 1 ، قال :
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه ينقلب
وقال :
وسميت إنسانا لأنك أول الناس وأول ناس أول الناس
وقيل لأنه يستأنس به وجميع الناس أناس ، قال تعالى (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) الآية 49 من الفرقان في ج 1 ، ويقال للأثى إنسانة ، قال :
إنسانة فتانة بدر الدجى منها خجل
وقال بعض اللغويين لا مفرد له من لفظه مثل خيل وفلك ورهط وشبهها.
وهؤلاء المنافقون «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا» يخادعونهم بإظهار ضد ما يضرون فيمكرون بحضرة الرسول وأصحابه «وَما يَخْدَعُونَ» بأقوالهم تلك أحدا «إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» لأن اللّه تعالى يفضح خداعهم ومكرهم وحيلهم بإخبار رسوله به ، (5/7)
ج 5 ، ص : 8
إذ يطلعه على ما في قلوبهم «وَما يَشْعُرُونَ 9» أن اللّه تعالى يوحي لرسوله حقيقة حالهم وما يسرون من أقوالهم ويعلنون منها ، ولا يعلمون أن وبال عملهم هذا راجع عليهم بالفضيحة بالدنيا والعذاب بالآخرة ، والذين هذه صفتهم يكون «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وشبهة.
وأصل المرض الضعف والخروج عن حد الاعتدال الخاص بالناس ، ولهذا فإن أكثر أهالي دمشق يعبرون عن المريض بالضعيف ، وسمي الشك في الدين والنفاق مرضا لأنه يضعف الدين ، كما أن المرض يضعف البدن ، وكذلك الفكر لما قيل فكر ساعة يهضم عافية سنة ، فهذا الذي يحصل لهم يضعف دينهم وأبدانهم ، أجارنا اللّه تعالى من ذلك «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» أشغل قلوبهم به لأنهم كلما كفروا بآية ازداد كفرهم وكثر بلاؤهم وضاق صدرهم «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» زيادة على مرضهم الذي يحرك في صدورهم ويحز قلوبهم من شدة الحسد للمؤمنين فتشتعل أفئدتهم غيظا «بِما كانُوا يَكْذِبُونَ 10» في أقوالهم الصدرية المذكورة ،
ثم بين نوعا آخر من أفعالهم القبيحة فقال جل قوله «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بتهيج الفتن وإثارة كوامن القلوب من الأحقاد القديمة بين الناس مما يؤدي لقتالهم بعضهم مع بعض ، وذلك أنهم يذكرون ما وقع بين أجدادهم من الأحداث ليغتاظ أحقادهم ، فيتكلمون بما معناه الانتقام ، فتثير ثائرة المظلومين على الظالمين بما يؤدي لوقوع القتال بينهم بسبب إثارة الضغائن القديمة.
والإفساد خروج الشيء عن استقامته والانتفاع به ، وضده الإصلاح «قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ 11» بعملنا لأنا نداري به المؤمنين والكافرين معا ، فكذبهم اللّه بقوله عز قوله «أَلا» تنبيه ليتيقظ المخاطب «إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ» لأنهم يجالسون الكفرة ويفشون لهم أسرار المؤمنين ويغرونهم عليهم.
والمدارة ليس كما زعموا لأنها جائزة إذا كانت لمنفعة مشروعة كالإصلاح بين الناس ، على أن لا تضر بالدين ، أما إذا كانت غير جالبة لمنفعة ولا دافعة لمضرة فتكون من قبيل بيع الدين بالدنيا ، وذلك حرام ، لأنها تكون مداهنة راجع الآية 9 من سورة نون في ج 1 ، وان عملهم ذلك ليس من هذين القسمين وإنما هو بقصد إثارة الفتن ونقض الجروح القديمة وتهيبج الخواطر بين الناس مما قد يؤدي إلى القتل ، (5/8)
ج 5 ، ص : 9
لذلك حقق اللّه فيهم الإفساد بدليل قوله (ألا) المركبة من همزة الاستفهام ولا النافية ، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد التحقيق.
ثم أكده بأن المفيدة للتأكيد أيضا ، فظهر (إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) حقا بفعلهم ذلك «وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ 12» بأن فعلهم هذا يوجب تعذيبهم عند اللّه لما يترتب عليه من المفاسد بين المؤمنين وانهم قد يستخفون بذلك كاستخفاف الذين أشاعوا الفاحشة وصاروا يتشدقون بها حتى أنزل اللّه فيهم (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) الآية 15 من سورة النور الآتية ، وما قاله بعض المفسرين من أنهم لا يشعرون أن عملهم ذلك إفساد ، لا يناسب المقام ، ويدفعه كلمة الاستدراك التي جيء بها هنا ، بخلاف الآية الأولى في المخادعة ، إذ لم يدخل عليها الاستدارك ، لاحتمال أنهم يظنون أن مخادعتهم وإبطانهم الكفر وإظهار الإيمان تخفى على رسول اللّه وعلى المؤمنين ، ولا يعلمون أن اللّه تعالى يخبر رسوله بها ، وهو يخبر أصحابه ، فبين الآيتين فرق عظيم في اللفظ ، وبون شاسع في المعنى ، ولأن الذي يتكلم بالفساد ولا يعلم أنه فساد لا يؤاخذ مؤاخذة العالم بذلك ، قال :
وللزنبور والبازي جمعا لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز وما يصطاده لزنبور فرق
وهذا إما ناشىء عن جهل مركب اعتقدوا بسببه الإفساد إصلاحا لما تكاثف على قلوبهم من رين المعاصي فوقعوا في محنة الجهل ، كما جاء في قوله :
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وأما ما جاء على حسب عادتهم في الكذب والبهت الذي سبب لهم بيع الآخرة بالدنيا فيقال لأمثالهم :
أيا بايعا هذا ببخس معجّل غبنت ولا تدري إذا كنت تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
راجع الآية 59 من سورة الروم في ج 2.
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ» من المهاجرين والأنصار الذين بينكم ، إيمانا صادقا مخلصا صرا وعلانية «قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ» الجهلة خفيفو العقول قليلو الرويّة ، وهذا مما يقولونه فيما بينهم عقد ما يتذاكرون فيما يأمرهم به حضرة(5/9)
ج 5 ، ص : 10
الرسول ، أما بين المؤمنين فإنهم يسمون أنفسهم بالإيمان ، ولهذا أخبر اللّه عنهم بقوله جل قوله «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ» لا المؤمنون «وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ 13» ما أعده اللّه تعالى لهم من العذاب على وصمهم المؤمنين بالجهل والخفة ، مع أن السفاهة متحققة فيهم كالإفساد ، ويقال هنا ما قلناه هناك من التعليل ، وسماهم اللّه سفهاء وهم عند أنفسهم وقومهم عقلاء ورؤساء لإبطال زعمهم واعتقادهم بأن ما هم عليه حق وغيره باطل ، وقلب الكلام عليه لركوبهم طريق الباطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيها ، سخيف العقل ، خفيف الحلم ، وقد فضحهم اللّه تعالى إذا وصمهم بعدهم الإيمان والإفساد ، وعليهم بعدم العلم وثبوت السفاهة ليتركوا الكذب وليعترفوا أن اللّه تعالى مطلع على خوافيهم ، وأنه أطلع رسوله عليها ، ورسوله أخبر أصحابه حتى فشا ما يكتمونه لدى العامة.
ولما لم ينجع بهم شهر بهم رابعا بقوله عز قوله «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا» باللّه ورسوله وكتابه مثلكم وصرنا سواسية بالإيمان والتصديق «وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ» كهنتهم وقادتهم ككعب بن الأشرف المدني وأبو بردة الأسلمي وعبد الدار الجهني وعوف ابن عامر الأسدي وعبد اللّه بن السواد الشامي «قالُوا» لهم لا تصدقوا ما بلغكم عنا من الإسلام «إِنَّا مَعَكُمْ» ولا زلنا على دينكم «إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ 14» بمحمد وأصحابه ، لأنا نظهر لهم الإيمان سخرية بهم لنقف على سرائرهم ونخبركم بما يحدثونا عن دينهم ونبيّهم «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» فيجازيهم على فعلهم هذا ، وما يصدر منهم من الخداع والاستهزاء ، وقد سمى اللّه الجزاء استهزاء بالمقابلة ، قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه وهموا أن يدخلوه عمدت الخزنة فسدته عنهم وردوا إلى النار ، وذلك ليسخروا بهم في الآخرة جزاء سخريتهم بالمؤمنين في الدنيا ، وهذا مثل ما جاء عن ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا ومقابلتهم في الآخرة المار ذكره في الآية 29 من سورة المطففين في ج 1 ، «وَيَمُدُّهُمْ» يزيدهم لأن المدّ أصله الزيادة في الشرّ غالبا والإمداد مثله إلا أنه يأتي غالبا في الخير أي يمهلهم ويتركهم «فِي طُغْيانِهِمْ» ليزدادوا إثما وبغيا ، والطغيان مجاوزة الحد «يَعْمَهُونَ 15» يترددون في الحيرة والضلال ، والعمه عمى القلب ، وهو(5/10)
ج 5 ، ص : 11
أسد من عمى العين لأن فاقد البصر ينتفع ببصيرته ، وعادم البصيرة لا يفيده بصره «أُولئِكَ» الموصوفون بالمثالب الأربع المذكورة هم «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى » واستبدلوا الكفر بالإيمان والحيرة بالرشد والغش بالنصح «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» بل خسرت وخابت صفقتهم خسرانا وخيبة عظيمتين ، فضلوا «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 16» في أقوالهم وأفعالهم ، لأنهم أضاعوا رأس ما لهم وهو الإيمان ، ومن أضاع رأس ماله فهو للربح أضيع.
ولا يقال إنهم لم يكونوا على هدى لأنهم كانوا متمكنين منه ، كأنه في أيديهم ، لكنهم رغبوا عنه وتركوه باختيارهم ، ومالوا إلى الضلال رغبة فيه ، وفعلوه طوعا ، ومالوا إليه ، فكأنهم عطلوه قصدا واستبدلوا به ضدّه ، ولهذا وصفهم اللّه تعالى بقوله «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» لينتفع بها «فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» جمع الضمير مع أن ما قبله مفرد على حد قوله تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) الآية 69 من سورة التوبة الآتية ، إذ يجوز وضع الذي موضع الذين «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ» متكاثفة ظلمة الليل وظلمة المطر وظلمة السحاب ، لأن من كان في نور وتركه أو أو كان في محل مضيء وخرج منه إلى مظلم اشتدت الظلمة في عينيه أكثر مما لو لم يكن قبل في النور ، ولهذا قال تعالى «لا يُبْصِرُونَ 17»
شيئا لما يجلهونه من الظلمة بعد ذلك النور ، فيصيرون لا يرون.
مطلب في المثل لما ذا يضرب وما هو الرعد والبرق وضمير مثله :
والمثل تشبيه الشيء الخفي بالشيء الجلي لمناسبة وجامع ، ليتأكد الوقوف على ماهية ذلك المشبه نهاية في الإيضاح ، وشرطه أن يكون فيه غرابة من بعض الوجوه وقد ضرب اللّه تعالى هذا المثل بالنار لثلاث حكم : الأولى أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره ، فإذا ذهب بقي هو في الظلمة ، وكذلك هؤلاء لأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد في قلوبهم كان إيمانهم مستعار فلم ينتفعوا به ، لأن العارية مستردة.
الثانية احتياج النار دائما إلى مادة الوقود ، فإذا انقطع طفئت ، وكذلك الإيمان محتاج أبدا إلى مادة الاعتقاد والعمل ليدوم ، وإلا فينقطع ولم تبق فائدة فيه الثالثة احداث الظلمة بعد النور أشد من الظلمة التي لم يسبقها نور ، ووجه(5/11)
ج 5 ، ص : 12
تشبيه الإيمان بالنور أنه أبلغ شيء بالهداية إلى المحجّة القصوى والطريق المستقيم وإزالة الحيرة ، وكذلك الإيمان فهو الطريق الواضح إلى اللّه ، ووجه تشبيه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق فيها لا يزداد إلا حيرة إذ لا يرى كوكبا يستهدي به ، ولا جبلا يستقبله ، ولا علامة يركن إليها ، وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه بالآخرة إلا حيرة إذ لا دين يعتمد عليه ، ولا عمل صالح يرجو ثوابه ، ولا شافع يأمل شفاعته ، فيزداد ندمه كما تزداد الظلمات بمجيئها بعد النور.
وهؤلاء المضروب بهم هذا المثل «صُمٌّ» عن سماع الحق «بُكْمٌ» عن النطق به «عُمْيٌ» عن رؤيته ، قد تقطعت قلوبهم وذهب إدراكها لأنهم لما كانوا في الدنيا يصدق عليهم قول القائل :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء كلهم أذن
وهؤلاء كذلك كتّامون للخير ، مذيعون للشر ، سماعون للإثم ، نطاقون به ، بصيرون فيه «فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ 18» عن نفاقهم واخلاقهم وكفرهم ، لأن الشيطان زيّنه لهم ، وان رؤساءهم حبّذوه إليهم ورغبوهم فيه.
واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ست آيات مبدوءة بحرف الصّاد ، هذه والآية 124 الآتية والسادسة من الفاتحة والأولى من ص و19 من الأعلى ج 1 و152 من الشورى ج 2.
ثم مثل لهما مثلا آخر أبلغ من الأول ، فقال عز قوله «أَوْ كَصَيِّبٍ» هو كل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل ، والمراد به هنا المطر ، أي أو مثلهم مثل مطر نازل «مِنَ السَّماءِ» وهذا لا ينافي القول بأن المطر ينعقد من أبخرة الأرض والمياه ، لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء «فِيهِ ظُلُماتٌ» تقدم معناها في الآية 17 ، «وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ» الذي يسمع من اصطدام السحاب ، فهو الرعد والبرق هو الشعلة النارية التي تخرج منه بسبب الاصطدام أو أمر آخر يحدثه اللّه تعالى عند تراكم الغيوم واصطكاكها بعضها ببعض «يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ» أي أطرافها من إطلاق الكل وإرادة الجزء «فِي آذانِهِمْ» خوفا وفزعا «مِنَ» سماع «الصَّواعِقِ» اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد ، وعلى الأكثر أنها هنا قصفة رعد عبارة عن قطعة نارية ، وقد ينقض معها قطعة حديد نارية لا تصيب شيئا إلا أهلكته لشدة(5/12)
ج 5 ، ص : 13
صوتها أو نارها أو قوة صدمتها أو حدة ما انفصل منها ، وهي سريعة الخمود ، ولهذا البحث صلة في الآيتين 12/ 13 من سورة الرعد الآتية «حَذَرَ الْمَوْتِ» مفعول لأجله أي خشية أن يموتوا من صوتها أو مما ينفصل منها «وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ 19» عذابه محيق بهم لا يفلت منه أحد ، لأن الإحاطة تكون من الجهات الأربع ، وقد تكون من الشر أيضا «يَكادُ الْبَرْقُ» من شدة ضيائه «يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» يختلسها بسرعة لشدة نوره وقوته ، وتراهم «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» بهداية نوره «وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ» غاب عنهم نور البرق وفقدوا ضياءه «قامُوا» وقفوا متحيّرين لعدم اهتدائهم إلى الطريق من تكاثف الظلمات «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» لشدة صيحة الصواعق وقوة نور البرق عند وميضه «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 20» لا يعجزه شيء ، شبه اللّه تعالى الكافرين والمنافقين بقوم ماشين في مفازة صعبة في ليلة مظلمة ممطرة مرعدة مبرقة ، لا يتمكنون من متابعة المشي فيها ، ووجه الشبه هو أن المطر كالقرآن ، لأن فيه حياة القلوب كما أن في المطر حياة الأرض ، والظلمات ما جاء فيه من ذكر الكفر والنفاق والشرك ، والرعد ما خوفوا فيه من الوعيد والتهديد ، والبرق هو ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة ، فالكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم برءوس أصابعهم لئلا يسمعوه فتميل إليه قلوبهم ، وإن فعلهم هذا أوجب بخط اللّه تعالى عليهم ، ولذلك فإنه سيحيط بهم عذابه في الآخرة كإحاطة الظلمة المذكورة التي صيّرتهم متحيّرين في الدنيا ، فيأتيهم العذاب من كل مكان يترددون فيه متحيرين.
انتهت الآيات الواردة في حق المنافقين.
ثم أنزل اللّه الآيات المتضمنة أحكاما وأخبارا متنوّعة ، فقال جل قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ» المكلفون «اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» وحده ، واعلم أن جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) كررت في القرآن 14 مرة في البقرة ، و3 في النساء ، و2 في يونس ، و3 في الحج ، و2 في فاطر ، وواحدة في لقمان ، وواحدة في الحجرات ، وان غالب ما يأتي في القرآن العظيم من لفظ العبادة يراد به التوحيد ، لأن العبودية التذلل والعبادة غايته ، ولا يستحقها إلا اللّه تعالى «الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ» خلق «الَّذِينَ(5/13)
ج 5 ، ص : 14
مِنْ قَبْلِكُمْ»
من الأمم البائدة والموجودة «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 21» عذابه وتنجون من عقابه ، وهو الإله العظيم «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» وطاء تستقرون عليها «وَالسَّماءَ بِناءً» لتستظلوا بها كالسقف المرفوع والبيت المعمور الذي فيه ما يحتاجه البشر والطير والحيوان «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ» المتنوعة المختلفة في اللون والطعم والشكل والرائحة وجعلها «رِزْقاً لَكُمْ» تقتانون به «فَلا تَجْعَلُوا» أيها الناس لهذا الرب الكبير الذي تفضل عليكم بتلك الأشياء وغيرها لتشكروه عليها أداء الحقّ إنعامه بها عليكم ، وأنتم على العكس تكفرون به وتختلفون «لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشباها من صنع أيديكم ، وخلق ربكم القائل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من الصافات ج 2 ، أي كيف تعبدونها وتتخذونها أربابا من دونه «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 22» أنها لا تستحق العبادة لأنها لا تخلق ولا ترزق ولا تضر ولا تنفع ، فلا يليق بكم أن تشبهوها بإلهكم الفاعل لذلك كله ، الرحيم بكم وبما ملكت أيمانكم ، الذي لا مثيل له ولا نظير «وَإِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب من القرآن الذي هو كلامنا الأزلي بواسطة أميننا جبريل «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» وهذا من باب التعجيز وإلقامهم الحجر على حد قوله تعالى (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) الآية 257 من سورة الأنعام المارة في ج 2 ، أي إذا شككتم به فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن الذي يتلوه عليكم رسولنا بفصاحتها وبلاغتها وإعجازها ودلالتها على المعاني الكثيرة من رجل منكم مثل محمد الذي لا يحسن الكتابة والقراءة ولم يتعلم من أحد لأنكم عرب مثله وتدعون المعرفة.
وأنى لهم ذلك إذ لا يستطيعون الإتيان بمثل شيء من القرآن ولو اجتمعوا واستعانوا بمن شاءوا ، هذا على أن الضمير (مِنْ مِثْلِهِ) عائد على محمد صلّى اللّه عليه وسلم وعلى قول من أعاده من المفسرين على القرآن ، لأن مجرى الكلام فيه ، لأن اللّه تعالى يقول (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ولم يقل في عبدنا ليعود الضمير إليه ، ولقوله في سورة يونس (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية 38 ، أي بالإعجاز والاشتمال على طرفي الإيجاز والإطالة في الفصاحة والبلاغة ، من أنه تارة يأتي بالقصة(5/14)
ج 5 ، ص : 15
باللفظ الطويل ولا يمكن للبشر أن يسقط منه حرفا واحدا لأنه قد يخل في المعنى ، ثم يعيدها باللفظ الوجيز ، ولا يستطيع البشر أن يزيد حرفا واحدا فيه ولا يخل بالمعنى الأول ، وهكذا جميع القرآن لا يقبل زيادة حرف ولا نقصه ، وان أساليبه تفارق أساليب الكلام ، وأوزانه تخالف أوزان الشعر ، ونظمه يباين نظم الخطب والرسائل ، فقد جاء على أسلوب بديع ونظم عجيب ، ولهذا تحدثوا فيه وعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله ، وهم معدن البلاغة ومنبع الفصاحة وفرسان البيان.
ولا يقال إن من في هذه الآية زائدة إذ لا يستقيم المعنى إلا بها إذا أعدت الضمير على سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم على الوجه الأول ، وإذا أعدته على المنزل على محمد كان حرف الجر مؤكدا ، وقد أشرنا أول سورة البلد ، وفي الآية 12 من سورة الأعراف ج 1 ، إلى أنه لا يجوز القول بزيادة شيء في القرآن ، كما لا يجوز نقص شيء منه حتى حرف/ ما/ التي بعد إذا مثل (إِذا ما جاؤُها) وغيره لا تعد زائدة ، إذا أنها تبقى في الإثبات ثم النفي لأنهم لم يأتوها باختيارهم بل سبقوا إليها فسرا ، راجع الآية 27 من سورة فصلت في ج 2 ، والآية 97 من سورة المائدة ، والآيتين من آخر سورة التوبة الآتيتين ، فهي وإن كانت للثبوت فقد أتى بالنفي فيها ليبقى ثم أيضا ، أي أنهم جنحوا عن اليقين إلى التقوى ، وذلك شأن المؤمن الورع «وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ» من جحافل العرب وأولياء أصنامكم الذين تستشهدون بهم على أنها آلهة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ليشهدوا بأنكم تأتون بمثله «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 23» في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو بتعليم من غيره من البشر ، والمراد من هذا إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت ، كأنه قيل قد تركنا إلزامكم بشهداء الحق وملنا إلى شهدائكم المعروفين بالذبّ عنكم ، فإنهم أيضا لا يشهدون لكم على ذلك حذرا من اللائمة ، وأنفة من الشهادة الباطلة ، وخوفا من أن يصموهم بالكذب ، لأن أمر إعجازه ظاهر ، وعجز طوق البشر عن الإتيان بمثله واضح ، «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» بأن تأتوا بسورة مثل هذا القرآن أو بسورة من مثل محمد وقد عجزتم عن ذلك قبلا إذ تحديناكم بسورة واحدة أو بعشر صور منه كما في الآية 39 من سورة يونس والآية 11 من سورة هود المارتين في ج 2 ، وتحدينا الخلق كافة(5/15)
ج 5 ، ص : 16
بالإتيان بمثله في الآية 89 من الإسراء ج 1 ، أو بحديث مثله كما في الآية 34 من سورة الطور في ج 2 ، ولم يستطع أحد أن يأتي بشيء من ذلك ، ولهذا فإنكم عاجزون أن تفعلوا «وَلَنْ تَفْعَلُوا» أبدا في الحال ولا في الاستقبال ولن تقدروا على الإتيان بشيء مثله البتة ، وإذا كان كذلك فتحققوا أنكم مبطلون في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو من جهة الغير ، وان ما تعبدون من الأوثان ليسوا بآلهة «فَاتَّقُوا النَّارَ» أيها الناس مصير المبطلين «الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» ومن جملتها أصنامكم وهذه نار مخصوصة واللّه أعلم ، لأنه كما أن الجنة أنواع فالنار كذلك.
واعلموا أن لا وقاية لكم من هذه النار إلا أن تؤمنوا باللّه وحده وتصدقوا رسوله وتذعنوا لما جاءكم به ، وإن أصررتم على كفركم فمأواكم تلك النار ، لأنها «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ 24» الذين يموتون كفارا ، هذا ولا بد لك أيها القارئ من مراجعة الآيات الأنفة الذكر من يونس وهود والإسراء والطور ، لتعلم أن لا ناسخ ولا منسوخ بينها وبين الآية المارة ، وتعلم التوفيق بينهما خلافا لما قاله بعض المفسرين.
قال تعالى «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» مع إيمانهم ورجاء ثواب ما عملوه من الخير واعتقادهم أن اللّه مجازيهم عليه بأحسن منه إذا أخلصوا للّه وصبروا على ما أصابهم في هذه الدنيا «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» في الآخرة ، وهذه الأنهار تجري بلا أخدود بخلاف أنهار الدنيا الجارية في الأودية ، وأصحاب هذه الجنات «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً» وطلبوها ثانيا.
مطلب في ثمار الجنة ونسائها وأهلها وضرب المثل والعهود التي أخذها اللّه على خلقه :
واعلم أن الطلب في الجنة عبارة عن خطرة في القلب ، لأن اللّه تعالى لا يحيجهم إلى التكلم كرامة لهم «قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» فيظنونها هي نفسها لكمال التشابه في اللون والشكل والحجم والرائحة والطعم «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» كأثمار الدنيا من حيث الاسم فقط والكنى ليس إلا ولكنها مختلفة في الطعم والحجم واللون والشكل والرائحة ، فالفرق بين ثمار الدنيا والآخرة عظيم كالفرق بين الدنيا(5/16)
ج 5 ، ص : 17
والآخرة ، وفضلا عن هذا فإن أثمار الآخرة لا فضلات لها ولا تفل فيها ولا قشور ولا بزر ، وكذلك سائر مأكولات الآخرة ومشروباتها «وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» من الأوساخ والأرجاس المادية والمعنوية من كل ما يقع عليه النظر والشم واللمس وما يصل إلى السمع ، فلا يحضن ولا يبلن ولا ينفسن ولا يتغوطن ولا يعصين أزواجهن ، وأمثال هذا مما هو عند نساء الدنيا ، مبرآت عن كل خلق سيء ، متحليات بكل شيء حسن «وَهُمْ فِيها خالِدُونَ 25» لا يحولون عنها أبدا ، حياة سعيدة لا موت فيها ولا بعدها.
روى مسلم عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون ، يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس ، طعامهم جشاء (أي يخرج فضوله في تنفس المعدة) ورشح كرشح المسك ، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ان أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، ثم الذين يلونهم أشد كوكب دريّ في السماء إضاءة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون ، أمشاطهم الذهب ، ورشحهم المسك ، ومجامرهم الألوة (العود الذي يتبخر به) ، وأزواجهم الحور العين ، على خلق رجل واحد ، وعلى صورة أبيهم آدم عليه السّلام ، ستون ذراعا في السماء.
وفي رواية لكل واحد منهم زوجتان يرى مخّ سوقهما من وراء اللحم من الحسن ، لاخلاف بينهم ، ولا تباغض ، قلوبهم قلب رجل واحد ، ويسبحون اللّه بكرة وعشية.
ورويا عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن للمؤمن في الجنة الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قلت يا رسول اللّه مم خلق اللّه الخلق ؟ قال من الماء (راجع الآية 45 من سورة النور الآتية فيما يتعلق في الخلق) قلت الجنة ما بناؤها ؟ قال لبنة من فضة ولبنة من ذهب ، وبلاطها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وتربتها الزعفران ، من يدخلها ينعم ولا ييأس ، ويخلد ولا يموت ، ولا تبلى ثيابهم ، ولا يفنى شبابهم ، فيزدادون حسنا وجمالا ، فيرجعون إلى أهليهم وقد(5/17)
ج 5 ، ص : 18
ازدادوا حسنا وجمالا ، فيقولون لهم أهلوهم واللّه لقد ازددتم حسنا وجمالا فيقولون وأنتم واللّه لقد ازددتم حسنا وجمالا.
وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ، ومن فرقها يكون العرش ، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس.
وقد مر ما يتعلق بوصف أهل الجنة في الآية 13 من سورة المطففين في ج 2 فراجعها.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما» مطلق مثل «بَعُوضَةً» بقة صغيرة جدا «فَما فَوْقَها» من الحشرات ، لأن القصد منه الاعتبار والاتعاظ والاتباه لا الكبر في ضرب المثل وصغره.
واعلم أن كلمة بعوضة لم تكرر في القرآن ، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا ما يريد اللّه يذكر هذه الأشياء ، الخسيسة كالنمل والنحل والعنكبوت والذباب حتى يضرب أيّها الأمثال ، فقال تعالى ردا عليهم إن اللّه لا يترك ضرب المثل بذلك ، ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها استحياء [الحياء تغير وانكار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به أو يعزم عليه ، وهذا لا يجوز على اللّه تعالى ] ولكن لما كان الترك من لوازمه عبر عنه به وجاء بلفظ الاستحياء على سبيل المقابلة ، لأن الكفرة على ما قيل إنهم هم القائلون ذلك ، وانهم قالوا لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء ، وأنهم قالوا أما يستحي
رب محمد أن يضرب الأمثال بها ، وأطباق الجواب على السؤال فنّ من فنون البديع المستحب استعماله في الكلام ، والبعوض خلق عجيب له خرطوم مجوف يغوص في جلد الفيل والجاموس ، وقالوا إن الجمل قد يموت من قرصه ، فلا غرو أن يضرب اللّه به المثل في الصغر ، كما يضرب المثل في الجمل في الكبر ، راجع الآية 18 من سورة الغاشية في ج 2.
وقد أهلك اللّه تعالى بها من الجبابرة العظام كنمروذ وغيره ، وقد ضرب صلّى اللّه عليه وسلم المثل للدنيا بجناحها بقوله لو كانت الدنيا تساوي عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء والجناح دونها ، والعرب تضرب الأمثال بالمحقرات فيقولون هذا أحقر من ذرة ، وأجمع من نملة ، وأطيش وألح من ذبابة ، والقرآن نزل بلغتهم فلا معنى لاستبعادهم ذلك.
ولم يقل تعالى(5/18)
ج 5 ، ص : 19
فما دونها اكتفاء بأحد الشيئين عن الآخر على حد قوله «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» الآية 82 من سورة النحل في ج 2 ، وهذا عبارة عن مثل ضربه اللّه تعالى الدنيا وأهلها ، فإن البعوضة لا تزال حية ما بقيت جائعة ، فمتى شبعت ماتت ، وكذلك أهل الدنيا إذا امتلئوا منها هلكوا ، وتنطبق على أعمال العباد إذ لا يمتنع أن يذكر منها ما قل وكثر وليجازوا عليه ثوابا وعقابا ، راجع الآيتين الأخيرتين من سورة الزلزلة الآتية.
وليعلم أن الحياء غير الخجل ومعناه كما مرّ وهو مركب من الجبن والعفّة والخجل حيرة النفس لفرط الحياء ، ولا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء الذي هو انقباض النفس عن القبائح ، فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» ضرب المثل بتلك الحيوانات الحقيرة هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» لا يجوز إنكاره ، لأنه من الأمور المستحسنة عقلا المتعارفة عندهم ، ولا مناقشة فيما يذكره اللّه تعالى «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» والمنافقون وأمثالهم «فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» وهذا من قبل الاعتراض على اللّه تعالى ، وليس لمخلوق أن يعترض على خالقه ، لهذا فإنه تعالى وتقدس «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» من المكذبين فيزدادون كفرا «وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً» من المؤمنين فيزدادون به إيمانا «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ 26» الخارجين عن طاعة اللّه ورسوله ، المستغربين ما ضرب اللّه به مثلا من تلك الحشرات من حيث لا محل للاستغراب والإمكان ، لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وادناء المتوهم من المشاهد ، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك ، وإن كان حقيرا كان المتمثل به حقيرا أيضا ، ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا مثل له بالضياء والنور ، وان الباطل لما كان غامضا مثل له بالظلمة ، ولما كان حال الآلهة المتخذة للعبادة لا أحقر منها مثل لها ببيت العنكبوت الذي لا أومن منه ، تأمل.
ثمّ وصف اللّه تعالى هؤلاء الفاسقين بقوله عز قوله «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ» الذي أخذه عليهم في عالم الذر ، وهو الإقرار بربوبيته كما مرّ في الآية 170 من الأعراف في ج 1 ، وهو غير العهد الذي أخذه على الأنبياء بتصديق محمد صلّى اللّه عليه وسلم في الآية 7 من سورة الأحزاب الآتية ، (5/19)
ج 5 ، ص : 20
وغير العهد الذي خص به العلماء في الآية 187 من آل عمران الآتية ، راجع هذه الآيات والآية 81 من آل عمران أيضا تقف على تمام هذا البحث «مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ» عقده وإبرامه ، وتؤكده عليهم بقوله (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وقوله في حق الرسول (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وفي هذه الآية إشارة إلى أن الكفرة واليهود بعد أن يتعاهدوا مع حضرة الرسول ينقضون عهدهم معه ، وقد كان ذلك كما سيأتي في محله ، وهذا من قبيل الإخبار بالغيب ، وفيها تحذير من نقض العهد وتقبيح لناقضه ، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في الآية 91 من سورة النحل المارة في ج 2 ، والآية 34 من سورة الإسراء في ج 1 ، فراجعهما «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ» من الإيمان بالرسل السالفين جميعهم «أَنْ يُوصَلَ» ذلك الإيمان المتتابع بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم لأن اللّه تعالى أخذ العهد على خلقه أن يؤمنوا برسله إيمانا متصلا واحدا بعد واحد ، فلم يمتثلوا أمر اللّه ولم يؤمنوا بجميع رسله ، ومن أهل زمانه من اليهود ، ولم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا بعيسى قبله ، وكذلك النصارى لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، مع أنه أخذ العهد على كل ملّة من قبل نبيها أن تؤمن بالرسول الذي
يخلفه ، راجع الآية 173 من الأعراف في ج 1 تقف على هذا أيضا «وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» علاوة على نقضهم عهد اللّه وعهد رسولهم وقطعهم ما أمر اللّه بوصله ، لأنهم يقطعون السبيل ويسلبون الناس ويعملون المعاصي ويمنعون غيرهم من الإيمان باللّه ورسوله «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم وهذا شأنهم «هُمُ الْخاسِرُونَ 27» المغبونون لاستبداهم النقص بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالإصلاح ، والعقاب بالثواب.
قال تعالى «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً» نطفا جامدة ميتة في أصلاب آبائكم «فَأَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم عند قذف النطفة فيها ، فكونتم وصورتم ، حتى إذا أكمل خلقكم وانتهى أمد وجودكم في الرحم ولدتم وترعرعتم وكبرتم «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بعد استيفاء آجال مكثكم في الدنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا بعد انتهاء أجل لبثكم في البرزخ من قبر وغيره «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 28» فتحضرون إلى الموقف في محل الحشر إذ تحاسبون على ما كان منكم وتجاوزون عليه الخير بأحسن منه ، والشر بمثله ، وهذا الاستفهام استفهام تعجب من حالهم وإنكار(5/20)
ج 5 ، ص : 21
لأحوالهم ، أي كيف تكفرون باللّه بعد نصب هذه الدلائل ، ووضوح هذه البراهين ، وسطوح تلك الحجج على وحدانيته جل شأنه ، ثم تشركون به غيره ، وتعبدون معه أوثانا لا تستحق العبادة ؟ وان هذه الأشياء التي خصكم اللّه بها لا بد أن تدعوا إلى الإيمان لا إلى الكفر ، وقيل في المعنى :
أكفر بع د ردّ الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
مطلب في المخترعات الحديثة والتحليل والتحريم وبحث في الخلق وقصة الجنّ ومغزى اعتراضهم :
قال تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من حيواناتها ونباتها ومائها ومعدنها.
تشير هذه الآية إلى أنه ينبغي للإنسان أن لا يقف عند شيء دون شيء مما في هذه الأرض لأن من تتبع ما فيها قد يعثر على ما لا يحلم به البشر ، مصداقا لقوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 9 من سورة النحل في ج 2 ، وان معظم الأشياء المبتكرة قامت وظهرت من حين العدم إلى الوجود بالعثور ، لأن هذه السيارات والطيارات والراد والاسلكي وغيرها لم يتصورها عقل البشر رأسا ، وإنما كانت بسبب صنع أشياء دونها ، وعند ما يرى شأنه توفق لعملها طمحت نفسه إلى فعل ما هو أحسن ، فيعثر عليه زريجا ، فيظهر له ما هو أحسن ، ثم يشتغل بتحسينه فيطلع على ما هو أحسن ، وهكذا تدرجوا في الصنائع حتى نوصوا إلى صناعات بديعة وأعمال عجيبة ، فاخترعوا البنادق سنة 1646 م والمدافع سنة 1886 ، واكتشف الفحم الحجري في انكلترا سنة 1924 م ، وزيت الكاز للتنوير سنة 1826 ، والمكرسكوب في جرمانيا سنة 1621 ، وأول من صنع الأوراق المالية في أمريكا سنة 1740 م واكتشفوا ملعبا بناه الرومان سنة 69 قبل الميلاد ، وسيكتشفون ويخترعون ما هو لحبس بالحسبان ، ولا يخطر على العقل ، راجع الآية من سورة الحجر والآية 38 من سورة النحل في ج 2.
هذا وفي هذه الآية إعلام بأن الأصل في الأشياء الحل ، وعليه فإن جميع ما في هذه الأرض هو حلال للبشر ، لأن اللّه تعالى قال (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) إلخ ، وإذا كان ما خلق فيها هو للبشر فلا يحرم عليهم منها شيء إلا ما ورد النص بتحريمه ، فيكون تناوله حراما ، وإلا فحلال(5/21)
ج 5 ، ص : 22
كله ، وعليه فإن التبغ والتنباك وما شابهها مما لم يرد نص بتحريمه حلال ، وما جاء من أقوال العلماء بتحريمه فمجرد اجتهاد بداعي أنه مضر ، وإلا فلا مستند لهم بذلك ، ومن المعلوم أن لا اجتهاد في مورد النص ، أما إذا تحقق ضررهما لبعض الأشخاص فهو من هذه الحيثية قد يكون تناولهما حراما ، وأحسن ما قيل فيهما إنه تعتريهما الأحكام الخمسة ، على أن تقيد الحرمة بالمضرة المحققة فقط ، لأن كل ما يضر هذه البنية التي أمرنا اللّه بمحافظتها للقيام بأمور دينه والذب عنه حرام تناوله مهما كان ، حتى الخبز والماء والظل على شرط تحقق المضرة بإخبار طبيب أمين حاذق موقن ، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك ، لأن العلماء ليس لهم أن يحرّموا أو يحللوا شيئا إلّا بدليل قطعي ، لأن التحليل والتحريم من خصائص الشارع والشارع عندنا هو اللّه تعالى ورسوله فقط ، لا دخل للعلماء والربانيون بذلك.
قال تعالى «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» بعد خلق الأرض وقبل دحرها وقد ذكرنا ما يتعلق في بحث الاستواء في الاية 5 من سورة طه وفي الآية 45 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 4 من سورة يونس فراجعها «فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» ثم دحا الأرض كما بيناه في الآية 30 من سورة النازعات ج 2 ، وضمير سواهن يعود على السماء باعتبار الجنسية أو أنها جمع سماة ، والأحسن أن يكون مبهما يفسره قوله تعالى سبع سموات «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (29) بخلقه ، ولما ذا خلقه ، ولمن خلقه ، ومن المعلوم أن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا ، فلا يقال إن هذه الآية تقضي بخلق الأرض ودحوها قبل السماء ، تدبر.
ثم طفق جل شأنه يقص على رسوله ما هو غيب عليه فقال عز قوله «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» بدلا منكم ورافعكم إليّ وذلك لما ظهر الفساد والإفساد بقتل بعضهم في الأرض من الجن بعضهم على بعض حينما كانوا يسكنونها وعاشوا فيها فسادا بقتل بعضهم بعضا ، بعث اللّه فريقا من الملائكة وعلى رأسهم إبليس الذي لجأ إلى اللّه بذلك متبرئا من بغيهم وطغيان بعضهم على بعض ، وقد تظاهر بالصلاح والإصلاح فطرد الجنّ إلى الجزائر والبحار والجبال والشعاب وأهلكوا ثمّ حلّ محلهم ذرية إبليس لأنه أبو الجن الثاني ، كما أن نوح عليه السّلام أبو البشر الثاني ، وهم موجودون الآن في(5/22)
ج 5 ، ص : 23
كل مكان ، ولكن لم ترهم العيون ، ولذلك سموا جنا ، ومنه الجنين لعدم رؤيته أيضا ، ولو لا لطف اللّه على بني آدم بإخفائهم عنا لرأيت العجب العجاب من أفعالهم ولنغّصوا علينا عيشنا في هذه الدنيا.
وقد مرّ في الآية 27 من الأعراف في ج 1 أنهم يروننا ولا نراهم ، وبمقابلة هذا أنا نراهم في الآخرة ولا يروننا ، راجع هذه الآية أول سورة الجن والآيات من النمل والقصص في ج 1 والكهف والصّافات في ج 2 كي تطمئن بوجودهم وأعمالهم وأفعالهم ، وإن إنكار وجودهم كفر لمخالفة نص الآيات والأحاديث الصريحة وإن من ينكر وجودهم فبسبب الصدأ المتراكم على قلبه ، أجارنا اللّه من أمثالهم.
ثم ان اللّه تعالى أعطى إبليس ملك الأرض وسماء الدنيا وخزانة الجنة ، وهو جلّ شأنه يعلم مصيره ولكن ليظهر للناس أن النفس الخبيثة لا يؤثر فيها شيء ولا يصلحها شيء البتة ، فأعجب بنفسه وغبطته الملائكة ، وأول شر ظهر منه الإعجاب بنفسه لأنه ؟ ؟ من المهلكات ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه.
«قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» كالجن الذين أسكنتهم فيها قبل وفعلوا ما فعلوا ، وكان الحكمة من مخاطبتهم بذلك وهو غني عن المشورة ليسألوا هذا السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا الحكمة من استخلافهم قبل كونهم ، وقالوا كيف تفعل ذلك وتفصينا «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» فيها ولا نعصيك طرفة عين ولا نفسد فيها أبدا كالجن الذين أسكنتهم فيها «قالَ» تعالى مجيبا لهم عن ظنهم بالخليفة الذي أريد وضعه في الأرض بدلا من الجن الذين أفسدوا فيها وشهدت الملائكة عليهم بالإفساد ، كلا لا تظنوا يا ملائكتي هذا الظن «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» (30) من المصلحة والحكمة.
ولا يقال من أين علموا أن من يستخلفهم اللّه في أرضه يفسدون فيها إذ لا يعلم الغيب إلا اللّه ، لأنهم لما رأوا إفساد الجن وقتل بعضهم بعضا في الأرض وان اللّه تعالى يريد استخلافهم بهذا الخليفة ظنوا أنهم يقتفون أثرهم ، لأن اللّه تعالى ألهمهم ذلك كما هو ثابت في علمه الأزلي ، الاستفهام على طريق التعجب لا الاعتراض ، فلا دليل فيه على عدم عصمة الملائكة ، لأن الاعتراض على اللّه من أعظم الذنوب ، والمراد بالخليفة هنا هو آدم عليه السّلام ، (5/23)
ج 5 ، ص : 24
قالوا لما أراد اللّه تعالى خلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خليفة ، منهم من يطيعني فأدخله الجنة ، ومنهم من يعصيني فأدخله النار وبعث جبريل عليه السّلام ليقبض قبضة من أنواعها ويأتيه بها ليكون الخلق منها كلها ، فلما أراد أن يأخذ منها قالت أعوذ بعزّة اللّه منك ، فترك ورجع ، وقال يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها ، فأرسل ميكائيل فكان ما كان من جبريل ، فأرسل عزرائيل فاستعاذت منه فقال لها إني أعوذ بعزّته أن أعصي له أمرا ، فقبض من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها وأبيضها وأحمرها وأسودها وما بين ذلك ، وصعد بما قبضه ، فسأله ربه وهو أعلم بما فعل فأخبره بما قالت وقال لها.
وإنما استعاذت الأرض لأن اللّه تعالى قال لها منهم من يعصيني فأدخله النار خشية ورهبة ، ولمّا أجابه عزرائيل بما أجابه قال وعزّتي وجلالي لأخلقن خلقا أسلطنّك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك ، فجعل نصفها في الجنة ونصفها في النار ما شاء ، ثم أخرجها فسواها طينا مدة ، ثم حمأة مدة ، ثم صلصالا مدة ، ثم جدا ، وألقاه على باب الجنة ، فصارت الملائكة تعجب من صورته ، وقال إبليس لأمر ما خلق هذا ، ونظر إليه فإذا هو أجوف ، فقال هذا خلق لا يتمالك ، أي انه يخدع ، وقال للملائكة إن فضّل هذا عليكم ماذا تصنعون ؟ قالوا نطع ربنا فيه ، فقال في نفسه لئن فضل علي لأعصيته ، ولئن فضلت عليه لأهلكنه ، فلما أراد اللّه تعالى نفخ الروح فيه قالت الروح يا رب كيف أدخل ؟ فقال كرها تدخلين وستخرجين منه كرها ، فدخلت يافوخه حتى وصلت إلى عينيه فنظر إلى سائر جسده طينا فلما وصلت منخريه عطس ، فعند ما وصلت لسانه قال الحمد للّه رب العالمين ، فقال اللّه رحمك اللّه ربك لهذا خلقتك ، وقد صارت سنة في الخلق على كل من يعطس ، وعلى كل من يسمعه التشميت بأن يقول له يرحمك اللّه ويرد عليه يرحمنا ويرحمكم اللَّه ، فلما بلغت ركبتيه همّ ليقوم فلم يقدر ، قال تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) الآية 27 من سورة الأنبياء في ج 2 ، وهذا مما يدل على قدم كلام اللّه تعالى المنزل على حضرة الرسول قبل خلق آدم وغيره ، فلما انتهت إلى قدميه استوى بشرا سويا من لحم ودم وعظام وعروق وأعصاب وأحشاء وأمعاء
، وكسي لباسا من الجنة من ظفر(5/24)
ج 5 ، ص : 25
فزاد جسده حسنا وجمالا ، وجعل في جسده تسعة أبواب وعدها السيوطي أحد عشر بعد الثديين في صدره اثنين ، وفي أسفله اثنين القبل والدبر ليخرج منهما فضلات طعامه وشرابه ، وسبعة في رأسه الأذنين يسمع بهما ، والعينين ينظر بهما ، والمنخرين يشم بهما والفم فيه اللسان يتكلم فيه ، والأسنان ليطحن بها طعامه فيجد لذة المطعومات والأنف ليتنفس منه ، وجعل عقله في دماغه ، وفكره وجرأته في قلبه ، وشرهه في كليته ، وغضبه في كبده ، ورغبته في رئته ، وضحكه في طحاله ، وفرحه وحزنه في وجهه ، فسبحان من جعله يسمع بعظم ، ويبصر بشحم وينطق بلحم ، ويعرف بدم ، وركب فيه الشهوة وحجزه بالحياء.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : خلق اللّه تعالى آدم وطوله ستون ذراعا ، ثم قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة ، فاستمع ما يحبونك به ، فإنها تحينك وتحية ذريتك ، فقال السلام عليكم ، فقالوا عليك السلام ورحمة اللّه ، فزادوا ورحمة اللّه ، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم ، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن.
وروى مسلم عن أنس قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم لمّا صوّر اللّه آدم تركه ما شاء اللّه أن يتركه ، فجعل إبليس يطوف به وينظر ما هو ، فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك.
وأخرج الترمذي.
وأبو داود عن أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن اللّه تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك ، والسهل والحزن والخبيث والطيب.
قال تعالى «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض ، وسبب تعليمه أسماء جميع المسميات بإلهام من اللّه تعالى إياه أن الملائكة قالت ليخلق ربنا ما شاء فلن يكون أحد أكرم عليه منا ، وإن كان فنحن أعلم منه ، لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره ، ومن هنا قيل (أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة) فأظهر اللّه تعالى فضله عليهم بالامتحان «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ» عرض أسماء تلك المسميات على الملائكة من كل نام وحساس وجماد وماء ، وجاء الضمير بلفظ العقلاء تغليبا لأن القاعدة عند إرادة جمع من يعقل ومن لا يعقل بلفظ واحد يعبر بضمير من يعقل تغليبا له على ما لا يعقل «فَقالَ أَنْبِئُونِي(5/25)
ج 5 ، ص : 26
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ»
الأشخاص قالوا خلق اللّه تعالى كل شيء من الحيوان والطير والحوت والجمادات والمياه وغيرها ، وعلمها آدم ، فقال هذا بعير ، وهذه فرس ، وهذا طير ، وهذه سمكة ، وهذا حجر ، وهذا مدر ، حتى أتى على آخرها ، أي سموا لي هذه الأشياء كلّا باسمه «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (31) بقولكم اني لم أخلق أفضل منكم وأعلم «قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا» بشيء من هذه الأشياء ولا نعلم «إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» إياه التسبيح والتقديس لأن علمنا مقصور على ما علمتنا فقط «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ» بخلفك وأسمائه وأوصافه المميزة له عن غيره «الْحَكِيمُ» (32) فيما تخلق وتقضي وتأمر وتنهى «قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» سم كل شيء من هذه المخلوقات باسمه ، فذكر أسماءها كلها حتى القصعة «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» أمام الملائكة دون تلكؤ أو تلعثم بهتت مما قرأت ؟ ؟ وسمت «قالَ» عز قوله مخبرا ملائكته عن الحكمة التي خلق آدم لها «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» عما كان فيهما قبل خلقكم وزمنه وما سيكون بعد «وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من قولكم الذي ذكرتموه فيما بينكم بشأن خلق آدم «وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (33) من قولكم لن يخلق اللّه أفضل منا ولا أعلم.
مطلب تفضيل الرسل على الملائكة وامتناع إبليس عن السجود وكونه ليس من الملائكة :
وفي هذه الآية والتي قبلها دليل أهل السنة والجماعة بأن الأنبياء أفضل من الملائكة خلافا للزمخشري وأشباهه ، القائلين بتفضيل جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام ، وقد خرق الإجماع بقوله هذا ، وقد قيل بعد أن حجّ : ؟ ؟
وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا فمل عن الشقاق
وقد منا ما يتعلق في هذا البحث بالآية الأولى من الإسراء في ج 1 «وَ» اذكر يا سيد الرسل هذه القصة لقومك ، وقصة أخرى وهي «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» وهذا الأمر لعموم الملائكة الذين هم في السماء والأرض ، كما يدل عليه قوله في الآية 20 من سورة الحجر المارة في ج 2 (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وما في هذه الآية من قوله عز قوله «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» لم يسجد لأنه من(5/26)
ج 5 ، ص : 27
الجن ، وليس من الملائكة بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 52 من سورة الكهف ج 2 ، ومعنى إبليس مأخوذ من إبليس أي يئس من رحمة اللّه ، قال تعالى (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) الآية 79 من سورة المؤمنين ج 2 أي آيسون ، وان اسمه الحقيقي بالعربية الحارث ، وبالسريانية عزازيل ، وهذا الاستثناء كان بسبب وجوده مع الملائكة وشموله الأمر بالسجود معهم ، لا لكونه منهم ، ومن قال إن الاستثناء بعد إدخاله بالخطاب للملائكة دليل على أنه منهم لم ينظر إلى آية الكهف المشار إليها أعلاه ، لأن دلالتها على أنه من الجن وليس من الملائكة صريحة لا تقبل التأويل ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وما كان منه في تفسير بعضه بعضا مقدم على ما ليس منه في تفسيره ، ثم ما كان من بيان حضرة الرسول ، ثم ما كان من إيضاح الأصحاب ، ثم التابعين والعلماء ، وهكذا ، ومتى وجد قول للأقدم لم يطعن فيه لا يؤخذ بالذي دونه ، قال تعالى في ذم ذلك الملعون بأنه «أَبى » عن السجود ولم يمتثل أمر ربه الذي أنعم عليه بإلحاقه بالملائكة بعد طرد قومه وإهلاكهم «وَاسْتَكْبَرَ» على آدم وعد نفسه خيرا منه باحتجاج واه «وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» (34) بسبب فعلته هذه تجاه الملائكة كما هو في علم اللّه كافر ، ولكن الملائكة وآدم لا يعلمون كفره المنطوي عليه قبلا ، فأظهره اللّه لهم بامتناعه هذا ، فعلموا أن شقاءه سابق في علم اللّه ، وأن النفس الخبيثة لا يبدلها المعروف ، راجع الآية 12 من سورة الأعراف ج 1 فيما يتعلق به لعنه اللّه وأخسا مقايبسه الباطلة.
وهذه قصة ثالثة ذكرها اللّه بقوله جل قوله «وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» لم يقل جل قوله اسكنتك الجنة لأنه يدل على الاستقرار وهو إنما خلق لعمارة الأرض لا ليبقى في الجنة ، قالوا لما خلق اللّه تعالى آدم على الصورة والكيفية المارتين لم يكن معه من جنسه من يستأنس به ، فألقى اللّه عليه النوم وأمر بأخذ أقصر ضلع من أضلاع جنبه الأيسر فخلق منه زوجته حواء بقوله جل قوله كن امرأة من جنس آدم فكان ، وخلق مكانه لحما من غير أن يحسّ بذلك ولو أحس ووجد ألما ما حن رجل على امرأة قط ، وسميت حواء لأنها خلقت من حيّ فاستيقظ فرآها جنبه كأحسن ما خلق اللّه ، (5/27)
ج 5 ، ص : 28
قال من أنت ؟ فألهمها اللّه بأن قالت زوجتك خلقت لتسكن إليّ وأسكن إليك وأوانسك ، ولهذا قيل :
وما سمي الإنسان إلا لأنه ولا القلب إلا أنه يتقلب
وفي رواية إلا لنسيه ، كما مرّ في الآية الثامنة ، ولهذا قالوا إن للتسمية نسبة بالمسمى غالبا ، وقلّ أن تجد اسما لا نصيب له من مسماه ، ومن هذا قوله :
قد سمي القلب قلبا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وقيل سمي قلبا لأنه لبّ كما سمي العقل لبا ، وقيل لتقلبه ، كما مرّ آنفا وفي الآية 8 المارة.
وما قيل إن الجنة التي أدخلها آدم هي بستان كان في اليمن استدلالا بأن الجنة المعروفة من يدخلها لا يخرج منها ، فقيل ضعيف لا يؤبه به ، والصحيح انها الجنة المعهودة ، لأن - أل - فيها للعهد ولا جنة معهودة غيرها ولا يراد عند الإطلاق غيرها وهي التي أعدها اللّه للمتقين ، وما استدلوا به يقال في الداخل فيها جزاء عمله الحسن بعد أن مات وبعث وأحيي كالسيد إدريس عليه السلام ، لأنه ذاق طعم الموت ، راجع قصته في الآية 57 من سورة مريم في ج 1 ، وقد ثبت أن سيدنا محمد دخلها ليلة المعراج راجع حديثه أول سورة الإسراء ج 1 ، أما البستان التي في اليمن فلم تكن إذ ذاك ، وقيل إنه هو إرم ذات العماد المذكور بحثها في الآية 5 من سورة الفجر ج 1 ، فراجعها.
«وَكُلا مِنْها رَغَداً» صفة للمصدر المؤكد ، أي أكلا واسعا رافها مريئا حسبما تريدان وترغبان ، كما يفيده قوله «حَيْثُ شِئْتُما» من أي مكان أردتما وأي زمان ، وهذا يفيد الإطلاق لكل ما فيها ، ثم خصص بقوله عز قوله «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» عينها اللّه لهما بالإشارة إليها ، ولم يسمها ، لذلك اختلفت فيها أقوال المفسرين ، فمنهم من قال إنها السنبلة ، ومنهم من قال إنها التين أو الكرم ، ولا طائل تحت معرفتها إذ القصد عدم قربانها امتثالا لأمر اللّه تعالى ، ولهذا قال «فَتَكُونا» إذا تناولتما منها شيئا «مِنَ الظَّالِمِينَ» (35) أنفسكما لفعلكما ما لا ينبغي فعله «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها» عن الجنّة بسبب غروره لهما وإغرائهما بالأكل منها «فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ» من النعيم.(5/28)
ج 5 ، ص : 29
مطلب إغواء إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة وإسكانهما الأرض :
قالوا إن إبليس بعد أن طرد من الجنة أراد دخولها لإغواء آدم وزوجته فلم يمكنه خزنتها من ذلك ، فأتى صديقته الحية فأدخلته في فيها ، وفي أثناء تعرضه لآدم سمعه يقول لو أن خلودا ، فاغتنم الملعون هذه الكلمة وعدها فرصة لإغوائهما ، وتمثل باكيا ، فقال له آدم ما يبكيك ؟ قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان هذا النعيم ، فاغتما لذلك ، ثم قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد ؟ قالا بلى ، قال هي التي نهاكما اللّه عنها ، فأبيا قربانها ، ثم حلف لهما بأنه ناصح لهما وأن اللّه لم ينهكما عن مثلها ، فصدقا لأنهما يتحققان أن أحدا لا يحلف باللّه كاذبا ، ولا يجرؤ أحد أن يكذب على اللّه ، فأكلت حواء من مثل تلك الشجرة ، وناولت آدم ، فأكل منها فتهافتت عنهما ثيابهما ، وبدت لهما سوءاتهما ، وقال اللّه يا آدم ما حملك على ما فعلت ؟
قال يا رب غرّني عدوك ولم أظن أنه سيحلف بك كاذبا ، وان حواء هي التي بدأت بالأكل مما نهيتنا عنها ، قال وعزتي وجلالي لأهبطنك إلى الأرض فلا تنال عيشك فيها إلا نكدا.
راجع القصة مفصلة في الآية 16 من سورة الأعراف في ج 1 ، «وَقُلْنَا اهْبِطُوا» الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ 36» انقضاء آجالكم فيها ، فأهبط آدم على جبل (نود) في سرنديب من أرض الهند ، وحواء في جدّة من أرض الحجاز ، وإبليس في نجد ، والحيّة بأصبهان من أرض العجم ، وقيل إن إبليس أهبط بالأيلة من أرض البصرة ، فحرث آدم وزرع وسقى وحصد وداس وذرّى وطحن وعجن وخبز بمعاونة زوجته حواء التي اجتمع بها بعد الهبوط وبإلهام من اللّه تعالى حتى بلغ منه الجهد ، وأكل هو وزوجته من كدهما ، وقال إن حواء لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرما ولتدمي مرتين في الشهر ، فرنت حواء عند ما سمعت كلام اللّه أي نظرت وتأملت عاقبته وحزنت ، فقيل لها عليك وعلى بناتك الرنة.
واعلم أن هذا واقع من آدم عليه السلام قبل تشرفه بالنبوة كما وضحناه في الآية 12 من سورة طه ج 1 فراجعه ، وما قيل بعدم قتل الحيات خوفا من ثأرهنّ أو تأثما لا صحة له ، بل ينبغي قتلها لأنها من المؤذيات ، وقد(5/29)
ج 5 ، ص : 30
جاء في الخبر أن في قتلها عشر حسنات.
أخرج أبو داود عن ابن عباس قال :
قال : رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا ، ما سالمناهنّ منذ حاربناهن.
وله عن ابن مسعود قال إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : اقتلوا الحيات كلهن ، فمن خاف من ثأرهن فليس مني.
وفي رواية اقتلوا الكبار كلها إلا الجانّ الأبيض الذي كأنه قضيب فضة.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنما هو شيطان.
وفي رواية ان في هذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فخرجوا عليه ثلاثا ، فإذا ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر.
ومما يدل على أن ما وقع من آدم قبل النبوة قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» كانت سببا لقبول توبته ، والتلقي قبول الكلام عن فهم وفطنة ، والكلمات هي قوله تعالى (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية 23 من الأعراف ج 1 ، وتدل فاء التعقيب على أن توبته كانت عقب هبوطه بلا مهلة ، وهذا ما ينافي القول بأن اللّه تعالى ألهمه أركان الحج وأمره أن يحج ويقول اللهم اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي.
وما قيل إنه بقي ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من ربه ، ينفيه قوله تعالى «فَتابَ عَلَيْهِ» عقب دعائه هذا الذي لقّنه له ربه «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع على عباده بقولهم إذا تابوا وأنابوا «الرَّحِيمُ 37» كثير الرحمة بهم لرأفته عليهم.
قال تعالى «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» الأمر للأربعة المذكورين آنفا ، وهو تأكيد للأمر الأول لما فيها من زيادة كلمة (مِنْها) لبيان أن الهبوط من الجنة ، وزيادة لفظ (جَمِيعاً) للتوكيد على أن المراد الأربعة كلهم لا بعضهم ولما نيط به من زيادة قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» يؤدي بكم إلى الجنة التي أخرجتما منها.
وما قيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا ، والأخير من سماء الدنيا إلى الأرض يرده قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) الآية ، وفي هذه الجملة الأخيرة دلالة على جواز الجمع فيما زاد على الواحد ، راجع الآية 78 من الأنبياء ج 2 ، (5/30)
ج 5 ، ص : 31
لأن الهدى لآدمو زوجته خاصة ولا يتصور دخول إبليس والحية فيه ، لأن إبليس محتم دخوله في جهنم على طريق التأبيد ، والحية قطعا تكون ترابا كسائر الحيوانات كما مر آخر سورة النبأ ج 2 ، والقول بخلاف هذا يعارض النص ، وكل ما خالف النص لا عبرة به ، وما قيل إن المراد هما وذريتهما فيه بعد أيضا إذ لم يكن لديهما ذرية إذ ذاك ولم يتصورانها «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» المنزل إليه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من الشدائد والأهوال في الدنيا والآخرة «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (38) على ما فاتهم من نعيم الدنيا.
وفي هذه الآية دليل أيضا على أن آدم حينما أخرج من الجنة لم يكن نبيّا ، وإلا لم يقل له ما جاء أول هذه الآية ، راجع الآية 114 فما بعدها من سورة طه ج 1 ، قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» بألوهيتنا وجحدوا وحدانيتنا «وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا في هذه الدنيا وماتوا على ذلك «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ» في الآخرة عقابا لتكذيبهم «هُمْ فِيها خالِدُونَ» (39) أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ، وهذه أول وصية ذكرها اللّه تعالى لبني إسرائيل في القسم المدني.
قال تعالى «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» لمّا كان المخاطب بالآيات الثلاث عشرة ، بعد الست الأولى في هذه السورة هم المنافقون وأكثرهم من اليهود ذرية يعقوب عليه السلام إسرائيل اللّه ، جاء على ذكرهم ثانيا يذكرهم النعم التي أنعم بها على أسلافهم ، وكلمة (إسرا) هي صفوة أو عبد و(إيل) معناها اللّه جل جلاله أي يا أولاد صفوة اللّه أو عبده تذكروا نعمة إنجائكم من آل فرعون ، وإحلالكم أرضهم وديارهم ، ونعما أخرى ستأتي تباعا.
واعلم أن النعم من اللّه على عبده قد تنحصر في ثلاثة أنواع : نعمة تفرد اللّه تعالى بها وهي إيجاد الإنسان ورزقه ، ونعمة وصلت إليه بواسطة الغير ومكنه منها بتسخيرهم إليه فيها ، ونعمة جعلت له بواسطة الطاعة وهي أيضا من اللّه الذي وفقه إليها ، فتكون كلها منه تعالى إلى عبده وهو يقول أعطاني فلان وخلّصني فلان «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي» المشار إليه في الآية 27 المارة كما وفّى به بعض آبائكم الأقدمين الذين تنعموا بتلك النعم بعد الذلّ والرق والقتل ، نجعلناهم قادة وملوكا وأنبياء «أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» الذي وعدتكم به من حسن(5/31)
ج 5 ، ص : 32
الثواب ورفع الدرجات بالجنة «وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» (40) لا ترهبوا سواي ، فأنا المنقذ لكم من الضر الذي أوقعه فيكم القبط ، وأنا الذي نجيتكم من الغرق وأغرقت عدوكم ، وأنا الذي حميتكم في التيه فأطعمتكم وأسقيتكم وظللت عليكم الغمام لا أحد غيري
«وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ» من القرآن على محمد صلّى اللّه عليه وسلم لكونه جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» من التوراة المشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد والإشارة إلى بعثة محمد بن عبد اللّه وإلى أنه خاتم النبيين ونبي آخر الزمان وأن من آمن به فقد آمن بالتوراة ، ومن كذبه فقد كذبها «وَلا تَكُونُوا» أيها الإسرائيليون «أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» أي القرآن فتسنون الكفر لمن بعدكم ويقتدي بكم غيركم ، يجب عليكم وأنتم أهل كتاب أن تكونوا أوّل مؤمن به ، لأنكم تعلمون من كتابكم أني منزل هذا القرآن على هذا النبي الذي جاء نعته فيه «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي» المسطورة في التوراة المبينة لذلك «ثَمَناً قَلِيلًا» فتكتمون ما فيها من وصف هذا النبي وكتابه لقاء ذلك الثمن اليسير البخس من حطام الدنيا الذي تأخذونه من قومكم وتضيعون ما لكم عند اللّه إذا صدقتم وآمنتم من الخير العظيم ، وأنتم تعلمون أن الدنيا وما فيها بالنسبة للآخرة لا يعدّ ان شيئا «وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ 41» لا تتقوا غيري ، فلا ينجيكم أحد مما تكرهون سواي.
وتقديم المفعول يفيد الحصر ، أي احذروا عدم اتقائي لئلا تقعوا في الشقاء ، وتيقنوا أن لا مخلص لكم غيري «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ» بأن تكتبوا في التوراة ما ليس منها فتغشوا حقها بباطلكم «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» الذي هو فيها لقاء ذلك الثمن الزهيد «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 42» أن ما تكتمون منها حق وما تبدونه باطل.
وهذا الخطاب وإن كان خاصا برؤساء اليهود وأحبارهم الذين كانوا ينالون مالا من سفلتهم وجهلتهم لقاء ما يخلطون عليهم مما لم ينزل اللّه ، إلا أنه عام في كل من يخلط الحق بالباطل ، أو يخفي الحق ويظهر الباطل ، وتؤذن هذه الآية العظيمة بوجوب إظهار الحق على كل أحد ، وحرمة كتمانه وتبديله ومزجه بغيره مما هو ليس من كلام اللّه.
وكان سبب إقدامهم على ذلك لأمرين : الأول لأجل ما يأخذونه من حطام الدنيا ، والثاني الخوف من أنهم إذا بينوا لهم الواقع مما هو مبين في التوراة عن صفات(5/32)
ج 5 ، ص : 33
الرسول ولزوم اتباعه عند ظهوره ، يؤمنون به فتذهب الرياسة منهم لأنهم يتبعونه ويتركونهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» مع المسلمين كما أمرتهم بالقرآن بإقامتها «وَآتُوا الزَّكاةَ» المفروضة عليكم لأنها لم تفرض بعد على المسلمين ، وقد تكرر أن ذكرنا أن الصلاة والزكاة لم تخل أمة منهما من لدن آدم إلى محمد صلوات اللّه وسلامه عليهما ومن بينهما من الأنبياء «وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ 43» من المسلمين وصلوا مثل صلاتهم جماعة بركوع وسجود ، وذلك أن صلاتهم لا ركوع فيها أي آمنوا وأقيموا شعائر المؤمنين مع النبي محمد وأصحابه.
وأنزل اللّه في رؤسائهم قوله جل قوله «أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ» البر كلمة جامعة لكل خير وطاعة «وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» فلا تعملون به ، وذلك أن منهم من كان يأمر أقرباءه وحلفاءه وأصدقاءه باتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، والثبات معه على دينه سرا ، ويقولون لهم إنه نبي آخر الزمان حقا ، وان التوراة تأمر باتباعه ، وهم يعدلون عن الإيمان به حرصا على بقاء الرياسة بأيديهم ، وما يأخذونه منهم من حطام الدنيا ، أي كيف تفعلون هذا «وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ» التوراة وتعلمون بما فيها من الحق والأمر باتباعه ومجانبة الباطل «أَ فَلا تَعْقِلُونَ 44» أيها الأحبار والرؤساء والقادة ، أن ذلك منقصة في دينكم ودنياكم ، إذ لا يليق بالإنسان أن يأمر بما لا يفعل وينهى عما يفعل.
قال تعالى (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) الآية 88 من سورة هود في ج 2 ، وقال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وفي هذه الآية تقريع وتوبيخ لهم عنى ما هم عليه.
ويؤذن الاستفهام فيها بالتعجب من حالهم والإنكار لأفعالهم.
مطلب في العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وغيرهما والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل :
واعلم أن العقل لغة الإمساك ، وهو مأخوذ من عقال الدابة ليمنعمها من الشراد ، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والأفعال القبيحة.
واصطلاحا قوة تهيء قبول العلم فتصير لصاحبها ملكة بميز فيها الخير من الشر.
وهو قسمان وهي وكسبي ، (5/33)
ج 5 ، ص : 34
والكسبي أفضل من الوهبي ، لأنه يزداد تدريجا بسبب اتباع ما يستحسنه من أعمال الناس واجتناب ما يستقبحه من أفعالهم ، والوهبي هو هو ، إذ لا يستعمله صاحبه في الاتباع والاجتناب.
قال سيدنا علي كرم اللّه وجهه :
إن العقل عقلان فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مطبوع إذا لم يك مسموع
كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع
روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول :
يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى بالنار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى ، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه.
وروى البغوي بسنده عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء خطباء أمتك ، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.
وهذا مما يؤيد أن هذه الآية عامة في كل من هذه صفته ، وان خصوصها في علماء بني إسرائيل لا يمنع عمومها وشمولها لغيرهم ، وقيدها بهم لا يحول دون إطلاقها ، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، فعلى العاقل إذا أراد أن يسمع قوله ويقتدى بفعله أن لا يخالفها ، إذ يصير محلا للانتقاد في الدنيا والعذاب بالآخرة ، ولا يعمل لأجل الناس أو لإرضائهم ، فقد قال صلّى اللّه عليه وسلم : من أرضى اللّه بسخط الناس كفاه اللّه شرهم ، ومن أحسن فيما بينه وبين اللّه أحسن اللّه فيما بينه وبين الناس ، ومن أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته ، ومن تحمل لآخرته كفاه اللّه أمر دنياه.
وعلى الإنسان أن يحسّن ما يخرج من لسانه ويلين جانبه ، ويحلم عند الغضب ، ويجتنب الحدّة مهما استطاع ، فمن أكبر الشوائب وأفحش المصائب أن يكون المرء بذيء اللسان ، شرس الطباع ، خشن الجانب ، سيء الآداب ، تأخذه ثورة الغضب لأقل إساءة ، والغضب يقبح صورة الغضبان ، ويثلم دينه ، ويعجل ندمه ، وتبدو منه بوادر الحدّة لأدنى إهالة ، (5/34)
ج 5 ، ص : 35
وعلى الإنسان أن لا يغتر بحسنه وجماله وكمال هيئته دون أن يكون متحليا بعقل سليم وخلق مستقيم وعمل صالح ، وينظر إلى قول القائل :
إلا يكن عظمي طويلا فإنني له بالخصال الصالحات وصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلوا وأما وجهه فجميل
قال تعالى «وَاسْتَعِينُوا» أيها الناس على تقوية إيمانكم باللّه ورسوله وعلى ما يصيبكم من مصائب الدنيا وعلى مشاق ما كلفتم به من العبادة وما نابكم من قسوة الفقر «بِالصَّبْرِ» فإن الجزع والضجر يزيدان في المصيبة ويمحقان الأجر «وَالصَّلاةِ» الدعاء إلى اللّه تعالى فيها ، فإن ذكر اللّه مع الصبر يذوب معهما كل ضر ، وانهما يهوّنان عليكم حب الدنيا بما فيها من رياسة ومال وسلطة وجاه «وَإِنَّها» أي هذه الأمور التي أمرتكم بها ونهيتكم عنها من بداية الخطاب إلى هنا «لَكَبِيرَةٌ» ثقيل الأخذ بها على الناس ، ويشق عليهم القيام بها ، كما نريد «إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ 45» منهم ، فإنها خفيفة عليهم ، لأن قوة إيمانهم وصحة عقيدتهم وواسع يقينهم يسهل عليهم ما يقربهم إلى اللّه ، ويكرههم بما يباعدهم عنه.
ثم وصف هؤلاء الخاشعين بأنهم «الَّذِينَ يَظُنُّونَ» يتيقنون «أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» بالآخرة فيعترفون بالبعث بعد الموت وبالحساب والعقاب والثواب «وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ 46» يوم القيامة ، ومن اعتقد هذا هانت عليه الدنيا وما فيها ، وأقبل بكليته إلى ربه.
قال بعض المفسرين إن الخطاب في هاتين الآيتين الأخيرتين للمؤمنين خاصة ، وهو قول غير سديد ، لأنّه يوجب تفكك النظم الجليل ويقطع المناسبة بينهما وبين ما قبلهما من الآيات ، والأولى هو ما جرينا عليه من جعل الخطاب فيهما لليهود والمؤمنين معا لأن اليهود لا ينكرون أصل الصلاة والزكاة والصبر على المكاره في أمور الدين وانهم يعتقدون باليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار ، وكذلك النصارى ، لأن الشرائع ، كلها منزلة من اللّه تعالى ، وقد ذكرنا في سورة المؤمنين في الآية 52 ج 1 أن أصول الأديان كلها واحدة ، وقلنا آنفا إن التخصيص والتقييد لا يمنع عموم والإطلاق ، فيدخل فيهما جميع الأمة ، ثم أكد التحذير والتخويف عليهم وتفطنهم لنعمه على آبائهم ، فقال عز قوله «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي(5/35)
ج 5 ، ص : 36
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 47»
من أهل زمانكم ، فاحتفظوا أيها الخلف الحاضر بشرف أسلافكم المفضّلين ، وكرر صدر هذه الآية بمثل الآية 40 المارة وستكرر أيضا في الآية 123 الآتية ، وهذه الوصية الثانية «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي» فيه «نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» لزمها في الدنيا ، بل لا بد ان تجازى هي نفسها على عملها.
واعلم أن التقوى كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه الإنسان ، وهي كلمة وجيزة جامعة لكل خير ، ومعناها امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وعبر بعضهم عما ذكر بقوله ان لا يراك حيث نهاك ، ولا يفقدك من حيث أمرك ، وقال آخر إذا أردت أن تعصيه فاعصه حيث لا يراك أو اخرج من داره وكل غير رزقه.
وتقوى اللّه تتضمن ما تضمنه حديث إن اللّه كتب الإحسان على كل شيء ، وكذا ما تضمنه حديث جبريل الذي يسأل فيه حضرة الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان ، لأن سائر أحكام التكليف لا تخرج عن الأمر والنهي ، فإذا اتقى اللّه الشخص بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فقد أتى بجميع وظائف التكليف.
والأصل في ذلك قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ...) الآية 178 الآتية ، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الآيتين 62 و63 من سورة يونس في ج 1 ، فمن اتقى اللّه حسبما في الآية الأولى من الإيمان والإسلام فهو متق ، والمتقي ولي اللّه ، ومن اتقى مثلما في الآية الثانية فهو ولي ، فصار معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلم في الحديث اتق اللّه حيثما كنت تكون ولي اللّه بتقواك إياه ، ويحصل لك لوامح وصف الحمد والثناء في كل مكان وزمان اتقيته فيه ، لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الآية 187 من آل عمران الآتية ، ويحصل لك أيضا الحفظ والحراسة من الأعداء لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) الآية 121 من آل عمران الآتية أيضا ، ويحصل لك التأييد والنصر بقوله تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية 4 من سورة الطلاق الآتية ، ويجعل لك أيها المتقي أيضا إصلاح العمل وغفران الذنوب لقوله تعالى(5/36)
ج 5 ، ص : 37
(وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) الآية 72 من سورة الأحزاب الآتية ، ويجعل فيك النور لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) الآية 28 من سورة الحديد الآتية.
والتقوى تورثكم المحبة لقوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الآية 77 من آل عمران أيضا ، وتورثكم الإكرام لقوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية 14 من سورة الحجرات الآتية ، وتورثكم البشارة عند الموت بما يوجب لكم المسرة لقوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) الآية 10 من سورة يونس ج 2 ، وتورثكم النجاة من النار لقوله تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية 72 من سورة مريم في ج 1 ، ولقوله تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) الآية 28 من سورة الليل في ج 1 ، وتورثكم الخلود بالجنة لقوله تعالى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الآية 123 من سورة آل عمران الآتية.
والتقوى التي تسمى تقوى هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات والتباعد عن المحظورات ، وقد وصّى اللّه بها عباده فقال عز قوله (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) الآية 130 من سورة النساء ، ولهذا عرفها
بعض العلماء بأنها اسم جامع للحذر من جميع ما أمر اللّه به أن يحذر منه ، لأن العبد تارة بحذر من تضييع الواجبات ، وطورا من المندوبات فيتقيه ، وتارة يحدر فوات أعالي الدرجات فيتقيه بأن لا يشتغل بما دونها ، ومرة يحذر ارتكاب المحرمات ، وأخرى المكروهات فينقيه لئلا يقع فيها ، وقال بعض العلماء المراد بالتقوى أن يتقي العبد ما سوى اللّه فيجتنب كلّ ما يشغله عنه ، وفي هذا المعنى قيل :
من عرف اللّه فلم تغنه معرفة اللّه فذاك الشقي
ما يصنع العبد بعز الغني والعز كل العز للمتقي
وقال أبو الدرداء :
يريد العبد أن يعطى مناه ويأبى اللّه إلا ما أرادا
يقول العبد فائدتي ومالي وتقوى اللّه أفضل ما استفادا(5/37)
ج 5 ، ص : 38
واعلم أن التقوى ظاهرا وباطنا ، فالظاهر ما يحل بظاهر البدن ، وهو المحافظة على حدود اللّه تعالى ، فلا يتجاوز شيئا منها ما استطاع ، وإذا أكره يبادر حالا للاستغفار والرجوع ، والباطن ما يحل بباطنه من الإخلاص في العمل وحسن النية ، وقد اتفقت الأمة على فضلها ولزوم التحلي بها وعدم مرافقة غير أهلها ، ولهذا قال :
ولا تمش إلا مع رجال قلوبهم تحنّ إلى التقوى وترتاح للذكر
لأن الذي يريد أن يعيش عيشة طيبة توصله إلى الراحة الدائمة في الآخرة ، عليه أن يقضي حياته مع المتقين كي يكون حي القلب دائم اليقظة بعيدا عن الغفلة ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة (التقوى هاهنا) يشير إلى صدره الشريف مكررا لفظها ثلاثا لأنه محل القلب الذي هو بمنزلة الملك للجسد ، فإذا صلح صلح كله ، وإذا فسد فسد كله ، كما جاء في الحديث الآخر الصحيح أيضا ، وذلك لأن التقرى تورث خشية اللّه ، وخشية اللّه تمنع صاحبها من كل سوء ، قالوا أمر الرشيد بحبس رجل ثمّ سأل السجان عنه فقال إنه كثير الصلاة والدعاء في سجنه ، فقال خله يسألني إطلاقه ، فعرض له بذلك ، فقال قل لأسير المؤمنين كل يوم يفي من نعمته ينقضي من محنتي ، والأمر قريب ، والوعد الصراط ، والحاكم هو اللّه.
فلما بلغه الرشيد ذلك خرّ مغشيا عليه ، ولما أفاق أمر بإطلاقه.
لهذا على العاقل أن يخشى اللّه فيما يقول ويفعل ويعمل بالتقوى ، وقال الغزالي : التقوى كنز عظيم فإن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر ورزق كريم وملك عظيم ، لأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فيها.
ومن علامة التحقق بالنقرى أن يأتي المتقي رزقه من حيث لا يشعر ، ومن جهة لا تخطر بباله ، لأن من يتقي اللّه يقف عند حدوده ويجتنب معاصيه ، فيخرجه من طرق الحرام إلى الحلال ، ومن الضيق إلى السعة ، ومن النار إلى الجنة ، ويرزقه من حيث لا يرجوه.
وقال ابن عباس :
يخرج اللّه المتقي من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة.
راجع الآية الثانية من سورة الطلاق الآتية.
وعنه أيضا قال من اتقى اللّه وقاه كل شيء ، أي حفظه مما يخافه ، وقال داود بن نصر الطائي : ما خرج عبد من ذل(5/38)
ج 5 ، ص : 39
المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه اللّه تعالى بلا مال ، وأعزه بلا عشيرة ، وآنسه بلا أنيس.
وقال ابن الوردي :
واتق اللّه فتقوى اللّه ما جادرت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقا بطلا إنما من يتق اللّه البطل
هذا وإن الرجل إذا وفق لنقوى اللّه على ما ذكرنا لازمته الاستقامة ، وهي كلمة جامعة لأنواع التكاليف.
قال ابن عباس ما نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في جميع القرآن أشد من قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) الآية 114 من سورة هود في ج 2 ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم شيبتني سورة هود.
قال القشيري الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها تحصل الخيرات ويكمل نظامها ، لأن من لم يكن مستقيما في حاله ضاع سعيه وخاب جده.
ودرجة الاستقامة هذه لا يطيقها إلا الأكابر الربانيون لما فيها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات ، لأنها تقتضي القيام بين يدي اللّه تعالى على حقيقة الصدق ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : استقيموا ولن تحصوا.
أي لن تقدروا على إحصاء لوازم الاستقامة كلها ، وهذا لا يمنعكم من العكوف على الاستقامة ، لأن ما يحصل منها يكفي عن غيرها ، ولهذا قال العارفون ذرة استقامة خير من ألف كرامة.
وقال الكاملون ما الكرامة إلا الاستقامة.
وعلى المنقي طالب الاستقامة أن يحفظ اللّه تعالى بطاعته وعدم التعدي على عباده ليحفظه برعايته ويجده أمامه فيما ينزل به من الشدائد ، وأن يكل أمره إليه ، فلا يسأل غيره في قضاء حوائجه ، لأن خزائن الوجود كلها بيد اللّه تعالى ، وأزمّتها إليه ، ومفاتحها منوطة به ، فلا معطي ولا مانع سواه ، وعليه أن لا يطلب الإغاثة إلا منه وحده ، كما أنه لا يخص بالعبادة غيره ، راجع الآية 5 من سورة الفاتحة في ج 1 ، والآية 70 من سورة الأنبياء وما ترشدك إليه تجد ما يثلج صدرك.
وليتحقق هذا المتقي المستقيم أن جميع ما في الكون علويه وسفليه لو أرادوا أن ينفعوه بشيء لم يقدره اللّه له لا يقدرون ، كما أنهم لو أرادوا أن يضروه بشىء لم يقدره اللّه عليه لن يقدروا ، راجع الآية 13 من سورة الأنعام في ج 2 وما ترشدك إليه من الآيات.
فإذا اتقيت أيها الإنسان واستقمت هان عليك أمر الدنيا والآخرة ، (5/39)
ج 5 ، ص : 40
ووجدت اللّه تعالى أمامك في جميع أمورك.
فعليك أن تتعرف إليه حالة الرخاء والصحة لتجده حالة الشدة والمرض ، كما وقع لأهل الغار في الكهف حينما وقع حجر أمامهم وسد عليهم باب الخروج .
راجع الآية 26 من سورة الكهف في ج 2.
هذا وقد أوردنا ما يتعلق في بحث الاستقامة في آية هود المذكورة آنفا فراجعها مع ما أوردناه في حق التقوى هنا ففيه كفاية.
ولنرجع إلى تفسير الآية التي نحن بصددها بعد أن شطح بنا القلم فيما استطردناه ، وهي أن كل نفس لا بد وأن تجازى بما عملت هي نفسها عليه ، فلا يكون بحالة من الأحوال مجازاة غيرها عنها ، قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) الآية 19 من سورة فاطر في ج 1 ، «وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» إذا كانت كافرة مطلقا ، وإذا كانت مؤمنة إلا بإذن اللّه ، ولمن يرتضيه ، راجع الآية 28 من سورة الأنبياء ج 2 ، «وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» عنها أي فدية تقيها من عذاب اللّه «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 48» فيه من العذاب ، وهذه الآية بمعرض الرد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم أصحاب موسى عليه السلام يشفعون لهم في الآخرة.
قال تعالى معددا بعض نعمه عليهم بقوله عز قوله في قصة ثالثة ضمنها قصصا أخر متتابعة من أعمال اليهود وهي «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» وهؤلاء المخاطبون لم يشهدوا عهد فرعون وإذاقتهم عذابه بالعسف ، إلا أنهم يعلمون ذلك بالاستقراء وبذكره بالتوراة «يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ» أي قتل الذكور وإبقاء الإناث للخدمة «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ 49» راجع الآية 8 من سورة القصص في ج 1 وما ترشدك إليه في هذا البحث «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ» وجعلنا فيه مسالك لتقطعوه وتتخلصوا من فرعون وقومه.
مطلب خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف وإنجائهم وإغراق فرعون والميقات الأول :
قالوا لما دخل بنو إسرائيل مصر زمن يوسف عليه السّلام كانوا اثنتين وسبعين نسمة ، ولما خرجوا منها زمن موسى عليه السّلام كانوا ستمئة ألف وعشرين ألفا ، (5/40)
ج 5 ، ص : 41
عدا الذين دون العشرين وفوق الستين ، قالوا وأخرج اللّه كل ولد كان في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل ، وكل ولد كان في بني إسرائيل من القبط إلى القبط ، ولما أمره اللّه بإخراجهم أمرهم أن يستعيروا حلي القبط وأن يتركوا أصرجتهم مضيئة في دورهم لئلا يرتاب القبط ببقائهم ، وليعلموا أن استعارة الحلي ليتزينوا بها في عيدهم ، ففعلوا وخرجوا إلى باب البلد فأضلوه ، فقال مشايخهم إنما أضللنا الباب بسبب العهد الذي أخذه يوسف علينا بأن لا نخرج من مصر حتى نأخذ ضريحه معنا ، فتحروا قبره فلم يجدوه ، فأخبرتهم عجوز أنه في النيل ، فدعا موسى ربه ، فانحسر النيل وظهر تابوته ، فأخرجوه ووضعوه ضمن تابوت من رخام ونقلوه معهم ، وداوموا سيرهم طيلة الليل ، ولما بلغ فرعون خروجهم تبعهم بألف ألف وسبعمئة ألف ، وعند طلوع الشمس دخلوا شاطىء البحر ، فنظروا فإذا فرعون وقومه بأثرهم ، فأوحى اللّه إلى موسى فضرب البحر ودخله وقومه ، فدخلوه ، فأنجى اللّه موسى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، راجع تفصيل هذه القصة في الآية 63 من سورة الشعراء في ج 1.
قال تعالى «فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 50» فعلنا بكم وبهم بأم عيونكم كيفية الإنجاء والإغراق بآن واحد ،
«وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة ، ولم يقل نهارا لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر ، وهذا هو الميقات الأول إذ يوجد آخر سنأتي على ذكره بعد.
قالوا إن بني إسرائيل لم يكن لديهم شريعة ولا كتاب ، وقد وعد اللّه موسى بإنزال التوراة ووقت له هذا الميقات ، فاستخلف عليهم هارون وذهب لميقات ربه ، وكان السامري يرى جبريل حين يأتيه ويرى فرسه لا تطأ شيئا إلا حيي وكان منافقا ، فقبض قبضة من أثرها إذ عرف أنه إذا ألقاها على شيء يحيا ، فقال لبني إسرائيل إن الحلي الذي أخذتموه من القبط لا يحل لكم فضعوه في هذه الحفرة ، فوضعوه ، فعمد إليه وصاغه عجلا وألقى التراب فيه ، فصار يخور ، فقال لبني إسرائيل هذا إلهكم الذي ذهب إليه موسى نسيه هنا.
راجع تفصيل هذه القصة في الآية 148 من سورة الأعراف في ج 1 ، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ» إلها فعبدتموه «مِنْ بَعْدِهِ»(5/41)
ج 5 ، ص : 42
بعد ذهاب موسى إذ كان وعدهم أولا ثلاثين ليلة ، ولم يعلموا بزيادة العشر ، فلما مضت ظنوا أنه مات ، لأن العقيدة الدينية في قوم موسى لم ترسخ في قلوبهم بعد ، مع ما أظهره اللّه على يديه من الآيات الباهرات ، ولهذا بادىء الرأي أذعنوا وسمعوا قول السامري وعكفوا على عبادة العجل ، قاتلهم اللّه ، إن موسى دعاهم إلى اللّه سنين ، وأظهر لهم المعجزات الباهرة ، فلم تثبت دعوته إلى اللّه الفاعل المختار في قلوبهم ، وبكلمة بسيطة من السامري أذعنوا حالا لعبادة العجل الذي هو من صنع يده ، وانقادوا له ، ولهذا قال تعالى «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ 51» في ذلك ، لأن العجل عبارة عن صنم ، فكيف تصدقون إلهيته بلا تأمل ، ولا تدبر وبأنه إله موسى ، وأن موسى نسيه «ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الفعل القبيح ، وقبلنا تربتكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 52» حسن صنيعنا بكم من قبولكم بعد الإعراض وما أسلفناه لكم من النعم التي لا تقدر ولا يقدر أحد أن يعملها معكم ، فضلا عن نعمة خلقكم وتمعكم بجوارحكم وحواسكم وإدرار الرزق عليكم وإيوانكم.
مطلب في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني :
واعلم أن الشكر ثلاثة أنواع : شكر بالقلب وهو تصور النعمة ، وشكر باللسان وهو الثناء على مؤتي النعمة ، وشكر بالجوارح وهو مكافأة المنعم على النعمة.
وقيل في ذلك :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
قال موسى عليه السّلام : إلهي أنعمت علي النعم السوابغ ، وأمرتني بالشكر ، وإنما شكري إيّاك نعمة منك ، فأوحى اللّه تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذي لا فوقه علم ، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهي مني.
وقال داود عليه السّلام : سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة.
قال تعالى «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة «وَالْفُرْقانَ» عطف بيان على الكتاب ، أو معرفة الفارق ما بين الحق والباطل لأول نظرة دون تأمل ، بأن يلقي اللّه تعالى في قلبه عند مشاهدة الشيء أو سماع القول ، هذا حق وهذا باطل «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 53» بهديه(5/42)
ج 5 ، ص : 43
فتعلمون منه ما أحل لكم وما حرم عليكم فتأتون الخير وتذرون الشر على علم لأن الفعل والترك إذا كان عن جهل فهو جهل وإن كان حقا ، قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» الذين عبدوا العجل بعده بإغرار السامري «يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ» إلها زمن غيابي وعبادتكم له من دون اللّه وخرجتم عن العهد الذي أخذته عليكم وفاقا لعهد اللّه الأزلي بعدم عبادة غيره ، فقالوا له ما نفعل حتى يغفر لنا ، لأن اللّه الذي أمرتنا بعبادته يقبل الرجوع إليه قال «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ» خالقكم قالوا وكيف هذه التوبة التي تمحو ذنبنا ويقبلنا بها إلهك قال «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» وكان في شريعة موسى عليه السّلام أن من اقترف ذنبا كبيرا كالكفر فتوبته قتل نفسه ، ولا يقبل اللّه توبتكم إلا بذلك ، وبما أنكم ولا بد ميتون فقتلكم أنفسكم لرضاء اللّه عنكم أربح لكم ، «ذلِكُمْ» القتل والتخلص من هذه الدنيا الفانية التي غررتم بها فتلاقوا ربكم تائبين خاضعين «خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» من أن تموتوا حتف أنفسكم كفارا فتلقوه في دار البقاء على كفركم فتخلدوا في النار.
وهذا بيان بأن توبتهم لا تقبل إلا بالقتل ، وليس القتل هنا تفسيرا للتوبة ، لأن التوبة عبارة عن الندم على الفعل والعزم على عدم العودة عليه ، ولكن اللّه تعالى أوحى إن موسى عليه السلام أن توبة المرتد قتله ، ولذلك قضى عليهم بالقتل ، ولما وقع في قلوبهم ما هددهم به موسى من الخلود بالنار في الآخرة وتيقفوا ان قوله حق لما عرفوا منه ، وأنهم لا بد ميتون ، اختاروا قتل أنفسهم حذرا من عذاب اللّه ، فقالوا نسلم لأمرة إلى اللّه ، ونصبر على القتل ، وجلسوا مختبين (الاحتباء ضم الساقين إلى البطن بثوب) وقيل لهم من حل حبوته أو اتقى بيديه أو بشيء آخر أو نظر لقاتله فهو ملعون ، فصار الابن يقتل أباه ، والأب ابنه ، والأخ أخاه ، والزوج زوجته ، والزوجة زوجها ، وقد أظلهم اللّه بسحابة حتى لا ترق قلوب بعضهم على بعض ، وصار موسى وهرون يبكيان ، ويتضرعان إلى ربهما ، ويقولان يا ربنا (البقا البقا) أي اعف عن البقية ، فأجاب اللّه دعاءهم وكشف عنهم السحابة وأمرهم بالكف عن القتل ، فتفقد موسى وهرون القتلى فوجداهما سبعين ألفا ، فحزنا عليهم ، فأوحى اللّه تعالى(5/43)
ج 5 ، ص : 44
إلى موسى ألم ترض أن أدخل القاتل والمقتول الجنة ، ومن بقي مكفرا عنه ؟
قال بلى يا رب ، فأخبر قومه وأمر بدفن الموتى ، وقال للباقين «فتاب عليكم» ربكم بامتثالكم أمره «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 54» بالعفو عن الباقين وإدخال القاتل والمقتول الجنة.
قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» علانية مثل ما نراك وترانا ، وذلك أن اللّه تعالى أمر موسى أن يأتي بأناس من بني إسرائيل يعتذرون عن عبادة العجل من الذين لم يعبدوه ولم ينهوا العابدين له عن عبادته.
فاختار سبعين رجلا من خيارهم وأمرهم بالصوم والطهارة ، وخرج معهم إلى طور سيناء ، وهذا الميقات الثاني ، فلما وصلوا قالوا لموسى أسمعنا كلام اللّه ، فقال لهم أدنوا مني ، فدخل الغمام ، ودخلوا وراءه فسجدوا وسمعوه يكلم ربه وسمعوا كلام اللّه جل شأنه يقول له أنا اللّه ذو بكة لا إله إلّا أنا ، أخرجتكم من مصر بيد شديدة ، فاعبدوني لا تعبدوا غيري ، ثم قالوا يا موسى أما وقد أسمعتنا صوته فأرناه عيانا ، فإنا لا نؤمن لك حتى نشاهده عيانا «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» حال مقالتكم هذه لجرأتكم على ربكم بطلب رؤيته ، والصاعقة صوت صيحة عظيمة هائلة راجع الآية 19 المارة «وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 55» كيف متّم بسببها.
ولا دلالة في هذه الآية على عدم استحالة جواز الرؤية في الآخرة ، لأن بني إسرائيل عوقبوا بسؤالها وكان عقابهم بعدم إيمانهم بقول رسولهم بعد ظهور معجزته ، ولأن سؤالهم كان تعنتا وعنادا ، فلما رأى موسى ما حلّ بهم صار يبكي ويتضرع إلى اللّه ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم ، فلو شئت أهلكتهم وإياي قبل أن نأتيك ، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ ولم يزل يتضرع حتى أحياهم اللّه تعالى كما أماتهم وهم ينظرون بعضهم إلى بعض كيف يحيون ، كما نظر بعضهم إلى بعض كيف يموتون ، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 56» نعمة الإحياء بعد الموت زيادة على النعم الأولى.
وتقدم بحث هذا الميقات الثاني في الآية 155 من سورة الأعراف ج 1 بأوضح من هذا ، فراجعه.(5/44)
ج 5 ، ص : 45
مطلب في التيه والمنّ والسلوى ومخالفتهم أمر اللّه ثانيا :
قال تعالى «وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ» في التيه ليقيكم من حر الشمس ، إذ ليس لديكم ما تستظلون فيه رأفة بكم «وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى » غذاء وفاكهة لكم ، إذ ليس لديكم ما تأكلون رحمة بكم.
المنّ شيء أبيض كالثلج حلو ينزل على أوراق الأشجار ليلا بقدر ما يكفيهم كلهم ، فيتناولونه نهارا.
والسلوى طير يشبه السّمان ، قد سخره اللّه تعالى إليهم وذللّه ، فيأخذون منه ما يكفيهم أيضا كل يوم ، فإذا كان يوم الجمعة يأخذون كفاية يومين وليلتين ، لأنه لا يأتيهم يوم السبت وهم لا يحل لهم تناوله فيه.
روى البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين.
أي أن الكمأة شيء أنبته اللّه تعالى لخلقه من الأرض من غير سعيهم ولا مونة منهم ، فهي منّ منّ اللّه تعالى علينا مثل المنّ لذي أنزل على بني إسرائيل لا هو نفسه ، وماؤها شفاء للعين يعرفه ذو الخبرة به ، لا لكل أمراض العيون ، كالعسل نافع لبعض الأمراض لا كلها ، وقد قال اللّه تعالى (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الآية 77 من سورة النحل ج 2 ، والضار والنافع هو اللّه تعالى.
راجع الآية 17 من سورة الأنعام ج 2 ، وقلنا لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) بلا تعب ولا كلفة «وَما ظَلَمُونا» حينما كفروا نعمتها وقالوا لن نصبر لك على طعام واحد ، كما سيأتي قريبا «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 57» ببخسهم حقنا وجحوده وعدم شكره ، لأن وباله يعود عليهم.
قال تعالى «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» أريحا قرية الجبارين الآتي ذكرهم في الآية 24 من سورة المائدة الآتية ، أو بيت المقدس على قول ، وقد أمروا أن يدخلوها بعد انقضاء أربعين سنة عليهم للبقاء فيه «فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً» بسعة بال وطيب حال وهناءة ورفاه «وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» أي باب حطة من البيت المقدس إذا كان المراد بالقرية هو ، وإنما سمي حطة لأن من دخله حطت عنه الذنوب ، وإن كان المراد أريحا فيكون المعني أي باب شئتم ، إذ لها سبعة أبواب «وَقُولُوا حِطَّةٌ» أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا ، فإذا فعلتم هذا أيها الإسرائيليون «نَغْفِرْ لَكُمْ(5/45)
ج 5 ، ص : 46
خَطاياكُمْ»
لأن امتثالكم لأمرنا هذا عبارة عن طلب الاستغفار «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ 58» منكم ثوابا زيادة على المغفرة التي طلبتموها.
وسنأتي على سبب التيه ومدته وما وقع في الآية المذكورة من المائدة إن شاء اللّه تعالى القائل.
«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» فقالوا حنطة بدل حطة ، ودخلوا زحفا على أستاههم بدل أن يدخلوه قائمين مستقيمين.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول صلّى اللّه عليه وسلم قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ، فدخلوا يزحقون على أستاههم ، وقالوا حبة شعيرة.
ورويا عنه قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لو لا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخثر اللحم (أي لم ينتن ولم يتغير) ، يشير في هذا إلى ادخار بني إسرائيل المنّ والسلوى يوما وليلة ، مع أنه كان كل يوم يأتيهم عدا السبت ، ولو لا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر.
ويشير بهذه الفقرة الأخيرة إلى منازلة حراء آدم من الشجرة وأكلها منها قبله حتى أغرته «فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» وضع الظاهر موضع المضمر إظهارا في قبح أمرهم «رِجْزاً» عذابا مميتا «مِنَ السَّماءِ» من جهتها ، وأوقعنا بهم ذلك العذاب المميت «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 59» يخرجون عن طاعة اللّه ويخالفون أمر رسوله فيتجاوزون ما حده لهم.
ونظير هذه الآيات الآيات 160 فما بعدها من سورة الأعراف ج 1.
قال تعالى «وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ» في التيه لما أرهقهم العطش ولم يكن لهم ما يشربون منه البتة «فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ» لحجر معين بدليل التعريف فضربه امتثالا لأمر ربه «فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» على عدد الأسباط لكل سبط عين بدليل قوله تعالى «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» فلا يتعدى سبط على شرب غيره ، وقلنا لهم «كُلُوا» من المنّ والسلوى حلوا ودسما «وَاشْرَبُوا» من الماء العذب الذي جاءكم «مِنْ رِزْقِ اللَّهِ» بلا مشقة ولا مؤنة «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 60» وفي هذه الآية معجزة عظيمة لسيدنا موسى عليه السّلام ، إذ انفجر له من الصخرة ماء بضربة واحدة من يده في عصاه ، وكونه اثنتي عشرة عينا أكبر من نبع الماء على أن معجزة محمد صلّى اللّه عليه وسلم أعظم ، إذ فجر اللّه له الماء لأصحابه من بين(5/46)
ج 5 ، ص : 47
أصابعه ، لأن انفجار الماء من اللحم والدم لم يسبق له نظير لا من طريق المعجزة ولا من غيرها ، لذلك فإنه أعظم من انفجاره من الصخرة التي ينفجر الماء منها عادة كما هو مشاهد ،
قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ» وذلك لأنهم صئموا من أكل المنّ والسلوى وشرب الماء بلا تعب ولا عمل ، وسمّوها واحدا مع أنهما اثنين ، لأنه لا يتبدل ، فكان بمنزلة الواحد «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها» البقل يشمل كل الخضراوات المأكولة «وَقِثَّائِها» يدخل فيه الخيار والبطيخ وأنواعهما «وَقَوْمَها» الحنطة وسائر الحبوب التي تخبز فهو كالجنس لمثلها ، ولا وجه لتأويله بالثوم المعروف ، لأنه داخل في قوله تعالى (وَبَصَلِها) الذي هو كالجنس أيضا يدخل فيه الثوم والكراث والبصيل وغيرها ، وكذلك يقال فيما قبله وبعده ، لأن اللّه تعالى ذكر أمهات الأشياء استغناء عما تفرع عنها «وَعَدَسِها» يعم كافة الحبوب التي تطبخ كالماش والهرطمان والرز وغيرها «وَبَصَلِها» يدخل فيه كل ذي رائحة كريهة كالبراصية والكرنب وشبهها «قالَ» لهم موسى عليه السّلام «أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى » أخس وأحقر مما لم يمكن الحصول عليه إلا بكدّ وكدح «بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أحسن وأطيب ، وتتناولونه عفوا بلا تعب ، وإذا كنتم تصرون على هذا «اهْبِطُوا مِصْراً» من الأمصار ، وهذا الفرق بين مصر بلا تنوين علم على المدينة المعلومة والقطر المخصوص ، وعلى مطلق بلدة بالتنوين ، فإذا أردت الأول منعت من الصرف ، وإذا أردت الثاني صرفت «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» من ذلك في أي بلدة تقصدونها «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» الفاقة أحاطت بهم من كل جانب ، لأنهم بمجرد دخولهم البلدان احتاجوا إلى الكد والجهد ، وتذللوا لغيرهم لتحصيل معاشهم ، وتمسكنوا لينالوا ما يقوتهم.
ولا وجه لمن فسّرها بالجزية ، لأنها لم تضرب عليهم ، إلا أن اليهود كانوا ولا يزالون شديدي الحرص على المال ، ولذلك تراهم أذلاء يتكالبون على جمعه يأتي طريق كان ولو كانوا أغنياء «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ» رجوعهم بالغضب وانطباعهم على الذل وحب المال لسوء عقيدتهم وفساد نيّتهم وتكالبهم على الدنيا(5/47)
ج 5 ، ص : 48
وعدم طاعتهم لرسلهم ، والسبب في ذلك «بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» عدوانا «ذلِكَ» الكفر والقتل «بِما عَصَوْا» أوامر اللّه «وَكانُوا يَعْتَدُونَ 61» حدوده من قبل ويتجاوزونها.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، وهم المنافقون «وَالَّذِينَ هادُوا» سموا يهودا لقولهم (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) راجع الآية 155 من الأعراف في ج 1 «وَالنَّصارى » قوم عيسى عليه السلام سموا نصارى لأنهم من قرية الناصرة في فلسطين «وَالصَّابِئِينَ» الخارجين عن دين إلى غيره ، لأنهم عدلوا عن اليهودية والنّصرانية وعبدوا الكواكب لزعمهم أن اللّه تعالى خلقها مدبرة لأمر هذا العالم ، ولذلك يعظمونها ، فهؤلاء «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» منهم إيمانا خالصا قلبا ولسانا ، وآمنوا برسوله وكتابه كذلك إيمانا حقيقا «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» البعث بعد الموت ، والعقاب والثواب ، والجنة والنار بعد الحساب «وَعَمِلَ صالِحاً» مع إيمانه بما تقدم «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» في الآخرة يثيبهم عليها من فضله «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من أهوالهما وعذابها «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 62» على ما فاتهم في الدنيا ، لأنهم عرضوا خيرا منها.
ونظير هذه الآية الآية 69 من سورة المائدة الآتية.
مطلب رفع الطور على بني إسرائيل وكيفية مسخهم قودة وخنازير :
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ» يا معشر اليهود وأعطيتمونا العهد على العمل بالتوراة ، فنكثتم ونقضتم ، ولما لم تمثلوا أمر رسولكم باتباع ما فيها وهددناكم بالعذاب الأخروي ولم تفعلوا ، ولهذا فإنا سننزل بكم العذاب الدنيوي العاجل «وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» حتى إذا لم تفعلوا بها أطبقناه عليكم ، وها هو ذا فوقكم كالظلة «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ» فيها واعملوا به «بِقُوَّةٍ» جد وعزيمة انقيادا لقوتنا البالغة «وَاذْكُرُوا» اقرأوا وادرسوا واحفظوا «ما فِيهِ» من الأحكام والحدود والأوامر والنواهي ، ولا تنسوا شيئا منها «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 63» سقوط جبل الطور عليكم.
فلما رأوه لا محالة واقعا بهم سجدوا وقبلوا الأخذ بما فيها ، وصاروا يرمقون الجبل من طرف أعينهم وهم سجود خشية(5/48)
ج 5 ، ص : 49
هبوطه عليهم ، ولذلك يسجدون حتى الآن على أنصاف وجوههم ، زاعمين أنه إنما رفع عنهم هبوط الجبل بمثله.
قال تعالى «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الميثاق الذي أخذ منكم قهرا على القبول بأحكام التوراة وحدودها أعرضتم عن قبول ما فيها وأدبرتم وتركتم العمل بها ، ولم تخشوا أن بوقع بكم ما رفعه عنكم أو ينزل بكم ما هو أعظم «فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» بكم بتأخير العذاب وإمهالكم للتوبة «لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (64) بذهاب دينكم ودنياكم لأنكم غبنتم بضياع دنياكم سدى وسببتم لأنفسكم عذاب الآخرة اختيارا ورضاء.
قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ» إذ جاوزوا حدود اللّه فيه لإقدامهم على ما نهوا عنه فيه احتيالا على اللّه وخلافا لأمره «فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (65) مبعدين مطرودين من رحمة اللّه ، فكانوا ، وحولت صورهم البديعة الإنسانية إلى صور قبيحة حيوانية ، «فَجَعَلْناها» أي الفعلة التي أوقعناها بهم «نَكالًا» عقوبة عظيمة وعبرة مؤثرة وعظمة بليغة «لِما بَيْنَ يَدَيْها» الذين حضروها منهم «وَما خَلْفَها» الذين يأتون بعدها من الأمم بتكرر السنين ، إذ ينقلها السلف بصورة مستمرة إلى الخلف جيلا بعد جيل «وَمَوْعِظَةً» جعلناها «لِلْمُتَّقِينَ» (66) يتذكرون بها لأنها من أيام اللّه في عباده ومواقعه في بلاده ، ويذكرون غيرهم بها ليعلموا كيفية فعلنا بهم.
وخلاصة هذه القصة أن اللّه حرم على اليهود صيد السمك يوم السبت ، وقد ابتلاهم بأن ألهم السمك ذلك فصاروا يظهرون فيه عاثمين على وجه الماء ، كما أخبر اللّه عنهم في الآية 162 من الأعراف في ج 1 ، فسؤلت لهم أنفسهم أن حفروا حياضا كبارا قرب الشاطى ، وشرعوا لها من البحر جداول يجري فيها الماء إليها فيفتحونها يوم الجمعة ، ويبقونها حتى صباح الأحد ، فيتسرب السمك إليها فيسدونها عليه من جهة البحر ، فيبقى السمك عاثما فيها لا يستطيع الرجوع إلى البحر ، وإذا هرب إلى البرّ مات ، فيضطر للبقاء في الحياض ، فيأتون ويأخذونه دون كلفة ، وبهذه الصورة احتالوا على صيده ، وذلك في زمن داود عليه السّلام ، واستمروا على ذلك مدة ، ولما رأوا أن اللّه لم يعاقبهم قالوا قد أحل لنا العمل في السبت ، (5/49)
ج 5 ، ص : 50
فصاروا يفعلون فيه كل شيء ، وانقسم الناس ثلاثة أقسام قسم صاد واستحل السبت ، وقسم امتنع وسكت ، وقسم امتنع ونهى ، ولكنه لم يؤثر فيهم ، فغضب اللّه عليهم ولعنهم وفصل بينهم وبين الآخرين بجدار حتى لا يرونهم ، فقصدوهم وتسوروا الجدار لينظروهم ، فإذا هم ممسوخون قردة وخنازير يتعاوون ، وبقوا ثلاثة أيام ثم هلكوا عن آخرهم ، قالوا ولم يمكث مسخ بعد ثلاث ، ولم يتوالد البتة ، وكان زعمهم هذا بتأويل الجواز ، ولم يعلموا أن اللّه تعالى لا تخفى عليه حالتهم ونيتهم ، ولهذا البحث صلة في الآية 73 الآتية إن شاء اللّه ، ولهذا حذرهم اللّه تعالى سوء صنيع أسلافهم ، لئلا يصيبهم ما أصابهم بأن يجعلوا هذه الحادثة نصب أعينهم يتذكرون فيها.
مطلب ما قاله الإمام المراغي وقصة البقرة وإحياء الميت :
هذا والعجب كل العجب من أن سماحة الأستاذ المراغي بمصر العظيمة اعتبر هذا المسخ عند تفسير الآية 65 من سورة البقرة معنويا ، مستدلا بما رواه ابن جرير عن مجاهد بأنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم ، وهو يعلم بأن ابن جرير ينقل الأقوال ثمّ يعلّق عليها ، وقد بسط الموضوع بصورة لم تبق شكا في أن المسخ كان حقيقيا ، على أن اللّه تعالى كرر هذه الحادثة في الآية 63 من سورة المائدة الآتية وأشار إليها في الآية 162 من الأعراف ج 1 بصورة صريحة لا مجال للتأويل فيها ، وعلى قوله يقال أيضا بأن رفع الجبل كان معنويا ، وموت السبعين المختارين في الآية 155 من سورة الأعراف كان صوريا ، وما ذكره اللّه عن موسى والخضر وقصة البقرة كان صوريا ، فما أدري أستكثر على اللّه ذلك ، كلا وحاشا ، ولكن قد يكبو الجواد ، وزلة الكبير كبيرة ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» وذلك أن رجلا فقيرا ذبح ابن عمه الغني ليستولي على ماله وألقاه في قرية أخرى وادعى لدى موسى عليه السلام بدمه عليهم ودفعوا دعواه ببراءتهم منه ولا بينة لديه سوى وجود جثته في قريتهم ، فسأل موسى ربه فأمره أن يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعضها فإنه يحيا ويخبر بقاتله «قالوا» أي المتهمون بالقتل(5/50)
ج 5 ، ص : 51
يا موسى ما جوابك بموافق للسؤال «أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً» نحن ندفع عن أنفسنا دعوى القتل وأنت تأمرنا بذبح بقرة ؟ وذلك لعدم علمهم الحكمة من ذلك لما بين الأمرين من التفاوت «قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» (67) الساخرين بكم وإني مثلكم في هذا ولكن اللّه أمرني به لإظهار أمر القتل الذي اتهمتم به ، وهؤلاء كان عليهم أن يأتوا حالا بمطلق بقرة فيذبحوها ، لأن موسى لم يعين لهم بقرة مخصوصة ولم يأمره اللّه بذلك ولكن شدّدوا فشدد اللّه عليهم ، «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» حقيقتها وكم سنها «قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ» الفارض المسنة التي لم تلد أي لا كبيرة «وَلا بِكْرٌ» البكر الفتية التي لم تكن أهلا للولادة أي صغيرة «عَوانٌ» العوان النصف والوسط والتي نتجت بعد بطنها البكر من الخيل والبقر ومن النساء التي كان لها زوج ثمّ بين المراد بقوله عوان «بَيْنَ ذلِكَ» بين المسنة والبكر «فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ 68» ولا تكثروا السؤال عما لا يعني ، فلم يكتفوا بذلك «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ» شديد الصفرة كما تقول أسود حالك وأبيض أنق وأزرق صاف وأخضر أدهم أي «لَوْنُها» اصفر جدا «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» (69) رؤيتها لحسنها وتعجبهم بهجتها فيظهر على وجه ناظرها السرور «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» أسائمة أم عامله «إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» (70) لما تأمرنا به
«قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ» ليست مذالة بالعمل «تُثِيرُ الْأَرْضَ» تحرثها للزراعة «وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ» ليست بساقية يستقى عليها الماء من البئر وغيره «مُسَلَّمَةٌ» من كل عيب «لا شِيَةَ فِيها» لا علامة ولون آخر من أبيض أو أسود أو غيره «قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» البيان الشافي الذي لا إشكال فيه فصاروا يطلبون بقرة متصفة بما ذكر فلم يجدوا إلا واحدة عند غلام يتيم فكان هذا السؤال منهم لحكمة أرادها اللّه تعالى أيضا وهي أن رجلا صالحا عنده غلام صغير وعجلة صغيرة فتركها في غيضة وقال استودعنك يا رب هذه العجلة لا بني ثمّ مات ، ونشأ الغلام(5/51)
ج 5 ، ص : 52
صالحا مرضيا لأمه فقالت له يا بني إن أباك استودع ربك عجلة في الغيضة (الحرج) فاذهب وأت بها وعلامتها أنك إذا رأيتها يتخيل لك شعاع الشمس يخرج من جلدها فذهب فرآها فقال أعزم عليك برب إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلا أقبلت إلي فأقبلت فأخذها ، وكان الناس عند ما يرونها يسمونها المذهبة فلما أتى بها إلى أمه قالت اذهب وبعها بثلاثة دنانير ولا تطلق بيعها إلا برأيي فأخذها إلى السوق فأرسل اللّه ملكا بصورة إنسان وأعطاه بها ثلاثة دنانير فباعها له على رضاء أمه ، فقال له الملك أعطك ستة دنانير وبعينها دون مشورة أمك ، قال لو وزنتها بالذهب لا أبيعها إلا برضاء أمي ، فرجع فأخبر أمه ، فقالت بعها بستة على رأيي ، فرجع بها إلى السوق فجاءه الملك فقال بعتها لك بستة على رأي أمي ، فقال أعطيك اثني عشر ولا تستأذن أمك ، فقال مقالته الأولى ، ورجع فأخبر أمه ، فقالت بعها باثني عشر برأيي ، ثم انثنت وقالت قد وقع في روعي أنّ الذي يأتيك ملك ، فقل له أتأمرني أبيعها أم لا ؟ فذهب وأخبره بما قالت أمه ، فقال قل لأمك أمسكيها فإن موسى ابن عمران سيشتر بها بملء مسكها (جلدها) ذهبا ، فرجع وأخبر أمه بما قال ، واحتفظت بها ولما لم يجد أهل القرية بقرة موصوفة بما ذكر موسى إلا هذه أخذوها منه بوزن جلدها ذهبا ، وأحضروها لموسى «فَذَبَحُوها» بأمره بقصد براءة ذمتهم من جرم القتل «وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» (71) شراءها وذبحها لغلاء ثمنها ولكنهم اضطروا لذلك لبراءتهم ، قال تعالى خطابا للمتخاصمين «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها» اختلفتم وتدافعتم بسببها ، لأن رب القتيل يسن قتل قريبه إليهم وهم ينكرون ، وبعد أن قمتم بما أمرتم فاتركوا المخاصمة الآن «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (72) من أمر القتل لأنه سيفضح الأمر ، قال تعالى «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها»
فأخذوا لسانها فضربوا به القتيل فحيي وقال قتلني ابن عمي المدعي المذكور ، فظهرت براءة أهل القرية وكذب المدعي فحرمه موسى من إرثه كله وأوقع عليه القصاص.
وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة ، وهذا مما هو موافق لشرعنا الذي جاء به خاتم الرسل من حرمان القاتل ميراث مقتوله «كَذلِكَ»
كما أحيا اللّه هذا الميت(5/52)
ج 5 ، ص : 53
«يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى »
يوم القيامة فلا تستبعدوا على اللّه شيئا أيها المنكرون البعث «وَيُرِيكُمْ آياتِهِ»
هذه وأشباهها «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
(73) معانيها فتدبرونها وتستدلون بها على غيرها ، هذا وإنما لم يقدم قصة القتيل على قصة البقرة لئلا تكون واحدة ويذهب الغرض من تقريعهم على قتل النفس المحرمة وعلى ترك المسارعة إلى امتثال الأمر بذبح البقرة.
وفائدة الضرب المأمور به في هذه الآية الكريمة مع أن اللّه تعالى قادر على إحيائه دون ضربه ودون ذبح البقرة ، لئلا يتوهموا بأن موسى أحياء بضرب من السحر الذي اتهموه به أو بالحيلة التي يزعمونها.
وإنما كانت بقرة ولم تكن شاة لأنها أعظم القرابين عندهم ، وقد جرت عادتهم أن يتقربوا إلى اللّه بمثلها ، ولحصول المال العظيم لصاحبها ابن الرجل الصالح ، ولأنها كانت وديعة اللّه.
هذا وهل يستطيع الأستاذ المراغي أن يقول ان هذه القصة معنوية ، وهل قصة عزيز وقصة إبراهيم الآتيتين في الآية 258 فما بعدها وغيرهما مما لا يعد ، صورية ، رحمه اللّه لا نعلم ماذا أراد بجرأته هذه ؟ تجاوز اللّه عنه.
الحكم الشرعي في مثل هذه الحادثة إذا وجد قتيل في قرية أو محلة ولم يعرف القاتل ولا بينة على القتل ولم يعلم الذي رماه فيها ، فإن الإمام يختار خمسين رجلا من صلحاء القرية أو المحلة برأيه أو برأي ولي المقتول ويحلف كل منهم فيقول واللّه ما قتلته ولا أعلم له قاتلا ، فإن حلفوا لا يقتصّ منهم ولكن تؤخذ دية القتيل من أهل القرية أو المحلة كافة ، وإن كان في الطريق العام كانت ديته على بيت المال ، لأن السلطان مكلف بأمن الطريق.
قال تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» البرهان العظيم وهو إحياء الميت وإخباره عن قاتله وانتزعت منكم لرحمة وتلطختم بأدران الذنوب ، فغلفّت وتكاثف صدأها «فَهِيَ كَالْحِجارَةِ» في صابتها «أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» منها ، لم قل كالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنه يلين بالنار لكل أحد ، وقد لان لداود عليه السّلام بغيرها ، والحجارة غير قابلة للتلبين وقد تصير ترابا بالحرق لكنها لا تلين أبدا «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ» فهي أفضل إذا من القلب القاسي ويرجى منها الفائدة بخلافه «وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ» كالعيون التي هي(5/53)
ج 5 ، ص : 54
دون الأنهار «وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» أي ينزل بسرعة من قمة الجبل إلى أسفله انقيادا لأمر اللّه تعالى وهو قادر علي إفهامها.
روى مسلم عن جابر بن سمرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث ، وإني لأعرفه الآن.
أي وان قلوبكم يا بني إسرائيل لا تخشى ولا تلين ولا تعقل قول المرسلين ، فاعملوا ما شئتم «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (74) في الدنيا من الشرور.
مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام اللّه ونقضهم عهوده :
وفي هذه الآية توبيخ على أفعالهم القبيحة الماضية وتهديد ليكف عنها أهل زمنه ولا يقدم على مثلها في المستقبل أبناؤهم.
قال تعالى «أَ فَتَطْمَعُونَ» يا سيد الرسل وإنما خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له وتكريما لشائة لأنه هو الداعي للإيمان باللّه وحده «أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» هؤلاء اليهود وقد سمعتم ما وقع منهم تجاه نبيّهم «وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» أي من آبائهم مع موسى عليه السّلام يوم الميقات «يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ» معه وبعده كانوا يسمعون التوراة التي هي كلام اللّه من موسى عليه السّلام نفسه «ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ» يغيرونه ويبدلونه «مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ» وعوه وفهموه إذ قالوا لموسى سمعنا اللّه يقول إن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا ، فخالفوه عمدا «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75) أن اللّه تعالى لم يقل ذلك ويعلمون أنهم اختلفوه من أنفسهم فإذا حرفوا نعتك الموجود في التوراة الذي سمعه أسلافهم من موسى عليه السّلام فقالوا غير الواقع فليس بشيء عندهم أن يكذبوا عليك بعد أن كذبوا على اللّه تعالى «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا» بك «قالُوا آمَنَّا» بما آمنتم به يا أصحاب محمد وقد علمنا أن صاحبكم صادق ونعته موجود عندنا في التوراة كما هو عليه الآن ، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بحق المنافقين ، وهذه بحق اليهود فقط ، «وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا» أي رؤساؤهم الذين نزلت بحقهم هذه الآيات وهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وأضرابهم إلى منافقيهم «أَ تُحَدِّثُونَهُمْ» كيف تحدثونهم «بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في كتابكم من وصف محمد وتخبرون أصحابه(5/54)
ج 5 ، ص : 55
بأنه حق «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» بما تحدثونهم «عِنْدَ رَبِّكُمْ» في الآخرة كما يخاصمونكم به في الدنيا «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» (71) أن تصديقكم لهم يكون حجة عليكم فيحق عليكم القول باعترافكم ، فيا سيد الرسل قل لهم «أَ وَلا يَعْلَمُونَ» هؤلاء «أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» (77) من أقوالهم وأفعالهم وأنه يخبر نبيه بها أفلا ينتهون عن مثل هذه الأعمال وهم يعلمون أن اللّه يفضحهم كما فضحهم في مواقع كثيرة.
ثم طفق يعده مثالبهم فقال «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» جمع أمنية أي تلاوة مجردة ، وكلمة تمنى تأتي بمعنى تلا كما في قوله :
تمنى كتاب اللّه أول ليلة تمني داود الزبور على رسل
وهي في الأصل بمعنى الأكاذيب «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (78) لا يدرون ما هو الكتاب «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ» قال بأيديهم مع أن الكتابة لا تكون بغيرها تأكيدا لنفي احتمال أمرهم غيرهم بها ولعلمه أن ستكون الكتابة بالآلة ، وهذا ما يؤيد ما ذكرناه في الآية 48 من سورة العنكبوت في ج 2 ، على أنه صلّى اللّه عليه وسلم لا يكتب «ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» بلا خجل ولا حياء افتراء على اللّه ، وذلك أنهم حرفوا صفة الرسول فكتبوا أنه طوال أزرق العينين سبط الشعر ، بدل ما هو مكتوب في الأصل بأنه ربعة أكحل العينين حسن الشعر حسن الوجه ، وصاروا إذا سئلوا عن صفته تلوا على السائل ما كتبوه وكتموا ما هو الواقع عند اللّه ومثبت في التوراة ، وذلك ليس إلا «لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا» من جهلتهم وسفلتهم «فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» (79) من الجعل الذي يأخذونه من عوامهم على تبديلهم كلام اللّه وافترائهم عليهم «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» بقدر مدة عبادتهم العجل وهي عشرة أيام على ما قيل «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً» على هذا وتمسكتم به «فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ» حتى قلتم هذا من حيث لم تأخذوا به عهدا من اللّه «أَمْ تَقُولُونَ» كذبا من عند أنفسكم «عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (80) بهتا وافتراء عليه ورجما بالغيب(5/55)
ج 5 ، ص : 56
«بَلى » تمسكم النار حتما إن بقيتم على كفركم ، لأن «مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» بأن مات مصرا عليها وهي لعظمها محيقة به من كل أطرافه «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (81) لا يخرجون منها أبدا.
وأعلم أنه يوجد في القرآن ثماني آيات مبدوءة بلفظ بلى هذه والآية 111 الآتية والآيتين 75/ 125 من آل عمران الآتية والآية 81 من سورة يس و14 من سورة القيامة في ج 1 و59 من الزمر و15 من الانشقاق ج 2 ، أما الآيات المبدوءة بالباء فهي 55 آية.
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (82) قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» في التوراة «لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» وحده «وَبِالْوالِدَيْنِ» أحسنوا «إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» أحسنوا إليهم لخلوهم عمن يقوم بمعاشهم ومصالحهم وأخر المساكين لأنهم دون اليتامى القاصرين عن درجة البلوغ لأنهم يقدرون على أن ينتفعوا بأنفسهم في الجملة ويقدرون على نفع غيرهم بالخدمة كما قدم ذا القربى لأنهم أقدم والشفقة عليهم أعظم أجرا منها على غيرهم «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» عاملوهم بالمعروف وعاشروهم باللطف وألينوا لهم القول واخفضوا لهم الجانب وأحسنوا أخلاقكم معهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» وقد عدل في هذه الأوامر الثلاثة الأخيرة من الغيبة إلى الخطاب ، وهي تتمة التكاليف الثمانية التي أمروا بها بالتوراة إيذانا بأمرهم بها ، لأن الأول قوام الأخلاق ، والأخير ملاك الدين وإعلاما بعدم قيامهم بها بدليل قوله «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» عن القيام بهذه العهود وأعرضتم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ» أخذوا بها ولم يعرضوا عنها «وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ 83» حتى الآن أيها المخاطبون كإعراض الأكثر من آبائكم ، وذكرنا في الآية 151 من الأعراف والآية 15 من الإسراء في ج 1 ما يتعلق بآيات بني إسرائيل والوصايا التي أنزلت عليهم ليعلموا بها بصورة مفصلة في الآية 151 من الأنعام في ج 2 فراجعها ، «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ» أيها الإسرائيليون «دِماءَكُمْ» بأن يقتل بعضكم بعضا «وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» أي لا يخرج أحدكم الآخر من داره وبلده «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ» بهذا العهد وتعهدتم بإنقاذه(5/56)
ج 5 ، ص : 57
«وَأَنْتُمْ» أيها الحاضرون الآن «تَشْهَدُونَ 84» على أحقية ذلك ووجوب الوفاء به كما شهد من قبلكم به لأنه مدون في كتابكم ولكنكم تفعلون بخلافه كالذين من قبلكم لقوله تعالى «ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ» المخاطبون «تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ» الآن كأن هذا العهد لم يؤخذ عليكم ولم تتعهدوا به وها انكم «تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» وتتعاونون على ظلمهم «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ» بمالكم وتنقذونهم من أيدي أعدائهم «وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» كما هو محرم عليكم قتلهم وعدم معاونتهم فهذه أربعة عهود نقضتموها باختياركم جرأة على اللّه وهي ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة ولك الأسرى وتمسكتم بغيرها «أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ» فتوقنون ببعض ما عاهدتم اللّه عليه وهو فداء الأسرى «وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» وهو القتل والإخراج وعدم التعاون «فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ» أيها اليهود على هذه المخالفات «إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وهوان وذلة ومسكنة فيها «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ» الذي لا تطيقه الرواسي ولا مخلص لكم منه «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 85» بل محصيه عليكم ومجازيكم به لا محالة «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم وتلك حالتهم هم «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» بمقابل ثمن بخس فان «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» يوم القيامة «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 86» فيها.
وسبب نزول هذه الآيات هو أن بني قريظة حلفاء الأوس وبني النضير حلفاء الخزرج كان بينهما عداوة قديمة وكانا يحاربان مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين خربوا ديارهم وأخرجوهم منها ، وكانوا إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا وفدوه به ، فعيرتهم العرب كيف يقتلونهم ثم يفدونهم ، فيقولون أمرنا اللّه بأن نفديهم ، فقال لهم العرب كيف إذا تقاتلونهم ، قالوا نستحي أن تذل حلفاؤنا ، فعيرهم اللّه تعالى فيما أنزله على رسوله في هذه الآيات ، وأخزى بني قريظة بالقتل والأسر والسبي ، وبني النضير بالإجلاء عن منازلهم إلى أريحا وأذرعات من أرض الشام كما سيأتي تفصيله في سورة الحشر الآتية.
قال تعالى(5/57)
ج 5 ، ص : 58
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا» اتبعنا «مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ» واحدا تلو الآخر ، فبعد موسى يوشع ، لأن هرون توفي قبله ، ثم شمويل ، فداود ، فسليمان ، فأرميا ، فحزقيل ، فالياس ، فاليسع ، فزكريا ، فيحيى ، وكل هؤلاء وما بينهم ممن لم يقص اللّه علينا أسماءهم وأقوامهم شريعتهم التوراة ، ولما بعث عيسى بن مريم وأنزل اللّه عليه الإنجيل عدل بعض أحكامها وصار عمل عيسى ومن بعده بالتوراة والإنجيل معا ، ولهذا قال تعالى «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» الموضحة
لأحكام التوراة والمعجزات الظاهرات التي لا تقبل التأويل كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام ، وقد أمر أن يكون معه من حين ولادته إلى وقت رفعه ، وهذا هو معنى التأييد ، وما قاله بعض المفسرين إن المزاد به الإنجيل لأن فيه حياة الأرواح كالقرآن بعيد عن المراد ، وإن كان الإنجيل كذلك ، لمخالفته للظاهر الذي هو الحقيقة ، فالعدول عنها إلى المجاز دون صارف لا وجه له ، وقد صرح اللّه تعالى بإتيانه بالإنجيل بآيات كثيرة عدا هذه كما صرح بالتوراة لموسى ثمّ ذكر آياته كاليد والعصا وبعض معجزاته الأخرى ، وروح القدس أطلق على سيدنا جبريل بمواقع متعددة حتى صار كأنه علما له ، أما لفظ الروح فقط فيطلق على القرآن وعلى التوراة وعلى الإنجيل بذلك المعنى وعلى نوع خاص من الملائكة كما مر في الآية 38 من سورة الأنبياء في ج 2 «أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ» أيها اليهود «بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ» من الأمور «اسْتَكْبَرْتُمْ» عنه وخالفتموه تبعا لهواكم «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» مثل عيسى قبلا ومحمد الآن «وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (87) كزكريا ويحيى ومن تقدمهما «وَقالُوا» هؤلاء اليهود «قُلُوبُنا غُلْفٌ» خلقة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد فأكذبهم اللّه بقوله ليست كذلك «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» طردهم وأقصاهم من رحمته بسبب كفرهم «فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» (88) منهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، والأكثر الذين يكفرون به «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ» قبل نزوله وبعثة محمد «يَسْتَفْتِحُونَ»(5/58)
ج 5 ، ص : 59
يستنصرون به «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» من مشركي العرب وغيرهم ، إذ كانوا يقولون عند الشدة اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي وصفته لنا في التوراة فكان يستجاب لهم وينصرون على أعدائهم ، وكانوا يقولون للمشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما نحن عليه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فأكذبهم اللّه تعالى إذ لم يوفوا بقولهم هذا لقوله تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» وهو محمّد صلّى اللّه عليه وسلم «كَفَرُوا بِهِ» بغيا وحسدا لأنه ليس منهم «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ 89» بما في كتب اللّه الجاحدين لرسله «بِئْسَمَا» قبح شيء «اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» على رسوله من القرآن بأن استبدلوا الباطل بالحق «بَغْياً» وعدوانا وإنكارا من «أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» كمحمد مثلا حسدا وطلبا لما ليس لهم ، ولأنه ليس منهم «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ» لأنهم ضيعوا التوراة إذ لم يأخذوا بما فيها ، وكفروا بمحمد والقرآن أيضا ، أي أنهم رجعوا بغضب كثير ، لأن المراد به الترادف والتكاثر لا غضبان فقط ، وعلى هذا قوله :
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث
أي رماح كثيرة «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» (90) عند اللّه في الآخرة ، وهذه الآية بلفظها هذا لم تكرر في القرآن.
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» القرآن فما قبله «قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» أي التوراة فقط مع أنهم لم يؤمنوا بها لجحدهم ما جاء فيها من لزوم الإيمان بالرسول محمد «وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» أي الكتاب العظيم الذي أنزل بعد كتابهم والرسول الكريم الذي أرسل بعد رسولهم أي الإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد «وَهُوَ الْحَقُّ» لأن كلا جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» من الكتاب العظيم الصحيح «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إذا كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم «فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مبعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم ونزول كتابه ومن قبل مولد عيسى ونزول كتابه إلينا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (91) بالتوراة ، لأنها تمنع من معارضة الأنبياء ولو قولا ، فضلا عن القتل ، وتأمر باتباعهم ولم تتبعوهم.(5/59)
ج 5 ، ص : 60
هذا ، وقد أضاف اللّه تعالى ما فعله آباؤهم إليهم لرضاهم به ، والراضي بالشيء كفاعله ، ولأنهم أنفسهم مصرون على ما فعله أسلافهم بيحيى وعيسى ومحبذون له.
قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ» حينما ذهب لميقات ربه ليأتيكم بالتوراة «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ» (92) كرره تأكيدا لإيقاع الحجة عليهم وتبكيتا بهم وتقريعا «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» وقلنا لكم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» كرره أيضا لتلك الغاية بزيادة قوله «وَاسْمَعُوا» سماع قبول وطاعة لما تؤمرون به.
ونظير هاتين الآيتين الآيتان المارتين 51 و67.
قال تعالى حاكيا عنادهم «قالُوا سَمِعْنا» قولك «وَعَصَيْنا» أمرك ولو لا مخافة هبوط الجبل علينا لما سجدنا «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» بأن تداخل حبه وتغلغل في قلوبهم فاندمج فيها ، والأصل حب العجل وقد حذف إيجازا والحذف في مثله كثير في القرآن لأنه من أنواع البديع ، وعبر بالشرب لأن من أراد حصر الحب أو البغض استعار له اسم الشراب لأنه أبلغ مساغا في البدن ، ولهذا قال الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية.
وكان شدة حبهم العجل «بِكُفْرِهِمْ» بسببه حرصا على عبادته «قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ» الذي تزعمونه إشارة إلى قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) والمخصوص بالذم ما تقدم من قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وعبادة العجل ، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم ، وفي إضافة الإيمان إليهم إيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة ينبيء عنه قوله جل قوله «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (93) لأن حرف (إِنْ) يؤذن بالشك ويدل على عدم الوقوع غالبا وهو تكذيب لهم من اللّه بدعواهم الإيمان ، أي لو كنتم مؤمنين ما فعلتم «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ» كما تزعمون وهذا إشارة لقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ) في الآية 111 الآتية ، ولقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية 21 من المائدة الآتية بما يدل على أنهما نزلنا قبل هذه الآيات ، أي إذا كنتم كما تزعمون من خلوص الدار الباقية لكم «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (94) لأن من علم أن الجنة مأواه أحب الإسراع إليها تخلصا(5/60)
ج 5 ، ص : 61
من هذه الدار الكدرة النكدة الفانية وتوصلا إلى السعادة الأبدية الهنية ، قال تعالى «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً» لعلمهم كذب ادعائهم بذلك «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من القبائح ، وخص اليد دون بقية الجوارح لأن مبدأ أكبر جنايات الإنسان من يده «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (95) حال إيقاعهم الظلم وقبله ، وصفهم بالظلم لأنه أعم من الكفر فكل كافر ظالم ولا عكس.
مطلب حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه :
«وَلَتَجِدَنَّهُمْ» يا سيد الرسل «أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» أي لا أحرص منهم عليها «وَ» حتى أنهم أحرص «مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» على الحياة مع أنهم لا كتاب لهم يعلمون منه أن هناك دارا أخرى ينعم بها المؤمن ويعذب فيها الكافر فلا لوم عليهم إذا حرصوا على البقاء في الدنيا ، وفي هذه الآية زيادة توبيخ لليهود لأنهم يقرون بالمعاد ويتأهبون له ، ويحرصون على الدنيا أكثر من المشركين الذين لا يعترفون به.
ثم بين شدة حرصهم بقوله جل قوله «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» يا حسرهم وأسفهم لأنه لا ينفعهم تعميرهم مهما كان «وَما هُوَ» تعميرهم تلك المدة لو كان واقعا فإنه ليس «بِمُزَحْزِحِهِ» ومباعده أو محركه «مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» تلك المدة أو أكثر منها ، لأن مرجعه الآخرة ليبصر نتيجة أعماله «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (96) في دنياهم لا يخفى عليه شيء منه ومجازيهم عليها في الآخرة ، ولما قال عبد اللّه بن صوريا أحد أحبار اليهود إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء ؟ قال جبريل ، قال هو عدونا فلو جاءك ميكائيل لآمنا بك ، جبريل ينزل بالعذاب ، ولأن اللّه تعالى أخبر نبينا أن بختنصر يخرب بيت المقدس ويهلكنا قتلا وتدميرا ، وقد بعثنا رجلا ليقتله ببابل فدافع عنه جبريل قائلا له إن كان اللّه أمره بهلاككم فلن تسلطوا عليه ، وإن لم يكن هو فعلى أي شيء تقتله ، وكان بختنصر وهو الذي دافع عنه حتى بقي حيا وفعل ما فعل فينا ، فأنزل اللّه تعالى «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» بسبب إتيانه بالقرآن لك وإنزاله من لدنا عليك يا سيد الرسل «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ»(5/61)
ج 5 ، ص : 62
أي القرآن كناية عن مذكور وإضمار ما لم يسبق ذكره يكون للتفخيم إذ يجعله لفرط شهرته دالا على نفسه.
راجع الآية الأولى من سورة القدر والآية 33 من سورة ص في ج 1 ، وهذا شائع في كل مشهور متعارف ، أي ان الذي يكره جبريل من أجل إنزال القرآن «عَلى قَلْبِكَ» يا سيد الرسل «بِإِذْنِ اللَّهِ» الذي أمره بذلك ولم يفعله من تلقاء نفسه ، وكان ذلك القرآن «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية «وَهُدىً وَبُشْرى » من اللّه «لِلْمُؤْمِنِينَ» (97) بحسن العاقبة ، قل لهم يا سيد الرسل «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» كان عدوا للّه ، ومن كان عدوا للّه فهو كافر ، ولهذا قال تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» (98) قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما سمع قول عدو اللّه بن صوريا من كان عدوا لأحدهما أي جبريل وميكايل فهو عدو للآخر ، ومن كان عدوا لهما كان عدوا للّه ، فلما نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه وسلم لعمر قد وافقك ربك يا عمر ، فقال واللّه لقد رأيتني في ديني بعد ذلك أصلب من الحجر.
أي أنه لم يغتر بذلك كما وقع لعبد اللّه بن أبي سرح المار ذكره في الآية 14 من المؤمنين ج 2 ، وذلك أن القرآن العظيم كما ذكرنا في الآية 44 من سورة فصلت المارة في ج 2 نور لأناس ضلال لآخرين بآن واحد ، لأن سيدنا عمر زادته إيمانا موافقته لربه في هذه الآية ، وعبد اللّه بن أبي سرح لما رأى ما خطر بباله من إكمال الآية المذكورة وهي جملة (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ونزلت الآية بها ارتد والعياذ باللّه وقال ما قال فأنزل اللّه فيه (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) الآية 193 من الأنعام في ج 2 فراجعها ، ولما قال عدو اللّه المذكور ما جئتنا بشيء يا محمد ولم ينزل اللّه عليك آية أنزل اللّه تعالى «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ» لا تحتاج إلى نظر أو تدبر «وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ» (99) الخارجون عن الطاعة ، لأن آيات القرآن واضحة كافية لمن يريد الإيمان بها والاعتراف بمنزلها والتصديق لمن أنزلت عليه ، ومن لم يرد لو ملأت له الدنيا آيات ينتفع بها أبدا.
ولما قال مالك بن الصيف واللّه ما عهد اللّه إلينا في محمد عهدا أي في لزوم الإيمان به أنزل اللّه تعالى «أَ وَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً(5/62)
ج 5 ، ص : 63
نَبَذَهُ»
أي طرحه وقذفه «فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (100) أن نقض الميثاق وجحود الحق ذنب يؤاخذ عليه وإلا لما فعلوه ولاعترفوا بعهد اللّه الذي أخذه عليهم بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم
«وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» هو محمد صلّى اللّه عليه وسلم بدليل قوله «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة «نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» التوراة «كِتابَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه وهو القرآن بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول.
وقال بعض المفسرين إن المراد بكتاب اللّه في هذه الآية هو الإنجيل ، لأنه نزل بعد التوراة وليس بشيء ، لعدم سبق ذكره ، لأن المكالمة هذه كلها مع اليهود.
وقال أكثرهم إن المراد به التوراة ، لأن المعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى ، ولأن النبذ لا يكون إلا بعد التمسك ، والأول الذي جرينا عليه الأولى ، لأن الكلام مع حضرة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم لا مع عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام ، والمعنى أن الرسول محمد يصدق ما بأيديهم من التوراة وهم بالعكس يكذبون ما جاءهم به من القرآن ، ويتركونه ولا يؤمنون به مع أنه مصدق لكتابهم ، فكأنهم نبذوه «وَراءَ ظُهُورِهِمْ» لعدم التقيد به والنظر إليه «كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (101) شيئا مما جاء فيه حسدا وعداوة بمحمد ، مع أنهم مأمورون باتباعه في كتابهم.
قال تعالى «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» من السحر والشعوذة «عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» في زمانه وعهده ، وذلك أنه فشى في بني إسرائيل أن الشياطين يعلمون الغيب ، فلما بعث سليمان عليه السلام جمع ما دونته الكهنة من أخبار الشياطين ودفنه تحت كرسيه ، وقال لا أسمع بعد الآن أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه ، فانتهوا ، فلما مات سليمان تمثل الشيطان بصورة إنسان.
وقال لبني إسرائيل هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا ، قالوا نعم ، قال احفروا تحت هذا الكرسي وأراهم مكانه وتباعد ، فقالوا له أدن قال لا ، وإنما قال لا لأن الشيطان إذا دنا من كرسيه احترق بأمر اللّه ، وقال لهم إذا لم تجدوا ما ذكرته لكم فاقتلوني ، فحفروا فرأوا تلك الكتب فأخرجوها ، فقال لهم إن سليمان كان يحكم الجنّ والإنس والطير بهذه الكتب ، فدونكم إياها واحرصوا عليها فهي الكنز الذي لا ينفد ، ثم غاب عنهم ، وفشا(5/63)
ج 5 ، ص : 64
في الناس أن سليمان كان ساحرا ، ولذلك فإن أكثر السحر يوجد عند اليهود ، فأنزل اللّه تعالى براءته بقوله عز قوله «وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا» لأنهم «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» ويأمرونهم به ، ولم يكن سليمان ساحرا وإنما كان نبيا ، وصاروا يدونون السحر ويعلمونه للناس لإغوائهم «وَ» يعلمون الناس أيضا «ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ» بلدة قديمة بأرض الكوفة من العراق ، سميت بذلك على ما قيل ، لأن تبلبل الألسن وقع فيها ، ويفهم من قوله تعالى (وَما كَفَرَ) أن تعلم السحر كفر ، وقدمنا ما يتعلق به في الآية 52 من سورة الشعراء المارة في ج 1 ، وهذا ما يدل على وجود الشياطين واختلاطهم مع البشر وأنهم كانوا قبل خلق آدم يسكنون الأرض بصورة ظاهرة كما بيناه في الآية 30 المارة وما ترشدك إليه من المواقع.
مطلب في السحرة وهاروت وماروت والحكم الشرعي في السحر والساحر وتعلمه وتعليمه والعمل به :
هذا وسبب إنزال الملكين على ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره أن الحكمة من ذلك هو أن السحرة كانوا يسترقون السمع من الشياطين ويلقون ما يسمعون بين الخلق ، فيشتبه بالوحي النازل على الأنبياء ، فأنزلهما اللّه تعالى إلى الأرض ليعلما الناس السحر فيظهر بذلك الفرق بين كلام اللّه تعالى وكلام السحرة.
وقال ابن جرير الطبري إن اللّه عرّف عباده جميع ما أمرهم ونهاهم ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم بما أمروا به ونهوا عنه ، ولو كان الأمر على غير ذلك لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم ، والسحر مما نهى عباده عنه من بني آدم ، فغير منكر أن يكون اللّه تعالى علّمه الملكين اللذين سماهما «هارُوتَ وَمارُوتَ» اسمين أعجميين سريانيين وجعلهما فتنة لعباده كما أخبر عنهما بقوله «وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» ابتلاء ومحنة «فَلا تَكْفُرْ» أي لا تتعلم السحر فتكفر إذا عملت به عملا يخالف شريعتك التي أمرك اللّه بها على لسان رسله باتباعها ، حذار حذار أيها الإنسان ، ومقاربة ما يؤدي إلى الكفر ، وإنما يقولان ذلك ليختبر اللّه عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق الملمع به إليهما بقوله جل قوله(5/64)
ج 5 ، ص : 65
«فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ» فيمتحض المؤمن بتركه ويجترىء الكافر على تعلمه والعمل به ، وعلى هذا فيكون الملكان في هذا التعليم مطيعين للّه تعالى إذ كان بإذنه ، ولا يضرهما سحر من سحر بعد نهيهما إياه عنه ، لأنهما أديا ما أمرا به ، ومما يدل على أن السحر لا تأثير له بنفسه ، قوله تعالى «وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وهذا نص قاطع في عدم تأثيره ، فلا عبرة بقول من يقول إن له تأثيرا ويخشى عليه الكفر إلا إذا تأول ، وإلا فهو كافر بلا خلاف لمخالفته كلام اللّه تعالى «وَيَتَعَلَّمُونَ» هؤلاء السحرة «ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا» أولئك اليهود ، لأن الكلام مرتبط بقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) الآية 24 المارة.
وقصة السحر مستطردة حتى لو حذفتها على سبيل الفرض إذ لا يجوز حذف حرف واحد من القرآن على القطع ويكفر فاعله ، فوصلت ما بعدها بما قبلها لا ستقام المعنى مع استقامته معها ، وهذا شأن جميع الآيات المعترضات في القرآن العظيم وهو من خصوصيات بلاغته ، وقوة سبكه ، وحسن نظمه ، ومتانة معناه ، وفصاحة مبناه ، ومن جملة إعجازه ، جل منزله والخيبة «لَمَنِ اشْتَراهُ» استبدل ما تتلوا الشياطين بما في كتاب اللّه تعالى واختاره عليه ، ومن كان هذا شأنه «ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» حظ ولا نصيب فيها «وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» أي الذين باعوها به «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 102» أن السحر والكفر سبب حرمانهم من الجنة «وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا» بمحمد وما جاءهم به «وَاتَّقَوْا» الكفر والسحر «لَمَثُوبَةٌ» لهم «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» لهم مما يتقاضونه من الثمن البخس بغضب اللّه «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 103» أن ثواب اللّه تعالى خير لهم من ذلك ، وإن النجاة باتباع الدين الحق ليس بالشعوذة.
هذا ، واعلم أن السحر له وجود وحقيقة ، والعمل به كفر إذا اعتقد بتأثيره بنفسه ، أما إذا اعتقد أن المؤثر الحقيقي هو اللّه تعالى ، فلا ، وهو قد يؤثر بتأثير اللّه تعالى في الأبدان بالأمراض والجنون ، وربما أدى إلى الموت ، لأن للكلام تأثيرا في الطباع ، فقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمّ له ، وقد مات رجال من كلام سمعوه بتقدير اللّه تعالى(5/65)
ج 5 ، ص : 66
موتهم عليه ، منهم عبد الواحد بن زيد وغيره كثيرون ، راجع كتاب الخوف ص 123 فما بعدها من الجزء الرابع من كتاب إحياء العلوم للغزالي رحمه اللّه ، وقال الأحنف بن قيس واللّه إني لأسمع الكلام أحمّ له ثلاثة أيام.
الحكم الشرعي :
السحر من الكبائر التي نهى اللّه عنها ، وتعلمه للعمل به حرام ، وقد عده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من السبع الموبقات في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان في الصحيحين ، وقد أمرتا باجتنابه ، ولا يسعنا إلا الامتثال ، وهو من حيث تعلمه على قسمين الأول يكفر صاحبه إذا اعتقد أن القدرة الحاصلة من التأثير نفسه حينما يفعله وهو المؤثر فيه كما إذا اعتقد المنجم أن الكواكب هي المؤثرة للفعالة فيما يقع من العوارض الكونية ، وفي هذه الحالة يجب قتله شرعا بدليل ما رواه جندب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : حد الساحر (أي الذي هذه صفته) ضربه بالسيف - أخرجه الترمذي - .
والثاني التخييل والتمويه بما يشاكل النيرجيّات والشعبذة التي لا يعتقد صاحبها قدرة لنفسه فيها ، كمثل من يعتقد تأثير الكواكب بقدرة اللّه تعالى ، ففي هذه الحالة تكون معصيته من الكبائر التي يحرم فعلها ولا تستوجب القتل كفرا.
هذا ، وما ذكروا من قصة هاروت وماروت من أن الملائكة قالت يا ربنا إن الذين اخترتهم لعمارة أرضك يعصونك ، وإن اللّه قال لهم لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثلهم ، وإنهم قالوا سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك ، وانهم اختاروا من خيارهم عزا وعزاليا أي هاروت وماروت ، فأهبطهما اللّه إلى الأرض وأمرهما أن يحكما فيها بالعدل ، وبقيا شهرا على استقامتهما حتى اختصم إليهما امرأة تسمى الزهراء ، وهنا حذف تاء التأنيث من فعل اختصم لوقوع الفعل بين الفعل والفاعل كقولهم جاء القاضي بنت الواقف ، وهكذا كلما فعل بين الفعل الذي فاعله مؤنث وبعضهم أجازه مطلقا سواء كان الفاعل مؤنثا أم لا ، واستدل بقول لبيد :
تمنّ ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فإن يأت يوم يموت أبوكما فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا حليفه أضاع ولا خان الصديق ولا غدر(5/66)
ج 5 ، ص : 67
إلى الحول ثمّ امم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
لكن ما جاء في الشعر لا يصلح غالبا للاستدلال ، إذ يجوز فيه ما لا يجوز في النثر.
قالوا وكانت من أجمل الناس ، فراوداها عن نفسها فأبت ، إلا أن يقضيا لها على خصمها ففعلا ، وبعد أن قضيا لها قالت لهما إلا أن تشربا الخمر ، فأجاباها وشربا ، فقالت لهما إلا أن تسجدا للصنم وتقتلا الرجل الذي قضيتما لي عليه ، ففعلا ذلك أيضا ، ثم قالت لهما إلا أن تعلماني الاسم الأعظم الذي به ترتفعان إلى السماء ، فعلماها إياه فمكتبهما من نفسها ، ثم طارت إلى السماء فمسخها اللّه كوكبا ، فلما أفاقا من سكرهما ، وأرادا الصعود إلى السماء كعادتهما فلم يقدرا وعلما ما حل بهما من غضب اللّه تعالى ، فذهبا إلى إدريس عليه السلام إذ كانت هذه الحادثة المزعومة في زمنه عليه السلام ليستشفعاه بأمرهما ، ففعل ، فخيرهما اللّه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا لعلمها أنه فان كالدنيا ، فخسف بهما ، فهما يعذبان حتى الآن ، قالوا وإن رجلا قصدهما ليتعلم منهما السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما ، فقال لا إله إلا اللّه ، فقالا مثله وسألاه ، فقال أنا رجل من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، قال ففرحا بقرب خلاص عذابهما ، لأنهما يعلمان أنه نبي آخر الزمان.
فقصة باطلة لا أصل لها ، وذلك لأن قولهم سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك ردّ على اللّه تعالى الذي قال لهم لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لعصيتموني ، وهذا كفر لم اثبت لأنهم معصومون قبل ذلك ، فلا يجوز التصديق بوقوع هذا منهم ، وقد اجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلاء ، واتفقت ائمة المسلمين على أن حكم الرسول من الملائكة حكم الأنبياء في البلاغ عن اللّه تعالى والعصمة من الذنوب ، ولأن اللّه تعالى لا يخير المشرك فكيف يخيرهما بين عذاب الدنيا والآخرة ، وما خلق عذاب الآخرة إلا للمشركين والعاصين ، وعلى القول بتوبتهما فإن صح فلا عقوبة عليهما ، لأن باب التوبة مفتوح ولم يكونا بحالة يأس أو بأس ، أما المرأة فلا يعقل أن تصعد إلى السماء بعد أن فجرت ، وكيف بصيرها اللّه كوكبا وقد عظم اللّه الكواكب وأقسم بها ، تدبر هذا تعلم أنها قصة لا حقيقة لها ، كما أن من قال إن الملكين هما رجلان صالحان وقرأ بكسر اللام فهي قراءة لا صحة لها ولا توجد(5/67)
ج 5 ، ص : 68
في السبعة ، وان الذي أنزل على الملكين قد لا يكون سحرا ، إذ لم يذكر في الآية حقيقة ما أنزل عليهما ، وقد يكون واللّه أعلم شيء من الرقى والأدعية والتعاويذ التي يجوز تعليمها وتعلمها ، والتي هي أشبه بالسحر لدى الناس ، ولهذا فإن الملكين قالا ما يبرىء ساحتهما من السحر بلفظ فلا تكفر أيها الإنسان أي فتعلم الناس السحر بدل الرقيا ، فإن تعليمه حرام قد بوصل إلى الكفر.
وما ذكرناه موافق لظاهر القرآن وكل ما جاء على خلافه مما ذكره الغير قول لا يعضده شيء من السنة فلا يركن إليه من له إلمام بفقه معاني التنزيل ، واللّه أعلم.
وقدمنا ما يتعلق بالسحر والشعوذة آخر سورة الناس والآية 42 من سورة النجم والآية 45 من سورة الشعراء في ج 1 ، فراجعها ففيها ما يغنيك عن مراجعة غيرها.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا» وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول اللّه ، أي راقبنا وانظرنا حتى نحفظ عنك ونفهم قولك ، ولا يعلمون أن هذه اللفظة بلغة اليهود بالسريانية كلمة سب بمعنى أحمق ، فقالت اليهود كنا نسبّه سرا فالآن نسبه علانية ، وصاروا يأتون رسول اللّه ويقولون راعنا يا محمد ، وقد تفطن لها سعد بن معاذ رضي اللّه عنه وأرضاه ، فقال لئن سمعتها من أحد لأضربن عنقه ، فقالت اليهود ألستم تقولونها ؟
فقال إنا نريد بها أمهلنا لا تعجل علينا ، وأنتم تريدون غير ذلك قاتلكم اللّه ما ألعنكم وأخبثكم ، فنهاهم اللّه تعالى عن قولها صيانة لكرامة حبيبه من الخبثاء «وَاسْمَعُوا» أيها الناس نهي اللّه تعالى عن هذه الكلمة لا تقولوها أبدا «وَلِلْكافِرِينَ» الذين يقولونها قصدا ولا يمتثلون نهي اللّه «عَذابٌ أَلِيمٌ 104» في الآخرة وخزي عظيم في الدنيا ، قال تعالى «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» الذين لم يتقيدوا بكتابهم وكذبوا الرسل «وَلَا الْمُشْرِكِينَ» من عبدة الأوثان «أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم كرهوا نزول الوحي على الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم حسدا وبغيا ، وذلك أن اليهود قالوا لحلفائهم المؤمنين حين كلفوهم الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه ، ولوددنا لو كان خيرا لاتبعناه ، فأكذبهم اللّه تعالى في هذه الآية كما أكذب المشركين(5/68)
ج 5 ، ص : 69
في الآية 125 من سورة الأنعام المارة في ج 2 ، وقطع قلوبهم بقوله عز قوله «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده ، وهذه الجملة رد لقولهم إن النبوة فيهم وليست في العرب ، وإن محمدا من العرب ليس منهم ، أي لا تحديد لإرادة اللّه فإنه يختص نبوته من يريد تفضلا منه عليه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 105» ولهذا اختص بها محمدا صلّى اللّه عليه وسلم.
مطلب في النسخ وأسبابه وأنه لا يكون إلا بمثله أو خير منه :
قال تعالى «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها» نفعا وأسهل عملا وأيسر فعلا وأكثر أجرا وأعظم ثوابا ، لا أن آية خير من آية ، لأن كلام اللّه كله خير وكلمه واحد ، راجع الآية 101 من سورة النحل في ج 2 ، وقال بعض المفسرين نذهب بحفظها من القلوب ومحوها من الكتب ، فلم نبق لها أثرا ، وقرىء ننسئها أي نؤخرها لوقت آخر «أَوْ» ننزل «مِثْلِها» في النفع واليسر والسهولة والثواب والأجر كالصرف عن استقبال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في الصلاة ، لأن المصلي عليه أن يتوجه حيث أمره اللّه تعالى ، فلا فرق عنده بين البيت المقدس والبيت الحرام «أَ لَمْ تَعْلَمْ» يا سيد الرسل «أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 106» من نسخ وتبديل وتغيير «أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يتصرف فيه كيف يشاء ويريد «وَما لَكُمْ» أيها الناس «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أنزل عليكم عذابه بسبب مخالفتكم «مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أموركم أو يتولى عليكم فيحفظكم من عذابه «وَلا نَصِيرٍ 107» يمنعكم من حلوله بكم ، أو يشفع لكم عنده.
وسبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بغيره ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ، فما هذا إلا من تلقاء نفسه ، فلو كان من عند اللّه كما يقول لما فعل ذلك.
وقيل إن اليهود هم القائلون لهذا القول لا المشركون ، لأن حضرة الرسول في بداية أمره كان يتعبد على ما ألهمه اللّه من شريعة جده إبراهيم عليه السلام والأنبياء بعده ، فكلما نزل عليه مما هو معدل لشريعة من قبله يفعله ويترك ما كان يفعله قبلا ، ويأمر أصحابه بفعله ويخبرهم بأمر(5/69)
ج 5 ، ص : 70
اللّه به ، لأن شريعته جاءت خاتمة للشرائع كلها ناسخة لما قبلها ، فبين اللّه تعالى في هذه الآية حكمة النسخ ، وأنه من عنده لا من عند محمد قطعا كما تكلم به اليهود أو المشركون.
ونزولها في اليهود أولى ، لأن هذه الآية مدنية ، والغالب على سكانها اليهود ، وهم الذين يجادلون حضرة الرسول بما نزل إليه من ربه مخالف لكتابهم ، وإن ما نزل في المشركين هو آية الأنعام المذكورة آنفا رد لقولهم «لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ».
واعلم أن النسخ في اللغة النقل والتحويل ، ومنه نسخ الكتاب بأن ينقل من كتاب لآخر ، وهذا لا يقضي بإزالة الصورة الأولى بل بإثبات مثله في كتاب آخر ، فعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا ، لأنه نسخ من اللوح المحفوظ وأنزل إلى سماء الدنيا جملة واحدة ، وهذا ليس مرادا هنا.
وقد يكون النسخ بمعنى الرفع والإزالة ، وهو إزالة شيء بشيء يعقبه ، كنسخ الشمس للظل ، والشبب للشباب ، وعلى هذا يكون بعض القرآن منسوخا وبعضه ناسخا ، أي إزالة حكم بحكم آخر.
وفي اصطلاح العلماء رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه ، ومنه يعلم أنه كما أن شريعة موسى عليه السلام نسخت الشرائع المتقدمة عليها كأنه قامت مقامها ، وكما أن إنجيل عيسى عليه السلام عدل شيئا من أحكام التوراة بدليل قوله تعالى في الآية 50 من آل عمران الآتية «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» فكان القسم المعدل بفتح الدال من التوراة منسوخا بالمعدّل بكسر الدال من الإنجيل ، أما الزبور المنزل بينهما إذ لا يوجد فيه أحكام ولا حدود فلم يتعرض له ، لأن مصلحة البشر المحتاجة للتعديل بحسب الزمان ، والحاجة تتعلق بالأحكام والحدود فقط ، أما الأدعية والاستغاثات الواردة في الزبور وغيره من الكتب والصحف القديمة فلا علاقة لها في هذا البحث.
فكذلك القرآن العظيم عدل جميع الشرائع المتقدمة عليه فكل حكم مناف لما فيه فهو منسوخ به ، وما لا فهو باق على حكمه لموافقته أحكام القرآن ، والسبب في ذلك أنه هو الكتاب الإلهي الأخير الذي جاء صالحا لأمور الدنيا والدين إلى آخر الزمان ، ولأن مشروعية النسخ إنما تكون للحاجة والمصلحة ، فقد كان في عهد آدم عليه السلام مساغ لأن يتزوج الأخ أخته لاقتضاء(5/70)
ج 5 ، ص : 71
المصلحة وكثرة التناسل وحاجة الزوج للزوجة وبالعكس ، فلما تكاثر النسل وصاروا في غنى عن ذلك حرمت الأخت ، وأبيحت ابنة العم والخال وما بعدها ، وكان في عهد نوح عليه السلام مساغ لأكل جميع الحيوانات ، ثم اقتضت المصلحة بتحريم بعضها لما فيه من الضرر لوجود الإنسان ، وبعضها لما فيه الحاجة للإنسان ، وفي
الأيام أيضا فقد حرم السبت على بني إسرائيل إلى زمن عيسى ، فأبيح وحرم الأحد إلى مبعث محمد فأبيح وخصّت الجمعة بالتفضيل على غيرها ، ولم يحرم العمل فيها إلا وقت الصلاة ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 10 من سورة الجمعة الآتية.
وفي الجماد أيضا فقد كان البيت المقدس قبلة لمن قبلنا فأبدل بالكعبة ، والنسخ في الأيام والجماد لحكمة لا نعلمها ، لأن الظاهر أنه لا لحاجة البشر ولا لمصلحتهم وليس علينا أن نعرف العلة لكل ما حرم اللّه وحلل أو نهى وأمر ، بل علينا الامتثال والقبول ، لأن أفعال اللّه هو سبحانه أعلم بعللها ، كما أنه لا يسأل عما يفعل ، وعليه فإن النسخ فيما ذكرنا جائز عقلا وشرعا لا ينكره عاقل ، وان القرآن العظيم ناسخ لجميع ما يخالفه من الكتب والصحف السماوية المتقدمة عليه بلا خلاف ، وبعض آيه ناسخ لبعض عند كثير من المفسرين ، والأقل قالوا بعدم النسخ وهو الأصح على المعنى المراد به إزالة الحكم من جميع جهاته ، أما من بعضها فلا ينكر ، لأنه عبارة عن تخصيص العام وقيد المطلق ، وقد جرينا على ما جرى عليه القليل ، والقليلون هم الممدحون في كتاب اللّه وكلام رسوله ، ونسأل اللّه أن يجعلنا منهم.
وقد أجمعت العلماء على أن ثلاثا وأربعين سورة من القرآن لم يدخلها ناسخ ، ولم يكن فيها منسوخ وهي : الفاتحة ويوسف والحجرات والرحمن والحديد والصف والجمعة والتحريم والملك والحاقة ونوح والجن والمرسلات والنبأ والنازعات والانفطار والمطففين والانشقاق والبروج والفجر والبلد والشمس والليل والضحى والانشراح والتين والقلم والقدر والبينة والزلزلة والعاديات والقارعة والتكاثر والهمزة وقريش والماعون والكوثر والنصر والمسد والمعوذات الثلاث.
ويوجد فيه ست سور فيها ناسخ ولا منسوخ فيها وهي : الفتح والحشر والمنافقين والتغابن والطلاق والأعلى.
وأربعون سورة فيها منسوخ ولا ناسخ فيها وهي : الأنعام والأعراف ويونس وهود(5/71)
ج 5 ، ص : 72
والرعد والحجر والنحل والإسراء والكهف وطه والمؤمنون والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والمضاجع والملائكة والصافات وص والزمر وفصلت والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف ومحمد وق والنجم والقمر والامتحان والمعارج والقيامة والإنسان وعبس والطلاق والغاشية والتين والكافرون.
وما بقي وهو سبع وعشرون سورة فيها ناسخ ومنسوخ ، وقد أشرنا إلى كل في محله فيما سبق ، وسنبينه كذلك فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى ، وما ذكرنا في المقدمة في باب الناسخ لتفنيد القول بأن السنة لا تنسخ القرآن ، كان استنباطا من هذه الآية وأقوال جهابذة العلماء ، لأن السنة مهما كانت متواترة وصحيحة فلا تكون خيرا من القرآن ولا مثله أيضا من كل وجه ، واللّه تعالى يقول «بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» وحديث لا وصية لوارث المتمسكين به قوال النسخ ليس ناسخا لآية لوصية الواردة في الآية 181 من هذه السورة ، بل هي على قول القائلين بالنسخ منسوخة بآية المواريث 11/ 12 من سورة النساء الآتية ، لأن كون الميراث حقا يمنع من صرفه إلى الوصية وهي مانعة من الوصية لذكر أصحاب الاستحقاق فيها ، أما على القول بعدم النسخ فسنأتي على ذكره عند تفسير الآيتين المذكورتين وسنتعرض لبحث النسخ عند كل آية قيل إنها منسوخة كما فعلنا في القسم المكي ، وتبين أن النسخ على رأي القائلين به عبارة عن رفع حكم بعض الآيات بآية تأتي بعدها تخصص عمومها أو تقيد إطلاقها مثل آية عدة الوفاة بالحول التي نزلت بعدها الآية بأربعة أشهر وعشرة أيام ، كما ستقف عليه ، وكالآيات الست لمتقابلات التي ذكرناها في المقدمة في بحث النسخ ، لأن في الثلاث الأول نوع تشديد ومشقة كقيام الليل كله ، ومقابلة الواحد بالعشرة في الجهاد ، وتقديم الصدقة عند مخاطبة الرسول ، وفي الثلاث الأخر نوع تخفيف ويسر كقيام بعض الليل ومقابلة الاثنين بالواحد ، وعدم تقديم الصدقة وفي بعض الآيات كثرة الثواب عن بعض ، كصيام رمضان عن الأيام المعلومات والمعدودات لأنه أكمل ، وهكذا ، فيثبت لك من هذا أن القرآن لا منسوخ فيه البتة ، وان جميع ما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلم ثابت فيه لم يغير ولم يبدل ولم يترك منه شيء كما أوضحناه في المقدمة ، وأن الحديث الذي رواه البغوي بغير سند عن أبي
أمامه(5/72)
ج 5 ، ص : 73
بأن قوما أرادوا أن يقرأوا سورة من القرآن فلم يذكروا منها إلا بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وأن الرسول قال لهم رفعت تلاوتها وحكمها ، فهو حديث غير صحيح ، وهو ورواته من الضعف بمكان لا يصح الركون إليه ، لأن القوم مجهولون والحديث بلا سند ، ومثل هذا لا يرد على تعهد اللّه تعالى في حفظ القرآن الذي ألمعنا إليه في الآية 10 من سورة الحجر والآية 42 من سورة فصلت المارتين في ج 2.
ثم وصى اللّه تعالى المؤمنين بالثقة برسولهم وترك اقتراح الآيات ورد طعن المشركين واليهود بالنسخ ، إذ جرّد الخطاب عنه وخصه بهم ، فكأنه قال إياكم أن تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان بقوله جل قوله «أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» إذ سأله جماعة من أمته بعد أن أسمعهم كلام اللّه أن يريهم إيّاه عيانا ، كما مر في الآية 56 ، فأهلكهم اللّه ، أي من شأن العاقل أن لا يتصور ذلك وفي هذه الوصية كمال المبالغة والبلاغة ، حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها ، ولا يتوقف مضمون هذه الآية على تقدم سؤال أو سابقية وقوع حال ، لأنها عبارة عن توصية ، والتوصية لا تقتضي شيئا من ذلك ، كيف وهو كفر كما أشار إليه الإله عزت إشارته بقوله «وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ 108» وهو مما لا يكاد يقع من المؤمن.
مطلب الاختلاف في سبب نزول الآية 108 وتفنيد الأقوال فيها ومجهولية الفاعل :
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية مع أن مثلها لا يحتاج إلى سبب كما ذكرنا ، وهكذا الحال في الوصايا فقال بعضهم إن المسلمين اقترحوا على رسول اللّه في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات النواط كما كان للمشركين ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم سبحان اللّه هذا كما قال قوم موسى لموسى «اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ، إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا.
وإضافة الرسول إليهم إضافة إلى ما في نفس الأمر ، وهذا بعيد ، لأن غزوة خيبر وقعت في السنة السابعة من الهجرة وسورة البقرة هذه من أول ما نزل بالمدينة.
وقال بعضهم إن اليهود(5/73)
ج 5 ، ص : 74
قالوا يا محمد سل ربك أن ينزل عليك كتابا من السماء جملة واحدة كما أنزل التوراة على موسى ، واختار هذا القول الفخر الرازي ، وقال إنه الأصح ، لأن المخاطب به في هذه السورة هم اليهود ، والإضافة إلى ما في نفس الأمر دون الإقرار ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون مستبدلا به الكفر بالإيمان ، وهو وجيه ، لأن النبي أول وصوله المدينة أراد منهم الإيمان به ، فجدير أن يطلبوا منه آية ، إلا أنه سبق قبلها الخطاب للمؤمنين إذ صدر الآية المارة بقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا» إلخ ولم يأت بعدها ذكر لليهود ، وقال بعضهم وهو قول ابن عباس إن أهل مكة سألوا محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن بوسع عليهم أرض مكة ويفجر فيها الأنهار فنزلت ، وهذا قد فات محله في سورة الفرقان في الآيتين 60 فما بعدها من سورة الإسراء في ج 1 ، لأن الحادثة مكية ، وقد نزلت فيها الآيات بمكة ، وهذه السورة مدنية ، فلا يتجه شيء من هذه الأسباب لنزول هذه الآية ، وقد ذكرنا في بحث النزول في المقدمة أن من القرآن ما ينزل بسبب ومنه ما ينزل بلا سبب ، ولعل هذه الآية من القسم الثاني وهو الأوجه واللّه أعلم.
على أن كلا من هذه الحالات الثلاث قد تكون الآية جوابا للسؤال عنها ، لكن لا أنها سبب لنزولها ، تدبر.
ولم يقل جل قوله كما سأل أمة موسى إشارة إلى أن من سأل عن ذلك يصان اللسان عن ذكره وهذا أحد أسباب مجهولية الفاعل السبعة وهي الجهالة والخوف منه وعليه وتعظيمه وتحقيره والعلم به وصون اللسان عن ذكره.
هذا ، واعلم - واللّه أعلم - أن القصد من ذكر هذه الآية بعد آية النسخ تثبيت المسلمين على الأخذ بآيات اللّه وتنبيههم بعدم الإقدام على أسئلة كأسئلة اليهود وتحذيرهم منها وتوصيتهم بالثقة بها.
قال تعالى «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ» أيها المؤمنون «كُفَّاراً» لتكونوا مثلهم «حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» لا لأمر آخر وذلك «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» في التوراة والآيات المنزلة على نبيكم الموافقة لها المؤيدة لحكمها «فَاعْفُوا» عنهم لا تجادلوهم «وَاصْفَحُوا» عن إساءتهم لا تخاصموهم واصبروا عليهم «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» في جواز قتالهم «إِنَّ اللَّهَ عَلى(5/74)
ج 5 ، ص : 75
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 109»
لا يعجزه شيء ، وفي هذه الجملة إشارة إلى التهديد بالانتقام منهم ووعد للمؤمنين بالنصر عليهم.
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا يستقيم ، لأن الأمر فيها موقت بالغاية الدالة عليه «حَتَّى» وإذ كانت الغاية غير معلومة فتكون آية السيف بيانا لها ، وما قاله الطيّبي بأن النسخ بما جاء في التوراة والإنجيل من ذكر محمد فيكون انتهاء المدة بإرساله لقوله تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» الآية 107 من سورة الأعراف في ج 1 لا يتجه أيضا ، لأن غاية ما فيها البشارة بشرع محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإيجاب الرجوع إليه ، وهذا لا يوجب توقيت الأحكام ولا يقتضي النسخ.
وهذه الآية حاكية حال أهل الكتاب منبهة على التحذير من الإصغاء إليهم والأمر بعدم عقوبتهم على ذلك القول الذي هو من أعظم الذنوب ، لأن الرضاء بالكفر كفر ، فكيف بمحاولة ردّ المؤمن إلى الكفر ، لأن معنى العفو ترك العقوبة على الذنب وعدم تثريبهم عليه أيضا ، ولأن معنى الصفح ترك التأنيب وهو أبلغ من العفو ، لأن الإنسان قد يعفو ولا يصفح.
وما قيل إنها نزلت في أحبار اليهود أو نفر منهم حينما قالوا للمسلمين أو لحذيفة بن اليمان وعمار بن
ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم ، فقال عمار وكيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا شديد ، قال إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت ، قالت اليهود أما هذا فقد صبا ، وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت باللّه ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا ، ثم إنهما أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأخبراه بذلك ، فقال قد أصبتما الخير وأفلحتما وما استدل به صاحب هذا القيل بما رواه الواحدي عن ابن عباس فليس بشيء ، ولم يوقف على صحته ولا على سنده ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث.
قال تعالى «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» أيها المؤمنون ولا تلتفتوا لأقوالهم فهو أقوى لكم ولا بأفعالهم فهي أفعى لكم «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ» ولوبكلمة طيبة أو إماطة أذى ما عن الطريق أو إسقاء الماء على الماء ، وفي هذا تأكيد للعفو والصفح(5/75)
ج 5 ، ص : 76
المذكورين آنفا وترغيب للقيام بهما ، لأنهما من أعظم أنواع الخير ، أما ما قاله بعضهم بأنه خاص بالصلاة والزكاة فهو خلاف الظاهر ، لأنه مطلق خير ، فإن عملتموه أيها المؤمنون «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ» تروا ثوابه في الآخرة «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 110» لا يخفى عليه شيء منه وأنه ينظر في كل شيء من أعمالكم ويجازيكم عليها
«وَقالُوا» أهل الكتابين «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى » فرد اللّه عليهم بقوله جل قوله «تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» أي ذلك ما يتمنعونه على اللّه من الأباطيل ، وهو قول لا حقيقة له ، لأنه لا بد وأن يصدر من اللّه الذي بيده إدخال الجنة من يشاء من عباده ، ثم كلف حبيبه بطلب الحجة منهم على قولهم بقوله عز قوله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على دعواكم هذه مما أنزل اللّه عليكم في كتابكم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 111» في ذلك ، نزلت هذه الآية عند ما تناظر نصارى نجران مع يهود المدينة ، وسيأتي بيان هذه المناظرة في أوائل سورة آل عمران الآتية بما يدل على أن هذه الآيات نزلت بعد سورة البقرة ووضعت هنا تبعا لسورتها كما هو الشأن في أمثالها ، تأمل.
مطلب مناظرة اليهود والنصارى ، ولغز في ذلك :
فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية ولن يدخل الجنة إلا اليهود ، وكفروا بعيسى عليه السلام ، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية ولا يدخل الجنة إلا النصارى وكفروا بموسى عليه السلام وقد كذب بعضهم بعضا ، فأكذبهم اللّه جميعا وبين لهم الدين الحق وأهل الجنة بقوله «بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ» في عمله مع اللّه وخلقه فهم أهل الحق ومن كان كذلك «فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ» في الآخرة ويدخل الجنة «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 112» على ما فاتهم من الدنيا لأنهم وجدوا خيرا منها وهم في أمن من أهوال الآخرة.
«وَقالَتِ الْيَهُودُ» في مناظرتهم تلك «لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ» من الدين «وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ» منه أيضا ، وقد صدقوا جميعا إذ لا دين بعد البعثة المحمدية إلا دين الإسلام ، (5/76)
ج 5 ، ص : 77
كما كذبوا في الآية السابقة.
وقد ألغز في هذا فقالوا : قوم صدقوا ودخلوا النار أي إذا ماتوا على ما عاشوا عليه من عقيدتهم الواهية كما يقال في اخوة يوسف عليهم السلام قوم كذبوا ودخلوا الجنة ، لأن فعلتهم مع أخيهم أعقبتها التوبة منهم ، والتشرف بالنبوة ، قال تعالى مبكتا أولئك بأنهم يقولون هذا «وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ» وليسوا بأميين وليس في كتابهم شيء من ذلك ، لأن التوراة بشرت بعيسى ابن مريم ، والإنجيل بشر بمحمد وحقق ما في التوراة من وصفه ونبوة موسى «كَذلِكَ» مثل هذا القول الباطل «قالَ» مشركو العرب عبدة الأوثان «الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» لأنهم أمّيّون ولا كتاب لهم «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» هذا من قبل بأن محمدا ليس على شيء وأن كتابه ليس بشيء «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 113» فيظهر المحق من المبطل ويجازى كلا بعمله.
قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها» هذا ما نعاه اللّه عليهم بما أوقعوه في معالم الدين ، كما نعى عليهم فيما تقدم الإيقاع في نفس الدين وهو عام في كل مسجد ، أي لا أحد أظلم من هذا فعله.
نزلت هذه الآية في المشركين الذين منعوا رسول اللّه وأصحابه من الصلاة في المسجد الحرام حينما كان في مكة ، وإنما قيل مساجد والمنع من مسجد واحد لأن الحكم ورد عاما وإن كان السبب خاصا ، لقوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) الآيات في ج 1 ، وهي قد نزلت في الأخنس بن شريق.
وقال الحسن وقتادة إنها نزلت في بختنصر حينما خرب بيت المقدس ، وهذا كان قبل المسيح ، فلا محل لذكره هنا وقد أشرنا إليه أول سورة الإسراء في ج 1 فراجعه.
وقال بعض المفسرين نقلا عن ابن عباس إنها نزلت في طيطوس الرومي الذي غزا بني إسرائيل فقتلهم وسباهم وخرب بيت المقدس وأحرق التوراة ومنع إقامة ذكر اللّه فيه ، وبقي خرابا إلى أن عمره المسلمون زمن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، وبقي في أيديهم إلى حرب الصليبيين إذ استحله النصارى أكثر من مئة سنة ، ثم استخلصه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 585 من الهجرة ، وعلى هذا تكون من قبيل عطف القصة على القصة قبلها ، وأتى بها هنا تقريرا لقبائحم(5/77)
ج 5 ، ص : 78
وجرأتهم على شعائر اللّه ، ولهذا يقول اللّه تعالى «أُولئِكَ» الذين تلك مثالبهم «ما كانَ» ينبغي «لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها» دخولا مطلقا «إِلَّا خائِفِينَ» ربها بخشية وخضوع وإخبات ، احتراما لربها فضلا عن الجرأة على تخريبها ، وهؤلاء المتجاسرون «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» فظيع وذم قبيح كلما ذكروا بفعلهم المشين يتبعه سبي وضرب جزية وقتل وكل ما هو من أسباب الذل يقع عليهم في الدنيا «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» لا تطيقه أجسامهم ، وهذا ليس بسديد أيضا ، لأن الآيات قبلها بحق اليهود ، وكذلك لا يصح نزولها بحق المشركين ، إذ لم يسبق لهم ذكر ، ولم يسبق ذكر المسجد الحرام في هذه الآيات.
ومما يبعد صحة القول بأنها في حق المشركين هو أن القائل به قال إنها كانت عام الحديبية ، وحادثتها وقعت في السنة السادسة من الهجرة ، وهذه السورة من أول ما نزل في المدينة كما علمت فلا تنفق مع قوله ، وهناك قول آخر بأنها نزلت في المشركين الذين ألجئوا حضرة الرسول وأصحابه إلى الهجرة ومنعوهم بسببها من أن يذكروا اللّه في المسجد من صلاة وغيرها ، وكأنهم بذلك سعوا في خرابها ، لأنها أنشئت لإقامة الصلاة والذكر ، فإذا انقطعت
عنها فكأنها خربت ، وفي هذا التأويل صرف الحقيقة إلى المجاز ، والعدول إلى خلاف الظاهر وهو وجيه ، إلا أن سياق الآية ينافيه ، وعدم سبق الذكر يبعده ، لأن هذه الحادثة في مكة ، ولم يقل أحد بمكية هذه الآية ، على أن كلا من الحوادث الثلاث صالحة لسبب النزول لو كانت منطبقة عليها ، وقد ذكرنا غير مرة أن تعدد الأسباب جائز ، أي بأن تكون آية واحدة لعدة حوادث وأسباب كثيرة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) ، إذ لا مانع من تعدد أسباب النزول ، ولكن الأولى أن يكون في حق اليهود خاصة ، وذلك لما حولت القبلة إلى الكعبة شق عليهم فصاروا يمنعون الناس من التوجه إليها ويحملونهم على تخريب الكعبة وسعوا في تخريب مسجد الرسول في المدينة ، فعابهم اللّه تعالى وبين سوء طريقتهم التي سلكوها في ذلك ، لأن الآيات السابقة جاء سياقها بالتشنيع على أفعالهم ، والآية الآتية كذلك ، فكونها فيهم أولى ، لأن المشركين لا بحث فيهم قبلها ولا بعدها.
قال تعالى «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ(5/78)
ج 5 ، ص : 79
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ 15»
نزلت هذه الآية في جماعة لم تتبين لهم القبلة فصلوا جهة تحريهم ، ثم بان خطؤهم ، فأخبروا حضرة الرسول فنزلت.
وهذه الآية كالإرهاص في تبدل القبلة ، لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومىء وكان ابن عمر يفعله.
وفي رواية لمسلم كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يصلي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت دابته فيه ، وفيه نزلت الآية ، وفيها إيماء أيضا إلى اليهود بأنهم مهما سعوا في خراب المسجد فلن يستطيعوا أن يسعوا في تعطيل عبادة اللّه تعالى ، لأنها لا تتوقف على المسجد بل يمكن تأديتها في أي مكان كان ، وإلى أي جهة كانت.
قال تعالى «وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» وهذه نزلت في يهود المدينة أيضا لقولهم عزير بن اللّه ، ويدخل فيها النصارى القائلون المسيح بن اللّه ، والعرب القائلون الملائكة بنات اللّه ، لأنها صالحة للكل ، فنزه نفسه الكريمة بقوله «سُبْحانَهُ» عما يقولون «بَلْ» هو إله الوالدين والمولودين ، لم يتخذ منهم ولدا ولا صاحبة له «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا فكيف أن يتخذ منهم ولدا وهم «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ 116» خاشعون طائعون مخبتون منقادون ، وكلمة كل تقتضي الشمول والإحاطة ، لأنه كلي يعم كل من فيهما وما بينهما ، وبعض المفسرين خص الآية بالطائعين ولا دليل على التخصيص إلا القول بنفي الشمول عنها أحيانا ، بدليل قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ) الآية 24 من سورة النمل في ج 1 ، لأن بلقيس لم تؤت مثل ملك سليمان حتى يصح أن يقال إنها أوتيت من كل شيء بمعنى الشمول ، وصاحب هذا القول يقول بأن (من) في الآية صلة أي زائدة وليس بشيء ، إذ لا زائد في القرآن ، ولا يوجد فيه حرف إلا وله معنى خاص أو عام.
واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الذي يخضع الكون بما فيه لهيبة جلاله هو «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» على غير مثال سابق كما أبدع الإنسان والحيوان والطير والجماد كذلك ، لأن الشيء إذا كان له مثال أو صورة وأنشئ على صورته أو مثله لا يسمى بديعا ولا فاعله مبدعا ، لأن المبدع الذي يعمل الشيء(5/79)
ج 5 ، ص : 80
أولا ، والذي يعمل بعده يسمى مقلدا ، والتقليد بشيء يحمد أو يمدح عليه ، لأن كل من له إلمام يقدر على عمل مثله.
ولا يوجد في القرآن نظير هذه الآية إلا الآية 100 من سورة الأنعام في ج 2 «وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 117» حالا دون كلفة أو بمعونة شيء آخر فتراه موجودا بين الكاف والنون ، كما أنك ترى الرمية تصيب الهدف بين سحب الزناد وصوتها ، هذا تقريب للفهم ، وإلا فهو غير ذلك «وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» من جهلة قريش المشركين «لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ» مشافهة فيخبرنا بأنك رسوله «أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ» على صدق ما تقوله لنا يا محمد لا تبعناك توا «كَذلِكَ» مثل هذا القول الباطل «قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم السابقة «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» هذا ، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز ، وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام اللّه ، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» هذا ، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز ، وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام اللّه ، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» في الضلال ، فوافق سؤالهم سؤالهم «قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ» الدالة على نبوتك وصدقك يا سيد الرسل بيانا شافيا كافيا «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 118» بها ، أما غير الموقنين فلو نزلنا عليهم ما طلبوه وأمثاله معه لم يؤمنوا ، وأنت يا خاتم الرسل ما عليك أن لا يؤمنوا «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً» للمصدقين الموقنين «وَنَذِيراً» للمكذبين الشاكين «وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ 119» الذين يموتون على كفرهم وتكذيبهم للّه ورسوله «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ» يا سيد الرسل «الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» التي هم عليها ، وليس فليس ، وإذا كان كذلك «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى » الموصل إلى المطلوب وهو الدين الحق دين الإسلام دين إبراهيم عليه السلام «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» يا حبيبي وركنت لسلوك طريقتهم طلبا لرضائهم «بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» بأنهم ليسوا على شيء من الدين ، وأنك على الحق المبين ، وهذا قسم من اللّه تعالى وجوابه قوله عزّ قوله «ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ 120» بدلالة اللام الموطئة للقسم في (وَلَئِنِ) وقد ذكرنا في الآية 65 من سورة الزمر في ج 2 وفيما قبلها أن أمثال هذا الخطاب يراد به أمته(5/80)
ج 5 ، ص : 81
عليه الصلاة والسلام ، لأنه محال عليه أن يميل إلى أهوائهم ، فراجعها ففيها ما يلذ السمع ويهج القلب.
قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» التوراة منهم «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ» دون تحريف أو تبديل في معانيه أو مبانيه ، وينقلونه للناس كذلك «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «يُؤْمِنُونَ بِهِ» حق إيمانه ويقودهم إيمانهم بكتابهم إلى الإيمان بك وبكتابك ، لأن من جملة ما يؤمنون به في كتابهم نبوتك وكتابك.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن منهم من يؤمن كعبد اللّه بن سلام وأصحابه ، أما المحرفون الجاحدون فهم المخصوصون بقوله تعالى «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ» فيسيء تلاوته ويغير كلمه وينقلونه على غير ما هو عليه بحسب أهوائهم ويغرون الناس بذلك «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 121» في الدارين ، أما الدنيا فقد خسروها وزال عنهم نعيمها بالموت مهما كان نعيمهم وطال أجلهم ، لأن مصيرها الفناء ، وأما الآخرة فلم يعملوا لها شيئا يؤهلهم لنيل نعيمها الدائم ، وذلك هو الخسران المبين.
قال تعالى «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 122» تقدم تفسيرها في نظيرتها الآيتين 40/ 47 المارتين وكررت تأكيدا وتذكيرا لنعمه المتكررة عليهم «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 123» وما في هذه الآية بالنسبة للآيتين المارتين مثلهما إلا نوع تفنن في التعبير من نظم العليم الخبير ، ولا يقال إن المعنى فيها واحد من حيث الاستفادة ، بل فيها زيادة التذكير في المحافظة على وصايا الإله القدير ولزوم التقوى في كل حال والتيقظ ليوم القيامة والخشية مما يقع فيه من الأهوال ، والتيقن بأن الإنسان لا ينفعه إلا عمله الحسن.
وأعلم أن مجيئها بعد الآية المتقدمة إيذان بتخويف المبدلين لكلام اللّه ، وترهيب من نزول العذاب فيهم لعلهم يرجعون عن باطلهم ، وأنى لهم أن يرجعوا وقد أعماهم حب الرياسة عن اتباع الحق ، وأوردتهم أنفتهم إلى الهوان :
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
ت (6)(5/81)
ج 5 ، ص : 82
مطلب فيما ابتلى به إبراهيم ربه والكلمات التي علمها له وبناء الكعبة وغيرها :
قال تعالى «وَ» اذكر يا أكمل الرسل لأمتك قصة أخرى «إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» اختبره فيها قبل نبوته ، وهي ما قصه اللّه تعالى في الآيات 76 فما بعدها من سورة الأنعام في ج 2 من أمر الكوكب والقمر والشمس وإصراره على عبادة اللّه وتوحيده حتى أدى به الحال إلى أن ألقوه في النار ، وبعد أن أنجاه اللّه منها على الصورة المبينة في الآية 50 فما بعدها من سورة الأنبياء في ج 2 أيضا هاجر إلى الشام وشرقي الأردن فالقدس ، ثم ابتلاه بذبح ابنه على الصورة المارة في الآية 100 فما بعدها من سورة الصافات في ج 2 أيضا وقيل إن الذي اختبره بها في مناسك الحج أو أوامره ونواهيه التي قام أو اختصر بها بإلهام من اللّه تعالى ، وقال ابن عباس هي ثلاثون شيئا سماهن شرائع الإسلام وهي عشرة في سورة براءة في قوله تعالى (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) الآية 14 الآتية منها ، وعشرة في سورة الأحزاب وهي (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية 36 الآتية أيضا ، مثلها وعشرة في الآية الأولى فما بعدها من سورة المؤمنين ، وعشرة في الآية 22 فما بعدها من سورة المعارج في ج 2 ، وفي رواية عشرة أشياء وهي من الفطرة خمسة في الرأس وخمسة في اليدين.
روى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عشرة من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحى والسواك والاستنشاق بالماء والمضمض وغسل البراجم (ما بين طبقات الأصابع) ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (الاستنجاء) وقص الأظفار ، فهذه كانت فرضا على إبراهيم عليه السلام وهي علينا سنة ، وقد أتى بها جميعها ، ولذلك مدحه اللّه تعالى بقوله (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى الآية 38 من سورة والنجم في ج 1 ، وهو أول من قص شاربه وأول من اختتن وأول من ضيّف الضيف ، وأول من رأى الشيب فقال يا رب ما هذا ؟ قال وقار قال ربّ زدني وقارا ، وسمي التكليف بلاء ، لأنه يشق على الأبدان فعله وقيل إن آية (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) في قضية ذبح ابنه لا في هذه الكلمات وهو عليه السلام قد وفى بها وبغيرها من كل ما أراد منه ربه ، تدبر قوله تعالى «فَأَتَمَّهُنَّ» قام بهن كلهن قياما كاملا ، ولهذا «قالَ» تعالى «إِنِّي جاعِلُكَ(5/82)
ج 5 ، ص : 83
لِلنَّاسِ إِماماً»
ليقتدوا بك بما تسنه لهم «قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» يا ربّ اجعل إماما للناس ليستنوا بسنتهم أيضا «قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124» من ذريتك وغيرهم ، أي لا يصل إليهم ولا يناط بهم ذلك ، ولا يكون منهم ، لأن الإمامة والنبوة لإرشاد الخلق ، ولا تكون إلا للصالحين منهم ، والظالمون ليسوا بأهل لنصح الناس «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً» مرجعا وملجأ ومأوى «لِلنَّاسِ وَأَمْناً» لهم من تعدي الغير «وَ» قلنا لهم «اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» موقفا يصلّى فيه وقد اتخذ من ذلك اليوم وحتى الآن وإلى الأبد إن شاء اللّه تدوم صلاة الناس فيه وهي مقابل باب الكعبة في الحرم الشريف وهو حجر كان يقف عليه عند بناء الكعبة وكان فيه أثر أصابعه فاندرس من كثرة لمس الناس له وفوقه قبة بديعة وكان له عليه السلام بمثابة السلم المتحرك إذا أراد ارتفع وإذا أراد انخفض معجزة له عليه السلام كما هو الحال في سفينة نوح عليه السلام حيث كان إذا أراد سيرها قال بسم اللّه ، وإذا أراد إيقافها قال بسم اللّه معجزة له ، راجع الآية 41 من سورة هود ج 2 ، «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ» عند ما أمرنا هما ببناء الكعبة «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ» حوله بعد إكماله «وَالْعاكِفِينَ» المقيمين فيه المجاورين له الدائبين على الطوف به «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ 125» فيه ، وفي هذه الآية دلالة على وجوب المحافظة على طهارة المساجد كلها لأن المعنى المراد من المسجد الحرام مراد في غيره من حيث إقامة الشعائر الدينية ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم إن البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها.
وهذا إذا كانت أرضه ترابا فقد يخرج البازق من إثمها بدفنها كفأفا ، أما إذا كانت أرضه مفروشه ، كما هي الحال في مساجدنا الآن ، فيتعين إزالتها بالمسح بمنديل ونحوه ، وإن لم يزل أثرها به فيتعين غسلها بالماء وإلا فلا يخرج من الإثم ، هذا إذا كان بزاقا خالصا ، أما إذا كان مشوبا بدم فيتعين على سبيل الفرض إزالته حتما لما فيه من التلويث بالنجس
الموجب لبطلان صلاة من يصلي عليه ولو بعد يبسه كيف وقد رغب الشارع في تنظيفها حتى قال : (إن إخراج القمامة منها مهور الحور العين) وقالوا إن ما يؤذي العين يؤذي المسجد وإن تعظيمها واجب(5/83)
ج 5 ، ص : 84
وامتهانها حرام لأنها محل ذكر اللّه ولا يصح الاعتكاف إلا بها وإن حضرة الرسول حينما خرج للجبانة وقيل له إن هذا قبر فلانة قال التي كانت تقم المسجد ؟ قالوا نعم فصف الناس وصلّى عليها وهي في قبرها ، وذلك مما يدل على زيادة احترام المساجد ومحترميها ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 37 من سورة النور الآتية ولبعض ما يتعلق فيه في الآية 26 من سورة الحج الآتية إن شاء اللّه «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا» البلد المحتوي على الكعبة «بَلَداً آمِناً» يأوي إليه الناس بسبب أمنهم فيه على مالهم وأنفسهم ، لأنه لا زرع ولا ضرع فيه ولا شجر ولا كسب ليرغب الناس بسكناه فإذا لم يوجد فيه أمن لا يقصد ولا يجلب إليه شيء لتعذر المقام فيه «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» على اختلاف أنواعها ، وقد أبدل من أهله «مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ليخص بدعوته المؤمنين منهم فقط تأدبا مع اللّه عز وجل لأنه لما سأله أن يجعل النبوة في ذريته على الإطلاق قال له تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فكان بمثابة النهي له عن تعميم الدعاء ولذلك لم يجب دعوته لأن النبوة لا تكون إلا لخواص عباده ، وهنا أجاب دعوته فيمن طلب ومن لم يطلب «قالَ وَمَنْ كَفَرَ» أرزقه أيضا لأنهم من جملة خلقي الذي تكفلت بإرزاقهم إذ لا يليق بي أن أخلق ولم أرزق ، لأن الرزق يستوي فيه المؤمن والكافر ولكن من أصر على كفره «فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا» في هذه الدنيا «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» ألجئه وأرجه كرها «إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 126» النار في الآخرة لإهلها.
قال تعالى «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» أسس بنائه التي يرتكز عليها ودعائمه التي يقوم عليها «وَإِسْماعِيلُ» معه يعاونه على بنائه ، فلما أكملاه قالا «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لدعائنا «الْعَلِيمُ 127» بنيتنا «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» فيما نستقبله من أعمارنا كما مننت علينا من قبل «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» مؤمنة بك يا ربنا ، منقادة لأوامرك.
وقد أدخلا في دعائهما (من) التبعيضية للحكمة المارة في الآية قبلها «وَأَرِنا مَناسِكَنا» شرائع ديننا واعلام حجنا لهذا البيت «وَتُبْ عَلَيْنا» عما هفا منا وزلت به ألسنتنا(5/84)
ج 5 ، ص : 85
وأقدامنا «إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع بالمغفرة على عبادك «الرَّحِيمُ 128» بهم ، ولا حجة في هذه الآية لمن جوز صدور الذنب من الأنبياء ، لأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه لا ينفك عن التقصير أحيانا بسهو أو غفلة أو بترك ما هو خلاف الأولى والأفضل ، ولهذا قالا (وَتُبْ عَلَيْنا) لا أنه من ذنب كذنوبنا ، بل هو على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقدبينا في سورة طه في الآية 121 ج 1 ما يتعلق في هذا البحث مفصلا فراجعه.
قال تعالى «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ» في تلك الأمة المسلمة والجماعة المؤمنة المخلصة في إيمانها «رَسُولًا مِنْهُمْ» الضمير يعود إلى قوله (أَهْلَهُ) في الآية المتقدمة ، وقد أجيبت دعوتهما ، إذ بعث اللّه من ذرية ابنه إسماعيل محمدا صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ» يبلغهم كلامك الذي توحيه إليه «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» يبين لهم معانيه وحقائقه ودلائل التوحيد والنبوة والأحكام ، وقد ذكر أولا التلاوة لأجل التلقي والدراسة والحفظ ليبقى مصونا عن التبديل والتحريف ، ثم ذكر التعليم الموقوف على أسراره ومراميه «وَالْحِكْمَةَ» الإصابة بالقول والعمل للوقوف على مغازيه ، إذ لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا اجتمع له الأمران لأنه إذا قال ولم يصب كان جاهلا ، وإذا عمل ولم يصب كان أحمق ، وإذا أخطأ فيهما كان أخرق ، راجع الآية 269 الآتية «وَيُزَكِّيهِمْ» من أدران الذنوب بما يتلوه عليهم ، ويعلمهم أحكام دينه وشرائع سنته مما وافق سنة وشرع من قبله أو خالفهما ، لأنهما الموافقان لعصره بإرادة اللّه تعالى وتشريعه لهم في الأزل ، «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الغالب القادر «الْحَكِيمُ 129» فيما تشرع لعبادك من الأوامر والنواهي الموافقة لحكمتك.
وقد أجاب اللّه دعاءهما هذا كله ، وأجمع المفسرون على أن المراد بهذا الرسول هو سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لأن هذا الدعاء وقع بمكة وإسماعيل عاش وتزوج ومات بمكة ، وزوجته من عرب جرهم الذين أقاموا فيها كما مرت الإشارة لهذا في الآية 33 من سورة العنكبوت في ج 2 ، ولم يبعث من ذرية إبراهيم في مكة نبي بعد إسماعيل إلا محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن العرباض بن سارية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إني عند اللّه مكتوب خاتم النبيين ، وإن آدم لجندل في طينته (مطروح(5/85)
ج 5 ، ص : 86
فيها على وجه الأرض صورة لم تجر فيها الروح) ، وسأخبركم بأول أمري انها دعوة ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور بصرى الشام قال تعالى «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» أعملها ولم يفكر في مصيرها وجهل ماهيّتها ولم يتدبر ما هي فأهلكها وخسرها وصدر هذه الآية يفيد التعجب أي كيف يرغب عنها ولاملّة تضاهيها ، وهي مما يرغب فيها ويركن إليها لأن صاحبها خليل اللّه وخيرته من خلقه لقوله تعالى «وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا» على جميع أهلها الموجودين في زمنه وشرفناه بالرسالة لإرشادهم «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 130» وفي هذه الآية تعريض لكل من يرغب عن الإيمان بمحمد ، لأنه من ولد إبراهيم الذي تعظمه الشرائع والأمم أجمع ، فالذي لا يرغب بدينه فقد رغب عن ملة إبراهيم التي جهّل اللّه تعالى كل من يصد عنها ، وجعله سفيلا لا يعرف كرامة نفسه ، ذليلا حقيرا سائرا في هوانه ، وترغيب لمن يدخل في دينه الذي اصطفاه اللّه على سائر الأديان وجاءت هذه الآية ايضا بسياق ذكره عليه السلام في هذه الآيات دالّة على أن المقصود هو لا غير ، وما قاله بعض المفسرين من أنها نزلت في عبد اللّه بن سلام حين دعا ولدي أخيه مهاجرا وسلمة إلى الإسلام ، وعرفهما ما جاء في حق محمد في التوراة (من أن اللّه تعالى يقول إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه احمد من آمن به فقد اهتدى ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون) فآمن سلمة وأبى مهاجر ، لا يصح لأن عبد اللّه نفسه لم يسلم بعد حتى يكلف ولدي أخيه ، وهذه وقعت منه ولكن بعد إسلامه ، راجع الآية 10 من سورة الأحقاف ج 2.
وبعد نزول هذه الآية ، ولا علاقة لهذه الآية فيهم كما سيأتي في الآية 47 من النساء الآتية
«إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ» أثبت على إسلامك الذي نشأت عليه وذلك أن الأنبياء كلهم ولدوا مسلمين ، وهذا كان في حال صغره حين خروجه من السرب واجتماعه بقومه واستدلاله عليهم بالكواكب ، كما مرّ في الآية 75 فما بعدها من سورة الأنعام ج 2 «قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ 131» وحده لا للكواكب والأصنام ، إذ تبين لي أن الخالق لهم ولكل شيء هو اللّه الذي لا رب غيره وهو رب الكون أجمع.(5/86)
ج 5 ، ص : 87
مطلب وصية يعقوب وبقية قصة إسماعيل عليهما السلام :
قال تعالى «وَوَصَّى بِها» بكلمة الإسلام هذه التي أمره بها ربه «إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» أيضا وصّى بها بنيه ، والوصية آكد من الأمر لأنها تكون عند الخوف من الموت فيحتاط بها الإنسان إلى ما هو أحوج ، وقال كل منهما في وصيته لمن بعده «يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ» الحق الذي هو عبادته وحده والاعتراف والعمل بما أمر به والاجتناب عما نهى عنه فتمسكوا به وأمروا به غيركم «فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132» للّه مخلصون له مصدقون بما آتاكم ، واحذروا كل الحذر من المخالفة والتقصير بنصح الخلق فإنكم مسؤولون عنهم كما أنكم مسؤولون عن أنفسكم ، ولما قال اليهود لحضرة الرسول إن يعقوب أوصى عند موته باليهودية فكذبهم اللّه تعالى بقوله «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ» حتى تقولوا أوصى بذلك كلا لم تكونوا ولم يوص ، ثم بيّن لهم لفظ وصيته بقوله «إِذْ قالَ لِبَنِيهِ» الإثني عشر لما ذكرهم في الآية 7 من سورة يوسف فى ج 2 عند وفاته على طريق الاستفهام والاستخبار «ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي» إذا أنا مت قبلكم «قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 133» الآن وبعد وحتى نلقاه مخلصون له وحده ، ثم توفي عليه السلام بعد أن أخذ عليهم هذا العهد بإقرارهم فمن أين تقولون أنه أوصى باليهودية يا أعداء اللّه وهو قد توفي على هذه الوصية ، ولم تكن إذ ذاك يهودية ، إذ كانت على عهد موسى ، راجع الآية 156 من الأعراف في ج 1 فأعرض عنهم يا سيد الرسل وقل لهم «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ» من الخير في أقوالها وأفعالها ، ونواياها «وَلَكُمْ» معشر أهل الكتاب «ما كَسَبْتُمْ» من العمل والقول والنية أيضا «وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 134» كما نحن لم نسأل
عن عملهم لأن كلا يسأل عن عمله فقط ، وقدمنا في الآية 26 من سورة العنكبوت في ج 2 مبدأ هجرة إبراهيم وإسكان ابنه إسماعيل في مكة شرفها اللّه ، ونذكر الآن منها من آخر ما ذكرناه هناك كما وعدنا.
قال فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل عليه السلام ليطالع تركته فلم(5/87)
ج 5 ، ص : 88
يجده ، فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا ، وفي رواية ذهب ليصيد لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئنهم ، فقالت نحن بشرّ ، نحن في ضيق وشدّة ، وشكت إليه ، فقال إذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام ، وقولي له يغير عتبة بابه ، وذهب ، فلمّا جاء إسماعيل ألقي فى روعه أن يسأل أهله كأنه آنس شيئا ، فقال جاءكم أحد ؟
قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألني عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة ، فقال هل أوصاك بشيء ؟ قالت نعم ، أمرني أن أقرئك السلام وأنه يقول لك غير عتبة بابك ، قال ذلك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك ، فطلقها وتزوج منهم أخرى وكان الطلاق عندهم متعارفا ، إلا أنه لم يحدد كما هو الآن ، وسنأتي على ذكره في الآية 222 الآتية إن شاء اللّه ، فلبث ما شاء اللّه أن يلبث ثمّ أتاهم فلم يجده ، فدخل على امرأته ، فسأل عنه فقالت خرج يبتغي لنا ، قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على اللّه بما هو أهله ، فقال وما طعامكم ؟ قالت اللحم ، قال وما شرابكم ؟ قالت الماء ، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء ، قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب ، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه ، قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ، وفي رواية فجاء فقال أين إسماعيل ، فقالت امرأته قد ذهب يصيد ألا تنزل عندنا فتطعم وتشرب ؟ قال ما طعامكم وشرابكم ؟
قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء ، قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم (قالوا فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم) قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل قال أتاكم من أحد ؟ قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير ، قال فأوصاك بشيء ؟ قالت نعم ، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك ، فقال ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك ، ثم لبث عنهم ما شاء اللّه ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت درجته قريبا من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بولده والولد بالوالد (من المصافحة والتقبيل).(5/88)
ج 5 ، ص : 89
مطلب بناء البيت وحدوده من جهاته وتحريمه واحترام ما فيه وبدء بنائه :
ثم قال يا إسماعيل إن اللّه أمرني بأمر ، قال فأسمع ما أمرك به ربك ، قال وتعينني ؟ قال وأعينك ، قال فإن اللّه أمرني أن أبني بيتا هاهنا ، وأشار إلى أكمة مرتفعة أي على ما حولها ، فتحزبا على ذلك بكل حزم وعزم ، وحضرا الأساس وطمخاه ، وباشرا برفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له ، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله وهما يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وقيل إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم انزل اغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ، ثم حولته إلى شقه الأيسر ، فغسلت شق رأسه الأيسر ، فبقي أثر قدميه عليه.
وأخرج الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول :
إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس اللّه نورهما ، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب.
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال : قال عمر وافقت ربي في ثلاث ، قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) الحديث.
ورويا عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة ، وانه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمته تعالى إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلي خلاه ، فقال العباس يا رسول اللّه إلا الأذفر فإنه لقينهم وبيوتهم ، فقال إلا الأذفر.
ومن حرمة هذا البيت أنه لم يأته جبار يقصد خرابه إلا قصمه اللّه مثل صاحب القيل ومن قبله ، أما الحجاج فإنه لم يأت بقصد خرابه بل لخلع ابن الزبير ، ولم يتمكن من ذلك إلا برمي البيت بالمنجنيق ، ولما حصل قصده(5/89)
ج 5 ، ص : 90
أعاد بناءه وشيده وعظم حرمته وأحسن إلى أهله.
ومكة هذه محرمة قبل إبراهيم عليه السلام بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض.
وقوله تعالى (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله قبل إبراهيم عليه السلام ، وكان اللّه تعالى ولم يزل يمنعها ممن أرادها بسوء ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات حتى بوأها إبراهيم وأسكن بها أهله ، وسأل ربه ما سأل من إظهار تحريمها لعباده وفرض على الخلق ذلك.
وحدود الحرم فيها من جهة طيبة طيب اللّه ثرى ساكنها ثلاثة أميال ، ومن جهة الطائف سبعة أميال ، ومن العراق عشرة ، ومن جدة تسعة من قبل الجعرانة ، وسبعة من اليمن ، وسيأتي ما يتلعق بالحرم وما على المحرم إذا دخله في الآية 26 من سورة الحج الآتية وما على غير المحرم أيضا ، وتفصيله على ما ينبغى في كتب الفقه فليرجع إليها من أراد الاستقصاء في ذلك.
ومبدأ قصة بنائه على ما قالوا هو أن اللّه تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام ، فكانت زبدة بيضاء وعلى وجه الماء ، فدحيت الأرض من تحتها ، فلما أهبط اللّه آدم عليه السلام استوحش فشكا إلى اللّه تعالى فأنزل البيت المعمور ، وهو من ياقوتة من بواقيت الجنة له بابان من زبرجد ، ويقال زمرد أخضر ، باب شرقي وباب غربي ، فوضعه على موضع البيت ، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش ، ويصلّى عنده كما يصلّى عند عرشي ، وأنزل اللّه عليه الحجر الأسود وكان أبيض واسود من مس الحيّض في الجاهلية ، فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة ، وأرسل اللّه إليه ملكا يدله على البيت ، فحج آدم البيت وأقام المناسك ، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له يرحمك اللّه يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
وقيل إن آدم عليه السلام هو الذي بناه على طراز البيت المعمور ، وقد نظم الشيخ أحمد الكمسخاني أسماء من بنى الكعبة بقوله :
بنى الكعبة الغراء عشر ذكرتهم ورتبتهم حسب الذي أخبر الثقة
ملائكة الرحمن ثم آدم وابنه كذاك خليل اللّه ثم العمالقة(5/90)
ج 5 ، ص : 91
وجرهم يتلو قصي قريشهم كذا ابن زبير ثم حجاج لاحقه
وخاتمهم من آل عثمان بدرهم مراد المعالي أسعد اللّه شارقه
وقال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أيام الطوفان ، فرفعه اللّه إلى السماء الرابعة.
وهذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه.
وبعث اللّه جبريل عليه السلام حتى خبّأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق ، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام فبناه على الصورة المار ذكرها.
وقيل إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول ، وذلك قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) الآية 27 من سورة الحج الآتية.
قال ابن عباس بناه من خمسة أجبل : من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودي ، وقواعده من حراء ، فلما بلغ موضع الحجر أراد حجرة تكون علما فيه فصاح جبل أبي قبيس إن لك عندي وديعة يا إبراهيم ، وقذف بالحجر الأسود فوضعه بمكانه الآن.
وسيبقى إن شاء اللّه معظما محترما يتبرك به الناس إلى اليوم الذي قدره اللّه لخراب الكون ، لما ورد أنه يسلط عليه قوما من الحبشة ينقضونه حجرا حجرا ويطرحونه في البحر ، وهذا أيضا من جملة حرمته حتى لا تمسه أيدي الكفرة النجسة.
هذا ، ويوجد سبع عشرة آية في القرآن مبدوءة بلفظ (تِلْكَ) أي بمثل هذه الآية قال تعالى «وَقالُوا» اليهود والنصارى يا أيها الناس «كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى » أي قالت اليهود كونوا أيها الناس يهودا ، وقالت النصارى كونوا أيها الناس نصارى «تَهْتَدُوا» لأن كلا منهم يزعم أن دينه الحق وما سواه باطل ولم يعلموا أن دين اليهود عدل بما أنزل على النصارى ودين النصارى أبطل بما أنزل على المسلمين ، ولم يبق على وجه الأرض دين حق إلا دين الإسلام ، كما كان الحال في زمن إبراهيم ، لهذا يقول اللّه لنبيه «قُلْ» لا تكونوا أيها الناس هودا ولا نصارى «بَلْ» تعالوا كلنا نتبع «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» المرضية عند كل الأمم التي جددها حفيده محمد عليه الصلاة والسلام وإن إبراهيم كان «حَنِيفاً» مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا كما يزعم اليهود والنصارى «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 135» كما(5/91)
ج 5 ، ص : 92
يزعم بعض كفرة العرب ، وهذا هو الذي يرتضيه اللّه تعالى لا غيره ، ومعنى حنيفا مائلا عن كل الأديان إلى دين الإسلام وعليه قوله :
ولكنا خلقنا إذ خلقنا حنيفا ديننا عن كل دين
مطلب كيفية الإيمان والإسلام والمعمودية ومن سنها وتحويل القبلة وأن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة ومنها شهادة خزيمة :
قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين «قُولُوا آمَنَّا» كلنا أنا وأنتم ومن على وجه الأرض «بِاللَّهِ» وحده «وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا» من القرآن «وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ» من الصحف «وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» الإثني عشر من الأحكام «وَما أُوتِيَ مُوسى » من التوراة «وَعِيسى » من الإنجيل «وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ» قبلهم من الوصايا «مِنْ رَبِّهِمْ» كزبور داود عليه السلام لأنهم كلهم على هدى منه يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه ، وقولوا أيضا «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» كاليهود والنصارى وغيرهم بل نؤمن بهم كلهم ونصدق بما جاءوا به كله «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136» له بالعبودية مذعنون مخبتون خاضعون له بالعبادة «فَإِنْ آمَنُوا» هؤلاء المخاطبون «بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ» يا محمد أي بجميع الرسل والكتب «فَقَدِ اهْتَدَوْا» إلى الدين الحق مثلكم «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عن هذا الإيمان وأعرضوا عنه أو عن شيء منه «فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» خلاف عظيم وجدال كبير عداء بكم ، وعنادا لكم ، وحسدا بما أوتيتم ، ومحاربة للّه ورسوله ، ونزاعا مع المؤمنين ، وإذا تولوا ورضوا بما عندهم ولم يصغوا لإرشادكم ، فاتركهم «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» بالقهر والغلبة عليهم والعزة والظفر لكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لما تريدونه منهم من الخير «الْعَلِيمُ 137» بمن يقبله منكم أو يرده عليكم.
وهذه الآية ضمان من اللّه تعالى لرسوله بالنصر ، وإظهار لكلمته عليهم ، وهي من الإخبار بالغيب لتحققه بعد نزول هذه الآية بثلاث سنين ، إذ غزا بني النضير بالسنة الرابعة من الهجرة.
ونزول هذه السورة كان في السنة الأولى منها ، وأجلاهم عن بلادهم ، ثم غزا بني قريظة وسباهم وضرب(5/92)
ج 5 ، ص : 93
الجزية عليهم.
واعلم أيها القارئ أن الإيمان على الوجه المذكور الجامع هو «صِبْغَةَ اللَّهِ» يظهره ويلبسه من يشاء من عباده فيعرف به كما يظهر أثر الصبغ على الثياب لأنه يتداخل في قلوبهم ويتغلغل فيها فيسطع نوره على وجوههم ، قال تعالى (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) الآية الأخيرة من سورة الفتح الآتية ، وتلك السيما (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) لعظمة اللّه تعالى نصبغته هي الصبغة المثلى ، وقد جاء في الحديث الصحيح إن الإيمان نور يقذفه اللّه تعالى في القلب فيظهر على الوجه «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» لا أحد البتة «وَنَحْنُ لَهُ» لذاته المقدسة وحضرته الكريمة مع الإيمان والإسلام على الصفة المارة الذكر «عابِدُونَ 138» طائعون مخلصون.
وجاء الإيمان المحقق في صاحبه بلفظ الصبغة للمشاكلة ، لأن النصارى كانوا ولا يزالون يعمدون أولادهم أي يغسلونهم بماء يسمونه ماء المعمودية يضعون فيه شيئا من الصفرة يزعمون أن عيسى عليه السلام تعمد بمثله ، أو مطلق ماء يقدسونه بما يتلون عليه من آي الإنجيل الشريف ، وقد يأمرون الحامل فتغتسل فيه ويعتقدون أنه طهرة المولود كالختان ، ولا يغتسلون من الجنابة بعد ذلك ولا يختتنون أيضا ، لزعمهم أن الاغتسال بماء المعمودية كافيهم عنها والحال أن الأمر ليس كذلك ، فإن المعمودية أول من سنتها سيدنا يحيى عليه السلام ، ولذلك يسمونه في كتبهم يوحنا المعمدان الذي ألمعنا لذكره في الآية 7 من سورة الإسراء والآية 7 من سورة مريم المارتين في ج 1 ، وهي عبارة عن أنه عليه السلام كان يدعو الناس إلى توحيد اللّه ، وكلما دخل أحد في دينه أمره بالغسل ويأمره أن يأمر أهله وأولاده به ، وهو الذي عمّد عيسى عليهما السلام لأنه قام بالدعوة إلى اللّه قبله وهو أكبر منه بستة أشهر ، وابن خالته ، وهذا الغسل هو سنة من سنن الإسلام ، لأن كل من يدخل فيه ينبغي له أن يغتسل إشعارا بطهارته عما كان عليه من الرجس ، لأن الإسلام يجب ما قبله من الذنوب مهما كانت ، فإذا دخل فيه كان كيوم ولدته أمه ، فهذا هو معنى المعمودية لا غير ، وليس الذنب على المعمّدين بفتح الميم بل على المعمّدين بكسرها الذين يبينون لهم الأمر على خلاف ما هو عليه في الأصل ، قال :
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر(5/93)
ج 5 ، ص : 94
قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يريدون أن يهوّدوا الناس أو ينصروهم زاعمين أن ما هم عليه من الدين بعد بعثتك هو الحق «أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ» وتجادلوننا فيه وتخاصموننا من أجله «وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» فنحن وأنتم فيه سواء ، لأننا كلنا مربوبون له «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» لا أحد يستفيد من الآخر شيئا ، ولا يثاب على عمله ، ولا يعاقب ، بل كل مسؤول عما يفعل ، فله ثوابه وعليه عقابه «وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ 139» بالقول والعمل إسلاما وإيمانا ، وقد نسبتم إليه يا أهل الكتاب الولد ، وأنتم أيها المشركون عبدتم غيره ، ومنكم من جعل الملائكة بناته ، تعالى عن ذلك وتقدس ، وقد علمتم أن الدين المرضي هو الذي يأمركم به أنبياؤكم قبلا ، الذي منه متابعة محمد عند بعثته.
نزلت هذه الآية عند ما قال أهل الكتاب لحضرة الرسول إن ديننا أقدم من دينكم والأنبياء كلهم منا ونحن أولى باللّه منكم ، قال تعالى «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى » في زعمكم كلا لم يكونوا كذلك ، وزعمكم هذا باطل لا يستند إلى كتاب أو كلام رسول ، فإن لم يذعنوا لقولك «قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ» أعلم بما كانوا يدينون به كيف وقد أخبر بأنهم كانوا مسلمين ، فلما قال لهم ذلك وعلموا أنه الحق لما عرفوه من كتابيهم سكتوا وخرسوا ، «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ» وذلك أنهم يعلمون مما في كتبهم أن إبراهيم وولده كانوا مسلمين ، وأن محمدا من ذريته ، وأنهم وإن عملوا ما عملوا من الكتم والإخفاء ، فإنه لا يؤثر في الحقيقة الواقعة ، «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 140» إن أنتم أغفلتم هذا وكتمتموه ، فاللّه تعالى مطلع رقيب ناظر على جميع أعمالنا وأعمالكم ، وهي محصية عنده وسيجازينا عليها الخير بأحسن منه والشر بمثله.
قال تعالى «تِلْكَ أُمَّةٌ» أمة إبراهيم وولده «قَدْ خَلَتْ» ومضت وقد أحصي عملها «لَها ما كَسَبَتْ» من الثواب «وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ» من العقاب «وَلا تُسْئَلُونَ» أنتم «عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 141» تقدم مثلها حرفيا وكررت لاختلاف مواطن المجادلة التي يحسن فيها التكرار للتذكير والتأكيد.(5/94)
ج 5 ، ص : 95
قال تعالى «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ» الجهلة خفيفو العقول قليلو الروية «مِنَ النَّاسِ» بعد نزول آية تحويل القبلة «ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها» عند مجيئهم إلى المدينة ، وأي شيء صرفهم عنها وهي قبلة جميع الأنبياء ؟
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المعترضين «لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ» وما بينهما فما كان منها قبلة كان بجعل اللّه تعالى ، وهو الذي «يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 142» ومن هذه الهداية التوجه إلى الكعبة بعد البيت المقدس لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام.
وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة ، فأنزل اللّه تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) إلى آخر الآيات.
وفي رواية أبي اسحق وعبد بن حميد وأبي حاتم عنه بزيادة ، فأنزل اللّه تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) إلخ الآيات ، وهذا أليق بالمقام ، وفيه ردّ لقول القائل إن قوله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن قوله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) إلخ ، على أنه لا مانع من القول بنزولها قبلها لأنها جاءت بلفظ الاستقبال ، فهي من قبيل الإخبار بالشيء قبل وقوعه كسائر المغيبات التي أخبر اللّه تعالى بها رسوله قبل نزولها ، وإنما غاظ اليهود تحويل القبلة وأزعجهم جدا لأنهم يرون ذلك قصدا لمخالفتهم ، حتى أنهم عمدوا إلى تخريب مسجد الرسول وحرضوا بعض الناس على تخريب الكعبة الشريفة ، كما ألمعنا إليه في الآية 114 المارة ، إذ كان نزولها وقت الأمر بتحويل الكعبة ، وقد أخبر اللّه تعالى في هذه الآية عما صاروا يقولونه بينهم من أجل ذلك ، وقد ذكرنا بعض هذا في الآية 115 المارة ، لأن حضرة الرسول منذ دخل المدينة كان يحب التوجه إلى الكعبة ، ولكنه لم يستبد بشيء يريده ، إلا أن يقترن بأمر اللّه وإرادته ، وكان في استقباله لبيت المقدس قرب لاستمالة اليهود إلى الإيمان به وتصديقه ، لأن وصفه مذكور في كتابهم وعضّده التوجه لقبلتهم ، ولكنه لم يزدهم ذلك إلا إنكارا وتعنّتا وحسدا وعنادا ، فلما أمره اللّه بالتوجه للكعبة صاروا يتقولون بما تسوّله لهم أنفسهم الخبيثة من أن محمدا ما ترك(5/95)
ج 5 ، ص : 96
قبلتهم إلا حسدا لعلمه أنهم على الحق وأن دينهم أعدل الأديان.
قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما جعلنا شريعتكم وسطا بين شريعة موسى وعيسى ، لأن الأولى في غاية من الشدة والثانية في نهاية اليسر ، فكانت بين الصعوبة والسهولة جعلنا قبلتكم وسطا بين المشرق والمغرب أي بين قبلتي اليهود والنصارى ، لهذا «جَعَلْناكُمْ» يا أمة محمد «أُمَّةً وَسَطاً» لأنكم خير الأمم.
وجاء في الخبر : خير الأمور أوساطها.
قال زهير :
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وإنما جعلناكم أمة وسطا يا أمة محمد «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» يوم القيامة في المشهد العظيم بأن الرسل بلغوا أممهم ما أرسلهم اللّه به «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» بأنكم آمنتم به وصدقتموه.
ونظير هذه الآية الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية.
قال بعض المفسرين شهيدا بمعنى رضيّا ، إذ لو كان القصد الشهادة لقال لكم ، لأن الشهادة لهم لا عليهم والشهادة للنفع تتعدى بإلى وبالضر بعلى ، وهو وجيه من حيث اللغة ، ولكن الأول أولى لمناسبة المقام ، فإن الرسل تشهد على أممها بالخير والشر لا بالخير فقط ليحسن القول بذلك فضلا عن أن حروف الجر تخلف بعضها ، تدبر.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له هل بلغت ؟
فيقول نعم أي وربي ، فيسأل أمته هل بلّغكم ؟ فيقولون ما جاءنا من نذير ، فيقال لنوح من يشهد لك ؟ فيقول محمد وأمته ، فيجاء بكم فتشهدون ، ثم قرأ الآية ، زاد الترمذي وسطا عدولا.
واعلم أن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الوقف والموت وغيرهما مما هو مبين في كتب الفقه ، ولما كانت هذه الأمة سمعت من رسولها الصادق ما قصه عليها من أخبار الأمم وهو حقّ لا مرية فيه جاز لهم أن يشهدوا على الأمم بالتبليغ من قبل رسلهم ، وهذا أقوى من المشاهدة لأن البصر قد يخطىء ، وحضرة الرسول لا يخطىء وهو منزه عن الخطأ بالتبليغ ، ومن هذا شهادة خزيمة رضي اللّه عنه التي عدها الرسول بشهادتين ، لأنه كان جازما أن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لا يقول إلا الحق ، فشهد على ما أخبره به وسمي ذا الشهادتين.(5/96)
ج 5 ، ص : 97
«وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها» وهي صخرة بيت المقدس متروكة وأمرناك باستقبال الكعبة «إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ» اتباعا جازما سالما من الشك والشبهة ، فيراه الناس ويميزونه عن الغير ، وإلا فهو عالم بذلك قبل وقوعه مما هو موافق لما عنده في الأزل لا عبثا ولا لعبا ، أي ليعلمه الناس كما هو معلوم لدينا «مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» ويظهر مخالفته لنا ولك علنا ويجاهر بمخالفتك «وَإِنْ كانَتْ» تولية القبلة «لَكَبِيرَةً» ثقيلة شاقة على الناس ، لأن كل شيء خالف المألوف تستصعبه النفوس «إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» فإنهم لا يرون فيها كافة بل يرونها يسرة سهلة لما فيها من اتباع رسولهم وأمر ربهم ، فيتلقون كل ما كان كذلك بطيب نفس ورغادة بال ورغبة واشتياق وسرور.
وهذه الجملة نظير الجملة المارة في الآية 45 بشأن الأوامر المارة فيها لقوله فيها (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) ولما قال حبي بن أخطب وأصحابه من اليهود إلى المؤمنين إن كانت صلاتكم إلى بيت المقدس هدى فقد تحولنم عنها وإن كانت ضلالة فكيف بمن مات منكم عليها ، فأنزل اللّه «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» صلاتكم باستقبالكم القبلة السابقة لأنكم إنما استقبلتموها بأمر اللّه طاعة له ولرسوله ، فإن صلاتكم إليها مقبولة مأجور عليها ، كما أن استقبالكم البيت الحرام بأمر اللّه طاعة له ولرسوله مقبولة ومأجور عليها ، وإنما سميت الصلاة إيمانا لاشتمالها عليه «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ 143» كثير الرحمة والرأفة بهم ، لا يضيع عملا عملوه بأمره وإرادته ، ولا يهدر ثوابه ، كما أن من كان يتعبد على شريعة موسى ، ولما بعث عيسى تبعه ، ومن كان يتعبد على شريعة موسى وعيسى وعند بعثة محمد تبعه فتعبد على شريعته ، فهو مأجور بكل منهما يثاب على الأخيرة كما يثاب على الأولى ، فكل ما كان الإقدام عليه بأمر اللّه تعالى والانصراف عنه بأمره مثاب عليه ، لأن القصد الامتثال.
واعلم أن الفرق بين الرأفة والرحمة هو أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة ، ولذلك حسن ورودها هنا ، لأن الكلام فيمن مات وهو يستقبل في صلاته بيت المقدس ، والرحمة اسم جامع لذلك المعنى وغيره في جميع الأقوال والأفعال من الإنسان والأنعام وغيرها.
ثم بين جل شأنه العلة(5/97)
ج 5 ، ص : 98
في إنزال الأمر بتحويل القبلة كما هو ثابت في سابق علمه ، فقال «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» تحبّها يا سيد الرسل وتميل إليها لأنها قبلة أبيك إبراهيم ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يتشوق إليها ويقول لجبريل وددت لو أن اللّه حولني إلى الكعبة ، فيرد عليه بأني عبد مثلك وأنت كريم على ربك ، فاسأله ذلك ، ولكنه لا يسأله تأدبا ، لأن علمه بما في قلبه كاف عن سؤاله ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يتأذى من قول اليهود أن محمدا يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ، وهذه الجملة حكاية حال حضرة الرسول قبل تحويل القبلة ، إذ كان يود بقلبه ويرمق بطرفه إلى السماء رجاء نزول الوحي إليه بذلك ، وقد كان في مكة يستقبلها ، ولهذا خاطبه ربه بقوله «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» جهته في مكة المكرمة «وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ» أيها المؤمنون «فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» نحوه وتجاهه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» من هؤلاء الذين يعترضون وينتقدون «لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» التوجه إلى الكعبة هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» لما هو مدون في كتبهم من أنه صلّى اللّه عليه وسلم يصلي إلى القبلتين ، ولعلهم أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم عليه
السلام ، ثم هددهم بقوله «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 144» من إنكاركم فيما يتعلق بأمر القبلة ومعارضتكم إلى محمد وأصحابه فيما هو حق ثابت عندكم ، وانه لا بد مجازيكم على عنادكم وتعنتكم.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يسقبل القبلة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
وأخرج الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة ، ثم قالت اليهود يا محمد ما هذا إلا شيء ابتدعته من نفسك ، فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ، فلو ثبت على قبلتك لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي تنتظره ، فأنزل اللّه «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ» كعبة البيت الحرام ولا طريقتك التي أنت عليها «وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ» مهما قالوا لك ومنّوك به من اتباع وسلوك طريقتك ، لأنهم يكذبون(5/98)
ج 5 ، ص : 99
في قولهم كله سواء باتباعك القبلة وغيره ، لأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق ، فضلا عن الكلام «وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ» فلا اليهود تتبع النصارى في قبلتهم ، ولا النصارى تتبع اليهود في قبلتهم أبدا ، كما أن كلا منهم لا يتبع قبلتك هذه ما داموا على يهوديتهم ونصرانيتهم «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» الفاسدة ، وهذا على طريق الإرهاب والتهيج ليزداد تثبيتا في حقه وتحذير للسامعين من متابعة الهوى كما أشرنا إليه أواخر سورة القصص فى ج 1 والآية 64 من سورة الزمر ج 2 ، «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» في بطلان أهرئهم «إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ 145» وهذا محال عليه صلّى اللّه عليه وسلم ، لأنه مقطوع له بأنه لا يتبع أهواءهم وهو معصوم من كل مخالفة ، ولكن هذا مراد به غيره على حد (إياك أعني واسمعي يا جاره) كما أشرنا إليه في الآيات من القصص والزمر وغيرها.
قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» تقدم تفسيرها في الآية 20 من سورة الأنعام ج 2 ، وأوردنا عليه ما قاله عمر ابن الخطاب إلى عبد اللّه بن سلام وما رد عليه فراجعه ، وأشرنا إلى عبد اللّه هذا في الآية 10 من سورة الأحقاف ج 2 أيضا ، «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 146» أنه حق لا جهلا بل عنادا وحسدا.
واعلم يا محمد أن الذي أنت عليه وأصحابك هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» فاثبت عليه وامر من اتبعك بالثبات عليه ، فإنه هو الثابت عند اللّه «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 147» فيه أبدا وهذه أيضا من قبيل تلك الآيات لأنه لا يمتري ولا يشك في شيء جاء من ربه.
قال تعالىَ لِكُلٍّ»
من عباده ومخلوقاتهِ جْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها»
لهم وموجههم إليهاَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ»
أيها المؤمنون وبادروا بفعلها.
واعلموا أنكمَ يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً»
أنتم وأهل الكتاب والمشركون والمجوس والصابئون مؤمنكم وكافركمِ نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 148»
لا يصعب عليه شيء وأهون عليه جمع ما تفتت من أجزائكم واضمحل من أسلافكم في البرّ والبحر أو الهواء.
وفي هذه حث على التسابق لأعمال الخير والأولوية والأفضلية في الطاعات ، وتحذير لمنكري البعث والمعترضين على أعمال اللّه(5/99)
ج 5 ، ص : 100
تعالى القائل «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ» التوجه إليه «لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 149» كرر هذه الجملة تأكيدا للتهديد وتشديدا للتحذير ليكفوا عما يقولون في شأن القبلة وغيرها مما أنزله على محمد صلّى اللّه عليه وسلم «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» سواء كنتم في بر أو بحر بعيدا أو قريبا.
واعلم أن قائدة هذا التكرار هو أن الحادثة جاءت على خلاف ما يعهده اهل الكتاب في الرسول بعد مجيئه إلى المدينة وهو أول أمر وقع في تبديل القبلة لئلا يخطر بمال أحد أن الأمر بالتوجه هو لأهل المدينة خاصة أو لأهل مكة خاصة فاحتاج الأمر للتأكيد بالتكرار تقريرا له وإيضاحا لبيانه وإزالة لكل شبهة فيه وردا لاعتراض كل معترض وهو في الواقع رجوع إلى ما كان يستقبله حضرة الرسول من بداية أمره إلى وصوله إلى المدينة ، لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام ، وأن قريشا مع كفرهم وإشراكهم يستقبلونها عند ما يدعون اللّه ويتضرعون له في النوازل ، وكان استقباله بيت المقدس عند وصوله المدينة بأمر اللّه تعالى اتباعا لأمره الأزلي في لوحه المحفوظ بأن نبي آخر الزمان يستقبل إليه بعد استقباله الكعبة ثم يعود إليها ليكون أقرب إلى تصديق اليهود وأجلب لميلهم ، كما أشرنا إليه آنفا.
واعلم أن هذا التحويل لا يسمى نسخا بالمعنى المراد بالنسخ ، إذ لا يوجد في القرآن ما يدل على أن النبي وأصحابه كلفوا أن يستقبلوا الكعبة.
والنسخ الذي يريدونه هو رفع حكم ثابت في القرآن مقدم بنص لا حق ضده متأخر عنه ، ولا يوجد في القرآن نص مقدم باستقبال الكعبة فلا معنى إدا للقول بالنسخ ولا قيمة لقول من قال إن تغير القبلة أول واقعة ظهر النسخ فيها في شرعنا ، تأمل «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ» يحتجون بها بأن هذا مخالف لما في التوراة على ما يزعمه اليهود ، لأنك صليت إلى قبلتهم ، ولئلا تحتج قريش بأنك كيف تدعي دين إبراهيم وتصلي إلى غير قبلته ، أما ما تقوله قريش بأن محمدا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا لما علم أنها الحق ، لأنها قبلة أبيه إسماعيل عليه السلام ، فذلك قولهم بأفواههم ، ولا يقوله إلا ذو العناد منهم.(5/100)
ج 5 ، ص : 101
وقد أطلق على قول المعاندين الجاهلين لفظ حجة لأنهم يسوقونها مساق الحجة اشتقاقا من حجه إذا غلبه ، ولا يعلمون أن الحجة كما تكون صحيحة تكون فاسدة ، وقد تسمى حجة وهي باطلة.
«إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» استثناء متصل ، أي لا حجة لأحد عليكم في استقبال الكعبة إلا حجة المتوغلين في اليهودية لكونها مخالفة لما في التوراة مع أنها موافقة لها وهم يكتمون ما فيها من الحق ، وقد نص فيها على تحويل القبلة كما نص فيها على صفات الرسول.
وحجة قريش من الرجوع إلى قبلتهم واهية لأنها قبلة حضرة الرسول بطريق الإرث لا قبلتهم ، فظهر أن كلا منهم مبطل في دعواه ويحاول بالباطل ظلما وعدوانا «فَلا تَخْشَوْهُمْ» فيما يطعنون بكم من الأكاذيب المختلفة «وَاخْشَوْنِي» وحدي أنا اللّه الذي أحق بأن يخشى منه لأظهركم عليهم ، «وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ» بهدايتكم لما فيه خيركم وصلاحكم «وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 150» لكل ما فيه نفعكم وإكمال نعمكم.
نزل أمر تحويل القبلة يوم الإثنين في منصف شهر رجب الحرام السنة الثانية من الهجرة.
أو النبي صلّى اللّه عليه وسلم يصلي الظهر في مسجد بني سلمة وكان قد صلّى ركعتين فتحول في الثالثة إلى جهة الكعبة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
وقبل كان التحويل بعد الصلاة إذ يفهم من هذا الحديث أن الوحي نزل عليه بتبديل القبلة وهو في الصلاة ، تدبر.
ووصل الخبر إلى أعل قباء في صلاة الصبح ، وقدمنا نص الحديث فيه في الآية 147 ونوهنا بالآية 115 المارتين ما يتعلق بهذا البحث فراجعه.
الحكم لشرعي وجوب استقبال عين القبلة لتمسكي الشاهد ، لها ولجهتها لغيره ، ورخص المراكب النقل على ظهر دابته متجها تلقاء سمته ، وتقدم الحديث في هذا أيضا في الآية 115 المرة أيضا ، ويسنّ استقبالها في الوضوء والدعاء والقعود ، ويكره حال لأخبثين وعند كشف العورة ، ويكره لولي الصغير أن يقبله نحوها حال التغوط أو البول كما يحرم إلباسه الحرير وتحليه بالذهب والفضة.
هذا ،
ولما كان هذا من إتمام نعم اللّه على المؤمنين أردفها بكاف التشبيه فقال «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ(5/101)
ج 5 ، ص : 102
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ 151»
كما أتممت عليكم النعمة بالإسلام والقبلة أتممتها عليكم بأن جعلت رسولكم منكم لأن خير الأمم من كان أميرها منها لأنها لا تذل بحكمه بخلاف المتسلط عليها من غيرها فقيه الهوان والصغار «فَاذْكُرُونِي» أيها الناس «أَذْكُرْكُمْ» عند مهماتكم وإفزاعكم ولا تغقلوا عن ذكري ومجدّوني دائما وعظموني لذاتي أحفظكم وأزدكم.
مطلب آيات الصفات والشكر على النعم والذكر مفرد أو جماعة وثواب الشهيد :
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : يقول اللّه عز وجل أنا عند ظن عبدي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.
وهذا من أحاديث الصفات التي جعل السلف الصالح تأويلها ظاهر لفظها ، وأوله الخلف بأن المراد بالقرب القرب من رحمته وألطافه وبره وكرمه بإحسانه ومواهبه ، وكلما ازداد العبد بما يقربه منه من أعمال الخير زاده اللّه تعالى من ذلك ، لأن القصد من الشبر والباع والذراع والهرولة والمشي والقرب استعارة ومجاز ، إذ يستحيل إرادة ظاهرها على اللّه تعالى ، لأنه منزه عما هو من شأن خلقه.
وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 30 من سورة ق والآية 4 من سورة طه في ج 1 والآية 178 من سورة الأنعام والآية 65 من سورة الزمر في ج 2 فراجعها وما ترشدك إليه من المواقع.
ورويا عنه : أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه.
ورويا عن أبي موسى الأشعري : مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ، كمثل الحي والميت.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : سبق المفردون ، قالوا وما المفردون يا رسول اللّه ؟ قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات.
أي الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه وبقوا فيه وحدهم ، أو الهرمى الذين ذهب أقرانهم من الناس وبقوا وحدهم يذكرون اللّه تعالى.
ولهذا جاء في تأويل المفرّدين بأنهم هم الذين اهتزّوا في ذكر اللّه والذين تفقهوا واعتزلوا الناس والذين اختلوا بمراعاة الأمر والنهي.
ثم أردف الذكر بطلب الشكر(5/102)
ج 5 ، ص : 103
فقال جل قوله «وَاشْكُرُوا لِي» أيها الناس على ما غمرتكم به من النعم «وَلا تَكْفُرُونِ 152» بجحود شيء من نعمي عليكم فتحرموها.
قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة إبراهيم في ج 2 ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : اشكروا النعم لا تكفروها فإنها إن زالت فهيهات أن تعود.
فاحفظوها عباد اللّه بدوام شكرها لئلا تسلب منكم وتقطع عنكم ولا أشد على المرء من زوال النعم بعد أن اعتادها ، حفظنا اللّه ووقانا وإلى شكره هدانا ، ومن زوال نعمه حمانا.
واعلم أيها العاقل أنه كما يجب شكر اللّه على نعمه يجب شكر خلقه على نعمهم عليك ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : أشكركم للناس أشكركم للّه.
وأن تخص بالشكر والديك على نعمة التربية ، قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية 13 من سورة لقمان ج 2 وقال تعالى (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) الآية 23 من سورة الإسراء ج 1 ، وقد أسهبنا البحث في هاتين الآيتين في بحث الشكر فراجعهما.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ 153» بالمعونة والثبات والنصر والأعمال والمطالب والنيّات وكل ما تعذرت به الحقيقة من آيات الصفات وأحاديثها وشبهها يصار فيها حتما إلى المجاز لأن هذه المعية لا يعلمها غيره تعالى ، ونؤوّلها بالمعونة منه على عباده ومساعدتهم على أمورهم والقيام بحقوقهم ، ولما صارت واقعة بدر في 27 رمضان السنة الثانية من الهجرة واستشهد فيها ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار قال المنافقون ماتوا وذهب عنهم نعيم الدنيا ولذّتها ، فأنزل اللّه جل جلاله «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ» قولوا «أَحْياءٌ» حياة طيبة أحسن من حياتكم أيها الناس ، لأنهم لا يزالون وإلى الأبد يذكرون بأنهم استشهدوا في طاعة اللّه ورسوله لإعلاء كلمة اللّه والذب عن أوطانهم وأعراضهم وإظهارا لأمر رسولهم على أعدائهم ، وإنما نهى اللّه تعالى عن القول بأنهم أموات لئلا يتساووا في هذا الاسم مع غيرهم الذين قتلوا في سبيل الشيطان وعداوة أهل الإيمان ، لأنهم لا يذكرون إلا بالشر ، فهؤلاء أموات مادة ومعنى وإن كانوا أحياء ، وأولئك أحياء مادة ومعنى وإن كانوا أمواتا ، وحياتهم بعد الاستشهاد كناية عن بقاء(5/103)
ج 5 ، ص : 104
ذكرهم الحسن عند الناس وتنعم أرواحهم في الخير عند اللّه ، ويطلق على من لم يزل ذكره جاريا بين الناس أنه حيّ مجازا ، فهم أحياء عند اللّه بالمعنى الذي يريده ، «وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ 154» أيها الناس بكيفية حياتهم عنده ، وإنما هو وحده يعلمها.
قال الحسن إن الشهداء أحياء عند اللّه تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليها الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون فيصل إليها الوجع والجزع.
قال تعالى «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» أيها الناس «بِشَيْ ءٍ» نكره تعظيما لعظمه على حصول القوت خلقه ثم بينه بقوله «مِنَ الْخَوْفِ» من العدو وقلة الأمن «وَالْجُوعِ» بتعذر «وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ» بخسران التجارة وهلاك قسم من رؤس الأموال والزروع والضروع «وَالْأَنْفُسِ» بالموت أو القتل أو الغرق والحرق والتردي «وَالثَّمَراتِ» بعدم بلوغ الزروع وإدراك نضج الفواكه وتسليط الآفات الأرضية والسمائية عليها ، فيحصل النقص في جميع الحبوب والخضر والفواكه والأموال والأولاد والحيوان.
وتطلق الثمرات على الأولاد أيضا كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا مات ولد العبد قال تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي ، قالوا نعم ، قال أقبضتم ثمرة فؤاده ، قالوا نعم ، قال فماذا قال عبدي ، قالوا حمدك واسترجع ، قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.
ويدخلون في معنى الكسب أيضا لما ورد وولد المرء من كسبه.
مطلب في الصبر وثوابه وما يقوله المصاب عند المصيبة :
ثم ذكر جل شأنه ما من شأنه أن يتسلى به المصاب فقال «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155» على تلك البلايا الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ» من تلك المصائب أو غيرها «قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156» فلم يجزعوا منها ولم يفزعوا لغيره لأنهم عرفوا أنهم وما يملكون بتصرف الإله المتصرف بهم وبما يملكونه بما شاء ، وليس لأحد أن يعارض المالك إذا تصرف بملكه «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157» يهدي اللّه ، المسترشدون برشده.
قال عمر الفاروق رضي اللّه عنه : نعم العدلان الصلاة والرحمة ، ونعمت العلاوة الهداية.
ويفيد عطف(5/104)
ج 5 ، ص : 105
الرحمة على الصلوات أن الصلاة من اللّه رحمة وزيادة ، ولذلك عطف عليها من عطف العام على الخاص.
وروى مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول :
ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا للّه وإنا إليه راجعون الآية اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ، إلا آجره اللّه في مصيبته وأخلف له خيرا منها.
وقيل ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة.
يعني الاسترجاع عند المصيبة ، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام ، ولم يقل يا أسفا على يوسف.
والحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء أن العبد إذا علم أنه مبتلى وظنّ نفسه على الصبر فإذا نزل به البلاء لم يجزع ويكون أشد إخلاصا منه في حال الرخاء ، فيداوم العبد على التضرع والابتهال إلى اللّه لينجيه ممّا يترقب نزوله.
روى البخاري عن أبي هريرة قال :
قال صلّى اللّه عليه وسلم من يرد اللّه به خيرا يصب منه أي يبتليه بالمصائب ليثيبه.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم ما يصبب المؤمن من نصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر اللّه عنه بها خطاياه.
ورويا عن عبد اللّه : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط اللّه عنه به من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.
ورويا عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مثل المؤمن كمثل لزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصببه البلاء ، ومثل المنافق كمثل شجر الأرز لا تهتزّ حتى تحصد.
وفي لفظ آخر حتى تنقعر.
وهو شجر معروف في لبنان يعمّر كثيرا حتى قيل إنه يوجد منه من زمن المسيح عليه السلام ، أما الرز المعروف فهو داخل في الزرع.
روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا إلا الجنة.
فهذا كله وأمثاله عند اللّه تعالى للصابرين ، وليس للجازع إلا الخيبة إذ تصير مصيبته اثنين هي وضياع أجرها ، وليعلم العبد أن اللّه تعالى إذا أراد به خيرا عجل عقوبته في الدنيا بإحدى المصائب ، وإذا أراد به شرا استدرجه فأملى له في الدنيا ليشدد عذابه في العقبى.
قال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ) الآية 35 من سورة الأنعام في ج 2 ، فيظنون أن ما هم عليه حسن فيستزيدون منه حفظنا اللّه من غضب اللّه.
وليعلم العبد أن عظيم الجزاء(5/105)
ج 5 ، ص : 106
مع عظيم البلاء ، وإذا أحب اللّه قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى وذلك الثواب ، ومن سخط فله السخط والعذاب والعقاب ، وحينما يرى الرجل يوم القيامة ما للمبتلين عند اللّه من الكرامة ، يود لو قرضت أعضاؤه في الدنيا بالمقاريض رغبة فيما أعده اللّه لهم.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى اللّه وما عليه خطيئة.
وقال سعد بن ابي وقاص : يا رسول اللّه أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (أي الأولياء والعلماء والصالحين) يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة - أخرجه الترمذي - .
فهذه هي التسلية الشرعية الشريفة ، وهذا هو العزاء الحسن ، وبهذه الطريقة ينسى الحبيب حبيبه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
والصبر هو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات اللّه تعالى ، وعلى تحمل المشاق في العبادات وسائر الطاعات ، وتجنب الجزع والمحظورات عند المصيبة ، وقدمنا في الآية 34 فما بعدها من سورة المؤمن في ج 2 والآية 35 من سورة فصلت ما يتعلق في هذا البحث فراجعهما ، وقد جاء في الخبر عن سيد البشر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش - أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود - .
وأخرج عبد الرزاق عن عبد اللّه بن كعب بن مالك وأخرج مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه أيضا عنه ما بمعناه.
وإذا علمت هذا وأيقنت به فاعلم أن الشهداء أحياء من هذه الجهة ، وإن كانوا أمواتا من جهة مفارقة الروح البدن ، أو أنهم أحياء عند اللّه تعالى في عالم الغيب لأنهم صاروا إليه ، وقد أشرنا إلى ما يتعلق بهذا في الآية 89 من سورة الإسراء ج 1 بصورة مفصلة فراجعها.
ومن عرف قدرة اللّه لا يشك في ظاهر هذه الآية ، لأنه تعالى قادر على أن يصير روحه في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكل ويشرب في الجنة ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 170 من سورة آل عمران الآتية إن شاء اللّه.
هذا ، ولما أشار اللّه تعالى في الآية المتقدمة إلى الجهاد أعقبها ببيان بعض معالم الحج(5/106)
ج 5 ، ص : 107
لما بينهما من المناسبة في مشقة النفس وتلف المال ولا سيما ذكر الصبر لأن كلّا من الجهاد والحج محتاج إليه لعلاقتهما في ذكر المناسك المتقدمة في دعوة إبراهيم عليه السلام.
مطلب في السعي وأدلة السمعية والحكم الشرعي فيه وكتم العلم :
قال تعالى «إِنَّ الصَّفا» الحجر الأملس «وَالْمَرْوَةَ» الحجر الأبيض اللين وهما علمان لموضعين معروفين بمكة ، وقيل إن صفي اللّه آدم عليه السلام جلس على الأول فسمي الصفا ، وجلست امرأته على الثاني فسمي المروة وهما «مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» وإعلام دينه وكل شيء معلم لقربان يتقرب به إلى اللّه من صلاة ودعاء وذبيحة ، فهو شعيرة من شعائر اللّه ومشاعر الحج معالمه الظاهرة ، فكل من المطاف والمنحر والموقف والمرمى من شعائر اللّه تعالى أي مناسكه في الحج ، وقد جعلها اللّه أعلاما لطاعته «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ» بالعمرة وهي الزيارة إلى الكعبة في غير موسم الحج أو فيه معه أو دونه «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» بسعى بين الصفا والمروة أي الجبلين الواقعين في طرفي المسعى تجاه البيت الحرام «وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» فعل فعلا زائدا على ما أوجبه اللّه عليه من الصلاة والصدقة والصيام والحج والعمرة والطواف وسائر أنواع الطاعات والقربات «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ» لطاعته مثيبه عليها «عَلِيمٌ 158» بحقيقة نيته فيها وإنما قال تعالى من شعائر اللّه لأن للحج شعائر أخرى سنأتي على ذكرها عند قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) في الآية 196 الآتية إن شاء اللّه.
وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري ومسلم عن عاصم بن سليمان الأحول قال : قلت لأنس أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة ؟ فقال نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل اللّه هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف ، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة ، زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما اللّه حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون اللّه ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنيين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين ، فأنزل اللّه هذه الآية.
وهذا هو سبب الكراهة الواردة في(5/107)
ج 5 ، ص : 108
الحديث ، وعلى هذا وما جاء في سبب نزول الآية الأولى يفهم أن هاتين الآيتين نزلنا قبل فرض الجهاد وفرض الحج ، لأن غزوة بدر بعد الأمر بالقتال وتكسير الأصنام بعد فتح مكة ، وكلاهما لم يقع بعد.
الحكم الشرعي وجوب الطواف بين الصفا والمروة ، ويجب بتركه دم ، وهو ليس من أركان الحج ، وان قوله تعالى لا جناح عليه وإن كان يصدق على أن لا إثم على فعله فيدخل تحته الواجب والمباح والمندوب ، وظاهر الآية لا يدل على الوجوب وعدمه ، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين هذه الأقسام الثلاثة لا يدل على خصوصية أحدها ، بل لا بد من دليل خارج بدل على النص هل هو واجب أم لا.
وهاك الأدلة على وجوبه ، فقد روى الشافعي بسنده عن صفية بنت شبية قالت : أخبرتني حبيبة بنت أبي نخراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة ، فرأيته يسعى ومئرزه ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبته ، أي أنها لم تر ركبته ، وإنما أرادت المبالغة من شدة سعيه ودوران إزاره بسببه ، قالت وسمعته يقول اسعوا فإن اللّه كتب عليكم السعي ، وصححه الدار قطني وإذا صح فهو المذهب الحق.
وروى مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع من حديث طويل قال : ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أبدا بما بدأ اللّه به ، فبدأ بالصفا الحديث.
وروى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال : قلت لعائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم أرأيت قول اللّه (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) الآية فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما ، فقالت عائشة كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة ، وكان مناة اسم صنم حذو (قديد) [موضع معروف على طريق المدينة مر به صلّى اللّه عليه وسلم عند هجرته ورأى فيه أم معبد وأظهر على يده معجزة حلب النعجة التي لا حليب فيها] وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة (للسبب المتقدم وهو وجود الصنمين عليهما) فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه هذه الآية ، فثبت من هذا كله وجوب السعي بينهما في قول الرسول وفعله وأمره.(5/108)
ج 5 ، ص : 109
وقد قال تعالى (وَاتَّبِعُوهُ) الآية 158 من سورة الأعراف ج 1 ، وقال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر الآتية ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : خذوا عني مناسككم.
والأمر للوجوب ولقوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية 113 من سورة التغابن الآتية ، وما بعد هذه الأدلة القاطعة من دليل ، وليعلم أن التمسك بقوله تعالى (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) ضعيف لعدم اقتضاء المراد من هذا التطوع أنه هو الطواف كما تقدم.
ولما سئل علماء اليهود وأحبارهم عن آية الرحيم كتموها وأنكروا وجودها في التوراة كما أنكروا نعت الرسول أنزل اللّه تعالى قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ» المنزل قبل القرآن على اليهود وهو التوراة المقدسة «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ 159» من جميع خلقه ويستمروا على لعنهم ما داموا كاتمين لذلك «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» وطهّروا أنفسهم بالصدق والتصديق «وَبَيَّنُوا» ما كتموه واعترفوا به «فَأُولئِكَ» القائمون بهذه الشروط الثلاث «أَتُوبُ عَلَيْهِمْ» وأقبلهم وأغفر لهم ذنوبهم السابقة وأكفر خطاياهم كلها «وَأَنَا التَّوَّابُ» لمن رجع إليّ كثير الرأفة به «الرَّحِيمُ 160» به فلا أعاقبه على ما سلف منه مهما كان ، وهذه الآية وإن كان نزولها بمن ذكر فهي عامة في كل من يحذو حذوهم إذ لا مانع من شمول معناها لكل من يكتم شيئا مما أنزل اللّه سواء في التوراة أو إنجيل أو القرآن من أمر الدين والدنيا من مبدأ الكون إلى نهايته.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : لو لا آيتان أنزلهما اللّه في كتابه ما حدثت شيئا أبدا : هذه الآية وآية (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ.
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) الآية 188 من آل عمران الآتية.
الحكم الشرعي : يجب على العالم بشيء من أمور الدين الإجابة عند السؤال عنه وهو وجوب عيني ، ويجب عليه وجوبا كفائيا إظهار علوم الدين للعامة والخاصة بأن يتصدر لها ويبثها بينهم إذا كان لا يوجد في المحل الذي هو فيه عالم غيره وإذا وجد فعلى أحدهم ، فإن قام بذلك سقط الإثم عن الكل ، وإلا فكلهم آثم.
وهكذا حكم كل وجوب كفائي كغسل الميت والصلاة عليه ودفنه.
قال تعالى(5/109)
ج 5 ، ص : 110
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 161» في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى «خالِدِينَ فِيها» أي النار المستفادة من اللعن الذي هو طرد من رحمة اللّه «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» فيها «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ 162» يمهلون ليعتذروا ولا يؤجلون لوقت آخر.
الحكم الشرعي : أجمعت العلماء على عدم جواز لعن كافر بعينه ، وكذلك العاصي المعين والفاسق لعدم علم حاله عند الوفاة ، فلعله يموت على الإيمان بسبب توبة يحدثها ، وقدمنا في الآية 39 من سورة الأعراف ج 1 أن العبرة لآخر العمر وخاتمته لا لأوله ووسطه ، راجع هذه الآية والآية 103 من سورة الأنبياء في ج 2 ، ويجوز لعن الكفار والظلمة والفسقة والعصاة على العموم.
قال تعالى (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية 44 من سورة الأعراف ج 1 ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ، إذ كان مطلقا لم يخصّ به أحدا معينا ، فتقع على من يستحقها.
هذا وما جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : لعن اللّه السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده ولعن اللّه الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ومن غير منار الأرض ومن انتسب لغير أبيه ، فكله مطلق ، لأن المحلى والمضاف لا يتقيد بل يعم الأفراد كافة ، فمن هذا الوجه جاز لعنهم ، لأن كلا منهم يدخل في عموم الآية المارة والحديث ، تأمل.
«وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» أيها الناس هذه الجملة معطوفة على جملة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) من عطف القصة على القصة ، لأن الأولى مسوقة لإثبات النبوة وهذه لإثبات الوحدانية ، وفيها انتقال عن زجرهم عما يعاملون به رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم ، إذ يكتمون وحدانيته ويقولون عزيز والمسيح ابنا اللّه كما يقول فريق من العرب الملائكة بنات اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ 163» قال ابن عباس : قال المشركون يا محمد صف لنا ربك وانسبه وذلك لتوغلهم في شرف الأنساب ظنوا أن الرب له نسب مع أنه تعالى ذم المفاخرة بالنسب كما مر في الآية 101 من سورة المؤمنين ج 2 ، وقيل في هذا المعنى : (5/110)
ج 5 ، ص : 111
وليس بنافع نسب زكي تدنسه صنايعك القباح
وقيل : لا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهله
فأنزل اللّه هذه الآية.
وعنه أيضا : قالوا ليأتنا محمد بآية تدل على ما يدعيه ، فأنزل اللّه تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» من ركوب وحمل وبلوغ بلد بعيد أو محل نزهة «وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات لحاجة الإنسان والحيوان والطير والحوت «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» لمنافع الخلق أيضا من ركوب وحمل ورزق ومنها ما هو رزق لبعضها لأن الحيوان والحيتان والطير منها يأكل بعضه بعضا ، ومنها ما يأكل جنسه بحسب التغلب ، قال في المعنى :
ظلم القوي للضعيف جاري في الأرض والهواء والبحار
«وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ» في مهابها يمينا وشمالا وشرقا وغربا وجنوبا قبولا ودبورا ، ونكباء وهي التي لا يعرف مهبها ، وما فيها من المنافع لأناس ومضارّ لآخرين «وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» للنزول على من يشاء من عباده للشرب والسقي «لَآياتٍ» عظيمات كافية عن كل آية «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 164» أن جميع ذلك جعله اللّه للنفع والاعتبار فيستدلون بها على الخالق القادر المدبر لها ويتفكرون في تكوينها وتقلباتها ويقفون على عجائبها وغرائبها وبدائع صنعها وإتقان تكوينها ، وأن كلا منها بقدر ومحور خاص لا يتغير ولا يتبدل ولا ينضب ، وأن كلا منها دال على الفاعل المختار ومنوه على وجوب التفكر والتذكر بآلاء اللّه وعظمته ورأفته بعباده.
مطلب الدلائل العشر المحتوية عليها الآية 164 من هذه السورة :
واعلم أن في هذه الآية عشرة أنواع من البراهين النيرة القاطعة الدالة على الإلهية والوحدانية : النوع الأول آية السماء وهو سمكها وإتقانها وارتفاعها بغير عمد أو بعمد لا ترى لقوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الآية 10 من سورة لقمان ج 2 ، ومثلها في الآية الثانية من سورة الرعد الآتية ، لأنهما يحتملان المعنيين لأن السماء(5/111)
ج 5 ، ص : 112
بناء والبناء الذي على هيأتها قد يكون بعمد ويكون بلا عمد ، قال تعالى (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) الآية 12 من سورة عم في ج 2 ، وقال تعالى (أَمِ السَّماءُ بَناها) الآية 27 من سورة النازعات ، وقوله تعالى (وَالسَّماءِ وَما بَناها) الآية 5 من سورة والشمس ج 1 ، وقال تعالى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) الآية 27 من سورة الذاريات المارتين في ج 2 ، وقال تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) الآية 3 من سورة تبارك الملك في ج 2.
النوع الثاني آية الأرض وهو مدها وبسطها وتمهيدها وتثقيلها بالجبال لئلا تضطرب ولم تجمع الأرض لثقل جمعها ومخالفته للقياس ، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه كالأرض ، وجمع لم يوجد في القرآن مفرده كالألباب للقلة أيضا ، وفي هذين النوعين من المبدعات ما لا يدخل تحت حصر.
والأرضين سبعة كالسماء بلا شبهة لقوله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الآية الأخيرة من سورة الطلاق الآتية فهي دليل قاطع على أن الأرضين سبع كالسموات ، فلا حجة لمن ادعى أنها واحدة لعدم جمعها بالقرآن العظيم.
النوع الثالث : آية الليل والنهار وهي اختلافهما وتعاقبهما بانتظام بديع لا يختلف ولا يدرك أحدهما الآخر ، وقدمنا ما يتعلق بهما في الآية 12 من سورة الإسراء ج 1 فراجعها.
والنوع الرابع آية الفلك وهو تسخيرها وجريانها على ظهر الماء موقرة بالأثقال وتسيرها الريح مقبلة ومدبرة.
النوع الخامس : آية نفع الناس وهو ركوبهم لنزهة والتجارة ووضع القوة في القلب على ركوبها وإلا لم يتم الغرض من نفعها وكذلك الدواب.
السادس : آية تسخير البحر وهو حمل تلك الأفلاك العظيمة مع قوة سلطانه وهيجانه واستخراج اللآلئ منه للزينة والحيتان للأكل مع أنه مالح لا يستفاد منه ولكن كلمة اللّه أبت أن تبقي شيئا بلا فائدة.
السابع : آية المطر وإحياء الأرض الميتة به وإخراج أنواع النبات منها مما ينفع جميع الحيوانات وإنزاله بمكان دون مكان وبقدر الحاجة وتزيين الأرض به ، قال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) الآية 6 من سورة الحج الآتية ، وجاءت بلفظ خاشعة في الآية 40 من سورة فصلت في ج 2.
الثامن : آية الرياح وهي آية عظيمة في القوة والنفع مع كونها جسم لطيف يحس به ولا يمسك ولا يرى وفيه حياة الوجود فلو أمسكه(5/112)
ج 5 ، ص : 113
اللّه تعالى برهة عن خلقه لمات كل حي وانتهت الأرض.
التاسع : آية السحاب وهو كونه معلقا بين السماء والأرض مثقلا بالمياه تسوقه الرياح إلى حيث شاء اللّه فتارة تذهب ما فيه وتفرقه ، ومرة تجمعه بعد الشتات ، وطورا تسرع بإنزال الماء منه ، وأخرى تؤخره إلى أجل مقدور وقد تسوقه إلى مكان آخر ، كل ذلك بتقدير العزيز العليم القدير الحكيم.
العاشر : آية بثّ الدواب وهي آية كبرى لاجتماعها بعد تكونها من الماء في أصل واحد وهو الدم كما سيأتي في الآية 46 من سورة النور والآية 4 من سورة الرعد الآتيتين كيفية اتفاقها في ذلك الأصل وتفرقها في اللون والشكل والصورة واللغة والأخلاق والآداب وغيرها ، فسبحان الإله الواحد الذي أحسن كل شيء خلقه.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشكالا وأشباها من الأصنام مع ما ظهر لهم من آيات اللّه الدالة على وحدانيته فيشركون به جل شأنه ما ليس بأهل للعبادة من صنع أيديهم وتصوير عقولهم مما هو محتاج للحراسة ويموهون بعضهم على بعض بأنها أنداد وليس في الوجود ندّ للّه ، تعالى عن ذلك ، ولقلة عقولهم بل لكثرة جهلهم «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» بلا حياء ولا خجل «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» من حبهم لأوثانهم وأدوم وأثبت «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بنتيجة أعمالهم هذه ما هو مرتب عليها من العذاب «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» يوم القيامة على أفعالهم هذه ويعاينون بأم أعينهم «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» ليس لأندادهم منها شيء ويتحققون أنها لم تغن عنهم شيئا من الله لهوانها عليه وظهور ضعفها لديهم «وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ 165» لعرفوا مضرة شركهم وأيقنوا عدم نفع أندادهم ، ولو أنهم شاهدوا «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» عند نزوله بهم جميعا فلم يبق بينهم تواصل «وَرَأَوُا الْعَذابَ» قد حاق بهم وخاب أملهم في متبوعيهم وندموا ولات حين مندم «وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ 166» التي كانت بينهم في الدنيا من صحبة وخلة وقرابة ومحسوبية ومنسوبية ، لأن اللّه تعالى نفى ذلك كله وأذن بالشفاعة لخواص خلقه لمن ارتضى منهم ، كما مرّ في الآية 19 من الأنبياء ج 2 ، «وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» عودة أخرى إلى الدنيا ت (8)(5/113)
ج 5 ، ص : 114
«فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» في هذا اليوم الذي كنا نزعم نفعهم فيه «كَذلِكَ» كما أراهم مقاطعة رؤسائهم وقادتهم الذين كانوا يؤملونهم في الدنيا «يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» السيئة التي اقترفوها في الدنيا التابعون والمتبوعون لأن كلّا منهم يندم على ما وقع منه وتظهر الندامة «حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ» يتحسرون المرة تلو الأخرى ندما وأسفا على عملها «وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ 167» إذ لا يفيدهم تحسرهم شيئا لوقوعه بغير محله وتفريطهم في الدنيا فلو كان ندمهم فيها لنفعهم أما وقد فات محله ، فلا فائدة فيه إلا زيادة الأسف والأسى والتحسر.
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت هذه الآية في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيا والحام الآتي بيانها في الآية 4 من المائدة الآتية ، وقيل إن عبد اللّه بن سلام وأصحابه الذين حرموا على أنفسهم أكل لحوم الإبل لأنه محرم عند اليهود ، وقيل في قوم من ثقيف وبني عامر وخزاعة وبني مدلج إذ حرموا على أنفسهم التمر والأقط ، وكلها صالحة لأن تكون سببا للنزول ولا مانع من تعداد أسبابه إلا في عبد اللّه لأنه لم يسلم بعد «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» طرقه وزلاته ووساوسه وإغراءه وإغواءه
وآثاره ، جمع خطوة وهي ما بين قدمي الخاطر «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 168» عداوته من زمن أبيكم آدم لم يخفها قط ولذلك في كل فرصة يريد تأثمكم انتقاما ، وإنه «إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 169» من تحليل وتحريم واتخاذ الأنداد واتباع الشبه والتشكيك بالحق قصدا لإظهار عداوته والتجاهر بها لإيقاعكم بالإثم ويمنّي لكم أقوال المذاهب الفاسدة التي لم تستند لكتاب أو سنة صحيحة للغاية نفسها وان أمره إليكم أيها الناس هو عبارة عن وسوسة يدسّها ويلقيها في قلوبكم فتكون خواطر تجدونها تحوك في صدوركم بحروف وأصوات منتظمة خفيفة تشبه الكلا في الخارج ليجركم لما يسيئكم ويشوش عليكم ، وليس له سلطة يقسركم بها على الأخر بتسويلاته ، كما اعترف بذلك في الآية 22 من سورة إبراهيم في ج 2.
واعلموا أيها الناس أن الذي قدر إبليس وأعوانه على إيقاع الوسوسة في قلوبكم هو اللّه تعالى(5/114)
ج 5 ، ص : 115
راجع تفسير سورة الناس والآيتين 11/ 17 من سورة الأعراف في ج 1 ، والآية 12 من سورة يونس ، و39 من الحجر ، و17 من الأنعام في ج 2 ، ومما يؤيد هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإنما أقدره اللّه تعالى على إيصال هذه الخواطر إلى قلوب البشر ليميزوا ويعلموا بعقولهم التي منحها اللّه تعالى إليهم الخير من الشر ويزنوا بميزان الشرع تلك الوساوس ، فما كان موافقا أخذوه ، وما كان مخالفا نبذوه ، لأن اللّه تعالى إنما أعطاهم العقل ليفرقوا به بين الحق والباطل ، والحسن والقبيح ، والطيب والرديء ، إذ قد يلقي الخبيث في الصدور ما هو حسن أيضا ليستجر به العبد إلى ضده ، على أن الخاطر الحسن قد يكون من الملك الموكل بالقلب ، فعلى الرشيد أن يتذكر ويعلم هل هو من الملك أم من الشيطان ، وطريق معرفة هذا الميزان هو التمسك بالشرع ، وطريق التمسك بالشرع هو التقوى المار تفصيلها في الآية 48 وقال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ) الآية 212 الآتية.
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» وذلك أن حضرة الرسول دعا اليهود وأمرهم باتباع دين الإسلام ونصحهم وأرشدهم ، فقال بعض رؤسائهم رافع بن خارجة ومالك بن النصيص ما قاله المشركون وهو ما قصه اللّه «قالُوا» لا نتبع ما جئتنا به «بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من دين اليهودية كما قال المشركون ، بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأوثان ، قال تعالى مؤنبا لهم كما قال لأولئك «وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» من أمور دين الحق «شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ 170» إلى طريقه الذي يوصلهم إليه ولا يحكمون عقولهم فيما هو أرجح ، أيتبعونهم على ضلالهم ؟
فقالوا له مثل قول المشركين أيضا هم أعلم منا بذلك ، ثم ضرب اللّه مثلا لهم فقال «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من المشركين وأهل الكتاب القائلين باتخاذ الولد «كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» النعيق صوت الراعي الذي ينادي غنمه «بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً» لأنها لا تعي منه إلا هذا ، وهؤلاء كذلك لا يعون من النصح والإرشاد إلا الصوت ، وذلك لأنهم «صُمٌّ» عن سماع الحق سماع قبول «بُكْمٌ» عن النطق به بعد أن عرفوه «عُمْيٌ» عن رؤيته ، لأنهم لا ينظرون إليه نظر(5/115)
ج 5 ، ص : 116
اعتبار فلا يألفونه عمه قلوبهم أيضا ، لأنهم لا يفقهونه ولا يريدون أن يتدبروه ، «فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ 171» شيئا ينفعهم من أمر الدين وقد شبه اللّه تعالى في هذه الآية الداعي إلى ربه وسلوك طريقه بالراعي ، والكفرة بالغنم ، ووجه الشبه هو أنه كما أن الغنم لا تعي من الراعي إلا الصوت ولا تفهم المراد منه لأنه قد يؤدي اتباعها صوته إلى الذبح كما هو الواقع عند أخذها إلى المذبح ، فكذلك الكفار لا يسمعون من مرشدهم إلا صوته ، فلا ينتفعون به ولا يهتدون لهديه ، وقد يؤدي إعراضهم عنه إلى ضلالهم المؤدي إلى قذفهم في النار بجامع عدم الفطنة في كل منهما.
مطلب في الأكل وأحكامه وأكل الميتة والدم وغيرهما من المحرمات :
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» ولا تلتفتوا إلى هؤلاء فيما يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم «وَاشْكُرُوا لِلَّهِ» لنعمته عليكم في الأكل منها ومن غيرها ، لأن به قوام أبدانكم ، وملاك قوتكم على طاعة اللّه «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ 172» بإخلاص لا تقصدون وجه غيره بها ، وهذا الأمر بالأكل واجب لحفظ النفس ودفع ضرر الجوع عنها لأنه داء دواءه الأكل ، ومندوب للأكل مع الضيف لئلا يستحي فلا يشبع ، ومباح في سائر الأوقات ، وحرام بعد الشبع ، ومكروه الشبع نفسه ، إذ ينبغي أن يرفع يده ونفسه تشتهي الطعام ليجد له لذة وينتفع به ، لأن من الشبع ما يؤدي إلى التخمة وإلى نفرة النفس من الطعام وإلى توسع المعدة ويسبب أمراضا كثيرة قد تؤدي إلى الموت.
قال تعالى «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» حتف أنفها عدا السمك والجراد لاستثنائهما بالحديث ، والدابة الفارة التي لم يقدر على مسكها وأمكن إراقة شيء من دمها من أي موضع كان جاز أكلها ولا تدخل في حكم الميتة لإخراج دمها يفعل فاعل قصدا ، والسمك لا دم له ، إذ من شأن الدم أن يسودّ إذا يبس ، ودم السمك إذا يبس ابيض ، والجراد لا دم له أصلا «وَالدَّمَ» الجاري من الحيوان بحياته وعند ذبحه الذي يتجمد في الإناء والمصارين ويشوى ، والدم الذي يمصّ من الحيوان الطيب يحرم تناوله أيضا وأكله بعد تجميده حرام ، وكذلك الدم الخارج من الآدمي بقصد عرقه أو غيره كما كانت العرب تفعله في(5/116)
ج 5 ، ص : 117
الجاهلية ، فتشربه أو تجمده لتأكله ، لأن المفصول من الحي كالميتة ، اما الذي يبقى في العروق واللحم والقلب بعد الذبح فجائز أكله ، لأنه غير جار ، وكذلك الكبد والطحال لأنهما متجمدان خلقه ، فضلا عن استثنائهما بالحديث كما سيأتي في آية المائدة إن شاء اللّه بصورة واضحة «وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» المعروف ، وحرمة هذه الأشياء الثلاثة لأمر طبي علمه تعالى قبل أن يطلع البشر عليه ، وقد أظهر أخيرا بعض الأطباء الحاذقين بعض ما فيها من الضرر للإنسان وسيظهر الباقي إن شاء اللّه ، لأن الكون لم يكمل بعد ولو كمل لخرب ، إذ ما بعد التمام إلا النقصان ، راجع الآية 25 من سورة يونس ج 2 ، وقد يكون هذا التحريم لأمر آخر في علم اللّه ليس لنا أن نسأل عن علته ، لأن أفعال اللّه لا تعلل ، وسواء كان التحريم من اللّه أو من حضرة الرسول فهو على حد سواء ، قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر الآتية «وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» بأن ذبح للصنم أو على اسمه ، وحرمة هذا والمعنى الآخر في حرمة الثلاث الأول تعبدي تعبدنا الشارع به فما علينا إلا الامتثال والاعتقاد بأنه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا ، لأنه أحل لنا خيرا منها ، وليست هذه المحرمات بعزيزة عليه بل هي خبيثة أراد تعالى تطهرنا منها إلا عند الضرورة لحفظ قوام هذا الوجود ، فقد أباح لنا تناول ما يسد الرمق منها ، لأن الضرورات تبيح المحظورات ، هذا قال تعالى «فَمَنِ اضْطُرَّ» في غير حالتين الأولى أن يكون «غَيْرَ باغٍ» هو الذي يجد غير هذه المحرمات فيعدل عنها إليها شهوة وتلذذا ، الثانية بينها بقوله «وَلا عادٍ» متعد بأكله منها زيادة على قدر الحاجة لسد الرمق أو يتزود منه لأن الضرورة تقدر بقدرها «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» إذا أخذ بقدر ما يسد رمقه عند عدم شيء من الحلال فهو مسموح له فيه «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ»
للمضطرين «رَحِيمٌ 173» بهم إذا لم يبغوا أو يعتدوا ، وإنما عتبر عن الرخصة بالمغفرة إيماء إلى لزوم التحري في ذلك ، بحيث لا يأكل إلا بعد تحقق الضرورة ، وبعد التحقق يأكل بقدرها كما مرّ ، وهذا من الرخص التي من اللّه بها على عباده ، ولا يجوز للمؤمن تركها تأثما والأخذ بالعزيمة ، لأنها من حقه الخالص ، بخلاف الزنى والقتل لما فيهما من(5/117)
ج 5 ، ص : 118
حق الغير واللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، وحقوق اللّه مبنية على التسامح ، وحقوق خلقه مبنية على التشاحح ، وهذا ما اتفق عليه الأئمة من الحكم الشرعي في هذه الأشياء.
ومما جاء من الأدلة على هذه المستثنيات ما قاله ابن أبي أوفى : غزونا مع رسول صلّى اللّه عليه وسلم سبع غزوات أو ستا ، وكنا نأكل الجراد ونحن معه ، وقد سأل الرسول جماعة من ركاب البحر فقال لهم هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته.
و
روى الدار قطني عن عبد الرحمن بن زيد بن الحم عن أبيه عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : أحل لنا من الدم دمان ومن الميتة ميتتان الحوت والجراد والكبد والطحال.
واتفقت الأئمة على حل الدم الذي بين اللحم والعروق ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : إذا سمعتم النصارى واليهود يهلّون لغير اللّه فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن اللّه قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون ، واتفقت على حل ذبائح أهل الكتاب الأئمة ، فلا عبرة بمن خالف إجماعهم.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ» ولا يبينونه للناس «وَيَشْتَرُونَ بِهِ» أي الكتمان «ثَمَناً قَلِيلًا» من حطام الدنيا ليتمتعوا به للمحافظة على مناصبهم «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم ، وقد تقدم بأن المراد بهم علماء اليهود وأحبارهم «ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ» ، لأن الرشوة تؤدي إليها إذا كانت في ضياع حقوق الناس فلئن تكون موصلة إليها ، ومدخلة فيها إذا كانت في ضياع حقوق اللّه ورسله من باب أولى ، «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لاشتداد غضبه عليهم ، أما السؤال فيتولاه ملائكته ، وقيل لا يكلمهم كلاما يسرّون به ، بل بما يوبخهم ويقرعهم ، وهو خلاف الظاهر «وَلا يُزَكِّيهِمْ» من دنس الذنوب ودرن العيوب «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 174» جزاء جرأتهم تلك «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» أي بطوعهم واختيارهم «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ 175» أي شيء صبّرهم عليها ، وهي لا يصبر عليها أحد برضائه ، وإذا كان كذلك فلم يجرءون على عمل يؤدي إليها والصبر على عذابها ؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ والتعجب من اتباعهم الباطل وتركهم الحق من غير مبالات منهم بما يترتب عليهم من العقاب ، فكانت ملابستهم هذه(5/118)
ج 5 ، ص : 119
الحالة الهائلة عين النار لأنها توجب العذاب فيها قطعا ، ثم بين سبب إيجابه لهم بقوله عز قوله «ذلِكَ» العذاب المساق إليهم «بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» ليؤمنوا به وهم على العكس كفروا به واختلفوا فيه «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ 176» عن الحق يؤدي بهم إلى عذاب سحيق في أعماق جهنم يتسرون على الصبر عليه فيها.
مطلب أنواع البرّ والقصاص وما يتعلق بهما :
وبعد استدارة القبلة زعم اليهود والنصارى أن الإحسان كله في الجهة التي يستقبلونها فأنزل اللّه ردا عليهم «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» أيها النصارى واليهود «وَلكِنَّ الْبِرَّ» كل البر وهو لفظ جامع لأنواع الطاعات المالية والبدنية هو «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» وحده «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» البعث بعد الموت «وَالْمَلائِكَةِ» كلهم فمن بغض واحدا منهم كاليهود ولم يؤمن بهم كلهم كما تقدم في الآيتين 96/ 97 فليس بمؤمن بأحد منهم «وَالْكِتابِ» كله أيضا بما فيه صحف الأنبياء الأقدمين ، فمن أنكر شيئا مما أنزل اللّه عليهم أو على بعضهم فليس بمؤمن بل هو كافر بالجميع «وَالنَّبِيِّينَ» كلهم أيضا ، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع ، أما عزير ولقمان وذو القرنين فمن جحد نبوتهم أو نبوة واحد منهم فلا يكفر للاختلاف الوارد في نبوتهم وولايتهم ، وقد سئل حضرة الرسول عنهم فقال لا أدري كما روي عن الحاكم وأبي ذر.
أما إنكار وجودهم أو وجود أحد منهم فهو كفر بلا خلاف لذكرهم في القرآن ، وإن إنكار شيء مما جاء فيه كفر بلا خلاف «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» أي النفقة على حب اللّه مع حبه المال عن طيب نفس ورضاء خاطر فأعطاه «ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» تقدم مثلها كثير وسيأتي في الآية 195 ما يتعلق في هذا البحث بصورة مفصلة في الآية 30 من سورة التوبة الآتية «وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ» لفك العبيد المكاتبين وفداء الأسرى «وَأَقامَ الصَّلاةَ» المفروضة محافظا على شروطها وأركانها ، إذ لا يعد مقيما لها إذا ترك شيئا من ذلك «وَآتَى الزَّكاةَ» من فضل ماله صدقة واجبة ، وقد كرر اللّه تعالى الحث على الزكاة(5/119)
ج 5 ، ص : 120
في مواضع كثيرة قبل أن تفرض حثا على فعلها وترغيبا به وإعلاما بأنها ستفرض على هذه الأمة ، وقد أعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرض الزكاة عقيب نزول هذه الآية قبل رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، لأن هذه الآية جامعة لأركان الإسلام الخمسة والزكاة من أركانه ، ولأنه عبّر عنها مرتين فقال أولا (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ثم قال (وَآتَى الزَّكاةَ) تدبر.
أخرج الترمذي والدار قطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول صلّى اللّه عليه وسلم في المال حق سوى الزكاة.
وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه مثله.
وآية الزكاة غير ناسخة للصدقة لقوله تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الآية 25 من سورة المعارج ج 2 ، ومثلها آية الذاريات بدون كلمة (معلوم) وكلاهما في الصدقة ، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلم :
لا يؤمن باللّه واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه.
وللإجماع ، على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ، وإذا امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم سرقة ، وللإمام أن يأخذ من أغنيائهم ويعطى فقراءهم بقدر الحاجة.
وأما ما روي عن علي كرم اللّه وجهه مرفوعا نسخ الأضحى كل ذبح ، ورمضان كل صوم ، وغسل الجنابة كل غسل ، والزكاة كل صدقة ، فهو غريب معارض ، وفي إسناده المسيب بن شريك ، ليس بالقوي عند أهل الحديث ، وعلى فرض صحته فيكون المراد منه الصدقة المقدرة ، ولا يقال الغريب لا يحتج به ، لأن ذلك إذا لم يعارض ولم يطعن براويه ووجد ما يعضده أيضا ، فإذا فقدت هذه الشروط أو أحدها فلا يحتج به ، تأمل ، وراجع الآية 58 من الإسراء في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا البحث.
«وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» سواء فيه عهد اللّه أو عهد الرسول أو عهد الناس ، لأن الوفاء بالعهد والوعد مطلوب «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ» حال الشدة والفقر والفاقة «وَحِينَ الْبَأْسِ» القتال في سبيل اللّه وسمي القتال بأسا لما فيه من الشدة «أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» بإيمانهم «وَأُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «هُمُ الْمُتَّقُونَ 177» ما نهى اللّه عنه القائمون بما أمرهم به المستجمعون لأنواع البر والخير.
روى البخاري ومسلم عن(5/120)
ج 5 ، ص : 121
أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجرا ؟
قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان.
ورويا أن ميمونة اعتقت وليدة (جارية) ولم تستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول اللّه أني أعتقت وليدتي ؟ قال (أو قد فعلت) ؟
قالت نعم ، قال (أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك).
وأخرج أبو داود عن علي رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : للسائل حق ولو جاء على فرس.
وأخرج مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال :
أعطوا السائل ولو جاء على فرس.
وأخرج أبو داود والترمذي عن أم نجيد قالت : يا رسول اللّه إن المسكين يقوم على بابي ولم أجد شيئا أعطيه إياه ، قال إن لم تجدي إلا ظلقا محرقا فادفعيه إليه في يده.
وفي رواية مالك في الموطأ :
ردّوا المساكين ولو بظلف محرق.
وهذا مبالغة في قلة ما يعطى أي ردوه بشيء تعطونه إياه لا رد حرمان لأنه يؤذيه ، فإن لم يوجد فبكلمة طيبة والأحسن أن يقال له اثنتا بوقت آخر.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان.
وعلامة المؤمن صدق الحديث ووفاء الوعد وأداء الأمانة.
وروى البخاري ومسلم عن البراء قال : كنا واللّه إذا احمرّ البأس - أي اشتد الحرب - نتقي به - يعني برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي نجعله وقاية لنا من العدو أن ينالنا سلاحه - وان الشجاع منا الذي يحاذي به.
هذا ، ولما تحاكم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعض أحياء العرب في دماء كانت بينهم في الجاهلية وجراحات ، وكان أقسم ذو الطول منهم على الآخر ليقتلن الحر منهم بالعبد ، والذكر بالأنثى ، والاثنين بالواحد ، أنزل اللّه جل جلاله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى » فرضوا بحكم اللّه وسلموا لقضائه ، وأمر رسوله وأنزل اللّه تعالى لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث الرسول ، وهي أن اليهود يوجبون القتل بلا عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل ، والعرب تارة توجب القتل وتارة تكتفي بالدية ، ويقتلون من عثروا عليه من أقارب(5/121)
ج 5 ، ص : 122
القاتل ، ويسلبون من وجدوا من أتباع السالب ويقتلون بالشريف عددا ويأخذون الدية مضاعفة ، فأوجب اللّه تعالى رعاية العدل في هذه الآية ، وأنزل في جواز العفو قوله عز قوله «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ» فصفح عنه بتانا أو قبل الدية في العمد «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» بشأن الدية ، بأن لا يأخذ أكثر من حقه فيها ولا يعنفه على فعله «وَأَداءٌ» على القاتل «إِلَيْهِ» لولي المقتول تمام الدية «بِإِحْسانٍ» وطيب نفس دون مماطلة أو محاولة مقابلته لإحسانه بالعفو أو بقبول الدية ، لأن العمد لا دية فيه قبل العفو ، وهذا من أعظم أنواع الإحسان أن يتركه يقاد للقتل حتما ، ولا يجوز له بعد العفو وأخذ الدية أن يتعرض للقاتل بشيء ما لأنه عدوان بحت ، ولهذا قال تعالى «ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ» التخفيف فيقتل الجاني بعد العفو عنه أو بعد أخذ الدية منه «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ 178» في الدنيا بأن يقتل قصاصا لخيانته وغدره ، وهكذا كل قاتل متعمد غادر يقتل صبرا قصاصا فلا يعفى عنه ، ولا تقبل الدية منه لنقضه عهده وتصوره وتصميمه على القتل بعد أمن القاتل على نفسه بعفوه أو أخذ الدية منه ، ويجب عليه أن يسلم نفسه للقتل ، وإلا فيكون عذابه الأخروي أشد وأفظع من عذاب الدنيا وأدوم ، قال تعالى «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» بقاء لأن من يقصد القتل إذا علم أنه يقتل يمتنع عنه فيكون فيه بقاؤه وبقاء من همّ بقتله ، وإذا قتل القاتل قصاصا ارتدع غيره عن القتل والجارح كذلك إذا علم أنه يقتصّ منه امتنع عن الجرح ، ثم امتدحهم على طريق التيقظ والتحذير بقوله «يا أُولِي الْأَلْبابِ» يا ذوي العقول السليمة الذين لا يريدون إتلاف أنفسهم ولا إتلاف غيرهم ويحرصون على محافظة أنفسهم وغيرهم ، ويا أيها الموفون بعهدهم الصادقون بوعدهم حافظوا على أنفسكم بالكف عن قتل غيركم ، وانتهوا عن ذلك «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 179» إفتاء بعضكم بعضا وتجتنبون مطلق التعدي الذي قد يقضى عليكم بمثله ، وكثيرا ما تؤدي الجروح للموت ، فاجتنبوها أيضا ، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك.
وقد وقع اختلاف في كيفية القصاص ، وهل هو مطلق القتل أم لا ، فقال أبو حنيفة يقتل القاتل بالسيف ، وقال الشافعي بما قتل(5/122)
ج 5 ، ص : 123
به ، وقال به مالك أيضا ، ولأحمد رواية مع أبي حنيفة وأخرى مع الشافعي.
أخرج الترمذي عن ابن عباس قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بولده.
وقال الشافعي ومالك وأحمد : لا يقتل المؤمن بالكافر ، ولا الحر بالعبد ، ولا الوالد بالولد ، والذمي يقتل بالمسلم ، والعبد بالحر ، والولد بالوالد ، لأن الآية مفسرة لما أبهم من قوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ويستدلون بما روى البخاري عن جحيفة قال : سألت عليا رضي اللّه عنه هل عندكم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم شيء سوى القرآن ؟ قال لا والذي برأ النسمة إلا أن يؤتى العبد فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة ، قلت وما في هذه الصحيفة ؟ قال العقل أي الدية ، وسميت الدية عقلا لأنها تجمع من العاقلة أي جماعة القاتل من أوليائه وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر.
وأخرج مسلم عنه كرم اللّه وجهه مثله.
وقال بعضهم يقتل المسلم بالذمي والحر بالعبد ، لأن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ناسخة لحكم هذه الآية من حيث التكافؤ على أن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) جاءت حكاية حال عما كان عليه بنو إسرائيل ، إذ لم يميز اللّه بينهم لأنهم دون أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم التي خصها اللّه بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 111 من آل عمران الآتية ، ولهذا جعل اللّه لهم ميزه على غيرهم فجعل القتل مكافأة كما جعلها الشارع في الزواج الذي هو من نوع الحياة ضد القتل ، لأن اللّه تعالى قال (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها [أي التوراة] أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلخ ، الآية 45 من سورة المائدة الآتية ، فهي عبارة عن خبر من الأخبار التي لا تنسخ ولا تنسخ والمعول على ما جاء في هذه الآية ، وهذا البحث صلة في الآية المذكورة في سورة المائدة فراجعه ، وأجمعوا على أن القاتل المتعمد يقتل ، والمخطئ تؤخذ منه الدية فقط ، وأن تقتل الجماعة بالواحد.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن غلاما قتل غيلة (خداعا ومكرا من حيث لا يعلم ما يراد به) فقال عمر لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به.
وإنما قال أهل صنعاء لكثرتهم ، لأنها كانت أعمر بلاد العرب وأكثر سكنا ومبالغة في الكثرة.
روى مالك في الموطأ عن ابن المسيب أن عمر قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة ، وقال لو تمالأ (تعاون) عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا.
وأن(5/123)
ج 5 ، ص : 124
القاتل إذا استحل القتل كفر ، ويقتل حدا ، وإذا لم يستحله فلا ، إلا أنه يكون مؤمنا فاسقا عاميّا ، لأن من يقترف الكبائر دون استحلال يبقى على إيمانه بدليل تسميتهم مؤمنين ، لأن اللّه تعالى صدر الآية بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وبدليل تسمية القاتل أخا لولي المقتول ، فلو لا أن الإيمان باق عليه لم تثبت له أخوة ولي المقتول ، وبدليل ندب اللّه تعالى ولي المقتول للعفو عنه ، والعفو من صفات المؤمن أما الآية 92 من سورة النساء الآتية محمولة على الاستحلال ، هذا واللّه أعلم.
مطلب في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الوصي والموصى له والموصي :
قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» بأن ظهرت آثاره عليه وكان قادرا على الإيصاء «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» مالا كثيرا «الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ» بر أي إذا لم يكونا أهلا لاستحقاق الإرث كما سيأتي «وَالْأَقْرَبِينَ» غير الوارثين أيضا وعلى المؤمن أن لا يخص بوصيته الأغنياء ، لأن الفقراء أحق بالوصية إلا إذا كانوا فسقة وغلب على ظنه إنفاق ما يوصي به إليهم في طرق الشر ، وهذه الوصية ينبغي أن تكون «بِالْمَعْرُوفِ» الذي لا وكس فيه ولا شطط بأن يعدل في ذلك عدلا «حَقًّا» لازما «عَلَى الْمُتَّقِينَ» (180) الإله الذي أمرهم بهذا ، على أن لا يجنحوا بوصاياهم إلى غير العدل وإلى عدم الإيصاء إلا بالمعروف.
وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يوصون للأجانب طلبا للفخر والسمعة ورفع الصيت والشهرة ، فأوجب اللّه في بداية الإسلام هذه الوصية لمن يترك مالا كثيرا بدليل تسميه خيرا ، قال رجل لعائشة رضي اللّه عنها أريد أن أوصي ، فقالت كم مالك ؟ قال ثلاثة آلاف درهم ، قالت كم عيالك ؟
قال أربعة ، قالت إنما قال اللّه تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا كثيرا ، وهذا يسير ، فاتركه لعيالك.
قال تعالى «فَمَنْ بَدَّلَهُ» أي القول الواقع من المريض الموصي «بَعْدَ ما سَمِعَهُ» منه سواء كان وصيا أو وليا عند الكتابة أو القسمة أو الشهادة ، وسواء وقع التبديل في قول الموصي أو فيما أوصى به «فَإِنَّما إِثْمُهُ» أي التبديل الواقع من أولئك «عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» خاصة ، أما الموصي والموصى له فهما بريئان من هذا الإثم ، فإذا أخبر الوصي أو الشهود أن الموصي(5/124)
ج 5 ، ص : 125
أوصى للموصى له بأكثر من الموصى به وأخذه الموصى له غير عالم فلا إثم عليه ، وإذا أخبروا بأقل منه فأخذه وسكت لعدم علمه فالموصي أيضا لا إثم عليه لأنه أوصى وحمل غيره مؤنة التنفيذ ، ويكون الإثم في الحالتين على الوصي والشهود لكتمهم حقيقة الحال ، ولهذا ختم اللّه تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لقول الميت الموصي والوصي والشهود وبما أوصى به وشهدوا عليه «عَلِيمٌ 181» بحقيقة الأمر ممن يبدل قول الموصي وبكتم الشهادة ، وفي هذه الجملة من التهديد ما لا يخفى.
قال تعالى «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً» جورا وميلا وعدولا عن الحق في الوصية «أَوْ إِثْماً» ظلما منه فيها يستوجب الإثم بأن أسرف الميت في وصيته أو أخطأ فيها «فَأَصْلَحَ» هذا السامع الحاضر «بَيْنَهُمْ» بين الوصي والموصي له في الموصى به ، واعلم (أن خافَ هنا بمعنى ظن في الكلام الشائع) وكيفية هذا الإصلاح المخاطب به كل من سمعه هو إذا رأى الوصي إفراطا في وصية الموصي بأن أوصى بأكثر من اللازم وكان عنده عيال فله أن ينصحه بأن يقتصد في الوصية فإذا لم يقبل ينصح الموصى له بأن يترك لورثة الموصي المفرط شيئا مما أوصى له به ، فالفاعل لهذا من كل من يسمع وصية الموصي والمتوسط لعمل هذا الخير «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» في عمله بل يؤجر إذا خلصت نيته ، وهذا قد يقع من الذين يكرهون أولادهم بقصد حرمانهم من الإرث فيوصون بجميع مالهم أو بأكثره للغير ولو تركوها لأولادهم لكان أحسن حتى لا يكونوا عالة على الناس ، ولعل اللّه أن يصلحهم بسبب كفايتهم ، وإن كان في هذا الفعل من الميت الموصي فيه ما فيه من الإثم فقد ختم اللّه تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لمن فعل هذا وقبله «رَحِيمٌ 182» بالموصى له والورثة.
وقد ذكرنا في الآية 44 من سورة النحل ج 2 ، وفي المقدمة ج 1 أن الآية لا تنسخ بالحديث ، لأن الحديث لا ينسخ القرآن البتة ، لأنه مهما كان صحيحا لا يساوي كلام اللّه فضلا عن أنه لا يكون خيرا منه ، راجع الآية 107 المارة يظهر لك أن هذه الآية لم تنسخ بحديث (لا وصية لوارث) وإنما خصصت بآية المواريث الآتية في سورة النساء ، وهذا الحديث لا يعارضها ، لأن حضرة الرسول قال عند نزولها (إن اللّه قد أعطى كل(5/125)
ج 5 ، ص : 126
ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث) أي بعد أخذ حقه ، فكان هذا الحديث مبينا لهذه الآية ومفيدا أن اللّه تعالى كتب عليكم أن تؤدوا للوالدين والأقربين حقوقهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقهم ولا تعيين لمقادير انصبائهم ، بل فوض ذلك إلى آرائكم إذ قال (بِالْمَعْرُوفِ) أي العدل ، فالآن قد رفع ذلك الحكم عنكم لتبيين طبقات استحقاق كل واحد منهم وتعيين مقادير حقوقهم بالذات ، وأعطى كل ذي حق حقه منهم بحكم القرابة من غير نقص ولا زيادة ، بأن يأخذ كل نصيبه المعين له في كلام اللّه إذ لم يبق مدخل للرأي في ذلك أصلا ، وليس بعد بيان اللّه بيان ، ومما يدل على عدم نسخ حكمها الذي قال به جمع من المفسرين ما ذهب إليه الحسن ومسروق وابن طاوس والضحاك ومسلم بن يسار بأن إطلاقها خصص بجواز الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين بسبب قتل أو رق خلاف دين ، وبه قال ابن عباس وقتادة.
ومن هنا تعلم أن لا نسخ في كتاب اللّه بالمعنى الذي يريده علماء الناسخ والمنسوخ ، بل هو كما ذكرنا من حيث الإطلاق والتقييد والتخصيص والتعميم ، تدبر.
ولأن الوصية لمن لا يرث كالمذكورين أعلاه جائزة شرعا حتى الآن فضلا عن وقت نزول هذه الآية الكريمة ، إذ كان كثير من الناس من أبوه أو أمه أو أبواه كفار وهو مسلم ، وبالعكس ، أو زوجته غير مسلمة ، وبالعكس ، تدبر.
والآن كثير من المسلمين متزوجون بكتابيات.
روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص قال : جاءني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع السنة التاسعة من الهجرة من وجع اشتد بي ، فقلت يا رسول اللّه قد بلغ بي من الوجع ما ترى وإني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أما أتصدق بثلثي مالي ؟ قال لا ، قلت بالشطر ؟ قال لا ، قلت فالثلث يا رسول اللّه ؟
قال الثلث والثلث كثير ، أو قال والثلث كبير ، إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.
أي يسألونهم بأكفهم.
ورويا عن ابن عباس قال في الوصية : لو أن الناس عفوا عن الثلث إلى الربع فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لسعد (والثلاث كثير) ، وقال علي كرم اللّه وجهه : لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أن أوصي بالثلث.(5/126)
ج 5 ، ص : 127
فمن أوصى بالثلث فلم يترك.
هذا وانظر ما قالته عائشة رضي اللّه عنها آنفا.
اعلم أن الحكم الشرعي في الوصايا جوازها عند كثرة المال المتروك وقلة العيال ، وتستحب للفقراء وطرق الخير ، وتكره إذا خصّ بها الأغنياء ، وتحرم لمن يغلب ظنه أنه يصرفها في المعاصي لما فيها من إعانة العاصي على المعصية.
فالصدقة على الأغنياء الأتقياء أي الوصية لهم أفضل ، والأفضل والأكثر ثوابا على الفقراء الأتقياء لما ورد : اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم.
أي أن الرجل كما يختار زوجته من أهل الدين ، فكذلك ينبغي للمتصدق أن يخص بصدقته أهل الدين لينفقها في طاعة اللّه ، ألا فليتق اللّه المؤمنون الموصوفون ، وليعلموا بما يعود عليهم بالخير.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن الرجل والمرأة (أي جنسهما) ليعملا بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران (أي يوصلا الضرر إلى آخر) في الوصية فتجب لهما النار ، ثم قرأ أبو هريرة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الآية 12 من النساء الآتية ، وذلك بأن لا يخص الوصية أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها ، أو يحيف الوصي أو الورثة فيها كما مرّ تفصيله.
مطلب في الصوم وفرضيته والأعذار الموجبة للفطو والكفارة وإثبات الهلال وإنزال الكتب السماوية :
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 183» اللّه فتعرضون عن شهواتكم الخسيسة إلى طاعة ربكم النفسية ، لأن الصوم يعقم الشهوة ، وقد فرض اللّه تعالى على هذه الأمة المحمدية الصوم ، وأعلنه رسولها محمد صلّى اللّه عليه وسلم على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة ، قبل غزوة بدر الموافقة في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة ، بشهر وبضعة أيام ، أي في أوائل شعبان ، وقد أخبر اللّه في هذه الآية أن الصوم ليس من خصائص هذه الأمة بل هو فرض قديم ، تعبد اللّه تعالى به الأمم السابقة ، قالوا إن النصارى كانوا يصومون رمضان فشق عليهم في الحر فأجمعت علماؤهم على جعله في فصل معتدل من السنة بزيادة عشرة أيام كفارة(5/127)
ج 5 ، ص : 128
لعملهم ، ثم إن أحد ملوكهم مرض فنذر زيادة سبعة أيام إن شفاه اللّه ، فشفي ، ثم كان ملك آخر فأكمله ثلاثة أيام فصار خمسين يوما ، ثم خففوه على أنفسهم بالاقتصار على عدم أكل كل ذي روح ، وهم يصومونه الآن على هذه الصورة في موسم الربيع ، وقد تواترت الآثار على أن الصيام متعبد فيه من لدن آدم عليه السلام ولم تخل أمة منه ، فهو عبادة قديمة لم يخل زمن منها البتة.
والعبادة إذا عمت سهلت ، وإذا خصت شقّت.
وكان قبل الإسلام من كل شهر ثلاثة أيام ويسمونها الليالي البيض الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر ، وسميت بيضا لكمال البدر فيها ، وبالنظر لما ورد فيها من الأخبار فإن بعض الناس وخاصة النساء يصومونها الآن ، وكذلك اليوم العاشر من المحرّم الحرام المسمى عاشوراء ، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال : قال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة (أي النكاح) فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (أي خصاء) لأن الوجيء رخي الخصيتين ودقهما ، ولما كان هذا الصيام الذي كتبه اللّه تعالى مبهما بينه بقوله عز قوله «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» أي أنه أكثر ممّا كان قبل متعارفا من صيام أيام البيض وعاشوراء ، ولما كانت هذه الأيام أيضا مهمة لأنها غير محصورة فإنها تحتاج إلى التوضيح والتحديد ، لأن لفظ أياما يحتمل يومين فأكثر لأن الأمم الماضية كانت تصوم أياما معلومات من أشهر مخصوصة كالمحرم ورجب وذي الحجة ، وصيام موسى عليه السلام كان إتمام شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة فقد بينه بالآية التالية لهذه وشرع يبين الرخصة فيه فقال «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ» يشق عليه فيها الصيام فاضطر لما رأى من الكلفة في حضر أو سفر إلى الفطر «فَعِدَّةٌ» أي عليه صوم مقدار عدة الأيام التي أفطرها «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» بعد شفائه من مرضه أو عودته من سفره «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ» يكلفون بصومه فيرون فيه كلفة زائدة لكبر أو عجز ولا يتمكنون من القضاء ، لأن كل أيامهم هكذا بخلاف المرض غير المزمن والسفر المنقطع إذ يتمكنون فيما بعدها من قضاء ما أفطروه بالشفاء والإقامة ، أما الذين لا شفاء لهم كالزمنى والمرضى(5/128)
ج 5 ، ص : 129
الذين لا يرجى برؤهم والهرم العاجز ، فمثل هؤلاء إذا كانوا أغنياء يكون عليهم «فِدْيَةٌ» بدل صيامهم لأنهم معذورون كل عمرهم ، والفدية الواجبة عليهم هي «طَعامُ مِسْكِينٍ» واحد غداءه وعشاءه عن كل يوم «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» بإطعام أكثر من مسكين نظرا لسعة حاله وطلبا للثواب وتحللا مما يجد في قلبه من الأسف على عدم قيامه بهذا الفرض وحرمانه من أجره لتصلبه في دينه «فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ» عند ربه وأعظم ثوابا له «وَأَنْ تَصُومُوا» أيها المسافرون والمرضى والعجزة مع تجشّمكم مشقة الصيام «خَيْرٌ لَكُمْ» عند ربكم واطمن لقلوبكم وأكثر أجرا من أخذكم بالرخصة «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (184) ما للصائم عند اللّه من الخير الذي هو خارج عن الحصر ، فلو علمتم ذلك لتحملتم المشقة وصمتم براءة لذمتكم على أتم وجه وثلوجة لصدوركم بإزالة ما يحوك فيها من التأثم من الإفطار لأن الإثم حزاز القلوب وترقبا لحصول فرحة الإفطار وفرحة لقاء الملك الجبار.
وليعلم أنه يجوز الأخذ بهذه الأخيرية إذا لم يضر الصوم بالمريض أو المسافر أو العاجز ، فإن ضرّ حرم عليهم الصوم ووجب الإفطار أخذا بالرخصة لصيانة النفس ، إذ لا يجوز الأخذ بالعزيمة على الصيام إلا إذا تحقق القدرة وعدم المضرة ، وإلا بأن علم من نفسه أو من إخبار طبيب أن الصوم يضره تركه حالا ، ولهذا قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إذ صدر الجملة الذي ختم بها الآية (بإن) المفيدة للشك ، أي إن كنتم تعلمون أن صيامكم خير من الإفطار بأن تقدروا عليه دون كلفة ضارة فصوموا ، وإلا فلا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها ، ولا حرج في هذا الدين السمح ، ويشير قوله تعالى عَلى سَفَرٍ) أنه لا يجوز الإفطار إلا لمن أدركه رمضان وهو متلبس بالسفر ، لأن المراد بقوله الآتي (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي حضر رؤية الهلال وهو مقيم ، ولهذا قال علي كرم اللّه وجهه وابن عباس رضي اللّه عنهما ذلك لمن أهل الهلال وهو مسافر.
وأما من أنشأ السفر في رمضان فليس له أن يفطر ، أي إذا خرج من البلد وهو صائم فليس له أن يفطر هذا اليوم الذي أنشأ فيه السفر بعد تلبسه بالصيام ، راجع كتاب الصوم الجزء الثالث ص 91 من مبسوط الإمام السرخسي وهو موافق لظاهر القرآن ، لأن كلمة على سفر غير كلمة مسافر.(5/129)
ج 5 ، ص : 130
ثم بين تلك الأيام التي ذكرنا أنها تحتاج إلى التبيين بقوله جل قوله «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، وهذا من التدريج أحد أنواع البديع إذ لم يذكر نزوله في هذه الآية ليلا أم نهارا ، ثم أنزل قوله تعالى (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أول سورة حم الدخان في ج 2 ولم يذكر أي ليلة هي فأنزل اللّه (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) هكذا ذكر الإمام الغزالي في إحيائه.
على أن نزول سورة القدر قبل نزول حم الدخان ، ونزولهما في مكة ، والآية التي نحن بصددها نزلت في المدينة بعد سنين ، فلا يتجه هذا بحسب النزول ، أما على ترتيب القرآن فلا قول فيه ، تأمل.
ومن كرامة هذا الشهر على اللّه أنه أنزل فيه الكتب السماوية كلها ، روى أبو داود أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : أنزلت صحف إبراهيم لثلاث ليال مضين من رمضان ، وأنزلت توراة موسى لست ليال من رمضان ، وأنزل إنجيل عيسى لثلاث عشرة مضين من رمضان ، وأنزل زبور داود لاثنتي عشرة ليلة من رمضان ، وأنزل القرآن في الرابعة والعشرين لست بقين من رمضان ، وتقدم أنه أنزل في السابعة عشرة أو العشرين منه كما أو ضحناه في المقدمة في بحث نزول القرآن ، فيكون المراد من إنزاله في الرابعة والعشرين هو إنزاله جملة واحدة إلى بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم بدأ بإنزاله على حضرة الرسول في السابعة والعشرين ، راجع المقدمة تقف على أصح ما جاء في هذا ، «هُدىً لِلنَّاسِ» هو نفسه هدى على الإجمال «وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ» على التفصيل للحلال والحرام والحدود والأحكام «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ» وكان حاضرا مقيما غير معذور «فَلْيَصُمْهُ» وجوبا «وَمَنْ كانَ» حين هل الشهر أو قبله «مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ» وجوبا «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» يصومها بدلها حال إقامته وشفائه «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ» أيها الناس «الْيُسْرَ» فيرخص لكم الإفطار في المرض والسفر والعجز «وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» فيشدد عليكم بما لا تقدرون عليه ولا تستطيعونه لأن الدين يسر «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» لأيام الشهر كله أداء وقضاء «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» لصيامه وإكماله ، إذ قدركم عليه «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (185) ربكم الذي(5/130)
ج 5 ، ص : 131
لم يجعل عليكم حرجا في ما شرعه عليكم من الدين وتحمدونه على ما كتب عليكم من فرضه وما جعل لكم من الأجر على قيامكم بما كلفكم به ، وفي هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى صلاة عيد الفطر لأنها تعقب كمال الصيام ، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت : كان يوم عاشوراء لقوم قريش في الجاهلية ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يصوم معهم أيضا ، فلما قدم إلى المدينة صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه.
وما قيل إن قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية منسوخ لا صحة له ، بل هي محكمة بدليل ما روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) قال ابن عباس ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان
أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا ، وقال هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ، ولكن يشق عليه ، رخص له أن يفطره ويفتدي ، وكذلك العجوز ، وإنما جاز لها الفدية لعدم القدرة المستمرة ، أما المريض والنفساء والمسافر فيجب عليهم القضاء عقب زوال عذرهم ، فإن ماتوا ولم تمض مدة يتمكنون فيها من القضاء فلا فدية عليهم ، وإلا فعليهم الفدية من مالهم.
ووقت الصيام قد ذكره اللّه تعالى بأنه بعد رؤية الهلال من رمضان ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، وجاء في حديث آخر : الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأقدروا له ، وفي رواية فأكملوا العدة ثلاثين يوما.
ومعنى أقدروا له أي احسبوا له حسابه ، وفيه إشارة إلى جواز الأخذ بأقوال المنجمين الموقتين ، وعليه قول ابن وهبان في منظومته :
وقول أولي التوقيت ليس بموجب وقيل بل والبعض إن كان يكثر
ومنه يعلم أن الشهر الفلكي غير الشهر الشرعي لأنه قد يولد ولا يرى ، وقد يرى في مكان دون آخر ، ولا خلاف في ذلك لاختلاف المطالع ، ويشترط للصوم الرؤية في المكان الذي أنت فيه أو القريب منه لا الولادة ، والمحل البعيد بالتعبير الشرعي وهو أن يكون غير القطر الذي أنت فيه ، ويختلف القطر بثلاثين مرحلة أي مدة شهر كامل ، ويشترط للرؤية في الصحو جماعة بنسبة أهل البلد ، وفي الغيم(5/131)
ج 5 ، ص : 132
اثنان ، ويجوز أن يصام برؤية عدل واحد ، ولا يجوز الإفطار إلا بعدلين.
هذا والمرض المبيح للفطر مطلق بإطلاق اللّه تعالى ، فإن كان ما به لا يتكلف معه إذا صام صام ، وإذا رأى تكلفا أو خاف زيادة المرض فليفطر ، وكذلك المسافر ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم ليس من امبر الصيام في امسفر حملا على ما يتوقاه الصائم من المشقة.
والسفر المبيح للفطر المجمع عليه ثلاث مراحل مقدرة بثمانية عشرة ساعة ، وهذا ما يطمئن إليه الضمير وتقنع به النفس وينشرح له الصدر ويتصور فيه المشقة ، وهناك أقوال بأقل وأكثر لا يوثق بصحتها ، والآية لا شك مطلقة وإبقاء المطلق على إطلاقه أولى ، إلا أن السفر لا يطلق عادة على مسافة أو ساعة أو ساعتين مثلا من قصد الأمكنة القريبة ، بل يطلق على الأمكنة البعيدة وأقلها ثلاثة أيام ، وقد تعورف هذا ، والعرف له دخل في الأحكام التي لا نص فيها ، حتى ان الإيمان بني على العرف بإجماع الفقهاء وليعلم أن الثلاثة أيام يطرح منها أوقات الراحة والنوم ، ولذلك تطلق المرحلة على اليوم ، وأقل المراحل سفر بريد وهو أربعة فراسخ والفرسخ على أصح الأقوال فيه ساعة ونصف ، لذلك قدرت بست ساعات ، ومن قدره بساعة واحدة واعتبر البريد أربع ساعات واعتبر السفر اليومي على شطرين ، قدّر قبل الظهر أربعة فراسخ وبعده أربعة وجعل مدة السفر مرحلتين أي ست عشرة ساعة ، وعلى هذا مذهب الشافعي ، وعلى الأول أبو حنيفة رحمهما اللّه ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 101 من سورة النساء الآتية عند بحث قصر الصلاة إن شاء اللّه تعالى ، وكررت جملة (مَنْ كانَ مَرِيضاً) للتأكيد ، وقال بعض المفسرين إنما كررت لئلا يتوهم نسخ الأولى بالثانية تبعا لجملة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) لأن ابن عباس أولها بالقادرين على الصوم دون عجز وكبر ، وعليه فالمطيق يفطر ويفدي ، وغير المطيق يفطر ولا يفدي ، فينعدم الصيام ويتعطل ركن من أركان الإسلام وهو لا يجوز قطعا ويتحاشى ابن عباس عنه.
على أن الحديث المار ذكره ينفي هذا التأويل كما علمت ، أما من أوّلها بالعاجزين كما جرينا عليه فلا يقول بالنسخ وهو الأولى واللّه أعلم.
وقدمنا في الآيتين 11/ 17 من سورة سبأ ج 2 والآية 17 من سورة النحل ج 1 ما يتعلق بمعنى البريد والفرسخ وما يتشعب عنهما فراجعها.(5/132)
ج 5 ، ص : 133
أما ما جاء في فضل رمضان فكثير نكتفي منه بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا دخل رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار.
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.
ورويا عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي ، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه.
ولخلوف فم الصائم عند اللّه أطيب من ريح المسك.
والصيام جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب ، فإن شتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم.
ورويا عن سهل ابن سعد قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم إن في الجنة بابا يقال له الريّان يدخل منه الصائمون فيقدمون لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أغلق لئلا يدخل منه أحد (يضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أكثر (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) وفضل اللّه ليس له حد فامثله فليعمل العاملون ، وبه فليتنافس المتنافسون.
وسمي رمضان لا شتقاقه من الرمضاء وهي الحجارة المحماة بالشمس ، ولما نقلوا أسماء الأشهر من السريانية إلى العربية سموها بالأسماء التي وقعت فيها من المواسم ، وقد وافق رمضان أيام الحر فسمّوه به لذلك.
واعلم أنه يجب على من أفطر بسبب مرض أو سفره أو عجز أو حيض أو نفاس أن يمسك عند زوال العذر ، بأن شفي أو أقام أو طهرتا ، وكذلك من فسد صومه بسبب ما وعليهم القضاء جميعا إلا العاجز المار ذكره ، أما الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم أثناء اليوم فعليهما الإمساك لا القضاء ، لأنه لم يكن واجبا عليهما قبل ، والمجنون كذلك ، ومن أراد زيادة التفصيل فعليه بكتب الفقه ، ومن يرد اللّه به خيرا يفقهه في الدين.
«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» منهم قرب مكانة لا قرب مكان ، لأنه لا بعيد عليه «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» وهذا وعد من اللّه تعالى بإجابة دعاء عباده ولا أو فى من اللّه أبدا البتة ، وقد يكون التخلف من العبد لعدم قيامة بشروط الدعاء المطلوبة منه فيه ، واللّه تعالى أهل للإعطاء ، ولكن العبد ليس بأهل للإجابة بسبب عصيانه وطيشه «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»(5/133)
ج 5 ، ص : 134
بالإيمان بي والتصديق لرسلي وكتبي والاعتراف بملائكتي واليوم الآخر إذا أرادوا أن أجيب دعاءهم «وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186) لمصالح دينهم ودنياهم.
وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا كيف يسمع ربنا دعاءنا ، وتزهم يا محمد أن بيننا وبين كل سماء مسافة خمسمائة عام ، وسمك كل سماء كذلك ؟
وقال بعض الأصحاب يا رسول اللّه أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ وقال بعضهم هل يجيب ربنا دعاءنا ، وفي أي وقت ندعوه ؟ فنزلت جوابا للكل.
وقد ذكرنا غير مرة أن لا مانع من تعدد الأسباب.
مطلب الدعاء وشروطه والجمع بين الآيات الثلاث فيه وشروط الإجابة :
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال : لما غزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أو قال توجه لخيبر أشرف على واد ، فرفعوا أصواتهم بالتكبير اللّه أكبر لا إله إلا اللّه ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أيها الناس اربعوا (أرفقوا على أنفسكم) فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا وهو معكم.
ورويا عن أبي هريرة قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له.
واعلم أن هذه الآية وآية (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الآية 10 من سورة المؤمن المارة في ج 2 مطلقة وآية (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) الآية 42 من الأنعام المارة في ج 2 أيضا مقيدة ، والمطلق بحمل على المقيد ، فلا يقال دعوت فلم يستجب لي ، لأن اللّه تعالى يجيب لمن يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله ، والإجابة غير الإعطاء ، وهذا هو وجه الجمع بين الآيات الثلاث ، تدبر.
ومن شروط الإجابة أكل الحلال ، والإنابة إلى اللّه ، والإخلاص له بالعمل ، والاعتقاد بالإجابة ، وعدم التردد ، وأن يكون عند الدعاء خاشعا خاضعا ، وأن يبدأه بحمد اللّه والصلاة على رسوله ، ويختمه بهما ، ويذكر حاجته في الوسط ، فاللّه أكرم من أن يردها ويقبل طرفيها ، وقل أن توجد هذه الشروط في الداعي ، حتى ان بعض العلماء اشترط في الدعاء عدم اللحن ، وقال إن اللّه لا يقبل دعاء ملحونا ، ويفقد هذه الشروط يكون التخلف في الإجابة ، لأن من(5/134)
ج 5 ، ص : 135
لا يتصف بها لا يستحقها.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله دعوت فلم يستجب لي.
ولمسلم :
لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل ، قيل يا رسول اللّه ما الاستعجال ؟ قال يقول دعوت فلم يستجب لي فيستحسر ، أي يستنكف عند ذلك ويدع الدعاء.
ورويا عن أبي هريرة : إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ولكن يعزم المسألة ، فإن اللّه لا مكره له.
زاد البخاري ارزقني إن شئت يعزم المسألة فإن اللّه يفعل ما يشاء لا مكره له.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. - أخرجه الترمذي - وأخرج أبو داود عن سلمان قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا (أي خالية يقال بيت صفر أي ليس فيه شي ء) خاليتين.
وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما على الأرض مسلم يدعو اللّه بدعوة إلا آتاه اللّه إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، فقال رجل من القوم إذا نكثر ، قال ، اللّه أكثر.
أي أكثر إجابة إذا أكثرتم السؤال.
وله عن أبي هريرة : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليس شيء أكرم على اللّه من الدعاء.
وله عن أنس : الدعاء مخ العبادة.
وله عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ، وما سئل اللّه شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية ، وان الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
وله عن سلمان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد العمر إلا البر.
وله عن أبي هريرة أنه قال : من لم يسأل اللّه يغضب عليه.
وقيل في معناه :
لا تسألن بنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
اللّه يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
وله عن خفالة بن عبيد قال : سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال النبي عجل هذا (أي لم يبدأ دعاءه بالحمد للّه والصلاة على رسوله)(5/135)
ج 5 ، ص : 136
ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء.
وقدمنا في الآيتين من الأنعام والمؤمن آنفا ما يتعلق بهذا أيضا فليراجع.
قال تعالى «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ» ملامسة النساء ومباشرتهن ، وهو كناية عن الجماع ، لأن اللّه تعالى يكني عما يستقبح ذكره إشارة أو إيماء أو تعريضا بما يفهم منه المقصود تعليما لعباده ومراعاة للأدب في كل حال ، وهذا الحل خاص «إِلى نِسائِكُمْ» اللاتي استحللتم مقاربتهن بكتاب اللّه تعالى «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» وذلك أن كلّا من الزوجين ستر للآخر عما لا يحل ، كما جاء في الحديث : من تزوج فقد أحرز ثلثى دينه.
ولهذا سمي كل منهما لباسا لصاحبه.
وفي رواية : شطر دينة فليتق اللّه في الشطر الآخر.
وروى البخاري ومسلم عن البراء قال : لما ينزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل اللّه «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي تأتون أهلكم خفية وسمي العاصي هنا خائنا مع أن الخائن هو الذي لا يؤدي الأمانة لأنه لا يؤتمن على دينه ، وقد كان في بداية الإسلام إذا أفطر الرجل حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها ، ثم يحرم عليه كل ذلك إلى الليلة الأخرى ، فوقع أن عمر الفاروق أتى أهله بعد هذا ، فاغتسل وصار يبكي خشية من اللّه تعالى وهو لا تبكيه السيوف والأسنّة ، فلم يقدر على كتم ما وقع منه في ذلك لصلابة دينه وعظيم يقينه ، إلا أن ذكر ذلك لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بحضور جماعة من الأصحاب اعترفوا بعده مثل اعترافه ، وكان بعضهم لا يقرب أهله رمضان كله تحاشيا من الوقوع فيما لا يحل ، قال ابن عباس فكان ذلك أي فعل عمر مما نفع اللّه به الناس ورخص لهم ويسر ، فلما اعترفوا للرسول وتابوا تاب اللّه عليهم وختم اللّه رخصته لهم بقوله «فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ» ما وقع منكم ورفع ذلك عنكم بفضله «فَالْآنَ» أيها المؤمنون جميعكم «بَاشِرُوهُنَّ» في ليالي الصوم وغيرها ، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة الزوج بشرة زوجته «وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» في علمه من الولد ، ولا تقتصروا في الجماع إلى إخراج(5/136)
ج 5 ، ص : 137
الشهوة فقط وصيانة النفس من الوقوع في الحرام ، بل اقصدوا الذرية أيضا ، ثم أحل لهم الأكل والشرب الذي كانوا يعتقدون حرمته بعد العشاء أو النوم فقال جلّ قوله «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» أي بياض النهار من سواد الليل فنسخ اللّه ما كان متعارفا عندهم من أن الصيام من العشاء إلى العشاء لأنهما أكلتان الغداء سقط بالصوم وبقي العشاء فقط ، ثم إن اللّه تعالى تصدق على أمة محمد فشرع لهم السحور بدل الغداء إلا أنه قدم عن وقته فهو من خصائص هذه الأمة.
روى البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وان قيس بن حرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى أهله فقال أعندك طعام ؟ قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل فغلبته عنه فجاءته امرأته (وهو نائم) فقالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلّى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية فصاروا يأكلون ويشربون ويجامعون إلى أن يظهر بياض الفجر الصادق الذي هو كالخيط الأبيض الممتد في الأفق ، أما الفجر الكاذب الذي يكون قبله مرتفعا مستطيلا في السماء لا معترضا بالأفق فليس بمانع من الأكل والشرب والجماع ، فقد روى مسلم عن سمرة بن جندب قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم لا يغرنكم في سحوركم أذان بلال (كان يؤذن بالسحر) ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وبه يحرم على الصائم الأكل والشرب والجماع.
وروى البخاري ومسلم عن سهل ابن سعد قال : لما نزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال (من عوام الصحابة) إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل اللّه بعده (مِنَ الْفَجْرِ) وقد أخرت من هذه الآية لهذا السبب.
وليعلم أن ما ذكرنا من النسخ في هذا آنفا هو باعتبار ما كان عليه الناس في الجاهلية ، وليس بالنسخ الذي يريده من قال به ، لأن النسخ الذي يريده هو إبطال حكم سابق بنص لا حق ، ومن المعلوم أن اللّه تعالى لم ينزل علينا في كتابه هذا حرمة الجماع والأكل والشرب على الصائمين بعد(5/137)
ج 5 ، ص : 138
العشاء أو في الليل حتى يقال إنه نسخ بهذه الآية ، وعليه فلا معنى للنسخ ولا القول به هنا البتة كما هو الحال في الكعبة ، لأن اللّه تعالى لم يأمرنا باستقبال البيت المقدس قبلا حتى يقال إنه نسخ استقباله بالأمر باستقبال الكعبة «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ» أيها الصائمون بعد غياب الشمس من المحل الذي أنتم فيه لأنها قد تكون طالعة في غيره بسبب ارتفاع حدبة الأرض ، فهي دائما طالعة عند أناس ، غائبة عند آخرين ، وما جاء أن الأرض مفروشة أو مبسوطة أو ممهدة أو ممدودة من كل ما يدل على استوائها من الآيات فهو بالنظر لما نراه لا بالنسبة لما هي عليه من التكوين الإلهي ، فالنملة لا شك ترى البيضة مستوية مبسوطة بالنسبة لصغرها وعظم البيضة ، فنحن أصغر من النملة بالنسبة للأرض بملايين الكرات.
هذا ، ومن قال إن المراد بالليل طلوع النجم قول غير وجيه ينافيه معنى الغاية ، وما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ، أي جاز له الفطر.
والتصريح بقوله وغربت كاف في الدلالة على عدم صحة قول من فسر الليل بطلوع النجم ، لأن السنة مفسرة لكلام اللّه تعالى ، ولأن أول الشيء عينه ، وغياب الشمس أول الليل ، وعلى الصائم أن يحتاط لئلا يخطئ في الإفطار فيضيع صيامه ، كما عليه أن يحفظ جوارحه من الآثام الظاهرة والباطنة كي ينال أجره تماما ، قال أحمد عبيده :
تصوم عن الطعام ولا تبالي بصوم الطرف واليد واللسان
وان لكل جارحة صياما جزيل الأجر موصول الزمان
«وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ» أي النساء «وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» لا ليلا ولا نهارا سواء كان في رمضان أو غيره صيّاما كنتم أو مفطرين ، وقد أنزل اللّه تعالى هذه الجملة لئلا يتوهم أن حكم الاعتكاف كحكم الصوم يحرم نهارا على الصائم ، ويحل ليلا ، بل يحرم الجماع في الاعتكاف ليلا ونهارا ، وذلك أن المعتكفين يخرجون من المسجد ليأتوا أهلهم ثمّ يغتسلون ويرجعون إليه.
والحكم الشرعي في الاعتكاف هو سنة مطلقا ، وسنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان ، (5/138)
ج 5 ، ص : 139
وهو الإقامة في المسجد على عبادة اللّه تعالى ، فإذا جلس يذكر اللّه تعالى في المسجد فهو معتكف ، ولا يصح خارج المسجد ، ولا يشترط له الصوم إلا أن الأفضل أن يكون صائما ، وليس له زمان محدود فيصح ولو دقيقة واحدة ، ويفسده الجماع ، ويكره فيه القبلة ونحوها ، ولا بأس في خروجه من المسجد لحاجته.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان.
ولعمري لقد كان السلف الصالح يعتكفون فيه جماعات ووحدانا فلا تجد مسجدا إلا وفيه المعتكفون عاكفين على ذكر اللّه ، ويا للأسف لا تجد الآن إلا ما ندر ممن بشار إليهم بالبنان ، وإن من لا خلاق له في الآخرة قد ينتقدونهم على ذلك ، فلا حول ولا قوة إلا باللّه «تِلْكَ» الأحكام المبينة في الصوم والاعتكاف هي «حُدُودُ اللَّهِ» التي حذر قربانها ومنع من مخالفتها «فَلا تَقْرَبُوها» يا عباد اللّه ، وهذا مبالغة في النهي عن إتيانها ، لأنه إذا كان قربانها ممنوعا فكيف بفعلها حذار حذار عباد اللّه من ذلك.
قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) الآية 14 من سورة النساء الآتية ، وهناك آيات أخر في هذا المعنى تحذر من قربان حدود اللّه والتعدي عليها فلا تعتدوها أيها الناس.
واعلم أن التوفيق بين القربان والاعتداء هو أن الأحكام منها ما هو محظور ومنها ما هو مباح وأقربها لهذه الآية (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) ففيها تحريم الجماع في الاعتكاف مطلقا ، وفي الآية قبلها (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) النص على تحريم الأكل والشرب والجماع في النهار ، ولما كان الأقرب فيها جانب التحريم قال (فَلا تَقْرَبُوها) وإن من كان في طاعة اللّه فهو في حيز الحق فنهى أن يتعداه لئلا يقع في حيز الباطل فنهى عن أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يقع في الباطل فهو كقوله صلّى اللّه عليه وسلم في حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور ، إلى أن قال : كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
فنهى صلّى اللّه عليه وسلم في هذا الحديث عن قربان الأمور المشتبهة حذرا من أن يقع في الحرام وحدود اللّه تعالى محارمه ومناهيه ، فعليكم أيها الناس التباعد عنها لئلا تقعوا فيما ينهاكم عنه فتهلكوا «كَذلِكَ» مثل ما بين لكم تلك الأحكام «يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ» الدالة على معالم دينه وشعائر(5/139)
ج 5 ، ص : 140
شريعته وبراهين توحيده بيانا شافيا «لِلنَّاسِ» أجمع «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (187) ما حرم عليهم فيثابون بمجرد الامتثال.
مطلب أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى :
قال تعالى «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ» ظلما بشهادة زور أو حلف يمين كاذبة «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (188) أنكم مبطلون في ذلك ، كان ادعى لدى حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ربيعة بن عدوان الحضرمي في أرض على امرئ القيس بن عابس الكندي ، فقال له ألك بينة ؟ قال لا ، قال فك يمينه ، فانطلق ليحلف ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أما إن حلف على ما له ليأكله ظلما ليلقين اللّه وهو عنه معرض ، فأنزل اللّه هذه الآية.
وفي رواية تلا عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا) الآية 75 من آل عمران الآتية ، فارتدع عن اليمين وسلم الأرض له.
ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة آنفا ، والآية 28 من سورة النساء الآتية أيضا.
الحكم الشرعي : يحرم قطعا أكل مال الغير بغير حله ويستوجب فاعله العقاب سواء أكله غصبا أو قمارا أو بثمن خمر أو خنزير أو أجرة مغبنة أو رشوة ، أو بأن يشهد زورا ، أو كان أمانة فكتمها ، أو وديعة فجحدها ، أو غير ذلك.
روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سمع جلبة (صوتا عاليا) خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصم منكم فلعلّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض.
وفي رواية ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها.
فيفهم من هذا أن قضاء القاضي لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا لأنه يحكم بما يظهر له من الدعوى والشهادة لا بعلمه ولا بمجرد الدعوى ، وكان القاضي شريح يفهم المحكوم له ويقول له إني لأظنك ظالما ، ولكن لا يعني إلا أن أقضي بما حضرني من البينة ، ألا فليحذر المدعون من ادعاء الباطل ومن إقامة شهود الزور لأخذ مال الغير ظلما بالقضاء ، وليحذر المدعى عليهم من الإقدام على الحلف كاذبا(5/140)
ج 5 ، ص : 141
لهضم حق الغير الذي لا شاهد له إلا اللّه مع كونه عالما بأنه مدين له ، فهي يمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار ، وهذا كلّه من معاني الإدلاء بالباطل إلى الحكام ، أي النسبة إلى حكمهم ، فهم لا يسألون عن أحكامهم إذا كانت موافقة لظاهر الشرع ، وإنما يسأل المبطل ، لأن الحاكم العدل ملزم بأن يحكم بالظاهر ، واللّه تعالى يتولى السرائر ، ولا تنطبق هذه الآية عليهم إلا في حال أخذ الرشوة ، لأن فيها يكون الإدلاء إليهم ، أجارنا اللّه ووقانا.
روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها ، فأبت فادعى عند علي كرم اللّه وجهه أنه زوجها وأقام البينة ، فقالت المرأة لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح ، فقال كرم اللّه وجهه قد زوجك الشاهدان وقد طلبت رحمها اللّه إجراء العقد بعد أن رأت الحكم عليها بالزوجية زورا لشدة تمسكها بدينها لتكون زوجة له بالوجه الشرعي ، لأنها تزعم أن شهادة الزور لا تكفي ، فأخبرها كرم اللّه وجهه أن شهادتهما بزوجيتها له كافية ، وليس عليها إثم بمطاوعتها له ، وإنما الإثم عليه وعلى الشهود ، ولهذا ذهب أبو حنيفة رحمه اللّه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ به من العقود فهو نافذ ظاهرا وباطنا ، ويكون كعقد عقداه بينهما ، وإن كان الشهود زورا.
وذهب فيمن ادعى حقا في يد رجل وأقام بينة تقتضي أنه له ، وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح أخذه له ، وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه ، وحمل الحديث على ذلك ، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه ، لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع ، وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه ، لأن الإمام الأعظم رضي اللّه عنه وأرضاه يقول بذلك ، ولكن فيما سمعت ، وإذا أردت تفصيل هذه القضية فارجع إلى كتاب أدب القاضي تر فيه ما تقنع به.
قال تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ» ما سبب زيادتها ونقصها وكبرها وصغرها «قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» أي لصومهم وإفطارهم وآجال ديونهم وإجارتهم ونذورهم والحيض والنفاس ومدة العدة والحمل وزمن الحج ووقته وغير ذلك ، وهذا خلاف السؤال وهو من أنواع البديع في المخاطبات ، لأنه تلقي السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تبينها على أنه الأولى له(5/141)
ج 5 ، ص : 142
والأليق لحاله مما يتطلبه من اختلاف حال الهلال ، وقد أفرد ، تعالى الحج بالذكر مع أنه داخل في المواقيت ، لأن العرب كانت تؤخر بعض الأشهر أحيانا كما أخبر اللّه عنهم بقوله (إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية 39 من التوبة الآتية ، كان معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري سألا حضرة الرسول عن مبدأ الهلال يكون رفيعا ثم يزداد تدريجيا حتى يمتلىء نورا ، ثم يتناقص كذلك حتى يعود كما بدأ ، وقالوا له إن اليهود يسألوننا كثيرا عن هذا ، وإن سؤال اليهود أصحاب الرسول بمثابة السؤال منه ، لذلك جاء بضمير الجمع ، فإن سؤالهم كان السبب والعلة ، فأجابهم اللّه عن الغاية والحكمة لتعلقها بمعاملتهم ، ومنه يفهم جواز إعطاء الجواب على خلاف السؤال نظرا للمصلحة ، ويسمى أسلوب الحكيم ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك لتماسه بحاجتهم ، لأن بيان سبب كبره وصغره وعلة ذلك بسبب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس بعدا وقربا لا علاقة له بشيء من منافعهم ، ولأن الأصحاب لا يعلمون علم الهيئة الموقوف معرفته على المكبرات والأرصاد والأدلة الفلسفية ولم يعتنوا به لعدم حاجتهم إليه في أمر الدين ، ولو أن حضرة الرسول بين لهم ذلك فلعلهم لا يدركونه لا حتياجه لدقة فكر وبعد نظر في المعنى وتأمل بعيد ، وعدم علمهم بذلك لا ينقص من قدرهم لأن علم الهيئة مبني على أمور لم تثبت بصورة جازمة ، وما صنف بها من الكتب من قبل الفلاسفة وغيرهم ، مبني على الظن
والتخمين والحسبان ، ولذلك تجد أكثر أقوالهم متضاربة سواء الأولون والآخرون منهم ، على أنه لا بأس يأخذ أقوالهم مما لا يخالف صراحة القرآن والسنة بالتأويل والتوفيق.
هذا ، ولما بين اللّه تعالى لعباده ما يتعلق بالصيام وحل الأكل والجماع وتحريم أكل مال الغير بغير وجه شرعي مما كان معتادا في الجاهلية وفوائد تغير الأهلة بين لهم نوعا آخر كان متعارفا عندهم ويزعمون أن فيه قربة بأنه ليس بقربة لقوله عز قوله «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (189) روى البخاري ومسلم عن البراء قال : نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت ، فجاء رجل من الأنصار فدخل(5/142)
ج 5 ، ص : 143
من قبل بابه فكأنه عيّر بذلك ، فنزلت.
وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها ، فنزلت.
أي أن هذه العادة المتخذة قديما قبل الإسلام ليست من البر في شيء ، وأن البرّ هو تقوى اللّه التي فيها الفوز والنجاة والأجر والثواب.
قال تعالى «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ»
أي يبدأونكم بالقتال ولا تبدأوهم أنتم بالقتال ، ولهذا قال تعالى «وَلا تَعْتَدُوا» بأن تقاتلوهم توا أو تقاتلوا غيرهم أو أولادهم وشيوخهم ونساءهم ورهبانهم والمستسلمين منهم لما فيه من الاعتداء المبغوض «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (190) على أنفسهم وعلى غيرهم ، كان الرسول في بداية الإسلام وإلى حد نزول هذه الآية منهيا عن القتال ومأمورا بمعاملتهم بالرفق واللين ليؤمن مؤمنهم ويصرّ كافرهم ، ولما اضطروه إلى الهجرة واستقر به الحال في المدينة واجتمع عليه أصحابه ومن آمن من غيرهم ، أمره جل شأنه بقتال من بدأه بالقتال أو من تحدّاه به مقابلة لا عداء ولا انتقاما ، بقصد إعلاء كلمة اللّه تعالى وإظهار عزّة المؤمنين.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل اللّه ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم من قاتل حتى تكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه.
أي أن كل ذلك المسئول عنه غير مطلوب ولا هو في سبيل اللّه ، بل هو لإظهار الشجاعة.
وليقال إنه يقاتل ويناضل ، وهذه الآية محكمة لأن معناها قاتلوا الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم لا غير ممن ذكر أولا ومما سيأتي ذكره في الحديث الثاني.
وهذه أول آية نزلت في القتال بعد الآية 39 من سورة الحج الآتية ، لأنها نزلت قبل هذه ، فراجعها تعلم السبب في ذلك ، وبعدها وقعت غزوة بدر الأولى في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة.
روى مسلم عن بريدة قال : كأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو صرية أوصاه في خاصته بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال له اغزوا باللّه في سبيل اللّه قاتلوا من كفر باللّه اغزوا ولا تغلوا (لا تخفوا شيئا من الغنائم) ولا تعتدوا (أي لا تقتلوا الشيوخ والمرضى والعجزى لأنهم لا يقاتلون) ولا تمثلوا (بأن تقطعوا آذان القتلى أو مذاكيرهم أو أنوفهم أو تشقوا بطونهم أو غير ذلك(5/143)
ج 5 ، ص : 144
مما يعد مثلة بنظر الناس) ولا تقتلوا وليدا.
أي لأنه لا يقاتل ، وهكذا النساء إذا كن لا يقاتلن فلا يجوز قتلهن.
وقال بعض المفسرين إن هذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية ، وعلله بأن الأصحاب خافت أن لا تفي قريش بالمعاهدة وكرهوا أن يقاتلوهم إذا صدوهم عن المسجد الحرام أو الحرم ليرفع عنهم الحرج إذا بدءوهم بالقتال ، لكنه بعيد ، لأن صلح الحديبية وقع في السنة السادسة ، وهذه في السنة الثانية ، إلا أنه لا مانع من تطبيق حكمها عليها ، إذ يجوز أن تكون آية واحدة لأسباب كثيرة كما مر غير مرة.
قال تعالى «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» أي في أي مكان وجدتموهم وأدركتموهم ، وذلك إذا لم ينجع معهم معاملة الرسول لهم باللطف وبدأوكم بالتعرض سواء قاتلوكم أم لا ، لأن إقسارهم إياكم على الهجرة يعد تعرضا لقتالكم «وَأَخْرِجُوهُمْ» من ديارهم «مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ» من دياركم لأنهم كافرون مفتونون في دينهم «وَالْفِتْنَةُ» أي الشرك باللّه ، وإنما سمي فتنة لأن فيه فساد الأرض ، ولأنه يؤدي إلى الظلم وجميع الشرور ، لذلك عدّت «أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» أي أن قتلكم إياهم دون الكفر الذي هم عليه ، لأنه مما يوجب التخليد بالنار ، والقتل دون استحلال لا يوجب ذلك ، والكفر يخرج صاحبه من الأمة ، والقتل لا يخرجه ، فثبت أن الفتنة التي هي الشرك باللّه والكفر به أشد من القتل «وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ» لما كان مبدأ هذه الآية عام استثنى اللّه تعالى منه المقاتلة في المسجد الحرام بشرط أن لا يبدءوهم بالقتال فيه «فَإِنْ قاتَلُوكُمْ» فيه فقد زال الحرج عنكم «فَاقْتُلُوهُمْ» فيه أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء «جَزاءُ الْكافِرِينَ» (191) لأن الجزاء من جنس العمل ، ولأن الشر بالشر والبادي أظلم.
وقال بعض المفسرين إن الفتنة هنا بمعنى الإخراج من الوطن لأنه أعظم المحن التي يفتتن بها الإنسان وهو أصعب من القتل على النفس لدوام تعبه وبقاء ألمه ، وهو وجيه ، لكن ما جرينا عليه أوجه ، لأن الغربة مهما كانت شاقة على النفس فهي دون القتل الذي فيه عدم الإنسان فضلا عن بقاء أمل الرجوع إليه.
وهذه الآية تشير إلى حادثة الحديبية وهي التي ثبطت عزم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وصمم على(5/144)
ج 5 ، ص : 145
قتالهم فيها ، وبقي هو وأصحابه عازمين جازمين على القتال حتى وقع الصلح بينهم ، وهي من قبيل الإخبار بالغيب لأنها نزلت قبل واقعة الحديبية بأربع سنين ، ولولاها لما قال صلّى اللّه عليه وسلم ما قاله في قصة الحديبية الآتية في سورة الممتحنة ، وحرض أصحابه على قتالهم عند منعهم لعلهم عدم جواز القتال في المسجد وحرمته في زمن الجاهلية ، ولهذا قال بعضهم إنها نزلت في صلح الحديبية ، وفي نقضهم هذا الصلح وتعرضهم لأصحاب الرسول.
وهذه الآية محكمة أيضا ، لأنها تأمر بعدم حل القتال في المسجد إلا لمن قاتل فيه ، ولا سند لمن قال بنسخها ونسخ التي قبلها.
قال تعالى «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن القتال وتركوا الشرك وآمنوا «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سلف منهم «رَحِيمٌ» (192) بعباده الذين تابوا وأتابوا إليه بعد عتوهم وعنادهم ، ومن رحمته عدم تعجيل عقوبتهم لهذه الغاية.
ولما رأى حضرة الرسول أن إمهال المشركين والعفو عنهم واللطف بهم لا يزيدهم إلا كفرا وبغيا وطغيانا طلب من غير طلب أن لا يرضى من مثلهم إلا الإسلام أو القتل ، وكان هذا التمني الذي خطر على قلب الرسول مما هو ثابت في علم اللّه ومقدر نزوله عليه أنزل اللّه تعالى «وَقاتِلُوهُمْ» أي المشركين ، لأن أهل الكتاب عصمهم دينهم وكتابهم الذي فيه شرائع وأحكام إلهية يرجعون إليها وان غيروا أو بدّلوا بعضه ، فأمهلهم اللّه تعالى حرمة لكتابهم وما تمسكوا به من الدين ، إلا أنه تعالى إذلالا لهم أمر أخيرا بأخذ الجزية منهم كما سيأتي بعد لعلهم يتدبرون ما في كتبهم من الحق فيتبعونه ويؤمنون بمحمد والقرآن «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي أديموا قتالهم واستمروا عليه إلى أن لا يبقى شرك على وجه الأرض ، لأن المشركين كفرة لا كتاب لهم كي يؤمل فيهم الرجوع إليه ، ولأن بقاءهم على الشرك يزيد في طغيانهم وبغيهم وضررهم على المؤمنين ، لأنهم مهما تركوا لا يرجى منهم الرجوع إلى الحق ، إذ لا دين لهم يسوقهم على سلوك سبل الرشد ، لذلك عليكم بهم حتى يمحو نور الإيمان ظلمة الشرك «وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ» وحده فلا يعبد من دونه شيء «فَإِنِ انْتَهَوْا» عما هم عليه وأسلموا للّه وآمنوا برسوله وكتابه «فَلا عُدْوانَ» عليهم(5/145)
ج 5 ، ص : 146
إذ لا يكون العدوان «إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (193) منهم المصرين على كفرهم والذين تابوا وآمنوا فلا سبيل لكم عليهم لأنهم صاروا مثلكم.
وهذه الآية محكمة أيضا لأنها في حكم آخر أشمل من الأول كما أن الأول أشمل مما قبله ، ولهذا قال بعض المفسرين إن الأولى منسوخة بالثانية ، والثانية منسوخة بآية (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والثالثة هذه منسوخة بآية السيف الآتية ، وهو قول ضعيف لا يعول عليه ، لأن النسخ رفع الحكم ، وهذه الآيات الثلاث حكمهن باق فلا معنى للقول بالنسخ ، وغاية ما في الأمر أن يقال آية مطلقة وأخرى مقيدة ، والقيد يخصص الشيء ولا يرفع حكمه ، وإذا راجعت ما قدمناه في المقدمة والآية 107 المارة علمت أن لا ناسخ في كتاب اللّه هذا الناسخ لما قبله ، ومن البعيد على الحكيم أن يتابع آيات تكون كل منها ناسخة الأخرى.
قال تعالى «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ» لما كانت الجاهلية تحترم الأشهر الحرم فلا تقاتل فيها ولا تنتقم ممن قاتلها إذا وجدته فيها وقدرت على قتله أيضا تأثما ، وبقيت هذه العادة مطردة عندهم إلى نزول هذه الآيات الثلاث دون أن يخرمها أحد ، وقد أباح اللّه تعالى لهم قتال المشركين فيها خلافا لما كانوا عليه وآباؤهم من قبل ، فلأجل أن لا يتأثموا من ذلك أنزل اللّه تعالى هذه الآية كالتفسير للآيات قبلها ، أي إذا قاتلوكم بالشهر الحرام فلا تتأثموا من قتالهم فيه بل قاتلوهم فيه أيضا ، لأن العداء يرد بمثله بأي مكان كان حرمة للنفس والمال.
وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في عمرة القضاء لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضوان اللّه عليهم خرجوا في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصدهم المشركون ووقع الصلح المشهور بالحديبية ، ولما عاد في سنة سبع هو وأصحابه لقضاء تلك العمرة في شهر ذي القعدة أيضا أباح اللّه لهم في هذه الآية مقاتلتهم فيه إذا هم قاتلوهم كما قاتلوهم سنة ست وصدوهم عن البيت على أنه لم تقع مقاتلة بينهم ، بل
وقع تلاحي وهو عبارة عن أخذ ورد وتهديد ووعيد في القتال ومنع من دخول مكة وشذوذ في المكالمة مما يؤدي إلى المقاتلة ، وعلى فرض مقاتلتهم فقد أخبرهم اللّه تعالى في الآية الأولى بقوله (فقاتلوا الذين يقاتلونكم» لذلك فإن ما جرينا عليه أولى ، ولأن عمرة القضاء هذه لم تكن عند نزول هذه الآية كما علمت من تاريخها.(5/146)
ج 5 ، ص : 147
مطلب المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل اللّه والإحسان :
ثم قال تعالى «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» مساواة ومماثلة كما فسر بقوله «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ» بقتال أو غيره «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» قابلوه بالاعتداء سواسية على حد قوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الآية 40 من الشورى في ج 2 ، ولهذا سماء اعتداء «بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» فإن زدتم عليه فقد ظلمتم ، وإن نقصتم فقد عفوتم وصفحتم ، ولأن يخطىء الإنسان بالعفو أحسن من أن يخطىء في القصاص ، لأنه إذا جاوز استيفاء حقه فقد ظلم كما أن الخطأ في التبرئة خير من الخطأ في الحكم لأنه مما يوجب التوفي منه والابتعاد عنه «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس من مجاوزة حقوقكم إلى ظلم الغير «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (194) الذين يراعون في أمورهم حدود اللّه وحقوق الناس ، ولا يتعدون في الانتقام فهؤلاء يكونون في حراسة اللّه تعالى وهو يصلح شأنهم بالنصر والتمكين ، وإنما جمع الحرمات لأن القتال قد يجتمع فيه حرمات ثلاث حرمة الشهر إذا كان من الأشهر الحرم وحرمة البلد إذا كان في مكة وحرمة المتقاتلين إذا كانوا محرمين ، أي إذا قاتلوكم في إحدى هذه الحالات الثلاث ، أو حال اجتماعها ، فقاتلوهم أنتم أيضا ، لأن مقاتلتكم قصاص لمقاتلتهم ، ولا إثم عليكم في ذلك.
هذا ، ولما أمر اللّه تعالى بالجهاد وكان أهم لوازمه المال أنزل اللّه جل شأنه «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي الجهاد والإنفاق صرف المال في وجوه البر ، وأحسن أنواعه الجهاد ولا سيما عند الحاجة مثل ذلك الوقت ، والذي يخصص المراد بهذا الإنفاق للجهاد مجيء هذه الآية بعد ذكره ، على أنه مطلوب في الجهاد وغيره ، ولكنه في الجهاد وزمن الحاجة أفضل وأكثر أجرا.
والمراد بقوله جل قوله «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» التي هي التمسك بالأموال وترك الغزو في سبيل اللّه وعدم معاونة الغزاة بالمال لأنه يسبب تسلط العدو عليكم وإهلاككم.
روى البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا واحتسابا باللّه وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات.
وأخرج الترمذي والنسائي عن خزيم بن فانك قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من أنفق(5/147)
ج 5 ، ص : 148
نفقة في سبيل اللّه كتب له سبعمئة ضعف.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق وروى البخاري عن حذيفة قال : أنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
قال نزلت في النفقة ، أي لا تمسكوا عن الإنفاق خوف الفقر فتقولوا إن أنفقنا يذهب مالنا ونهلك ، بل أنفقوا «وَأَحْسِنُوا» في الإنفاق والجهاد وغيره ولا تسرفوا بالنفقة ولا تبخلوا فتقتروا فيها على أنفسكم ومن تلزمكم نفقته الأقرب فالأقرب ، لأنه صلة ونفقة وصدقة ، ثم الأبعد فالأبعد عن طيب نفس وانشراح صدر ، وهذا هو معنى الإحسان بالنفقة «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 195» ويزيدهم من فضله ويثيبهم على إحسانهم.
روى سلمة عن أسلم بن عمران قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفّا عظيما من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس سبحان اللّه يلقي بنفسه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال أيها الناس إنكم تؤولون هذه الاية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا أعزّ اللّه الإسلام وكثر ناصروه ، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت ، وإن اللّه قد أعزّ الإسلام وكثر ناصريه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل اللّه على نبيه هذه الآية يردّ علينا ما قلنا ، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل اللّه حتى دفن بأرض الروم في أصل صور قسطنطينة ، فهم يتبركون في قبره فيزورونه احتراما ، ويستشفعون به إلى اللّه في حوائجهم ويستسقون به حتى الآن ، رحمه اللّه رحمة واسعة.
قال تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» بأن تأتوا بجميع أركانها وشروطها وواجباتها وسننها ومندوباتها وتجتنبوا مكروهاتها وتبدءوها بالمال الحلال والنيّة الخالصة ، وتختموها بالعزم على اجتناب ما نهى اللّه عنه وتكملوها «لِلَّهِ» وحده لا لسمعة ولا لرياء ولا لتجارة محضة.
واعلم أن أركان الحج خمسة : الإحرام من المحل المعروف كرابغ والجحفة مثلا ، والوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة جزءا من النهار وجزءا(5/148)
ج 5 ، ص : 149
من ليلة النحر ، والطواف بالبيت للزيارة ، والسعي بين الصفا والمروة ، وحلق الرأس أو تقصيره.
وأركان العمرة أربعة : الإحرام ، والطواف ، والسعي ، والحلق أو التقصير ، وبهذه يتم كل من الحج والعمرة إذا لم يعقكم عائق «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ» ومنعتم من قبل عدو أو وحش أو حبس أو مرض أو عرضت لكم حاجة لا غنى لكم عنها تمنعكم من الحج أو من إكماله أو نفدت نفقتكم أو ضاعت ولم تجدوا من تستدينون منه فتحللتم من حجكم وعمرتكم «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليكم وهو شاة لأن أعلى الهدي بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاة يذبحها في المحل الذي أحصر فيه ، لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية فيها ، ولما أخرج البخاري عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وحلق رأسه هناك.
وقال أبو حنيفة :
يبعث بالهدي إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك على وقت مخصوص ، حتى إذا غلب ظنه على وصوله يحل في ذلك استدلالا بقوله تعالى «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» الذي يجب أن يذبح فيه عادة.
وقال الشافعي وأحمد ومالك : يذبحه حيث أحصر مستدلين بما تقدم.
وهذا إرشاد من اللّه تعالى إلى عباده لتدارك ما قد يعتريهم من العوارض المتوقعة المخلة بالحج ، ومنها ما جاء في قوله «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً» وهذا بيان حكم الإخلال بنوع آخر غير الإحصار كجراح وبالأخرى كل ما يتوجع منه بدليل قوله «أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ» كصداع ودوخة أو قمل وغيره واحتاج إلى الحلق حال الإحرام فحلق رأسه «فَفِدْيَةٌ» عليه جزاء ذلك «مِنْ صِيامٍ» أقله ثلاثة أيام «أَوْ صَدَقَةٍ» أقلها إطعام عشرة مساكين كل واحد نصف صاع «أَوْ نُسُكٍ» ذبيحة أقله شاة ، وأو هنا للتخيير فيفعل أيها شاء وهو الفدية التي يريدها اللّه تعالى وكل هدي أو إطعام يلزم المحرم فهو لمساكين الحرم إلا هدي المحصر فلأهل المحل الذي أحصر فيه على أحد القولين المتقدمين ، روى البخاري ، ومسلم عن كعب بن عجرة قال :
أتى عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي ، فقال أيؤذيك هوام رأسك ؟ قال قلت نعم يا رسول اللّه ، قال فاحلق وصم ثلاثة(5/149)
ج 5 ، ص : 150
أيام وأطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة ، لا أدري بأي ذلك بدأ.
وفي رواية قال فيّ نزلت هذه الآية «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم وبرئتم من مرضكم وزال مانعكم من الإحصار الذي عاقكم «فَمَنْ تَمَتَّعَ» انتفع بالتقرب إلى اللّه تعالى «بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ» أي قبل انتفاعه بتقربه بالحج في أشهره أو من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج مجددا.
وهذا حكم آخر لغير المحصور إذا أراد التمتع وهو الإحرام أولا بالعمرة ، وبعد أن يكملها يتحلل ثم يحرم بالحج «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليه أي شاة ، ويسمى هذا الهدي هدي المتعة «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» هديا يذبحه لضيق ذات يده «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» عليه «فِي الْحَجِّ» في وقته وأشهره بين إحرام العمرة وإحرام الحج ، والأحب أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة ، وإن شاء فرقها ، ولا يصح صوم يوم النحر ولا أيام التشريق «وَسَبْعَةٍ» أيام عليه أيضا «إِذا رَجَعْتُمْ» نفرتم وفرغتم من أعمال الحج.
ولما كان النفر أو الفراغ سببا للرجوع أطلق الرجوع عليها على طريق إطلاق المسبب وإرادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ ، وله أن يصوما بعد الرجوع إلى أهله «تِلْكَ» الثلاثة أيام والسبعة «عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» قائمة مقام الهدي الذي لزمكم ذبحه بسبب تحليلكم الإحرام بين العمرة والحج «ذلِكَ» الحكم الذي بيّن خاصّ «لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» لأن أهله وأهل مكة وما يشتمل عليها من المواقيت إذا تمتعوا أو قرنوا فلا هدي عليهم ، لأنهم لا يجب عليهم الإحرام من الميقات كسائر أهل المدن الأخرى ، لهذا فإن إقدامهم على التمتع لا يوجب خلال في حجهم ، بل هذا على أهل الأرياف والبلاد الخارجة عن حدود الحرم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه في الحج وغيره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 196» على من تهاون بحدوده وخالف أوامره ، ومن علم أنه كذلك صده علمه عن كل ما نهى اللّه عنه ، وقد جاء لفظ الجلالة مع اكتفاء الإشارة إليه بالضمير لتقدم ذكره ، لإدخال الروعة على من تحدثه نفسه بالمخالفة ، ولتربية المهابة في قلب غيره ، ولإلهاب قلوب الطائعين للإخلاص بطاعته.
قال تعالى «الْحَجُّ(5/150)
ج 5 ، ص : 151
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ»
مبدؤها شوال وذو القعدة ، ومنتهاها اليوم العاشر من ذي الحجة ، وكماله الثالث عشر منه ، وجمعت الأشهر ، مع أن أقل الجمع ثلاث ، وهنا شهران وبعض الثالث ، لأن الشهر الذي أوله من أشهر الحج فآخره كذلك ، لأن الحاج لا يرجع إلى أهله قبل نهايته غالبا لاشتغاله بالزيارة ، أو لأن اسم الجمع يطلق على ما وراء الواحد ، قال تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الآية 5 من سورة التحريم الآتية ، وقال تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 46 من سورة النمل في ج 1 وفيهما ما يرشدك لمثله ، على أن السفر سيكون بالطائرات المحدثة ، وعليه قد يكون الحج والزيارة بأسبوع واحد ، واللّه أعلم.
وجاء في الآية الأولى (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي الأهلة بلفظ عام ، وهذه الآية بلفظ خاص ، والخاص مقدم ومفسر له ، وتفيد هذه الجملة أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر المذكورة ، لأن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح ، فالخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها قائمة مقام الركعتين من الظهر حكما ، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة قبل وقته أولى ، ولأن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقته ، فلأن لا ينعقد قبل الوقت أولى ، لأن البقاء أسهل من الابتداء ، ولا يرد قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) هنا ، لأن هذه الآية أخصّ منها ، تدبر.
واعلم أن اللّه تعالى فرض الحج على هذه الأمة دون غيرها واختلف في زمن فرضه والصحيح أنه سنة ست من الهجرة كما ذكره الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح.
مطلب في المحافظة على الأدب في الحج ولزوم التقوى فيه وجواز البيع والشراء في الموسم ودوام ذكر اللّه تعالى :
هذا ، وما قاله تعالى «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ» بأن ألزم نفسه به بالنية والإحرام لزمه الحج ، أما إذا فرض على نفسه الحج في غيرها بأن نوى أو أحرم فلا يلزمه ، لأنه في غير وقته ، ومن ألزم نفسه الحج فيها «فَلا رَفَثَ» أي يجب عليه أن لا يرفث ، وهو هنا كناية عن ذكر الجماع ودواعيه في محضر النساء «وَلا فُسُوقَ» أي خروج عن طاعة اللّه فيدخل النهى في هذه الكلمة عن جميع المعاصي(5/151)
ج 5 ، ص : 152
«وَلا جِدالَ» مخاصمة مطلقة في قليل أو كثير بسبب وبلا سبب لإطلاق النهي عنها «فِي الْحَجِّ» في زمنه كله ومكانه جميعه ، لأن الذنوب تضاعف هناك ، كما أن الحسنات تضاعف أيضا لما ورد أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.
«وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ويثيبكم عليه وفي هذه الجملة حث الحاج على عمل الخير وتحذير شديد من فعل الشر ، وفيها إرشاد إلى البر والوفاق والآداب الحسنة والأخلاق العالية ، وإيماء بملاطفة الغير ولين الجانب ، وإشارة إلى اجتناب جميع ما يعد شيئا ، والإقدام على سائر ما يعد حسنا ورمز عن التباعد عن كل ما لا يرضى اللّه به ، وفعل ما رغّب فيه ، بدلالة قوله «وَتَزَوَّدُوا» عباد اللّه من أعمال الخير والأفعال الصالحة ومن النفقة أيضا لإطعام المحتاجين والبائسين والتصدق على الفقراء والمساكين ، واحذروا أن تقصروا في حمل النفقة لأنفسكم على الأقل بما يكفيكم لذهابكم وإيابكم لئلا تكونوا عالة على غيركم ، لأن اللّه لم يكلّف غير المستطيع إلى زيارة حرمه ، وكما يطلب التزود من الحاج في الزاد يطلب منه التزود في عمل الخير «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى » عن كل محظور ، ومنه التثقيل على الناس بالاستطعام وخير الزاد الموصل إلى العبادة في الدنيا والآخرة.
وبعد أن حث جل شأنه على البر الشامل إثر تحذيره عن الشر العام أرشد عباده بأن يكون قصدهم بحجهم وعملهم ونفقتهم رضاه فقال «وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» (179) خصهم بالذكر لأنهم يعلمون حقائق الأمور ، قال الأعشى في هذا المعنى :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقال الآخر :
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ندمت على التفريط في زمن البذر
قال تعالى «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» حرج ولا إثم أيها الحاج «أَنْ تَبْتَغُوا» بأن تتجروا فتبيعوا وتشتروا فتستفيدوا «فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» رزقا(5/152)
ج 5 ، ص : 153
وريحا في مواسم الحج ، روى البخاري عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا أن يتجروا في المواسم كما كانوا قبلا فنزلت هذه الآية.
الحكم الشرعي : تباع التجارة في موسم الحج إن لم تحدث نقصا في أعماله ، والأولى تركها لغير المحتاج ليتجرّد للعبادة.
فيا أيها المؤمنون إذا أحرمتم ودخلتم مكة شرفها اللّه وطفتم طواف القدوم وخرجتم إلى عرفات يقول اللّه تعالى لكم «فَإِذا أَفَضْتُمْ» دفعتم ونفرتم بعد إكمال وقوفكم «مِنْ عَرَفاتٍ» بأن وجدتم فيها في جزء من نهارها وجزء من ليلة العيد ، لأن أول الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة ، وآخره طلوع الفجر من يوم النحر ، ووقت الإفاضة من المزدلفة من بعد غروب شمس يوم عرفه إلى طلوع فجر يوم النحر ، ويؤخر صلاد المغرب بسبب الازدحام وقت النفر ليجمعها مع صلاة العشاء بالمزدلفة ، كما أنه يقدم عصر يوم عرفه فيصله مع ظهره بسبب الانشغال بالخطّ والترحال ، ولا يجوز الجمع في غير هذين الوقتين في مذهب أبي حنيفة ، إذ لم يثبت عنده في غيرهما ، خلافا للإمام الشافعي إذ يجوز عنده لجمع تقديما وتأخيرا ، مطلقا في السفر وفي الحضر لمرض أو لحاجة ماسة كالخوف والمطر ، ولكل وجهة ، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال : دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب (بين مزدلفة وعرفات) نزل قبال ثم توضّأ (أي استنجى) ولم يسبغ الوضوء ، فقلت الصلاة يا رسول اللّه ، فقال الصلاة أمامك ، ثم ركب ، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة فصلّى المغرب ثم أناخ كلّ إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت العشاء ، فصلّى ولم يصل بينهما شيئا.
وجواب إذا الشرطية «فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ» في المزدلفة وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمى عرفة إلى وادي محسر ، والمأزمان والوادي ليسا من المشعر الحرام ، وسميت مزدلفة لأن الناس ينزلونها زلف الليل أي أوائله ، وتسمى جمعا لأنهم يجمعون فيها المغرب والعشاء ، وهذه التسمية الأخيرة بعد الإسلام إذ لا صلاة قبله تجمع فيه.
والمأزمان هما المضيق بين جمع وعرفة ، ويوجد مأزمان أيضا بين مكة ومنى ، والمراد الأولان ، وكل مضيق يطلق عليه مأزم.
والمراد(5/153)
ج 5 ، ص : 154
بذكر اللّه تعالى دوام الدعاء بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
روى البخاري عن ابن عمرو بن ميمون قال : قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع أي المزدلفة حتى تطلع الشمس ، وكانوا يقولون أشرق بثير (جبل بمكة تشرق عليه الشمس فيرونها عليه من المزدلفة ويقولون بعده حتى نغير أن ندفع إلى النحر) فخالفهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن أسامة بن زيد كان رديف النبي صلّى اللّه عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى ، وكلاهما قال لم يزل النبي صلّى اللّه عليه وسلم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة.
وروى جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام (وهو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح) دعا فيه ، كبر وهلل ، ولم يزل واقفا حتى أسفر الفجر «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ» لدينه الحق وشرعه الصدق ومناسك حجه ، وأكثروا من الدعاء والتكبير والتهليل «وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ» قبل هدى اللّه لكم على يد رسوله «لَمِنَ الضَّالِّينَ» (981) عن طريق السداد تائهين في سبيل العناد ، ثم ألمع إلى وجوب الوقوف بعرفات ، فقال جل قوله «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» من عرفات ، وقد أشار إلى الوقوف بمزدلفة أيضا ، إلا أنه ليس على طريق الوجوب وجيء بثم لتفاوت ما بين الإفاضتين ، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت :
كانت قريش ومن دان بدينها يقعون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس (لتشددهم في دينهم) وكانت سائر العرب يقفون بعرفة ، فلما جاء الإسلام أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها ، فذلك قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا) ، وروى البخاري ومسلم عن هشام بن عروة عن أبيه قال : سئل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يسير في حجة الوداع ، قال كان يسير العنق (نوع من السير أشد من المشي) فإذا وجد فجوة (فرجة) نصّ أي أسرع في مشيه بأقصى وسع ناقته.
وروى البخاري عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلّى اللّه عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال أيها الناس عليكم بالسكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع (السير السريع الشديد)(5/154)
ج 5 ، ص : 155
«وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» من جميع ذنوبكم ومما خلاف الأولى أيضا «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لعباده «رَحِيمٌ 199» بهم يريد لهم الخير والنجاح في أمورهم كلها ، وهذه بشارة من اللّه تعالى للحجاج بقبول حجهم وغفران ذنوبهم.
قال تعالى «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ» المارة كلها ورميتم جمرة العقبة وذبحتم نسككم واستقريتم في منى.
وصدر هذه الآية شرط جوابه «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» بمثل ما تقدم عند التلبية فإنها تنتهي هناك ، لأن الحاج لا يزال يلبي من حين يحرم حتى يذبح ، ثم أرشدهم لأن يبالغوا في ذكره بقوله جل قوله «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» في الجاهلية «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» من ذكرهم لأن اللّه أحق أن يكثر من ذكره ، وكان الجاهليون يقفون في منى بين المسجد والجبل فيذكرون آباءهم ومفاخرهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم وجميع مناقبهم كالكرم والشجاعة وإقراء الضيف ومحافظة الجار وسعة البيوت وكثرة العطاء نثرا وشعرا بما أوتوا من فصاحة وبلاغة ، لرفع الصيت والشهرة وإظهار الرفعة بين الناس ، فأمرهم اللّه تعالى في هذه الآية أن يبدلوا ذكر آبائهم بذكره ، لأنه هو المنعم عليهم وعلى آبائهم ، وهو أحق بالذكر والشكر من آبائهم.
«فَمِنَ النَّاسِ» الحجاج المشركين «مَنْ يَقُولُ» في ذلك الموقف «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا» زدنا من حطامها «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ 200» حظ ولا نصيب لأنهم ينكرون وجودها ، روى البخاري عن أبي هريرة قال :
قال صلّى اللّه عليه وسلم تعس (دعاء بالهلاك وهو الوقوع على الوجه من العثار) عبد الدنيا عبد الدرهم عبد الخميصة (ثوب فمن خزّ معلّم) إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس (وقع على رأسه وخاب وخسر) وإذا شيك (أصابته شوكة) فلا انتقش (لا أخرجت منه شوكة لأن الانتقاش إخراج الشوكة بالنقاش).
«وَمِنْهُمْ» يعني الحجاج المؤمنين «مَنْ يَقُولُ» في دعائه «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن تزيدنا من خيرها «وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» بأن تزيدنا من ثوابها لعلمهم أنهم قادمون عليها «وَقِنا عَذابَ النَّارِ 201» في الآخرة لأنا موقنون بك وبرجوعنا إليها «أُولئِكَ» الطالبون خيري الدنيا والآخرة «لَهُمْ نَصِيبٌ» حظ وافر عظيم ، لأن تنوين التنكير يدل على كبر ذلك النصيب «مِمَّا كَسَبُوا»(5/155)
ج 5 ، ص : 156
فيها من الخير ، لأن الدنيا مزرعة الآخرة ، فكلما ربحوا في الدنيا من البرّ ضوعف لهم أجره في الآخرة «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ 202» لا يعوقه محاسبة ناس عن أناس يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة شخص واحد.
وتشير هذه الآية إلى قرب الآخرة ، لأن كل آت قريب ، وكل ماض بعيد فبادروا أيها الناس بالأعمال الصالحة وأكثروا من الدعاء فإنكم محاسبون على أعمالكم ، لأنه لا يخفى عليه شيء منها ، وأن ما كان وما سيكون مدون في علمه ، وأن حسابه كلمح البصر لا يحتاج إلى عقد يد أو جرّة قلم أو روية فكر ، ولا يشغله شأن عن شأن ، روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة.
وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال له هل كنت تدعو اللّه بشيء أو تسأله إياه ؟ قال نعم.
كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سبحان اللّه لا تطيقه ولا تستطيعه ، أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، قال فدعا اللّه به فشفاه.
ورويا عنه أيضا قال : كان أكثر دعاء النبي صلّى اللّه عليه وسلم اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وقد قسم اللّه تعالى الناس في هاتين الآيتين إلى قسمين ، فعليك أيها العاقل أن تكون من الثاني فقيه الخير أجمع.
قال تعالى «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» أي يوم النحر وأيام التشريق الأربعة ، وسميت بذلك لأن الأول تنحر فيه الذبائح والتي بعده يشرقون فيها لحومها وينشرونها على مواقع الشمس لتيبس.
روى مسلم عن نبيشه الهذلي قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر ، ومن الذكر في هذه الأيام التكبير وروى البخاري عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا.
وأجمع العلماء على أن المراد التكبير عند رمي الجمرات في منى بأن يكبر مع كل حصاة يرميها في أيام التشريق ، وأجمعوا على أن التكبير في عيد الأضحى وأيام التشريق سنة أدبار الصلوات وأوله من صبح يوم عرفة إلى عصر اليوم الخامس ، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك ، ثم خيرهم اللّه تعالى بين التعجيل(5/156)
ج 5 ، ص : 157
والتأخير إذا كان الغرض صحيحا بقوله عز قوله «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ» لأن الواجب أن يبيت الحاج في منى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق فقط ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة عند كل جمرة سبع ، وبعد الرمي في اليوم الثاني إذا أراد أن ينفر من منى «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» وهذا يسمى النفر الأول «وَمَنْ تَأَخَّرَ» إلى النفر الثاني فبات الليلة الثالثة من أيام التشريق في منى وأكمل الرمي فيه «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» ولا حرج ، وإنما قال لا إثم عليه هنا مع أنه أكمل حالا من الصورة الأولى المرخص بها دفعا لما يخطر بباله أنه إذا لم يأخذ بالرخصة يأثم ، فأزال اللّه تعالى تلك الشبهة بقوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) والذي تعجل لا إثم عليه لأنه أخذ بالرخصة ، ومن يأخذ بالرخصة لا عتاب عليه لعدم أخذه بالعزيمة ، لأن اللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، وهذا التخيير وففي الإثم «لِمَنِ اتَّقى » اللّه في حجه ، وإنما يتقبل اللّه من المتقين ، أما من كان ملوّثا بالمعاصي حين اشتغاله بالحج فلا ينفعه حجه تعجّل أو تأخر ، لأن تأديته ظاهرا لا تكفي عند اللّه.
وقيل إن أهل الجاهلية منهم من يقول يأثم المتعجل ، ومنهم من يقول يأثم المتأخر ، فجاء فضل اللّه بنفي الإثم عن الفريقين ، ولذلك قال لمن اتقى ، لأن الجاهليين لا يتقون اللّه.
ثم حثّ على التقوى فقال «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في كل أقوالكم وأعمالكم وأحوالكم وأفعالكم قبل الحج وبعده لأنها الدليل الظاهر على قبول الأعمال ، قالوا إن الحاج إذا لم تحسن حالته الدينية ومعاملته مع أهله والناس أجمعين بعد حجه فهو دليل على عدم قبوله حفظنا اللّه من ذلك ، وحسن أحوالنا الظاهرة والباطنة.
ثم هددهم بقوله جل قوله «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 203» حتما فيجازيكم على أعمالكم كلها حتى نياتكم لأن من علم أنه يبعث ويعاقب ويحاسب ويثاب لا بد أن يلازم التقوى التي أكدها اللّه تعالى بعد ذكرها مرتين.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» لأنه يظهر لهم من المودة والصدق خلاف ما يبطن من البغض والكيد والكذب نفاقا «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ» من قوله للرسول وأصحابه أنه مؤمن يحب المؤمنين «وَهُوَ» والحال أنه «أَلَدُّ الْخِصامِ 204»(5/157)
ج 5 ، ص : 158
لهم في الباطل شديد المجادلة في النفاق.
روى البخاري ومسلم عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن أبغض الرجال إلى اللّه الألد الخصم «وَإِذا تَوَلَّى» هذا الصنف من المنافقين وأعرض عنك وعن أصحابك يا سيد الرسل ورأى نفسه بحالة لم يشاهده فيها أحد من المؤمنين «سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها» يقطع الطريق ويسلب المارة ويشهد الزور ويحرض على المؤمنين «وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ» بالتسبب إلى إتلافه «وَالنَّسْلَ» بالقتل والتعطيل «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ 205» ولا يرضى به ، وفي هذه الجملة إشارة إلى شدة عداوة هذا الصنف من المنافقين إلى المؤمنين وإلى الدين الحق وإيذان في كذبه في دعواه تلك ، وقد استنبط بعض العلماء ومنهم الحنابلة من هذه الآية لزوم التحقيق على من يتولى القضاء والشهادة ، وأن لا يغر بظاهر حالهما فلعلهما من هذا الصنف.
واعلم أنه لا يقال من هنا إن المحبة هي
الإرادة ، لأن الإرادة غير المحبة ، لأن الإنسان قد يريد الشيء ولا يحبه ، بدليل تناول الدواء المر لا عن محبة له ولا رغبة فيه ، وعليه فلا دليل في هذه الآية لمن ادعى أن المحبه عين الإرادة ، تدبر.
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُ» لذلك النوع من الناس على نهج العظة والنصيحة «اتَّقِ اللَّهَ» واترك ما أنت عليه من هذه الحال الخبيثة والعادة القبيحة «أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ» حملته المنعة والأنفة والتكبر والحمية الجاهلية والأنانية النفسية والعجب والتيه «بِالْإِثْمِ» على دوام فعله والزيادة منه لجاجا وعنادا وعتوا ، ولم يلتفت إلى النهي الموجه إليه «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ 206» الفرش ، قال ابن مسعود : إن من أكبر الذنوب عند اللّه تعالى أن يقال للعبد اتق اللّه فيقول عليك بنفسك ، وقيل لعمر اتق اللّه فوضع خده على الأرض تواضعا للّه تعالى.
وسبب نزول هذه الآية أن الأخنس بن شريق خليف بني زهرة ، وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال الكفرة مع حضرة الرسول وأشار عليهم بالرجوع قائلا لهم إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه الناس ، وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس بعد فقالوا نعم ما رأيت ، وكان يظهر إلى الرسول المحبة ويبطن البغض وهو لين الكلام منافق قاسي القلب.
وقد ذكرنا في الآية 198 المارة أن حادثة بدر وقعت في(5/158)
ج 5 ، ص : 159
17 رمضان السنة الثانية من الهجرة إلا أن اللّه تعالى لم يشر إليها عند وقوعها ، وإنما أشار إليها في سورة الأنفال عند قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) في الآية 5 منها وسنأتي على القصة هناك إن شاء اللّه ، وهكذا فإنه تعالى تارة ينوه بالشيء قبل وقوعه وطورا عند حدوثه ومرة بعد وقوعه بقليل وأخرى بكثير.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ» يبيعها «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» لا لشيء آخر بل ليستجلب لها رضاء اللّه ورأفته «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ 207» أمثال هؤلاء ، وهذه الجملة تقرير لما تقدم لأنه كلفهم بالتقوى وعرضهم للثواب ليصب رحمته عليهم ، وقد ذكرنا فى الآية 143 المارة أن الرأفة رحمة خاصة يلطف بها على خواص عباده عطفاء عليهم.
مطلب مقتل زيد بن الدثنة وخبيب الأنصاري وإظهار حبهم لحضرة الرسول والصلاة عند القتل وقصة صهيب :
وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش طلبوا من حضرة الرسول أن يبعث لهم من أصحابه من يعلمهم أمر دينهم بحجة أنهم أسلموا ، فبعث لهم خبيب بن عدي الأنصاري وزيد بن الدثنة وعبد اللّه بن طارق ومرشد بن أبي مرشد الغنوي وخالد ابن بكر وعبيد اللّه بن طارق بن شهاب البلوي وثلاثة آخرين لم نتصل بأسمائهم ، وأمرّ عليهم عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب حتى صاروا في الفدفد (موضع بين عسفان ومكة وهو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع) فتبعهم جماعة من بني لحيان بن هذيل ، فلما أدركوهم أعطوهم العهد ، ثم نكثوا بهم فقتلوهم إلا خبيبا وزيدا فقد أوصلوهما إلى مكة ، فباعوا خبيبا إلى بني الحارث بن عامر ابن نوفل لأنه كان قتل أباهم الحارث في حادثة بدر ، وباعوا زيد بن الدثنة إلى صفوان بن أمية بن خلف ليقتله بأبيه أيضا ، فأرسله مع مولاه إلى التنعيم ليقتله في الحل واجتمع حوله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له عند ما قدموه إلى القتل أنشدك اللّه أتحب أن محمدا عندنا الآن هنا بمكانك وأنت في أهلك فقال واللّه ما أحب أن يصيب محمدا شوكة وهو في مكانه والذي هو فيه وأنا جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب محمد من أصحابه ، (5/159)
ج 5 ، ص : 160
ثم قتله فسطاط مولى صفوان المذكور ، ولما قدم خبيب إلى الصلب استأذن فصلّى ركعتين قبل قتله وقال لو لا أنكم تظنون أني جزعت من الموت لزدت في صلاتي ، ثم قتله عقبة بن الحارث بيده ، وهو أول من سن الصلاة عند القتل ، وقال قبل قتله : اللهم لا أجد من يبلغ سلامي لرسولك فأبلغه سلامي ، ثم قال :
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شقّ كان في اللّه مضجعي
وفي رواية : مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع
أي مفرّق ، والشلو العضو من الإنسان ، قالت بنت الحارث : لما كان خبيبا موثقا في البيت استعار مني موسى ليستحد به (يزيل شعر عانته لئلا يعيروه بعد صلبه وكانت هذه عادة عندهم فكل من يعرف أنه يقتل صلبا يفعل ذلك) قالت فدرج إليه غلامي فوضعه على فخذه ، ففزعت ، فقال أتخشين أن أقتله لأني مقتول ، لا إن شاء اللّه ، فصارت تقول ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب ، ولقد رأيته يأكل من قطف وما بمكة يومئذ تمرة ، وما هو إلّا رزق ساقه اللّه إليه.
وهذا من نوع الكرامة التي أكرم اللّه بها مريم بنت عمران رضي اللّه عنهما ، ولما بلغ محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ذلك قال لأصحابه : أيكم ينزل خبيبا من خشبته وله الجنة ؟ وذلك أنهم بعد أن قتلوه صلبوه تشهيرا ، وكان ذلك من عادتهم ، ولهذا فإن الحجاج لما قتل ابن الزبير صلبه وأبقاه حتى جاءت أمه وقالت أما آن لهذا الفارس أن يترجّل ؟
لأن الحجاج عليه ما يستحق حلف لا ينزله من المصلبة حتى تشفع فيه أمه ، وقد أبت أن تشفع به أو ترجو إنزاله ، ولما نقل إليه قولها هذا قال أنزلوه فإن قولها ذلك بمنزلة الاستشفاع به.
فقال الزبير بن العوام أنا يا رسول اللّه وصاحبي المقداد بن الأسود فطفقا يمشيان الليل ويركنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلا فرأيا خبيبا معلقا وحوله أربعون من المشركين نيام سكارى ، فأنزلاه ، فإذا هو رطب يتثنى ويده على جراحته لم يتغير ، فحمله الزبير على فرسه تنفّس جراحته دما كريح المسك ، وسارا به نحو المدينة ، فلما حس المشركون ولم يروه أخبروا قريشا ، فلحق بهما سبعون فارسا فقذفه الزبير عن فرسه والتفت إليهم ، فقال ما بالكم أنا الزبير بن صفية بنت(5/160)
ج 5 ، ص : 161
عبد المطلب ، وهذا المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما ، فإن شئتم ناضلناكم ، وإن شئتم نازلناكم ، وإن شئتم انصرفتم ، فنظروا فلم يجدوا معهم خبيبا ، فرجعوا ثم إنهما تحريا جثة خبيب فلم يجداها ، فسمي البليع أي الذي ابتلعته الأرض ، وقدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأخبراه ، قالا وكان عنده جبريل يقول له يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك ، وأنزل اللّه فيهما هذه الآية لأنهما باعا أنفسهما في طاعة رسول اللّه طلبا لرضاء اللّه ، والحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة لا يختلف في المعنى عن هذا ، غير أن المذكورين كان أرسلهما رسول اللّه عينا في سرّية الربيع بعد وقعة أحد ، ثم ساق القصة بأطول من هذا وقال بعض المفسرين إنها نزلت في صهيب بن سنان بن النمر بن قاسط الرومي وسبب نسبته للروم مع أنه عربي الأصل أن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارتهم الروم وسبوه فيمن سبوا فنشأ عندهم وبعد أن كبر لحق بمكة ، حينما هاجر من مكة وتبعه المشركون ليردّوه ، فقال واللّه لن تصلوا إلي إلا أن أرمي بكل سهم معي رجلا ثم أضرب بسيفي ما بقي بيدي ، وإن شئتم دللتكم على مال لي دفنته في مكة تأخذونه وتخلون سبيلي ، فرضوا منه ودلهم على موضع المال ، فرجعوا عنه ، ولما وصل إلى المدينة أخبر حضرة الرسول بهذا فنزلت ، وكناه صلّى اللّه عليه وسلم بأبي يحيى ، إذ قال له ويح أبي يحيى.
وكل من هذه القصص صالحة لأن تكون سببا للنزول ، وأصحها أولها ، ويليها الأخيرة ، واللّه أعلم ، لأن الآية عامة في كل من يقاتل في سبيل اللّه فيقتل أو يغلّب ، وكل من يأمر بمعروف وينهى عن المنكر فيعذب أو يهان من أجله ، وكل من يبذل نفسه في طاعة اللّه ورسوله ويجهدها في العبادة.
أخرج الترمذي عن أبي سعد قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر.
لأن العادل يحب أن ينصح ويأخذ بالنصيحة ولا تهابه الناس أن ترشده ، أما الجائر فإنه يخاف منه ولا يحرؤ أحد على نصحه ، لذلك أخبر حضرة الرسول بعظيم ثواب من يقدم على نصحه ، لأنه من قبيل الجهاد لما فيه من تعريض النفس للبلاء.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» السلم بفتح السين وكسرها الاستسلام التام والطاعة العامة ، أي ادخلوا(5/161)
ج 5 ، ص : 162
أيها المسلمون الموقنون في شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه ، وهذا كالتحذير من عدم القيام بما تقدم من أحكام الإسلام وتأكيدا لأمرهم بالتقوى فيها.
ومن قال إن الخطاب فيها لكفار أهل الكتاب أو المنافقين يبعده تصوير الخطاب بتسميتهم مؤمنين.
مطلب لا يصح نزول الآية في عبد اللّه بن سلام وبحث قيم في آيات الصفات وأن المزين في الحقيقة هو اللّه تعالى :
وكذلك ما قيل إنها نزلت في عبد اللّه بن سلام وأصحابه الذين أقاموا بعد إسلامهم على تعظيم البيت وكراهة لحوم الإبل وألبانها وقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن هذا مباح في الإسلام وواجب في التوراة ، وطلبوا أن يقيموا صلاتهم ليلا وانها إعلام بإبطال حكم التوراة وأمر بإقامة شرائع الإسلام كافة ، لأن عبد اللّه لم يسلم بعد ولو فرض إسلامه ففيه من الطعن ما فيه ، وهو رضي اللّه عنه براء من ذلك والآية عامة مطلقة لم تخصص ولم تقيد مبنى ولا معنى كما هو ظاهر من سياقها وسياق ما قبلها ، وعليه فتكون مخاطبا بها كل مؤمن بأن يعمل بجميع أحكام الإسلام وشرائعه ، ويؤيد هذا قوله تعالى «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» ووساوسه ودسائسه لأنه يوقعكم في الخطأ فيحن لكم ما هو قبيح في الإسلام ويقبح لكم ما هو حسن ، لأن كل إخلال بشيء مما تقدم يكون في متابعة الشيطان «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 208 ظاهر العداوة يزين لكم المعاصي ويلقي عليكم الشبهات ليؤثمكم وينتقم منكم بسائق عداوته مع أبيكم آدم عليه السلام ، ثم هددهم وأوعدهم على الإخلال بما وصاهم بعد أن نصحهم وحذرهم من المخالفة بقوله عز قوله «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ» الواضحات المفصلات للأحكام والحدود «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب لا يعجزه شيء «حَكِيمٌ 209» لا ينتقم إلا بحق وإلا بعد إقامة البراهين على المجرمين ممن كان في قلبه شك أو شبهة في شيء مما جاءهم فما ينتظرون بعد تلك الدلائل الناصعة الباهرة «هَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء الذين لم يؤمنوا المصرون على متابعة خطوات الشياطين «إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ» السحاب الأبيض الرقيق وسمي(5/162)
ج 5 ، ص : 163
غماما لأنه يغم ويستر ما فوقه وما تحته «وَالْمَلائِكَةُ» بالرفع عطف على لفظة الجلالة ، وقيل بالجر عطف على الغمام ، وهذا على حد قوله (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) الآية 22 من سورة الفجر في ج 1 ، ولا يكون هذا إلا في يوم القيامة ، أي ما ينظرون هؤلاء بعد ما قدمناه لهم من الهدى والإرشاد والآيات المخوّفات إلا ذلك اليوم بأن يموتوا وينقضي أجل برزخهم فيبعثوا ويحاسبوا على أعمالهم «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» بفصل القضاء وبيان أهل الجنة من أهل النار يوم يقول اللّه تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 60 من سورة يس في ج 1 ، «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ 210» لا إلى غيره فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار ، وهذه الآية من آيات الصفات المنوه بها في الآية 158 من سورة الأنعام في ج 2 ، وإن مذهب السلف من أعلام السنه كالكلبي وسفيان بن عيينة والزهري والأوزاعي وسفيان الثوري وإسحق بن راهويه وابن المبارك والليث بن سعد ومالك وأحمد بن حنبل وجوب الإيمان بها على ظاهرها والتسليم لما جاء بها دون تأويل أو تفسير ، وأن يوكل علمها الحقيقي إلى اللّه ورسوله مع الاعتقاد بأن اللّه تعالى منزه عن سمات الحدوث من حركة أو سكون ، وأن تقرأ على ما هي عليه ، وبه قال أبو حنيفة مع نفي التشبيه والكيف ، وقال قائلهم في معنى هذه الآيات :
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ولا ذاته شيء عقيدة صائب
فسلم آيات الصّفات بأثرها وأخبارها للظاهر المتقارب
ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا وتأويلنا فعل اللبيب المغالب
ونركب للتسليم سفنا فإنها لتسليم دين المرء خير المراكب
وإن مذهب الخلف الذي ذهب إليه جمهور العلماء المتأخرين والمتكلمين وأصحاب النظر على تأويلها وتفسيرها بما يناسب المقام ، لأن اللّه تعالى منزه عن الذهاب والإياب والمجيء والإتيان ، وأن تكون له يد أو رجل أو وجه وغيرها مما يوافق سمات خلقه وصفات الحدوث ، لأنها لا تنفك عن الحركة والسكون المستحيلة عليه ، وهو المبرأ عنها ، ولهذا جنحوا إلى تأويل اليد بالقوة والرحمة مثلا ، والمجيء والإتيان نسبوه لملائكته وعلمه لاعتقادهم أن المراد بها غير ظاهرها ، ويستدلون بما يناسب(5/163)
ج 5 ، ص : 164
هذا كقوله تعالىَ لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)
الآية 34 من سورة النحل في ج 2 ، لأن فيها تفصيلا مفسرا لما أجمل في الآية المفسرة هذه ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، ويقولون إن في مثل هذه الآيات حذفا ، أي يأتيهم اللّه بما أوعدهم من العقاب على ما اقترفوه من الذنوب ، وما وعد به من الثواب على ما قدموه من الخير ، وسبب الحذف زيادة التهويل وبلاغته في الكلام زيادة في فصاحته ، إذ لو ذكر لكان أسهل في باب الوعيد.
وقال بعض المفسرين إن (فِي) هنا بمعنى الباء أي بظلل من الغمام ، ويراد بالغمام العذاب ، لأن الغمام مظنة الرحمة ، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم دهشة وأشد وقعا وأنفع في العظة وأنفع في القلب ، وفي هذا ما لا يخفى من التكلّف ، ومذهب السلف أسلم ، واللّه أعلم.
وكما يقال في الآيات يقال في الأحاديث أيضا ، راجع الآيتين المذكورتين من الأنعام والنحل في ج 2.
قال تعالى «سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الموجودين معك يا سيد الرسل في المدينة وغيرهم «كَمْ آتَيْناهُمْ» أي آتينا أسلافهم «مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ» على صدق رسالة موسى عليه السلام فأنكروها وبدلوها «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ» آياته التي أنعم بها على عباده ، وسميت الآيات نعما لأنها من أعظمها «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ» فلم يعمل بها ولم ينته عن غيه «فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 211» عليه يعذبه بما لا تطيقه قواه ، وجاء اللفظ الكريم بالإظهار مع أن موقعه الإضمار بسبب تقدم ذكره لتربية الهيبة وإدخال الروعة في قلوب المتجاسرين على التبديل ، لأن الآيات بعد أن وصلت إليهم وعرفوها بدلوها إذ لا يتصور التبديل قبل المجيء ثم ألمع إلى سبب إقدامهم عليه بقوله عز قوله «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» فاغتروا بها ولهوا بزخارفها «وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لفقرهم وقلة ذات يدهم من حطامها وليس لديهم إلا تقوى اللّه «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا» الشرك والكفر واجتنبوا المعاصي والمناهي وآمنوا باللّه ورسوله وكتابه «فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لأنهم يكونون في عليين وأولئك في سجين «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 212» رزقا كثيرا لا يحصى ، باق لا ينفد ولا ينقص ، لأن كل ما يدخل تحت الحساب قليل نافد ، وخزائن(5/164)
ج 5 ، ص : 165
اللّه تعالى لا تنفد ، ولا يقال لم أعطى هذا ومنع هذا ، لأنه لا يسأل عما يفعل ، وأفعاله لا تعلل.
واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ثلاث آيات مبدوءة بحرف الزاي :
هذه والآية 13 من آل عمران الآتية والآية 7 من سورة التغابن الآتية أيضا ، وقد نزلت هذه الآية والتي قبلها في المنافقين ورؤساء اليهود الذين يكتمون آيات اللّه لقاء ما يأخذونه من مال الدنيا الفاني ، وفي أبي جهل وأضرابه الذين ينكرون البعث ويكذبون آيات اللّه ويتنعمون بما بسط لهم من نعيم الدنيا ، وفي الحقيقة أن اللّه تعالى هو الذي زين لهم ذلك كما ألمعنا إليه في مواضع كثيرة ، ويؤيد قراءة زين بالمعلوم أي بما أظهره لهم من زهرة الدنيا ابتلاء وامتحانا لهم ، وبما ركب في أطباعهم من الميل والحب والرغبة إلى المجرمات ، أي أن هذه الدنيا حسنت لهم الحياة فيها وتشربوا في محبتها حتى تغلغلت في قلوبهم ، ولكن لا على سبيل الإلجاء والقسر بل على سبيل التحبب للنفس مع إمكان ردها ، ولكن الناس نظروا إلى الدنيا بأكثر من قدرها فأعجبهم حسنها ففتنوا بها وعكفوا على الإقبال إليها والانهماك فيها ، فرموا بكليتهم عليها ، وأن اللّه تعالى زاد في إمالهم وكثر عليهم نعمه ومتعهم بالصحة والمال والجاه لعلهم يرجعون فلم ينجع بهم ، وكان هذا من جملة التزيين للدنيا في أعينهم وقلوبهم.
وقيل إن المزين لهم شياطين الإنس والجن الغواة الذين يحببون لهم الدنيا وما فيها من المحرمات حتى تهالكوا عليها وتفانوا فيها ويغفلونهم عن ذكر الآخرة والاعتراف بوجودها ، ويقولون لهم إن القول بذلك حديث خرافة لينصرفوا إليها الضمير يعود للدنيا ويضمحلوا في حبها ، ولكنه من الضعف بمكان ، لأن غواة الإنس والجن والشياطين داخلون في هذا التزيين ، وكلهم مزيّين لهم ، والمزين لا بد وأن يكون مغايرا للمزين له.
روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ألا أخبركم بأهل الجنة :
كل ضعيف مستضعف لو أقسم على اللّه لأبره ، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل (فظ غليظ شديد لا ينقاد إلى الخير) جواظ (فاجر محتال قصير بطين) جغطريّ (متمدّح بما ليس فيه) مستكبر.
ورويا عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال :
قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد (الحظ والغنى)(5/165)
ج 5 ، ص : 166
محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار فإذا عامة من دخلها النساء.
ثم أعذر اللّه تعالى إليهم في إخلالهم بالأحكام فقال «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» متفقة على دين واحد زمن آدم عليه السلام ، ولم يزل هو وذريته مسلمين للّه حتى قتل قابيل هابيل فاختلفوا ، ثم استمروا على شريعة واحدة شريعة شيث عليه السلام ، ثم على شريعة إدريس إلى مبعث نوح عليه السلام ، ثم اختلفوا فأقام نوحا ومن معه في السّفينة على دينه الحق وأهلك الآخرين ، وهو أول رسول بعث لمن نجى معه من الغرق بعد الطوفان ، ولهذا سمي أبا البشر الثاني.
مطلب الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم ورسالتهم وعددهم وعدد الكتب المنزلة عليهم :
ثم اختلفوا بعد وفاته «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ» بعده لذرّيته «مُبَشِّرِينَ» المتقين برضوان اللّه «وَمُنْذِرِينَ» العاصين بسخطه إذا استمروا على طغيانهم ، وقد جاء في الحديث : لا أحد أحب إليه العذر من اللّه.
ولهذا أنزل الكتاب وأرسل الرسل ، وجميع الأنبياء على ما قيل مئة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة أو أربعة عشر ، جاء في القرآن العظيم ذكر خمسة وعشرين منهم المتفق على نبوتهم وهم : آدم إدريس نوح هود صالح شعيب إبراهيم إسحق يعقوب إسماعيل يوسف أيوب يونس موسى هرون لوط داود سليمان الياس اليسع ذو الكفل - على القول بأنه غير الياس وهو الصحيح راجع الآية 130 من الصافات ج 2 - وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.
أما عزير وذو القرنين فمختلف في نبوتهم ، راجع الآية 177 المارة والآية 82 من الأنعام والآية 83 من سورة الكهف في ج 2 ، ولبحثهم صلة في الآية 163 من النساء الآتية.
والنبي هو من أمره اللّه تعالى بشرع ولم يؤمر بتبليغه ، والرسول من أمر بتبليغه.
ومنهم من أرسل إلى أهل بيته خاصة ، ومنهم إلى عشيرته ، ومنهم إلى قومه ، ولا رسالة عامة لجميع من على وجه الأرض من مبدئها لآخرها إلا لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، كما أن شفاعته عامة ، لأنه خص بما لم يخص به غيره من إخوانه كما مرّ في الآية 79 من سورة الإسراء ج 1 ، وقد ذكرنا في الآية 26 من سورة هود في ج 2 أن(5/166)
ج 5 ، ص : 167
رسالة نوح عليه السلام مبدأها خاص وآخرها عام ، فراجعها.
«وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ» يشمل الكتب المنزلة كلها لأن ال فيه للجنس وهي مئة وأربعة عشر فقط ، أنزل منها على آدم عشرة ، وعلى شبث ثلاثين ، وعلى إدريس خمسين ، وعلى إبراهيم عشرة ، وعلى موسى عشر صحف والتوراة والزبور على داود ، والإنجيل على عيسى ، والقرآن على محمد صلوات اللّه عليهم وسلامه أجمعين.
وذكرنا في الآية 184 المارة أنها كلها نزلت في رمضان إنزالا ملابسا «بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ» كل نبي بكتابه المنزل عليه بالعدل «بَيْنَ النَّاسِ» حسما لمادة الخلاف ليعملوا فيها هم أيضا من بعده «فِيمَا اخْتَلَفُوا» أي الناس المذكورين في صدر الآية «فِيهِ» من الحقوق الجارية بينهم «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ» في نفس الكتاب الذي يجب أن يتحاكموا إلى نصوصه فيما يقع بينهم من الخصومات «إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ» كاليهود والنصارى الذين في زمانك يا سيد الرسل ، مع أنهم أهل لأن يتفقوا على أحكام كتبهم ولكنهم يا للأسف كفّر بعضهم بعضا ، وتواطئوا على إنكار ما في كتبهم مما هو موافق لشريعتك وما هو مظهر نعتك وصفة كتابك وموجب للإيمان بك ، ولم يزل الخلاف بينهم «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» المزيلة لهذا الاختلاف «بَغْياً بَيْنَهُمْ» وحسدا إذ لا عذر لهم في العدول عنك وعما جئت به لا حب بقاء الرياسة والحصول على حطام الدنيا «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» من أصحابك وأمتك «لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ» الذي هو رسالتك ، واختلفوا في الجمعة فهداك اللّه وأمتك إليها ، واختلفوا في الصيام وفي القبلة فهداكم إليهما ، واختلفوا في إبراهيم وفي عيسى فهداكم اللّه للإيمان بهما كغيرهما من الأنبياء.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه بعدهم ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا اللّه إليه ، فغد لليهود ، وبعد غد للنصارى.
وفي رواية سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض اللّه عليهم فاختلفوا فيه فهدانا اللّه له.
زاد النسائي :
يعني يوم الجمعة (ثم اتفقا) فالناس لنا تبع اليهود غد والنصارى بعد غد.
وروى(5/167)
ج 5 ، ص : 168
مسلم عن حذيفة ما بمعناه «بِإِذْنِهِ» أمره وإرادته وفاقا لما هو في سابق علمه «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 213» ومن يشاء إلى الطريق المعوج لسابق شقائه أيضا.
قال تعالى «أَمْ حَسِبْتُمْ» أيها الناس «أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» بمجرد إيمانكم أو إسلامكم «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ» يصيبكم بلاء ومشقة «مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» من المحن والإحن والامتحان والاختبار إذ «مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ» وذاقوا من الفقر والفاقة والزمانة والخوف «وَزُلْزِلُوا» أزعجوا في حياتهم إزعاجا شديدا يشبه في عظمته الزلازل في الهول وبقوا على اضطرارهم «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ» أي لم يبق لهم صبر مع أنهم أثبت الناس على الأهوال ، حتى إذا استبطؤا نصر اللّه لهم حثّوا قومهم على الصبر وصرحوا لهم بأن الإيمان وحده وإن كان كافيا لدخول الجنة إلا أنه لا يكفي لإعلاء كلمة اللّه وقهر أعدائه ما لم ينضم إليه بذل النفس والنفيس في سبيل اللّه ، وذلك لشدة الضيق وكثرة دواعي الضنك ، وهؤلاء الممتحنون إذا أخلصوا للّه تعالى يجابون فيقول لهم اللّه «أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ 214» فياتيهم ما وعدهم به حالا ، لأن الأمر بلغ معهم غاية ما وراءها غاية في الشدة والضنك ، قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية 111 من سورة يوسف في ج 2 ، فكونوا أنتم أيها المؤمنون مثلهم واستنصروا ربكم حالة كربكم ، فإنه لا بد أن يأخذ بيدكم وينصركم بمقتضى عهده إليكم وهو لا يخلف الميعاد (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) الآية 112 من التوبة الآتية ، قال المفسرون رحمهم اللّه لما هاجر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة اشتدت فاقتهم لأنهم تركوا أموالهم في مكة واستولى عليها المشركون ، وأظهرت اليهود العداوة لحضرة الرسول وأصحابه وآثر قوم من أهل المدينة النفاق على الإيمان ، وأثّرت عليهم غزوة أحد التي وقعت قبل نزول هذه الآية في السنة الثالثة التي أشار اللّه تعالى إليها بقوله (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية 139 من آل عمران الآتية ، وسنذكر القصة هناك إن شاء اللّه.
فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تطيببا لقلوبهم وتسلية لما وقر في صدورهم.
روى البخاري(5/168)
ج 5 ، ص : 169
ومسلم عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا ألا تنتصر لنا ، ألا تدعو لنا ؟ فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، واللّه ليتمن اللّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللّه والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون.
فاعتبروا أيها المؤمنون في هذا العصر كيف كان أسلافكم وكيف أعقب صبرهم الظفر ، فهل لكم أن تتحملوا الأذى والمشقة الآن ولا تجبنوا ولا تيأسوا لتنالوا حقكم المغصوب ، فهمّوا وجدوا وجاهدوا في القول والفعل والمال والنفس ، ولا تستبطئوا نصر اللّه فإنه قريب منكم إذا اتقيتم وتوكلتم وآمنتم بما وعدكم ربكم من العز والظفر.
مطلب في الإنفاق والجهاد وفوائدهما وما يترتب على القعود عنهما من البلاء :
هذا ، وبعد أن ذكر اللّه تعالى أحكام القصاص والوصية والصيام والحج والجهاد ، وحذّر من الإخلال بشيء منها وحظر من اتباع وساوس الشيطان الذي يريد بكم الانتقام بسبب ما حل به من المخالفة لأمر اللّه لعدم سجوده لأبيكم آدم عليه السلام شرع يبين أحكام الإنفاق فقال تعالى قوله «يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ» لما فرض اللّه تعالى الزكاة على عباده فرضت مطلقة لم تقدر بقدر ، ولذلك سألوا حضرة الرسول عن القدر الذي يجب عليهم إنفاقه من أموالهم والصنف الذي يجب أن ينفقوا منه من أموالهم هل هو عن النقد فقط أو يشمل الأنعام والحبوب ، وكان أول من سأل على ما قيل عمر بن الجموح وكان متمولا وطاعنا في السن ، فأنزل اللّه هذه الآية جوابا للغاية التي هي مصرف المال ، ولم يكن الجواب بالسبب الذي هو القدر المنفق أو النوع المنفق منه كما تقدم في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية 190 المارة ، قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم من ذوي الأموال «ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ» هذا وإن كان يطلق على المال الكثير كما مرّ في الآية 180 ، إلا أنه هنا تعظيما للصدقة يطلق على مطلق المال قليلا كان أو كثيرا ، من أي نوع كان «فَلِلْوالِدَيْنِ» أولا إذا كانا محتاجين أداء لواجب حقهما عليكم(5/169)
ج 5 ، ص : 170
لأنهما السبب الظاهري في وجودكم «وَالْأَقْرَبِينَ» منكم بعدهما لأنهم أولى بمعروفكم من غيرهم «وَالْيَتامى » الأولاد القاصرين ذكورا أو إناثا إذا لم يكن لهم مال متروك من أبيهم لعدم قدرتهم على الكسب وعدم وجود من يقوم بنفقتهم فهم بعد الأقربين أولى من غيرهم راجع الآية 177 المارة «وَالْمَساكِينِ» الذين لا يكفيهم كسبهم فهم أرجح من غيرهم «وَابْنِ السَّبِيلِ» أي الغريب المنقطع عن بلاده لفراغ ذات يده ولا يستطيع الاستدانة لعدم الوثوق به وإنما ذكر اللّه تعالى هؤلاء وخصهم بالنفقة لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح الفقراء كافة فعلمه أنه إذا لم يستطع أن يبذل الغني من ماله للكل فيقتصر على الأقرب والأولى والأحوج بترتيب بديع ، وإذا كان عنده ما ينفق على غيرهم فيقول اللّه تعالى له «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ» تطيب به أنفسكم طلبا لمرضاة اللّه لغير هؤلاء «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ 215» لا يخفى عليه ما تنفقونه وسيدخر لكم ثوابه ويجازيكم عليه ويزيدكم من فضله.
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة قيل لا يلتفت إليه ، إذ ليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة حتى ينسخ به ، ولأن اللّه تعالى ذكر في هذه الآية متى تجب عليه النفقة أي من تلزمه نفقته من الوالدين والأقربين ومن هم أولى بالصدقة من غيرهم.
قال الشافعي رحمه اللّه :
إن الصنيعة لا تعد صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع
قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» من تصور الطبع لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الموت ، إلا أن من عرف ما أعده اللّه تعالى للمجاهدين من الفضل والكرامة والذكر الحسن هان عليه كل ذلك ، ولا سيما إذا وعى قوله تعالى (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية 170 من آل عمران الآتية ، وعرف مغزى قوله جل قوله (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ) الآية 95 من سورة النساء ، تأمل مرمى قوله عز قوله (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ) الآية 122 من سورة التوبة الآتية أيضا فضلا عن أنه إنما يكون فرضا على الأمة لإعلاء كلمة اللّه ونصرة رسوله وحفظ الأوطان وصيانة النفوس والأعراض ، وإذلالا لأعداء اللّه ورسوله أعداء الإسلام ، ولهذا يقول اللّه تعالى «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا(5/170)
ج 5 ، ص : 171
شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»
كالجهاد ، لأن فيه إحدى الحسنيين الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة ، ويدخل في معنى هذه الآية الجليلة كل ما كان شاقا في الحال نافعا في المآل كشرب الدواء مثلا فإن النفس تكرهه ، وإنما تقدم عليه لما تتوخاه فيه من حصول الشفاء وتمام العافية ، وكذلك العبادات كالصوم والحج فإن النفس قد تكرههما مع أنه في عاقبتهما الخير والرضاء وكذلك سائر العبادات ، لأن لفظ (شَيْئاً) في الآية يشمل كل ما تكرهه النفس ، لأنه نكرة والنكرة تعم «وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» كترك الجهاد وسائر العبادات والإنفاق والتخلف عن الغزو ، لأن العدو إذا رآكم جبنتم ومللتم وجنحتم إلى الكسل وملتم إلى الراحة ، تحداكم وغزاكم في عقر داركم ونال من بلادكم وأموالكم وأعراضكم ، وسيطر عليكم فأذلكم وأهانكم ، وإذا علم صلابتكم وثباتكم ودوام مهاجمتكم عليه ورآى حزمكم وحبكم للموت في سبيل شرفكم جبن وكف عنكم ، ووقع في قلبه الخوف ، فيدين لكم ، وكذلك كل ما نهى الشرع عنه ، فإن النفس تحبه ، وتطمع فيه وتطمح عليه فتميل لارتكابه لقضاء نهمتها الخبيثة وشهوتها الخسيسة ولذتها الفانية ، مع أن عاقبتها وخيمة في الدنيا لما يلحقه من مذمة الناس وسوء ذكره بينهم ، وفي الآخرة لما يترتب عليها من العقاب الأليم ، لأن الدنيا بما فيها فانية والعاقبة المحمودة لأهل التقوى ، فلينظر الإنسان الأمر الذي يريد الإقدام عليه قبل فعله ، فإن كان يرجو فيه خيرا فليقدم عليه ولو فيه مشقة ، لأن الجنة حفت بالمكاره ، وإن كان شرا فليتباعد عنه ولا يغتر في لذاته وشهواته ، فإن النار حفت بالشهوات ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته - أي بحسب اجتهادك وعقلك واستشارة من تعتقد صلاحه ونصحه لك وأمانته ودينه ومودته لك - واستخر اللّه تعالى فما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
«وَاللَّهُ يَعْلَمُ» خوافي الأمور وبواطنها وعواقبها «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 216» إلا ظواهرها ولا تعلمون شيئا إلا بتعليم اللّه إياكم ، فاتبعوا ما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه.
وقد ذكرنا أن لفظ عسى في القرآن إذا كانت من اللّه فهي لليقين ، وإذا كانت من الغير فهي للتوهم والشك مثل لعل.
واعلم أن الحكم الشرعي في الجهاد هو فرض عين على كل مسلم(5/171)
ج 5 ، ص : 172
إذا هاجم العدو بلاد الإسلام ، وفرض كفاية إذا كانوا في بلادهم وتحدوكم قبل الوصول إليكم ، وفي هذه الصورة إذا قام به البعض من المسلمين سقط الإثم على الباقين ، أما في الصورة الأولى فكلهم آثمون ، ومسنون في كل وقت ، ومن السنة أن نبدأهم به.
أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوم الفتح : لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا.
وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 190 المارة أولاد وجه لقول من قال أن المخاطب بهذه الآية هم أصحاب محمد الموجودون في زمانه فقط ، لأن الخطاب فيها عام لا يقيد بهم ، إذ لا مخصص لذلك ، ولم يقصد به أناس دون آخرين ولا زمان ومكان لأن سياق الآية يدل على التعميم وهي مؤيدة بالأحاديث الصحيحة فيدخل في خطابها كل الأمة إلى
يوم القيامة.
وما قيل إنها منسوخة بآية التوبة 122 التي مطلعها (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إلخ لا وجه له أيضا ، لأن هذه الآية خاصة مقيدة نافية وجوب الجهاد على العموم والتي نحن في صددها عامة مطلقة ، وقد ذكرنا غير مرة بأن المقيد مخصص لا ناسخ ، وأن المقيد دائما يحمل على المطلق ، والخاص على العام.
وكذلك لا يتجه القول بأنها ناسخة للعفو عن المشركين ، إذ لم تتعرض لشيء من ذلك ، وإنما هي عبارة عن إخبار اللّه تعالى عباده بأن الجهاد الذي أمرناكم به مفروض عليكم ، لأنه مكتوب في أزله كذلك ، لئلا يقوهم الغير بأنه مندوب أو مباح بدليل قول (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) إلخ ، تأمل قوله تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» إثمه ، عظيم جرمه ، وهذا على طريق إرخاء العنان بالاعتراف بعظم القتال فيه ، ولكن الذي ارتكبوه فيه أكبر إثما وأعظم وزرا من القتال فيه ، وهو المبين بقوله تعالى «وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» ومنع المسلمين من سلوكه ومن التمسك بدين الإسلام الحنيف وتفرعاته «وَكُفْرٌ بِهِ» وجحود بالإله الكبير الذي شرعه لعباده «وَ» صدّ المؤمنين عن دخول «الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعهم من الطواف به «وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ» وإجلاؤهم عنه(5/172)
ج 5 ، ص : 173
وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك أوطانهم وأموالهم ونسائهم «أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ» إثما وأعظم وزرا من القتال في الشهر الحرام وقد سماهم اللّه تعالى أهله لأنهم كانوا قائمين به كما يريد اللّه تعالى ، أي هذه الأمور التي اقترفتموها نواء لأهل الإسلام وعداء لرسولهم وجحودا لدينهم وربهم «وَالْفِتْنَةُ» التي هي الشرك الذي أنتم عليه لتفتنوا الناس به «أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» الذي يحتجون به وهو قتل الحضرمي الآتي ذكره لأن ذلك كان خطأ وظنا أن اليوم الذي قتلوه فيه آخر جمادى الآخرة المباح فيه ، ذلك لا على أنه يقين بأنه أول رجب الحرام.
ثم بين إصرارهم على الفتنة بقوله «وَلا يَزالُونَ» هؤلاء الكفرة «يُقاتِلُونَكُمْ» أيها المؤمنين «حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ» الحق إلى دينهم الباطل «إِنِ اسْتَطاعُوا» وهيهات ذلك ، لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب الطاهرة لا يبتغي صاحبه به بديلا ، وأن اللّه تعالى إنما حذر عنه تأكيدا لتشربه في قلوبهم وتعظيما لشأنه عندهم فقال «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» فيبقى مرتدا «فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ» ولم يتدارك نفسه بالتوبة قبل حالتي اليأس والبأس «فَأُولئِكَ» المرتدون المصرون على ارتدادهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» إذ تبين زوجة المرتد ويحرم ميراث أقاربه ويقتل حدا ويكون ماله فيئا للمسلمين لأن أقاربه يحرمون منه إذ لا توارث بين المؤمن والكافر إجماعا «وَالْآخِرَةِ» لأن الكفر يمحق ثوابها كما أن الإيمان يجب ما قبله «وَأُولئِكَ» المرتدون الخاسرون الدارين الممقوتون عند اللّه هم «أَصْحابُ النَّارِ» لأنهم عملوا في الدنيا لأجلها فقط وفعلوا ما يؤهلهم لها ولذلك «هُمْ فِيها خالِدُونَ 217» لا يخرجون منها أبدا.
مطلب متعلقات الجهاد وقصة قتل الحضرمي وأمر النبي رسله بعدم فتح الكتاب إلا بعد يومين من استلامه :
وسبب نزول هذه الآية أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعث عبد اللّه بن جحش أميرا على سرية في جمادى الآخرة السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر ، مما يدل على أن هذه الآية متأخر نزولها عن سورتها.
وهو جائز كما يتقدم النزول على الحادثة أو يقارنها.
وكتب له كتابا وقال سر على اسم اللّه ولا تنظر في الكتاب حتى تسير(5/173)
ج 5 ، ص : 174
يومين ، فإذا نزلت فافتح الكتاب فاقرأه على أصحابك ، ثم امض لما أمرتك به ولا تستكره أحدا منهم على السير معك فسار يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه :
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أما بعد فسر على بركة اللّه بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فارصد بها عيرا لقريش لعلك تأتينا منها بخير) فقال سمعا وطاعة ، ثم قال لأصحابه ذلك وقال لهم إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ، ومن كان يكره فليرجع ، ثم مضى وبقي أصحابه معه ، وهم ثمانية رهط ولم يتخلف عنه أحد ، حتى إذا كانوا بمعدن فوق الفرع بموقع في الحجاز يقال له نجران والفرع مجرى الماء إلى الشعب ، وفرع كل شيء أعلاه ، وفرع القوم شريفهم ، والمعدن كمجلس منبت الجواهر من الذهب وغيره ، فلا يختص بمكان دون آخر ، ولا يختص بالذهب والفضة بل بكل شيء يخرج من الأرض كالنحاس والحديد والرصاص وغيرها.
أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غروان بعيرا لهما كانا يتعاقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد اللّه بقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة موقع بين مكة والطائف ، بينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ومن تجارة الطائف ومعها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد اللّه ابن المغيرة ونوفل بن عبد اللّه المخزوميان ، فلما رأوا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هابوهم ونزلوا قريبا منهم ، فقال عبد اللّه بن جحش وهو ابن عمة رسول اللّه لقومه :
إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم ، وليتعرض لهم ، فإذا رأوه محلوقا أمنوا ، فحلقوا رأس عكاشة بن محصن ، ثم أشرف عليهم ، فلما رأوه أمنوا ، وقالوا قوم عمّار فلا بأس علينا ، وكان ذلك آخر يوم من جمادى الآخرة ، وكانوا يرونه أول رجب ، فتشاور القوم فيهم وقال بعضهم لبعض متى تركتموهم هذه الليلة ليدخلن رجب الحرام وليمتنعن منكم ، فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم ، فرمى واقد بن عبد اللّه السهمي عمرا الحضرمي بسهم فقتله ، فكان أول قتيل من المشركين ، وأسروا الحكم وعثمان ، وهما أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم ، واستاق المسلمون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام وسفك الدماء ، وأخذ الحرائب أي المال ، (5/174)
ج 5 ، ص : 175
وعيروا المسلمين الموجودين في مكة بذلك ، فبلغ ذلك حضرة الرسول ، فجاء بعبد اللّه وأصحابه ، وقال ما أمرتكم أن تقاتلوا في الشهر الحرام ، ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ شيئا منها ، وعنفهم المسلمون على ذلك أيضا ، فعظم هذا عليهم وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم ، فقالوا يا رسول اللّه إنا قتلنا الحضرمي ثم أمسينا فرأينا الهلال فلا ندري أصبناه فيه أم في جمادى الآخرة ، وأكثر الناس في ذلك أي في انتقاد واقد ورفقائه لإقدامهم على قتل الحضرمي في الشهر الحرام الذي لا يجوز فيه استعمال السلاح ولو على قاتل أحدهم ، فأنزل اللّه هذه الآية وأخذ رسول اللّه الخمس من هذه الغنيمة وهي أول غنيمة في الإسلام وقسم الباقي على أصحاب السرية ، ثم بعث أهل مكة بفداء أسيريهما فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى يأتي سعد وعتبة الذين ذهبا بطلب بعيرهما حذرا من أن قريشا أصابتهما فلما جاءا فداهما فأسلم الحكم ثم استشهد في بئر معونة رحمه اللّه ، ورجع عثمان إلى مكة فمات كافرا ثم أنزل اللّه تعالى في عبد اللّه بن جحش وأصحابه حينما قالوا لحضرة الرسول هل نؤجر على غزوتنا هذه ونطمع أن نعد غازين إذ يقول الناس إن لم يؤزروا لم يؤجروا قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 218» بهم يعفو عن هفوتهم ولا يؤاخذهم عليها أما الكفرة الذين يموتون على كفرهم فلهم الخيبة واللعنة وسوء العاقبة.
مطلب في الخمر والميسر ومخالطة اليتامى والنظر إليهم وبحث في النفقة أيضا وحفظ بيت المال
:
قال تعالى و«يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» القمار بجميع أنواعه وكافة أصنافه «قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ» ينتج عنهما مضار خطيرة ديفية ودنيوية «وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» من أرباحهما والاتجار بهما ، لأن الخمر يحتاج إلى اعمال ينتفعون بما يأخذونه من الأجرة ، وفي بيعه وشرائه ينتفع آخرون لكثرة تصريفه بسبب كثرة استعماله ، لأنه كان يقدم للناس كما تقدم القهوة الآن والشاي للقادمين الزائرين.
والميسر هو نيل المال دون تعب ولا كد ولا جهد وربما من يكسب يعطي منه كما هو المعتاد الآن عند من يتعاطاه ، فينتفع(5/175)
ج 5 ، ص : 176
الغير منه ايضا ، لأن المال الذي يأتي عن غير طريق التعب يهون على النفس إنفاقه.
وقيل في هذا :
ومن أخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد
فالمنافع المذكورة في الآية عبارة عن هذا لا غير.
وسبب حرمة القمار هو أكل أموال الناس بالباطل ، وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الآية 189 المارة ومثلها الآية 29 من سورة النساء الآتية ، وهو داخل في قوله صلّى اللّه عليه وسلم : إن رجالا يتخوضون في مال الغير بغير حق فلهم النار روى البخاري ومسلم أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من قال لصاحبة تعال أقامرك فليتصدق.
فإذا كان مطلق القول يقتضي الكفارة والصدقة تنبيء عن عظيم ما وجبت أو سنّت له ، فما ظنك بالفعل مباشرة ؟ ، ويدخل في الحديث الأول ما يسمونه الآن (يا نصيب) ألا فليحذره وليتجنّبه من يتق اللّه ، لأنه تخوض في مال الغير وهو من الباطل المنصوص عليه بالآية المارة.
قال عمر ابن الخطاب ومعاذ بن جبل : أفتنا يا رسول اللّه في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل والمال ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وقد أنزل اللّه تعالى في الخمر أربع آيات الأولى مكية وهي قوله تعالى (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) الآية 67 من سورة النحل في ج 2 فراجعها فقد بينا فيها ما يقتضي هذا البحث ، والثانية هذه مدنية فتركها جماعة كراهية الدخول في الإثم المشار إليه فيها لوصفه بالعظم ، واستمر عليها الباقون لعدم الأمر باجتنابها وعدم قدرتهم على منع أنفسهم وقمع شهواتها ، وقد ذكرنا ما يتعلق فيها بالمقدمة وسنأتي على تمام البحث في الآيتين 43 من النساء و90/ 91 من المائدة بصورة مفصلة إن شاء اللّه القائل «وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما»
ولهذا اجتنبها ذو والنفوس الطاهرة والإيمان القوي ، لأنهم فهموا منها أن ما كثر إثمه كثر وزره وما عظم عقابه حرم فعله «وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ» من أموالهم إذ لم يبين لهم اللّه القدر اللازم إنفاقه ليعملوا به ، وإنما كرروا السؤال لأن الجواب في السؤال الأول لم يأت على قصدهم بل كان للغاية من الإنفاق كما مر ، وكذلك لم يبين حضرة الرسول لهم ذلك ، ولكنه يكثر من ترغيبهم بالإنفاق «قُلْ» يا سيد الرسل أنفقوا «الْعَفْوَ»(5/176)
ج 5 ، ص : 177
أي الزائد على حوائجهم وذلك أنهم كانوا رضي اللّه عنهم لما سمعوا حضرة الرسول يكثر من الحث على الانفاق ويطنب في فضله صار منهم لشدة حرصه على ثواب النفقة ينفق جميع ما عنده ، حتى إن منهم لا يبقي ما يحتاج إليه للأكل ، فأمرهم في هذه بإنفاق الفاضل عن حاجتهم لكثرة ذوي الحاجة إذ ذاك من المهاجرين والأنصار في بداية الإسلام ، وكان السؤال في الآية 210 السابقة عن المنفق والمصرف فوقع هنا عن المقدار والكيفية.
وكلمة العفو يجوز فيها الضم والفتح.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول.
وأخرج بن خزيمة مثله بزيادة تقول المرأة أنفق علي أو طلقني ، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني ، ويقول ولدك إلى من تكلني.
وأخرج بن سعيد عن جابر قال : قدم أبو حصين السّلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب ، فقال يا رسول اللّه أصبت هذه من معدن (هو ما ذكر بيانه آنفا) فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها ، فأعرض عنه صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول اللّه فحذفه بها ، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته ، فقال يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول.
فاشترط حضرة الرسول العنى عن الحاجة للمتصدق ، فصاروا يمسكون ما يكفيهم ويتصدقون بالفاضل إلى أن حدد لهم حضرة الرسول القدرة الواجب إنفاقه في الزكاة ، فمنهم من اقتصر عليه ، ومنهم من داوم على إنفاق ما يفضل عن حاجته لقوة إيمانه ورغبة فيما أعده اللّه تعالى للمتصدقين من الأجر.
ومن عقل تفسير هذه الآية على نحو ما ذكرنا علم أن القول بالنسخ لا وجه له.
«كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشافي «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» الموضحات لما تسألون عنه «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ 219 فِي الدُّنْيا» فتعلمون أنها زائلة فتأخذون منها قدر ما يكفيكم وتنفقون الفاضل فتنتفعون بثوابه في الدنيا «وَالْآخِرَةِ» التي يجب أن تتفكروا فيها بعاقبة أمركم فتكثروا من الإنفاق مما تجود به نفوسكم من انعام اللّه عليكم وتزودوا لها من أعمال الخير رجاء ما أعده اللّه تعالى لأهل الخير ، (5/177)
ج 5 ، ص : 178
قالوا حينما أراد الملك الظاهر وضع ضريبة لأجل نفقات الحرب ، واستفتى الإمام النوري فقال لا تتحقق هذه الحاجة إلا بعد بيع ما في قصر الملك من المماليك والأواني الذهبية والفضية التي هي من بيت المال ، فإذا لم تكف فله وضع الضريبة المذكورة.
ومن هذا القبيل قدمت مذكرة إلى (سالاز) رئيس وزارة البرتقال بطلب اعتماد إعانة لفرقة المغنين العازمة على السفر ، فوقع بما نصه : كيف أعطي مالا للمغنين في الوقت الذي لا أجد ما أعطيه للباكين
!.
فاعتبروا أيها الناس وقيسوا بين هذا ووضعنا الحاضر مما تصرفه الحكومة من بيت المال على ولائم لا علاقة لها بالحرب ولأناس لا يستحقونها وفيها ما فيها.
ألا فليتقوا اللّه ولينفقوا مما أنعم اللّه عليهم في وجوه البر والخير وإن كانوا لأبد فاعلين فليكن من مال أنفسهم ويتركوا مال بيت المال لما خصص له ولحاجة الجيش عند الحاجة لحفظ ثغور المسلمين وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم.
قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى » قال ابن عباس لما أنزل اللّه (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) الآية 34 من الإسراء في ج 1 ، صاروا يتحرجون حتى عن مخالطتهم فأنزل اللّه «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» أي مخالطتكم لهم وإرشادكم إياهم لما فيه صلاحهم خير من مجانبتكم لهم وإعراضكم عنهم وأكثر أجرا لأن في ذلك النظر إلى أحوالهم ومناظرة أموالهم وتعليمهم كيفية استرباحها لهم لئلا تأكلها الزكاة ، لأن ما لا يزيد ينقص فيسبب أضرارا لهم في المستقبل «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ» وتجالسوهم فيتعلموا طرق المعاش والمعاشرة مع الناس والتخلق بالأخلاق الحسنة واجتناب السيئة ويأنسوا بكم ويعرفوا ما يضرهم وينفعهم «فَإِخْوانُكُمْ» أولئك اليتامى ومن واجب الأخوة المخالطة والملازمة لا التقاطع والمباعدة «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ» لأحوالهم «مِنَ الْمُصْلِحِ» لها فكونوا مصلحين بتعليمهم الأخلاق العالية وأحوال البيع والشراء وسائر العقود التي من شأن البشر أن يتعلمها ، وإن تركهم وشأنهم قد يوجب لهم الفساد والإفساد فتأثموا وتصيبكم منهم معرة ، واللّه مطلع على نياتكم ، فأحسنوا إليهم بما يفضي لخيرهم ومثوبتكم «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ» بأن شدد عليكم الأمر وضيقه في وجود المخالطة وتنية أموالهم وحرمكم من ربحها ، بأن يجعلكم(5/178)
ج 5 ، ص : 179
كالخدم لهم ، ولكن رحمة بكم وبحال اليتيم لم يشأ ذلك توسعة عليكم لاحتياج بعضكم إلى الربح بمال الغير لقلة ذات يده «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجزه شيء قادر على التضييق عليكم في ذلك «حَكِيمٌ 220» يأمر بالتوسعة على عباده بما فيه صلاحهم من احتياج بعضهم إلى بعض لأن التعاون في هذه الدنيا مطلوب فجعل للخلق رابطة فيما بينهم لا غنى لهم عنها.
وبعد أن ذكر اللّه تعالى ما يتعلق بالأيتام والإنفاق شرع يذكر ما يتعلق بالنكاح الذي هو من ضروريات البشر أيضا ، لأن غالب ما ينزل في المدينة عبارة عن أحكام وحدود وغالب ما ينزل بمكة عقائد وأخبار مما هو بمنزلة التخلية والأحكام بمثابة التحلية ولا تكون التحلية إلا بعد التخلية تأمل
قوله تعالى «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ» حرة حسنة «وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» تلك الكافرة بما لها وجمالها ونسبها «وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ» حر قوي «وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» ما له ونسبه وجاهه وشجاعته «أُولئِكَ» المشركون والمشركات «يَدْعُونَ إِلَى» الشرك والكفر المؤديين إلى «النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى» الإيمان به ورسوله وكتابه المؤدية إلى «الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ» وإرادته وتوفيقه «وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 22» بمعانيها فيعرفون معزاها ويتعظون بمرماها.
فيتباعلون بمن مخافتها.
كان صلّى اللّه عليه وسلم بعث أبا مرشد يسار بن حصين أبي مرشد الفنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من لمسلمين سرا ، فلما قدمها سمعت به خليلته عناق فجاءته وكافته أن يواقعها كما كان في الجاهلية ، فقال لها ويحك إن الإسلام حال دون هذا ، فقالت له تزوجني ، فقال لها حتى استأذن رسول اللّه ، فقالت له أبي تتبرّم واستعانت عليه بزبائنها ، فضربوه ، فلما رجع أعلم حضرة الرسول بما وقع له معها واستأمره بزواجها ، فأنزل اللّه هذه الآية في هذه الكافرة ، أما المؤمنة فهي خنساء وليدة حذيفة بن اليمان أعتقها وتزوجها وقال لها لقد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك.
وقيل نزلت في عبد اللّه بن رواحه لأنه كان أعتق أمة وتزوجها ، فعاتبه العرب وعرضوا عليه حرة مشركة ، فأبى ولا مانع من تعدد أسباب النزول واعلم أن الشق الأخير من الآية(5/179)
ج 5 ، ص : 180
خطاب إلى أولياء النساء عامة ينبئهم به أن لا يزوجوا المسلمات إلى المشركين ، ولا يتزوجوا المشركات ، لذلك السبب.
الحكم الشرعي : يحرم على القطع زواج المسلم بالكافر والكافرة بالمسلم ولا ينعقد النكاح بإجماع الأمة ، وحكم المجوس حكم المشركين لأنهم ليسوا بأهل كتاب ، ويجوز أن يتزوج المسلم كتابية لأنه مؤمن بنبيا ونبيّها وكتابه وكتابها لا العكس ، لأن الكتابي يجحد نبي المسلمة وكتابها ويوشك أن يحملها على الارتداد عن دينها ، لأن الرجال قوامون على النساء وخاصة النصارى فلا طلاق عندهم إلا بالزنى ويوشك أن يضارها ولا سبيل للتخلص منه إذ لا مساغ للتفريق عندهم إلا بالزنى وهو محرم تأباه المسلمة ، فيضطرها الحال على البقاء في الشقاء وتحمل الضيم والأذى والذل والهوان مما لا يلتئم وعزة المؤمنة وهذه الأشياء محتملة الوقوع مع الكتابية أيضا إلا أن حملها على الإسلام خير عند اللّه وعند زوجها ، وإذا لم تعجبه يطلقها ، وإذا ضارها فلها طلب التفريق ، فاحتمال بقاء الضرر عليها معنى معدوم ، لأن الشريعة الإسلامية كفلت لها حقها وساوتها بالمسلمة.
وهذه الآية محكمة لأن اسم الشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان ولا وجه للقول بنسخها في حق الكتابيات لعدم دخولهن فيها ، وما قيل إن اصحاب الشرك يتناولهن لأن اليهود تقول عزير بن اللّه والنصارى تقول المسيح بن اللّه لا يطرق على جميع أهل الكتاب بل هو مقتصر على من يقول ذلك بمعنى غير قابل للتأويل والتفسير ، ولهذا قال تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) الآية 20 من سورة المائدة وهي مكررة فيها لأن اللّه جلت قدرته هو الأب الأكبر لجميع البشر ولكن لا على المعنى المتحقق بالأبوة تعالى اللّه وتنزه عن ذلك ، كما أن الخلق كلهم أولاده وعياله ، ولكن لا على المعنى المتحقق في البنوة كما سنأتي على تفصيل هذا في الآية المذكورة في محلّها إن شاء اللّه القائل «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ» لهم يا حبيبي «هُوَ أَذىً» للذين يقربون زوجاتهم معه لقذارته «فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ» أيها الناس إن أردتم المحافظة على صحتكم وطاعة ربكم «فِي الْمَحِيضِ» مدة وجوده ، فإنه يسبب لكم الأذى ، قيل هو الجذام ولا داء أقبح منه ، فقد جاء بالأخبار من أتى حائضا وجذم فلا يلومن إلّا نفسه.(5/180)
ج 5 ، ص : 181
فاحذروا أيها الناس قربان نسائكم معه «وَلا تَقْرَبُوهُنَّ» مبالغة في عدم المجامعة ، وإلا فالقربان بلا جماع غير ممنوع كما ستعلم فلا تجامعوهن «حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ» بانقضاء مدة الحيض واغتسلن منه «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» أي في القبل محل الحرث «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ» عما نهوا عنه بعد أن فعلوه جهلا أو عمدا ثمّ تابوا فتركوه ، ولم يعودوا إليه امتثالا لأمره «وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 222» من الأقذار الظاهرة والباطنة والمعاصي الحسية والمعنوية.
مطلب في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وفي الإتيان في الدبر :
روى مسلم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسألوا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه هذه الآية فقال صلّى اللّه عليه وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح.
فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه ، فجاء أسيد بن حفير وعباد بن بشير فقالا يا رسول اللّه إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن ، فتغير وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي لكراهة ما سمع منهما بعد نزول هذه الآية ، فقال الحاضرون هذه الحادثة غضب رسول اللّه حتى ظننا أنه قد وجد عليهما ، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما أي لم يغضب ، وإنما غضب من سؤالهما الأخير لمغايرته ما جاء في الآية الشريفة وهو لا يغضب إلا للّه ، لذلك أبان لهما بفعله هذا أنه لم يجد عليهما إلا أنه أفهمهما بأن سؤالا كهذا تجد قول اللّه يوجب غضبه ، لينتهي الآخرون عن مثله ، وليعلموا أن نهيه عن عدم قربان الحائض ليس لمخالفة اليهود وإنما هو اتباع لوحي اللّه الواجب إتباعه وافق شرع اليهود أم خالفه ، لأن شرعنا ناسخ لما تقدمه من الشرائع كلها.
الحكم الشرعي : أجمع المسلمون على تحريم الجماع زمن الحيض وعلى كفر من يستحله لمخالفته القرآن ، فقد أخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : من أتى حائضا أو امرأة في دبرها ، أو كاهنا (أي أو جاء كاهنا يستشيره) فقد كفر بما أنزل على محمد.
أي إذا استحل(5/181)
ج 5 ، ص : 182
ذلك ولم ير بأسا به.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض قال يتصدق بنصف دينار.
وفي رواية إن كان دما أحمر (أي في أول الحيض) فدينار ، وإن كان أصفر (أي في أواخره) فنصف دينار ، وهذه كفارته إذا لم يستحل ، أما إذا استحله فلا كفارة فيه ، وإنما فيه الكفر والعياذ باللّه وعليه التوبة والرجوع إلى اللّه وإلا فيقتل.
وأجمعوا على جواز الاستمتاع بالحائض بما فوق السرة ودون الركبة ، وجواز مضاجعتها ، فقد أخرج في الصحيحين عن عائشة قالت : كنت أغتسل أنا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ، أي يستمتع بي.
وأجمعوا على أن الحائض يحرم عليها الصوم والصلاة ودخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله ، ووجوب قضاء الصوم لعدم تكرره ، وعدم قضاء الصلاة لتكررها.
وقد أخرج في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يأمرها بقضاء الصوم دون الصلاة ، وأجمعوا على عدم ارتفاع شيء مما حرمه الحيض عنها حتى تغتسل أو تتيمم الا الصوم فإنه إذا انقطع دمها بالليل ونوت صيام النهار صح.
وقال أبو حنيفة يجوز جماعها بعد مضي أكثر مدة الحيض إذا فاتها وقت صلاة ولم تعتسل ، وظاهر الآية يؤيد الإجماع وقراءة التشديد في يطهّرن يؤكده ، وانما جعلت كفارة من يجامع زوجته وهي حائض دينارا أو نصف دينار ، لأنه واللّه أعلم يقابله دفع البلاء المتوقع حدوثه الوارد بالحديث الشريف المار ذكره ، لأن الصدقة تدفع البلاء.
قال تعالى «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ» مزرع ومنبت الولد كما أن الأرض مزرع ومنبت الحب شبه جل جلاله قبل المرأة بالأرض ، والنطفة بالبذر ، والولد بالنبات ، تشبيها بليغا «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» من قيام وقعود واستلقاء وعلى طرف مقبلة أو مدبرة وعلى أي صورة وحالة ومكان وزمان شئتم ، ولكن في القبل ، لأنه محل الزرع المعبّر عنه بالحرث كالأرض الطيبة المنبتة ، فإن اللّه تعالى أحل لكم ذلك كله كيف شئتم عدا أيام الصوم والحج والحيض والنفاس والأمكنة المحترمة.
وتشير هذه الآية إلى تحريم إتيان النساء في أدبارهن ، ولهذا المغزى عبر عنه تعالى بالحرث ويؤيد هذا ما رواه أبو هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ملعون من أتى المرأة في دبرها(5/182)
ج 5 ، ص : 183
- أخرجه أبو داود - راجع الآية 26 فما بعدها من العنكبوت في ج 2 وما ترشدك إليه من المواضع.
وقد أجمع العلماء على تحريم إتيان النساء في أدبارهن لأن اللّه تعالى حرم الفرج حال الحيض للأذى العارض وهو الدم ، فمن باب أولى أن يحرم الدبر الملازم للنجاسة دائما المولدة للأمراض التناسلية ، أعاذنا اللّه من ذلك ، وقاتل فاعليه ولأن اللّه تعالى نص على ذكر الحرث وهو محل النبات فلا يجوز العدول عنه إلى غيره ، ولا يجوز بل يحرم على القطع تأويل محل الحرث بالدبر ، لأنه سباخ لا ينبت ، ولقوله تعالى (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية السابقة ، واللّه قد أمر أن يكون بالفرج دائما إلا وقت الحيض والنفاس للأذى والقذارة ، والدبر محل الأرجاس دائما والأذى متحقق فيه ، فالإتيان بالدبر مخالف للقرآن والحديث ويكفر مستحله وهذا هو الحكم الشرعي فيه.
وما قيل إن الإمام مالك استدل في هذه الآية على جواز إتيان النساء في أدبارهن مكذوب عليه ، وحاشاه من ذلك وتنزهت ساحته رضي اللّه عنه عما هنالك ، وكذلك ما حكاه زيد بن أسلم عن نافع ومحمد بن المنكدر لا حقيقة له لمخالفته إجماع الفقهاء الذين أجمعوا على أن الحرث لا يكون الا بحيث يكون النسل فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل ، راجع تفسير هذه الآية في الجزء الأول ، ص 321 في تفسير مجمع البيان للطبري ..
وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال : كانت اليهود تقول إذا جامعها فمن ورائها جاء الولد أحول ، وفي
رواية للترمذي : كانت اليهود تقول من أتى المرأة في قبلها من دبرها وذكر الحديث ، وما قيل إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن يرده ما رواه عبد اللّه بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد اللّه بن عمر فقال له يا عم ما حديث يحدثه نافع عن عبد اللّه أنه لم يكن ير بأسا في إتيان النساء في أدبارهن فقال كذب العبد وأخطأ وإنما قال عبد اللّه يؤتون في فروجهن من أدبارهن ، وعلى هذا يؤول ما رواه ابن عباس عن عمر رضي اللّه عنهم حينما قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هلكت ، قال وما أهلكك ؟ قال حولت رحلي الليلة فلم يرد عليه حتى أوحى اللّه لرسوله في هذه الآية والحديث هذا أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وحاشا عمر أن يصدر منه غير الإتيان في القبل ، إذ لا يميل إلى ذلك المحل الخبيث عاقل فكيف(5/183)
ج 5 ، ص : 184
بمعدن العقل والمروءة ؟ هذا واعلم أن كل ما ورد من الأحاديث في هذا الشأن محمول على هذا ولا يقول بغيره إلا منافق خبيث ، وما قاله بعض الإمامية فهو من هذا القبيل استنادا على تأويل الحديث بما ليس مطلوب في معناه فلا يلتفت إليه والأكثر منهم على خلافه ، وكل من له مكة من علم أو لمعة من إدراك أو ذرة من إيمان يقول بحرمته ولا يتردد في تأويل هذه الآية وتفسير هذه الأحاديث إلا على ما ذكرنا فضلا من أن الطبع السليم والغيرة الإنسانية يمجّانه ويقبحانه ويلعنان فاعله «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» الأولاد الذين هم مظنة الانتفاع بهم في الدنيا والآخرة بإتيان النساء في فروجهن كما أمركم اللّه وإياكم أن تجعلوا نطفكم في غير محل الحرث فتهلكوا في الدنيا بالأمراض السارية الناشئة عن قذارة المحل ، وفي الآخرة بالطرد من رحمة اللّه والتعرض لعذابه الأليم.
ومما يؤكد قوله تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أن تتجاوزوا ما أمرتم به إلى ما نهيتم عنه ، وهذه الجملة مما تؤيد ما جرينا عليه في تفسير هذه الآية ، إذ لا معنى للتقديم هنا غيره ، لأنه معدوم في الأدبار.
قال تعالى مهددا لمن خالف ذلك «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» أيها العصاة بعد الموت فيجازيكم على مجاوزة أوامره «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 223» الذين يمتثلون أوامر اللّه بالكرامة والرضوان.
قال تعالى «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) وهذه الآية جاءت كالمعترضة بين أحكام النساء التي هي من تنمة معاملات النكاح ، وذلك أنه كان بين عبد اللّه بن رواحة وختنه بشير بن النعمان شيء ، فحلف لا يدخل عليه ولا يكلمه ، وكلما قيل له فيه يقول حلفت فلا أتداخل في أمره الا أن تبرّ يمني فأنزل اللّه هذه الآية له ولغيره إلى قيام الساعة ، أي لا تجعلوا أيها المؤمنون الحلف سببا مانعا للبر والتقوى والإصلاح بين الناس وموجبا للقطيعة بينكم ولا تحلفوا على شيء من ذلك ومن حلف فعليه أن يكفر عن يمينه ويفعل ما هو الأحسن لقوله جلّ قوله «أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالكم كلها الموثقة بالإيمان وغيرها «عَلِيمٌ 224» بما هو الأصلح لكم ، ولذلك ينهاكم عن الحلف وعن أن تجعلوه سببا حائلا لأعمال البر والخير.
تشير هذه الآية إلى النهي عن الإقدام على كثرة الحلف لما فيه من(5/184)
ج 5 ، ص : 185
الجرأة عليه.
وقد ذم جلّ شأنه مكثره بقوله (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) الآية 10 من سورة نون في ج 1 وقوله تعالى (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) الآية 92 من سورة المائدة الآتية.
وترك الحلف والتباعد عنه محمود عند العرب حتى إنهم يصفون قليله بأقوالهم ، قال كثير :
قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الأليّة برّت
أي كان لم يقصد الحلف ، ولكن سبق لسانه به ، ومع هذا فإنه يبر بها احترام لشأنها ، ولهذا يقول اللّه تعالى إنما نهيتكم عن الحلف إرادة أن تبروا به لأن توقيه من البر والتباعد عنه من التقوى والرجوع إلى ما هو الأحسن من الإصلاح.
وقال بعض المفسرين إن الآية على حذف حرف الجر ، أي من أن تبروا إلخ من حيث لا حاجة لتقدير من أوفى على قول الآخر أي في أن تبروا ، أو تقدير أي أن لا تبروا لجواز حذفها في لغة العرب لمعلوميتها ، قال امرؤ القيس :
فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
أي لا أبرح تدبر.
روى البخاري ومسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من حلف علي يمين فرأى خيرا منها فلياتها وليكفّر.
مطلب في الأيمان وكفّارتها والإيلاء والطلاق والعدة وكلمات من الأضداد وما يتعلق بحقوق الزوجين :
وترمي هذه الآية إلى النهي عن الحلف باللّه لما ذكرنا ما فيه من الجرأة عليه ، ألا فليحذر المكثرون من الحلف وليعظموا أسماء اللّه لأن في الإكثار من الحلف تهاونا يؤاخذ عليه العبد ، أما الذين لا يتهاونون بالأيمان وقد يقع منهم ذلك بمعرض الكلام مما هو غير مقصود فيقول لهم ربهم «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» أي مما لم يكن عن فكر وروية وما لا عقد له ولم يكن مقصودا كقول الرجل لا واللّه ما الأمر هكذا وبلى واللّه كان ذلك مما قد يكون من الإنسان بمعرض الكلام والمخاطبة من غير عقد اليمين ونيته ، فلا كفارة عليه ولا إثم ، أما الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب فيه ليرضي الناس أو ليعتذر لهم أو يقتطع بيمينه مال أحد فهو أعظم وأعظم من أن يكون فيه كفارة ، وإنما(5/185)
ج 5 ، ص : 186
الكفارة على من حلف أن لا يفعل شيئا مباحا ثمّ فعله ، أو أن يفعله ثمّ لا يفعله.
قال مالك في موطأه : أحسن ما سمعت أن اللغو هو حلف الإنسان على الشيء يتيقن أنه كذلك ثمّ يوجد بخلافه ، فهذا لا كفارة عليه ولا إثم ، وما عدا ذلك فقيه الكفارة والإثم ، أما اليمين الغموس التي فيها هضم حقوق الناس فلا كفارة فيها لعظمها عند اللّه كالقتل العمد لا دية فيه لعظمه أيضا «وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» أي ما وقع منكم عن قصد وعزم ونية وجزمتم على فعله وعقدتم عليه ، وهذا هو معنى كسب القلب المراد بالآية.
الحكم الشرعي :
لا ينعقد اليمين إلا باسم اللّه تعالى أو بصفة من صفاته ، فمن حلف باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته على نحو ما تقدم ولم يبر بيمينه فعليه الكفارة وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة أيام على التخيير كما سيأتي في الآية 93 من المائدة ، ومن حلف بغير ذلك فهو آثم ، لأنه عظم المخلوق به وهو غير معظّم تعظيم من يحلف به ، ولهذا فلا كفارة عليه إهانة للمخلوق به.
روى ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب ويحلف بأبيه فقال صلّى اللّه عليه وسلم :
إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت.
- أخرجاه في الصحيحين - «وَاللَّهُ غَفُورٌ» للأغي ومن كان يمينه غير مقصود ، ومن حلف على شيء سابق يتحققه «حَلِيمٌ 225» بقبول كفارة من يخطئ في حلفه لا يعامل فاعل هذين النوعين وما ألحق بهما بالشدة ، ولا يعاجل من يكذب بيمينه المعقودة بالنية والقصد ، كما لا يعاجل العصاة بالعقاب ، فهو رءوف بعباده لا يستفزه الغضب ، ولا يستخفه جهل الجاهلين قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية آخر سورة فاطر في ج 1 ومثلها الآية 11 من سورة النحل في ج 2.
قال تعالى «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ» أي انتظار «أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ» رجعوا عن يمينهم وآتوا نسائهم «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» للزوج الحالف إذا تاب وأناب إلى ربه وآب عن إضرار زوجته «رَحِيمٌ» (226) بعباده إذ يقبل توبتهم وكفارتهم ما دامت روحهم في جسدهم غير حالتي اليأس والبأس «وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ» بأن أصروا على(5/186)
ج 5 ، ص : 187
إبلائهم وأرادوا إيقاع الطلاق على زوجاتهم فلم يقربوهم طيلة هذه المدة «فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لإيلائهم «عَلِيمٌ» (227) بنياتهم ، وفي هذه الجملة وعيد على عدم الفيئة ، وقد جاءت هذه الآية بمناسبة الأيمان.
الحكم الشرعي : الإيلاء والحلف على ترك وطء الزوجة أربعة أشهر فأكثر ، قال ابن عباس كانت الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا فلم تفعله حلف لا يقربها السنة والسنتين ، فيدعها لا أيما ولا ذات زوج ، فلما جاء الإسلام جعله اللّه تعالى أربعة أشهر وأنزل هذه الآية ، فإذا مضت ولم يطأها خلالها بانت منه بطلقة واحدة ، لأنه عزم بذلك على طلاقها ، وإن وطئها فيها بقيت في عصمته ووجبت عليه الكفارة وهي ما تقدم بيانها آنفا ، وإذا حلف لأقل من أربعة أشهر فلا يعد موليا ، فإن وطئها قبل هذه المدة المحلوف عليها فعليه الكفارة ، وإلا فلا شيء عليه وتبقى في عصمته.
قال تعالى «وَالْمُطَلَّقاتُ» سواء بالإيلاء أو بإيقاع الطلاق عليهن أو بتفريق الحاكم أو باليمين «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» أي حيضات لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : دعي الصلاة أيام أقرائك ، ولهذا صرف معناه إلى الحيض ، وإطلاقه على الطهر غير مراد هنا ، لأن نص الحديث يكون حقيقة على الحيض ، ومن أراد المجاز وصرفه إلى الطهر بعد هذا لا عبرة بقوله إذ لا محيد عن هذا وان كان يطلق على الطهر لأنه من الأضداد ، كالجون يطلق على الأسود والأبيض ، والسدفة تطلق على الظلمة والضياء ، والجلل على الكبير والصغير ، والنبل على الصغار والكبار ، والناهل على العطشان والريان والرهوة على الارتفاع والانحدار ، والظن على الشك واليقين ، والمفرع في الجبل على المصعد والمنحدر ، وفعل مسر بمعنى أخفى وأعلن ، وأخفى بمعنى أظهر وكتم ، وباع بمعنى اشترى وشبع بمعنى جمع وفرق.
الحكم الشرعي : إذا أوقع الرجل الطلاق على زوجته بعد الخلوة بها وقبل الدخول فعليها العدة ، وإذا طلقها قبل الخلوة فلا عدة عليها ولا يحل لها الزواج قبل مضي العدة على اليقين في الحالة الأولى ، ولهذا قال تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ» من تكون الولد لما فيه من انقطاع نسبه لأبيه وتوريثه منه ما لا يستحق من غيره لأن كتمان عدم انقضاء الحيض فيه ابطال حق الزوج من الرجعة إذا كان الطلاق(5/187)
ج 5 ، ص : 188
رجعيا ، إذ له مراجعتها ما دامت في لعدنى ، وله تجديد النكاح عليها بعدها إذا كان الطلاق دون الثلاثة ، أو بالإيلاء أو بالتفريق والفسخ «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فلا يكتمن ذلك لأنه يفضي إلى زواجهن بالغير ويضيع نسب الولد.
وهذه الآية تشير إلى أن هذا من باب كتم الأمانة ، فإن الصدق فيه من فعل المؤمنات ، وكما لا يجوز لهن كتمان عدم انقضاء مدة الحيض الأخير ، لأنه ثلاث حيضات لا يجوز لهن أن يكتمن الطهر لما فيه من المحاذير وهو الرجعة ، فتكون بغير محلها وامتداد النفقة من حيث لا يجوز لها أخذها ، وكل الزوجات في هذه الأحكام سواء المؤمنة والكتابية وحتى الكافرة قبل تحريم زواجها «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ» من أجل العدة إذا كان الطلاق رجعيا أو بالفسخ أو التفريق أو بائنا دون الثلاث «إِنْ أَرادُوا» أي الرجال «إِصْلاحاً» مع مطلقاتهن وعزموا على حسن معاشرتهن «وَلَهُنَّ» أني النساء من الحق على الأزواج «مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ» من حقوق الزوج وكل ذلك يجب أن يكون «بِالْمَعْرُوفِ» من غير إضرار لأن الزوجية لا تتم إلا بمراعاة الحقوق بينهما ، فيجب على الزوج أن يقوم بما تحتاجه زوجته حتى الزينة وأن يطعمها مما يطعم ويكسوها بنسبة أمثالها ، وحاله ويقوم بمصالحها ويتزين لها ويسأل العلماء عما يتعلق بأمر دينها إن لم يعرف هو ذلك ، وإلا فلها الذهاب بنفسها للعالم ليعرفها ما لها وعليها. - ويجب عليها طاعته والانقياد إلى عصمته ، وأن تحافظ على ما له وولده ونفسها ، ولا تتزين إلا له ولا تبد زينتها لغيره ، وتحفظه إذا غاب فلا تدخل أحدا ولا تجلس أحدا على فراشه ، وتفعل كل ما يرضيه مما لا يكون فيه معصية للّه وتتجنب كل ما يسوءه إلا فيما يرضي اللّه.
روى مسلم عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلّى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع وقال فيها : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فاتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانات اللّه ، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهون ، أي لا يؤذن لأحد بالدخول ليتحدث معهن (وكان هذا عند الجاهلية لا بأس به ، ولا يتصور فيه معنى آخر كالزنى مثلا ، لأن فيه الحد والرجم) يؤيده قوله (فإن فعلن ذلك فاضربوهن) (وقد أجمع العلماء على أن(5/188)
ج 5 ، ص : 189
المراد بهذا الضرب) ضربا غير مبرح (فلو كان المراد به الزنى لقال عليهن الحد والرجم) تدبر.
وكما لكم عليهن ذلك ، فإن لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف «وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» منزلة عالية ، لأنه أعقل منها وأكمل شهادة وأكثر حقا في الإرث والدية وأتم دينا ، ولأنه صالح للقضاء دونها.
قال صلّى اللّه عليه وسلم :
ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ، ولجواز تزويجه وتسرّيه عليها ، ولأن طلاقها بيده ويملك الرجعة بعد الطلاق الرجعي شاءت أم أبت ، ولأنه المكلف بنفقتها فضلا عما يسوقه إليها من المهر «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب عليكم أيها الزوجين إن هضمتم حق بعضكم ، فإنه ينتقم منكم «حَكِيمٌ 228» بتفضيله الرجال على النساء للأسباب المتقدمة وأسباب أخرى هو يعلمها ، لأنه لا يأمر إلا لمنفعة الخلق ولا ينهى إلا عما يضرهم وإن كانوا لا يعقلون بعض المنافع المأمور بها والمضار المنهي عنها.
قال تعالى «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ» بعدهما بالمراجعة قولا أو فعلا «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» بأن تطلقوهن طلقة ثالثة وتتركوهن بمعروف مثل ما أخذتموهن ، إذ لا يحل لكم إمساكهن قبل الطلاق إضرارا بهن ولا بعده ، لأنهن حرمن عليكم.
وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يطلقون ما شاءوا ويرجعون على نسائهم دون عدد معلوم بالغ ما بلغ ، إلا أنهم يتقيدون بالعدة فقط من حيث الرجوع ، بحيث لو طلقها مرارا كثيرة له مراجعتها في العدة وهكذا ، وكان هذا أيضا جاريا في بداية الإسلام إلى يوم نزول هذه الاية ، حتى إن رجلا قال لامرأته واللّه لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدا ، قالت كيف ؟ قال أطلقك وكلّما همت عدتك أن تنقضي راجعتك ، فذهبت وأخبرت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها ، فسكتت حتى جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأخبرته ، فسكت حتى أنزل اللّه هذه الآية فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يطلق.
الحكم الشرعي : يملك الحر على زوجته ثلاث تطليقات متفرقات ولو في مجلس واحد فإنها تبين منه بينونة كبرى (خلافا لما جرى عليه المصريون حديثا من اعتبار الطلقات المتعددات في مجلس واحد طلقة واحدة استنادا لما أن هذا كان متاعارفا في بداية الإسلام ، على أن سيدنا عمر رضي اللّه عنه أقر الأول وعمل به وأمر به ، ولكن الناس سائرون إلى(5/189)
ج 5 ، ص : 190
ما تستخفه نفوسهم ويحبذون ذلك ، ولعل هذا ينجز وتعمد الحكومة على العمل به لأن الناس ميالون إلى كل ما فيه يسر ولو خالف عمل السلف الصالح ، وفيه إشارة إلى قوله صلّى اللّه عليه وسلم : لتتبعن سبل من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه ، ولتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
كان صلّى اللّه عليه وسلم ناظر إلى ما تحدثة أمته من بعده ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم) وله مراجعتها بعد طلقة أو طلقتين في العدة دون رضاها ، وله تجديد العقد عليها بمهر جديد ورضاها بعدها.
ويملك على زوجته الأمة طلقتين فيراجعها بالعودة بعد الواحدة دون رضاها وبعدها برضاها وعقد ومهر جديدين.
وفي الطلاق البائن دون الثلاث يجوز العقد عليها ضمن العدة وبعدها برضاها ومهر جديد.
ثم حذر اللّه تعالى الرجال من أن يضارّوا النساء كي يأخذوا ما أعطوه لهنّ من المهر بقوله عز قوله «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ» أيها الرجال «أَنْ تَأْخُذُوا» على الطلاق «مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» أبدا من مهر أو غيره إذا طلقتموهن برضاكم ، وهذا في غير المخالعة إذ يجوز أخذ شيء من المهر أو كله إذا كانت لا تريده ، أما هو إذا كان لا يريدها فلا يحل له أخذ شيء أصلا «إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» من واجبات الزوجية المارة الذكر والمحبة والألفة والمودة القلبية ، إذ النفرة فيها موجبة لعدم القيام بحقه كالنفرة منه «فَإِنْ خِفْتُمْ» يا أولياء الزوجين «أَلَّا يُقِيما» الزوجان منكم «حُدُودَ اللَّهِ» بينهما كما هما مكلفان بها وتحققتم أن كلا منهما لا يقوم بواجبه تجاه الآخر كما هو مطلوب منه دينا ومروءة «فَلا جُناحَ» لا إثم «عَلَيْهِما» إذا طلب كل منهما أو أحدهما فراق صاحبه ولا بأس على المرأة «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» نفسها من المال الذي تعطيه لزوجها بمقابل خلعها ، ولا إثم على الزوج في أخذ ذلك ، لأنه تكبّد مهرها أولا وفراقها ثانيا لأنها لم تألفه وقد أخذها على حب بها ، وعلى الحكام أن يقوموا بذلك وأن يمكن الأولياء صلاحية التفريق بينهما إذا لم يمكن الإصلاح وبقاء الزوجية على ما يريد اللّه ، إذ لا يجوز أن تبقى المرأة مضارة لزوجها ، ولا الزوج مضارا لها ، ولا أن يبقى مع امرأة لا تألفه ، والدين يسر لا عسر فيه ، والشريعة غراء سمحة ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين 35 و128(5/190)
ج 5 ، ص : 191
من سورة النساء الآتية.
«تِلْكَ» الأحكام المارة الذكر هي «حُدُودَ اللَّهِ» الواجب عليكم أيها المؤمنون الوقوف عندها «فَلا تَعْتَدُوها» وتعرضوا أنفسكم للشقاق والخصومة في الدنيا والعقاب والعذاب في الآخرة ، ولهذا يهددكم ربكم بقوله جل قوله «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ» التي حدها لعباده «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 229» أنفسهم بما يحيق بهم من النزاع والنفرة في الدنيا ، والجزاء في العقبى لتجاوزهم على اللّه ذاته بعدم اتباعهم أوامره ، ومن أظلم ممن يتجاوز عليه.
نزلت هذه الآية في جميلة بنت عبد اللّه بن أبي أوفى أو في حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها ، فشكت لأبيها بأنه يضربها ويشتمها ، فقال ارجعي إلى زوجك فإني أكره أن تشكو المرأة زوجها ، قالت فرجعت المرة بعد الأخرى وأبوها لا يسمع لها ، فذهبت إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وذكرت له ذلك ، وقالت يا رسول اللّه لا أنا ولا هو ، فأرسل إليه وسأله ، فقال يا رسول اللّه والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك ، فقال لها ما تقولين ؟ فكرهت أن تكذب ، فقالت صدق وهو أكرم الناس حبا لزوجته ، وما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه ، وإني أبغضه ، فسأله فقال أعطيتها حديقة نخل ، فقال لها تردين عليه حديقته وتملكين أمرك ؟ قالت نعم ، فرضي وطلقها.
وروى البخاري عن ابن عباس ما يؤيد هذا وإنما أمرها بإعادة المهر لأن القصور كله منها ، وكان هذا متعارفا في الجاهلية ، ومعمول به في الإسلام حتى الآن عند عرب البادية بلا نكير.
وعليه العمل بالمحاكم الشرعية أيضا أما إذا كان القصور من الجهتين فلا ينبغي أن يعاذ كل المهر بل بعضه ولا يجوز أخذ الكل إلا إذا كان كلّه منها وبطلبها التفريق كما في هذه القضية ، لأنه مغبون مظلوم ، ولذلك قال لها صلّى اللّه عليه وسلم تردّين عليه حديقته ، ولهذا فإذا كان هو الذي لا يريدها فلا يجوز له أخذ شيء منه أصلا كما سيأتي في الآية 21 من سورة النساء أيضا لما فيه من الوعيد والتهديد.
ومع هذا إذا احتمل الزوج سوء خلق زوجته وهي كذلك فهو أولى وأثوب ولهما الأجر العظيم عند اللّه تعالى ، لأن أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه أبو داوود عن ابن عمر ، (5/191)
ج 5 ، ص : 192
وكذلك إذا كان دميما وهي وسيمة ، أو بالعكس فللصابر على صاحبه ثواب عظيم عند اللّه.
وجاء أيضا أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة - أخرجه أبو داود والترمذي عن ثوبان - ولا يجدر بالمرأة العاقلة أن تكون كالمتاع والدابة تباع من واحد إلى آخر وإن كان حلالا ، فلو تحملت زوجها على سوء خلقه ودمامته خير لها ، من أن تطلقه وتأخذ غيره خلوقا وضيئا ولا تدري هل تنشرح عنده أم لا ، وقد يهون عليها فراق الآخر أيضا ، وقد تندم على الأول ، ومهما كانت شريفة عليها أن تتواضع لزوجها مهما كان إذا تقيد بحقوقها وراعى شروط الإسلام معها ، فقد روي عن معاذ في حديث ساقه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت أن تسجد المرأة لزوجها.
وما بعد هذا تحريض على طاعة الزوجة لزوجها وناهيك به «فَإِنْ طَلَّقَها» ثلاثا «فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ» هذا الطلاق البات «حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» نكاحا حقيقيا بالدخول الشرعي المنبئ عنه قوله صلّى اللّه عليه وسلم الآتي بعدا.
نزلت هذه الآية في تميمة أو عائشة بنت عبد الرحمن القرضي لما روى البخاري ومسلم عن عائشة ، قالت جاءت امرأة رفاعة القرضى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني بت الطلاق ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وانما معه مثل هدية الثوب فتبسم صلّى اللّه عليه وسلم وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته.
أي أن العقد ووجود الخلوة لا يكفيان لحل الرجوع إلى الزوج الأول بل لا بد من الدخول حقيقة «فَإِنْ طَلَّقَها» الزوج الثاني بعد وطئها على الوجه المار ذكره «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا» بعقد ومهر جديدين ، وهذه الرجعة معلقة على الشرط المبين بقوله تعالى «إِنْ ظَنَّا» تيقنا «أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» بينهما من حقوق الزوجية المارة وإلا فلا إذ لا فائدة من المراجعة «وَتِلْكَ» الأحكام المبينة أعلاه هي «حُدُودَ اللَّهِ» الواجب مراعاتها على الزوجين والتقيد بها «يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (220) ماهيتها ويفهمون مغزاها ويفقهون مرماها فيعملون بها.
الحكم الشرعي : يشترط للزوجة التي تريد الرجوع إلى مطلقها باتا أن تتزوج بغيره بعد انقضاء عدتها منه ، ثم يشترط أن تمكن الزوج(5/192)
ج 5 ، ص : 193
الثاني من الدخول بها حقيقة ، وبعد طلاقها منه وانقضاء عدتها تعود لزوجها الأول بعقد ومهر جديدين ، وإلا فلا تحل له إذا فقد أحد هذه الشروط.
واعلم
أنه لا يجوز أن تزوج نفسها لمدة معلومة ، لأن هذا نكاح باطل وعقد فاسد ، لأن النكاح إذا لحقه شرط كهذا أفسده ، وعقد النكاح عندنا معشر أهل السنة والجماعة لا يكون موقتا كمن يذهب مذهب حل المتعة ، والزواج لمطلق التحليل مشئوم مذموم فاعله.
روى ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له. - أخرجه الترمذي - وورد أنه قال هو التبس المستعار.
وقال نافع أتى رجل إلى ابن عمر فقال إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول ، فقال لا إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول اللّه ، وإنما قرن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هذا الفعل باللعن لأنه ليس من أخلاق المؤمن لمنافاته الشروط المطلوبة فيه والغيرة على نفسه ، والمؤمن عزيز لا ينبغي أن يعمل ما فيه هو انه بين الناس.
كراهة الطلاق وجواز الخلع على مال وحرمة أخذه إن كان لا يريدها ووقوع الطلاق الثلاث :
قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» طلاقا رجعيا أو بائنا دون الثلاث «فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» شارهن على انقضاء العدة ، والذي يؤيد أن معنى بلغن هنا قاربن قوله تعالى «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أرجعوهن لعصمتكم وأبقوهن عندكم وعاملوهن بالحسنى ، ولو كان معناه قضين عدتهن وخلفها لما أمر اللّه تعالى بإمساكهنّ إذ لا يجوز لأن الطلاق يصير بائنا والبائن لا بد له من عقد ومهر جديدين.
وجاء في القرآن بالألفاظ الصريحة للطلاق ، وهناك ألفاظ تعورف عليها بوقوع الطلاق كالحرام وغيره مما عده بعض العلماء من الكناية عن الطلاق ، وعده غيرهم من الصريح.
ومن الكنايات المتفق عليها لفظ (تراكي طالق فقد جاء في فتاوى الخليلي من الشافعية ص 130 ما نصه لا ريب أن هذه الصيغة كناية طلاق.
ولا بد في الكنايات من النيّة ، فلو نوى الرجل إيقاع الطلاق على زوجته بما ذكره(5/193)
ج 5 ، ص : 194 وقع ، وإن لم ينو فلا.
وهناك كنايات اصطلح عليها مبينة في كتب الفقه مثل روحي وأنت خلية برية ، فكلها تحتاج إلى النية ، أما صريح الطلاق فلا يحتاج بل يقع بمجرد صدوره وهو من الثلاث التي جدهن جد وهزلهن جد ، والطلاق الثلاث بلفظ واحد قد تعارفوا على وقوعه ثلاثا مع أنه لا يعتبر ظاهرا إلا طلاقا واحدا ولو تكرر في مجلس واحد يعتبر واحدا أيضا كما عليه الآن محاكم حكومة مصر اتباعا لما كان في بداية الإسلام ، وإن إيقاعه ثلاثا كان بخلافة عمر رضي اللّه عنه زجرا للناس من أن يلوكوا بألسنتهم كلما تغالطوا أو تخالفوا على شيء حلقوا بالطلاق الثلاث أو أوقعوا الطلاق الثلاث على زوجاتهم بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة.
ولكن مع الأسف لم يؤثر فيهم هذا ، فتراهم كلما قاموا أو قعدوا حلفوا بالطلاق أو طلقوا ، ولهذا فإن ما ذهبت إليه حكومة مصر فيه وسعة للعوام ورحمة بالنساء الغائلات ، إذ يطلقن بلا سبب.
وجاء في صحيح مسلم أن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي اللّه عنهما طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كان فيه إتاءة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه.
أي أوقعه ثلاثا زجرا لهم ، وكان ذلك زمن الأصحاب والخلفاء الراشدين ومن بعدهم ، واستمر عليه العمل حتى الآن ، واعتبار الثلاث واحدة مأخوذ من قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) باعتبار أن ما يوقعه المطلق من الطلاق مهما كان متعددا يعتبر مرة واحدة ، وعليه الفخر الرازي وجماعة من المفسرين.
راجع الجزء السادس ص 5 من المبسوط للإمام السرخسي.
هذا ، وحكم الرجعة أن يشهد رجلين على قوله راجعت زوجتي فلانة لعصمة نكاحي ضمن العدة أو يعاملها معاملة الأزواج خلال العدة ، فيكون راجعها فعلا «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» بأن تتركوهن بلا رجعة حتى تنقضي عدتهن ، فيملكن أمرهن ، وهذا مما يؤكد أن معنى بلغن قاربن كما مر «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً» بهنّ لا رغبة «لِتَعْتَدُوا» عليهن فيضطررن لفداء أنفسهن بأن تراجعوهن لهذه الغاية لا للإمساك بالمعروف ، ولهذا يقول اللّه تعالى «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» الإمساك بقصد الإضرار «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وعرضها لعذاب اللّه بمخالفته حدوده التي نهى عنها ومخالفة أمره(5/194)
ج 5 ، ص : 195
من الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان «وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ» التي بينها لكم في حق النساء وغيرهن «هُزُواً» لعبا وسخرية من غير مبالاة بها ولا تدبر لما يترتب على الإعراض عنها من العذاب.
وهذه الجملة والتي قبلها جاءت بالتهديد والوعيد لمن يقدم على مخالفة ما حده اللّه في أمر النساء خاصة ، لأن الإضرار بقصد أخذ الفداء عظيم عند اللّه ، لا سيما إذا كانت المرأة فقيرة ، فإنها تضطر للبقاء تحت ظلمه ، واللّه تعالى لا بد أن يغتار للمظلوم في الدنيا والآخرة.
وسبب نزول هذه الآية أن الجاهليين كانوا يكثرون من الطلاق والمراجعة بقصد إضرار الزوجة وإلجائها لرد ما دفعوه لها من المهر بعد قضاء شهوتهم منها ، وإذا عوتوا على فعلهم هذا قالوا إنا لا عبون غير جادين بما نوقعه على أزواجنا ، فمنعهم اللّه من ذلك وأوعدهم وهددهم لئلا يعودوا لمثله.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة.
وعن أبي الدرداء : ثلاث اللاعب فيهن كالجاد النكاح والطلاق والعتاق.
وعن عمر رضي اللّه عنه :
أربع مقفلات النذر والطلاق والعتق والنكاح.
ومعنى مقفلات أنه متى نطق بهن الرجل وجين عليه إذا لم تعلق على شرط فإنهن لا يقعن إلا بوقوعه «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» فيما بين لكم مما لا بد لكم منه والزموا أنفسكم الأخذ بها لتظهر عليكم آثار هذه النعمة «وَ» اذكروا نعمة «ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ» واعملوا بها لأن اللّه «يَعِظُكُمْ بِهِ» لتنتفعوا بامتثال ما أمركم به وبانتهاء ما نهاكم عنه في كتابه وعلى لسان رسوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس خافوه واخشوا عقاب عدم امتثال أمره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 231» لا يخفى عليه حالكم ونيتكم ، فأحسنوا قلبا وقالبا وإلا فإنه سيصب عليكم بلائه من حيث لا تشعرون ولا مخلص لكم منه.
نزلت هذه الآية في ثابت بن يسار الأنصاري لأنه طلق امرأته حتى إذا شارف أجل انقضاء عدتها راجعها بقصد إضرارها وإلجائها لإعادة ما أخذته من المهر.
قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» أي انقضت عدتهن ، ويدل على أن المراد هنا من (بلغن) قضين قوله جل قوله «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ» أيها الأولياء فتمنعوهن(5/195)
ج 5 ، ص : 196
من الزواج ، لأن معنى العضل هو المنع والضيق والشدة ، قال أوس بن حجر :
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
أي لا تمنعوهن «أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ» الأول بعقد جديد إذا كان الطلاق دون الثلاث لأن الآية مصدرة بطلقتين والذي مر كله مفرع عنها ، ومما يدل على أن المراد بالأزواج هم الأول قوله تعالى «إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» أي بعد ما وقع بينهم النفار والشقاق وحلوا الاختلاف فيما بينهم «ذلِكَ» الذي وعظكم اللّه به «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ويعلم أن اللّه سيعاقبه فيه ، فمن لا يتعظ بموعظة اللّه لا يؤمن به ولا يؤمن باليوم الآخر ، فيكون خارجا عن حدود اللّه مخالفا أوامره مقترفا نواهيه دون تأويل «ذلِكُمْ» الذي أمر ، به من ترك العضل والإضرار والإمساك بالمعروف والإحسان «أَزْكى لَكُمْ» أيها الناس عند الناس ، لئلا يقال فيكم ما يثلب كرامتكم من الانتقاد ، ومظنة أخذ الفداء من النساء ، أو زواجهن ثانيا لأخذ مهورهن في حالة العضل «وَأَطْهَرُ» لقلوبكم وقلوب الناس مما يحوك فيها من ذمكم وغيبتكم ، وأجمع للمودة وأقرب للثناء الذي هو خير من الغنى ، وأبعد من أن تمزّقوا أعراضكم بما تلوكه ألسنة الناس فيكم ، وأزكى لكم عند اللّه تعالى لرضاه عليكم بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وزواجره رغبة لا رهبة ، ومن هنا أخذ العلماء اشتراط رضى الولي بالنكاح قريبا كان أو بعيدا ثيبا كانت أو بكرا ، ولهذا البحث صلة في الآية 25 من سورة النساء الآتية «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» بأن الذي حده لكم في هذه الآيات هو خير لكم في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 232» عواقب الأمور وما يترتب على الامتثال في الإصلاح بينكم وما ينجم عن الخلاف من عواقب سيئة ، لأنكم تجهلون النتائج وما ينشأ عنها.
وليعلم أن حكم هذه الآيات كلها عام مطلق ، وأن نزولها بسبب خاص لا يخصص عمومها ولا يقيد إطلاقها ، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، والآية الأخيرة نزلت في معقل بن يسار المزني إذ منع أخته جميلة من الرجوع إلى زوجها عاصم بن عدي أبي القداح(5/196)
ج 5 ، ص : 197
لأنه زوجها إليه رغم طلبها من الكثيرين ، فطلقها وتركها عنده حتى انقضت عدتها وخطبت من قبل الغير ، فكلفه أن يرجعها إليه فأبى لأنه تركها حتى خطبت وقال واللّه لا أنكحها لك أبدا وهي تريد الرجوع إلى زوجها الأول ، فلما نزلت الآية كفر عن يمينه وأنكحها إياه لإرشاد الرسول له ولغيره بأن من حلف يمينا ورأى أن في حنثه خيرا فعل ما هو الخير وكفر عن يمينه كما مر ، وقد أخرج هذا الحديث البخاري والنسائي وغيرهما في معقل المذكور ، وقيل نزلت في جابر بن عبد اللّه لما طلق ابنة عمه زوجها وأراد إرجاعها فأبى عليه قائلا أتطلق ابنة عمي ثمّ تريد أن أرجعها إليك.
كأنه أنف من ذلك تعظما عليه ولا مانع من تعدد الأسباب.
مطلب في الرضاع وعدة الوفاة والطلاق وما يجب فيهما ونفقة الأولاد والمعتدات :
قال تعالى «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ» من مطلقهن «حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» أي يبلغ غايتها ، لأن أقل الحمل ستة أشهر ، فأكثر الرضاع سنتان لقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) راجع الآية 15 من سورة الأحقاف في ج 2 تجد تفصيل هذا البحث وما يتعلق به ، وهذا الأمر للندب لأن المطلقة لا تجبر على إرضاع ابن مطلقها إلا إذا لم يأخذ ثدي غيرها ، وكذلك لا تجبر على الإرضاع حال قيام الزوجية ، لأنه لو كان واجبا عليها لما استحقت الأجرة عليه المبينة بقوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» بقدر حالة الطرفين قدر الاستطاعة لا ضرر فيه ولا إضرار بالنسبة لليسار والإعسار وأمثالهما «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» قدر طاقتها «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها» بأن ينزع منها إذا كانت تريد إرضاعه وتربيته ، لأنها خير له وأسفق من يغرها مهما كانت قريبة له وهي أرفق به ولبنها أحسن له من لبن غيرها ومن اللبن المجمد أو الميبس لأن اللّه خلق لكل ما يليق به ويحسنه ، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه ، وفي أخذه منها إضرار بها لانشغال فكرها عليه وضيق صدرها من فراقه وَلا» يضار «مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» بأن يكلف أن يعطيها أكثر من أجر مثلها أو خارجا عن وسعه وطاقته ، وأن لا تلقيه عليه بعد أن ألف إرضاعها فيكلف على المراجعة بإرغامها على إرضاعه(5/197)
ج 5 ، ص : 198
لأن الولد يتضرر أيضا في هذه الحالة علاوة على ضرر أمه «وَعَلَى الْوارِثِ» لأبي ولي الصغير «مِثْلُ ذلِكَ» مثل ما على أبيه لو كان حيا ، إذ يجب عليه أن يقوم مقام أبيه بحقه ، وإذا كان للولد مال فنفقته من ماله لا على وليه ووارث أبيه ، إلا أن الولي عليه أن يتولى ما له ويحافظ عليه وينميه له «فَإِنْ أَرادا» الوالدان أو الولي والأم «فِصالًا» فطاما قبل الحولين «عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ» بينهما ومع الغير وظهر لهما بعد التروي أن فطامه بالسن الذي بلغ إليه حين إرادة الفصال لا يضره وتحقق ذلك لديهما بإخبار العارفين بذلك ، واتفقا عليه «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» في فطامه ولا حرج ولا إثم ، ولوليه أخذه منها إذا أسقطت حقها في حضانته أو سقطت بوجه من الوجوه الشرعية كزواجها بأجنبي أو تحقق عدم أمنها عليه ، لأن الولد له لا لأمه ، وقيل في المعنى :
لا تزدري بفتى من أن يكون له أم من الروم أو سوداء عجماء
فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأبناء آباء
وإن تبين أن فطامه يضرّه فلا يجوز وتحبر على إمساكه إذا كان لا يقبل ثدي غيرها حتى يستغني ، وإلا فيرضعه غيرها ، ولهذا قال تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ» غير أمهاتهم لعلة أو لغير علة وكان يقبل ثدي المرضعة «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» في ذلك ولا إثم إذا كانت أمه راضية بذلك ولا مانع يمنعها من حضانته ، لأن هذا جائز حتى حال قيام الزوجية فلأن يجوز بعدها أولى بشرط عدم تحقق الضرر بالولد وبما «إِذا سَلَّمْتُمْ» أمه ما تراكم عليكم من نفقة وأعطيتم «ما آتَيْتُمْ» الظئر الذي ترضعه ما تستحقه من الأجرة إذا لم تكن متبرعة حتى يأمنوا على الولد من الضرر ، وليكن تسليمكم الأجرة لأمه أو لمرضعته «بِالْمَعْرُوفِ» عن طيب نفس وليطيب قلب المرضعة وتزداد رغبة في النظر إلى الولد والمحافظة عليه كابنها فلا تفرط فيه ، ولا تعتذر من عدم إرضاعه ، ولا تهمله ، ولا تنصرف عنه لما يشغلها عنه ، وتراعيه حق رعايته «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الآباء والأولياء والمرضعات والأمهات في حقوق الأولاد ، فإن في مخالفتها ضياع الولد وهضم حقوق والديه وأوليائه إذا كان القصور من أمه ، وحقوق أمه إذا كان(5/198)
ج 5 ، ص : 199
القصور من أبيه أو وليه ، وعلى المقصر الآثم «وَاعْلَمُوا» أيها الأولياء والأمهات والمرضعات «أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ» في الأولاد وغيرهم «بَصِيرٌ» (233) في ظواهر أعمالكم وبواطنها فاحذروه وأحسنوا نياتكم.
وفي هذه الجملة من التهديد ما هو غني عن البيان ، وهذا هو الحكم الشرعي في الرضاع والحضانة وقد علمتم مدة الرضاع.
أما الحضانة فهي سبع سنين للولد ، وتسع للبنت على أصح الأقوال ، والأصل فيها الاستغناء عن الخدمة عرفا بأن يستغنيا عن خدمة الأم في نظافتهما ولباسهما وأكلهما وشربهما ، وإلا فلا ، ولهذا الأمر في هذا الشأن للقاضي النقي الأمين ويفهم من الآية أن كلا من الأب والولي مكلف بنفقة المرضعة وكسوتها علاوة على حوائج الولد الضرورية حتى نهاية مدة الرضاع ، أما في الحضانة فيكلف الولي بنفقة كافية للولد كافلة بجميع لوازمه وأجرة الحاضنة بمثابة خادمة له ، وتختلف النفقة والأجرة باختلاف الأشخاص والأمكنة ، ويراعى فيها قوله تعالى آنفا (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وقوله عزّ قوله (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية الآتية والأحسن أن يكون باتفاق الطرفين ليعطيها المعطي عن طيب نفس ويأخذ الآخذ كذلك ، وهي أحسن من التقدير بمعرفة الخبراء ، لأن كلا منهما يميل لطرف غالبا ، وقد لا يرضى بتقديرهما أحدهما أو كلاهما ، والنفقة تثبت ويلتزم بها بالتراضي أو بحكم القاضي ، وتعتبر من يوم الطلب سواء كانت في ماله أو في مال وليه لئلا يتضرر بالتسويف والمماطلة التي قد تكون من الولي أو من الحاكم قال تعالى «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ» يتركون «أَزْواجاً» واحدة فأكثر أحرارا أو إماء «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» من الأيام.
وجاء عشر بلفظ التأنيث لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلبوا الليالي حتى أن أحدهم يقول صمت عشرا من الشهر وذلك لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام ، فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا عشرة أيام «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» بانقضاء هذه المدة «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» أيها الأولياء «فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ» من الزينة وغيرها حتى انقضت مدة حدادهن على أزواجهن أما في أثناء العدة فليس لهن التزيّن ولا الخضاب ولا غيره ، وإذا فعلن أثمن وإذا لم ينههن أولياؤهن أثموا أيضا لما فيه من مخالفة أمر(5/199)
ج 5 ، ص : 200
اللّه وإغضاب أولياء أزواجهن المتوفين «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (234) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ، قد أعلم اللّه تعالى عباده في هذه الآية أن عدة الوفاة غير عدة الطلاق ، لأن الحزن فيها أشد منه ، ولأن في الطلاق أمل المراجعة ولو بعد زوج آخر ، وهذا الأمل منعدم في الوفاة ، ولأن الطلاق قد يكون عن شقاق وعداوة ونفرة وهذه أيضا منعدمة في الوفاة غالبا ، وجاءت عامة في كل من توفى عنها زوجها ، إلا أن هذا العموم مخصوص فيما إذا كانت حاملة فإن عدتها تنقضي بوضع حملها حرة كانت أو أمة كما سيأتي في الآية 5 من سورة الطلاق ، إذ جاءت مطلقة لم تقيد بقيد ما وعامة لما تخصص ومتأخرة في النزول عن غيرها إذ لم ينزل بعدها شيء في أمر
العدة فيدخل في إطلاقها المعتدة عن طلاق أيضا فإنها بالوضع تنتهي عدتها كالمتوفى عنها زوجها.
ويشترط لعدة الوفاة الإحداد وهو ترك الزينة حتى الكحل والطيب واللباس غير المعتاد للبيت والحلي وغيره ، وعلى كل امرأة فقدت عزيزها أن تحد عليه على أن لا تزيد على ثلاثة أشهر إلا بالوفاة ، فتكون أربعة أشهر وعشرة أيام.
روى مسلم عن عائشة قالت : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا.
وهذا إذا مات عندها ، أما إذا مات في غير بلد فتحد من يوم بلوغها خبر وفاته ، لأن الغائب عنها زوجها لا تتزين عادة إذ يحرم عليها الزينة لغير زوجها.
وقال أكثر العلماء إن الإماء عدتهن نصف عدة الحرائر سواء في الوفاة والطلاق.
قال تعالى «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ» أشرتم ولوحتم ، لأن التعريض هو أن يضمن المتكلم كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده وغير مقصوده ، ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأوضح ، وأصله إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه أي جانب منه ، وكان يحول حوله ولا يظهره ، كقول المحتاج جئت لأسلم عليك ويذكر حاجته تلويحا بما يريده ، بخلاف الكتابة لأنها الدلالة على الشيء يذكر لوازمه وروادفة كقولك طويل النجاد لا طويل ، وكثير الرماد للكريم ، وعريض الوساد للبليد ، وكقول المحتاج للغني أنا كالذي أي ان لفظ الذي يحتاج إلى الصلة كي يتم الكلام به ، والفقير يحتاج للصلة ليسد عوزه فكل ما يوعز به «مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ» المتوفّى رجالهن بطريق(5/200)
ج 5 ، ص : 201
التعريض جائز ، أما التصريح أثناء العدة فمحظور.
هذا ، وقد قال الشرنبلالي في حاشيته على الدرر هذا إذا كانت عن وفاة وكذلك إذا كانت عن طلاق فلا يجوز التعريض أيضا ولو كان بائنا كما في البيتين أي ضمن عدة الطلاق فقط وذلك واللّه أعلم حرمة لمطلقها الحي لأنه قد يتأذى والأذى معدوم في الميت ، وحرمة الميت دون حرمة الحي ، لأنه أفضل منه بما يصنع من عبادته لربه وخيره لخلقه وصلة لرحمه.
والتعريض هو أن يقول فلانة صالحة جميلة فمن يرغب في نكاحها ويطلب تزويجها وأني محتاج للزواج إذا يسر اللّه لي مثلها ، ويجوز أن يسمعها هذا القول بنفسه أو بالواسطة ، فإذا كانت ترغب فيه حبست نفسها له وردت خطبة غيره.
والخطبة بكسر الخاء كالجلسة من الخطيب بمعنى الشان أو من الخطاب بمعنى الاستلطاف بالقول.
أما الخطبة بضم الخاء فهي خطبة الجمعة وشبهها.
والتعريض بما ذكر مباح ، وكذلك بما يتصوره في فكره أو يتخيله بقلبه لقوله تعالى «أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ» بأن عزمتم على زواج من توفى عنها زوجها وأصررتم عليه ، فلا حرج ولا إثم في ذلك الإضمار مهما كان نوعه ، لأنه غير منهي عنه ، وهو عبارة عن حديث النفس الذي لا يؤاخذ عليه العبد وإنما أباح اللّه تعالى لكم هاتين الطريقتين ولم يؤثمكم عليهما لأنه «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» بين للناس وبين أنفسكم وفي قلوبكم بسائق الشهوة والتمني الذين لا يخلو أحد منهما «وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا» بأن تتصلوا بهن وتقولوا لهن صراحة بأنكم تريدون الزواج بهن أو تأخذوا منهن عهدا أو ميثاقا على التزوج بكم وإذا كان هذا في السر منهيا عنه ففي الجهر من باب أولى وقال أكثر المفسرين ان كلمة (سِرًّا) هنا بمعنى نكاحا وزواجا أو جماعا أو زنى وكله خلاف الظاهر لأن اللّه تعالى أذن أول الآية بالتعريض ونهى في آخرها عن التصريح يؤيده قوله جل قوله «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً» بما يشابه الألفاظ المتقدمة ويجوز أن تتذاكروا مع وليها بمثل تلك الألفاظ وتزيدوا عليه بأنكم تحبون الانتساب إليه وترغبون بمصاهرته في المتوفى عنها زوجها لكمالها وأدبها ونسبها وحسنها فكل هذا لا إثم فيه ولا حرج في فعله «وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ» في العدة أو تحقنوا إجراءه أو تصمموا عليه فيما بينكم إذ ترك العزم على العقد(5/201)
ج 5 ، ص : 202
واجب عليكم «حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ» سمى اللّه العدة كتابا لأنها فرضت فيه وكتبت على البشر فإذا قضيت فلا محذور عليكم في الخطبة تصريحا وإجراء العقد علنا «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ» فضلا عما تتكلمون به شفاها «فَاحْذَرُوهُ» أيها الناس لا تخالفوا أمره أو تروغوا عن تعاليمه «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سبق منكم في هذا الشأن لأنكم لا تعلمون تحريمه ولم يسبق النهي عنه من قبل نبيكم لعدم تلقيه وحيا عنه «حَلِيمٌ» (235) يستر على عباده ما يقع منهم ولا يستفزه الغضب فيفضحهم حال ارتكابهم ما حرم عليهم بل يمهلهم ويؤخر عقوبتهم لعلهم يتوبون.
قال تعالى «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ» تجامعوهن «أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» فلم تسموا لهن صداقا وهذه الجملة معطوفة على العقد المخفي وهذا التفسير أولى من جعل (أَوْ) بمعنى إلا لأنه خلاف الظاهر وأن هذا النوع من أنواع الطلاق آت في الآية التالية وهو فيما إذا كان العقد لم يسم فيه مهرا وقد نزلت في رجل من الأنصار تزوج من بني حنيفة امرأة ولم يسم لها مهرا ثمّ طلقها فقال صلّى اللّه عليه وسلم أمتعها ولو بقلنسوة ، ووجه نفي الحرج مع أنه لا حرج بالطلاق قبل المس أو بعده لما فيه من سبب قطع الوصلة ولهذا قال تعالى «وَمَتِّعُوهُنَّ» تطييبا لخاطرهن بما تطيب به نفوسكم أيها المطلقون من أنواع المتاع لا تضييق عليكم فيما تعطونه لها «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ» بحسب إمكان الرجل ومكانته وإمكانه «مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ» من غير حيف ولا عنف بلين ورفق وطيب نفس.
واعلموا أن تمتع المطلقات كان ولا يزال «حَقًّا» واجبا لازما لا ندبا ولا مباحا «عَلَى الْمُحْسِنِينَ» (236) معاملة النساء الذين يراعون حقوقهن ويرغبون فى إرضائهن إجابة لإرادة ربهم وهذه المتعة هي المسماة الآن بنفقة العدة ويجبر الزوج عليها في كل الأحوال إلا إذا لم يختل بها إذ لا عدة عليها ولا نفقة عليه لأنها شرعت بمقابل حبس المرأة نفسها عن الزواج خلالها ، أما إذا طلقت على هذه الصورة فينبغي أن يعطيها المتعة سواء اختلى بها أم لا لإطلاق الآية ولأنها عبارة عن تطييب قلبها لأنها قد يلحقها حيف وتهمة بسوء خلقها أو خلقها أو نسبها هذا إذا لم يكن الطلاق على طلبها وإلا لا.
قال تعالى «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ(5/202)
ج 5 ، ص : 203
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ»
أي يلزمكم نصف «ما فَرَضْتُمْ» على أنفسكم
من المهر المسمى عند العقد لا مهر المثل لأنه لا يرجع إليه إلا عند عدم التسمية «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ» عنكم أو يسامحونكم به أنفسهن أو أولياؤهن برضائهن والنون في (يَعْفُونَ) ضمير جمع المؤنث ولهذا لم يسقطها الناصب إذ يستوي فيه الرفع والنصب ، ومن قال إنه ضمير الرجال قال إن النون علامة الرفع ولم يسقطها الناصب لأن الفعل مبني لا يؤثر فيه الناصب كما لم تسقط الواو التي هي ضمير المذكر وإنما سقطت الواو التي هي لام الفعل وإسناده للنساء أولى بالمقام ، يؤيده قوله تعالى «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» من أوليائهن إن كن قاصرات أو غير حائزات شروط التصرف لأن الولي هو القيّم عليها وقد يكون هو الذي زوجها وهو الذي ألزم الزوج مهرها ولذلك له أن يعفو عن المهر وغيره «وَأَنْ تَعْفُوا» أيها الأولياء والنساء البالغات الحائزات حق التصرف عن نصف المهر المذكور أو عن بعضه فتبرئوا ذمة الأزواج منه فهو «أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » من أن تأخذوه وفي حالة العفو ينبغي للزوج أن يمتعها بما تسمح به نفسه تطييبا لخاطرها ، ثم بين سبب العفو بقوله عز قوله «وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ» لأنكم تقاربتم بسبب هذا الزواج فليدم بينكم الإحسان لأن في الأخذ قطيعة له وسبب للتخاصم وفيه حث الطرفين على كرم الأخلاق وإذا عفى الزوج وترك المهر كله فهو أولى والفضل لمن تسمح نفسه بما يستديم به مودة الآخر إذ قد يؤدي هذا التسامح إلى الرجعة فلا يبقى محل للحقد والبغضاء والمشاحنة وهذا هو المعروف والإحسان المطلوبين في التفريق «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (237) لا يضيع عمل عامل منكم فاعملوا خيرا لأنفسكم لتجدوا ثوابه عند ربكم القائل «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ» المكتوبات «وَالصَّلاةِ الْوُسْطى » خاصة وهي صلاة الصبح على أصح الأقوال لمزيد الاعتناء بها ولزوم المحافظة عليها لأنها ثقيلة على من لم
يوفقه اللّه لفضلها ، لأن من الناس من يغفل عنها ويعرضها للضياع فيصليها قضاء وهيهات الأجر بين القضاء والأداء ، وإنما رجح كونها الصبح لأنها تصلّى بمفردها سفرا وحضرا لا تقصر ولا تجمع مع غيرها ولأنها واقعة بين جمعين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، (5/203)
ج 5 ، ص : 204
ولأنها في وقت يتكاسل فيه الناس للذة النوم ورطوبة الهواء في الصيف وشدة البرد بالشتاء وفتور الأعضاء وتمادي النعاس وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين المقدرين عظيم ثوابها فهي عليهم خفيفة سهلة يسرة يأتونها برغبة وطيب نفس ، وهناك أقوال بأنها العصر أو الظهر وقد بيناها في الآية 79 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعها.
وحجة من قال إنها العصر وقوعها بين صلاتي نهار وليل : الصبح والظهر ، والمغرب والعشاء.
وحجة من قال إنها الظهر وقوعها وقت اشتغال الناس ولأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي محمد عليهما الصلاة والسلام ولأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين كما ذكره بعضهم ، إلا أنه لا يتجه لأن الصلاتين اللتين قبلها وبعدها مختلفتان.
وحجة من قال إنها المغرب لضيق وقتها وانشغال الناس عنها بالأعمال والطعام والنزهة.
وحجة من قال إنها العشاء كراهية الحديث بعدها إلا بخير وسنيّة تأخيرها إلى ثلث الليل لما فيه من قطع السمر المنهي عنه.
ولكل وجهة وأحسنها أو لها لقوله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية المارة من الإسراء ، أي يدونها ملائكة الليل والنهار لرؤيتهم لها بخلاف سائر الأوقات ، وقال الشيخ محي الدين في فتوحاته إنها الوتر لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه زادكم صلاة وهي الوتر ألا فصلوها إلخ ، وقوله : الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني وكرره ، ولختمه تعالى الآية بقوله :
(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وفيها القنوت في بحث مطول فراجعه.
ومن أراد أن يصيبها يقينا فعليه المحافظة على كل الصلوات لأن الحكمة من إخفائها هذا كساعة الإجابة من يوم الجمعة وليلة القدر من رمضان والاسم الأعظم من الأسماء الحسنى ليستغرق العبد أوقاته في الدعاء والذكر والصلاة وإحياء الليالي فيصيب الهدف.
«وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» (238) خاشعين خاضعين لهيبته وعظمته في صلاتكم وصيامكم وذكركم وقيامكم ودعائكم مطيعين له في كل ما يأمر وينهى ، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنها الصبح لأن القيام من النوم يكون فيها ، والقنوت الذي أخذ به الإمام الشافعي فيها ، والخشوع فيها أكثر من غيرها لأن الإنسان ينتبه من نومه صافي القلب لم يشغله شاغل عدا ذكر اللّه ، وإنما ذكر اللّه تعالى الصلوات في تضاعيف أحكام الزواج والطلاق والنفقات والرضاع إيذان بشدة الاعتناء بها والمثابرة عليها(5/204)
ج 5 ، ص : 205
من غير اشتغال عنها بشأن أنفسهم وغيرهم ، وتشير إلى لزوم المحافظة عليها.
«فَإِنْ خِفْتُمْ» حال وقت أداء الصلوات من عدو أو غيره ولم تقدروا على الإتيان بها كاملة الأركان والشروط «فَرِجالًا» أي ائتوا بها قياما لأنه أبلغ في الجواز «أَوْ رُكْباناً» إذا لم تأمنوا على أنفسكم حالة القيام وفي فعلها حيثما توجهت به دوايكم ماغ لكم أيضا ، وسيأتي لهذا البحث تفصيل في الآية 101 من سورة النساء فراجعها «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم هذا «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» صلوا كعادتكم وعبر بالذكر عن الصلاة لا شتمالها عليه ولأنه معظم أركانها «كَما عَلَّمَكُمْ» من إكمال ركوعها وسجودها وإتمام خشوعها وخضوعها «ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» (239) شيئا قبل واحمدوا اللّه على ما علمكم ، ويؤذن ذكر الصلاة وما يتعلق فيها بين تلك الآيات المتعلقة بالطلاق وتفرعاتها بالحث على العفو والنهي عن الترك وأخذ الفضل من المهور والإضرار بالنساء وغيره من جميع ما نهى عنه وأمر به ، لأن الصلاة تهيء النفس لفضائل الأعمال كما يكمل بها فواضل الملكات لكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقد جيء بها هنا كالاعتراض بين البحثين ليجمع بين التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلقه بالإعلام بأنها حقيقة هي معظم الدين المستعان بها على فروعه ، وقد جاء في الحديث أنها عماد الدين ومعراج المؤمنين فمن قام بها حق القيام امتنع من الضرر والإضرار وأقدم على العفو والرفق والإحسان بخلق اللّه أجمع فضلا عمن كان بينه وبينهم صلة.
قال تعالى «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً» ويوصون «وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ» بأن يمتعن «مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ» ويبقين في بيوتهن «غَيْرَ إِخْراجٍ» منها فهؤلاء تجب نفقتهن في ماله إذا أوفين بوصية أزواجهن طيلة تلك المدة «فَإِنْ خَرَجْنَ» من تلقاء أنفسهن إذ لا يجوز للورثة إخراجهن تنفيذا لوصية الميت المطلوب اتباعها «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» أيها الوارثون ولا إثم وإنما يكون عليكم الإثم إذا أخرجتموهن وخالفتم الوصية أو قطعتم عنهن النفقة في تلك المدة ولا حرج عليكم بعد خروجهن قبل إكمال الحول أو بعده «فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ» كزينة معتادة ولباس طيب وغيره ، لأن الحداد مطلوب في أربعة أشهر(5/205)
ج 5 ، ص : 206
وعشرة أيام فقط التي هي مدة العدة بالنص المتقدم فإذا قضين هذه المدة فلهن أن يفعلن ما يشأن مما هو متعارف من زينة وطيب وأن يتزوجن بعدها ولا يجبرن على تنفيذ هذه الوصية للسبب الآتي «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 240» فيما شرع من الأحكام لعباده وما بين لهم من شرائعه.
نزلت هذه الآية في حكيم بن الحارث الطائفي لما هاجر إلى المدينة وأبواه وزوجته وأولاده فلما مات رفع أمرهم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأعطى ميراثه لأبويه وأولاده ولم يعط امرأته شيئا لأن آية الميراث لم تنزل بعد وكانوا لا يورثون الزوجة وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها سنة كاملة إذ كانت العادة مطردة بأن الزوج بوصي لزوجته بذلك إذا أحبت البقاء سنة أو إلى تاريخ خروجها بإرادتها من بيت زوجها ، لأن قضية التمتع إلى الحول ليس واجبا عليها بصريح هذه الآية بل مندوبا ومتوقفا على وصية الميت به فإن لم يوص فلا ، ومما يؤكد الندب قوله تعالى «فَإِنْ خَرَجْنَ» فلو كان واجبا لكان عليهن الإثم ولجاز منعهن من الخروج ولهذا فإنهن بالخيار من تنفيذ وصية زوجها ببقائها سنة أو خروجها بعد إكمال الأربعة أشهر وعشرة أيام إلا أن إكمال السنة أولى بحقها رعاية لحق زوجها.
ومن قال إن هذه الآية منسوخة بالآية الأولى المبينة أن عدة الرفاة أربعة أشهر وعشرة أيام لأن الأمر فيها للوجوب لا وجه له لأن المقدم لا ينسخ المؤخر إجماعا ، وما احتج به القائل بالنسخ على ظن أن هذه الآية التي نحن يصددها متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن الآية الأولى عدد 235 كآية (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) فإنها متأخرة في النزول عن آية (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) المتقدمة في التلاوة يحتاج إلى دليل قطعي ولا شيء من ذلك ، وغاية ما قاله المفسرون انها متقدمة في المعنى ، وهذا لا يضر ولا ينطبق عليه ما نحن فيه ، راجع الآية 142 المارة تعلم أنها متقدمة في النزول والتلاوة والمعنى كهذه أيضا ، لأن القائل لا يستند إلى دليل يؤيد قوله ولا إلى نقل صحيح ، ولو فرضنا جدلا وقلنا إنها متقدمة في المعنى لا نقول بالنسخ لعدم وجود شرطه وهو التقدم نزولا وتلاوة ورتبة.
ولا يقال أيضا إن هذه الآية
ناسخة للآية الأولى لأن الأولى جاءت بلفظ الأمر وهذه على الندب وهو أدنى حالا من الأمر والأدنى لا ينسخ الأعلى لأنه أضعف منه بدرجات(5/206)
ج 5 ، ص : 207
والضعيف لا ينسخ القوي كما أوضحناه في المقدمة في بحث النسخ.
وغاية ما في هذه الآية الدلالة على أمر بن إعطائها النفقة والسكنى من مال زوجها حسب وصيته كما كان الأمر في الجاهلية وفي بداية الإسلام ، وإبقائها في بيته سنة كاملة باختيارها تنفيذا لوصية زوجها ، وهذا غير العدة الواجبة عليها لأنها على القطع وهذه على التخيير ، فلو فرض أن أوصى الآن زوج زوجته بذلك ورضيت فلا مانع من تنفيذ وصيته شرعا كسائر وصاياه وعلى كل حال الأحسن أن تقضي الزوجة عدتها في بيت زوجها سواء كانت عدة طلاق أو عدة وفاة ، ولكن الأمر الآن جار على خلافه فلا تجد مطلقة تبقى في بيت مطلقها يوما واحدا والقصور من الطرفين في هذا.
قال تعالى : «وَلِلْمُطَلَّقاتِ» كلهن على اختلاف أنواع الطلاق «مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا» واجبا مفروضا «عَلَى الْمُتَّقِينَ 241» ما نهى اللّه عنه كلّا أو جزءا وعليهم أن يتسامحوا في هذه المتعة ما استطاعوا تطييبا لقلوبهن وجبرا لخاطرهن ، وقد أمتع الحسن بن علي رضي اللّه عنهما احدى مطلقاته بثمانية آلاف درهم وكان جوابها له متاع قليل من حبيب مفارق «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الواضح «يُبَيِّنُ» اللَّهُ لَكُمْ «آياتِهِ» المتعلقة بينكم وبين أزواجكم في حالتي الطلاق والوفاة ويمتنّ عليكم بتوضيحه «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 242» معانيها فتعملوا فيها وتعلموا الغزي منها أيها المؤمنون.
هذا وقد جاءت هذه الآية مبالغة في زيادة البيان لجميع ما تقدم.
وخلاصة الحكم الشرعي في هذا أن الرجل إذا تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ولم يسم لها مهرا ولم يختل بها فعليه المتعة فقط وأقلها ثوب وإزار وخمار ، ولا حد لأكثرها بحسب ما تسمح به نفسه إذ لا عدة له عليها توجب حبسها عن الزواج بغيره كي يجبر على النفقة ولها أن تتزوج يوم طلاقها وانما كانت المتعة تفضلا وكرما منه إذا كان الطلاق وقع بطلبها وان كان عفوا منه كان عليه تطييب خاطرها بما تسمح به نفسه.
ثانيا إذا تزوجها وسمى لها مهرا وطلقها قبل الدخول والخلوة فلها نصف المهر المسمى فقط ولا عدة عليها ولا نفقة لها عليه وله أن يمتعها بما تجود به نفسه أيضا.
ثالثا إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا وطلقها بعد الدخول والخلوة الشرعية فعليه مهر مثلها كأختها أو عمتها المشابهة لها بالحسن والبكارة والنسب والحسب(5/207)
ج 5 ، ص : 208
وعليها العدة وعليه نفقتها وجوبا ما دامت في العدة.
رابعا إذا تزوجها وسمى لها مهرا ودخل بها ثمّ طلقها فلها تمام المهر وعليه نفقة العدة وتسمى هذه المتعة في الحالات التي يجب على الزوجة فيها العدة نفقة عدة وفي الحالات التي لا تجب فيها العدة متعة.
مطلب قصة ذي الكفل ونادرة السلطان سليم وقصة أشمويل عليه السلام :
ثم طفق جل شأنه يقص علينا ما جرى على بعض أنبيائه فقال جلّ قوله :
«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» وذلك أنه حلّ فيهم الطاعون فهربوا من بلدهم خوف إصابتهم به وهذا استفهام تعجب أي أرأيت يا سيد الرسل حالة هؤلاء أشاهدت مثلهم «فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا» بأن أمر ملائكته أن يصيحوا بهم صيحة هائلة فماتوا كلهم دفعة واحدة «ثُمَّ أَحْياهُمْ» بدعوة نبيهم ذي الكفل عليه السلام واسمه حز قيل ابن بوذي ثالث خلفاء بني إسرائيل وسمي ذا الكفل لأنه كفل سبعين نبيا وخلصهم من القتل ويسمى ابن العجوز لأنها كانت عقيما وسألت ربها بعد الكبر والهرم فأعطاها إياه وكانوا في قرية تسمى «ادواردان» وقد وقع بهم الطاعون فخرج قسم منهم وبقي الآخر ففتك بالباقين وعقب انقطاعه عاد النازحون فقال بقية المتخلفين منهم لو نزحنا معهم ما أصابنا ما أصابنا من فقد أولادنا وآبائنا ونسائنا وأقاربنا فإذا عاد الطاعون سنفعل مثلهم فعاد الطاعون الكرة عليهم فخرجوا جميعا من تلقاء أنفسهم دون رضاء نبيهم المشار اليه ونزلوا بواد (أفيح) فأرسل اللّه إليهم ملكين فصاحا بهم فماتوا عن آخرهم وقد فعل اللّه ذلك بهم ليعلموا هم والذين من بعدهم أن من قدر عليه الموت لا مناص له منه ، فصار نبيهم يبكي ويقول يا رب كانوا يعبدونك معي وبقيت وحيدا وبقي يدعو ويتضرع إلى ربه مدة أسبوع فأوحى اللّه إليه أني قد جعلت حياتهم بيدك فقال لهم أحيوا بإذن اللّه فحيوا كلهم معجزة له عليه السلام فقاموا وعاشوا معه دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم ، وكان موتهم هذا الذي استمر ثمانية أيام على ما قيل عقوبة لهم لما صدر منهم من القول المار ذكره فلا يقال كيف ماتوا مرة ثانية في الدنيا لأن إحياءهم كان لاستيفاء(5/208)
ج 5 ، ص : 209
آجالهم المقدرة عند اللّه تعالى ولذلك أحياهم ، فلا يرد عليه ما جاء في قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ) الآية 57 من سورة الدخان في ج 2 لأن معجزات الأنبياء من خوارق العادات والآية عامة مخصصة بمعجزات الأنبياء كموت سيدنا عزير عليه السلام وإحيائه كما سيأتي في القصة الآتية بعد وفيها رد على منكري البعث ، إذ ثبتت الحياة بعد الإماتة بصراحة هذه الآية بلا تعريض ولا تلويح ، والذي يقدر على إحيائهم في الدنيا ألا يقدر على إحيائهم في الآخرة ؟ بلى وهو على كل شيء قدير وهو أهون عليه وله المثل الأعلى.
روى البخاري ومسلم عن عمر أنه خرج فلما جاء (سرع) بلغه أن الوباء قد وقع بها فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه ، فحمد اللّه عمر ثمّ انصرف.
«إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» يبصرهم بما يعتبرون به كما بصر أولئك ليتعظوا «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ 243» أفضال اللّه عليهم فالكافر لا يشكر والمؤمن قليل شكره ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية 14 من سورة سبأ في ج 2.
قال تعالى «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يا أيها الذين أحييناكم بعد الموت «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (244) بمن يتعلل منكم عن القتال قولا ونية وأن اللّه تعالى يعامل الإنسان بمقتضى طويته.
وفي هذه الآية تمهيد للقتال الذي سيفرضه اللّه تعالى على رسوله وأمته وتشجيع عليه وإعلام بأنه لا مفرّ لأحد من الموت ، وأحسن أنواعه أن يكون في سبيل اللّه ، وقيل فيه :
من لم يمت بالسيف مات بغيره توعت الأسباب والموت واحد
وقيل أيضا :
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جبانا
ثم أكد جل شأنه الأمر في تضاعيف الترغيب بالعمل الصالح بالوعد بمضاعفة ثواب المجاهد على وجه يتضمن تسلية الإنسان في بذل نفسه في سبيل اللّه وبذل ماله لعيال اللّه فقال «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ» نفسه وماله «قَرْضاً حَسَناً» عن طيب نفس وحسن نية وإخلاص قلب «فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً»(5/209)
ج 5 ، ص : 210
لا حساب لها لأن عطاء اللّه لا يدخل تحت الحساب فضلا عن وصفه بالكثرة لأنه يبارك له في نفسه وماله وولده «وَاللَّهُ يَقْبِضُ» الرزق فيقتره على من يشاء لا بسبب الإنفاق «وَيَبْصُطُ» يوسعه ويكثره على من يشاء لا بسبب البخل «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 245» فرادى كما بدأكم أول مرة وتتركون ما خولكم إياه من مال وولد وراءكم في الدنيا وتحاسبون عليهما في الآخرة ، فقدموا لأنفسكم ما استطعتم من الخير تربحوا وتنجحوا.
أمر اللّه تعالى قوم ذي الكفل المذكورين بالجهاد بعد أن أحياهم وأخبرهم بفضله تمهيدا لشكره على ما أنعم به عليهم وقد نسبها لهم مع أنها من جملة أفضاله تكريما ، قال عطاء اللّه الاسكندري : ومن فضله عليك أنه خلق ونسب إليك وقد أخبرهم أن من جاهد فكأنما أقرض اللّه نفسه وماله وقد تعهد اللّه بمضاعفة هذا القرض ومن أوفى بعهده من اللّه ومن يتعهد له اللّه يغنيه ويكفيه عن غيره.
ويطلق القرض على كل ما أسلفه الرجل من خير أو شر ، قال أمية ابن الصلت :
كل امرئ سوف يجزى فرضه حسنا أو سيئا أو مدينا كالذي دانا
وإن القبض والبسط في الرزق لحكمة تقتضيها إرادة اللّه لا لكون الرجل تقيا أو شقيا ، فمن عرف هذا وأيقن بأن الخير فيما يختاره اللّه لعبده لا فيما يتصوره هو هان عليه ذلك ورضي بما عنده واستراح ، قال القائل :
إذا ما تمنى الناس روحا وراحة تمنيت أن أشكو إليك وتسمع
فمن يشكو إلى اللّه ما يلاقيه منه يسمع خيرا ويصرف النظر عن الدنيا وينكب للآخرة ، وقيل في المعنى :
تزود من الدنيا فإنك راحل وبادر فإن الموت لا شك نازل
وإن امرأ قد عاش سبعين حجة ولم يتزود للمعاد لجاهل
ودنياك ظل فاترك الحرص بعد ما علمت فإن الظل لا بد زائل
وعليه فليثق الإنسان بربه ، وليقنع بما أعطاه ، وليتيقن أن الخير في الواقع ، وليحذر أن يكثر على ربه الأماني ، فالكيس من دان (حاسب) نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأماني.
وليعلم هذا وأمثاله أن : (5/210)
ج 5 ، ص : 211
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
نادرة : - نزل السلطان سليم الأول العثماني سامحه اللّه في قارب يريد العبور من الآستانة إلى اسكدار ، وكان معه أستاذه شيخ الإسلام العلامة شمس الدين أحمد چلبي الشهير بابن كمال فخاطبه السلطان أثناء جريان القارب فيها بقوله :
فيم اقتحامك لج البحر تركبه وأنت يكفيك منه مصّة الوسل
فأجابه فورا من بحر بيته بقوله :
أريد بسطة كف أستعين بها على قضاء حقوق للملا قبلي
فتعجب من حسن جوابه وأحسن إليه.
ثم ذكر جل ذكره على طريق الاستفهام التقريري والتعجب التذكيرين بقصة أخرى من عجائب أفعاله البديعة وصنائعه الغريبة فقال تعالى يا سيد الرسل «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ» من أشرافهم من أهل الحل والعقد في المملكة وهؤلاء المتعجب منهم كانوا «مِنْ بَعْدِ» موت «مُوسى » عليه السلام «إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ» هو على ما قيل شمعون ابن يوشع عليه السلام ، ومقول القول «ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معه «قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا» مع ذلك الملك الذي تريدون أن يبعثه اللّه إليكم لأني أتوقع أن لا توفوا بوعدكم «قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معه «وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا» من قبل الذين غلبونا ألا نريد أن نأخذ بثارنا منهم فلا بد لنا من قتالهم لننتقم منهم ، فسأل نبيهم ربه عز وجل فبعث لهم ملكا وفرض عليهم القتال معه «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا» عنه وأعرضوا عن الجهاد معه وأخلفوا عهدهم وضيعوا أمر اللّه «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» ثبتوا على عهدهم مع الملك وظلم المخالفون أنفسهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 245» الذين ينكثون عهدهم ويخلفون وعدهم.
وخلاصة القصة الثانية قالوا إن يوشع بن نون عليه السلام كان أقام في بني إسرائيل خليفة لسيدنا موسى وسيدنا هرون عليهما السلام ومن بعده كالب بن يوقنا ثم حز قيل المار ذكره آنفا بالقصة المبينة في الآية 242 المارة ، فأقاموا أوامر اللّه تعالى فيهم بحكم التوراة بعد موت ذي الكفل حز قيل (وهذا(5/211)
ج 5 ، ص : 212
غير الياس المسمى ذا الكفل راجع الآية 213 المارة وما ترشدك إليه من المواضع) عظمت فيهم الأحداث وغيروا أوضاع الدين وبدلوا قسما من التوراة ونسوا عهد اللّه فيهم على ما فيها وعبدوا الأصنام ، فبعث اللّه تعالى إليهم الياس ليجدد عهده فيهم ويأمرهم أن يطيعوا اللّه ويعملوا بأحكام التوراة ، ومن بعده اليسع ، فأقاموا فيهم ما شاء اللّه تعالى ومن بعدها عظمت الأحداث فيهم والخطايا فسلط اللّه عليهم العمالقة قوم جالوت ويسمون (الباشانا) يسكنون ساحل الروم بين مصر وفلسطين فغلبوهم على أراضيهم وسبوا ذراريهم وضربوا عليهم الجزية وأهلكوهم حتى لم يبق من سبط النبوة إلا امرأة حبلى فأمسكوا بها لئلا تبدل مولودها بذكر إن كان أنثى ، فدعت اللّه تعالى فرزقها غلاما سمته شمعون ومعناه سمع اللّه دعائي ، وكانوا ينطقون السين شيئا ومعناه بالعبرانية إسماعيل ، فكبر وترعرع وتسلم التوراة بكفالة شيخ من كبارهم ، فلما بلغ أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم جانب الشيخ لأنه كان لا يأمن عليه أحدا فيظل ملازما له فدعاه بلحن الشيخ يا اشمويل فقام فزعا إلى الشيخ وقال يا أبتاه رأيتك تدعوني إفكره أن يقول له لا خوفا عليه ، فناداه ثانيا فقال يا أبتاه تدعوني فقال له نم ولا ترد علي إن دعوتك ، فناداه الثالثة وظهر له وقال اذهب إلى قومك وبلغهم رسالة ربك فإن اللّه قد بعثك فيهم نبيا ، فلما أتاهم كذبوه وقالوا له إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل معه آية على نبوتك ، ولهذا لم يقل لهم إن بعثت لكم ملكا لا تقاتلون معه كما التمسوا منه مع أنه أظهر مبالغة في إظهار تخلفهم عنه لأنهم إذا كانوا لا يقاتلون عند فرض القتال عليهم فلأن لا يقاتلون عند عدم فرضه من باب أولى.
قالوا فدعا اللّه تعالى فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له ان الملك الذي يجب أن يقاتلوا معه يشترط أن يكون من بني إسرائيل وأن يكون بطول العصا وإذا أدخل عليك نش الدهن بالقرن ، وكان طالوت بن قيس من سبط بنيامين بن يعقوب مستوفيا لهذين الشرطين بعد أن استعرض كثيرا منهم على مرأى من قومه ولما أدخل عليه نش الدهن بالقرن فاستجمعت فيه الشروط الثلاثة فقال لهم هذا هو ملككم ، وكان دباغا وسمي طالوت مبالغة في طوله فملكه عليهم وكان قوام منك بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعتهم طاعة أنبيائهم وكانت الملوك تنقاد(5/212)
ج 5 ، ص : 213
إلى الأنبياء فلا يعملون شيئا إلا بإرشادهم.
قال تعالى «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» حسب طلبكم فتهيأوا للقتال معه «قالُوا أَنَّى» من أين «يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا» وكيف يستحقه «وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ» لأنه ليس من سبط الملوك وفينا من
سبطه سبط يهوذا بن يعقوب كداود بن ميشا وغيره ولا هو من سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب الذي كان منه موسى وهرون وغير هما لهذا فانا لا نقبله ملكا علينا إذ يشترط أن يكون من أحد السبطين المذكورين فضلا عن أنه رجل دباغ فقير «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ» فكيف نملكه علينا لأن الملك يحتاج للمال أكثر من احتياجه للسطوة بالرجال ويجب أن يكون من سبط الملك أو النبوة ، قاتلهم اللّه على عنادهم هذا ، اللّه يخبر نبيهم بأن طالوت أهل للملك وهم يقولون نحن أحق به منه «قالَ» نبيهم عليه السلام لا تعترضوا «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ» وكان أعلم بني إسرائيل في زمنه «وَالْجِسْمِ» وهذه فضيلة أخرى ينشأ عنها شدة القوة وهي مع العلم ركنان عظيمان لحفظ الملك والمال وليدلهما «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» من عباده لم يخصه بسبط ولم يجعله إرثا ولم يشترط له الغنى إذ قد يمكنه اللّه منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» الرزق ويده أبوابه «عَلِيمٌ 247» بمن يؤهله للملك والرزق لأنهما من فضله وسعته يفيضهما على من يشاء من عباده.
مطلب في التابوت ومسيرهم للجهاد ومخالفتهم توصية نبيهم بالشرب من النهر وقتل جالوت وتولية داود عليه السلام :
ثم إنهم طلبوا من نبيهم علامة على ملكية طالوت من قبل اللّه تعالى بعد أن لم يقبل منهم ما طعنوه به فدعى اللّه ربه فأخبره بعلامته «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ» الذي فقد منكم وآل فيه للعهد لأنه كان معروفا عند أسلافهم وعندهم بالاستقراء من أنبيائهم وهو على ما قالوا أنزل على آدم عليه السلام وكان فيه صور الأنبياء وهو من خشب الشمشام وكان طوله ثلاثة أذرع وعرضه ذراعين ولم أقف على نوعه وماهيته بأكثر من هذا ، (5/213)
ج 5 ، ص : 214
وورثه شيث عليه السلام وتداوله أولاده من بعده إلى أن صار إلى ابراهيم وإسماعيل فيعقوب ثمّ وصل إلى موسى عليه السلام وكان يضع فيه التوراة وبعض الأشياء المقدسة وورثه أنبياء بني إسرائيل وكانوا يستنصرون به على أعداءها ويستشفون به «فِيهِ سَكِينَةٌ» قالوا هي كناية عن روح من روحه تعالى تخبرهم بلسان نبيهم عما يختلفون فيه وطمأنينة يسكنون إليها عند خوفهم وجزعهم هي لكم يا بني إسرائيل أمن «مِنْ رَبِّكُمْ» يوقعه في قلوبكم عند الخوف فتأمنوا وتخبتوا وتطمئنوا عند الجزع والفزع وتتسع قلوبكم عند الضيق وتنشرح له «وَبَقِيَّةٌ» فيه أيضا «مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ» من رضاض الواح التور والعصا وأشياء أخر محترمة عندهم تلقوها من الأنبياء الأقدمين ، ويدل على هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم : أوتيت مزمارا من مزامير آل داود.
أي داود نفسه ، وهذه النساء جارية عند بعض العرب فيقولون آل فلان للشخص نفسه (وإن أهل قضاء الميادين من أعمال محافظة دير الزور تستعمل هذه النسبة حتى الآن) وهناك أقوال أخر في معنى التابوت والسكينة والبقية لا يركن إليها لعدم الوثوق بصحتها.
قالوا وكانت العمالقة المار ذكرهم حينما غزوهم وسبوهم أخذوه منهم ، وإنما سلطهم ان عليهم لتركهم تعاليم دينهم وإرشادات أنبيائهم وانشغالهم بشهواتهم واستحلالهم ظلم بعضهم ولما وضعوه في بيت أصنامهم رأوها تنكست فتشاءموا منه ، ثم وضعوه في ناحية من مدينتهم فأصاب أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم ، فطرحوه في قرية من قراهم فسلط اللّه على أهلها الفأر حتى صارت الفأرة تبيت مع أحدهم فيصبح ميتا ثم دفنوه في فناء البلد قصار كل من يتبرز هناك يصاب بالباسور ، فتحيروا في أمره فقالت لهم امرأة من بنات الأنبياء لا يزال المكروه فيكم ما زال عندكم ، قالوا نعمل ؟ فأمرتهم أن يأتوا بعجلة فيضعوه فيها ويربطوه لئلا يقع ويعلقوا العجلة بثور ويضربو هما ضربا مبرحا حتى يخرجا من حدود مدينتهم ، ويتركوهما على وجههما ففعلوا ذلك ورجعوا ، فأرسل اللّه أربعة من ملائكته يسوقونهما حتى أو صلاهما أراض بني إسرائيل ، فلما رأوه كسروا نير الثورين وقطعوا حبالهما وأخذوا التابوت وانصرف الثوران لأهلهما ، وإنما قال تعالى «تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ» لأنهم هم الذين وجهوا(5/214)
ج 5 ، ص : 215
الثورين إلى جهة بني إسرائيل ، قالوا فصار بنو إسرائيل يهللون ويكبرون ويحمدون اللّه تعالى ودانوا لملكهم بعد أن رأوا هذه العلامة التي أخبر عنها نبيهم ، وهناك أقوال أخر بأنهم رأوه نازلا من السماء وأن الملائكة أتتهم به من أرض التيه حتى أوصلته إلى بيت طالوت فأراهم إياه ، واللّه أعلم ، لأن القصة معلومة والكيفية مجهولة.
قالوا ولبث فيهم أشمويل عليه السلام أربعين سنة يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه إلى أن مات عليه السلام بعد قتل جالوت كما سيأتي «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إتيان التابوت بما فيه من السكينة والبقية بواسطة الملائكة «لَآيَةً لَكُمْ» عظيمة وبرهانا ساطعا على نبوة أشمويل وملكية طالوت «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 248» بربكم ورسالة نبيكم وتصديق ملككم ، فلما رأوا الدليل القاطع أذعنوا وصدقوا ، ثم أمرهم بالجهاد ليسترد لهم شرفهم من العمالقة فأجابوه ولم يتخلف منهم إلا العاجز والمعذور والصغير وساروا معه إلى العمالقة.
قال تعالى «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ» لهم نبيهم أشمويل «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» تعبرونه لأن عدوكم وراءه وقد يلحقكم العطش عنده وإن اللّه تعالى يمتحنكم هناك فيعلم الطائع منكم من العاصي له وسيقول لكم لا تشربوا من هذا النهر «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» ولست منه لمخالفة أمر اللّه «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ» يذقه بتاتا «فَإِنَّهُ مِنِّي» وأنا منه لا نقياده لأمر اللّه «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» فشربها منه فلا بأس عليه لأنها رخصة له فيبقي من أهل بيتي وداخلا في طاعتي وتظهر طاعته للّه وإلا فقد بارزه بالمعصية ، ولما دخلوا النهر المذكور وكان قد لحقهم العطش كما أخبرهم نبيهم «فَشَرِبُوا مِنْهُ» خلافا لتوصية نبيهم وأمر ملكهم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» لم يشرب قالوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا.
روى البراء بن عازب قال : كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يتحدثون أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزه إلا مؤمن بضعة عشر رجلا وثلاثمائة - أخرجه البخاري - .
قالوا وكان من اغترف منه بكفه كفته تلك الغرفة لنفسه ودابته وقوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما لأنها معجزة نبي ، ومن شرب منه رأسا فعبّ عبّا غلبه العطش فلم يروه ما كرع منه واسودت شفتاه وجبن وبقي ملقى على الشاطئ ، وقالوا إن الشرب بعد العطش(5/215)
ج 5 ، ص : 216
والتعب يورث الاستسقاء ولهذا منعهم نبيهم وتراهم لكثرة ما شربوا منه انتفخت بطونهم وعجزوا عن المشي والعبور مع رفاقهم ، وهذا النهر بين الأردن وفلسطين «فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا» المتخلفون الذين خالفوا أمر ملكهم وتوصية نبيهم عند ما شاهدوا كثرة العدو من وراء النهر «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وذلك لما عرفوه من سطوتهم قبل وشدة بأسهم التي ذاقوها ، ثم «قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ» الذين عبروا النهر مع ملكهم طالوت واكتفوا بغرفة من النهر وتمسكوا بتعاليم نبيهم وقد ازداد يقينهم باللّه لما نفث في روعهم من القوة والإيمان بعد أن رأوا المعجزة بغرفة الماء بلى إن لنا من شدة صبرنا وإيقاننا بتحقق وعد اللّه لنا بالنصر والغلبة عليهم فإنا نقابلهم ولا نبالي بكثرتهم ، قال تعالى «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 249» بالنصر والمعونة والصبر ثمّ تأمروا بينهم على لقاء عدوهم وأقدموا على قتاله «وَلَمَّا بَرَزُوا» طالوت وجنوده «لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وصار بحيث كل منهم يرى الآخر لأن الأرض التي فيها الطرفان واسعة بارزة «قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» على لقاء عدونا واصرف الرعب عن قلوبنا بسبب كثرتهم وقلّتنا «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ 250» فأجاب اللّه دعاءهم بأن أزال الخوف عنهم وملأ قلوبهم بالإيمان وحبب إليهم الغلبة وألقى
الرعب في قلوب أعدائهم ونصرهم عليهم
«فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» حين التقى الجمعان وردوهم إلى الوراء فكسروهم «وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ» ملك العمالقة على ما هو عليه من القوة والعظمة وما معه من العدة والعدد «وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» أي النبوة والحكم بين الناس ولم يجتمعا لأحد قبله من بني إسرائيل لأن الملك كان في سبط والنبوة في سبط كما تقدم آنفا فهو أول عظيم تولى السلطتين الدينية والزمنية ، راجع الآية 50 من سورة ص المارة في ج 1 ، «وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» من صنعة الدروع وغيرها زيادة على علومه في الدين والحروب والسياسة وكان عليه السلام مع ما أوتي من الملك الكبير لا يقتات إلا من كد يده وأنزل عليه الزبور المشتمل على الأدعية والاستغاثات والحكم والأمثال(5/216)
ج 5 ، ص : 217
وخصّه بحسن الصوت والألحان حتى كانت الوحوش تدنو منه عند ما يتلو الزبور وتظلله الطيور حنانا لسماع صوته وتسكن الرياح وتركد المياه عند ذلك ، وكان بارعا في سياسة الملك وضبط أموره بتعليم اللّه تعالى إياه لأنه ليس في بيت الملك ولم يتلق تعاليمه من أحد ولم يختلط مع الساسة لأنه كان راعيا حتى تولى الملك وهو ابن ميشا أصغر أخواته الثلاثة عشر ولم يظن به ما ظهر منه قالوا أوتي سلسلة متصلة بالمجرة تأتي له بالأخبار الهوائية من كل مكان وكان يحاكم بعض الناس إليها عند عدم وجود الأدلة الظاهرة وكان إذا لمسها ذو العاهة شفي ثمّ رفعت عند ما ظهر المكر والخداع بين الناس فتمسكوا بالحيل مما يغر الناس في ظاهر القول وإبطان ضده فمن ذلك أن رجلا أودع آخر جوهرة ليردها إليه عند حاجته إليها فلما استحسنها الوديع وعمد على إنكارها نقر عكازه وجعلها فيه وسده عليها ولما جاءه المودع وطلبها منه قال رددتها لك فتحا كما إلى داود ولما لم يكن بينة لديه كلف الوديع أن يمس السلسلة فقال لصاحب الجوهرة إذ كلفتني هذا فامسك عصاي هذه كي أتقدم إلى السلسلة فأمسكها وهو لا يعلم أن جوهرته فيها فتقدم إلى السلسلة وقال يا رب إن كنت تعلم أن الوديعة وصلت لصاحبها هذا فقرب مني السلسلة فتقربت ولمسها إذا وصلت حقيقة لصاحبها باعتبارها في يده ضمن العكاز ثمّ رفعت السلسلة لهذه الحيلة.
ثم إن اللّه تعالى زاد سيدنا داود على ذلك كله بأن علمه كلام الطيور والدواب وكل شيء كما أشرنا إليه في الآية 17 من سورة النحل ج 1 والآية 10 من سورة سبأ ج 2 «وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ» بدل من الناس المنصوب بالمصدر وقرىء دفاع مصدر دافع «بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» وبطلت منافعها من الحرث والنسل لأن هذه الأشياء لا تتم إلا بالأمن والأمن لا يكون إلا بالسلطان ولهذا ينصر اللّه الصالحين لعمارتها على المفسدين فيها وقضى يبقاء أهلها لأجل مسمى عنده.
واعلم أن صدر هذه الآية يضاهي الآية 41 من سورة الحج الآتية فراجعها «وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 251» بإرسال الرسل وتنصيب الملوك لإزالة الفساد ونشر الصلاح بين الناس ولو لم يكفّ بالصالحين طغيان المفسدين وبغي العابثين لأهلك القوي الضعيف ودمر الفجار الأبرار وأعدم السخفاء الشرفاء وهكذا لو لم يدفع اللّه تعالى بجنوده(5/217)
ج 5 ، ص : 218
المسلمين وأصحاب حضرة الرسول الأعظم عدوان الكفرة والمنافقين لتعطلت معالم الدين وفسد الكون بانتشار المعاصي وإعلان الملاهي والمناهي ، وقد ذكر اللّه تعالى لنبيه هذه القصة وما قبلها تذكيرا لأصحابه وإعلاما بأنه تعالى ينصر المؤمنين ويدحض الكافرين ، وإيذانا بأنهم إذا صبروا وأطاعوا تكون لهم الغلبة والعاقبة الحسنة في الدنيا كما كانت من قبلهم وهذه العاقبة تفضي إلى العاقبة الحسنى بالآخرة أيضا.
هذا وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أنه لما خضع الإسرائيليون لطالوت وانتدبهم للقتال كان الوقت قيظا وسلكوا في طريقهم مفازة لحقهم على أثرها التعب والعطش ، ولما طلبوا الماء من نبيهم قال لهم الماء أمامكم وان اللّه سيختبركم فيه على ما مر آنفا وكان من جملة الذين عبروا النهر سيدنا داود عليه السلام وكان يرمي بالقذافة (المقلاع) وكان يقول لأبيه لا أرمي شيئا إلا أصبته ، فقال له قد جعل اللّه رزقك في قذافتك ، ثم قال لأبيه يا أبت وجدت أسدا رابضا بين الجبال فأخذت بإذنه وركبته فقال هذا خير يريده اللّه بك ، ثم قال يا أبت أرى الجبال تسبح معي إذا
سبحت فقال هذا خير أعطاه اللّه.
ثم نادى طالوت في معسكره من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي ، فلم يجبه أحد هيبة منه فاستشار النبي شمعون فيمن يبرز له ، وذلك أن جالوت قال لطالوت لا حاجة للقتال واهراق الدماء فليبرز لي واحد فإن قتلني أخذ ملكي وإن قتلته أخذت ملكه (ومن هنا قال عمرو بن العاص إلى معاوية لما ذا تهريق دماء المسلمين فابرز إلى علي فإن قتلته كفيته وإن قتلك كان الملك له ، فلم يفعل لعلمه أنه ليس من رجاله ، ثم قال معاوية ابرز له أنت ولك ملك مصر إن قتلته فقبل وتقدم إلى البراز فخطفه علي ورض به الأرض ونزل ليقطع رأسه فكشف له عن سوءته لأنه يعرفه كرم اللّه وجهه لا ينظر حتى إلى سوأة نفسه فتركه ، وفيه يقول أبو فراس الحمداني في معرض الذم لأمثاله :
ولا خير في دفع الردى بمذلة كما ردها يوما بسوءته عمرو)
فأوحى اللّه إلى شمعون أن يأتي بقرن فيه دهن القدس وتنور حديد ثمّ يدخل الناس في التنور ويضع على رؤوسهم القرن فالذي يسيل دهنه على رأسه حتى يصير كهيئة الإكليل ويملأ التنور وجوده بحيث لا يتغلغل فيه هو الذي يقتل جالوت ، فدعا(5/218)
ج 5 ، ص : 219
عامة بني إسرائيل فلم تظهر تلك العلامة على أحد منهم فسأل هل بقي أحد قالوا لم يبق إلا أولاد ميشا وهم ثلاثة عشر فأحضرهم واختبرهم فظهرت العلامة على داود عليه السلام ، فقال له طالوت هل لك أن تقتل جالوت ؟ قال نعم ، قال هل آنست من نفسك ما يدل على هذا ؟ قال نعم إني أرى الغنم فيما بينها الأسد والنمر والذئب فيأخذ منها فألحقه فأفتح لحييه وأخرجها من قفاه واستخلص ما يأخذه ، فقال أنت لها وكان رآه حينما سال الوادي يحمل شاتين شاتين ويخلصهما من السيل فقال الذي يرحم البهائم يكون بالناس أرحم فيجهد نفسه في تخليصهم من ضنك جالوت الغاشم ، فأخذه إلى المعسكر وأمره بالبروز إلى جالوت فأخذ قذافته ووضع أحجارا في مخلاته ، قالوا إنها كلمته بذلك بأن قالت له خذنا واحذف بنا جالوت فإنك تقتله ولهذا فإنه ترك السلاح الذي أعطاه له الملك طالوت قائلا إن لم ينصرني ربي لا ينصرني سلاح طالوت ، فلما برز قال له جالوت أتيتني بأحجار كما يؤتى الكلب ، قال نعم وأنت شر منه ، فقال جالوت مهلا لأقسمنّك شطرين ، وكان متأهبا بأعظم السلاح فضلا عن أنه مشهور بعظمته وجبروته وقوته وأن الملوك تخشاه وتهابه وتخاف لقاءه وتفزع منه الجيوش فلا تقابله أبطالها ، فلما هجم عليه تلقاه داود بثلاثة أحجار متتابعة من قذافته أصابته كلها وخرقت دماغه وخرجت من قفاه وأصابت من وراءه فأماتته أيضا ، فتقدم إليه وجره كالجيفة وألقاه بين يدي طالوت ، ففرح وابتهج كل بني إسرائيل وهزم جيش جالوت واستسلم لطالوت فاستولى عليهم جميعا فقال داود لطالوت أنجز لي وعدك ، قال هات الصداق ، قال وما هو ؟ قال لنا أعداه غلف (غير مطهرين) تقتل منهم مئتي واحد وتأتيني يقفهم ، ففعل فزوجه ابنته وشاطره ملكه ، فمال الناس إليه وأحبوه لما هو عليه من كريم السجايا والتقوى كيف وقد أهله اللّه تعالى الملك والنبوة ، فلما رأى ذلك طالوت أحس بمفارقة الملك فصار يدبّر له المكائد ليمكر به
فيقتله ليتخلص منه حرصا على ملكه وبقاء الرياسة في عقبه ، فبلغ ذلك زوجته فقالت يا داود إنك لمقتول الليلة من قبل أبي وإني لا أقدر على ردّه ، قال وما جرى ؟ قالت لا علم لي إلا ميل الناس إليك ، فملأ زقا من خمر ووضعه على تخته وسجاه ونام تحته ، فجاء طالوت ليلا وقال لابنته(5/219)
ج 5 ، ص : 220
أين داود ، قالت هو ذاك على التخت ، فجرد سيفه وضربه تلقاء رقبته فانشق الزق وفاح ريح الخمر ، فقال رحمه اللّه ما أكثر شربه للخمر وخرج ، فلما أصبح عرف أنه لم يفعل شيئا فخاف منه أن يأخذ بثأره فأكثر حرسه وحجابه وأحكم غلق أبوابه ، وتوارى داود عن الأنظار حتى سنحت له فرصة تمكن معها من الدخول على طالوت ليلا فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وخرج ، فلما أفاق ورأى ما رأى هاله ذلك وعرف أنه لو أراد قتله لقتله فقال رحم اللّه داود هو أرحم مني ظفر بي فكف عني وظفرت به فأردت قتله فهو خير مني ، ثم شدد على حجابه وحرسه وأحكم أبوابه ، فدخل عليه ثانيا وأخذ كوزه الذي يشرب به وقطع شعرات من لحيته وشيئا من طرف ثوبه وتركه وخرج ، فلما أفاق ورأى ذلك تحير من أمره وعرف أنه لا يقدر على الاحتراز منه فسلط العيون عليه وأمر شرطته بطلبه وصار يتعقبه بنفسه فأدركه يوما بالبرية يلحقه فدخل غارا فتبعه فلم يجده وصار هو وجنوده يتحرونه فلم يجده ورأى العنكبوت معشعشا على الغار الذي اختبأ به ، وهذه معجزة له تضاهي معجزة محمد صلّى اللّه عليه وسلم لأنه أعطي معجزات الأنبياء كلهم فقالوا لو دخله لتخرق ، ثم إن العلماء والعباد طعنوا على طالوت بملاحقة داود فقتل منهم خلقا كثيرا ليرتدع الباقون عن لومه فلم ينجع بهم ثمّ أتي بامرأة تعلم الاسم الأعظم فأمر خبازه بقتلها لأنها لم تعلمه به وقد تحقق أنها تعرف مكانه بسبب معرفتها الاسم الأعظم
فرحمها الخباز ولم يقتلها وأمرها بالتواري عن الأنظار وقال في نفسه لعلنا نحتاج إليها ، ثم.
أوقع اللّه الندم في قلب طالوت على ما وقع منه فاختلى عن الناس وطفق يحاسب نفسه على ما فعل بداود والعلماء والعباد وصار يبكي حتى رحمه الناس من كثرة بكائه وصار يذهب إلى المقابر فيسمع منها صوتا لا تؤذينا أمواتا كما أذيتنا أحياء ، فازداد همه وحزنه وبكاؤه وصار يصيح ويقول من يعلم لي توبة أتوبها فيسمح اللّه لي ما فعلته ، فقال له خبازه إن دللتك على عالم يقبل توبتك قتلته ؟ قال لا واللّه فدله على الامرأة فذهب إليها وكانت مرابطة على قبر أشمويل عليه السلام الذي مات بعد قتل جالوت ، فقالت يا صاحب القبر قم باسم اللّه الأعظم وذكرته فقام من قبره ينفض عن رأسه التراب وخرج فقال ما فعلت من بعدي يا طالوت لا تقبل(5/220)
ج 5 ، ص : 221
توبتك حتى تخرج من ملكك وتقاتل في سبيل اللّه أنت وولدك العشرة فتقتلوا جميعا ثم سقط ميتا وأعيد إلى حفرته وطم عليه التراب فقام طالوت أشد ما كان حزنا لعلمه أن أولاده لا يطاوعونه على ذلك فظل يبكي حتى سقطت أسفاره ، فسأله أولاده فأخبرهم بما قال له النبي ، فقالوا لا خير لنا بالحياة بعدك فتجهزوا وصاروا يقاتلون في سبيل اللّه حتى قتلوا عن آخرهم عليهم الرحمة والرضوان ، فهذه واللّه أعلم حكمة قبول التوبة ظاهرا والحكمة الباطنة التي أرادها اللّه خلو الحكم لداود حتى لا يطالبه به أحد من أولاده بحسب الإرث الجاري عندهم بمقتضى العادة والتوارث ، وكانت مدة ملكه أربعين سنة فملك بعده داود ، وقد مرت قصته في الآية 82 من سورة سبأ في ج 2 فراجعها.
مطلب التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطائه ما أعطاهم كلهم من المعجزات :
قال تعالى «تِلْكَ» القصص العظيمة والأخبار الهامة هي «آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» الواقع الذي لا يشك به أهل الكتاب الذين في بلدك وغيرهم لثبوته في كتبهم «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 2 ، 2» حقا الفرد العلم الغنيّ عن التعيين وقد أمرناك بتلاوة هذه القصص والأخبار عليهم مع علمهم بأنك أمي ولم تتعلم من أحد ليعترفوا بصدقك لأن سماعها منك معجزة واضحة كافية على رسالتك «تِلْكَ» الجماعات الكرام الذين قصصنا عليك أخبارهم يا أكمل الرسل هم إخوانك «الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في الرّتب والمعجزات وهذا ردّ لمن قال إنهم متساوون لأن التفاضل موجود بين عوام البشر فلأن يكون بين خواصهم من باب أولى ، ثم بين اللّه تعالى هذا التفاضل بقوله عز قوله «مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ» شفاها بلا سفير كموسى عليه السلام وقد خصّه به ، لأن التكليم من أفضل معجزاته وأعظمها فلا تقاس باليد والعصا ورفع الجبل وفلق البحر وإخراج الماء من الصخر وغيرها لأنها دونها بكثير «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ» فوق بعض «دَرَجاتٍ» كثيرة وخص بعضهم بما لم يخص به الآخر وهذا ما عليه إجماع الأمة ، وأو لو العزم أفضل من غيرهم ومحمد أفضل من الجميع لعموم رسالته(5/221)
ج 5 ، ص : 222
وشفاعته ولاحتواء كتابه على ما في كل الكتب والصحف المنزلة وعلى ما سيكون إلى يوم القيامة ولكونه خاتم الأنبياء ودوام حكمه لآخر هذا الكون ولإتيانه بمعجزات الأنبياء كافة وزاد عليهم بانشقاق القمر وحنين الجذع فضلا عن كلام الحجر والبهائم وغيرها مما لا يحصى ، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 74 من سورة يونس والآية 28 من سورة سبأ في ج 2 والآية 158 من الأعراف في ج 1 وأشرنا إلى ذلك بمواضع أخرى منها ما مر وما سيمر عليك إن شاء اللّه فراجعها.
واعلم أن اللّه تعالى رمز في هذه الآية له صلّى اللّه عليه وسلم من غير تصريح لأن في الإبهام والرمز تعظيما وتفخيما ولأن رفع الدرجات التي صارت له ليلة المعراج لم تكن لنبي قبله ، راجع الآيتين 8/ 79 من سورة الإسراء في ج 1 ، وقد سئل الحطيئة من أشعر الناس قال زهير والنابغة.
ثم قال لو شئت لذكرت الثالث يعني نفسه.
وقد يقول القاضي في حكم قضى القاضي وحكم بكذا يريد نفسه.
ويفعل الرجل من الجماعة الأمر ويقول فعله أحدكم وهو أبلغ من أن يقول أنا «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى علامة دالة على رسالته إليهم من قبلنا لما قضت إرادتنا بإرساله إلى بني إسرائيل ليجدد لهم العهد «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام فكان معه منذ ولد حتى رفع وهو نفسه معجزة لكونه من غير أب ولهذا خصه بالذكر ، وقد أسند جل جلاله الضمير هنا لذاته الكريمة وفي صدر الآية لاسمه المبارك مع أن المقام كله فيها مقام خطاب لتربية المهابة العظمى ، ولوح عن موسى بالتكليم لاختصاصه به ، وصرح باسم عيسى لرد ما بين أهل الكتابين فيه من التفريط والإفراط وأشار بالرفع لمحمد الدال عليه قوله وإنك لمن المرسلين زيادة في تبجيله واحترامه «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ» اجتماع أتباعهم على كلمة واحدة لفعل و«مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» وما اختلفوا فيما بينهم «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» على أيدي رسلهم «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا» لأمر أراده اللّه تعالى تأييدا لمشيئته التي أرادها أول الخلق ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ» وأوفى بعهده الذي عاهد اللّه عليه في عالم الذر ففاز بفضل ربه في جنته «وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» عمدا لنقض عهده بعد قيام الحجة عليه بسخط اللّه(5/222)
ج 5 ، ص : 223
فزج في جهنم «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا» ولا اختلفوا «وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ 253» بخلقه حسبما خلقهم عليه يوفق من يشاء ويخذل من يشاء ليردهم لسابق علمه فيهم ، سأل رجل عليا كرم اللّه وجهه عن القدر قال : طريق مظلم فلا تسلكه ، فأعاد عليه السؤال قال بحر عميق فلا تلجه ، فأعاد عليه الثالثة ، قال سر قد خفي عليك فلا تغشاه.
فقد ظهر في هذه الآية أن الرسل متفاضلون واختلاف أممهم من بعدهم وتعدد أديانهم واختلافهم فيما بينهم عما أراده اللّه تعالى فيهم منذ خلقهم وأن اتحادهم على طريقة واحدة محال ، وفيها تسلية لحضرة الرسول محمد مما يجده من الحزن والغم لعدم اهتداء قومه وقبولهم وحي اللّه وعدم التفاتهم إليه.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ» أي لا تنفع فيه الصحبة والمودة والصداقة ولا تقبل فيه الفدية وقد سمي الفداء هنا بيعا لأنه شراء النفس من الهلاك «وَلا شَفاعَةٌ» لأحد تخلصه من عذاب اللّه إلا لمن ارتضى وأذن فهو عام مخصوص ، راجع الآية 23 من سورة سبأ في ج 2 «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ 254» لأنهم وضعوا الأشياء في غير محلها.
واعلم بأن هذه الآية تشير إلى أن في الإنفاق في سبيل اللّه تأليف القلوب في الدنيا والنفع في الآخرة.
وبعد أن ذكر جل شأنه الأحكام المتعلقة بخلقه أردفها بذكر ما تفرد به من الشؤون الجليلة الموجبة للعمل بأحكامه وتخصيصه بالعبادة بقوله «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ» الدائم بعد كل حي كما هو قبل حي «الْقَيُّومُ» على كل شيء القائم بتدبير كل شيء «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» السنة الفتور الذي يتقدم النوم والوسنان الذي هو بين النائم واليقظان فيكون الوسن نوما خفيفا يسهو فيه الإنسان ويغفل ، والنوم الحقيقي هو المزيل للشعور والقوة والحس ، وهذا كله نقص وتغيير وآفة لأنها تفضي إلى عدم العلم بما يقع واللّه تعالى منزه عن النقص والآفات والتغيير ، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية 43 من سورة فاطر ج 1 ومثلها الآية 66 من سورة الحج الآتية ، فلو وقعت منه سنة تعالى عن ذلك لسقطت السموات على الأرض وخرب الكون لأنه قائم بقيومته.
روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خطيبا بخمس كلمات(5/223)
ج 5 ، ص : 224
فقال إن اللّه عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط (الميزان) ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور - وفي رواية النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وهذا من أحاديث الصفات راجع بحثها في الآية 210 المارة «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا لا ينازعه فيهما وما فيهما أحد ، وقد أجرى هنا لفظ ما تغليبا لمن لا يعقل على من يعقل لأن الغالب فيهما ما لا يعقل «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» استفهام بمعنى النفي أي لا يشفع أحد لأحد قط إلا بإذنه والاستفهام الإنكاري كهذا لا يجاب إلا بلا «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» مما هو أمام خلقه في الدنيا «وَما خَلْفَهُمْ» ما وراء خلقه كافة بالآخرة «وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ» لا يعلم أحد البتة من هؤلاء المخلوقات كلها كنه شيء ما من معلوماته «إِلَّا بِما شاءَ» أن يحيط علمهم به بأن يعلم من شاء من خلقه الخواص الخلص كالأنبياء والعارفين بعض معلوماته مما فيه معجزة أو كرامة ، قال تعالى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآية 27 من سورة الجن في ج 1 ، قال الغزالي رحمه اللّه : إن اللّه عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء وليس شيء من العلى إلى الثرى إلا وقد أحاط به علمه لأن الأشياء بعلمه ظهرت وبقدرته انتشرت.
مطلب عظمة العرش والكرسي وأفضل آية في القرآن والأحاديث الواردة في ذلك والإكراه في الدين :
قال تعالى «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» الكرسي هو ما يجلس عليه وسط العرش وهما أي الكرسي وللعرش اسمان للسرير لا يعرف كيفيتهما وعظمتهما إلا هو فكما أنه جل علاه لا مثل له فلا مثل لكرسيه وعرشه ، راجع الآية 7 من سورة هود في ج 2 وما ترشدك إليه عن هذا البحث ، ويدلك على عظمتهما ما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : إن السموات السبع والأرضين السبع لو بسطن ثمّ وصلن بعض ما كن في سعته (أي الكرسي) إلا بمنزلة الحلقة في المفازة.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه(5/224)
ج 5 ، ص : 225
عن أبي ذر أنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الكرسي فقال : يا أبا ذر ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة وان فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة.
وفي رواية الدار قطني والخطيب عن ابن عباس قال :
سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية قال كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره «وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» لا يثقل عليه ولا يشق ولا يجهده حفظ السموات والأرض وما فيهما وبينهما «وَهُوَ الْعَلِيُّ» الرفيع الذي لا يدانيه أحد ولا يقرب من رفعته شيء «الْعَظِيمُ» (255) الذي دل لهيبته كل عظيم وخضع لعظمته كل كبير ، وقد أتت جمل هذه الآية بلا عطف لأنها على سبيل البيان كما ترى ، وقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة نذكر منها ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب اللّه معك أعظم ؟ قلت (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ ، فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة القرآن آية الكرسي.
وأخرج أبو داود عن وائلة بن الأصقع أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ.
وذلك لجمعها بين أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقيّومية والملك والقدرة والإرادة ، لأن اللّه تعالى أعظم مذكور في القرآن فما كان ذكرا له توحيد وتمجيد كان أعظم الأذكار ، فطهر لك من هذا أن هذه أعظم آيات القرآن.
وأما أجمع آية فيه فهي الآية 90 من سورة النحل ، وأرجى آية فيه الآية 54 من سورة الزمر في ج 2.
واعلم أن هذه الآية توجب على العباد الإخلاص في العمل للّه تعالى وحده وعدم الاعتماد على غيره لأن الشفاعة وإن كانت مرجوّة من الرسول ومن يؤهله اللّه لها فلا تكون إلا بإذنه كما علمت ولا بد أن تكون مصحوبة بالأعمال الصالحة لأن الذين يخلطون بأعمالهم الصالحة عملا سيئا يرجى لهم ، راجع الآية 106 من سورة التوبة الآتية ، مع لعلم بأن اللّه تعالى لا قيد عليه في شفاعة ولا غيرها قد يغفر لمن يشاء مع كثرة ذنوبه ، (5/225)
ج 5 ، ص : 226
ويعذب من يشاء مع كثرة حسناته لا يسأل عما يفعل.
قال تعالى «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» والحق من الباطل والهدى من الضلال والإيمان من الكفر ، فيقال لمن أصاب ووفق رشد وفاز ، ولمن خاب وخسر ضل وغوى ، قال الشاعر :
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لم يعدم على الغي لائما
تصرح هذه الآية الجليلة بأن اللّه تعالى لم يجر أمر الإيمان على الإجبار بل على الاختيار إذ من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختار الخير لنفسه بلا تردد أو تلعثم ، قال تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية 30 من سورة الكهف في ج 2 ، إذ ترك فيها الخيار لخلقه بعد أن دلهم على الأحسن وأرسل إليهم من يرشدهم للأصلح ، قال تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الآية 100 من سورة يونس ج 2 ، فقد أشار في هذه الآية إلى رسله أن لا يقسروا أممهم على الإيمان وإنما عليهم أن يبينوا لهم طريقه ومنافعه في الدنيا والآخرة ويتركوهم وشأنهم إذ ليس عليهم إلا الإنذار كما نص عليه فى آيات كثيرة من القرآن العظيم ، وهذه الآية نزلت في المجوس وأهل الكتاب إذ تقبل منهم الجزية ولا يكرهون على الإسلام بخلاف مشركي العرب إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام ، قال تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) الآية 17 من سورة الفتح الآتية ، وأو فيها بمعنى إلا ، كما سيأتي في تفسيرها لأن المشركين لا دين لهم ولا يجوز أن يتركوا همجا هملا وهم من البشر وقد أعطاهم اللّه تعالى العقل ومن حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل هو نفسه بمقتضى عقله يختار الدين الحق لوضوح الحجة فيه ، وبما أن أهل الكتاب يزعمون أن دينهم الحق ولم يوصلهم عقلهم إلى غيره فيتركون وشأنهم ، قال تعالى (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) الآية 39 من سورة فاطر في ج 1 ، وهذه الآية محكمة غير منسوخة لأنها جارية مجرى الأخبار وهي لا يدخلها النسخ.
قال ابن عباس : كانت الجاهلية إذا كانت امرأتهم لا يعيش لها ولد تنذر إذا عاش لتهودنه أو تنصرنه وجاء الإسلام وفيهم من هؤلاء فلما جلت بنو النضير أرادت الأنصار استرداد أبنائهم الذين من هذا القبيل فأبوا ، (5/226)
ج 5 ، ص : 227
قال لما نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه وسلم خيّروهم فإن اختاروكم فهم لكم وإلا فاجلوهم معهم ، وقال ابن عباس إن هذه الآية نزلت في هؤلاء فعلى فرض صحة قوله هذا فلا تكون أيضا منسوخة.
على أن الواقع ينفي صحة نزولها فيهم لأن حادثة بني النضير كانت بعد نزول هذه الآية بكثير لكونها في السنة الرابعة من الهجرة ، وما قيل إنها نزلت في ولدي الحصين المتنصرين قبل بعثة الرسول حينما كلفهما أبوهما بالإسلام ، وقال يا رسول اللّه أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر ، على فرض صحته أيضا لا تكون منسوخة لأن هؤلاء كلهم يعدون أهل الكتاب ، فلا وجه لقول من قال بالنسخ البتة.
قال زيد بن أسلم كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا على الدين ، وكذلك في المدينة لم يكره أحدا من أهل الكتابين على الإسلام وإنما أكره عليه مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا السيف أو الإيمان «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ» مبالغة الطغيان وهو كل ما يطغي الإنسان من شيطان وإنسان كالسحرة والكهنة وغيرهم وكل ما عبد من دون اللّه «وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى » تأنيث الأوثق أي السبب الموصل إلى دين الإسلام المفضي إلى جنة اللّه فمن كان متمسكا بها فقد صح إيمانه واعتصم به وأوفى بالعهد الذي أخذه عليه في عالم الذر «لَا انْفِصامَ لَها» ولا انقطاع لأنه عقد نفسه مع ربه عقدا وثيقا لا تحله الشبهة ، وهذا تمثيل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لإيمان المؤمن وكفر الكافر «عَلِيمٌ» (256) بنيتهما فيعلم الإيمان عن رغبة أو إكراه ، ومن هو منافق في إيمانه أو مخلص فيه ، كما يعلم المكره على الكفر من الراغب فيه.
وهذه الآية ترشد إلى أن الإيمان لا يقبل إلا عن رغبة فيه وقناعة في صحته وأخيريته ، لأن المكره على الإيمان لا يعمل بما يقتضيه له من الأعمال.
والحكم الشرعي هو هذا.
وما روي عن ابن مسعود أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) الآية 75 من سورة التوبة والآية 10 من سورة التحريم الآتيتين لا محل له لأن الدين عقيدة ذاتية عريقة في نفس الإنسان لا سلطان لأحد عليهما غير اللّه تعالى القائل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ولأن من آمن بلسانه قبل منه وعومل معاملة المسلمين ودفن في مقابرهم(5/227)
ج 5 ، ص : 228
وقد كف الشرع عما في القلب لعدم الاطلاع عليه إلا من قبل اللّه.
قال تعالى «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» يتولى أمورهم ولا يكلهم إلى غيره ومن عنايته بهم أنه «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» أفرد لفظ النور لوحدة الحق وجمع الظلمات لتنوع فنون الباطل.
وأعلم أن كل ما في القرآن من لفظ الظلمات من هذا القبيل يراد به الكفر ومن لفظ النور يراد به الإيمان ، إلا في سورة الأنعام فإن المراد بهما اللّيل والنّهار كما بيناه أولها في ج 2 ، وسمي الكفر ظلمة لأنه يحجب القلب عن إدراك الحقيقة والإيمان نورا لوضوح طريقه وبيان أدلته «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» إذ فوضوا أمورهم إليها واتكلوا عليها وتمادوا في طاعة أوثانهم ورؤسائهم الذين يميلون بهم إلى البغي والطغيان ، وكل ما يؤدي إلى الشقاء الأخروي يسمى طاغوت وهؤلاء الأولياء «يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ» الإيمان المؤدي إلى الجنة في الآخرة ويردونهم «إِلَى الظُّلُماتِ» الكفر الموصل إلى النار بسبب ما يسولونه لهم من طرق الإغواء والإغراء والصد عن طريق الهدى والرشد «أُولئِكَ» الكافرون وأولياؤهم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (257) إلى ما لا نهاية عقوبة لهم على كفرهم.
مطلب محاججة النمروذ مع إبراهيم عليه السلام وقصة عزير عليه السلام وسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى وجوابه عليها :
قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ» وهو النمروذ إذ جادل خليله إبراهيم بما يزعمه من القوة من «أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» بأن جعله ملكا على طائفة من خلقه وانه بدل أن يشكر نعمته طغى وتجبر وبغى وتكبر حتى ادعى الربوبية ، وهو أول من ادعاها ثمّ تبعه من بعده أخوه فرعون ، وقيل أول من ادعى هذه الدعوى شداد بن عاد كما تقدم في الآية 70 من سورة الأنبياء ج 2 تطفلا عليه لعنه اللّه ومن اتبعه في كفره ، وهو أول من لبس التاج أيضا ، وهذه المحاججة بعد أن كسر الأصنام وقبل أن يلقى في النار إذ كان النمروذ أخرجه من السجن وقال له من هو ربك الذي تدعونا إليه ؟ فأجابه بما ألهمه اللّه بقوله «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» وإذ هنا منصوبة بفعل مقدر أي أذكر يا محمد لقومك ما قاله الخليل(5/228)
ج 5 ، ص : 229
إلى النمروذ حينما سأله عن ربه فقال «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» أي ينشىء الحياة والموت ، فلم ينتبه الطاغي إلى المعنى المراد من السيد إبراهيم عليه السلام بل انتبه وانتقل لمعنى آخر ليبرر حجته أمام قومه «قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» فقال إبراهيم هيا افعل ، فأخرج رجلين من السجن حكم عليهما بالموت فقتل أحدهما وعفا عن الآخر ، فزعم ذلك الضال على قصر عقله وقلة فهمه أن الإحياء والإماتة هما ما فعله لأنه وأمثاله ينظرون إلى الظاهر أو أنه فعل ذلك تجاهلا كما مر ، وكان على السيد إبراهيم أن يقول له أمام قومه أحي من قتلت ليعلموا أن المراد من قوله هذا لا ما فعله ولكنه عليه السلام لم يلتفت إلى حمقه فضرب صفحا عن مجادلته بالحقائق لأنه ليس من أهلها وانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى بالنسبة لنمروذ لا تقبل الالتواء وهي ما ألهمه اللّه أيضا «قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ» وهو ربي «فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» إن كنت ربا لقومك كما تزعم ، فدهش الخبيث من هذا وانقطعت حجته كما أشار بهذا قوله تعالى «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» إذ لم يقدر على ما يجاوب به لتمحضه بالكفر «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (258) إلى الصواب ويعميهم عما يدحضون به خصمهم إذ لو كان موفقا لقال له سل ربك يفعل ذلك أولا لأفعل ذلك بعده ، ولكن الكافر ضعيف الرأي قد حجبت ظلمة كفره نور بصيرته وغشت أصداء الجهل رؤية بصره لذلك لا يهتدي إلى الرشد على أنه لو قال لفعل اللّه ذلك لإبراهيم خليله كما فعل لأنبيائه وأحبابه ما هو أكبر من هذا ولما لم يجد بدا وقد حنقه الغضب فأمر بزجه في النار فزج فيها ونجاه اللّه كما مر في الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2 ، وقد استشهد الخليل عليه السلام في هذه الآية على ولاية اللّه للمؤمنين وأن الكافرين أولياؤهم الشياطين على طريقة ذكر القصتين
المارقين في الآيتين 241/ 246 وأشار في هذه أن اللّه تعالى إذا تولى عبدا ألهمه الصواب والرشد ودله على الفلاح والفوز في أقواله وأعماله وأن من يعدل عن معونة ربه يمنى بالإخفاق والخسار فى الدنيا ويكون مصيره الدمار في الآخرة ، وترمي هذه الآية إلى جواز المحاججة في الدين لإظهار كلمة اللّه واستعمال الحجج العقلية والدلائل الكونية على(5/229)
ج 5 ، ص : 230
إثبات دعواه.
وقد استشهد جل شأنه على ولايته للمؤمنين خاصة بقوله «أَوْ» هل رأيت يا سيد الرسل أحدا «كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ» هي بيت المقدس بعد أن خرّبها بختنصر ، راجع قصته في الآية 6 من الإسراء في ج 1 «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» في هذه الجملة حذفان أي خالية من السكان وساقطة حيطانها على سقوفها بأن تهدمت جدرانها بعد خرور سقوفها فصارت الجدران فوقها «قالَ» ذلك المار وهو عزير عليه السلام «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها» أي كيف يكون ذلك ومتى يكون على طريق الاستبعاد لا الإنكار بل لما كان فيها من البناء الرفيع المحكم استبعد إعادتها على ما كانت عليه «فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» أحياه بعدها و«قالَ له كَمْ لَبِثْتَ» ميتا وكانت إماتته وقت الضحى «قالَ لَبِثْتُ يَوْماً» ثم لما رأى بقية من الشمس وكان إحياؤه آخر النهار قال «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» ظانا أنه أميت الضحى وأحيي العصر قبل المغرب «قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ» ميتا وإذا أردت يا عبدي تحقيق ذلك لتقنع بحسب الظاهر «فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ» قالوا كان تينا «وَشَرابِكَ قالوا
كان عصيرا تزود بهما وكان كل منهما «لَمْ يَتَسَنَّهْ» لم يتغير ولم ينتن مع أنه مما يتغير سريعا وليس من الأطعمة والأشربة التي تدخر فلا تتغير سريعا كمعمولان الحلويات في دمشق وحلب والأشربة الأوربية فإنها قد تبقى أشهرا إلا أنها مهما كانت ومهما وضع فيها من الأجزاء فلا تبقى معشار هذه المدة على حالها ، وقد رآها عليه السلام كما تركها حين أميت لم يطرأ عليها شيء وقد مر عليها تلك المدة وهذه معجزة له عليه السلام على القول بنبوته وكرامة على القول بولايته «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ» إذ رآه عظاما بالية مفككة بعضها عن بعض وهذا الدليل الظاهري على قدم لبثه ميتا المدة التي ذكرها اللّه «وَلِنَجْعَلَكَ» أيها الإنسان الكامل ببقائك حيا «آيَةً لِلنَّاسِ» يستدلون بها على البعث بعد الموت لأن من يحي الميت في الدنيا بعد هذه المدة لا غرو يحييه في الآخرة «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ» من حمارك «كَيْفَ نُنْشِزُها» ترفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركبها بعضها مع بعض كما كانت «ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» كحالتها الأولى «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ» ذلك «قالَ(5/230)
ج 5 ، ص : 231
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ»
الذي أحياني وأحيا حماري على الصورة المارة وأبقى زادي وشرابي على حاله طيلة تلك المدة ليحيي بيت المقدس ويعيد بناءه كما كان وأحسن ويحيي الموتى في الآخرة ويجمع أجزاءهم المتفرقة ورفاتهم المبددة والمنمحقة ويعيدهم على ما كانوا عليه في الدنيا وهو «عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (259) مما يتصوره البشر وما لا يسعه عقله ولا يخطر على باله ، ويعلم من هذا أنه تعالى لا يتقيد في الخلق والتكوين والحياة والموت بالأسباب الظاهرة والعادات المتعارفة والسنن المعقولة والتجارب المعمولة وأن كل ما خطر ببالك فاللّه فوق ذلك ، وهذه قصة أخرى قصها اللّه تعالى على رسوله من عجائب قدرته.
وما قيل إن المار ارميا بن حلفيا من سبط هرون ويعنون به الخضر عليه السلام ، لا يصح لأن الخضر اسمه بليا ابن ملكان على أصح ما قيل فيه ، وكذلك ما قيل إن القرية (دير سابرآباد) بفارس ليس بشيء ، وأضعف من هذين القيل بأن المار رجل كافر شاك بالبعث لأن اللّه أجلّ من أن يخاطب كافرا مهانا كما لا يليق أن يجعل اللّه الكافر آية ليعتبر بها الناس لذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأليق والأصوب والأصح ، وهذا الخلاف كالخلاف في ذي القرنين الذي نوهنا به في الآية 99 من سورة الكهف ج 2 ، فراجعه ففيه ما لا تجده في غيره.
وليعلم أن ليس القصد معرفة المار أو معرفة القرية بل القصد تعريف منكري البعث قدرة اللّه تعالى ، وفي هذه القصة دلالة على قول من قال بنبوته حيث أخبر اليهود بما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم من أحد ، ومن هنا ادعت اليهود بأنه ابن اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك وقاتلهم على بهتهم ، وذلك لأن اللّه أحياه بعد موته ولأنه أملى عليهم التوراة عن صدر غيب بعد أن أحرقها بختنصر على مرأى منهم ، فقالوا لو لم يكن ابن اللّه لما جعلها في قلبه وهو لم يعرفها ، ولم يحيه بعد ما أماته ويحيي حماره كرامة له ، ولم يجزم جمهور العلماء بنبوته كلقمان وذي القرنين والكل متفقون على ولايتهم.
قالوا وبعد موت عزير بسبعين سنة أرسل اللّه ملكا إلى بوشك ملك الفرس وأمره أن يعمر بيت المقدس وايليا ويعيد هما كما كانا فانتدب الملك الف قهرمان مع كل واحد الف عامل فعمرو هما على ما كانا عليه وعادت بنو إسرائيل مع عزير إليهما كما هو مفصل بالقصة(5/231)
ج 5 ، ص : 232
المشار إليها في سورة الإسراء آنفا.
قال تعالى «وَ» اذكر يا سيد الرسل لقومك قصة أخرى «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ» تعالى «أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ» بذلك يا خليلي ، وقد رأيت ما رأيت من عظمتي وكبريائي وبطشي وإنقاذي لك وأفعالي وصنايعي مع غيرك وآثار أعمالي في ملكوتي «قالَ بَلى » يا رب رأيت وصدقت وآمنت وعرفت كيف أهلكت أعداءك وأنجيت أولياءك وخاصّك «وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» بالمعاينة كي يصير عندي علم اليقين عين اليقين ، راجع الفرق ما بينهما في الآية 95 من الواقعة في ج 1 ، وهذا الاستفهام للتقرير ولذلك أجابه ببلى قال جرير :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى للعالمين بطون راح
أي ألستم كذلك وتسمى هذه الهمزة همزة إثبات وإيجاب.
وخلاصة هذه القصة أنه عليه السلام رأى رجلا ميتا بساحل طبريا (بحيرة ما بين فلسطين والأردن وسورية ينصب عليها نهرا الليطاني وبانياس إذ يجتمعان ببحيرة الحولة وينسابان إليها ، عرضها عشرة أميال وطولها عشرون ميلا تقريبا بيضوية الشكل ويخرج منها نهر يلتقي مع نهر الأردن ونهر الشريعة الجاري بواد اليرموك ويختلطان معه فتمر هذه الأنهار تحت جسر يسمى جسر المجامع لذلك المعنى وينساب إلى بحيرة لوط المسماة بالبحر الميت حيث لا يعيش به حيوان) قد توزع لحمه ذئاب البر والبحر فإن مد البحر انتابه حيتانه ، وان جزر نهشته السباع فإذا ذهبت عنه تناولته الطيور ، فقال يا رب قد علمت أنك تجمعها ، أي لحرم الأموات من بطون السباع وأجواف الحيتان وحواصل الطير فأرني كيف تحييها فأزداد يقينا ، فعاتبه اللّه على ذلك ، فقال يا رب ليس الخبر كالمعاينة ، وهو عليه السلام لم يكن شاكا وحاشاه ولكنه أحب ذلك كحب المؤمنين رؤية ربهم في الآخرة ، ونبيهم في الدنيا والآخرة ، ويسألونها بدعائهم فكان عليه السلام طامعا بإجابة دعائه فسأله ذلك لأنه خليله ، وقد وعده بإجابة دعائه وقيل في المعنى :
ولكن للعيان لطيف معنى له سأل المشاهدة الخليل
ولما نزلت هذه الآية قال قوم شك إبراهيم ولم يشك محمد صلّى اللّه عليهما وسلم(5/232)
ج 5 ، ص : 233
فقال نحن أحق بالشك من إبراهيم ، أي أن الشك مستحيل في حق إبراهيم لأن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أحق به ، وكيف يتصور الشك له وقد وقع لعيسى بن مريم وله ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام ، ومن المعلوم أنه لم يشك البتة ففيه أي في هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم نفي الشك عنهما ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم (أنا أحق بالشك) إلخ على سبيل التواضع وهضم النفس ، وكذلك ما وقع لسائر الأنبياء فليس بالشك الذي نعرفه نحن ، وفي شرح هذا الحديث (بقية) ولفظه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ) إلخ.
ويرحم اللّه لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي «قالَ» تعالى مجيبا طلب خليله بعد أن قال له من أي نوع تريد الإحياء وقال من نوع الطير ، قال جل قوله «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ» أي أملهن واضممهن وقربهن «إِلَيْكَ» ثم قطعهن وفرقهن ومزقهن واخلطهن «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ» من هذه الجبال البعيدة بعضها عن بعض «مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ» إليك بعد ذلك فإنهن «يَأْتِينَكَ سَعْياً» مسرعات عائشات كما كانت ، ولم يقل طيرانا لأنه أبلغ حكمة وأبعد للشبهة إذ لو جاءت طائرة لتوهم أنها غيرها أو أن أرجلها غير سليمة «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» منيع لا ينال ولا يغلب ولا يرضى لمناصريه الخذلان لأنه يؤيدهم بمختلف الوسائل ويلهمهم فصل الخطاب من حيث لا يشعرون من أين يأتهم النصر «حَكِيمٌ» (260) لم يجعل لغيره تأثيرا في الإحياء والإماتة بالغ الحكمة في جميع أموره متناء في مراميها غير متناهية مراميه فأخذ عليه السلام طاوسا إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه ، ونسرا إعلاما بشدة شغفه في الأكل ، وديكا إيذانا بكثرة ولعه بالنكاح ، وغرابا تنبيها إلى تمكن حرصه في الدنيا ، وإنما اختص الطيور من الحيوانات لأن همته عليه السلام في العلو إلى الملكوت والوصول إلى عالم الجبروت ، لأنه عليه السلام سبّاح في مجال اللاهوتية سوّاح في ميدان الناسوتية فشاكلت معجزته همته وفي انتقاء هذه الأصناف من الطيور مشابهة إلى ما في الإنسان من أوصافها ، وفيها إشارة إلى أن(5/233)
ج 5 ، ص : 234
الإنسان إذا ترك هذه الشهوات الذميمة لحق بالعالم العلوي وارتقى أعلى الدرجات بنيل السعادة ومال إلى ما أمره به ربه وجانب ما نهاه عنه.
قالوا ثم ذبحها عليه السلام وقسم كل طائر أربعة أجزاء ووضع كل جزء من الأربعة على جبل ، قالوا وضع الأجزاء بعد أن خلطها بعضها ببعض ، والجبال واحد بجهة الشرق ، والآخر بالغرب ، والثالث بالقبلة ، والرابع بالشمال ، بالنسبة للمكان الذي هو فيه ، وتباعد عنها وأمسك رءوسها بيده ثم قال لها تعالين بإذن اللّه تعالى فصارت كل قطرة من دم وجزء من لحم وقطعة من عظم وملزم ريشة ومشعر أسر تنطاير إلى أصل طيرها وتلتصق به ، وهو عليه السلام ينظر حتى إذا لقيت كل جثه بعضها وتكاملت أجزاؤها قامت وطارت في السماء بغير رأس ، وهو جالس في مكانه ينظر عظمة فعل ربه وكبير قدرته وجليل عمله ونزلت إلى الأرض من قمم الجبال وأقبلت تمشي إليه متجهة نحو رءوسها حتى وصلت إليه فلاقت كل جثة رأسها الذي بيده واتصلت به فكان كل منها كما كان قبل الذبح ، وطارت في السماء ، فوقع ساجدا على الأرض إجلالا وتقديسا لربه جل وعلا ، سبحان من حير في صنعه العقول ، سبحان من أعجز بقدرته الفحول ومن هنا يعلم أنّ اللّه تعالى إذا تولى عبده بذاته وكان ذلك العبد قد فوض أمره إليه ، فإنه لا يرد طلبه ويمنحه سلطة وإرادة تنقاد إليه بسببها العظماء بما يظهره على أيديهم من المعجزات التي يعجز عن مثلها البشر.
وتؤذن هذه الآية أن سر الحياة وطريقة الإحياء والإماتة منحصرة به تعالى لا تكون أبدا إلا بإرادته وتومىء إلى أن قوة الإيمان باللّه تعالى قد ينشأ منها العجائب ، وانظر قوله صلّى اللّه عليه وسلم : رب أشعث أغبر لو أقسم
على اللّه لأبره.
مطلب في الصدقة الخالصة والتوبة وما يتعلق بهما وبيان أجرها وعكسه :
وبعد أن ذكر اللّه تعالى لحبيبه أوائل هذه السورة وأواخرها من القصص الغريبة ليقصها على قومه وعلى أهل الكتابين ليعلموا أن ذلك كله بتعليم اللّه تعالى إياه ، ولعلهم أن يؤمنوا به ويصدقوه شرع يحث على التصدق في سبيله على عياله والمجاهدين لإعلاء كلمة اللّه ، فقال جل قوله «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ(5/234)
ج 5 ، ص : 235
فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ»
قد لا توجد سنبلة فيها مائة حبة ولا حبة تنبت سبع سنابل غالبا وقد يكون ذلك نادرا لعدم الاستحالة ولذلك جاز ضرب المثل فيه على الدخن والذرة والسمسم وشبهها فقد تنبت الحبة أكثر من ذلك إذا حلت بركة اللّه «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» زيادة على هذا لأن رزقه بغير حساب وخزانته لا تنفد وهذا كله ترغيب للمتصدقين وعبرة للمقتصدين وتعليم للعالمين ، فكما أن التاجر إذا علم أنه يربح بالحية إذا اشتراها أو زرعها ذلك الربح يقدم للشراء والزرع عن رغبة ، فكذلك من يطلب الأجر عند اللّه تعالى في الدار الدائمة إذا علم تضاعف الواحد إلى عشرة أو إلى سبعمئة وإلى أن يشاء اللّه يسارع إلى النفقة بطيب نفس وانشراح صدر طلبا لنيل ثواب ربه المضاعف الموصل إلى الجنة الدائمة ذات النعيم الأبدي الذي هو أوثق من ما يتوخى التاجر لأن ثواب اللّه مكفول بوعده الصادق الذي لا شك فيه ، بخلاف التاجر فإنه مظنون ، وقد يعتريه آفات تحول دون ربحه وقد يضيع رأس ماله «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه ، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه ، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «عَلِيمٌ (261)» بالقدر الذي يضاعفه لعباده يعلم من منهم من يتفق عن رغبة وطيب قلب ممن ينفق سمعة ورياء ، فالصدقة إذا كانت عن رغبة فيما عند اللّه من مال حلال ، كانت عند اللّه بمكان عظيم ، يربيها له كما يربي أحدكم فلوه ، وإذا كانت عن سمعة ورياء أو من مال حرام أو مما يكره أو من فيها أو عنف آخذها فقد يستوفي ثوابه عنها في الدنيا من مدح أو ذم وماله في الآخرة من نصيب كما ستعلم مما يأتي.
واعلم أن هذه الآية ولآيات الثلاث عشرة الآتية نزلت كلها في الصدقة والمتصدقين ولم تجمع هكذا آيات إلا في هذه السورة المباركة وأن الأولى منها ترمي إلى ترغيب وتشويق الناس إلى الإقدام على الصدقات والخمس التي تليها فيمن يتصدق مخلصا بصدقته لوجه اللّه تعالى والتي بعدها في بيان المخلص في صدقته من غيره ، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً» بأن تقول لمن تعطيه أعطيتك كذا أو تعيّره بحاجته وفقره وأخذه للصدقة(5/235)
ج 5 ، ص : 236
أو يجاهر بها أمامه على ملأ من الناس ، والمنّ في اللغة الإنعام قال الأنباري :
فمنّى علينا بالسلام فإنما كلامك يا قوت ودرّ منظم
قال صلّى اللّه عليه وسلم : ما من الناس أحد أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة.
والمنة النعمة ، ومن صفاته تعالى المنّان بمعنى المتفضل على عباده المحسن إليهم ، وهو هنا بمعنى النقص والعيب وفيه قال بعضهم :
طعم الآلاء أحلى من المنّ وهو أمر من الآلاء مع المن
وقال بعضهم : صنوان من المن من منح سائله ومنّ ، ومن منع نائله وضن.
وقيل في هذا المعنى :
وإن امرأ أسدى إلي صنيعة وذكّرنيها مرة للئيم
والمقصودون في هذه الآية «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)» قالوا إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه لأنه جهز غزاة المسلمين إلى تبوك الذي أطلق عليهم جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وجاء أيضا بألف دينار عداها فصبّها في حجر النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، قال عبد الرحمن بن سمرة : رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم.
وقال بعض المفسرين نزلت في عبد الرحمن بن عوف إذ أتى حضرة الرسول بأربعة آلاف درهم وقال يا رسول اللّه عندي ثمانية أمسكت أربعة لنفسي وعيالي وهذه أربعة لربي ، فقال له بارك اللّه لك فيما أمست وفيما أنفقت.
وإن السيدين عثمان وعبد الرحمن لهما مآثر في النفقة والصدقة كثيرة لا ينكرها إلا معاند ، كيف وهما من العشرة المبشرين في الجنة ولعثمان خاصة اليد البيضاء في شراء بئر رومة ووقفها على المسلمين ومساعدة المسلمين بماله ونفسه بمواقف جمة ، والآية لا شك عامة يدخل فيها كل متصدق مخلص ، وإن من يحمل على سيدنا عثمان على ما وقع منه إبان خلافته لا حق له بذلك لأنه مجرد اجتهاد وهو صاحب الأمر إذ ذاك فليس لأحد الخوض بما عزي إليه والأعمال بالنيات ولا عبرة بما يقوله الغلاة الذين يهرفون بما لا يعرفون ويتقولون بما يظنون.
أخرج ابن ماجه وغيره عن علي كرم اللّه وجهه وأبي الدرداء وغيرهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من أرسل بنفقته في سبيل(5/236)
ج 5 ، ص : 237
اللّه وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمئة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل اللّه وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمئة ألف درهم ، ثم تلا هذه الآية.
أي أن له من الأجر بقدر ذلك.
وعن معاذ بن جبل : أن غزاة المنفقين قد خبأ اللّه تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد.
واعلم أن هذه الآيات تشير إلى إنفاق المال في وجوه البر ومصالح المسلمين تزيد في ثروة المنفق وسعة رزقه في الدنيا ويضاعف له الأجر في الآخرة إذا خلا من أمرين المنّ على المتصدق عليه وإلحاقه ما يؤذيه قولا أو فعلا ، وتؤذن بتحريم المن على المنفق عليه والتشهير به ، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك.
وبعد أن بين اللّه تعالى ثمرة الصدقة المخلصة من الشوائب حذّر تعالى مما يوجب الشحناء مع المتسئلين إذا لم يرد أن يعطيهم أو لم يكن لديه ما يعطيهم أن يعتذر لهم بما ذكره وهو «قَوْلٌ مَعْرُوفٌ» للفقير ورد جميل وحسن اعتذار له «وَمَغْفِرَةٌ» بأن تستر عليه سؤاله ولا تفضح حاله والصفح عما يقابلك به والتغاضي عما يصدر منه إذا تأثر من خيبة طلبه «خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً» وكل كلام ثقيل على النفس أو ينكمش منه الوجه فهو أذى ، ففظاظة الكلام والتعنيف من الأذى أيضا فليجتنبه المتصدق جهد استطاعته «وَاللَّهُ غَنِيٌّ» عن عباده كلهم وقادر على رزق الفقراء ومن دونهم ولكنه يريد إثابة عباده بما أنعم عليهم وتحليتهم بالتصدق منه ولا سيما إذا كانت على المجاهدين فإنها أعظم أجرا وأدوم ذكرا «حَلِيمٌ (263)» لا يعجل عقوبة البخيل والمانّ بالصدقة والمؤذي المتصدّق عليه بكلامه واكفهرار وجهه بل يمهلهم ليتوبوا ويرجعوا ويقول لهم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى » وذلك لأن النفوس طبعت على حب الثناء وكثيرا ما ينكر الخلق الجميل فيما بينهم ويجحدون الإحسان عليهم وهذا مما يوغر بعض الصدور الضيقة فتنفجر بالمن والأذى على منكري المعروف ، لهذا حذرهم اللّه تعالى من أن يقولوا ما يبطل أجر صدقاتهم وإنما رغبهم بالتجمل لهؤلاء الثقلاء كي لا يكونوا «كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ» فيبطل أجر نفقته بسبب حب السمعة والصيت فيها «وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» الذي يثاب فيه المخلص ويعاقب المرائي ، لأن هذه الآية تومىء(5/237)
ج 5 ، ص : 238
بأن التصدق رياء من سمات المنافقين لا المؤمنين ولهذا وصمهم بعدم الإيمان ثم وصفهم بقوله «فَمَثَلُهُ» أي المنفق المرائي «كَمَثَلِ صَفْوانٍ» حجر أملس «عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ» مطر شديد «فَتَرَكَهُ صَلْداً» لا تراب عليه ولا غبار وهؤلاء «لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ» من
ثواب نفقاتهم «مِمَّا كَسَبُوا» في الدنيا لأنهم كفروا نعمة اللّه «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)» إلى سبيل الخير ، وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لنفقة المرائي المانّ بصدقته أو المقطب وجهه عند السؤال فالنفقة هي التراب والمن والأذى هو المطر إذ يذهب به ولا يبقى له أجرا فكذلك هؤلاء يعدمون ثواب صدقاتهم يوم القيامة ويعاقبون على فضول أموالهم وعدم إحسانهم على عيال اللّه والمجاهدين في سبيله فيندمون على ما كان منهم ولات حين مندم.
قال تعالى «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ» على الإنفاق في طاعته تصديقا لثوابه ورغبة بوعده «كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ» مكان مرتفع عن الأرض إذ يكون ثمرها أزكى وزرعها أزهى من غيره قال الأبوصيري :
كأنهم في ظهور الخيل نبت ربى من شدة الجزم لا من شدة الحزم
وهذه الربوة «أَصابَها وابِلٌ» غيث غزير نافع «فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ» مثلين عن غيرها «فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ» مطر خفيف أو ندى فإنه يكفيها ولا ينقص ثمرها ولا يخل بزهرتها «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)» لا يخفى عليه شيء من نفقاتكم ونياتكم ، وهذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لنفقة المخلص فكما أن هذه الجنة تزكوا في كل حال ولا تختلف قل مطرها أو كثر فكذلك نفقة المؤمن الخالصة ينميها اللّه تعالى له قلت أو كثرت ، وقد جاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم :
إن اللّه ليربي صدقة أحدكم كما يربي أحدكم فلوه.
وإنما قال فلوه ولم يقل ولده لأن من له ولع بتربية الخيل يصرف جهده على نسلها ويتعاهده بنفسه أكثر مما يتعاهد ولده وهو واقع مشاهد لا ينكره أحد.
هذا وما نقلناه من سبب نزول الآية 262 المارة بما قام به عثمان وعبد الرحمن رضي اللّه عنهما من تقديم المال في غزوة تبوك لا يوثق به لأن غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة بعد نزول هذه الآية بسبع سنين تقريبا لأنها نزلت في السنة الثانية تقدمة لآية فرض(5/238)
ج 5 ، ص : 239
الزكاة التي تتعقبها ، وما قيل إن الزكاة فرضت بآية براءة 103 فبعيد عن الصواب كما سنذكره في تفسير هذه الآية إن شاء اللّه ، لذلك فإن ما ذكرناه من أن الآية 262 عامة في المومى إليهما وغيرهما أولى لأن سياقها ينافي ما ذكروه من الأسباب واللّه أعلم.
واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن خير البر ما كان قصد به وجه اللّه طلبا لمرضاته وأن الخير الذي يرجى ثوابه في الآخرة ، ما كان منبعثا عن طيب النفس وخلوص النية للذين هما ملاك سعادة الإنسان لأن الإخلاص للّه تعالى في كل شيء واجب ، وليتحقق هذا المخلص أنّ اللّه تعالى سيخلفه عليه وأن الإحسان للناس مطلوب ، قال أحمد بن المتيم النحوي :
إذا ما نلت في دنياك حظا فأحسن للغني وللفقير
ولا تمسك يديك عن قليل فإن اللّه يأتي بالكثير
قال تعالى «أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» أي صاحب هذه الجنة وهو معطوف بالمعنى على أيود كأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة «وَأَصابَهُ الْكِبَرُ» ولم يكن له غيرها ولا قدرة له على الكسب مع غاية احتياجه إليها «وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ» صغار عاجزون عن الكسب أيضا «فَأَصابَها إِعْصارٌ» ريح مستديرة مرتفعة إلى السماء كالعمود «فِيهِ نارٌ» عظيمة بدليل التنكير الدال على التهويل والتكبير «فَاحْتَرَقَتْ» تلك الجنة بسببها «كَذلِكَ» مثل البيان الواضح «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» على النفقة المقبولة وغير المقبولة «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)» فيهما فتعملون ما لا تندمون عليه يوم القيامة يوم لا ينفع الندم ، وهذا مثل ثالث ضربه اللّه تعالى لعمل المنافق المرائي الذي يعدم ثواب نفقته في الآخرة ، فالعمل في حسنة كالجنة المنتفع بها ، واحتياجه لها في الدنيا كاحتياج الرجل يوم القيامة للثواب ، وإحراقها وقت عجزه وهو بحالة يكون أحوج إليها من غيرها ، كإبطال الثواب عند ما يكون أشد حاجة له يوم القيامة ، فيلحقه من الغم والخسرة أكثر مما يلحق صاحب الجنة المحترقة لأنه قد يأمل إخلاصها بعد وفي الآخرة تنقطع الآمال.
قال الحسن هذا مثل قلّ واللّه(5/239)
ج 5 ، ص : 240
من يعقله من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر عياله أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم واللّه أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا ، قال ابن عباس نزلت هذه الآية مثلا لرجل غني يعمل الحسنات ثم بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها.
وترمي هذه الآية إلى أن الفرق بين المرائي والمنّان في النفقة من حيث وقع المصيبة وتأثيرها في النفس لأن المرائي لم يبرح ثوابا على نفقته فلا يحزن لحرمانه من ثوابها لأن قصده إظهارها للناس وحمده عليها وقد حصل على ذلك في الدنيا ، والمنّان كان يرجو ثواب صدقته فحرمه اللّه بسبب منّه وأذاه.
وتشير إلى أن كل ما يغضب اللّه تعالى بسبب زوال النعم وإلى عدم الاغترار بنعم اللّه لأنه يؤدي إلى سلبها وأن عدم وجود النعمة مبدئيا خير من وجودها وسلبها ، فعلى العاقل أن يحذر من نقم اللّه أكثر مما يتطلب من نعمه وأن يتلبس بالطاعة كلما زاده اللّه خيرا لأن المعصية تسبب الزوال.
مطلب أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والحكم الشرعي في الزكاة والنذر :
هذا وبعد أن حذر اللّه جل شأنه المنفقين مما لا ينبغي فعله ليتنزهوا عنه بين ما ينبغي مراعاته في المنفق ليكون الإحسان متناسبا مع شرف الغاية التي أنفق المال من أجلها فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ» من تجارة وصناعة أو جرايه وزراعة أي أنفقوا من أطيب ما تحرزون من ذلك وأحسنه وأكمله «وَ» أنفقوا أيضا «مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» من أنواع الحبوب والثمار والفواكه والخضار التي تدخر «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ» تقصدون الرديء «مِنْهُ تُنْفِقُونَ» على الفقراء وغيرهم «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ» أي ذلك الخبيث لو فرض إعطاؤه لكم من قبل الغير «إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» بأن تتسامحوا بأخذه وقت الحاجة فأولى لكم أن لا تأخذوه بغيرها لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يراه فيأخذه حياء أو غصبا أو عند اليأس من أخذ غيره إذا تركه فيأخذه مكرها عن غير رضا وطيب قلب «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ» عن صدقاتكم وقادر على رزق الفقراء من فضله دونكم بل واغنائهم عنكم ولكن إظهار فضلكم على الغير وتفاضلكم بينكم وبيان أثر نعمه عليكم(5/240)
ج 5 ، ص : 241
«حَمِيدٌ (267)» لما تتصدقون به وأنه يظهر حمدكم على لسان عباده فيثنون عليكم ، ثم حذرهم خوف فقدان ذات اليد بسبب التصدق ، فقال عز قوله «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ» يخوفكم به كي لا تتصدقوا ليحول دون ما أعده اللّه لكم من الثواب حسدا وليظهر على ألسنة الناس ذمكم «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» هذه الكلمة في جميع القرآن بمعنى ما يستقبح فعله ويفحش كالزنى واللواطة إلا هنا فإنها بمعنى البخل الذي هو منع الزكاة لأن هذه الآية من أوضح الآيات الدالة على فرض الزكاة على النقود والحبوب وغيرها لعموم لفظها وشموله ، والعرب تسمي البخيل فاحشا قال طرفة بن العبد :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
«وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا» خلفا لما تتصدقون به مع العفو عن ذنوبكم «وَاللَّهُ واسِعٌ» العطاء لا تنفذ خزائنه يعطي من يشاء بغير حساب وهو «عَلِيمٌ (268)» بمن يتصدق لوجهه ممن يتصدق لغيره.
تنبه هذه الآية إلى أن ما يحصل في قلب المنفق من خوف الفقر هو من الشيطان فينبغي أن لا يلتفت إليه لأنه من جملة مكايده ، وأن ما يقع في قلبه من رجاء توسعة الرزق بسبب النفقة هو من اللّه فليثق به فإنه لا بد أن يزيده من فضله ، وتشير إلى أن الشيطان يغري البشر على البخل لئلا ينفق واللّه جل جلاله يغريكم على الكرم مع وعد الخلف ، فعلى العاقل أن يكون حكيما فيميل إلى ما به النفع الدائم لأن اللّه تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ» من عباده ممن هو أهل لأن يتبصر بها لأنها لا تكون بالكسب ولا بالجهد ولا بالتعليم بل هي من اللّه الذي يبصر عبده بطرق الخير ويهديه لسلوكها ، ويعرفه طرق الشر ويصرفه عنها ، وهذا هو معنى الحكمة وهي أعظم ما يؤتى العبد بعد الإيمان «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ» الحقيقة التي هي النبوة «فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» لأنها ملاك خير الدنيا والآخرة «وَما يَذَّكَّرُ» بمواعظ اللّه وعبره وأمثاله «إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (269)» لأنهم هم المنتفعون بها العالمون بما ينتج عنها.
قالوا إن الحكمة بمطلق معناها لا التي بمعنى النبوة بنيت على ثلاث : أيدي الصين وأدمغة اليونان وألسنة العرب.
واعلم أن هذه الآية تشير إلى(5/241)
ج 5 ، ص : 242
أن من عرف حبائل الشيطان ولم يركن إليها وأيقن بوعد اللّه فهو من أهل الحكمة الجامعة كل خير المتيقن في قلوبهم صدق كل ما سمعوه عن اللّه ورسوله ، قال تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) الآية 38 من سورة ق في ج 1 ، لأن القلب ملك الجوارح إذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت.
واعلم أن مغزى هذه الآية وما قبلها جعل ما يتصدق به الإنسان لوجه اللّه وأن يكون خير ما له إذ لا يليق بالمحسن أن يعطي ما ينكف عن أخذه وتعافه نفسه ، راجع قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) الآية 63 من سورة النحل في ج 2 ، وتحذير الأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث الفقر لأنه من وساوس الشيطان وخداعه وان يأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث توسع الرزق وتزيد في العمر وأن الكرم من صفات اللّه التي يجب على الغني الاتصاف بها ، والبخل من صفات الشيطان الذي يجب الاجتناب عنه ، وترمي إلى أن الحكمة هي من مواهب اللّه تعالى ولا طريق لها إلا الإلهام ومن يرد اللّه به خيرا يفقهه في معانيها وعواقبها ومراميها لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.
وقالوا القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى الغذاء.
وقال بعض الحكماء ليهنه طعام من أكله ما حله وعاد على ذوي الحاجات من فضله.
وقال آخر احذر مذلة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع.
وقال ما أكلته وأنت مشتهيه فقد أكلته وما أكلت وأنت لا تشتهيه فقد أكلك وقال قصير ما الحيلة فيما أعي إلا الكفّ عنه ولا الرأي فيما لا ينال إلا اليأس منه وقال الإسكندر لا توجد لذة الملك إلا بإسعاف الراغبين واغاثة الملهوفين ومكا المحسنين ، وقال البغي ذميم العقبى ، وهدم البيوت القديمة غير محمود ، والحرب مأمون العاقبة ، ودماء الملوك لا يجوز إراقتها ، وسلطان العقل على باطن العاقل أشد من سلطان السيف على ظاهر الأحمق ، والسعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه ، والملوك إذا دبرت ملكها بمال رعيتها كانت بمنزلة من يعمر سطح بيته بما ينفقه من أساسه وقال رجل لكسرى ثلاث كلمات بألف دينار وهي : ليس في الناس كلهم خير ولا بد منهم ، فالبسهم على قدر ذلك.
وقال اردشير الدين أساس ، والملك حارس وما لم يكن له أساس فمهدوم ، وما لم يكن له حارس فضائع ، وقال لا شيء أضر(5/242)
ج 5 ، ص : 243
على الملك من معاشرة الوضيع ومداناة السفيه ، وقال كما تصلح النفس بمعاشرة الشريف تفسد بمخالطة السخيف ، وكتب له رجل ينصحه بأن قوما سبّوك ، فقال إن كان سبهم بألسنة شتى فقد جمعت ما قالوه في ورقتك.
فجرحك أعجب ولسانك أكذب.
راجع الآية 17 من سورة النمل في ج 1 فيما يتعلق بالحكم والأمثال.
ثم ذكر جل شأنه حكما آخر شاملا لكل أنواع النفقات فقال «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ» خالصة للّه أو مشوبة بشيء مما ذكر «أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ» مطلق للخير والشر فاوجبتموه على أنفسكم «فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ» ويجازيكم عليه بحسب نيتكم ، فإما أن يخلف عليكم ما هو خير منه في الدنيا ويثيبكم عليه في الآخرة ، وإما أن يكافيكم عليه بالدنيا بإشاعته على ألسن الناس ، ويؤزركم عليه في الآخرة لأنكم لم تريدوا بها وجهه فتكونوا ظالمي أنفسكم «وَما لِلظَّالِمِينَ» المانعين رفدهم ولم يوفوا بنذورهم في الدنيا «مِنْ أَنْصارٍ (270)» يدفعون عنهم عذاب اللّه يوم الجزاء في الآخرة.
وقد قرر اللّه تعالى الوعيد على البشر في هذه الآية لبيان فظاعة حال البخيل الذي لم يؤد حق اللّه من ماله إلى عياله ، وقد أيأسه من المعين والخليل عند ما يكون أحوج إليهما ، واعلم أن الأمر في هذه الآية للوجوب لأنها أدلّ وأعم وأشمل آية على فرض الزكاة ، فيدخل فيها الذهب والفضة وأرباح النجارات وحاصلات الزروع والأشجار وغيرها من كل ما يقتات به ويدّخر وما يكتسب من هذا وغيره ، أما الذي لا يدّخر كالبطيخ بأنواعه والخيار بأصنافه وبعض الفواكه والخضار فلا زكاة فيها ، وتفصيل ما يجب زكاته وما لا ، ونصاب كل منها في المال والعروض والحيوان والحبوب مفصل في كتب الفقه فراجعها.
قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما اللّه إن المراد بهذه النفقة التي أمرنا اللّه باختيارها من الطيبات هي الزّكاة المفروضة ، لأن الأمر فيها للوجوب.
وقال مالك إن المراد بها مطلق الصدقة ، والأول جرى عليه أكثر العلماء والمفسرين ، إذ لا نهي في الآية عن التصدق بالرديء ، وهو مخصوص بصدقة الفرض.
قال عبيدة السلماني سألت عليا كرم اللّه وجهه عن هذه الآية فقال نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية ، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الرديء ، فقال تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا(5/243)
ج 5 ، ص : 244
الْخَبِيثَ)
إلخ ، وقال بعض المفسرين نزلت في أناس من الأنصار كانوا يتصدقون بأردأ تمرهم على اهل الصفة فنهاهم اللّه عن ذلك ، وأعلمهم بأنهم لو كانوا هم الآخذين لم يأخذوه إلا عن إغماض وحياء فكيف يعطونه ؟ وعليه فإن التصدق بالحرام لا يجوز لأنه أخبث من الرديء.
روى الأثرم في سننه عن عطاء بن السائب قال : أراد عبد اللّه ابن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طليحة من الخضراوات صدقة ، فقال له موسى ليس لك ذلك إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول ليس في ذلك صدقة ، وهذا الحديث من أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله وهو دليل من قال إن هذه الآية نزلت في الزكاة المفروضة ، ومن قال إنها في صدقة التطوع استدل بما أخرج في الصحيحين عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة.
وهذا ليس بشيء وإن كان الحديث صحيحا لأنه لا يدل على أن هذه الآية نزلت في صدقة التطوع ، وتفيد الآية الأخيرة هذه وهي العاشرة من آيات الصدقة المشار إليها في الآية 261 إلى أن اللّه تعالى يعلم برّكم ونفقاتكم ونذوركم وأن من لم يوف بها فهو ظالم لنفسه التي أمر بتطهيرها وتزكيتها ، وفيها وعيد وتحذير وتهديد لمن لم يوف بنذره لأنه هو الذي أوجبه على نفسه فصار من قبيل العهد ، وقد أمر اللّه تعالى بالوفاء به كما مر في الآية 152 من سورة الأنعام في ج 2 ، وما أشير إليه فيها من المواضع.
والحكم الشرعي : وجوب الزكاة على من ملك النصاب فاضلا عن حوائجه كلها المبين تفصيلها في كتب الفقه المشحونة بكل ما يخطر على بالك بشرط حول الحول على النقدين وأموال التجارة وكل ما يعد عروضا ، أما الزروع والحبوب فبنمو اسمها وعلى ما يفضل من نصابها.
والحكم الشرعي في النذر إذا كان خيرا وجب الوفاء به ، وإن كان شرا كفر عنه.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من نذر أن يطيع اللّه فليطعه ، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه.
وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلم من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا في معصية اللّه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ، (5/244)
ج 5 ، ص : 245
ومن نذر نذرا فأطاقه فليف به.
وأخرج النسائي عن عمران بن حصين : لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم.
وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير ، وإنما يتخرج به من البخيل.
وسبب النهي كون الناذر يلزم بنذره فيأتي به تكلفا من غير نشاط على سبيل المعاوضة.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن اللّه قدره له ، ولكن النذر يوافق القدر.
فخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج.
مطلب الهداية من اللّه ، وفضل إخفاء وإعلان الصدقة ، والربا وما يتعلق به والحكم الشرعي فيه :
قال تعالى مبينا الحكم فيما تقدم من النفقات «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ» فتعطوها جهارا علنا «فَنِعِمَّا هِيَ» الخصلة الحميدة فيها «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ» سرا عن الناس «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» من الجهر لمظنة الإخلاص ودفع خواطر الرياء والسمعة ، لما فيها من الستر على الفقير وخاصة المتعفّف ، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الإخفاء أفضل وإن كان الأمران جائزان إذ قد بوجد من هو محتاج للنفقة ولا يقبلها علنا خوف الفضيحة أو حياء من أن يطلع الغير على حاجته لها ، فإعطاؤها له سرا فيه جبر لخاطره وسد لخلته وصيانة لماء وجهه ، وفيها كرامة للمتصدق أيضا ، وفضيلة له وبعدا عن شوائب المنّ والأذى ، لأن من يتصف بهاتين المثلبتين لا يتصدق سرا.
واعلم أن نفقة السر على الوجه المار ذكره فيها فضيلة أخرى بينها تعالى بقوله «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ» بمقابل إخفائكم صدقاتكم بقصد أخذها عن طيب نفس كإعطائها عن طيب نفس وأجرها عند اللّه أكبر من الصدقة العلنية «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)» لا يخفى عليه تصدقكم ونيتكم فيه.
وتؤذن هذه الآية بأن النفقات يثاب عليها صاحبها أخفاها أم أعلنها إذا صلحت النية إلا أن الإسرار بها أحسن ، وتشير إلى أن المرء في أعماله وأقوله وأفعاله مراقب من قبل ربه فليحرص على أن تكون حالاته كلها خالصة له ، وإلى أن النية متى خلصت في العبادة فإظهارها وإخفاؤها سواء لا يحط(5/245)
ج 5 ، ص : 246
من قيمتها ولا ينقص من ثوابها.
قال تعالى «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ» بأن تلزم أن تجعلهم كلهم مخلصين في نفقاتهم غير ماتين بها ولا مؤذين آخذيها ولا كونهم مراثين بها ولا أن لا ينقفوا من الرديء ، وإنما عليك يا سيد الرسل تبليغهم ما نوحيه إليك وإرشادهم للعمل به فقط «وَلكِنَّ اللَّهَ» الذي أرسلك وجعلك هاديا بإرشادك إياهم «يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ويوفقه لما يشاء من الطرق المخلوق إليها «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ» مطلق مال قل أو كثر حسنا أو ردينا خالصا أو مشوبا سرا أو علنا «فَلِأَنْفُسِكُمْ» ثوابه «وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ» أي لا تنفقوا إلا خالصا لوجه ربكم ، وجاء النفي هنا بمعنى النهي مبالغة فيه ، لأن ظاهر هذه الآية خبر ومعناها نهي «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ» أجره في الآخرة وافيا ويخلفه عليكم في الدنيا مضاعفا.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا.
ورويا عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : أنفق ينفق عليك.
ورويا عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنفقي ولا تحصي فيحصي اللّه عليك ولا توعي (تشحّي) فيوعي اللّه عليك.
وفي معناه ما قاله الشيخ حسير رمضان الخالدي مدرس الفرات في بعض قصائده :
وكالدرهم الدينار صرفا وإن تكن دراهم نوعي أو دنانير تمنع
فقد أشار فيه إلى المنع الشرعي والمنع النحوي أيضا.
وأخرج الترمذي عن خولة الأنصارية قالت : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن هذا المال خضر حلو من أصابه بحق بورك له فيه ، وربّ متخوض (الذي يأخذ المال من غير حله أو من غير وجهه) فيما شاءت له نفسه من مال اللّه ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار يحث هذا الحديث على طلب الحلال من الكسب ويحذر على الابتعاد عن الحرام روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن حلال أم من حرام.
وروى البخاري أيضا عن المقداد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل(5/246)
ج 5 ، ص : 247
من عمل يده ، وان نبي اللّه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده.
هذا وان اللّه تعالى يوف لكم أجور صدقاتكم «وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)» فلا تنقصون شيئا من ثوابها الذي وعدكم إياه بل يجزيكم جزاء وافيا ويضاعفه لكم إن شاء على حسب نياتكم فيها ، والقصد من هذا تهيج المتصدقين إلى التصدق والعمل بأحكام هذه الآيات ليتم غرض المتصدق عليهم الموجب لفوز المتصدقين.
قالوا إن أناسا كانوا يتصدقون على قراباتهم من أهل الكتاب ثم ان النبي صلّى اللّه عليه وسلم نهى عن التصدق على المشركين ليحملهم على الإسلام رأفة بهم ، فصار بعضهم يتأثم من ذلك ، فأنزل اللّه هذه الآية.
أي ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في ذلك المنع ، لأن الهداية من خصائص ربك وأجرها لمنفقها.
وقد ذكر اللّه أنه لا يقبل إلا الخالص منها ، فدعهم يا سيد الرسل وما يفعلون ، فإنهم إذا تصدقوا على المسلمين لوجه اللّه لا لإعانتهم على الكفر فهو يثيبهم عليها ، وإلا فيعاقبهم ، لأن الجزاء من جنس العمل ، والأعمال بالنيات ، قال تعالى (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) الآية 60 من سورة الرحمن الآتية ، وقال جل قوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) الآية 122 من سورة النساء الآتية ، وقال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) آخر سورة الزلزلة الآتية أيضا ، فعلى قدر العمل وبحسب النية يكون الثواب والعقاب.
وليعلم أن القصد من النفقة صلة الرحم وسد خلّة المحتاج وليست للأغنياء ولا لغير المحتاجين الذين تودون إعطاءهم إياها وإنما هي خاصة «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي حبسوا أنفسهم للجهاد وبقصد إعلاء كلمة اللّه ثم الفقراء والمساكين الأحوج فالأحوج وبقية الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية 60 من سورة التوبة الآتية ، وإنما خص هؤلاء لأنهم «لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ» لأنهم غير مطلقين ليسلكوا سبل العمل والتجارة والزراعة والصيد وغيرها من طرق الرزق لتأمين معاشهم بسبب عجزهم مادة ومعنى ، ومن هذا الصنف الذين يحبسون أنفسهم على عبادة اللّه ليل نهار لا يخرجون للأسواق والطرقات ، والذين هم بعدم تصديهم للسؤال من هذا القبيل أيضا إذ «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ» أمرهم وشأنهم «أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» عن المسألة وعدم إظهار الذلة والمسكنة وظهورهم بالتجمل والعفة(5/247)
ج 5 ، ص : 248
«تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ» السيما والسمة والسميا بمعنى العلامة وهي ما يظهر على وجه الإنسان من الاصفرار بسبب الجوع ، وما يرى من ثيابهم الخلقة ، وتلبسهم بالخضوع والخشوع للّه ، كل هذا مما ينم عن شدة حاجتهم مما يغني اللبيب عن احتياجهم لسؤاله ، بل يتفرس فيهم ويعطيهم كفايتهم ، فهم أكثر أجرا من غيرهم «لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً» إلحاحا فيكررون الطلب المرة بعد المرة ، ولا يبارحون المحل حتى يأخذوا منه ، ومنهم من يغلظ القول عند عدم الإعطاء ، كسؤال زماننا لهذا عليكم أن تفعلوا الخير ما استطعتم معهم «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)» تفيد هذه الآية عدم الميل إلى التصدق إلى المؤمن فقط ، إذ يجوز أن يعطيها لذوي الحاجة من غير المؤمنين ، لأن الخير للخيّر أن يتحرى بصدقته الأحوج إلا عند التساوي يرجح المؤمن ، كما أنه يرجح الطائع على العاصي والقريب على البعيد.
لما نزلت هذه الآية بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة لأهل الصفة لأنها نزلت فيهم ، وكانوا أربعمائة رجل لا مال لهم ولا مأوى ولا قرابة يأوون إليهم ، وإنما ركنوا إلى المسجد يتلون القرآن ويخرجون مع كل سر للجهاد في سبيل اللّه ، لذلك حث اللّه عباده للإنفاق عليهم ومواساتهم ، لأنهم كانوا مع فقرهم لا يظهرون للناس بصفة المعدمين مع ظهور علامة الفقر عليهم ، وهذا من غنى القلب.
واعلم أن هذه الآية توعز بحرمة السؤال في غير الضرورة له قال صلّى اللّه عليه وسلم المسألة لا تحل إلا لثلاث : لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لأنه دم موجع.
وقد بينا آنفا أن الصدقة تعطى للمسلم وغيره من ذوي الحاجة ونعني بها صدقة التطوع ، أما صدقة الزكاة المفروضة فقد أجمع العلماء على صرفها للمسلمين من الأصناف الثمانية خاصة لقوله صلّى اللّه عليه وسلم أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياء وأردها على فقرائكم ، لأن تخصيص الأخذ في هذا الحديث من الأغنياء يخصصه الزكاة المفروضة ، لأن غيرها تكون من الغني وغيره من كل من عنده فضل حوائجه ولو لم تجب عليه الزكاة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال :
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني غنى النفس.
ورويا الحسن : ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين(5/248)
ج 5 ، ص : 249
الذي لا يجد غناء يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم لمسألته الناس.
فأمثال هؤلاء يجب أن يتصدق عليهم لأنهم مع عوزهم لا يطلبون من الناس ، لا سؤال زماننا الذين لو لا قول اللّه تعالى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) وقوله صلّى اللّه عليه وسلم : لو صدق السائل ما أفلح من رده.
لما أعطينا أحدا منهم لقمة ، لأنا بعد اطلاعنا على أحوال بعضهم وتيقننا من غناهم ووجوب الزكاة عليهم صرنا نشك في كل سائل ، ولكن قال صلّى اللّه عليه وسلم اعطوا السائل ولو جاء على فرس ، وما علينا إلا الامتثال ، وإلا لأفتينا بعدم جواز التصدق على من لم يتحقق فقره ، لأن فيه إعانتهم على الكسل والمعصية ، لأن من عنده وجبة يوم يحرم عليه السؤال ، فكيف بمن عنده قوت سنة ، ومن يسأل وببيع ما يحصله بالسؤال ، ومن يتجر ويرابي ، فقد اختلف علينا الأمر ولم نقدر نفرق بين المحتاج وغيره ، ولم نتبين لنا من اتخذ السؤال حرفة ممن هو محتاج إليه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
سمع عمر رضي اللّه عنه سائلا يسأل بعد المغرب ، فقال لواحد من قومه عش الرجل فعشاه ، ثم سمعه ثانيا يسأل ، فقال ألم أقل لك عش الرجل ؟ قال قد عشيته ، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا ، قال له لست سائلا ولكنك تاجر ، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة ، وضربه بالدرة.
ولهذا صار بشك في أحوال السؤال وصاروا يعملون لهم محالا للأكل والشرب والنوم قطعا لمادة السؤال.
هذا ومن أعمال الوليد الممدوحة أنه فرض للمجذومين نفقة خاصة كي لا يسألوا ، وعين لكل أعمى قائدا ، ولكل مقعد خادما ، ونفقة لحفظة القرآن ، وبنى دورا للضيافة.
روى البخاري ومسلم عن ابن الزبير قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه.
وعن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه (عن المسألة) جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش أو خموش أو كدوح ، قيل يا رسول اللّه ما يغنيه ؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب - أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي - .
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : من سأل الناس تكثرا فإنما سأل جمرا فليستقل أو ليستكثر.
وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : (5/249)
ج 5 ، ص : 250
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سأل وله قيمة اوقية (أربعون درهما) فقد ألحف.
أخرجه أبو داود ، وأخرج النسائي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سأل الناس وله أربعون درهما فهو ملحف ، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)» على ما فاتهم من الدنيا واللّه يخلف لهم ما أنفقوه فلا يخشون الفقر في الدنيا ، وثواب نفقاتهم يقيهم أهوال يوم القيامة.
هذه الآية خاتمة الآيات الأربع عشرة المشار إليها قبل ، بأنها كلها في أنواع الصدقات وحال أهلها ، وهذه الأخيرة نزلت في علي كرم اللّه وجهه ، إذ بعث بوسق لأهل الصفة ليلا ومثله نهارا ، وكان ذات يوم يملك أربعة دنانير فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبالثالث سرا وبالرابع علنا ، وهي عامة جار حكمها في كل متصدق بمقتضاها ، لأن أكثر آي القرآن العظيم عام ، وهذه الآية تؤيد ما ذكر في الآية 271 المارة من أن نفقة السر أفضل من العلانية ، لأن اللّه قدم فيها نفقة الليل على نفقة النهار ، ونفقة السرّ على العلانية ضمنا ، وتشير هذه الآية صراحة إلى الأفضلية.
هذا وقد أجمع العلماء على أن إظهار صدقة الفرض أحسن ، للاقتداء بفاعليها ، وإخفاء صدقة التطوع أجمل لما فيها من جبر خاطر آخذها بحالة لا ذل فيها ولا انكسار قلب ، بل بطيب نفس وقلب منشرح.
أخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه ، إمام عادل وشاب نشأ في طاعة اللّه ورجل قلبه معلق بالمجسد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تابا في اللّه تعالى اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه من خشية اللّه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف اللّه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 62 من سورة براءة إن شاء اللّه ، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيتين 215/ 219 والآية 119 قبلهما أيضا فراجعها واعلم أن هذه الآية الأخيرة من آيات الصدقة تدل على أن أفضل أنواع الخير ما كان متتابعا متواصلا ، وأن الأحسن أن لا يخصص الرجل صدقته بأناس دون(5/250)
ج 5 ، ص : 251
آخرين ، ولا بوقت دون وقت ، لأن صدقة التطوع لا وقت لها ، أما صدقة الفرض فوقتها وقت وجوبها وهو حولان الحول وصدور المواسم ، ولا يتحتم على من تجب عليه أن ينفقها حالا بل يتريث ليجد من ينفقها عليه ويختار الأحوج والأدين والأقرب والأتقى ، لما جاء في الخبر اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطقكم.
ولما رغب اللّه في الصدقة فرضها ونفلها التي هي بذل المال بلا عوض رجاء منّه عليهم طفق ينفر عن الربا وهو أخذ المال بلا عوض بقوله جل قوله «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا» ويعاملون الناس فيه ويأكلون فضله ، لأن المال يحرز ويصرف ولا يؤكل وإنما ذكر الأكل دون اللباس والسكن الذين هما من المال أيضا لأنه معظم الأمر المقصود في المال ، ولأنه لا يستغنى عنه استغناء اللباس والسكن ، فهؤلاء المرابون «لا يَقُومُونَ» من قبورهم يوم يقوم الناس لرب العالمين عند الصيحة الثانية ليذهبوا إلى المحشر فيحاسبوا ويثابوا أو يعاقبوا «إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ» أي يصرعه ويخبطه بالأرض ، لأن الخبط ضرب على غير استواء ومنه قولهم خبط عشواء مثلا للرجل الذي يتصرف في الأمور على غير هدى وروية وتدبر بسبب ما أصابه «مِنَ الْمَسِّ» الجنون يقال مس الرجل إذا كان به جنون ، أي يبعثه مجنونا مخبلا مختلا ، وهذه علامتهم في الموقف العظيم فيفضحون بين الناس كغيرهم من الزناة وشربة الخمر والمقامرين لأن ذلك اليوم يوم الفضيحة ، أجارنا اللّه من ذلك ، وقد مثلوا لحضرة الرسول ليلة الإسراء بكبر بطونهم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري ، لأن الربا ربا في قلوبهم والعياذ باللّه فلا يستطيعون الإسراع يوم يحشر الناس سراعا كما بيناه أول سورة الإسراء في ج 1 «ذلِكَ» الذي يحل بهم يوم القيامة.
«بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» أي أنه حلال ، لأنه مبادلة مال بمال كالبيع وقد قاسوه بمقياس إبليس الذي ذكرناه في الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1 وهم من أتباعه لأنهم يسببون لهلاك الناس بإحراز أموالهم دون مقابل ، وهو يسبب إهلاكهم بما يسول لهم «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» وليس الحلال كالحرام ، وقد كذبوا بقياسهم هذا لأن الربا فيه زيادة نفس المال بمقابل(5/251)
ج 5 ، ص : 252
تأخير الأجل فقط ، والبيع ليس كذلك ، لأن البدل فيه من غير جنس المبدل منه ، ولأن الريح في قيمة المال البيع لا بنفس المال ولا من جنسه ، فإذا باع ثوبا قيمته عشرة بأحد عشر ، فقد جعل ذات الثوب بمقابل الأحد عشر ، وجعل التراضي عليه ، فلم تكن هذه الزيادة بغير عوض ، وفي الربا يكون الزائد بغير عوض ، لأنه يعطيه عشره ويأخذ منه أحد عشر مثلا ، فتكون هذه الزيادة بمقابل الإمهال فقط ، والإمهال لا يكون عوضا مقابلا لهذه الزيادة لأنه ليس مالا ولا شيئا من جنس المال المعطى.
وأعلم أن ما حرم بالنقدين حرم بغير هما من مكيل وموزون من الأشياء الستة المبينة بالأحاديث الآتية ، لأن العبرة بالفضل ، فكل ما كان متفاضلا لا يجوز كما سنيينه بعد «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى » وامتنع عما نهي عنه «فَلَهُ ما سَلَفَ» قبل النهي فلا يؤاخذ عليه البتة «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ» فإنه يعفو عنه بامتثاله وامتناعه عن تعاطيه ، فلا يطالبه بما تقدم عن زمن النهي «وَمَنْ عادَ» إلى فعل ما نهي عنه واستحل أخذ الزيادة عن رأس ماله وأمر على تعاطيه «فَأُولئِكَ» الذين تمادوا على الربا هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (275) لا يخرجون منها أبدا وهكذا كل مستحل ما حرم اللّه عليه ، لأنه يكون كافرا بالاستحلال ، فيستحق الخلود كالكافرين باللّه المشركين به.
واعلم أن آية الربا هذه من آخر آيات القرآن نزولا إذ لم ينزل بعدها إلا آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من سورة المائدة الآتية ، وآية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) 284 الآتية.
روى مسلم عن جابر قال :
لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وقال هم سواء.
وسبب تحريمه منع الناس من الاتجار بأموالهم بأنفسهم وبالواسطة ، وانقطاع المعروف بين الناس ، لأن المرائي لا تطيب نفسه أن يقرض أخاه دون فائدة تعود عليه ، ويؤدي إلى حرمان الناس من أجر القرض الذي هو أفضل من الصدقة ، ويسبب زيادة المال بلا تعب أو مشقة ، ويأمن من خوف التلف والخطر في الأجل والسفر ، فضلا عن هذه الأسباب فإن ما حرمه اللّه نصا وجب الانتهاء عنه اتباعا لأمر اللّه وامتثالا له توا دون الوقوف على سببه ، لأن اللّه تعالى مالك الخلق ، والمالك(5/252)
ج 5 ، ص : 253
المطلق له أن يتعبد خلقه بما شاء ، ويحكم فيهم بما يريد ، وليس للمخلوق إلا الانقياد لأمره والخضوع لحضرته ، وسواء كان له سبب أم لا ، وسواء علمت الحكمة منه أو لم تعلم ، لأن أفعال اللّه لا تعلل ، ولأن العلة لا تدور مع المعلول ، راجع الآية 92 من سورة يونس ج 2 ، لذلك فإن الحكم الشرعي التحريم البات ، وعلى الإمام حبس المصر عليه حتى يتوب عن تعاطيه ، وإذا لم ينته لقوته وجب على المسلمين محاربته كالبغاة ، فإذا قدروا عليه وأصر على تعاطيه ضربوا عنقه بسبب استحلاله ما حرم اللّه ، وهو في أشياء مخصوصة بينها رسول صلّى اللّه عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ، والبرّ بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء.
روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل ، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى.
وروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ، فقد نص عليه السلام على هذه الأصناف الستة فقط ، وعليه فإن ما عداها لا ربا فيه ، فلو باع ثوبا بثوبين أو كتابا بكتابين ، أو إناء بإناءين ، فلا ربا ولا حرمة فيه.
والقرض الذي فيه زيادة يعد من الربا المحرم لأن كل قرض جرّ نفعا فهو ربا ، وكذلك لو أقرضه شيئا واشترط عليه أن يردّ له أحسن منه فهو ربا لوجود العلة وهي الفضل بلا مقابل ، يدل على هذا ما روي عن مالك قال : بلغني أن رجلا أتى ابن عمر فقال إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته ، فقال عبد اللّه فذلك الربا - أخرجه مالك في الموطأ - .
فإن لم يشترط جاز ، لما روي عن مجاهد أن ابن عمر استلف دراهم فقضى صاحبها خيرا منها ، فأبى أن يأخذها لأنها خير من دراهمه ، فقال ابن عمر قد علمت ، ولكن نفي بذلك طيبة - أخرجه مالك في موطأه - .
فمن استقرض مثلا ليرة حميدية ذهبا فأدى ليرة رشادية ، جاز لأن وزنهما واحد وقيمتهما الأصلية واحدة ، (5/253)
ج 5 ، ص : 254
ولكن يشترط عدم الشرط من المقرض وطيب النفس من المستقرض.
والربا نوعان :
ربا فضل أي زيادة وربا نسيئة أي تأخير بالأجل ، فإذا باع جنسا من الأشياء الستة بجنسه نفسه اشترط فيه التماثل والمساواة إن كان موزونا أو مكيلا ، واشترط التقايض بالمجلس ، وإذا باع جنسا بآخر كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير جاز فيه التفاضل ، واشترط أن يكون يدا بيد بالمجلس فإذا زاد في الأول وأخر في الثاني وقع الربا كما هو صريح الأحاديث المارة والآتية.
قال تعالى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا» يذهب بركة مال المرابي ويعرض صاحبه للخسران والهلاك ، وإن طال به الزمان فقل أن ينتقل لأحفاده ، وكثر أن يكون الحق في زمنه وأولاده «وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» ينميها ويبارك في المتصدق منه ويضاعف الأجر لصاحبه إذا كان حلالا ، قال تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية 92 من آل عمران الآتية ، والتصدق بالحرام فضلا عن أنه لا ثواب فيه فقيل إن من يتصدق فيه طلبا للأجر يكفر لما فيه من معنى الاستحلال.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب ، ولا يقبل اللّه إلا الطيب ، إلا أخذها الرحمن بيده وإن كانت تمرة فتربوا في كنف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل ، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله.
ثم ألمع جل شأنه إلى أن أكل الربا بعد هذا النهي لا يكون إلا من الانهماك في الإثم المؤدي إلى الكفر بقوله جل قوله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)» مصر على كفره مستحل لأكل الربا وغيره من المحرمات متماديا في الإثم مستمرا عليه ، وتشعر هذه الآية بأن من هذا شأنه يكون كثير الكفر عظيم الإثم يكرهه اللّه تعالى ومن كان كذلك فالنار أولى به.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» تقوية لإيمانهم وإشعارا بإخلاصهم «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم بشروطها وأركانها ، وهذا هو معنى الإقامة «وَآتَوُا الزَّكاةَ» المفروضة عن طيب نفس لأهلها مع الكلام الطيب والإعطاء بالمعروف «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» واف كامل مضاعف «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم من الذين لم يقوموا بذلك كله «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)» على ما فاتهم من حطام(5/254)
ج 5 ، ص : 255
الدنيا وزخارفها ، لأن اللّه تعالى عوضهم خيرا منها في الآخرة.
وبعد ما أباح لهم ما أكلوه من الربا قبل نزول هذه الاية بين لهم حكم ما عقدوه منه قبل النهي ولم يستوفوه بعد ، فقال عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا» على الذين أخذوا منكم مالا وهو ما فضل عن رءوس أموالكم فقط «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)» قولا وفعلا قلبا وقالبا فخذوا رءوس أموالكم واتركوا بقايا الربا حتى تقوا أنفسكم من عقابه ، واعلم أن ذروا لا ماضي له ، وكذلك ما تصرف منه مثل : تذر ويذر وتذررون إلخ وهما مكرران كثيرا في القرآن.
«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به ولم تتركوا ما نهيتم عنه «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» لأن إصراركم على ما حرم عليكم وعدم انتهاءكم عما نهيتم عنه إعلام بطلب المبارزة والمحاربة مع اللّه ورسوله وهو مما لا قبل لكم به ، وهذا كناية عن التشديد في الزجر والكف عن الربا في الدنيا ، وعدم أخذ الفضل المعقود عليه قبل النهي والمبالغة في الوعد والتهديد في الآخرة.
قال أهل المعاني حرب اللّه النار وحرب رسوله السيف.
وقد بينا آنفا وجوب محاربة المصرّ عليه على الإمام ، «فَإِنْ تُبْتُمْ» ورجعتم فإن اللّه تعالى يقبل إنابتكم ويعفو عما سلف منكم ، وإذا فعلتم هذا وطابت نفوسكم بترك الفضل مما عقدتموه قبل النهي ولم تستوفوه ، أما بعده فالعقد باطل من أساسه حرام ملاحقته لا يجوز تقاضيه ، وفي كلا الحالتين «فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ» ، الغريم بأخذ الزيادة منه عنها «وَلا تُظْلَمُونَ (279)» بنقص شيء من رأس المال ، بل تأخذونه كما أعطيتموه كاملا.
وهذا البحث بحث بحت واسع في الآية 131 من سورة آل عمران الآتية فراجعها.
كان العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان يتعاطيان الربا ، فقال لهما بعض مدينهما إن أخذتم حقكما كله مني لم يبق لدي ما يكفي عيالي ، فخذ النصف وأضعف لكما النصف الثاني إذا أخرتماه ، وذلك قبل النهي ، ففعلا فلما حلّ الأجل طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه هذه الآية ، فقالا سمعا وطاعة ، وأخذا رأس مالهما وهناك أقوال أخر في أن سبب نزولها في العباس وخالد بن الوليد أو في أربع اخوة من ثقيف كانوا يتعاطون الربا ، ولا مانع من تعدد الأسباب ، والمعنى واحد(5/255)
ج 5 ، ص : 256
وان كلا منهم قال نتوب إلى اللّه ، ولا قوة لنا على محاربة اللّه ورسوله ، وصار كل من كان له دين مرابيا به يكلف دائنه بدفع رأسماله فقط قبل حلول الأجل ، لأن الدين أصبح قرضا مستحقا ، والقرض لا أجل له ، إذ يحق للمقرض مطالبة المستقرض متى شاء ، فشكا بعضهم الإعسار لأنهم كانوا يستدينون على المواسم ولم ينتهوا لإدائه قبل حلوله ، فأنزل اللّه «وَإِنْ كانَ» المدين فاقد المال «ذُو عُسْرَةٍ» لا قدرة له على أداء ما عليه «فَنَظِرَةٌ» عليكم أيها الدائنون «إِلى مَيْسَرَةٍ» مدينكم بأن تمهلوهم إلى وقت وحالة يتمكنون من الأداء.
مطلب فائدة انظار المعسر وتحذير الموسر عن المماطلة بالأداء وأجر العافي عن الدين والتوبة عن الربا وآخر آية نزلت فيه :
وهذه الآية وإن كانت في حق الربا فيدخل في عمومها كل دين مستحق عجز عجز المدين عن أدائه لما فيه من الأجر العظيم ، لأن هذه الآية جاءت مستأنفة بدليل قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) إلخ إذ أثبت الفاعل ولم يضمره ليعود قطعا على المستدين ربا.
وكان في الآية تامة بمعنى وجد إذ لو كانت خاصة بدين الربا لقال وإن كان ذا عسرة إلخ ليعود ضمير الفاعل الذي هو اسم كان على المستدين بالربا ، ولكانت ناقصة ، روى مسلم عن أبي قتادة أنه طالب غريما له فتوارى عنه ثم وجده ، فقال إني معسر ، قال آللّه قال آللّه ، قال فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه اللّه من كروب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه.
وروى مسلم عن أبي اليسر قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظلّه اللّه في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من أخذ أموال النّاس يريد أداءها أدى اللّه عنه ، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه اللّه ، وروى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال مطل الغني ظلم.
ورويا عنه أيضا أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال كان فيمن قبلكم تاجر يداين الناس ، فإن رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل اللّه يتجاوز عنا ، فتجاوز اللّه عنه.
وأخرج أبو داود عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن أعظم الذنوب عند اللّه أن يلقاه به(5/256)
ج 5 ، ص : 257
عبد بعد الكبائر التي نهى اللّه عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء.
ورويا عن كعب بن مالك أنه تعاطى ابن أبي حدود دينا كان له في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو في بيته ، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى ، فقال يا كعب قلت لبيك يا رسول اللّه ، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك ، فقال كعب قد فعلت يا رسول اللّه ، قال قم فاقضه.
ورويا عن أبي هريرة أنه كان لرجل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سنّ من الإبل ، فجاءه يتقاضاه ، فقال أعطوه ، فطلبوا سنا فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال أعطوه ، فقال أوفيتني وفاك اللّه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء.
وفي رواية أنه أغلظ لرسول اللّه حتى همّ به بعض أصحابه ، فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا.
وأخرج النسائي عن محمد بن جحش قال كنا جلوسا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته ، ثم قال سبحان اللّه ماذا نزل من التشديد ، فسكنا وفزعنا ، فاما كان من الغد سألته يا رسول اللّه ما هذا التشديد الذي نزل ؟ فقال والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل اللّه ثم أحي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه.
ثم طفق جل جلاله يحتهم على ما هو خير لمن هو مستغن عن دينه بقوله «وَأَنْ تَصَدَّقُوا» بالفضل ورأس المال على المعسر «فهو خَيْرٌ لَكُمْ» عند اللّه من استيفائه من المعسر «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)» ما أعد اللّه تعالى في الآخرة من الخير الجزيل لمن يفعل هذا فصلا عما يناله من الثناء الجميل في الدنيا من الناس والدعاء الكثير من المتصدق عليه.
واعلم أن آيات الربا هذه تثبت أن المرابين محكوم عليهم بالجنون مهما كانوا عليه من العقل لأنهم استحلوا ما حرم اللّه ولم يمتثلوا أمره بالكف عنه ، ولأنهم آثروا البطالة على العمل واستعملوا ما أنعم اللّه به عليهم من المال لغير ما خلق له من طرق التجارة ، وتومئ إلى أن الربا يوجب التقاطع والعداء بين الناس ويحملهم على التخاصم ، ويولد القسوة في القلوب ، وينزع منها الشفقة والرأفة ، ويلقي بذور الحقد والحسد في نفوس الفقراء لما يروا من شدة الحرص والشح من الأغنياء ، ويؤدي إلى ارتكاب الجرائم المخلة بالأمن ، وقد يؤدي أيضا إلى الانتحار المنهي عنه في أصعب المواقف ، وينذر بمحو(5/257)
ج 5 ، ص : 258
ثروة المرابين وحرمانهم لذة الكسب الحلال ونزع صفات الحمد والشكر منهم ، وإنزال نعوت الذم والقدح فيهم.
هذا ويشترط للتوبة
عن الربا أربعة شروط : الإقلاع فورا ، والندم على ما سلف ، والعزم على عدم العودة إليه ، ورد الفضل لأهله إذا كان بعد نزول النهي وبعد بلوغ الدعوة النبوية ، فمن كان منه ذلك ونوى رد فضل الربا لأهله ثم عجز عنه أو تعذر عليه معرفة من أخذ منهم أو ورثتهم فاللّه تعالى أكرم بأن يعفو عنه ويرضي خصومه ، أما الكافر إذا أسلم وكان يتعاطى الربا فلا يطالب بالردّ ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، كما لا يطالب بالزكاة على ما قبل الإسلام ، هذا هو الحكم الشرعي فيه.
وإذا كان للمسلم حديثا ربا على الكفرة وكانوا محاربين جاز له استيفاؤه منهم ، كما يجوز لغيره أخذ ما لهم بالربا والقمار والبيوع الفاسدة وشبهها.
واعلم أن اللّه تعالى ذكر في القرآن العظيم الربا في أربعة مواضع مرة في مكة وهو قوله تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً إلخ 79 من سورة الروم ، وثلاث مرات في المدينة في هذه الآيات المارات ، وفي الآية 130 من آل عمران ، وسنأتي على تمام البحث فيها إن شاء اللّه ، والخمر كذلك نزلت فيه أربع آيات مرة في مكة وثلاث في المدينة ، راجع الآية 217.
قال تعالى «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 281» لأن العمل فيه جار على قانون العدل الحقيقي ، وهذه الآية الجليلة نزلت بعد آية المائدة 4 التي نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع ، وهي آخر آية نزلت في القرآن ووضعت في هذه السورة بمكانها هذا بإشارة من النبي صلّى اللّه عليه وسلم وإخبار من الأمين جبريل عليه السلام وعاش بعدها رسول اللّه واحدا وعشرين يوما ، وما جاء من أن آخر آية نزلت هي آية الربا فيه تسامح ، إذ المراد بها أنها من آخر ما نزل من العقود ويراد بهذه آخر ما نزل من آيات القرآن ، أما آخر ما نزل من السور فهو سورة النصر متفق عليه.
ولهذا البحث صلة في الآية 3 من سورة المائدة الآتية فراجعه ، وعليه يكون انقطاع الوحي في 11 صفر سنة 11 من الهجرة ، ومنهم من قال عاش بعدها تسع ليال ، فيكون ختم الوحي 23 صفر سنة 11 ، ومنهم من قال سبع ليال ، فيكون آخر الوحي في 25 صفر(5/258)
ج 5 ، ص : 259
سنة 11 ، ومنهم من قال ثلاث ساعات ، وسنوفي هذا البحث في الآية المذكورة آنفا من سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى.
مطلب في الكتابة والشهادة على الدين وتحذير الكاتب والشاهد من الإضرار بأحد المتعاقدين وحجر القاصر ومن هو بحكمه :
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» بيعا كان أو قرضا أو سلفا وغيره ، وهذا الأمر للندب ، لأن اللّه تعالى يقول بعد (الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهذا الشرط صرفه عن الوجوب «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ» ، من غير زيادة ولا نقص ولا تقديم ولا تأخير ، وفي هذا حفظ لحق الطرفين ، فيأمن المدين من طلب زيادة أو تقديم في الأجل ، ويأمن الدائن من جحود الدين وتذرعه بزيادة المبلغ وظن الدائن بنقصه ، ومن نسيان شهادة الشهود «وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ» وتفضل به عليه في معرفة الكتابة وليكتب كما شرعه اللّه وأمره به من عدم الزيادة والنقص ، وهذا الأمر للندب أيضا والصارف له عن الوجوب قوله تعالى (وَلا يُضَارَّ) إلخ ، لأن الوجوب لا يقيد ولا يخصص ولا يعلق على شرط ، ومتى وجد في الأمر أحد هذه انصرف من الوجوب إلى الندب ، وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) الآية 18 من سورة القصص في ج 1 ، لأن من خصه اللّه تعالى بفضيلة علم أو مال أو جاه ينبغي أن ينفع بها عباده كما نفعه بها.
وبعد أن نهاه اللّه عن الإباء أمره بقوله «فَلْيَكْتُبْ» هذا الكاتب الذي اختاره الطرفان وائتمنا به ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة ، ويراعى حالة الطرفين ولا يخص أحدهما بالاحتياط ويهمل الآخر ، بل يحافظ على حقهما معا ، وعلى هذا الكاتب أن يجتنب الألفاظ التي لها معان تنصرف لضرر أحدهما والكلمات التي هي من الأضداد لئلا يقع النزاع من أجلها ، لأن القصد من الكتابة رفع ما يتوقع من النزاع ودفع ما يتوهم من الخلاف وتأمين حق الطرفين ، فكل كلمة يتوقع منها حصول شقاق بسبب تعدد معانيها يجب عليه اجتنابها.
وينبغي لمن يتصدى لهذه الكتابة أن يكون عالما باللغة التي يكتب بها عربية(5/259)
ج 5 ، ص : 260
أو غيرها ، وبالفقه وأصول المدانيات ، والبيوع والسلم وغيرها ، ليدمج الشروط المقتضية لكل منها فيما بكتبه «وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» أي المدين ، لأن الكتاب يلزمه وحده ، فهو الذي يعترف فيه ويبين قدره ونوعه وجنسه وصفته وأجله ، ورب الدين يسمع ذلك ، فإذا اختلفا فعليه أن يتوقف عن تدوينه حتى يتم الوفاق بينهما عليه ، وأن لا يكتب شيئا لم يتفقا عليه صراحة لا ضمنا وتلويحا ولا تعريضا ولا سكوتا ، وأن يكون عن رضى منهما واختيار وإيجاب وقبول لا غضبا ولا إكراها ولا تلعثما «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» في كل ما يكتبه ، وقد جمع جل شأنه بين اسمه ووصفه الجليلين في هذه الجملة مبالغة في الحث على التقوى.
وضمير الفاعل يعود إلى المملي أي يحذّره ربه من أن يزيد أو ينقص شيئا مما أراده الطرفان ، وأكد هذا الأمر بقوله «وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» أي من ذلك الحق الذي اتفق عليه الطرفان ، بأن يكتبه حرفيا وانتهي عن البعض يشمل الكل «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً» مبذرا لماله أو مجنونا أو معتوها أو جاهلا بالإملاء «أَوْ ضَعِيفاً» طفلا صغيرا أو شيخا هرما «أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ» بنفسه لمرض أو عمى أو كان محبوسا لا يمكنه الحضور أو غائبا يتعذر عليه المجيء أو لا يعرف ماله وما عليه ، فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم ، ولذلك قال تعالى «فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ» الأمين عليه والمحافظ لماله أو وكيله أو وصيه المختار أو المنصوب من قبل القاضي أو المترجم إذا كان يحسن اللغة أو أخرس إملاء ملابسا «بِالْعَدْلِ» الواجب إجراؤه ، أي الحق بين صاحب الحق والمولى عليه ، فلا يزيد ولا ينقص ، وعلى المترجم عن الذي لا يعرف اللغة وعن الأخرس أن يوقعا معهما «وَاسْتَشْهِدُوا» أيها المتعاقدان على عقودكم كلها «شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» أيها المؤمنون لا من غيركم ، وقد يجوز أيضا استشهاد الغير في بعض الحالات كما سيأتي في الآية 106 من سورة المائدة الآتية «فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» وتأمنون بهم على حقكم وتطمئنون بهما ، والسبب في عدم كفاية المرأة الواحدة نقصان عقلها ودينها وكثرة نسيانها المنبئ عنه قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما»(5/260)
ج 5 ، ص : 261
الشهادة وتنساها «فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى » التي لم تنس بسبب التداول بينهما والمذاكرة فيها حتى يؤدياها معا لا على الانفراد ولا متعاقبتين «وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» لتحمل الشهادة أو لأدائها عند الحاكم وهي واجبة على النصاب إذا لم يكن لإثبات الحق نصاب غيره «وَلا تَسْئَمُوا» أيها المتعاقدون من «أَنْ تَكْتُبُوهُ» أي الدين قليلا «صَغِيراً» كان «أَوْ كَبِيراً» كثيرا «إِلى أَجَلِهِ» أي لا تملّوا أو تضجروا من كتابته مهما كان فإنه يعود عليكم بالنفع ، قال زهير :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبالك يسأم
أي يمل «ذلِكُمْ» إثبات الدين بالكتابة والشهود «أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ» أعدل واثبت وأعون «لِلشَّهادَةِ» لأن الشاهد إذا رأى خطه تذكر الحادثة وشهد بالحق عن يقين بلا تردد «وَأَدْنى » أقرب إلى «أَلَّا تَرْتابُوا» تشكوا بمقدار الدين والأجل وكيفية الشهادة بهما ، وهذا واجب عليكم أو مندوب في كل العقود «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ» ولم يعين لعقدها أجل وهي بين أيديكم جميعا وتحت تصرفكم أيها المتعاقدون «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» إثم ولا حرج من أن «أَلَّا تَكْتُبُوها» بعد التجاحد في مثل هذه الحالة ، لأن كلا منهم واضع يده عليها ، وظاهر الحال يدل على كونها لهما معا ، ولتمكن كل منهما من أخذ حقه منها أي وقت شاء.
وعود الضمير إلى المداينات المذكورة سابقا المعبر عنها بالعقود كما جرينا عليه أولى من عودها إلى التجارة ، وعليه يكون الاستثناء متصلا ، وكذلك يكون متصلا إذا أعدت الضمير إلى الاستشهاد أي أشهدوا في كل المداينات والعقود إلا في عقد التجارة التي تتعاطونها معا.
وقال بعض المفسرين يعود الضمير إلى التجارة وجعل الاستثناء منقطعا وفيه عود الضمير إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة وهو جائز في فصيح الكلام ، ولكن الأول أولى.
واعلم أن من كان عنده شهادة لأحد وقد مات رب الدين والورثة لا تعلم ذلك فيترتب عليه إعلام الورثة بذلك دون دعوة من الحاكم أو من أحد منهم لإظهار الحق ، وما جاء في الآية من لزوم دعوة الشهود لأداء الشهادة في غير هذه القضية(5/261)
ج 5 ، ص : 262
وما شاكلها من معلومية الشهود عند المدعي ، لأن الشاهد ترد شهادته إذا تبرح لأدائها دون تكليف ، ولهذا فإن/ ما/ في قوله تعالى (إِذا ما دُعُوا لا تعالى زائدة لما فيها من ثم النفي لمثل هذه الحالة ، راجع الآية 124 من سورة براء الآتية في بحث ما هذه.
وكذلك من يتسرع بحلف اليمين قبل أن يكلف الحلف فلا عبرة بحلفه لمظنة التهمة في هاتين القضيتين وما شابههما ، تدبر قوله تعالى «وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ» أيها الناس لتكون عقودكم صحيحة ظاهرا وباطنا فيما بينكم أنفسكم وفيما بينكم وبين اللّه سواء كان البيع ناجزا أو معلقا أو لأجل خوفا من وقوة التجاحد والاختلاف في البيع والثمن والشرط والأجل أو في الكل «وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ» بأن يقسر على الكتابة وهو لا يضار أيضا بإملائه بأن يزيد أو ينقص ويضع بعض كلمات متضادة أو لها معان قد تضر بأحدهما «وَلا شَهِيدٌ» يجبر على الشهادة أو يمتنع بعد تحملها عن أدائها أو يزيد أو ينقص فيها ، هذا وجد غيرهما إذ الوجوب كفائيا ، والأمر على الندب أو الاحتمال كون الكاتب والشاهد مشغولين بما يهمهما ، وأن تكليف الكتابة أو الشهادة يضرّ بهما فيصار لغيرهم أما إذا لم يوجد غيرهما فيجب حينئذ عليهما وجوبا عينيا بأن يكتب الكاتب ويشهد الشاهد لما في الامتناع من الضرر بغيرهما ، لأن وجوب العين يتأكد ويلزم الرحمن بعينه ، والكفائي إذا أقام البعض به سقط عن الآخرين كغسل الميت وتكفينه وو حمله والصلاة عليه.
ثم أكد النهي عن الإضرار الذي هو خروج عن الطاعة اللاحق أثره بهم غالبا بقوله «وَإِنْ تَفْعَلُوا» ما نهيتم عنه أو تمتنعوا عما أمرتم به «فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ» وخروج عن الطاعة التي ينتج عنها وقوع الشحناء بينكم ثم هذا التأكيد بقوله عن قوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما نهيتم عنه وأمرتم به وفي محق حقوق بعضكم كحقكم ، فإن التقوى بهذا كغيره أزكى لكم وأطهر لقلوب «وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» إذا اتقيتموه أشياء كثيرة من أمور دينكم ودنياكم مما هو لكم فيها وعند ربكم «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)» لا تخفى عليه أموركم هذه الجملة تهديد ووعيد لمن يجحد شيئا من العقود أو يخالف فيها وللشهود أيضا لا يكتموا شيئا من الشهادة وتشير إلى أن تقوى اللّه تورث العلم بما لا يعلم ، (5/262)
ج 5 ، ص : 263
أطول آية في القرآن العظيم وأقصر آية فيه آية (ثُمَّ نَظَرَ) 22 من سورة المدثر في ج 1.
واعلم أن الأمر بالكتابة عند وجود الكاتب في حالة الحضر ولهذا يقول تعالى «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ» بعيدا أو قريبا «وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً» أو آلة الكتابة أو ما يكتب عليه ويكتب به وأردتم أن تتعاقدوا أو تتداينوا «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» لنثقوا على أموالكم وليس الغرض جواز الرهن في السفر ، وإنما الفرض التوثق من الدين في حالة عدم وجود الكاتب والشهود ، وإلا فالرهن جائز سفرا وحضرا ، لأن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه منه لأجل ، وإنما أشار اللّه إليه مبالغة في تحفظ الناس على أموالها من أن يأخذها من لا يؤديها فتسبّب الأحقاد والأضغان بينهم ، لأن المال عديل الروح وكثيرا ما يقتل الرجل عند ماله أو من أجله ، وقد أباح الشارع الدفاع عنه فقال قاتل دون مالك.
ولأجل شدة المحافظة على المال التي يتأتى من عدم إيفائه الشحناء ولهذا قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية 5 من سورة النساء الآتية ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم احترسوا على أموالكم بسوء الظن أي لا تؤتوها من يغلب على ظنكم عدم الوفاء بل توثقوا من حسن معاملة من تدينونه بالتحقيق عن أحواله من كل الجهات «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» لحسن ظن فيه أو تجربة أو كان قريبا أو صديقا متوغل الصداقة معكم ولم تجدوا كاتبا ولا شهودا وليس عنده رهن وأعطيتموه مالكم ثقة منكم به ، فإن اللّه تعالى يأمره بقوله «فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ» أي دينه وإنّما سمي أمانة لأنه صاحبه وقد أمن من جحوده فأعطاه إياه بلا سند ولا شهود ولا رهن ، فصار كأنه أمانة ، والأمانة لا يجب عليها الإشهاد ولا الكتابة ولا الرهن ، لأن الأمين مصدق بردّها له في قوله.
وتومئ هذه الآية إلى حث المدين أن يكون عند حسن ظن دائنه فيه ، وحمله على أدائه عند حلول أجله دون مطل أو تعلل.
ثم أكد اللّه تعالى على المدين لزومه التأدية بقوله «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» بعدم الجحود وأن يفيه له بالحسنى مقابلة لفعله معه بقضاء حاجته في حالة يمكنه الامتناع فيها عن أن يدينه بحجة عدم وجود كاتب أو شهود أو رهن.
وبعد أن ندبه وحذره من المطل والتسويف ولزوم أداء الأمانة عند طلبها امتثالا(5/263)
ج 5 ، ص : 264
لأمره خاطب الشهود بقوله عز قوله «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ» إذا دعيتم إليها لأنها أمانة فى أعناقكم وفي كتمانها إبطال الحق وضياع المعروف ، ولهذا بالغ في الوعيد والتهديد على كتمانها فقال «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» مخطئ فاجر ، وأضاف الإثم إلى القلب لأن كل أمر أول ما يحدث يحدث في القلب ثم ينطق به اللسان أو تنفذه الجوارح إلا من عصم اللّه ، لأن القلب رئيس الأعضاء إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله - كما في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير عن البخاري - ولذلك فإن إثمه أعظم الآثام ، قال ابن عباس أكبر الكبائر الإشراك باللّه وشهادة الزور وكتمان الشهادة.
وقال لما حرم اللّه الربا أباح السلف وقال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى (أياما أو شهورا أو سنين) قد أحله اللّه تعالى في كتابه وأدن فيه ، وهذا سبب نزول هذه الآية ، وله شروط معلومة في كتب الفقه يجب التقيد بها لصحة عقده ولئلا يدخله الربا.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المدينة وهم يسلفون من التمر العام والعامين ، فقال لهم من أسلف في تمر ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)» لا يعزب عنه شيء من أعمالكم.
وتومئ هذه الآية إلى تحذير من يكتم الشهادة ولم يؤد ما ائتمن عليه ، وان المراد بإثم القلب مسخه والعياذ باللّه ، ومن هنا قيل : ما أوعد اللّه على شيء كإبعاده على كتم الشهادة ، فانظر رحمك اللّه ما أعجب نظم هذه الآيات في تنظيم الإدارة الإنسانية ، لأن عدم المضارة المذكورة من الطرفين والكاتب والشهود جزء من أجزاء الإدارة اللازمة للبشر ، ومع هذا فإن اللّه جل جلاله قد بالغ في التأكيد على القيام بها بالعدل والتشديد على من يخرم شيئا منها ، وقد كرر لفظ التقوى فيها لأنها تقي الإنسان من الوقوع فيما لا يرضي اللّه ، لأنه قد يفرط في أمور يظنها من التقوى وليست منها ، وقد يتسامح في أمور يظنها من التقوى وليست منها أيضا ، بل قد تؤدي لما يحذر منه كمن يعطي ماله لسفيه أو يدين غيره بلا سند ولا شهود مع القدرة عليها ، إذ ليس من الدين تفريط المرء في حفظ ماله إذ يعرضه لضياعه ومن ترك أمرا من أمور الدين أحوجه اللّه إليه ، ولهذا أوجب الشارع الحجر(5/264)
ج 5 ، ص : 265
على الإنسان في الأحوال المارة الذكر في الآية السابقة ، لأن الدين يأمر باتخاذ الوسائل لصيانة المال كما يأمره باتخاذها لصيانة النفس ، ولهذا وضع اللّه تعالى أسسا للتعامل لانتظام معاملة الناس فالتوثق بها خير ضمان لمصلحة العامة.
والحكم الشرعي في المداينات ما ذكرناه في تضاعيف تفسير الآيتين المارتين ، ويفهم منها أن تصرف السفيه والمجنون وغير كامل التمييز غير مقبول شرعا ، وأن إقرار الولي والوصي والقيم يعتبر عمن هو تحت الولاية والوصاية ، لأنه محجور شرعا عن التصرف بماله ولا تعتبر عقوده ، لأنه بحكم القاصر ، ويعلم قوله تعالى (مِنْ رِجالِكُمْ) اشتراط كون الشاهد في الحقوق مسلما على مثله والكافر على مثله ، بخلاف الجنايات فإنها تقبل فيها شهادة غير المسلم على المسلم ، وقد رجم صلّى اللّه عليه وسلم يهوديا بشهادة يهود عليه في الزنى ، وأن يكون العاقد حرا لأن العبد لا يملك عقود المداينات ، وترمي إلى أن لا يكتفى بشاهد واحد ، أما ما جاء بالاكتفاء بشاهد ويمين فهو مما لم يذكره اللّه تعالى في كتابه ، ولهذا قال (وَامْرَأَتانِ) أي في حال عدم وجود رجلين ، وقال بالائتمان عند عدم وجود الشاهد والكاتب والرهن ، وان قضاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذي يثبت عند الشافعي رحمه اللّه ومالك وأحمد بشاهد ويمين ، فهو من خصوصياته إذا تحقق ثبوته.
قال تعالى «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا في تضاعيف ملكه بجميع الكائنات ، وإذا علمتم ذلك فإن قوله جل قوله «وَإِنْ تُبْدُوا» أيها الملوان الذين فيهما «ما فِي أَنْفُسِكُمْ» فتظهروه ليطلع عليه بعضكم فيمدحوكم على الخير أو يذموكم على الشر علنا أو جهرا «أَوْ تُخْفُوهُ» لئلا يطلع عليه أحد ، فهو معلوم ومدون عنده في لوحه قبل خلقكم ، ولذلك فإنكم يوم تحشرون إليه «يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» أظهر
الاسم الكريم مع تقدم ذكره لإدخال الروعة والمهابة في قلوب عباده ، أي أنه يحاسبكم عليه خيرا كان أو شرا ، وقد عنون عن العمل بقوله (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) لأن العمل مسبوق بالعزم وهو من النفس.(5/265)
ج 5 ، ص : 266
مطلب المحاسبة غير المعاقبة ومعنى الخطأ والنسيان والهمّ والطاقة والإصر وغيرهما :
ومن رحمته بكم لم يقل يعاقبكم أو يؤاخذكم ، لأن المحاسبة عبارة عن المعاتبة وتعريف الشخص بأن اللّه تعالى مطلع على سره وخواطر نفسه وضمائر قلبه ، فضلا عما يفعله جهارا ويقوله علنا ، وبعد أن يطلع عبده على ذلك يغفره له بمقتضى فضله كما يعذب عبده على ما يبديه إن شاء يحكم عدله.
يدل على هذا ما رواه صفوان ابن محرز المازني قال : بينما عمر يطوف إذ عرض له رجل ، فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في النجوى ، قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول أعرف ربي أعرف مرتين ، فيقول اللّه سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم تطوى صحيفة حسابه ، وأما الآخرون ، وهم الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين - أخرجاه في الصحيحين - .
وان حديث اهمّ المقدم ذكره في الآية 84 من سورة القصص في ج 1 يؤيد هذا لأن إخفاء ما في النفس عبارة عما يحدث في القلب.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن اللّه تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت نفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا.
ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة ، لأنها خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما بيناه في بحث النسخ في المقدمة وعند كل بادرة ، وحجة من قال بنسخها هو ما رواه أبو هريرة من أن هذه الآية لما نزلت على رسول اشتد ذلك على أصحابه وقالوا كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والصدقة ، وقد أنزلت هذه الآية ولا نطيقها ، فقال أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا ، بل قولوا سمعنا وأطعنا ، فأنزل اللّه في أثرها «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)» كامل القدرة بالغ المغفرة يغفر للمؤمنين بفضله ويعذب الكافرين بعدله.
قال تعالى «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» آمنوا بما آمن به رسولهم «كُلٌّ منهم «آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ» نحن معاشر(5/266)
ج 5 ، ص : 267
المؤمنين «بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» كما فعل من قبلنا إذ آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما أشرنا إليه في الآية 85 المارة ، بل نؤمن بجميع الأنبياء والرسل وما أنزل اللّه عليهم من صحف وكتب وما ذكروه لنا عن ربهم وآمنوا به إيمانا خالصا «وَقالُوا» هؤلاء المؤمنون «سَمِعْنا» قول ربنا «وَأَطَعْنا» أمره نطلب «غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ» نعلم بأنه «إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)» في الآخرة فأحسن مآبنا إليك ، ثم أنزل بعدها «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» قدرتها وطاقتها ، فخرج هنا حديث النفس والوسوسة ، لأنهما خارجان عن الوسع فهما خارجان عن التكليف ، لأن دفعها فوق الطاقة ، وفي المؤاخذة عليها حرج ، وقد قال تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية 77 من سورة الحج الآتية ، واللّه أكرم من أن يتعبدنا بما لا نطيق ، وأجلّ من أن يضيق علينا في الدين ، وهذا لا يكون حجة في دعوى النسخ لما ذكرنا ، ولأن اللّه لم يرتب عليه عقابا ليخففه في هذه الآية ، وعلى فرض صحة حديث أبي هريرة فإن الأصحاب الذين راجعوا حضرة الرسول هم من عوام الصحابة أمثاله ، ولهذا خاطبهم صلّى اللّه عليه وسلم بقوله (أ تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) أي الآية 93 المارة ، ولأنهم ظنوا أن اللّه يعاقبهم على ما يخطر بقلوبهم ، ولذلك قالوا «لَها» أي لكل نفس ثواب «ما كَسَبَتْ» من أعمال الخير «وَعَلَيْها» وزر «مَا اكْتَسَبَتْ» من أفعال الشر ، ثم علّم اللّه تعالى عباده كيف يدعونه بقوله قولوا «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» أمرا من أمورك أو نهيا من نواهيك ، لأنا لا تخلو من أحدهما فاغفر لنا تقصيرنا في هاتين الحالتين أيضا زيادة عما تحدثه نفوسنا ، فإنك واسع المغفرة بالغ الرحمة.
هذا وقد قال العلماء إن التصور إذا وصل حد التصميم والعزم يؤاخذ عليه الإنسان لقوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية 255 المارة لأن هذا من الكيفيّات النفسانية التي تلحق بالملكات بخلاف سائر ما يحدث بالنفس وعليه قوله :
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا(5/267)
ج 5 ، ص : 268
واعلم أن هؤلاء لو كانوا من خواص الصحابة لما خطر لهم ذلك ولعرفوا المغزى من قوله تعالى (يُحاسِبْكُمْ) ولم يثقل عليهم ذلك هذا وليعلم أن النسيان ضد التذكر والخطأ ضد العمد ولما كان التحرز عنهما ممكنا وأنهما إنما ينشآن من التفريط وقلة المبالات ونحوهما مما يدخل تحت التكليف جازت المؤاخذة عليهما ولو لا هذا لما كان لسؤال عدم المؤاخذة عنهما معنى إلا أنه تعالى خفف عن هذه الأمة فرفع عنها المؤاخذة بهما بما ألهمهما من هذا الدعاء ، وقد صح عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
ولفظ رفع يشير إلى ذلك ، ويفهم من هذه الآية والحديث أن الأمم السالفة كانت تؤاخذ بهما وأن عدم المؤاخذة بهما من خصائص هذه الأمة ، يدل على هذا ما قيل إن بني إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطأوا فيما نهوا عنه عجلت لهم العقوبة فيخرم اللّه عليهم بها شيئا مما كان حلالا لهم من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر اللّه المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم على شيء من ذلك ، قال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الآية 185 المارة ، وعلى هذا فإن ما يصدر من التفريط وقلة المبالاة وسبق اللسان يدخل تحت العسر ويوشك أن لا يؤاخذنا اللّه عليه برحمته «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» فلم يقدروا على الوفاء به فعذبتهم عليه ، والإصر هو العهد والميثاق الثقيلان الغليظان مثل قتل النفس لأجل قبول التوبة ، وقطع العضو المخطئ وطرف الثوب للنجاسة وأداء ربع المال في الزكاة ، والفضيحة بالذنب إذ يجدها المذنب مكتوبة على باب داره وغيرها من التكاليف الشاقة التي ابتلى اللّه بها اليهود لسوء أعمالهم ، لأننا لا نستطيع تحملها لما ترى من ضعفنا «رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» من أمثال تلك الأشياء ، «وَاعْفُ عَنَّا» ما سبق من كبائر ذنوبنا وامحها عنا بفضلك «وَاغْفِرْ لَنا» صغائرها وما وقع منا سهوا وخطأ ونسيانا وإكراها برأفتك ، ولا تفضحنا بشيء فعلناه «وَارْحَمْنا» رحمة عامة شاملة تطهر قلوبنا بها من وساوس الشيطان وخطرات النفس وحديث القلب وما يحوك في الصدر ، ونجنا من عقابك وعذابك وعتابك.
وهذه الثلاثة بمقابل الثلاثة قبلها ، وفي معناها قيل : (5/268)
ج 5 ، ص : 269
أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي هو راحم هو غافر هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة وستغلبن أوصافه أوصافي
«أَنْتَ مَوْلانا» وناصرنا ومؤيدنا لا مولى لنا غيرك ولا عمدة لنا سواك «فَانْصُرْنا» بفضلك ولطفك وكرمك «عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)» أعدائك وأعدائنا المناوئين لرسولك الجاحدين كتابك.
قال أبو هريرة قال ابن عباس في حديث طويل يرويه عنه مسلم في هذه الآية قال تعالى قد غفرت لكم ولا أؤاخذكم ولا أحمل عليكم ولا أحملكم إصرا ، قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم.
واعلم أيها العبد أن اللّه تعالى لو لم يرد إجابة الدعاء ما علمه عباده ، وفيه قيل :
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من فيض جودك ما علمتني الطلبا
فاغتنم هذا وتبتل إلى ربك صباح مساء ، واسأله فإنه جواد كريم ، لأن هذه الآية تدل صراحة على جواز غفران الذنوب لأصحاب الكبائر من المؤمنين ، فكن عظيم الثقة باللّه دائم الاستعانة به ، كثير الرجاء ، فإنه عند ظن عبده.
روى البخاري ومسلم عن بن مسعود الأنصاري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه ، أي من كل ما يحذر منه ومن كل هامة وشيطان ، فلا يقربه تلك الليلة شيء وقيل إذا قرئ على المصروع أربع آيات من أول البقرة إلى المفلحون وثلاث من وسطها آية الكرسي والآيتان بعدها وثلاث من آخرها من (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) إلى آخر السورة برىء بإذن اللّه تعالى ، وهو من المجرب إذا صحت النية والعقيدة وطهرت النفس ، لأن لآيات اللّه تعالى في مثل هذه الأمراض تأثيرا شديدا ، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا في تفسير الآية 82 من سورة الإسراء ج 1.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال : لما أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة ، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط من فوق فيقبض منها ، قال (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ) قال فراش من ذهب ، قال فأعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثلاثا ، أعطي الصلوات الخمس ، وخواتيم البقرة ، وغفر لمن لا يشرك باللّه من أمته شيئا المقتحمات أي الذنوب العظام التي تولج مرتكبها النار.
وأصل الاقتحام الولوج.
وروى مسلم(5/269)
ج 5 ، ص : 270
عن ابن عباس قال : بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضا من فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال هذا باب من السماء قد فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
وقدمنا أول هذه السورة من الأحاديث ما يؤكد فضلها ويؤيد نفعها ، فلا بدع إن شفى اللّه ببركتها المصروع وغيره ، وقد ختم اللّه هذه السورة الجليلة بمعنى ما بدأه بها من صفات المؤمنين الفاضلة ، وجل صنوف الأحكام والشرائع والمواعظ والحكم في تضاعيفها حسبما قضته حكمته البالغة من سنن وقواعد تربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالغايات ، وبين فيها ما يجعل النفس البشر قادرة على التصرف في كثير من مخلوقاته لتستفيد من القوى التي وهبها لها ومما سخر لها من الحيوان والمعادن لتتمكن من أداء مهمتها في الأرض وإعمارها.
هذا ويوجد سورة المؤمن المارة في ج 2 مختومة بما ختمت به هذه السورة فقط.
واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الأنفال
عدد 2 و98 و8
نزلت بالمدينة بعد سورة البقرة عدا الآيات من 30 إلى 36 فإنها نزلت بمكة.
وهي خمس وسبعون آية ، وألف وخمس وسبعون كلمة ، وخمسة آلاف وثمانون حرفا.
لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به هذه السورة في القرآن العظيم ، ويوجد سورتان مختومة بما ختمت به النساء والنور ، ومثلها في عدد الآي سورة الزمر فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى يا سيد الرسل إن قومك
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» هي غنائم الحرب «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» لا يحكم بتقسيمها أو تخصيصها أحد غيرهما «فَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها المؤمنون ، ولا تختلفوا فيها أو تتخاصموا من أجلها ، بل اتركوها لمن وهبها لكم وفوضوا الأمر فيها للّه(5/270)
ج 5 ، ص : 271
والرسول «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» واتركوا الشقاق وكونوا متآخين مجتمعين على كلمة الحق بينكم أنفسكم وبينكم وبين ربكم ولا تستبدوا بشيء أبدا حتى يقضى لكم فيه «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 1» بهما إيمانا صحيحا كاملا في القول والفعل والنية.
مطلب في الأنفال وكون الإيمان يزيد وينقص وقصة بدر ورؤيا عاتكة وتعهد الشيطان :
واعلم أن سبب نزول هذه الآية ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه قال :
قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، فأعجبني ، فجئت به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقلت إن اللّه قد شفى صدري من المشركين ، فهب لي هذا السيف ، فقال ليس هذا لي ولا لك ، اطرحه في القبض (أي مجمع الغنائم المسماة بالأنفال جمع نفل) فطرحته وفي ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال ، فقال يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وانه قد صار لي فاذهب فخذه - أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح - وأخرجه مسلم في حديث طويل قال : فأخذته وذهب ما كان يحوك في صدري ، وعلمت أن حضرة الرسول لم يمنعه مني لأمر آخر ، وإنما أراد قضاء اللّه في ذلك وغيره.
ومن الطاعة أن لا يقول الرجل لولي أمره في شيء فعله لم فعلته ، ولا في شيء لم يفعله لم لا تفعله أبدا.
وليعلم بأنه أعم بما يفعل وبما لا يفعل ، وما تؤول إليه العاقبة وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : لما كان يوم بدر قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، فأما الشيخة فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقالت الشيخة للشبان أشركونا معكم فإنا كنا رداءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا ، فاختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فنزلت.
واخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في السنن وغيرهم عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، فساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه اللّه من أيدينا وجعله إلى رسول(5/271)
ج 5 ، ص : 272
اللّه.
وهذا أولى بأن يكون سببا للنزول ، لأنه لو لم يكن اختلاف وتخاصم في النفل لما وقع السؤال عنه ، ولما قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) إذ لا حاجة إلى التحذير والأمر بالصلح بعد الجواب.
وقد جاءت روايات متعددة بشأن السيف المذكور على خلاف ما جاء في حديث سعد ، ولذلك قالوا إنه أي الحديث الذي رواه سعد المار ذكره مضطرب ، لأن البخاري أخرج في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنقلان ، فوجدا سيفا ملقى ، فخرا عليه جميعا ، فقال سعد هو لي ، وقال الأنصاري هو لي ، لا أسلمه حتى آتي رسول اللّه ، فأتياه فقصّا عليه القصة ، فقال عليه الصلاة والسلام ليس لك يا سعد ، ولا للأنصاري ، ولكنه لي ، فنزلت.
وأخرج عبد ابن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه وغيرهم عن سعد أنه قال أصاب رسول اللّه غنيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول اللّه فقلت نفلني هذا السيف ، فأنا من علمت ، فقال ردّه من حيث أخذته ، فرجعت به حتى أردت أن ألقيه في القبض لا متني نفسي ، فرجعت إليه فقلت أعطنيه ، فشد لي صوته وقال ردّه من حيث أخذته ، فأنزل اللّه هذه الآية.
فالاختلاف في هذه الروايات ينفي الاعتماد على ذلك ، وسياق الآية يوافق رواية ابن عباس والعمدة عليها لا على ما رواه سعد والحادثة وقعت بعد الرجوع من بدر ويؤكدها جمع الغنائم وجعلها في القبض ثم تقسيمها بمعرفة الرسول على المسلمين ، ويدل عليها حديث عبادة بن الصامت المار ذكره.
والنفل هو ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه من المغنم ، كان يقول الإمام تحريضا على البلاء في الحرب من قتل قتيلا فله سلبه ، أو يقول لسرية ما أصبتم فهو لكم أو نصفه أو ربعه ، وهذا لا يخمس ، إذ يلزم الإمام الوفاء بوعده وهو مما يزيد في عزم المجاهد وحزمه وتقدمه لكل سرية ، لأنه إذا علم أن ما يصيبه يكون له يزداد رغبة في لقاء الأعداء وهمة ونشاطا في خوض الحرب زيادة على رغبته في إعلاء كلمة اللّه وطاعة رسوله والشهادة في الآخرة.
واعلم أن استباحة الغنائم من خصائص هذه الأمة ، لأنها كانت حراما على من قبلها فتكون شريعة هذه الأمة ناسخة لشرائع من قبلها من الأنبياء ومخصصة لآية الخمس الآتية ، وهي محكمة غير منسوخة بها كما قال عبد الرحمن(5/272)
ج 5 ، ص : 273
ابن زيد قول لابن عباس ، وعلى هذا فإن معناها أن الغنائم للّه ورسوله يضعها حيث يشاء ، وقد بين اللّه تعالى مصارف الغنائم في آية الخمس بدليل ما صح من حديث بن عمر : بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في سرية فغنمنا إبلا فأصاب كل واحد منا اثني عشر بعيرا وفضّلنا بعيرا. - أخرجاه في الصحيحين - وعليه فإن للإمام أن ينفل ما شاء بما يشاء ولمن شاء قبل التخميس ، وإن حادثة بدر هذه أول حادثة وقعت بين حضرة الرسول نفسه وأصحابه وبين مشركي العرب من أهل مكة ، وهي أول حرب شهدها حضرة الرسول.
قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» خافت وضعفت هيبة لجلال ربهم واستعظاما لعزة سلطانه «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» ويقينا وطمأنينة تفيد هذه الآية أن الإيمان يزيد وينقص وهو ما اعتمدته قبلا وذكرت أن الخلاف فيه بين الأشاعرة والماتريدية لفظي ، لأن الإيمان من حيث هو إيمان لا يزيد ولا ينقص ، ومن حيث الأعمال فلا شك أنه يقبل الزيادة ويتعرض للنقصان ، لأن ذا الأعمال الصالحة أكمل إيمانا من غيره ، فإذا كان الإيمان تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان واعتقادا بالجنان فمن هذه الحيثية لا يزيد ولا ينقص ، وإذا كان مع ذلك عملا بالأركان وفعلا بالجوارح فإنه يزيد وينقص حتما ، وإذا قبل الزيادة فإنه يقبل النقص ، فلا وجه لقول من يقول إنه يقبل الزيادة فقط.
ولهذا أجاز الشافعي للرجل أن يقول : أنا مؤمن إن شاء اللّه ، وأوجب أبو حنيفة أن يقول : أنا مؤمن حقا وأن من وصل الاستثناء في هذه الجملة فهو مشرك في إيمانه ، وقدمنا في الآية 5 من سورة البقرة المارة ما يتعلق في هذا البحث بصورة واضحة ، وله صلة في الآية 125 من سورة التوبة الآتية فراجعها.
ثم زاد في وصف أولئك المؤمنين فقال «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (2) في أمورهم فلا يخشون ولا يرهبون غيره ، ولا يعتمدون إلا عليه.
هذا ، ولما كان الخوف والرجاء والخضوع والخشية عند ذكر اللّه تعالى وزيادة الإيمان واليقين عند تلاوة القرآن والتوكل على اللّه والتفويض إليه عند العزم على الأعمال والأفعال ، وهذه كلها من أعمال القلوب ، وهي من كنوز البر التي عدها الإمام الشافعي رحمه اللّه في قوله : (5/273)
ج 5 ، ص : 274
يا من تعزز بالدنيا وزينتها والدهر يأتي على المبنيّ والباني
ومن يكن عزّه الدنيا وزينتها فعزّه عن قليل زائل فاني
واعلم بأن كنوز الأرض من ذهب فاجعل كنوزك من برّ وإحسان
ثم أتبعها بما هو من أعمال الجوارح فقال جل قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» بأوقاتها مكملين شروطها وأركانها «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)» في وجوه البر والقربات «أُولئِكَ» الجامعون لهذه الصفات الخمس الحسيّة والمعنوية «هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» وصدقا الكاملو الإيمان قولا فعلا «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» في جنته العالية على حسب كمال إيمانهم وصلاح أعمالهم «وَمَغْفِرَةٌ» لذنوبهم بأن يبقيها مستورة في الدنيا فيما بينه وبينهم ولا يفضحهم عليها بالآخرة كرما منه ، ولا يؤاخذهم بها «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)» لهم في مقعد صدق لا يكدره كد الكسب وهم المعيشة ، ولا يشوبه خوف الحساب ، ولا يعتريه توهم الفقر ، ولا يتطرق إليه مظنة النفاد ، الملازمات لرزق الدنيا.
وان ما ذكر هو للمؤمنين بالآخرة حق لا مرية فيه «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ» من المدينة إلى بدر إخراجا «بِالْحَقِّ» الوحي إليك من لدنه.
وهذه الآية هي المشيرة إلى غزوة بدر التي وعد اللّه بها رسوله النصر ، وهي مرتبطة بالآية الأولى من هذه السورة ، وما بينهما من الآيات معترضات فهي من باب المقدم والمؤخر «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» بك وبربك وكتابك من أصحابك «لَكارِهُونَ (5)» خروجهم معك لقتال أعدائك الكافرين بسبب قلة عددهم وعددهم ، ولم يعلموا أن الذي أخرجك من بيتك ما أخرجك إلا ليجعل النصر حليفك والظفر قرينك «يُجادِلُونَكَ» كراهية القتال ، لأنهم لم يتمرنوا عليه ، ويتصورون بأنفسهم أنك لم تدرب على القتال أيضا ، لأنهم لم يعهدوك قاتلت قبل ، وإن جدالهم لك «فِي الْحَقِّ» الذي أمرناك به «بَعْدَ ما تَبَيَّنَ» لهم أنك لا تعمل شيئا من نفسك لا يليق بهم بعد ما رأوا من صدقك وعدم استدراك شيء من عندك ، وتراهم وهم سائرون معك «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)» الموت بأعينهم ، شبه حالهم في فرط فزعهم بحال من يقدم للقتل وهو ينظر إلى دواعيه ويعلم أنه ميت ، ولا أبلغ من هذا(5/274)
ج 5 ، ص : 275
التشبيه أبدا «وَ» اذكر يا سيد الرسل لقومك نتيجة ما هم كارهون الذهاب إليه مقدما ، ليطمئنوا ويسكن فزعهم ، وقل لهم «إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ» في غزوتكم هذه التي أنتم كارهون الذهاب إليها «إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ» طائفة أبي سفيان مع العير أو طائفة أبي جهل مع النفير «أَنَّها لَكُمْ» وان اللّه يعلمه أيهما تختارون «وَتَوَدُّونَ» أيها المؤمنون المتقاعون عن الذهاب مع رسولكم «أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ» أي طائفة أبي سفيان والعير «تَكُونُ لَكُمْ» إذ لا سلاح فيها ولا قتال ، لأنكم تجنحون إلى سفساف الأمور طلبا للفائدة العاجلة «وَيُرِيدُ اللَّهُ» لكم طائفة أبي جهل والنفير لتقاتلوهم وتكسروا شوكنهم ، لأن اللّه يختار لكم معالي الأمور من النصر وعلو الكلمة ليعلي شأنكم «أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» التي سبقت بوعد النصر إلى رسوله والظفر بأعدائه «وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» (7) ويهلكهم فلا يبقي لهم شأنا ، ويريد أيضا «لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ» فيمحقه ويدحضه فيمحو الكفر ويظهر الإسلام ويثبته «وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)» ذلك وهو كائن لا محالة رغم أنوفهم.
قال ابن عباس وغيره في سبب نزول هذه الآيات : إن أبا سفيان أقبل من الشام في أربعين راكبا من قريش ومعهم تجارة كبيرة ، وقد أخبر اللّه بهم نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ، فانتدب لهم أصحابه ، فخف بعضهم وثقل بعضهم لظنهم أنه لم يلق حربا بعد ، ولم يعلموا أن اللّه تعالى علمه كل شيء ، كما ظهر لهم بعد ، فسمع أبو سفيان بمقدم الرسول وأصحابه ، فأرسل قمقما بن غراز الغفاري ليستفز أهل مكة ويخبرهم الخبر ، فرأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا قصتها على أخيها العباس وهي أنها رأت راكبا وقف بالأبطح وصرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا غدر إلى مصارعكم في ثلاث ، وان الناس اجتمعت اليه ودخلوا المسجد ثم صرخ ذلك الصارخ من أعلى الكعبة وعلى رأس أبي قبيس بما صرخ به أولا ، وأرسل صخرة أرفضت بأسفل الجبل لم يبق بيت إلا دخله فلقة منها ، فقال اكتمها انها لفضيلة ، وذكرها للوليد بن عتبة ، واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه وفشت في قريش ، وكل سرّ جاوز الاثنين شاع ، أي خرج من الشفتين ، إذ في كتمانه بقاؤه في القلب ، وقيل جاوز الرجلين وليس بشيء لأنه إذا جاوز(5/275)
ج 5 ، ص : 276
صاحبه فشا فكيف بغيره ، راجع الآية 7 من سورة الروم ج 2 ، قالوا ثم بينما العباس يطوف بالبيت استدعاه أبو جهل بن
هشام فقال له يا بني عبد المطلب ما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ، سنتربص هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة في رؤياها ، فإن كانت حقا فيكون ، وإلا سنكتب كتابا بأنكم أكذب أهل بيت في العرب ، ولما لم يرد عليه العباس جاءه نساء بن المطلب وقلن له أقررت لهذا الخبيث أن يقع في رجالكم حتى تناول النساء ، ولم يكن عندك غيره ، فذهب في اليوم الثالث وأقسم ليتعرضنّه ، ودخل المسجد وأراد أن يمر عليه ، فإذا هو يسمع صوت قمقم يصيح يا معشر قريش اللطيمة تعرض محمد لأموالكم ، ولا أرى أنكم تدر كونها الغوث الغوث ، وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه ، وهذه من شأن المستغيث المستهلك علامة عندهم على صدق أخباره ، قال فشغل عني وتجهز أشراف قريش إلا أبا لهب أرسل عنه العاص بن هشام بن المغيرة ، وقد اجتمعت للسير ، ثم ذكرت بعضها ما بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحروب ، وخافت أن تخلفهم على أموالهم ونسائهم ، فتصوّر لهم الشيطان بصورة سراقة بن مالك بن خشعم من أشراف بني بكر ، وقال لهم إني جار لكم من كنانة كما سيقصه اللّه بعد في الآية 47 من هذه السورة ، وخرجوا مسرعين ، وخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بأصحابه لليال مضت من رمضان ، وأتاه الخبر بمسير قريش ، فأرسل العيون ثم نزل عليه جبريل في هذه الآية وما بعدها ، فاستشار أصحابه إلى أيهما يمضي أللعير أم للنفير ، فقال أبو بكر وعمرو المقداد ، امض يا رسول اللّه لما أردت فنحن معك ، ولا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغمار (مدينة بالحبشة) لجادلنا معك من دونه حتى نبلغه.
فدعا لهم بخير ، ثم قال أشيروا علي أيها الناس ، فقال سعد بن معاذ كأنك تريدنا يا رسول اللّه ؟ قال أجل (وذلك أنه لم ير على الأنصار وجوب نصرته خارج بلادهم ولم يعاهدهم أو يعاهدونه على ذلك ، فأحب أن يختبرهم ، لأن مبايعته لهم كانت مختصرة على ما يقع عليه في ديارهم) ، قال امض لما أمرت به يا رسول اللّه فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا أحد ، وإنا(5/276)
ج 5 ، ص : 277
لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ولعل اللّه أن يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسرّ بذلك وساروا على بركه اللّه.
روى مسلم عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب حدثه عن أهل بدر ، قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس ، يقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء اللّه ، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء اللّه ، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء اللّه ، فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها رسول اللّه لهم.
قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض ، فانطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حتى انتهى إليهم ، فقال : يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم اللّه ورسوله حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني اللّه حقا ، فقال عمر يا رسول اللّه كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا راجع الآية 22 من سورة فاطر في ج 1 والآية 46 من سورة المؤمن في ج 2 تجد ما يتعلق في هذا البحث.
قال تعالى «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» في قتال بدر.
وقد خاطبه اللّه تعالى بلفظ الجمع تعظيما لحضرته.
روى مسلم عن ابن عباس ، قال حدثني عمر بن الخطاب قال :
لما كان يوم بدر نظر رسول اللّه إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، فاستقبل نبي اللّه القبلة ثم مد يده فجعل يهتف بربه يقول اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبه ، فأتاه أبو بكر فأخذ بردائه وألقاه على منكبه ، ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي اللّه كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك إن شاء ، فأنزل عليه «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)» غيرهم وراءهم مثلهم أو أكثر ، لأن الردف أغلبه واحد ، وقد يكون اثنين عند البشر ، أما الملائكة فلا تحديد لردفهم.
واعلموا أيها المؤمنون أن هذا الإمداد ما كان «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى » لكم بالنصر والظفر «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» هيئه وأرسله إليكم «وَمَا النَّصْرُ» في الحقيقة لكم «إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لا من الملائكة ولا من غيرهم وإنه لو لم يرسلهم لنصركم بأمر من عنده(5/277)
ج 5 ، ص : 278
تحقيقا لوعده ، وما كان إمدادكم بهم للنصر ، وإنما هو للاطمئنان والبشارة فقط «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» منيع الجانب قوي غالب لا يقهره شيء «حَكِيمٌ (10)» في تدبيره ونصره لأوليائه على أعدائه.
روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال يوم بدر (بعد ما ناشد ربه) هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب.
قال ابن عباس كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ، ويوم حنين عمائم خضر ، ولم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا.
واذكر يا محمد لقومك أيضا «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» من اللّه لكم من عدوكم طمأنينة لقلوبكم ورأفة لأنفسكم وإزالة لرعبكم إذ كنتم في سهر من خوف عدوكم ، وهذه نعمة عظيمة ، لأن وقوعه في الحرب أمر خارق للعادة ، لأن زمن الحرب وقت رهبة وخشية لا يتصور فيه حدوث النوم «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ» ويطفىء غبار الأرض ويلبدها ، وذلك أن المشركين سبقوهم إلى بدر ونزلوا عليه ، ونزل المسلمون على كثيب رمل ولا ماء عندهم ، وأصبحوا لا يجدون ما يشربون ولا ما يتوضئون ويغتسلون به ، فلما أرسل لهم المطر طابت نفوسهم واستدلوا بهذه النعمة الثانية على أن اللّه تعالى ناصرهم على عدوهم «وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ» ثقله الحاصل على أثر انتباهكم من النوم ووسوسته التي ألقاها في قلوب بعضكم من أنه لو كنتم أولياءه لما غلبكم المشركون على الماء.
وقال بعض المفسرين انهم كانوا مجتبين بدليل التشديد في قوله (لِيُطَهِّرَكُمْ) إذ يطلق غالبا على المبالغة في الطهارة ويراد بها الجنب ، ولكن التفسير الأول أولى لأنه يشمل الجنب وغيره «وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ» برباط الصبر حتى لا يدخلها الجزع ، والربط هو الشد فكل من صبر على أمر فقد ربط نفسه «وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)» لئلا تسوخ في الرمل فضلا عن تلبده وتقويته ومنع الغبار من الأرض ، وأذكر أيضا «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ» بالنصر والمعونة والهيبة والهداية والروعة والدهشة في قلوب الأعداء «فَثَبِّتُوا» أيها الملائكة وقروا قلوب «الَّذِينَ آمَنُوا» بتكثير سوادهم وقتال أعدائهم ، ولا ترعووا فإني «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» منكم والخوف(5/278)
ج 5 ، ص : 279
في قلوبهم ، ولما لم تعرف الملائكة كيفية القتل علمهم اللّه تعالى بقوله «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ» أي رءوس المشركين «وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)» الأطراف والمفاصل ، وأصل البنان رءوس الأصابع ولكنها تطلق على ما ذكر من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، وخصت بالذكر لأن الفارس يمسك بها سلاحه ويقاتل بها ، ومن قال إن الضمير في (فَاضْرِبُوا) يعود للمؤمنين فلا يكاد يصح لما فيه من البعد ومخالفتة سياق التنزيل ومغايرته للخطاب في سياق الآية وسياقها ، ومما يؤيد هذا ما قاله ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يومئذ (يوم بدر) يشتد (يعدو من عدا إذا أسرع) في إثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم ، إذا نظر إلى المشرك أمامه خرّ مستلقيا ، فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السيف ، فأحصى ذلك أجمع ، وجاء فحدث بذلك رسول اللّه ، قال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة ، فنصرهم اللّه نصرا مؤزرا ، وقتلوا سبعين ، وأسروا سبعين مثلهم من المشركين ، وهذا القتل والأسر يعد كثيرا جدا بالنسبة لذلك الزمن وعدده وعدده ، وانتهت المعركة بهذا وأعز اللّه جنده ، وصدق وعده ونصر عبده.
وما روي عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال : إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أن قد قتله غيري.
وما روي عن سهل بن الأحنف قال :
لقد رأيتنا يوم بدر وان أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وروى مقسم عن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو ابن سلمة ، وكان رجلا مجموعا ، وكان العباس جسيما ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لقد أعانك عليه ملك كريم.لِكَ»
الذي وقع لكم من النصر والظفر أيها المؤمنونِ أَنَّهُمْ»
أي المشركينَ اقُّوا»
خالفوا وجادلوا وخاصمواللَّهَ وَرَسُولَهُ»
وجانبوهما وصاروا في شق عنهماَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ»
القادر من إيقاع القهر والانتقامَ رَسُولَهُ»
المؤيد من لدنه بالنصر والإحكامَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)»
لهذا المخالف في الدنيا والآخرة وهو صعب الأخذ (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) راجع الآية 103 من سورة هود في ج 2.
هذا ، وليعلم(5/279)
ج 5 ، ص : 280
أن ما أصابهم من القتل والأمر والنهب والسبي ليس بشيء بالنسبة لما خبىء إليهم من العذاب «ذلِكُمْ» الذي أصابكم من الغلب والاندحار «فَذُوقُوهُ» معجلا لكم أيها المشركون «وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ» منكم الذين يموتون على كفرهم عذاب أشد وأقسى وأعظم وهو «عَذابَ النَّارِ» (14) في الآخرة التي لا تقواها القوى البشرية.
ولما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضوان اللّه عليهم من حادثة بدر قيل له إذ وفقك اللّه على النفير فعليك بالبعير إذ تركت وليس دونها أحد ، قال قتادة فناداه العباس من وثاقه لا يصلح لك ، لأن اللّه وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك ، قال صدقت - أخرجه الترمذي - .
وكانت هذه الحادثة يوم الجمعة في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً» قادمين عليكم ، والزحف انبعاث مع جر الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي (وتقول العامة يحبو) وسمي به الجيش الدّهم المتوجه إلى العدو لتكاثفه ، فيرى لكثرته كأنه يزحف زحفا إذ يكون كالجسم الواحد في تراصه ، فيظن رائيه أنه بطيء الحركة مع أنه مسرع ، انظر إلى فلكة المهواية ودواليب المحركات وصدور الرحى وكل متناه في السرعة تراه كأنه واقفا ، قال تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) الآية 88 من سورة النمل في ج 1 ، وقيل في المعنى :
وأرعن مثل الطود تحسب أنه وقوف لجاج والركاب تهملج
أي إذا رأيتم أيها المؤمنون أعداءكم مقبلين عليكم على هذه الصورة فاستقبلوهم بصدوركم «فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15)» فتنهزمون أمامهم وتعطونهم ظهوركم فإنهم يستخفونكم ويلحقونكم فيدركونكم ويستأصلونكم ، ثم هدد اللّه تعالى الهارب من عدوه على هذه الصفة بقوله «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ» ظهره فرارا منهم يوم الزحف واشتداد المعركة «إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ» بأن يري عدوه الانهزام بقصد الكرة عليه أو يستدرجه فيطوقه من ورائه أو ينوي ضربا آخر من ضروب الحرب ومكايده وخدعه ، لأن الحرب خدعة يجوز فيه ما لا يجوز في غيره ، لأنه بعد أن استحل فيه سفك الدماء فلأن يحل فيه غيره من باب أولى.(5/280)
ج 5 ، ص : 281
ثم ذكر جل شأنه عذرا آخر في جواز الانسحاب إلى الوراء في اشتداد أزمة الحرب فقال «أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ» بقصد الانضمام إلى جماعة يريدون الهجوم على العدو من جهة أخرى ، أو يريدون قتاله من مكان آخر ، أو يريد أن يجابه العدو مع تلك الجماعة ، أو بضرب آخر من فنون الحرب التي يراها ، فهاتان الحالتان وما يتفرع عنهما جائز فيهما وفيما يراه من الطرق الأخرى التقهقر والهروب صنيعة بل هما مطلوبتان لما فيهما من النفع ومثاب عليهما فاعلهما ، أما إذا كان انهزامه لمجرد الخوف والرهبة «فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» والعياذ باللّه ، فإنه يرجع بالذم في الدنيا والعقاب في الآخرة بدل المدح والسعادة في الدنيا والشهادة والرضاء في الآخرة ، لأن فعله هذا يكسر معنويات الجيش ويقوي جنان العدو فيسبب الذل والهوان والخزي والعار في الدنيا «وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ» في الآخرة «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)» مصير أهلها ولما نصر اللّه عباده في واقعة بدر وكان ثابتا في علمه أنهم سيلاقون حروبا أخرى ، وانها قد تكون سجالا بينهم (أي لهم وعليهم) فقد حثهم في هذه الآية على الثبات وحذرهم من الهزيمة ، وهذه الآية محكمة وحكمها عام في كل منهزم إلى يوم القيامة لأنها مصدرة بخطاب المؤمنين ومطلقة باقية على إطلاقها لم تخصص ولم تقيد ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن الفرار من الزحف من السبع الموبقات التي أمر الرسول باجتنابها ، وما قيل إنها منسوخة بآية (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) قيل لا صحة له ، لأن هذه الآية مقيدة ومخصصة للتي قبلها كما سيأتي ، ثم ان المؤمنين بعد أن عادوا من بدر واستقروا في المدينة صاروا يتفاخرون بينهم مثل عادة الكفرة ، هذا يقول قتلت فلانا ، وهذا يقول أسرت فلانا ، وهذا يقول رميت فلانا ، فأنزل اللّه ردّا لهم كلهم «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ» لا أنتم ، لأنه هو الفاعل الحقيقي ، وهو
الذي أمدكم بملائكته وأمركم بقتالهم وتعهد لكم بالنصر ، ولو ترككم وشأنكم لما قاتلتم ولا قتلتم وكان جبريل عليه السلام قال لحضرة الرسول أثناء اللقاء خذ قبضة من تراب وارم بها الكفرة ففعل وقال شاهت الوجوه (يعني قبحت) فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه من ذلك التراب وسبب انهزام المشركين فأنزل اللّه «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ»(5/281)
ج 5 ، ص : 282
المشركين بقبضة التراب «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى » إذ أمر الريح بإيصاله لكل منهم ، وهو الذي أمر جبريل أن يقول لك ذلك فهو المسبب الحقيقي لإصابة رميتك وجوه الكفار كافة حتى دخل أعينهم ومناخرهم ، لأنك لا تقدر على ذلك ، وإنما كنت سببا ظاهرا ، وإذا كان اللّه تعالى يقول لحبيبه بأنه لم يرم وإنما الرامي هو جل جلاله ، فلأن لا يفتخر أصحابه بما وقع منهم في هذه الحرب من قتل وأسر ونهب ورمي وسلب من باب أولى ، لأن اللّه هو الذي أقدرهم على ذلك فنصرهم وخيب أعداءهم «وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ» فينعمه عليهم «بَلاءً حَسَناً» جميلا وقد فسر عامة المفسرين هذا البلاء بالنعمة ، ويجوز تفسيره بالاختبار ، أي أنه اختبرهم بهذه الحادثة اختبارا حسنا فكانوا عنده كما هم في علمه «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما تقولون أيها المؤمنون «عَلِيمٌ (17)» بما تضرونه لا يخفى عليه حالكم «ذلِكُمْ» البلاء الذي اختبركم اللّه به هو منه وحده «وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ» مضعف وما حق «كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)» ومبطل مكرهم وحيلهم.
قالوا لما خرج المشركون لقتال بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم إن كان محمد على الحق فانصره ، وإن كنا على الحق فانصرنا ، وقال أبو جهل لما صار اللقاء اللهم أنصر أهدى الفئتين وخير الفريقين وأفضل الجمعين ، اللهم من كان أفجر
واقطع لرحمه فأحنه (ألوه واكسره) اليوم.
فأنزل اللّه «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» ، وهذا خطاب لهم على سبيل التهكم بهم ، وقد مر أن ذكرنا أن الفتح بمعنى القضاء والحكم ، أي أن تستحكموا اللّه على ما قلتم فقد جاءكم حكمه ، فعليكم أن تتيقنوا أن محمدا أحق منكم وأوصل الرحم وأهدى الفئتين وخير الفريقين وأفضل الجمعين هو وأصحابه ، ولذلك فقد أجبت دعاءه وخيبتكم ونصرته عليكم ، فآمنوا به وأطيعوه «وَإِنْ تَنْتَهُوا» من الآن عن الكفر باللّه وتكذيب رسوله ومقاتلته «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم «وَإِنْ تَعُودُوا» لقتال رسولكم وتصروا على تكذيبه بعد أن شاهدتم كيفية نصرته عليكم وتوفيقه وتأييده من عند ربه ، ولم ترجعوا عن الكفر وتؤمنوا به «نَعُدْ» لأمره ثانيا بقتالكم وننصره عليكم أيضا ، وهكذا حتى تؤمنوا أو(5/282)
ج 5 ، ص : 283
تقتلوا «وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ» وجماعتكم مهما كانت من اللّه «شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ» فإن اللّه تعالى عنده أكثر وأكثر مما ترون ومما لا ترون «وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)» لا يتخلى عنهم لأنهم أولياؤه ، واللّه نعم الولي عليهم ونعم النصير.
قال تعالي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فيما يأمركم به من الجهاد وغيره ، وابذلوا أموالكم وأنفسكم في سبيله «وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ» وتعرضوا عما يأمركم به وتفعلوا ما ينهاكم عنه «وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)» أي لا تنصرفوا عنه بوجه من الوجوه وحال من الأحوال ما دمتم سامعين هذه الآيات الناطقة بوجوب الطاعة والنهي عن المخالفة ، والواو في (وَأَنْتُمْ) للحال ،
«وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا» بألسنتهم «سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)» سماع قول إجابة ، لأن هذا الصنف من المنافقين المار ذكرهم في الآية 8 فما بعدها من البقرة فإنهم يقولون آمنا بألسنتهم وهم غير مؤمنين في قلوبهم.
ثم ندّد جل شأنه عمّن هذه صفته فقال «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22)» ما يراد بهم ولا يفهمون ما يطلب منهم ، لأن من أشر من يدب على الأرض البهائم لعدم معرفتها بما يضرها وينفعها ومن هو لها ومن هو عليها ومن أشرها الذين لا يسمعون الحق ولا ينطقون به ولا يفقهون المعنى ولا يعون المغزى مما يخاطبون به «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ» أي هؤلاء المنعوتين بتلك الصفات الذميمة «خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» سماع قبول سماع المصدقين المحبين المنتفعين بحواسهم ، لكنه تعالى لم يعلم الخير فيهم من قبل ، ولهذا قال «وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ» بواسطة رسوله بعد أن علم أن لا خير فيهم وأنهم لم ينتفعوا بما يسمعون لأنهم خلقوا أشرارا ولا يتوخى منهم إلا الشر ، ولذلك لو فرض إسماعهم «لَتَوَلَّوْا» عنه ولم يلتفتوا إليه «وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)» كأنهم لم يسمعوا شيئا ، نزلت هاتان الآيتان في نفر من عبد الدار بن قصى كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد ، وكانوا يقولون يا محمد أحيي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك ، فأخبر اللّه تعالى أنهم لا يؤمنون ، ولو أحيينا لهم قصيا وأمرهم بالإيمان بمحمد.(5/283)
ج 5 ، ص : 284
مطلب وجوب الاستجابة لدعوة اللّه ورسوله وآيات الصفات وعموم البلاء عند سكوت أهل الحل والعقد :
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ» بالانقياد والطاعة «إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» حياة أبدية وهي الجهاد في سبيل اللّه والإيمان به والتصديق برسله وكتبه لأن في هذه الحياة العزة في الدنيا والنعيم في الآخرة ، وفي ترك الجهاد الذل والموت المعنوي الذي هو شر من الموت الحقيقي «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» فلا يستطيع أحد أن يؤمن أو يجرؤ على الجهاد أو ينفق ماله في سبيل اللّه ، إلا بإذنه ، أي قاتلوا وآمنوا فإنه تعالى يبدل خوفكم أمنا ، وجبنكم جرأة وكفركم إيمانا وبخلكم جودا ، لأن أحوال القلوب اعتقادات ودواعي ، ولا بد من أن تتقدمها الإرادة ، ولا بد للإرادة من فاعل مختار ، والفاعل المختار المتصرف في القلوب المقلّب لها كيف يشاء هو اللّه وحده.
روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء.
ولذلك كان صلّى اللّه عليه وسلم يقول في دعائه : اللهم مصرف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
وهذا من أحاديث الصفات فيجب على المؤمن أن يعتقد فيه كما جاء مع تنزيه اللّه تعالى عما هو من سمات الآدميين ، لأن اللّه جلت قدرته ليس له جوارح كجوارحنا ، وليس كمثله شيء أبدا ، راجع الآية 210 من سورة البقرة المارة ، ونظير صدر هذه الآية الآية 10 فما بعدها ، من سورة الصف الآتية.
فاعلموا أيها الناس هذا «وَ» اعلموا «أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)» غدا لا لغيره فمصير الكل إليه وهناك يجازى العاصي ويكافيء الطائع.
قال تعالى «وَاتَّقُوا فِتْنَةً» عذابا عظيما وذنبا كبيرا وعملا فظيعا وداهية كبرى «لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» فلا تقتصر على الظالمين بل تتعداهم إلى غيرهم ، لأن البلاء يعم والخير يخص ، وذلك إذا أصر المنكر على إنكاره والمداهن على مداهنته والمنافق على نفاقه ، ولم يأمر العالمون والأبرار بالمعروف وينهوا عن المنكر وسكتوا على تفريق الكلمة ، ولم يقمعوا البدع والمحدثات المخالفة للشرع ، وكسلوا عن الجهاد ، (5/284)
ج 5 ، ص : 285
فيكونون راضين بذلك كله ، والراضي بالشيء كفاعله ، ولهذا يعمهم اللّه بعذابه.
أخرج أبو داود وذكر ابن الأثير في جامع الأصول عن عدي بن عميرة الكندي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها.
وأخرج ابن جرير بن عبد اللّه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولم يغيروا إلا أصابهم اللّه بعقاب قبل أن يموتوا.
لأن سكوتهم مع القدرة رضى منهم أو تهاون بحدود اللّه ، ولذلك هددهم اللّه بقوله «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)» إذا عاقب فاتقوا عقابه أيها الناس ولا تسكتوا على انتهاك حرماته ما قدرتم وتعاونوا على البر والتقوى بالفعل وعدم الرضى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان بالسكوت والرضى على المخالفات مهما استطعتم.
روي عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
راجع الآية 165 من الأعراف في ج 1 والآية 87 من سورة المائدة الآتية.
قال تعالى «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ» أيها المؤمنون «مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ» من قبل كفار مكة وغيرهم قبل أن تهاجروا إلى المدينة ومن قبل أنتم وغيركم مستضعفون من قبل فارس والروم وكنتم سواء في الكفر ، وبسبب ضعفكم كنتم «تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ» فيقتلونكم ويسبونكم «فَآواكُمْ» اللّه أولا إلى حرمه ثم إلى المدينة وأعزكم بالإسلام «وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ» على عدوكم «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» من غنائم الحرب لما فيها من اللذة القلبية وعلو الكلمة والكرامة «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)» نعم اللّه فيزيدكم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَ» لا «تَخُونُوا أَماناتِكُمْ» التي اؤتمنتم عليها من قبل الغير قليلة كانت أو كثيرة ، وسواء كانت فيما بينكم أنفسكم أو بين الناس وبين اللّه ورسوله لعموم اللفظ.
وسبب نزول هذه الآية على أقوال منها ما أخرجه أبو الشيخ عن جابر بن عبد اللّه أن أبا سفيان لما خرج من مكة وقد أخبر جبريل بمخرجه رسول اللّه فقال إن أبا سفيان بمكان(5/285)
ج 5 ، ص : 286
كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا ، فكتب رجل من المنافقين إليه بذلك فنزلت.
وقال السدي : كانوا يسمعون الشيء من الرسول فيفشونه فنهوا عن ذلك بهذه الآية.
مطلب فيما عدّ خيانة على سفير رسول اللّه.
والآيات المكية النازلة بالهجرة وعلى أي صورة نسخ القرآن العظيم :
وذكر الزهري والكلبي أنه لما هاجر رسول اللّه يهود بني قريظة في غزوته السابقة الكائنة في السنة الخامسة من الهجرة التي أشار اللّه إليها في الآية 27 من سورة الأحزاب الآتية سألوه الصلح على ما صالح عليه بني النضير في غزوته الخامسة الواقعة في السنة الرابعة التي أشار إليها اللّه في الآية الثانية من سورة الحشر الآتية بأن يهاجروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، قالوا وطلبوا منه أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر ليسترشدوا برأيه إذ كان وماله وعياله وولده عندهم ، فأرسله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كسفير من قبله لعقد الصلح الذي طلبوه ، فأتاهم فقالوا له أننزل على حكم سعد بن معاذ كما طلب رسولكم ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، أي لا تفعلوا فإنه الذبح ، وكان عليه أن يقول لهم امتثلوا أمره أو أرجوه أن يختار لكم غيره ، لا أن يخبرهم بما سيقع عليهم وهم أعداء اللّه ورسوله والمؤمنين.
ولا يحتج هنا بقول الرسول المستشار مؤتمن ، لأن الخدعة مطلوبة بالحروب كما مر آنفا في الآية 16 ، وبإشارته هذه يعتبر أنه قد خان اللّه ورسوله ورسالته التي أرسل بها ، ولما عرف أبو لبابة ذلك وقال واللّه ما زالت قدماي عن مكانهما حتى علمت أني خنت رسالتي وخنت اللّه ورسوله ، لذلك لم أرجع منهم إلى رسول اللّه بل انطلقت إلى المسجد رأسا وشددت نفسي على سارية وحلفت أن لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب علي اللّه ، فلما بلغ ذلك حضرة الرسول قال أما لو جاء لا ستغفرت له ، أما أن فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب اللّه عليه ، فبقي سبعة أيام ، وأغشي عليه من الجوع والعطش ، ثم تاب اللّه عليه فأخبر فقال إلا أن يأتي رسول اللّه فيحلني بيده ، فجاء إليه وحلته ، فقال يا رسول اللّه إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أذنبت فيها وأن أنخلع من مالي كله ، فقال(5/286)
ج 5 ، ص : 287
لا ، يجزيك أن تتصدق بثلثه ، فنزلت هذه الآية وهي الأوفق بسبب النزول بالنسبة لسياقها ، ولهذا ختمها اللّه بقوله «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)» أن عدم النصح للّه ورسوله فيما تؤتمنون عليه خيانة عظيمة ، وأنزل اللّه فيه أيضا «وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
تسبب إيقاعكم فيها ، لأن أبا لبابة ما حمله على تلك الخيانة إلا وجود أمواله وأولاده عند يهود قريظة «وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)»
فبالأحرى أن تحرصوا على ما عند اللّه وتزهدوا فيما عندكم ، ومن هنا يعلم أن هذه الآيات من 26 - 28 نزلت بعد سورتها لما علمت من تاريخ الحادثة ، وفيها تنبيه على أن سعادة الآخرة ثواب اللّه تعالى وأن في أداء الأمانة الأجر الجزيل عند اللّه وحسن الظن به عند الناس ، وسنأتي على ما يتعلق بها في الآية 58 من سورة النساء بصورة مفصلة إن شاء اللّه تعالى ، كما سنذكر قصة بني قريظة في سورة الأحزاب الآتية أيضا.
وتشير هذه الآية إلى أن الكلام عند سامعه أمانة أيضا ، فليحذر الأمين عليه عقاب اللّه المترتب على إفشائه ، ولهذا قالوا لا فرق بين من يفشي سرا أؤتمن عليه ومن يخنلس مالا استودعه ، راجع الآية الأخيرة من سورة الأحزاب الآتية.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ» وتخافوه في جمع أموركم «يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» فصلا بينكم وبين أعدائكم ويقيكم منهم ويخولكم نصرا عليهم وظفرا بهم وتوفيقا ونجاة في الدنيا «وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» بالآخرة «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم ويستر عيوبكم فيها فلا يفضحكم بكشف ما وقع منكم «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)» على عباده.
واعلم أن الآيات المكيات التي نزلت قبل سورتها هذه أواخر صفر السنة الثالثة عشرة من البعثة وعلى أثرها هاجر حضرة الرسول من مكة إلى المدينة كما أشرنا إليها في قصة الهجرة بعد سورة المطففين آخر الجزء الثاني هي قوله تعالى «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من رؤساء قريش وغيرهم والشيخ النجدي مع أنك بعثت رحمة لهم ، وقد أجمعت كلمتهم على التخلص منك «لِيُثْبِتُوكَ» يوثقوك ويحبسوك «أَوْ يَقْتُلُوكَ» وهو ما قرّ عليه رأيهم «أَوْ يُخْرِجُوكَ» من بلدك ينفوك ويبعدونك عنه «وَيَمْكُرُونَ» يحيكون(5/287)
ج 5 ، ص : 288
لك المكر ويدبرون المكايد بشأنك «وَيَمْكُرُ اللَّهُ» بما أعده لهم من العقاب لينزله عليهم ويريك الطريق الموجب لخلاصك منهم بما فيه الخير والمصلحة لك وللمؤمنين بك «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)» أقوى وأعظم تدبيرا.
منهم.
وأنفذ وأبلغ تدبيرا وتأثيرا فيهم ، وسمي جزاء اللّه مكرا للمقابلة والمشاكلة ، وقدمنا قسما من قصة الهجرة في الآية 40 من سورة العنكبوت ، وكان فيها الخير والكرامة له ولأمته إذ كان ما وعده اللّه به من النصر وانتشار الدعوة متوقفا عليها ، وإلا لما هاجر ، لأن أكثر أهل مكة من أقاربه وبوسعهم حمايته ممن عاداه وناوأه منهم ، فضلا عن أنه بحماية اللّه القادر على هلاك من يرومه بلحظة واحدة ، ولو كانوا أهل الأرض كلهم ، لهذا فلا يقال إنه هاجر خوفا من القتل أو غيره ، تدبر هذا واقمع به قول من قال بخلافه وراجع ما ذكرناه في قصة الهجرة من سورتي العنكبوت والمطففين في ج 2.
قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا» كفار مكة عنادا ومكابرة «قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» الذي يتلوه محمد «إِنْ هذا» ما هو «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)» خرافاتهم وأكاذيبهم ، كان النضر ابن الحارث بن علقمة من بني عبد الدار في بلاد فارس وكان أتى بنسخة من حديث رستم وإسفنديار وأحاديث العجم ، وكان يخالط أهل الكتاب ويسمع منهم ويطلع على عادتهم وعبادتهم ، فقال ما هذا الذي يقوله محمد ويزعم أنه من عند اللّه إلا من ذلك ولو أردت لقلت مثله ، فقال له الرسول ويلك هذا كلام اللّه فكيف تقول مثله ، وهو كقول ابن سرح الذي أشرنا إليه في الآية 93 من سورة الأنعام في ج 2 ، فنعى اللّه عليه كذبه في هذه الآية ، وأنزل في أبي جهل وأضرابه قوله عزّ قوله «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا» الذي يتلوه محمد «هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32)» ولم يقولوا لجهلهم اللهم اهدنا إليه.
وقد نزل في هذا الخبيث بضع عشرة آية منها (سَأَلَ سائِلٌ) فحاق به العذاب ، وقتله يوم بدر حضرة الرسول بيده هو ورفيقه طعيمة بن عدي وعقبة بن معيط ، وشر الناس من يقتله خير الناس ، ثم أشار جلّ شأنه لحضرة الرسول بأن هؤلاء مرصدون بالعذاب إذا هاجرت عنهم بقوله(5/288)
ج 5 ، ص : 289
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» يا سيد الرسل ، أي أن عذاب الاستئصال لا يحل بهم وأنت بين أظهرهم ، لأنك بعثت رحمة لهم وللعالمين أجمع ، وإن إيقاع عذاب الاستئصال على أمة حال وجود رسولهم خارج عن عادة اللّه التي سنها في خلقه.
ويجوز أن يكون المعنى لو كنت فيهم لم يعذبوا بالقتل والأسر في الدنيا لأن منهم من سبقت له العناية بالإيمان كأبي سفيان وصفوان بن أمية وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن خزام وغيرهم ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه أنزل علي أمانين لأمتي (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة - أخرجه الترمذي عن ابن عباس عن أبي موسى الأشعري - .
«وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)» فلو استغفروا لم يعذبهم أيضا ، وقد نزلت هذه الآية لأن كفار قريش قالوا عند نزولها إن اللّه لا يعذبنا ونحن نستغفره ، ولا يعذب أمة ونبيها معها ، فأصروا على ما هم عليه جهلا منهم ، ولم يعدّوا ذلك نعمة عليهم فيرجعوا إلى اللّه ، بل لازمهم الغرور فرد اللّه عليهم بقوله «وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ» أي شيء يمنعه من تعذيبهم بعد خروجك منهم وكيف لا يعذبهم «وَهُمْ يَصُدُّونَ» الناس وأنفسهم «عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» من هم أولى به منهم كالرسول وأصحابه «وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ» أي المسجد كما يزعمون.
وهذه الآية من دلائل النبوة إذ آل أمر البيت بعد نزول هذه الآية بثماني سنين إلى الرسول وأصحابه وجاءت ردا لهم إذ يقولون إنا أولى به منهم «إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ» الكفر والمعاصي لا المقيمون عليها «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)» ذلك جهلا منهم ، وبعضهم يعلم ويقول ذلك عنادا.
روى البخاري ومسلم عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال أبو جهل (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية فنزلت (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية ، قال ولما خرج من بيته حين بعثوا عليه شبانهم ليقتلوه خرج خفية وترك عليا بمكانه وذهب إلى بيت أبي بكر ثم إلى الغار نزلت (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ) الآية.
قال تعالى «وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً» صفيرا «وَتَصْدِيَةً» تصفيقا ومن كانت هذه صلاتهم فليسوا بأهل لأن يكونوا أولياء له ، ولهذا يقال(5/289)
ج 5 ، ص : 290
لهم في الآخرة «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)» في الدنيا وتكذبون الرسل والكتب.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» بين اللّه في الآية السابقة كيفية عبادتهم الدينية بأنها عبارة عن سخرية واستهزاء ، وذكر في هذه الآية عبادتهم المالية بأنها في مناوأة اللّه ورسوله ، ولهذا قال جل قوله «فَسَيُنْفِقُونَها» بهذا القصد عبثا وسدى في الدنيا «ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» وندامة يوم القيامة «ثُمَّ يُغْلَبُونَ» فلا يظفرون بما يؤملون وتكون عليهم خسارة في الدارين ، وأن صدّهم الموقت سيزول ويتولى البيت أهله ، «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» وماتوا على كفرهم «إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)» لا إلى غيرها ، وإنما كان ذلك جزاءهم في الآخرة «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» فينجي الطيب «وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ» يجمعه ويضم بعضه إلى بعض «جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ» فريق الخبثاء «هُمُ الْخاسِرُونَ (37)» أنفسهم وأموالهم المغبونون في الدنيا والآخرة.
وهذا آخر الآيات السبع التي نزلت في مكة قبل الهجرة ، فلم ينزل بعدها شيء فيها ، وهي ثماني آيات ، وقد أمر رسول اللّه بوضعها هنا من هذه السورة بإشارة من الأمين جبريل عليه السلام ، وهو طبق ما هو مدون في لوح اللّه المحفوظ.
وبقية آي السورة هذه كلها مدنية ، وتقديم نزول بعض الآيات على بعض كما هو الواقع بأكثر سور القرآن العظيم المدني منها ، والمكي كان بسبب الحوادث والوقائع والسؤال ، وترتيب الآيات والسور على ما هو ثابت في المصاحف هو الموافق لما في علم اللّه المطابق لما أنزله إلى بيت العزّة ، وان عمل عثمان رضي اللّه عنه مقصور على نسخه في المصاحف وأمر الكتبة الأمناء بإثباته ونقله من الصحف التي كانت عند عائشة رضي اللّه عنها المرتبة يعلم وامر حضرة الرسول ، وتحرير بعض حروف الكلمات على لغة قريش عند الاختلاف بالنطق بها من إمالة وإشباع ومد وقصر وقطع ووصل وهمز وتسهيل وفكّ وإدغام وتفخيم وترقيق وفصل وإيصال وتشديد وتخفيف وما أشبه ذلك مما لا يخالف رسم الكلمة بزيادة حرف أو نقصه ، كما أوضحناه في المقدمة وتطرقنا له عند كل مناسبة كهذه.(5/290)
ج 5 ، ص : 291
قال الكلبي والضحاك ومقاتل : نزلت هاتان الآيتان الأخيرتان في المطعمين يوم بدر وهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البحتري والنضر وحكيم بن خزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر والعباس بن عبد المطلب ، وكان كل منهم يذبح عشر جزر.
قال ابن اسحق إنهما نزلتا في أصحاب العير ، وذلك أنهم لما رجعوا من بدر طاف الذين فقدوا آباءهم على قريش وكلفوهم بالإنفاق عليهم كي يدركوا ثأرهم ، ومعظمه العير كان لأبي سفيان ، وبسببه وقعت حادثة بدر.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد نزلتا في أبي سفيان نفسه ، لأنه جهز ألفين من الحبشة غير الذين استجاشهم لحرب أحد وأنفق عليهم أربعين أوقية من ذهب كل أوقية اثنان وأربعون درهما.
واعلم أن هذه الحوادث الثلاث وإن كانت كل واحدة منها صالحة لأن تكون سببا للنزول ولكن ثبوت كون الآيات نازلة بمكة قبل حادثة بدر بسنتين وحادثة أحد بثلاث سنين ينفي ذلك ، وكون الآيتين مسوقتين على كيفية نفقاتهم بعد بيان كيفية صلاتهم ومشعرتين بالتوبيخ على نوع الاتفاق والإنكار عليه يبعد القول بسبب النزول وسياق الآية الأولى لبيان غرض الإنفاق والثانية لبيان عاقبته يؤذن بأن المراد هو العموم ، وانطباق الحوادث على ما جريات الآيات لا يعني أنها سبب لنزولها ، وعاية ما فيها التشنيع على أعمال الكفار والتباعد عن مثلها والتحذير عن الوقوع فيما يستوجب الذم في الدنيا والعذاب في الآخرة.
قال تعالى «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» يا سيد الرسل «إِنْ يَنْتَهُوا» عن الشرك ودواعيه ويكفوا عن عداوة الرسول وأصحابه ويؤمنوا باللّه إيمانا حقيقيا لا لعرض ولا لغرض عن طيب نفس وحسن نية «يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» من جميع أفعالهم مهما كانت «وَإِنْ يَعُودُوا» إلى حالتهم الأولى التي كانوا عليها قبل حادثة بدر ولم يتعظوا بها ويعتبروا بما حل
بهم فيها ، فلا مناص لهم من عذاب يصيبهم مثل ما أصاب قومهم في بدر ، وهي عادة جرى فيها أمر اللّه بأمثالهم «فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (39)» الذين لم ينتهوا إلى ما يحل بهم بعد أن شاهدوا وسمعوا ما وقع بمن قبلهم ، أي أنه لا بد وأن يجري عليهم من الهلاك والدمار مثل ما جرى على من قبلهم نصرة لنبيه وإعلاء لكلمته ، (5/291)
ج 5 ، ص : 292
كما كان للأنبياء قبله ، وقد أخذ من هذه الآية الكريمة الحكم الشرعي بأن الكافر إذا أسلم لا يلزمه شيء من قضاء العبادات الدينية والمالية ، ويكون كيوم ولدته أمه ، لأن الإسلام يحبّ ما قبله ، كما أن الكفر يحبط ثواب الأعمال الصالحة قبله.
قال تعالى «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي لا يبقى شرك يفتتن به قط «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» بأن يضمحل كل ما يتدين به ويمحى من وجه الأرض عدا دين الإسلام.
راجع نظير هذه الآية الآية 149 من سورة البقرة المارة «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن الشرك ودواعيه وأسلموا للّه وحده «فإنّ اللّه بما تعملون» صرا أو جهرا خالصا أو مشوبا.
وقرئ الفعل بالياء والتاء على الغيبة والخطاب «بَصِيرٌ» بدقائق الأمور لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرسل وأعرضوا عن الإيمان وعادوا لقتالكم مرة ثانية بعد هذه التي استؤصل فيها كبارهم وصناديدهم وبقوا مصرين على الكفر «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» حافظكم منهم وناصركم عليهم وكافيكم شرهم وهو «نِعْمَ الْمَوْلى » لمن يتولاه ويكل أمره إليه «وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)» لمن ينصره ، ألا فليأمن من كان اللّه مولاه وناصره.
مطلب كيفية تقسيم الغنائم وصلاحية الأمر فيها ، ولزوم ذكر اللّه عند اللقاء ، والتمسك بأصول الدين ليتحقق لهم النصر من اللّه :
قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ» توصل ما مع أنّ إذا كانت كافة عن العمل ، وتفصل كما هنا إذا كانت عاملة ، وجملة غنمتم صلة ، والعائد محذوف ، والتقدير أن الذي غنمتموه «مِنْ شَيْ ءٍ» مطلق شيء بدليل التنوين «فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» أي يصرف إلى هؤلاء على هذا الترتيب ، ومعنى الغنم الفوز والظفر ، والغنيمة ما أصابه المسلمون من أموال الكفار عنوة في القتال ، ويكون فيها الخمس لمن ذكر اللّه في هذه الآية ، والأربعة أخماس لمن شهد الواقعة ، أما ما صولح عليه من غير قتال فيكون جميعه لمن سمى اللّه تعالى فيتسلمه أمير المؤمنين ويقسمه بين أربابه ، أما ما يأخذه الإمام من الأعشار والخراج والجزية والمكس ومال من لا وارث له(5/292)
ج 5 ، ص : 293
مسلما كان أو كافرا وبدل المهادنة وتعويض الحرب فيحفظة لديه ليصرفه في مصالح المسلمين وتقويتهم معنى ومادة ، من عدد الحرب وإصلاح الطرق وعمارة القناطر والجسور ودور العجزة واليتامى والمجانين ودور العلم والذّكر وجميع المنافع العامة ، وكيفية القسمة هي أن يقسم الخمس الذي هو للّه خمسة أقسام : خمس لإمام المسلمين وخمس لأقارب الإمام غنيهم وفقيرهم سواء للذكر مثل حظ الأثنين كما كان في زمن الرسول والخلفاء من بعده وهو حق باق ثابت إلى الأبد لثبوته في هذه الآية ولما روي عن جبير بن مطعم قال جئت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقلت يا رسول اللّه أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إنما بنو هاشم وبنو المطلب واحد.
وفي رواية أعطيت بني المطلب من خمس الخمس وتركتنا ، وفي رواية لم يقسم النبي صلّى اللّه عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا - أخرجه البخاري - والدليل على أن غنيهم وفقيرهم سواء ، إعطاء النبي صلّى اللّه عليه وسلم العباس وهو غني.
وخمس لليتامى والفقراء.
وخمس للمساكين والفقراء من غيرهم.
وخمس لأبناء السبيل بفريضة اللّه تعالى.
والأربعة أخماس يقسمها الإمام بين المجاهدين ثلاثة للفارس ، واحد له واثنان لفرسه ، وواحد الراجل.
والدليل على هذا ما رواه ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قسم النفل للفرس سهمين ، وللرجل واحدا.
وفي رواية بإسقاط لفظ النفل ، - أخرجه البخاري ومسلم - ويعطى للعبيد والنساء الذين حضروا الحروب وأعانوا المسلمين بالأكل والماء وحمل السلاح متيسر كما يعطى من حضر القسمة المبينة في الآية 8 من سورة النساء الآتية.
أما الأرض والعقار فللامام أن يجعلها وقفا للمسلمين يتداولونها جيلا بعد جيل ينتفعون بربعها ويحتفظون برقبتها ، وهو أولى من قسمتها بينهم لأنه إذا قسمها الإمام بينهم لم يبق الذين من بعدهم شيء يقيمون به معاشهم لا سيما وإن بيت المال يجب أن يكون دائما مترعا بالأموال لحفظ بيضة الإسلام ، فاعملوا بهذا أيها المؤمنون «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» ورضيتم بحكمه «وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا» المنزل عليه هذه الآيات في هذه «يَوْمَ الْفُرْقانِ» يوم نزوله وهو المسمى بأنه الفارق بين الحق والباطل وقال بعض المفسرين إن الفرقان هو يوم بدر ، لأن اللّه فرق فيه وفصل بين الحق(5/293)
ج 5 ، ص : 294
والباطل ، وكان يوم إنزال القرآن في 17 رمضان يوم الجمعة سنة 41 من الولادة الشريفة ، ويوم بدر يوم الجمعة أيضا في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة ، كما أشرنا إليه في المقدمة ، ولهذا فإن التفسير الأول أولى ، لأن اللّه تعالى القائل (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) لا يهمل يوم إنزال القرآن وهو أعظم من غيره ، لهذا فقد قصده في هذه الآية واللّه أعلم.
وقرن مع يوم بدر لعظمته أيضا ، لأنه أول ظهور عظيم لشأن الإسلام ولمسلمين ، ولذلك قال «يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» جمع المسلمين وجمع الكافرين ، وعليه يكون المعنى أن اليوم الذي أنزل فيه القرآن مثل اليوم الذي التقى فيه الجمعان برئاسة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ورئاسة عتبة بن ربيعة خذله اللّه ، لأن كلا منهما يوم جمعة ويوم رمضان ، ولم يقع اختلاف في هذين اليومين من كونهما يومي جمعة وكونهما في رمضان ، وانما اختلفوا هل كان إنزال القرآن في 17 أو 27 من رمضان فقط ، ولو لا تعيين اليوم لا حتمل أن يقال نزل
جملة واحدة إلى بيت العزة في 27 رمضان ونجوما على المصطفى في 17 منه واللّه أعلم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 41» ومن قدرته نصر المؤمنين في ذلك اليوم مع قلة عددهم وعددهم على الكافرين مع كثرتهم عددا وعددا ، وهذه الآية نزلت في الغنائم الحاصلة من غزوة بني قينقاع الواقعة بعد حادثة بدر بشهر وثلاثة أيام في النصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة ، وقال بعض المفسرين نزلت في حادثة بدر وليس بشيء ، وهي مخصّصة للآية التي نزلت في غنائم بدر ومقيدة لها ، لا ناسخة كما ألمعنا إليه أول هذه السورة.
ثم شرع بعدد نعمه التي أنعمها على المؤمنين في هذه الحادثة بقوله واذكروا أيها المؤمنين «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا» سفير الوادي الأدنى من المدينة «وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى » البعدى منها مما يلي مكة «وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» من المحل الذي به أبو سفيان وجماعته من قريش الذي خرجتم لأجله بعيد عنكم مما يلي البحر بثلاثة أميال «وَلَوْ تَواعَدْتُمْ» أنتم وإيّاهم على هذا الاجتماع في هذا المحل «لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ» ولما أمكنكم أن تجتمعوا به فيه ، ولكنه كان صدفة من الصدف الغريبة وأمرا من الأمور العجيبة «وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً(5/294)
ج 5 ، ص : 295
كانَ مَفْعُولًا»
في أزله ومقدرا في مقدرته بأن يكون هذا المكان وهذا الزمان وإنما كان كذلك أيها المؤمنون «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ» رآها وعبرة عاينها وعفة شاهدها وحجة قامت عليه «وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» كذلك «وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ» لأقوالكم سرها وجهرها «عَلِيمٌ (42)» بنيّاتكم وبما يقع لكم من النصر وعليهم من القهر.
واذكر يا سيد الرسل لقومك «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا» لتقوى قلوب أصحابك فيجرءوا عليهم «وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ» بسبب ضعف همة قومك ، ولجبنوا عن عدوهم وحدثتهم أنفسهم بالتراجع وتشتتت آراؤهم «وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» فيما بينكم فصار منكم من يحبذ الإقدام ويرغب فيه ، ومنكم من يحبب الإحجام ويرغب عن اللقاء ، فتتصادم الآراء ويحصل الشقاق وتفكك عرى التوثق بينكم «وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» وعصم قلوبكم من ذلك بسبب ذلك التقليل وأنعم عليكم بعد وقوع الخلاف المؤدي للهزيمة «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 44» يعلم ما يحصل فيها من الجرأة والجبن والصبر وا لجزع ، ومن يميل إلى الإقدام ومن يجنح إلى الإحجام «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ» أيها المؤمنون «إِذِ الْتَقَيْتُمْ» معهم يقظة عند التحام وتراص الصفين «فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا» تأكيدا لرؤياك يا صفوة الخلق ليطمئنوا ويتحققوا أن ما تقوله لهم حق واقع لا محالة سواء عن رؤيا منامية أو مشاهدة عينية ، وهذه من أكبر النعم المقوية للقلوب الموجبة للإقدام عن رغبة ، إذ أراهم الجمع الكثير شرذمة قليلة.
قال ابن مسعود قلت لرجل جني تراهم منه ، فأسرنا منهم رجلا ، وسألناه ، فقال نحن ألف «وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ» قبل اللقاء ليجرأوا على مهاجمتكم ، ولا يتقاعسوا عنها حتى إذا قدموا عليكم رأوكم كثيرا فيبهتوا ويرعبوا وتنكسر شوكتهم وتختل معنوياتهم ، فيغلبوا ، وإنما فعل اللّه تعالى هذا معكم ومعهم «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» مقضيا بهلاكهم.
ومن مغزى هذه الآية عدا ما ذكر تعليم العباد بابا من أبواب الحرب ، وذلك بأن يجعل القائد غير المدافع قوته العظيمة من وراء ، ثم يتقدم لعدوه بقوة يسيرة ليغريه على الإقدام والهجوم طمعا بالغلب ، فيجابه هذه القوة اليسيرة بكل ما لديه(5/295)
ج 5 ، ص : 296
من قوة بقصد سرعة القضاء على خصمه ، حتى إذا التحم الفريقان داهمهم بقوته الأخرى كلها فيستأصلهم عن آخرهم ، لأنهم يرعبون من الكثرة التي طرأت عليهم غير حاسبين لها حسابها ، وإنما قلنا غير المدافع لأن القائد المدافع يجب عليه أن يستعين بكل مالديه من قوة دفعة واحدة كي يستطيع صد المهاجم ، وإلا إذا قدم ثلة ثلة فإن العدو يفنيهم أولا بأول ، ويستهين بقوتهم القليلة ويطمع بالاستيلاء عليهم ، فيكون الغلب له ، والقتل والسبي والأسر بالمدافعين «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (45) فيحكم فيها بما يريد وفق ما هو في أزله.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً» كافرة لا عهد لها معكم ولا ذمة «فَاثْبُتُوا» لها ووطنوا أنفسكم على الصبر على الحرب والصدق عند اللقاء ، ولا تتصوروا الفرار أو تتخيّلوه أبدا ، لأنه متى وقع في قلوبكم جبنتم وكبر عدوكم في أعينكم وألقى الرعب في قلوبكم ، فتهزمون ، فيستضعفكم عدوكم ويعلو عليكم فتسلبون وتقتلون ، فقووا قلوبكم واثبتوا على الصبر واستعينوا باللّه ربكم ، لا تتكلوا على كثرة أو قلة :
من استعان بغير اللّه في طلب فإن ناصره عجز وخذلان
«وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» أثناء هجومكم عليهم بأن تقولوا اللّه أكبر اللّه أكبر منهم وأعظم من كل شيء وكل شيء دونه حقير ضعيف ، فكبروه كثيرا «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (46) فتفوزون بالنصر على عدوكم والظفر فيهم.
واعلم أن هذه الآية ليست بناسخة للآية 16 المارة كما قاله بعض المفسرين ، لأنها لا تقدح بالثبات بالحرب ، لأن التحرف والتحيّز منه ، وإنما كان المراد بالذكر هنا هو التكبير واللّه أعلم لما فيه من خذلان العدو ، فينبغي الإكنار منه عند المهاجمة والدعاء بالنصر وتخطر وعد اللّه بالظفر في القلب لأنه أدعى للثبات ، ولأن ذكر اللّه في أشد الأحوال موجب للإجابة إذ لا يكون فيها إلا عن نيّة صادقة واعتماد تام «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» لأنها من واجبات النصر أيضا.
وتباعدوا عن معصية اللّه ورسوله لأنكم في حالة أشد احتياجا إلى رحمته من غيرها ، وهذان العنصران طاعة اللّه وذكره من أقوى الأسباب الداعية للنصر والثبات وخذلان العدو.
فليتكم أيها المسلمون ترجعون إلى ما يأمركم به ربكم فتعملون به وتنتهون عما(5/296)
ج 5 ، ص : 297
ينهاكم عنه فتتجنبونه وتعترفون بذنوبكم فتستغفرونه ، فإنه تعالى يعينكم ويقويكم وينصركم.
قال :
فإن اعتراف المرء يمحو اقترافه كما ان انكار الذنوب ذنوب
لأن المسلم المؤمن يلجأ إلى ربه فيأخذ بيده فلا يصر أحدكم على الذنب ولا يستصغره مهما كان ، ويطلب النصرة من ربه عند الشدة ، فالأحرى أن لا يرده اللّه ولهذا لما ترك المسلمون ما أمروا به وصاروا يستصحبون في الحروب الخمر والفتيات ويقولون عند الهجوم وطن وطن بدل أن يكبروا اللّه غلبوا وخسروا ، لأن الوطن جزء من الإيمان وهم في حالة عارون فيها عنه ، غافلون عن ربهم ، فأنى يستجاب لهم ؟ فالمسلمون لا ينصرهم اللّه إلا إذا تمسكوا بدينهم وعملوا ما أمروا به ، وإذا خالفوا تركهم.
قال صلّى اللّه عليه وسلم لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن فدعوى الإيمان وحب الوطن دعوى كاذبة ، لذلك يكذبهم اللّه ولا يوفقهم ويسلط عليهم عدوهم ، لأن اللّه تعالى قالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الآية 47 من سورة الروم في ج 2 وقوله الحق ووعده الصدق ، ولكن هات المؤمنين وانظر إلى نصر اللّه المبين ، لأن المؤمنين لا يقيمون على المعاصي ولا يحاربون اللّه بما ينعم عليهم ، فادعاؤهم الإيمان عبارة عن اسم ، ولا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا قام بأركان الإسلام الخمسة عن يقين واعتقاد وعمل.
فإذا فقد واحدا من هذه الثلاثة لا يكون مؤمنا ، وكيف إذا تركوا الجميع ؟ فاللّه سبحانه يتركهم ، لأنهم هم محتاجون إليه وهو الغني عنهم.
قال تعالى «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا» وتخسروا لأن الفشل جبن مع ضعف «وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» قوتكم وجرأتكم ودولتكم «وَاصْبِرُوا» على الشدائد في الحرب والمحنة فيه ولا تنهزموا «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» بعونه ونصره.
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن أبي أوفى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في بعض أيامه التي لقى فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس قام فيهم فقال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا اللّه العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا (راجع الآية 153 من سورة البقرة المارة) واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.(5/297)
ج 5 ، ص : 298
قال تعالى «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً» أشرا وطغيانا والبطر من تشغله نعمته عن الشكر «وَرِئاءَ النَّاسِ» ليقال أنهم غزوا وقاتلوا للشهرة والسمعة والصيت والحال أنهم يمنعون «وَيَصُدُّونَ» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (48)» لا يعزب عن علمه شيء لإحاطته بجميع خلقه.
نزلت هذه الآية في كفار مكة الذين خرجوا لاستخلاص عير أبي سفيان ، فلما رأوه قد نجا بها قال لهم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها اللّه فارجعوا ، فقال أبو جهل واللّه ما نرجع حتى نرد بدرا فنقيم فيها ثلاثة أيام ننحر الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات ، فتسمع بنا العرب فيهابوننا.
فلما نزلوا سقاهم اللّه كأس الحمام بدل الخمور ، وناحت عليهم النوائح بدل القينات ، وسمعت بهم العرب فاستذلتهم.
قال تعالى مخبرا عن حالهم عند خروجهم لما خافوا من بني بكر كما مر في الآية 8 «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» أي اذكروا أيها المؤمنون هذه النعمة أيضا لأنها من جملة ما حدث بقريش أعدائكم الألداء عند إرادتهم الخروج إلى قتالكم لتظفروا بهم «وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» فأمنوا على عيالهم وأموالهم وخرجوا.
ثم تصور لهم إبليس مرة ثانية مع جند من جنوده وشجعهم على اللقاء في صورة سراقة المذكور في الآية الثانية المارة ، وقال لهم ما قاله سابقا ، فلما رأى جبريل والملائكة عليهم السلام وكانت يده بيد الحارث بن هشام فنفض يده وولى هو وجنده ، فقال له الحارث أفرارا من قتال يا سراقة وتزعم أنك جار لنا ؟ فأجابه بما قصه اللّه عز وجل بقوله «فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ» فئة جبريل وفئة إبليس «نَكَصَ» إبليس وجنده «عَلى عَقِبَيْهِ» ورجع القهقرى «وَقالَ» إلى الحارث وقومه حينما تركهم وولى «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى » من الملائكة «ما لا تَرَوْنَ» أنتم ما لا طاقة لي الوقوف معها.
مطلب الأشياء الموجودة الغير مرئية وتصور الشيطان والمحبة الخالصة الصادقة :
واعلم أن رؤية الشياطين للملائكة والأنس ثابتة لا نزاع فيها ، قال تعالى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) الآية 27 من سورة الأعراف في ج 1 ، (5/298)
ج 5 ، ص : 299
وتوجد أشياء كثيرة موجودة حسا غير مرئية كنسخ الظل الشمسي وأعمدة المهواية وشبهها عند سرعة دورانها ، وكذلك الهواء موجود غير مرئي والقوى الكهربائية موجودة غير مرئية.
ثم قال الخبيث «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ» لأنه ظن عليه اللعنة أن القيامة قامت لعلمه أن جبريل ينزل فيها هو والملائكة ، ولذلك أردف قوله بما ذكر اللّه «وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (49)» وقد كذب أول الآية وصدق آخرها ، ولهذا لما رجعت قريش إلى مكة قالوا هزم الناس سرافة ، فجاءهم وقال لهم واللّه ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم ، فقالوا له أما أتيتنا وقلت لنا ونحن بمكة أنا جار لكم ثم هربت ؟ فقال واللّه ما جئتكم بالأولى ولا في الثانية.
ولما أسلم من بقي منهم عرفوا أنه إبليس.
أخرج مالك في الموطأ عن طلحة بن عبد اللّه ابن كرزان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أغيظ منه في يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز اللّه تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر ، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة.
أي يسوي صفوفهم ويصلحها فيأمر هذا أن يتقدم وهذا أن يتأخر.
وسبق أن ذكرنا أنه كما تتصور الملائكة بصور البشر فكذلك الشياطين ، وان النفس الباطنة لم تتغير ولا يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة.
وليعلم أن ذكر اللّه تعالى في مواطن الشدة لا سيما في حالة الجهاد من أقوى الأدلة على محبته تعالى الصادقة التي لا يشوبها شيء ، لأن فيه السكينة ، قال تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الآية 31 من سورة الرعد الآتية ، ومتى اطمأن القلب زال عنه دواعي الخوف فضلا عن أنه دليل المحبة لأن من أحب شيئا أكثر ذكره في كل حال ألا ترى قول عنترة :
ولقد ذكرنك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لأنها بوقت كبارق ثغرك المتبسم
وهو أبلغ ما قيل في هذا المعنى بالنسبة لمقام القول ، وفي مقام المحبة تراكضت أرواح العاشقين وتفانت في ميدان أشباح السالكين ، حتى قال قائلهم :
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي(5/299)
ج 5 ، ص : 300
وقد عدوا الموت في الحب من الجهاد الأكبر ، لأن الحياة الحقيقة التي فيها الوصال تعقبه ، قال ابن الفارض أيضا :
ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
وقد حسنوا التذلل في هذا الباب وعدوّه من أسباب الوصال مع أنهم لم يعرفوا التذلل إلا للّه فقالوا :
ويحسن إظهار التجلد للعدا ويقبح إلا العجز عند الحبائب
وقالوا إن من صفات المحبين الخضوع وإنكار النفس حتى بالغ بعضهم فقال :
مساكين أهل العشق حتى قبورهم عليها تراب الذل دون الخلائق
وفي رواية بين المقابر ، واختلفوا في وصفه ومحله من الجسد ، وقيل في ذلك :
يقولون إن الحب كالنار في الحشى ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
وقالوا في ذم من لم يحب :
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
وقدمنا في الآية 67 من سورة الزخرف ج 2 ما يتعلق بالمحبة فراجعها.
واذكر يا سيد الرسل لقومك «إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ» من أهل المدينة «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة إذ لم يقو الإسلام في قلوبهم ولم تتشرب بشاشة الإيمان فيها لما رأوا قلتكم عند ذهابكم لقتال المشركين في بدر قال بعضهم لبعض «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» صدق إيمانهم باللّه وحملهم على ما لا طاقة لهم به من لقاء عدوهم لأن عددهم وعددهم أكثر وأقوى ، فقد هفوا ولم يعلموا أن توكلكم على ربكم لا على قوتكم وكثرتكم «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ويثق به «فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يغلب من يتوكل عليه «حَكِيمٌ (49)» لا يسوّي بين أحبابه وأعدائه فإنه ينصر أولياءه على قلتهم ، ويخذل أعداءه مع كثرتهم مهما كان عددهم وعددهم ، لأنهم طلبوا النصر منه وحسنوا ظنهم فيه وأيقنوا بالإجابة منه واللّه عند حسن ظن عبده به.
قال تعالى معجبا رسوله صلّى اللّه عليه وسلم مما يقع على الكافرين عند الموت من البلاء والشدة «وَلَوْ تَرى » يا أكمل الرسل «إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ(5/300)
ج 5 ، ص : 301
كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ»
لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه ، لأنهم إذ ذاك «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ» عند الاقدام «وَأَدْبارَهُمْ» حال الانهزام والأفظع من هذين الأمرين أنهم يقولون لهم بعد الموت موتوا «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50)» في جهنم فهي مثواكم في الآخرة
«ذلِكَ» الذي حل بكم أيها الكفار في الدنيا من القتل وفي الآخرة من العذاب هو «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» من الشرك والمعاصي وظلمكم أنفسكم بذلك.
ووصفت اليد لأنها آلة العمل المؤثرة ، وإلا فالكفر محله القلب وعلامته اللسان «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)» إذ لا يعذب أحدا بلا ذنب ، على أنه لو فعل فلا يعد ظلما لاستحالة نسبة الظلم إليه ، لأنه المالك المطلق وللمالك التصرف بملكه كيف يشاء ، ألا ترى أنك إذا هدمت دارك أو أخربت ما هو ملكك لا يعترضك فيه أحد ؟ وإن عادة هؤلاء الكفار في كفرهم «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52)» بحيث لا تطيقه الجبال الحديدية.
وفي هذه الآية تهديد ووعيد لهؤلاء الكفار والمنافقين من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وإعلام بأنه تعالى سيعذبهم في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالنار ، كما عذب أولئك في الدنيا ويعذبه مفي الآخرة.
والدأب إدامة العمل.
وسميت العبادة دأبا لمداومة الإنسان عليها «ذلِكَ» العذاب والانتقام «بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» كي يكونوا هم السبب في ذلك ويندموا من حيث لا ينفعهم الندم ، لأن ما يحدثه للخلق من بعض ما هو مدون في أزله قبل خلقهم ، إذ لا يقع شيء إلا وهو مسجل في اللوح المحفوظ ثابت في علم اللّه «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما يقع من عبده سرا أو جهرا «عَلِيمٌ (53)» به قبل وقوعه.
وليعلم كل إنسان أن يذكر مع كل نعمة زوالها كي يحافظ عليها بالشكر ، ويذكر مع كل بلية كشفها ليحافظ على الرجاء من اللّه فإن ذلك أبقى للنعمة ، وأسلم من البطر ، وأقرب من الفرج ، لأن الدنيا دار تجارة ، فالويل لمن تزود منها الخسارة ، ويكفيك أنها مزرعة الآخرة ، وقيل في المعنى في هذا :
إذا أنت لم تبذر وأبصرت حاصدا ندمت على التفريط في زمن البذر(5/301)
ج 5 ، ص : 302
وتشير هذه الآية إلى أن اللّه تعالى أرسل محمدا نعمة عظمى لأهل مكة خاصة مكملة لنعمهم الأولى من جوارهم لحماه ، وأمنهم مما يخافون ، ومما يخافه غيرهم ، وتخويلهم رحلة الشتاء والصيف ، فلم يقدروها ولم يشكروها ، بل قابلوها بالكفر والجحود ، فنقله اللّه عنهم إلى الأنصار لأنه رحمة للعالمين أجمع ، راجع الآية 29 من سورة إبراهيم في ج 2 ، والآية 43 من سورة الرعد الآتية.
وديدنهم هذا «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» لما كفروا بموسى عليه السلام «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» وكفروا بأنبيائهم أيضا «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» بعضهم بالخسف وبعضهم بالصيحة ومنهم بالحجارة ومنهم بالمسخ والغرق ، وحرم فرعون نعمة موسى إذ نقلت لبني إسرائيل الذين اتبعوه «وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ» وأنجينا موسى وقومه «وَكُلٌّ» من المعذبين والمهلكين «كانُوا ظالِمِينَ (54)» أنفسهم وغيرهم ، فأخذناهم بظلمهم.
وقد كررت ألفاظ هذه الآية تأكيدا لأنها جرت مجرى التفصيل للآية الأولى التي ذكر فيها أخذهم وكفرهم بآياته ، وفي الثانية إعراضهم وتكذيبهم بآياته.
قال تعالى «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55)» لا يتوقع إيمانهم لتوغلهم بالكفر ، وهؤلاء «الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ» يا سيد الرسل «ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56)» (56) نقض العهد مع أنهم أهل كتاب ودين يجب عليهم الوفاء به وعدم النكث بمقتضى كتابهم ودينهم ، وهم على العكس شأنهم شأن الذين لا دين لهم بل أضل.
قد نزلت هذه الآية في بني قريظة المار ذكرهم في الآية 26 إذ عاهدهم الرسول أولا على أن لا يحاربوه ولا يعاونون عليه ، فنقضوا عهدهم وأعانوا مشركي العرب عليه بسلاحهم ، وقالوا نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدهم ثانيا فنكثوا أيضا ومالئوا عليه الكفار يوم الخندق ، وذهب رئيسهم كعب بن الأشرف إلى مكة وحالف قريش وأهلها على حرب الرسول.
وقال سعيد بن جبير : نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت كانوا عاهدوا ثم نقضوا.
قال تعالى «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ» يا محمد فتجدنّهم وتصادفنهم «فِي الْحَرْبِ» فتظفر بهم «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ» أي نكّل بهم غيرهم بأن تقتلهم قتلا ذريعا(5/302)
ج 5 ، ص : 303
فظيعا ، تفرق به جمعهم وتكسر به شوكتهم ليعتبر بهم كل من تحدثه نفسه بنقض العهد.
وأصل التشريد التفريق مع الاضطراب «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)» يتعظون فلا يجرؤ بعدهم أحد على نكثه.
وهذه الآية من قبيل الإخبار بالغيب ، إذ وقعت كما ذكر اللّه تعالى ، لأن حضرة الرسول حكّم فيهم سعدا فحكم فيهم بحكم اللّه ، كما سيأتي في الآية الثانية من سورة الحشر المشيرة إلى هذه الحادثة ، وقد ألمعنا إليها في الآية 27 المارة.
وفي هذه الآية وما بعدها فنون من فنون الحرب ودواعيه وما يتعلق به يعلمها اللّه إلى رسوله قبل وقوعها ليطبقها عند الحاجة.
ولفظ الدواب يطلق على كل ما دبّ على وجه الأرض من إنسان وحيوان ، وقد جعل اللّه الكافرين من صنف الدواب في هذه الآية لأنهم شرّ منهم ، لأن الدواب الحقيقية لا تضر غالبا وهم يضرون الناس ويكفرون نعم اللّه.
قال تعالى «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ» معاهدين فتتوقع منهم «خِيانَةً» غدرا أو نقضا للعهد مثل بني قريظة «فَانْبِذْ» اطرح وارم عهدهم «إِلَيْهِمْ» وأعلمهم بفسخ المعاهدة ليكونوا على بصيرة من أمرهم ولئلا يقولوا لم تخبرنا بنقض العهد قبل ويتهموك بالنكث والغدر ، حتى تكون أنت وإياهم في علم نقض العهد «عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)» في كل شيء.
الحكم الشرعي : إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن هادنهم الإمام بأمر ظاهر مستفيض فلا حاجة لنبذ العهد وإعلامهم بالحرب ، وإن ظهرت الخيانة به بأمارات من غير أمر مستفيض فيجب على الإمام إعلامهم بفسخ المعاهدة كما ذكر اللّه وقاية من سمات الغدر ولعلهم يرجعون إلى عهدهم أو يستسلمون ويسلمون.
روى مسلم عن جابر عن رجل من حمير قال :
كان بين معاوية والروم معاهدة ، وكان يسير نحو بلادهم ليتقرب منهم ، حتى إذا نقض العهد غزاهم ، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول اللّه أكبر اللّه أكبر وفاء لا غدرا ، فإذا هو عمرو بن عينية ، فأرسل إليه معاوية فسأله ، فقال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء.
فرجع معاوية. - أخرجه أبو داود - وأخرج النسائي بمعناه.
وقد أسهبنا البحث في هذا عند الآية 34 من سورة الإسراء(5/303)
ج 5 ، ص : 304
ج 1 والآية 91 فما بعدها من سورة النحل في ج 2 فراجعها.
قال تعالى «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا» أفلتوا وانا لا نظفر بهم مرة ثانية ، بلى لا بدّ من ذلك «إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» (59) لأن الطالب لهم غالب قوي قادر على الانتقام منهم في الدنيا قتلا وأسرا وجلاء ، وفي الآخرة عذاب شديد «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» مالا ورجالا وسلاحا وخدعا وغيرها من كل ما فيه معنى القوة «وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» أيضا قوة ، لأن ما يدركه الراكب لا يدركه الراجل ، فإنكم في هذه الأشياء «تُرْهِبُونَ بِهِ» ترعبون وتخدعون «عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» فعليكم أيها المؤمنون بالاستعداد لأعدائكم من كل ما يغيظهم ويرهبهم ، لأنكم بذلك ترعبونهم «وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ» تخوفونهم أيضا كاليهود والمنافقين الموجودين في زمنك ومن بعدهم في زمن غيرك إلى آخر الدوران من أناس «لا تَعْلَمُونَهُمُ» أنتم ولكن «اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» وسيظهرهم لكم بعد «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مما يقوي جانب المؤمنين ويرهب أعداءهم ، وفي إعلاء كلمة اللّه ونصرة دينه وطاعة رسوله «يُوَفَّ إِلَيْكُمْ» ثوابه كاملا مضاعفا في الآخرة ويخلف عليكم أوفر منه في الدنيا «وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)» شيئا من ثوابه وأنكم لا تعلمون كيف يكافئ اللّه عباده المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاته ، لأنهم يعطيهم ما لا يتصورونه ولا تعقله أفهامهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وفي هذه الآية تعليم من اللّه لعباده فيما تكون به عظمتهم وتقوى به شكيمتهم وتعظم به شوكتهم.
والعدة تطلق على الجند وعلى جميع الأسلحة والآلات والأطعمة التي هي من لوازم المحاربين في الحروب بالنسبة لما عند العدو وأقوى وأفخم ، وكذلك الحصون والمعاقل وتعليم الجنود كيفة استعمال الأسلحة والرمي بها بحيث لا يقع سهم منها إلا في قلب عدو ، وتعليمهم أيضا ماهية المحركات واستعمالها وركوبها برا وبحرا وهواء ، والآلات الحديثة ، والألغام والوقاية منها ، والقاذفات وما يقذف بها ، ومنها في الطائرات وغيرها وتعليم السير بها وتسييرها ، وحثهم على المحافظة عليها ومناظرتها وتعليمهم الخدع والحيل والمكر ، وجميع أبواب الحرب وتمرينهم عليها ، وحثهم(5/304)
ج 5 ، ص : 305
على الطاعة للأوامر والاستعداد لتنفيذها عند الحاجة إليها.
ويجب أن يكونوا يقظين نبهين ، وأن يكون نصحهم بمواعظ حسنة تحبذ لهم بذل أنفسهم في سبيل اللّه إعلاء لكلمة اللّه وصيانة للبلاد والعباد ووقاية للأعراض والعجزى.
واعلموا أيها الناس أن ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عقبة بن ثامر من أن القوة الرمي لا ينفي كون غير الرمي من القوة ، بل قوة أيضا ، وهو على حد قوله صلّى اللّه عليه وسلم :
الحج عرفة والندم توبة والدين النصيحة.
لأن غايته الدلالة على أنه من أفضل القوة ، والقوة الرمي لأن معظم الحرب يكون به وهو كذلك.
روى البخاري عن أبي أسيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوم بدر حين ضعفنا لقريش إذا كبتوكم (أي غشوكم) - وفي رواية : أكثروكم - فارموهم واستبقوا نبلكم.
وفي رواية :
إذا كبتوكم فعليكم بالنبل.
وروى عقبة عن عامر قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ليدخلن بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنه : صانعه يحتسب في عمله الخير ، والرامي به ، والمحدد له.
وفي رواية : ومنبله ، فارموا ، وان ترموا أحب إلي من أن تركبوا.
كل لهو باطل ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة : تأديب الرجل فرسه ، وملاعبته أهله ، ورميه بقوسه ، أي بنبله ، فإنهن من الحق ، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو كفرها - أخرجه أبو داود والترمذي مختصرا - .
فهذا الحديث والذي بعده وغيرهما تحث على تعليم المسلمين ما يلاقون به أعداءهم عند الحرب من جميع أصناف آلاته ومعداته ، وانه مما يثاب عليه عند اللّه تعالى ويستوجب محبة رسوله صلّى اللّه عليه وسلم.
روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع قال : مرّ النبي صلّى اللّه عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالقوس ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ، وأنا مع بني فلان ، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال صلّى اللّه عليه وسلم مالكم لا ترمون ؟ فقالوا كيف نرمي وأنت معهم ؟ فقال ارموا وأنا معكم كلكم.
صلّى اللّه عليه وسلم ما أرضاه لربه وأرضاه لصحبه وإرضاء لأهله وأرضاه لأمته.
وروى البخاري ومسلم عن عروة بن الجعد الباز حديثا بمعناه.
ومثله عن ابن عمر وقال إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة.
وروى البخاري عن ابي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا(5/305)
ج 5 ، ص : 306
باللّه وتصديقا بوعده فإن شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة (يعني حسنات).
وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول :
ستفتح عليكم الروم ويكفيكم اللّه فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه.
وإنما أمر اللّه تعالى وحث رسوله على التأهب والاستعداد للحرب لأن الكفار إذا علموا أن المسلمين مستكملون جميع مهمات الحرب ومعداته ومتهيئون له وباذلون أموالهم وأنفسهم في سبيله ، فإنهم يتباعدون عن دار الإسلام وثغورهم ، لا سيما إذا كانت الثغور معبأة بأعظم قوة وأقرى عدة ، وهذا هو الرباط الذي حرض الرسول أمته عليه ووعدهم عليه ثواب اللّه العظيم.
وسنبين في الآية 176 من سورة آل عمران الآتية ما يتعلق في بحث الرباط وفضله بصورة مستفيضة واضحة.
قال صلّى اللّه عليه وسلم : رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وان من مات مرابطا أجري عليه عمله ورزقه ، وأمن من الفتّان.
وليعلم أن الاستعداد للحرب يسبب دخول الناس في الإسلام عفوا أو بذل الجزية للمسلمين دون إراقة الدماء توا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم.
مطلب في جواز طلب الصلح من العدو.
وفي النسخ وجواز أخذ الفدية.
وعتاب اللّه الرسول على فداء الأسرى.
قال تعالى «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ» أي أعداؤك يا سيد الرسل بأن طلبوا الصلح «فَاجْنَحْ لَها» لا تعرض عنها «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ولا تخف من أن يبطنوا لك غيره ، فاللّه يكفيكهم «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)» بما يؤول إليه أمر الصلح من خير على الأمة ويكسب ميل الخلق ومودتهم وفيه قيل :
لا تشد كل الشد فينفر عنك ، ولا تلن كل اللّين فيطمع فيك.
وقيل : لا تكن حلوا فتؤكل ولا مرا فتعاف.
وفي هذه الآية إشارة إلى صلح الحديبية ، إذ عاد على المسلمين بالنفع العام والخير الجزيل ، ولذلك وافق رسول اللّه عليه مع ما فيه من الحيف تأسيا بوصية اللّه تعالى في هذه الآية.
ثم خاطبه بما يوجب التيقظ بقوله «وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ» بطلب الصلح وميلهم إليه لتكف عنهم حال شدتهم ثم يكروا عليكم الكرة بعد استكمال قوتهم فلا يمنعك ذلك من قبول الصلح يا سيد الرسل ، ولا تخش كيدا «فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ» هو كافيك عنهم وعن(5/306)
ج 5 ، ص : 307
مكرهم و«هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ» فأعزك وقواك «بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)» باطنا وظاهرا وبالمهاجرين والأنصار «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» بعد ما كانوا عليه من الخلاف والعداء والبغضاء تأليفا بليغا بحيث «لَوْ أَنْفَقْتَ» لابتغائه كما كان وحصل «ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» مثل هذا التأليف الجامع «وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ» برحمته وجمع كلمتهم بقدرته وأماط تباغضهم وتماقنبهم بفضله «إِنَّهُ عَزِيزٌ» غالب على ما يريده قوي على أعدائه «حَكِيمٌ 63» بصنعه.
وذلك أن بعثة الرسول فيهم قلبت الأنفة التي بينهم ، وعظمة بعضهم ، على بعض ، وعصبية بعضهم مع بعض ، وحسدهم ، وأضغانهم في بعضهم لطما ولينا ورقة وسهولة وصفاء ومودة ، كيف لا وهم صباح مساء يتمتعون بأنواره البهية ، ويأخذون من أطواره المرضية ، فتهذبوا وتلطفوا وتطهرت قلوبهم فتآخوا فيما بينهم وطابت قلوبهم.
قالوا وكان إذا لطم رجل منهم آخر قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا آثارهم ، وبعد ما جاءهم الرسول اتفقوا على طاعة اللّه ، وتركوا ما كان بينهم ، وصاروا من أنصار اللّه ورسوله ، وصاروا عظماء ألفاء أقاموا الدين والدنيا ، ولكن مع الأسف الآن ترى عظماء الرجال كالنيازك يضيئون العالم برهة ثم يحترقون ، فلا حول ولا قوة إلا باللّه ، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (64) عن كل أحد فصالح إذا صالحوا وقاتل إذا قاتلوا ولا نخش كيدا ولا غيره لأن اللّه ناصرك ومؤيدك عليهم وقاهرهم وخاذلهم «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» من أعدائهم «وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ» صابرة «يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ 65» ما أعد اللّه للمجاهد إذا قتل في سبيله مسلما ، وفي هذه الآية الكريمة حث على الصبر عند لقاء العدو والثبات بأن يقابل المؤمن عشرة من الكافرين ويقاتلهم لأنهم لا يفهمون من نتيجة الحرب إلا الغلب ، ولا يقاتلون إلا حمية وأنفة ، وليقال إنهم قاتلوا ، ولا يعتمدون إلا على أنفسهم ، والمؤمنون يقاتلون لإعلاء كلمة اللّه ونصرة دينه ويبتغون لقاء اللّه وإنجاز وعده وهو الثواب والسعادة(5/307)
ج 5 ، ص : 308
في الدنيا والشهادة والجنة في الآخرة ، لهذا يجدر بهم أن يصبروا على لقاء الجماعة ، لأنهم يعتمدون على معونة اللّه الذي لا يغلبه غالب ولا يلحقه طالب.
وهذه الآية من الأخبار التي لا يدخلها النسخ ، ومن قال بنسخها قال إن الإخبار فيها من قبيل الأمر.
وعدها منسوخة بقوله تعالى «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» بأن لا يقدر الواحد على العشرة ، ولا يستطيع الصبر على الثبات أمامهم ولا يمكنه الفرار لعدم جوازه ولشدة العقاب المترتب عليه ، فخففه اللّه بقوله «فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ» على القتال«يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ»
من الذين كفروا «وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)» وهذا التخفيف من لطف اللّه بالمؤمنين ، بأن جعل عليهم لزاما مقابلة الواحد للاثنين من أعدائهم والصبر على مقابلتهما وعدم جواز الهرب من أمامهما ، ولكن الأحرى لهذا القائل بالنسخ أن يعدل إلى القول بأن الآية الثانية جاءت مخففة مخصصة للأولى ومقيدة لحكمها لا ناسخة لها ، وعليه فلا حاجة لأن تقول إن الخبر هنا بمعنى الأمر من حيث لا دليل عليه ، وقد أسهبنا البحث في هذه الآية في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ فراجعها تعلم مغزى تسمية اللّه تعالى تخفيفا وأن لا يسوغ لنا أن نسميه نسخا ، روى البخاري عن ابن عباس قال : لما أنزلت (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ) الآية كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ولا عشرون من مئتين ، ثم نزلت (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) فكتب
أن لا يفر مئة من مئتين ، وفي رواية شق ذلك على المسلمين.
ومن هنا قال من قال بالنسخ ، مع أنه لا نسخ والآيتان محكمتان لقوي الإيمان قوي الجنان بأن يثبت ليس للعشرة فقط بل لأكثر وأكثر ، وللضعيف فيهم أن لا يفرّ من الاثنين ، وكم من ضعيف قلبه ضعيف إيمانه يفر من الصغير ، وكم من قوي قلب قوي إيمانه يقابل الكتيبة وحده.
وهذا مما لا ينكر قبل والآن وبعد كما هو ثابت بالتواتر حتى في زماننا هذا ، مع وجود البنادق والرشاشات وغيرها ، فكيف فيما كان الأمر مقتصرا فيه على السيف والرمح والنبل ، وكيف بشاكي السلاح والأعزل قال تعالى «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ(5/308)
ج 5 ، ص : 309
أي يكثر القتل والأسر ويبالغ فيهما حتى تذل له العصاة دون قتال وتطأطئ رؤسها إليه الكماة دون جدال ، وتكسر شوكة المناوئين له ، وتستسلم المجرمون لهيبته ، ثم يقبل الفداء ، ولهذا عاتب اللّه تعالى رسوله وأصحابه على قبولهم الفداء لأول أمرهم وبداية نصرهم في هذه الآية.
ثم طفق يؤنب فعلهم بقوله «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا» الفاني الزائل البالي «وَاللَّهُ يُرِيدُ» لكم شرف «الْآخِرَةَ» الدائم الباقي ويريد رفع شأنكم بإعزاز الإسلام والإغلاظ على الكفرة «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» بالغ العزة والعظمة لو شاء لغلبهم دونكم بتسليط جند من جنوده عليهم «حَكِيمٌ (68)» بالغ الحكمة في تسلطكم على نفيرهم الكثير مع قلتكم عددا وعددا لأمر يريده ، وإلا لسلطكم على العير الذي كله دنيا ، وأغناكم به عن الفداء وغيره وصرفكم عن النفير الذي فيه الدنيا والآخرة.
فاعلموا أيها المؤمنون «لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ» بأنه لا يعذب أحدا باجتهاده في الحق «لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (68) لا يقاوم ولا يطاق ، لأن أخذ الفداء قبل أن تعظم الهيبة في قلوب الأعداء وقبل أن تفشو القسوة عند سائر الناس لا يليق الإقدام عليه.
ومن هنا قالوا : المجتهد إذا أصاب له أجران ، وإن أخطأ له أجر واحد.
ولهذا لم يؤاخذ اللّه رسوله وأصحابه الذين أشاروا عليه بأخذ الفدية لخلوص نيتهم ولرعايتهم الأصلح باجتهادهم ، إذ رأوا بالفدية صد حاجة المجاهدين واستبقاء المفديين أملا بإسلامهم.
قال محمد بن إسحاق لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر بدرا إلا أحب الفدية إلا عمر بن الخطاب ، فإنه أشار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ فإنه قال يا رسول اللّه كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر وسعد بن معاذ.
وأخرج مسلم في افراده من حديث عمر بن الخطاب قال ابن عباس لما أسروا الأسارى ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأبي بكر ما ترون في هؤلاء الأسرى ؟ فقال أبو بكر يا رسول اللّه هم بنو العشيرة أي إن تأخذ منهم فدية يكون لنا قوة على الكفار ، فعسى اللّه أن يهديهم للإسلام ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب ؟
قال قلت لا واللّه يا رسول اللّه ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن(5/309)
ج 5 ، ص : 310
تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكني من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده ، فهوي رسول اللّه ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأبو بكر يبكيان ، فقلت يا رسول اللّه أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكا كما ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي اللّه ، فأنزل اللّه هذه الآية إلى (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) فأحل اللّه الغنيمة لهم.
ذكره الحميدي في مسنده عن عمر بن الخطاب بزيادة فيه ، وأخرجه الترمذي بزيادة أيضا وهي قوله صلّى اللّه عليه وسلم إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ، قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الآية 26 من سورة إبراهيم في ج 2 ومثل عيسى قال (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الآية 118 من سورة المائدة الآتية ، ومثلك يا عمر كمثل نوح (قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية 26 من سورة نوح في ج 2 ، ومثلك يا عبد اللّه بن رواح كمثل موسى (قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) الآية 88 من سورة يونس ج 2 وذلك لأنه قال حينما استشاره الرسول صلّى اللّه عليه وسلم في أسرى بدر قال يا رسول اللّه انظر واديا كثير الحطب فادخلهم فيه ثم اضرم عليهم نارا.
ولا دليل في هذا الآية على عدم عصمة الأنبياء كما قاله بعض العلماء ، لأن الأنبياء معصومون من الخطأ ، وما فعله حضرة الرسول من أخذ الفداء مطلق اجتهاد في حد الإثخان لأنه قتل يوم بدر سبعون وأسر سبعون من عظماء المشركين ، وكان هذا بالنسبة لنظر الأصحاب الذين أشاروا على حضرة الرسول بأخذ الفداء وبالنسبة لذلك الزم والعدوّ المنازل جدير بأن يسمى اثخانا ، لأن الإثخان ليس إهلاك من في الأرض في يقينهم ، فكان قبولهم الفداء اجتهادا منهم بأن ذلك كاف لإيقاع الرهبة الأعداء ، والمجتهد لا يؤاخذ باجتهاده لأنه قد يخطىء ويصيب ، وأجمعت الأمة :
أن الاجتهاد لا ينقض بمثله ، فلم ير رسول اللّه ترجيح اجتهاد عمر وأصحابه على رأى أبي بكر وأصحابه ، لأنه لم يقدم على ما فعله من أخذ الفداء استبدادا بل عن روى(5/310)
ج 5 ، ص : 311
وتدبر.
ولهذا لم يؤاخذهم اللّه تعالى الذي أخبرهم بأن ما فعلوه بالمشركين لا يعد إثما كما يستفاد من الآية ، فلم يبق لأحد إلا أن يقول أنه بالنسبة لذلك الزمن ولعددهم يسمى إثخانا ابدا ، وقول اللّه هو الفعل الحق على أن الأمر بالقتل كان مختصا بالأصحاب لإجماع المسلمين على أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم نفسه لم يؤمر بمباشرة الجهاد أي القتل إلى أن نزلت آية النساء ، وهي قوله تعالى (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) الآية 84 الآتية ، ولكنه ساوى نفسه مع أصحابه ، ولم يفضلها عليهم ليقوى يقينهم وتزداد شكيمتهم قوة ، فإذا كان ما وقع فيه شبهة ذنب فهو من الأصحاب لا منه صلّى اللّه عليه وسلم ، مع أن أخذ الفداء لم يكن حراما ، والآية لا تدل على التحريم ، إذ لو كان حراما لمنعهم اللّه من أخذه ولردوه لأربابه.
وأما بكاء النبي صلّى اللّه عليه وسلم فكان إشفاقا من نزول العذاب على أصحابه لاشتغالهم بالأسر وترك القتل ، بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلم : عرض علي عذابهم ، إلخ الحديث المتقدم ، ولو كان مرادا لقال عرض علي العذاب ، ولكان سياق خطاب الآية منصرفا إليه وحده ، ولهذا لما تبين لهم أن اجتهادهم ليس بمحله وأن ما فعلوه لا يعد إثخانا عند اللّه ندموا على ما وقع منهم وخافوا من تأنيب اللّه إياهم ، فصاروا يبكون ، وإنما لم يرد اللّه أخذ الفداء لأن العرب إذا رأوا جواز الفداء عند محمد وأصحابه يسهل عليهم الإقدام على حريه ثانيا وثالثا إذ لا قيمة للمال عندهم في مثل هذه المواطن ، وحتى الآن أمر العرب على هذا (ومنه ان من أهالي دير الزور السيد جمعة الفارس جاء إليه جماعة من عشيرته فطلبوا منه نصف مجيدي ، فقال لما ذا ؟ قالوا قتلنا رجلا ونريد أن نؤديه ، فأصاب كل رجل نصف مجيدي ، فأعطاهم وقال لهم إذا كان من تقتلونه يصيب الرجل منا نصف مجيدي من ديته وتخلصون من دمه فاقتلوا كل يوم رجلا وتعالوا خذوا مني ما يصيني عن دمه.) واللّه يريد قمع دابرهم وأضعاف الخوف في قلوبهم ، لأنهم إذا علموا أن الفداء لا يقبل وليس هناك إلا الذبح خافوا وأحجموا عن القتل والقتال ، وذلوا فينقادوا للإسلام قسرا ، وهذا هو المراد من قتالهم ، وإلا لهان عليهم الفداء وحرص بعضهم بعضا على القتل كما وقع من هذا الديري بعد ألف وثلاثمائة وست وخمسين سنة أو أكثر على حادثة بدر هذه ، واللّه أعلم بما يصلح لعباده.(5/311)
ج 5 ، ص : 312
قال تعالى مجيزا لهم أخذ الفداء المذكور ولو كان سابقا لأوانه لأن القصد من عدم أخذه ما ذكر أعلاه «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً» لأنكم حزتموه بكسب أيديكم وبذل أموالكم ونفوسكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تقدموا مرة ثانية على عمل شيء قبل أن يعهد لكم فيه من قبل اللّه «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لكم ما تقدم فيما استبديتم به من أخذ الفداء «رَحِيمٌ (69)» بكم إذا عفا عنكم ولم يؤاخذكم به ، لأنه كان مبلغ علمكم ونتيجة اجتهادكم وجامعة شئونكم.
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى » الذين قبلتم منهم الفداء «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً» من الإيمان به والتصديق لرسوله وكتابه «يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ» من الفداء الذي فديتم به أنفسكم «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ما سلف منكم إلى لحظة إيمانكم «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تاب مهما كان عليه من الكفر «رَحِيمٌ (70)» بجميع عباده يريد لهم الخير والرشد ويمهلهم ليرجعوا إليه ، فمتى رجعوا إليه عن يقين وإخلاص قبلهم على ما كان منهم ، وعفا عنهم.
هذا ويوجد في القرآن اثنتا عشر آية مصدرة ب (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) هذه والتي قبلها عدد 65 ، 64 والآية 71 من سورة التوبة الآتية ، وفي الأحزاب 5 وواحدة في كل من سورة الممتحنة ، والطلاق ، والتحريم الآتيات.
وقد نزلت هذه الآية في أسرى بدر الذين منهم العباس بن عبد المطلب ، إذ أخرج معه عشرين اوقية من الذهب ليطعم بها قومه كسائر رؤساء قريش كما أشرنا إليه في الآية 37 المارة ، وقد صادفت نوبة إطعامه يوم الهزيمة فأسر ولم يطعم منها شيئا ، فأخذوها منه مع جملة ما أخذوه
من غيره ، وكان كلم حضرة الرسول بأن يحسبها من الفداء فلم يفعل ، لأنها صارت غنيمة كبقية الأموال والمعدات التي آلت إليهم بسبب غلبهم عليهم ، وكذلك الأمتعة والألبسة وغيرها ، وقال له إن شيئا تستعين به علينا لا نتركه لك ، وكلفه فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ، فقال يا محمد تريد تتركني أتكفف قريشا ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم أين الذهب الذي دفنته أم الفضل وقلت لها حين خروجك من مكة لا أدري ما يصيبني ، فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد اللّه وعبيد اللّه بني الفضل وقثم.
قال ما يدريك يا ابن أخي ؟ قال أخبرني ربي ، (5/312)
ج 5 ، ص : 313
قال أشهد أنك لصادق وأشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنك عبده ورسوله ، واللّه لم يطلع على هذا أحد إلا اللّه وأنا وأم الفضل ، وأمر ابني أخيه المذكورين ، فأسلما ، ويرحم اللّه الأبوصيري إذ يقول :
وإذا سخر اللّه سعيدا لأناس فإنهم سعداء
قال تعالى «وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ» هؤلاء الأسرى يا سيد الرسل بعد ما مننت عليهم وأعتقتهم من القتل ولم يوف بعضهم بما تعهد به من الفداء «فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ» أن يخونوك فإنهم كفروا نعمته وكذبوا رسوله «فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ» أن يخونوك ولم يوفوا بما وعدوك به من بقية الفداء ، إذ ليس هذا بشيء عندهم بالنسبة لموقفهم من اللّه «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما في صدورهم «حَكِيمٌ» (71) فيما يفعل بهم.
هذا آخر ما نزل في حادثة بدر في هذه السورة ، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ابتغاء مرضاته «وَالَّذِينَ آمَنُوا» الرسول وأصحابه المهاجرين وأسكنوهم في منازلهم وساووهم بأنفسهم «وَنَصَرُوا» الرسول وأصحابه في حادثة بدر وغيرها على أعداء اللّه وهم الأنصار من الأوس والخزرج «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات الحميدة والأخلاق المجيدة «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» في المعونة والنصرة والمودة والولاية ، حتى أنهم يرث بعضهم بعضا دون أقاربهم الكفار.
ومن هنا أخذ منع الإرث عند اختلاف الدين والدار.
قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ» لأنهم مقيمون في مكة وأنتم في المدينة ، فلا تعاون ولا تناصر ولا توارث بينكم وبينهم ، ويستمر الأمر كذلك «حَتَّى يُهاجِرُوا» فيكون ذلك كله بينكم وبينهم «وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ» أولئك الذين في مكة «فِي الدِّينِ» واستغاثوا بكم من أجله «فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» واجب وتلزمكم معاونتهم ليتخلصوا من براثن الكفر فتقاتلوا الكافرين معهم لتلك الغاية.
وهذا فرض عليكم في كل حال «إِلَّا» إذا طلبوا معاونتكم «عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» وعهد بعد المقاتلة فليس لكم نصرتهم وإعانتهم ، لأن الوفاء بالعهد واجب ولا بترك الواجب لأجل واجب مثله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)» لا يخفى(5/313)
ج 5 ، ص : 314
عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم.
وفي هذه الآية تحذير عن تعدي حد الشرع ، ونهي عن تجاوز حدود اللّه ، وأمر بمحافظة العهود ، ولزوم مراقبة أوامر اللّه ، لأن البصير هو المطلع على خفايا الأمور ووقائعها المحيط علمه بكل شيء.
قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» فلا توالوهم ولا تتولوهم وتباعدوا عنهم أيها المؤمنون ، لأن نصرتكم إليهم يكون تقوية لهم وعزة لشأنهم ، وقد أمرتم بإضعافهم وإذلالهم.
وهذه الآية تفيد ثبوت ولاية الكافرين بعضهم لبعض ، وتوارثهم بينهم ، وفيما نهي عن معونتهم ونصرتهم ، لأنها خبر بمعنى الإنشاء ، يؤيد هذا قوله تعالى «إِلَّا تَفْعَلُوهُ» الذي أمرتم به من تعاون المؤمنين ومقاطعة الكافرين وخذلانهم «تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» (73) بينكم ، لأن المسلمين إذا لم يكونوا يدا واحدة على عدوهم في كل أمورهم الحسية والمعنوية ظهرت أعداؤهم عليهم ، وتفرقت كلمتهم ، ووهنت قوتهم ، وقد ينشأ من هذا اتفاق كلمة المشركين ، وقوة شكيتهم ، وتحديهم للمسلمين ، لأن الفتنة هي قوة الكافر والفساد ضعف المسلمين ، ولهذا البحث صلة في الآيات 20/ 21 و64/ 70 و72/ 74 من سورة التوبة الآتية.
قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» لأنهم بذلوا أموالهم وأنفسهم في طاعة اللّه ورسوله وهؤلاء «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» عظيمة لذنوبهم مهما كانت كثيرة وكبيرة «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)» في جنات النعيم ، ولا يعد هذا تكرارا لأن الآية الأولى ذكر فيها حكم ولايتهم بعضهم لبعض كما ذكر بعدها ولاية الكفرة بعضهم لبعض ، وفي هذه ذكر ما من اللّه به عليهم من فضله وخيره ، على أن إعادة الشيء مرة بعد أخرى تدل على مزيد الاهتمام به والتعظيم لشأنه وعلو شرفه وإمكان مكانته وتمكن العناية به.
قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ» الهجرة الأولى ولحقوا بكم بعد الذين سبقوهم إليها «وَهاجَرُوا» بعدهم «وَجاهَدُوا مَعَكُمْ» بأموالهم وأنفسهم «فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» وأنتم منهم إلا أنهم لم يبلغوا درجة المهاجرين الأولين ، لأنهم عند اللّه أعظم مرتبة وقدرا وأكثر تفاوتا وأجرا ، ولو لم يكن ذلك لما صح الإلحاق بهم «وَأُولُوا الْأَرْحامِ»(5/314)
ج 5 ، ص : 315
القرابات البعيدة «بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» وحكمه من الميراث وغيره إذا كانوا على دين واحد ودار واحدة ، وإلا لا توارث بينهم كما مر آنفا «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)» لا يعزب عن علمه شيء ، وقد تمسك أبو حنيفة رضي اللّه عنه في هذه الآية في أحكام توريث ذوي الأرحام ، وقال الشافعي
رضي اللّه عنه إن هذه الآية مقيدة لآية النساء المفصلة للإرث.
وسنأتي على ما يتعلق في الآيتين 117 وما بعدهما منها على هذا إن شاء اللّه.
وإن معنى كتاب اللّه هو حكمه الذي بينه فيها ، ولقائل أن يقول كيف تصح الإشارة إلى آية هي متأخرة عنها ؟
فيقال انتصارا للإمام الشافعي الموجه إليه هذا الاعتراض وهو من عرفت ، إنما صحت الإشارة إليه لا بالنسبة لترتيب نزول القرآن ، بل بالنظر لترتيب القرآن الموجود في المصاحف الموافق لما هو في علم اللّه ولوحه ، ومناسبة هذه السورة لما قبلها بحسب النزول ظاهر ، لأن الذين يشملهم قوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) إلخ ، منهم الذين سألوا حضرة الرسول عن تقسيم الأنفال وحلتها وحرمتها ، كما أن مناسبتها لما بعدها صريح ، لأن الذي وفق هؤلاء المؤمنين للتعاون والتناصر والتآخي بينهم هو اللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم المصدرة به السورة التي بعدها ، وهكذا إذا دققت وجدت بين كل سورة وما بعدها وما قبلها مناسبة.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة آل عمران
عدد 3 و89 و3
نزلت في المدينة بعد سورة الأنفال وهي مئتان وثلاثة آلاف آية ، وأربعمائة وثمانون كلمة ، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا.
لا نظير لها في عدد الآي.
ونظائرها فيما بدئت به تقدم بيانها في سورة الأعراف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «الم (1)» «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)» 2 سم مبالغة بمعنى القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت.(5/315)
ج 5 ، ص : 316
مطلب في وفد نجران ومناظرته مع حضرة الرسول ، وبيان المحكم والمتشابه في القرآن العظيم :
نزل أوائل هذه السورة الكريمة في وفد نجران وكانوا ستين رجلا برئاسة العاقب عبد المسيح الذي لا يصدرون إلا عن أمره ورأيه في أمر دنياهم ، والسيد الأيهم ثمالهم أي القائم بنفقاتهم ورحلهم ، وابن حارثة بن علقمة أسقفهم أي حبرهم المطاع فيما يتعلق بأمور دينهم.
ولم تر الأصحاب وفدا مهيبا مثلهم ، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالإسلام ، فقالوا أسلمنا قبلك ، أي أنهم آمنوا بالمسيح المستقاة شريعته من الإنجيل والتوراة ، ومن شريعة إبراهيم عليه السلام الذي سمى اتباعه المسلمين ودينه الإسلام ، قال لهم يمنعكم ادعاؤكم بأن عيسى بن اللّه وعبادتكم الصليب ، أي يهودا الإسخريوطي الذي صلب باسم المسيح عيسى عليه السلام ، وأكلكم لحم الخنزير ؟
فقالوا إذن من هو عيسى ؟ فقال أنتم تعلمون أن لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ، قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الموت ؟
قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى ، قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا لا ، قال ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ؟ قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذي كما يغذى الصبي ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ قالوا بلى ، قال فكيف يكون إلها ما زعمتم ؟ فسكتوا ، فأنزل اللّه صدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
وفي رواية قالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كلمة اللّه وروح منه ؟
قال بلى ، قالوا حسبنا ، فرد اللّه عليهم بأنه لا إله إلا هو الدائم الباقي القائم على كل شيء والمدبر لكل شيء ، فكيف يثبتون له ولدا وهو لم يلد ولم يولد ؟
قال تعالى «نَزَّلَ عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية «وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» على موسى وعيسى كما أنزله عليك ، ولم يذكر الزبور لأنه عار عن الأحكام وهو عبارة عن أدعية واستغاثات ، وكان إنزال تلك الكتب ومن قبلها الصحف «مِنْ قَبْلُ» إنزال(5/316)
ج 5 ، ص : 317
القرآن عليك يا أكمل الرسل وتشديد نزل أولا يدل على التكثير ، لأن القرآن نزل نجوما فيما يقرب من ثلاث وعشرين سنة ، وتخفيف أنزل ثانيا يدل على أن الكتابين نزلا جملة واحدة دفعة واحدة ، وكل من هذه الكتب أنزلها اللّه تعالى «هُدىً لِلنَّاسِ» من الظلمات إلى النور «وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ (3)» أعاد ذكره ثانيا تعظيما لشأنه وسماه فرقانا لفرقه بين الحق والباطل «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسله «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)» ممن كفر به كائنا من كان.
واعلم أن نزول هذه الآيات بالوفد المذكور لا يمنع عمومها في غيرهم ، بل هي عامة في كل ما ينطبق عليه معناها «إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» (5) من كل نام وجماد وماء وهواء «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)» وفي هذه الآية رد على النصارى القائلين لو لم يكن عيسى إلها لما أحيا الميت بأن المستحق للألوهية هو الذي (لا يَخْفى عَلَيْهِ) الآية ، وان الذي يصوره غيره لا يكون إلها ، وقد دلت هذه الآية على قضية محكمة من معجزات القرآن مبهمة لم تخطر على قلب بشر وهي تماثل النطف ، إذ تبين أخيرا بعد اختراع المكبرات أن نطف الحيوانات كلها مثل نطف ابن آدم لا يختلف بناؤها الجوهري ولا بعضها عن بعض إلا بالحجم والشكل والكثرة والقلة ، وان التصوير لا يحصل إلا في الأرحام ، ولو لا ذلك لخرج الإنسان في صور حيوانات شتى ، فمن أخبر محمدا صلّى اللّه عليه وسلم هذا الخبر الذي كان غيبا إذ لم تكن جامعة علمية نظامية ولا مدرسة كلية طبية في زمنه ليقال إنه تعلمها أو فهما منها ولذلك جاءت في كتابه ، وقد أيدت هذه الآية بالآية 8 من سورة الانفطار المارة في ج 1 وهي قوله تعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) إذ لو أهملت هذه المهمة لولدت الناس غنما وكلابا وحميرا وشبهها ، فورب السماء والأرض إن هذا من الإله القادر العظيم وإنه لحق مثلما أنكم تنطقون ، وإنه لقول فصل وما هو بالهزل.
ورحم اللّه الأبوصيري إذ يقول.
آيات حق من الرحمن محدثة قديمة صفة الموصوف بالقدم(5/317)
ج 5 ، ص : 318
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا عن المعاد وعن عاد وعن إرم
أنزله على من أنزل عليه قوله «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ» قطعية الدلالة على المعنى المراد لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير كما قال الأبوصيري :
محكمات فما يبقين من شبه لذي شقاق ولا يبغين من حكم
وإنما خص بعض الأحكام هنا وعممها أول سورة هود في ج 2 ، لأن الإحكام الذي عممه هناك غير الإحكام الذي خصصه هنا ، لأنه بمعنى الإحكام العام الذي لا يتطرق إليه التناقض والفساد ، كإحكام البناء ، لأن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدّمة عليه التي تخالف أحكامه ، والمراد بالإحكام الخاص هنا أن بعض آياته قد يتطرق إليها التقيد والتخصيص بآيات أخرى منه لم تقيد ولم تخصص بغيرها وهي ما يسميه بعض العلماء نسخا من حيث لا نسخ بالمعنى المراد في أقوال علماء الناسخ والمنسوخ ، تأمل.
وهذه المحكمات لا تتأول لوضوح معانيها وظهور دلالتها فهي محفوظة من احتمال الشبه ، ولهذا وصفهن اللّه بأنهنّ «هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ» المعول عليها بحيث لا يستهدفها التفسير والتصرف ، ولا يحول حولها التغيير والتبديل بالتعبير إلى أبد الآبد «وَ» منه آيات «أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» لا يمتاز بعضها عن بعض فيتطرق إليها التفسير والتأويل ، لأنها تحتمل معاني كثيرة فتحتاج للتأمل والتدبر ، وقد يكل العقل عن فهم المراد منها فلا يتضح بعضه ولا يفهم المعنى منه إلا بالنظر والتدقيق والتأمل والتدبر ، لأن منها ما يشبه غيرها لفظا ومعنى ، وقد يشابه اللفظ اللفظ ويختلف المعنى ، ويشابه المعنى المعنى ويختلف اللفظ ، وإذا كان للفظ الواحد معان كثيرة صالحة لأن تؤول به أشياء متباينة فلا يعلم القصد الحقيقي الموضوع له إلا من قبل واضعه وهو اللّه عز وجل ، لذلك فإن البشر عاجز عن معرفة المقصود منه.
واعلم أن آيات القرآن كلها محكمة وحق وصدق لا بحث فيها من هذه الحيثية كما جاء في آية هود المتقدمة في ج 2 ، ولكن من حيث أن كلمه يشبه بعضها بعضا في الحق والصدق ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، وجزالة النظم وصحة المعنى وحقيقة المدلول ، فكله متشابه كما جاء في آية الزمر المارة في ج 2(5/318)
ج 5 ، ص : 319
في قوله (كِتاباً مُتَشابِهاً) الآية 23 ، وهذا هو وجه الجمع بين هذه الاية التي نحن بصددها والآيتين المذكورتين ، ولا منافاة بينهما البتة ، راجع الآية 82 من سورة النساء الآتية ، وعليه يصح أن نقول القرآن كله محكم على الوجه الذي بيناه في سورة هود ، وكله متشابه على النحو الذي ذكرناه في سورة الزمر ، ومحكم من وجه متشابهه من آخر على الصورة التي أوضحناها هنا.
ثم اعلم أن الآيات المحكمة هي ما تشتمل على الأحكام من حلال وحرام ، وأمر ونهي ، ووعد ووعيد ، وحدود مما قد أطلع اللّه عليه عباده على معناه ، ولم تكرر ألفاظه بمعنى آخر ، ولم يحتج إلى بيان ، ومنه الآيات المدنيات في سورة الأنعام المكية في ج 2 التي أولها (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) إلخ من 151/ 153 إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، ونظيرها الآيات المكيات من 22/ 26 ومن 27/ 31 ومن 34/ 39 من سورة الإسراء المكية في ج 1 من قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (مَدْحُوراً) ، وفيها الوصايا العشر المذكورة في التوراة والمشار إليها في الاصحاح الخامس من إنجيل منى بفصول متفرقة ، والمتشابه ما عدا ذلك مما يحتمل التأويل والتفسير وتحوير المعنى بحسب ما يحتمله اللفظ من أوجه كثيرة.
واحتاج للبيان وتكررت ألفاظه كالقصص والأخبار والأمثال من جميع ما يشبه بعضه بعضا ، ومنه ما استأثر اللّه تعالى بعلمه فلا سبيل إلى معرفته كالخبر عن أشراط الساعة ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج وقيام الساعة والروح ومحل موت الإنسان ودفنه وكسبه ونزول الغيث وما في الأرحام ، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان في ج 2.
ثم اعلم أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدا أو معاني كثيرة فالأول يسمى نصا كقوله تعالى (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، والثاني إما أن تكون دلالته على مدلولين أو مدلولات متساوية أم لا فالأول يسمى المجمل كقوله تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فإنه يدل على الحيض والطهر راجع الآيتين 222/ 228 من سورة البقرة المارة ، وقد بينا فيها أن الأرجح هو الحيض لا الطهر لتأييده بالحديث الصحيح المذكور هناك ، وقد استدل من قال إنه بمعنى الطهر بقول الأعشى :
ففي كل عام أنت جاثم غزوة تشد لأقصاها غريم عرائكا(5/319)
ج 5 ، ص : 320
مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أراد أنه يخرج للغزو ولم يغش نساءه أيام طهرهن لأنه يضيع أيام الطهر بالسفر لا أيام الحيض.
والثاني الذي يدل على مدلولات كثيرة فهو بالنسبة إلى الراجح ظاهر لقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) الآية 22 من سورة النساء الآتية ، وبالنسبة إلى المرجوح مؤول لقوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) لأنه قد يرد إلى قوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية 145 من البقرة المارة «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ» عن الحق وميل إلى الشك كوفد نجران المار ذكره واليهود الذين أرادوا معرفة بقاء ملك محمد صلّى اللّه عليه وسلم من مجموع أعداد الحروف المقطعة أوائل السور القرآنية على حساب الجمل من حروف الأبجدية من ألف أبجد إلى ياء حطي آحاد ، ومنه إلى س سعفص عشرات ، ومنه إلى غ ضظغ مئات ، إذ قالوا إن حرف نون يدل على خمسين ، وق على مئة ، وحروف الم تدل على بقاء ملك محمد إحدى وسبعين سنة ، وحروف كهيعص تدل على 165 والمص على 161 ، والراء على 231 ، والمرا على 271 سنة ، ولذلك اختلط الأمر علينا فلا نؤمن بك ، فنزلت «فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ» أي ليفتنوا الناس فيضلوهم عن دينهم بالتشكيك والتلبيس بداعي أن المحكم مناقض للتشابه على زعمهم «وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ» وطلب تفسيره حسبما تسول لهم أنفسهم ، وتشتهيه أهواؤهم ، وتميل إليه قلوبهم من التأويلات الزائغة.
والآيات هذه بمعزل عما يتخيلونه من المعاني ويتصورونه من الحسبان ، لقوله تعالى «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ» على الحقيقة المرادة منه «إِلَّا اللَّهُ» الذي أنزله ، وذلك مثل قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) وقوله بيده الملك) وكذلك ما جاء في المجيء والإتيان والقبض المنسوب إليه تعالى مما جاء في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المعبر عنها بآيات الصفات وأحاديثها ، والحكمة في عدد زبانية جهنم ، وحملة العرش ، ودركات النار ، ودرجات الجنة ، وركعات الصلاة ، وأيام الصوم ، واختصاصه برمضان ، وبعض أركان الحج ، ووقت قيام الساعة ، ومعنى الحروف المقطعة أوائل السور ، ووقت طلوع الشمس من مغربها وظهور الدجال ، ونزول عيسى(5/320)
ج 5 ، ص : 321
ابن مريم ، وخروج الدابة ، وبقية أشراط الساعة ، وفناء الدنيا.
وهنا تم الكلام بالوقف على لفظ الجلالة ، وما بعده كلام مستأنف فيبتدئ القارئ بقوله «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» الثابتون فيه الذين أتقنوا أصوله وفروعه بحيث بلغوا من اليقين فيه حدا لا يتطرق إليهم الشك والشبهة معه ، لأن هؤلاء الأبرار القادة الأخيار «يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ» أي المتشابه على ما هو عليه ، واعتقدنا أحقيته على ما جاء من اللّه ، واعترفنا أن أفهام البشر قاصرة عن معرفة المراد منه ، وهذا هو إيمان التسليم وهو مذهب السلف الصالح كما أشرنا إليه عند كل ذكر يتعلق به ، راجع الآية 210 من سورة البقرة المارة.
واعلم أن هذه الجملة الأخيرة حالية ، وفيها على هذه القراءة وفي الوقف على لفظ الجلالة في الجملة قبلها ثناء على اللّه تعالى بالإيمان بما جاء في كلامه بلا تكييف ، وعليه جرى أكثر المفسرين وبه قال ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب والسيدة عائشة وأكثر التابعين وهو الموافق لسياق التنزيل ، ووقف بعض القراء على كلمة (العلم) وتابعه بعض المفسرين ، إلا أن الوقوف عليها يحتاج إلى كلام آخر ليكون مبتدأ ، وفيه ما فيه من تعبير النظم وتبديل المعنى ، تأمل.
ويقول أولئك الكاملون العارفون «كُلٌّ» من المحكم والمتشابه منزل «مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» عز وجل ما علمنا منه وما لم نعلم ، ويجب علينا الإيمان بهما ويفترض علينا أن نكل علم ما لم نعلم منهما إليه تعالى وتعمل بما علمناه.
روي عن ابن عباس أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه : الأول تفسير لا يسع أحدا جهله ، الثاني تفسير تعرفه العرب بألسنتها ، الثالث تفسير تعلمه العلماء بما علمهم اللّه ، الرابع تفسير لا يعلمه إلا اللّه وهو مما استأثر اللّه بعلمه.
والراسخون في العلم هم العلماء العاملون بما علموا المتقون فيما بينهم وبين اللّه ، المتواضعون فيما بينهم وبين الناس ، الخافضون جناحهم للمتعلمين منهم الزاهدون في الدنيا ، المجاهدون أنفسهم في عبادة اللّه ، المخلصون بأعمالهم له ، ذوو القلوب الحيّة المتذكرون بما ذكرهم به ربهم «وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7)» أمثال هؤلاء الراسخين الذين يقفون عند قولهم آمنا به الملهمين علمهم من اللّه عز وجل القائلين عند تلاوة المتشابه «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا» عن الهدى كما أزغت قلوب أولئك المفتونين «بَعْدَ(5/321)
ج 5 ، ص : 322
إِذْ هَدَيْتَنا»
للإيمان بما جاء عنك في كتابك محكمه ومتشابهه بعد أن أرشدتنا لدينك الحق «وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» تثبتا بها على ذلك «إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (8) كثير العطاء ، اسم مبالغة من الواهب بلا أمل عوض أو قضاء غرض ، وهذا هو معنى الهبة الحقيقية ، ولما كانت القلوب محلا للخواطر والإرادات والنيات وهي مقدمات الأفعال وسائر الجوارح تابعة لها ، خصها بالذكر ، والقائلين أيضا «رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ» يوم البعث والفصل الذي ينكره عمه القلوب.
والوعد في هذا اليوم الذي تجتمع فيه الخلائق بعد فنائها هو وعد حق «إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)» كما يحقق وعده في كل ما ذكره في كتابه وعلى لسان رسوله ، فمن سبقت له السعادة في علمه هدي للأخذ بما أنزل اللّه فيحيا ، ومن سبقت له الشقاوة زاغ قلبه فمال إلى التأول فوقه في الشك فهلك.
وبعد أن بين اللّه تعالى في هذه الآيات التسع انفراده بالوهيته وبالحياة الأبدية واستحقاقه للعبادة وأنه هو الواضع للشرائع بما أنزل من الكتب على لسان الرسل ، وانه واهب الحياة لكل حي ، والعقل لكل عاقل ومنظم السنن للخلق ، وجاعل الآيات عبرة لذوي العقول ، وأنه يمهل الظالمين ليرجعوا إليه ، وإن أصروا فلا يهملهم من عذابه لعدم اعتقادهم بما أوجبه عليهم من الأخذ بالكتب والطاعة للرسل ، ثم ندد بالنصارى لاتخاذهم عيسى إلها بسبب بعض ما أظهره اللّه على يده من المعجزات ، ولم يعلموا أن اللّه هو الذي منحه إياها لهدايتهم لدينه في زمنه ، وأنه هو الذي كونه برحم أمه بلا أب وجعله آية منه لعباده ، ليعلموا أن قدرته غير متوقفة على شيء من الأسباب الظاهرة ، ثم انه بين لعباده أن القرآن منه محكم ومتشابه ليتفاوت الخلق في معرفته ، وليعلموا من مغزاها وجوب الأخذ بظاهر المتشابه ، لأن التأويل تحكم في مراد اللّه وهو مذموم عنده ، ومن مقتضى الرسوخ بالعلم التصديق بظاهر ما أخبر اللّه كما يليق بجلاله لا كما تدركه عقولهم من الأمور المحسوسة ، لأن أمور اللّه غير محدودة ، وإدراك البشر محدود ، والمحدود لا يحيط بغير المحدود ، فالاعتراف بالعجز عما لا يدرك والسكوت عن السؤال فيه سدّ لسد مداخل الشيطان إلى الإنسان بما يؤدي لوضع الشك في القلب ، والأحسن(5/322)
ج 5 ، ص : 323
لقليل العلم أن يكف عن التفكير في هذا ويتركه لأهل المعرفة الراسخين في العلم ، لأن قلوب العارفين لها عيون ، ترى ما لا يراه الناظرون.
ثم شرع في بيان حال الكافرين عنده فقال جل جلاله «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» في الآخرة لأنهم تفكهوا في الدنيا وأخذوا لذتهم منها ، فجاءوا للآخرة بلا عمل صالح «وَأُولئِكَ» الكافرون باللّه ورسله الذين ابتاعوا الآخرة بالدنيا والرحمة بالعذاب «هُمْ وَقُودُ النَّارِ» (10) ليس لهم عند اللّه ما يدفع عنهم عذابها ،
فدأبهم التكذيب والجحود «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» مع السيد موسى عليه السلام «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» مع رسلهم «كَذَّبُوا بِآياتِنا» التي أنزلناها لهم على أيدي رسلهم كما كذب أولئك «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ» وأهلكهم بتكذيبهم «وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» (11) إذا عاقب وتفيد هاتان الآيتان أن الإنسان مهما أوتي من قوة مالية أو بدنية لا يقدر أن يقاوم قدرة اللّه ، وأن الكفر بآياته سبب لنقم الدنيا والآخرة ، فعلى العاقل أن يعتبر بمصير الأمم السالفة ويركن للأخذ بما جاءه على لسان رسل ربه كي ينجو مما حلّ بالمخالفين ، فيا سيد الرسل «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» من قومك المحدّين لك «سَتُغْلَبُونَ» في هذه الدنيا حتما مهما كنتم عليه من قوة ، ثم تقتلون وتموتون «وَتُحْشَرُونَ» في الآخرة فتحاسبون على كفركم ثم تساقون «إِلى جَهَنَّمَ» لتجاوزا على كفركم «وَبِئْسَ الْمِهادُ» (12) مهاد جهنم.
مطلب آيات اللّه في واقعة بدر.
ومأخذ القياس في الأحكام الشرعية.
وأن اللّه خلق الملاذ إلى عباده ليشكروه عليها ويعبدوه :
قال ابن عباس وغيره : لما أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قريشا يوم بدر ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال يا معشر اليهود احذروا من اللّه مثل ما أنزل بقريش وأسلموا له ، فقد عرفتم أني نبي مرسل في كتابكم ، فقالوا إنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب ، فلو قاتلناك لعرفتنا ، فأنزل اللّه تلك الآية وهذه «قَدْ كانَ لَكُمْ» أيها اليهود عبرة «آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا» في بدر «فِئَةٌ» قليلة مؤمنة «تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يعني حضرة الرسول وأصحابه «وَأُخْرى » فئة(5/323)
ج 5 ، ص : 324
كثيرة «كافِرَةٌ» يعني كفار قريش «يَرَوْنَهُمْ» أي الفئة الكافرة ترى المؤمنة «مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ» خلالهم فيكونون ثلاثه أمثالهم ، والحال أنهم دونهم لأن المؤمنين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، والكافرون ألفا ، فالقول بأنهم ثلاثة أمثالهم أوفق للمعنى ، وهذا على حد قول من عنده دراهم فيقول أنا محتاج لمثليه أي ما عداه ليكون ثلاثة ، فتكون هذه آية أخرى وحضور الملائكة آية ثالثة «وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده «إِنَّ فِي ذلِكَ» الغلب الواقع من القليل للكثير وتكثير القليل وتقليل الكثير بالنظر «لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (13) وعظة عظيمة لأولي البصائر ، فالذين لا ينتفعون ببصرهم ولا ببصائرهم يخذلون ويهلكون.
يفهم من هذا أن النصرة بالقوة المعنوية أكثر منه بالقوة المادية ، وأن اللّه يكتبه لمن يشاء بقطع النظر عن العدد والعدد ، وأن الثقة باللّه تولد القوة في القلوب ، وبسببها يكون الظفر ، ويستدل منها على وجوب الاتعاظ بالحوادث وقياسها على الوقائع.
ومن هذه الآية والآية الثانية من سورة الحشر الآتية أخذ العلماء القياس في الأحكام الشرعية كما أشرنا إليه في الآية 35 من سورة الإسراء المارة في ج 1 ، وذلك لأن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره وقياسه عليه.
قال تعالى «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ» المعلمة بالغرّة والتجميل الحسان الراعية بنفسها «وَالْأَنْعامِ» من الإبل والغنم وغيرها «وَالْحَرْثِ» يدخل فيه جميع الزروع والأشجار «ذلِكَ» المذكور من أصناف الزينة هو «مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» الواطية السافلة الفانية بما فيها «وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (14) في الآخرة التي فيها من أسباب الزينة ما هو ثابت لا يبيد ، ولم ير مثله في الدنيا إلا من حيث الاسم ، وان هذا التزيين في الحقيقة من عند اللّه تعالى ، فمنهم من يسوقه تزيينه إلى الشقاء ، ومنهم إلى السعادة ، كما هو مدون في أزله ، لأن اللّه تعالى هو الفاعل الخالق لأفعال العباد كلها ، راجع الآية 61 من البقرة المارة والمحالّ التي ترشدك إليها تعلم أن اللّه تعالى خلق هذه الملاذّ وغيرها لعباده كي يشكروه ويعبدوه ، قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(5/324)
ج 5 ، ص : 325
الآية 29 من البقرة المارة أيضا ، وقال تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) الآية 32 من سورة الأعراف ج 1 لا ليكفروا به ويجحدوا نعمه ، وإنما قسم النساء في هذه الآية لأنهن أصل الملاذ الدنيوية ، وما بعدهن من تتمة الشهوات التي يميل إليها الطبع البشري في الدنيا ، ولهذا جاءت مرتبة على فطرتهم لما فيها من التباهي والتفاخر والتعالي ، وقد جاءت هذه الآية بعد ما بيّنه اللّه تعالى في الآيات قبلها مما يحدثه في قلوب المجاهدين من الثبات وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم ووجوب الثقة باللّه أعقبها بذكر ما من شأنه أن يثبط الهمم ويحول دون تسابق الناس في ميدان الجهاد ، فذكر فيها أن الانهماك في هذه الشهوات يضعف محبة اللّه في القلب ، ويثبط عن الإقدام في سبيل اللّه فعلى العاقل أن لا يندفع وراءها ، لأنها مهما كانت فهي فانية ، وأن يشغل نفسه بما يؤدي لطاعة اللّه ورسوله.
قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء اللاهين في زحارف الدنيا «أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ» المذكور كله الذي سيكون «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ» في الآخرة هو «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» حسان فيها مقصورة لا يراهن غيرهم ولا يرون غيرهن «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» (15) يؤثر ما عنده من العطاء الخلد لمن يؤثر الآخرة على الدنيا ، وقد حث اللّه تعالى على ترك الشهوات الدنيوية لأنها فانية وقد تؤدي بصاحبها إلى الخسران في الآخرة ، ورغب بما عنده من النعيم الباقي ليعملوا بما يؤملهم إليه.
وهذه الآية تدل على أن اللّه تعالى هيأ لعباده المتقين
جزاء ما قدمت أيديهم من الخير ، وعلى مخالفة ما تشتهيه أنفسهم الطّماحة ، ثم وصفهم بقوله «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ» (16) وهؤلاء المتحققون بتلك النعم النفيسة قد خص منهم «الصَّابِرِينَ» على البلاء «وَالصَّادِقِينَ» بما يقولون ويفعلون لذوي الحاجات وأرحامهم «وَالْقانِتِينَ» لربهم المتهجدين بالليالي «وَالْمُنْفِقِينَ» من أموالهم على الأصناف الثمانية المذكورين في الآية 60 من سورة براءة الآتية «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ» لذنوبهم آناء الليل وأطراف النهار وخاصة «بِالْأَسْحارِ» (17)(5/325)
ج 5 ، ص : 326 ثلث الليل الأخير وإنما خص الاستغفار بها ، لأنها أوقات الإجابة للقائمين وأوقات توغل نوم الغافلين.
قال تعالى «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» بأنه الإله المنفرد الخالق المحيي المميت «وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ» شهدوا بما شهد اللّه ذاته جلت وعظمت ، وشهدوا أنهم من جملة خلقه ، وأنه هو وحده المدير لشنون الكون ، وانه كان ولم يزل «قائِماً بِالْقِسْطِ» العدل ومتصفا بصفات الكمال «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (18) في تصرفاته وأفعاله وأحكامه ، وبناء على هذه الشهادة الصادرة من الرب الجليل صاحب الإعطاء والمنع يجب على الخلق كافة الاعتراف بتوحيد الرب وتنزيهه عن جميع النقائص.
لما قدم أحبار الشام إلى المدينة قالوا ما أشبه هذه بصفة مدينة النبي الذي يخرج آخر الزمان ، ولما دخلوا عليه عرفوه بالصفة الموجودة في كتبهم ، فقالوا له أنت محمد ؟ قال نعم ، قالوا وأنت أحمد ؟ قال نعم ، قالوا فإنا نسألك عن شيء ، فإن أخبرتنا آمنا بك وصدقناك ، قال اسألوا ، قالوا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللّه عز وجل ، فأنزل اللّه هذه الآية فأسلموا لما رأوا من الحق والصدق فيه وفي وصفه الكامل الشامل.
قال تعالى «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» راجع الآية 3 من المائدة الآتية (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) والآية 85 الآتية وهي (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» في نبوة محمد ودينه «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بأن الإسلام هو الدين الحق ، فاختلفوا فيه «بَغْياً بَيْنَهُمْ» وحبا لبقاء الرياسة فيهم ، فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية ، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية كما مرّ في الآية 112 من البقرة ، فردّ اللّه عليهم بأن الدين المرضيّ عند اللّه هو الإسلام «وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ» ويتخذ إلها من دونه ودينا غير دينه «فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (19) يحاسب عباده على ما يقع منهم وأنه يجازيهم إن شاء «فَإِنْ حَاجُّوكَ» يا سيد الرسل وجادلوك في الدين وخاصموك من أجله «فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ» وحده وخص الوجه لشرفه وهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل بالنسبة إلينا ، واللّه منزه عن الجزئية والكلية وعن جميع ما هو من سمات البشر «وَمَنِ اتَّبَعَنِي»(5/326)
ج 5 ، ص : 327
أسلموا للّه أيضا ، ومن هنا يراد معناه الدال على الجمع أي انقادوا بكليتهم للّه وأخلصوا له الدين إخلاصا كاملا «وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» من اليهود والنصارى «وَالْأُمِّيِّينَ» من مشركي العرب وغيرهم ممن لا كتاب لهم «أَ أَسْلَمْتُمْ» مثل إسلامنا هذا بأن نعبد اللّه وحده ولا نجعل له ولدا ولا شريكا «فَإِنْ أَسْلَمُوا» وانقادوا للّه مثلكم وخضعوا خضوعكم إلى الدين الحق الثابت في كتبهم والمعترف به عند الشدائد وأسلموا إسلاما حقيقيا «فَقَدِ اهْتَدَوْا» إلى الحق وصاروا مثلكم «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عن الإسلام وأعرضوا عنكم ولم يعترفوا بما أوجبه اللّه فاتركهم «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ» فقط ، وقد قمت به وما عليك أن لا يهتدوا ، لأن القبول والاهتداء على اللّه «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» (20) والبصير يعلم بمن يؤمن ومن يصر على كفره.
وهذه الآية محكمة لا منسوخة كما قاله بعض المفسرين ، لأنها مسوقة لتسلية حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ليخفف عن نفسه من شدة حرصه على إسلامهم ويهون من تألمه على إعراضهم ، وقد وضح اللّه لهم الشريعة التي يريد من خلقه السير عليها ، وان الأديان السماوية يرجع أساسها إلى دعوة واحدة هي التوحيد للّه ، وان الاختلاف وقع من تلاعب الرؤساء في الديانتين اليهودية ولنصرانية بسبب ما أدخلوه من تحريم وتحليل وتغيير وتبديل على حسب أهوائهم ، وان من يدعوا الناس إلى الحق فقد قام بواجب الدين ولا يضره عدم الإجابة وإعراض الناس عنه
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ» من العلماء ولأولياء «مِنَ النَّاسِ» جميعهم أولهم وآخرهم «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (21) عاجل وآجل ، كان أنبياء بني إسرائيل بوحي إليهم بإنذار قومهم دون أن يأتيهم كتاب من اللّه ، لأنهم ملزمون بأحكام التوراة ، فكانوا يقتلونهم فيقوم رجال ممن آمن بهم فينهونهم ويأمرونهم بالكفّ عنهم ، فيقتلونهم أيضا ، فأخبر اللّه نبيه محمدا بما كان منهم ليقصه على يهود المدينة وغيرهم فيعلموا أنه بإخبار اللّه إياه لعلهم يؤمنون ، فلم يتجع بهم «أُولئِكَ الَّذِينَ» هذه صفتهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» ولعنهم الناس وأخزوهم على فعلهم ذلك فيها «وَالْآخِرَةِ» تحبط(5/327)
ج 5 ، ص : 328
فيها لأنهم يحرمون ثوابها بسبب جناياتهم تلك «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (22) يخلصونهم من عذاب اللّه.
بين اللّه عز وجل في هذه الآية مصير أولئك الكفرة وما أعده لهم ولمن على شاكلتهم ، وذكر فيها شدة نقمته على اليهود لكفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبياء ومحاربتهم لدعوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وإن كل من يتصف بإحدى هذه الخصال الثلاث هو كافر لا ينتفع بعمله الحسن ، إذ ظهر أنه لم يرد به وجه اللّه ، وتفيد هذه الآية أن محاربة من يدعو إلى الحق تحبط الأعمال كالكفر ، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب من المؤمن حتى في حالة الخوف ، لأن اللّه تعالى مدحهم في هذه الآية وجعل منزلتهم بعد الأنبياء ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
وقال عمر بن عبد اللّه :
لا نعلم عملا من أعمال البر أفضل ممن قام بالقسط فقتل عليه.
وبعد أن أمر اللّه رسوله بالإعراض عن الكافرين وأخبره بمصيرهم أراد أن يخفف من تألمه ويقلل من حزنه على عدم قبولهم نصحه وإرشاده فقال جل قوله «أَ لَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً» حظا وافرا «مِنَ الْكِتابِ» وهم اليهود «يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» فيما يختلفون فيه من أحكام التوراة.
وقال بعض المفسرين القرآن لأن ما فيه موافق للتوراة غالبا «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ» عن التحاكم إليه «وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (23) عنه مع أن الواجب يدعوهم للانقياد لأحكامه والإذعان لحكمه «ذلِكَ» عدم قبولهم وإعراضهم «بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» بقدر أيام عبادتهم العجل الواقعة من أسلافهم «وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» (24) من زعمهم ذلك ومن قولهم نحن أبناء اللّه وأحباؤه ، قال ابن عباس : دخل رسول اللّه على جماعة من اليهود فدعاهم إلى اللّه ، فقال له فيهم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملة إبراهيم ، قال إن إبراهيم كان يهوديا ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم هلموا إلى التوراة لتحكم بيننا ، فأبيا فنزلت.
وقيل إن رجلا زنى بامرأة فقضى رسول صلّى اللّه عليه وسلم برجمه ، فأنكرا عليه ، فقال ذلك ، فنزلت.
قال تعالى مندّدا صنيعهم هذا «فَكَيْفَ» يكون حالهم «إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ(5/328)
ج 5 ، ص : 329
فِيهِ»
المحقق وقوعه الثابت جمع الناس فيه «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» جزاء ما قدمت في الدنيا من العمل «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (25) بزيادة على جزائهم ولا نقص من ثوابهم ، وتشير هذه الآية إلى التعجب من حال المذكورين فيها في الآخرة ، إذ تخرس ألسنتهم الطوال فيها وتخمد أنفسهم الشامخة وتقتصر همتهم المتكابرة فيبتهون ، وتشخص أبصارهم فيذلون ، وتفيد أن من دعي إلى الاحتكام إلى كتاب اللّه وجبت عليه الإجابة ، وتومىء إلى أن مجرد الانتماء إلى الأديان أو الانتساب إلى الأنبياء أو الاتصال بالأولياء لا يكون سببا لسعادة الإنسان ، ولا مدادا إلى نجاته من عذاب اللّه ، بل لا بد من العمل بالشريعة والطاعة إلى الأوامر أو النواهي ، لأن من الحمق أن يدعي الرجل التمسك بدين لا يخضع لحكمه ، ومن الخطأ أن يدعي الانقياد إلى الرسل ولا يعمل بإرشادهم ونصحهم ، ومن الجهل أن يتلو كتابا لا يفقه معناه ولا يميل لمرماه ، ومن الغرور أن يتكل على ما لم يعتقد صحته.
هذا وبعد أن بين اللّه تعالى لرسوله ما يقوله أهل الكتاب من التعنت وما يتذرعون به من الإعراض عن الإيمان أراد أن يبين له أن السر في ذلك هو إرادته لا غير فقال جل قوله يا سيد الرسل «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (26) ومن بعض قدرتك أنك «تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» بصورة ظاهرة غير محسوسة ومعلومة غير معروفة ، راجع الآية 49 من سورة الأنفال المارة فيما هو من هذا القبيل.
أما معنى قوله «وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» فقد مرّ في الآية 13 من سورة فاطر في ج 1 وهي مبدوءة بالياء كهذه ، ولا يوجد في القرآن آية من نوعها مبدوءة بالتاء غير هذه ، فراجعها.
«وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (27) تقدم تفسير مثلها كثيرا.
قال قتادة : ذكر لنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارسل والروم في أمته ، وقالت اليهود لا نطيع رجلا ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت هذه الآية.(5/329)
ج 5 ، ص : 330
مطلب في معنى الحساب وعلامة رضاء اللّه على خلقه وموالاة الكفرة وتهديد من يواليهم أو يحبتهم :
واعلم أن كلمة الحساب تأتي على ثلاثة أوجه بمعنى التعب والسبب والتغير والبسط كما هي الحال هنا ، وبمعنى العدد ، كما في قوله تعالى (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الآية 14 من سورة الزمر في ج 2 ، وبمعنى المطالبة كما في قوله تعالى (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الآية 39 من سورة ص في ج 1 ، فكل ما جاء في القرآن العظيم من هذه اللفظة لا يعدو احدى هذه المعاني الثلاثة.
وما جاء في بعض الكتب المنزلة : أنا اللّه ملك الملوك ومالك الملك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة ، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا لي أعطفهم عليكم.
وجاء في الخير أن موسى عليه السلام قال فما علامة سخطك من رضاك يا رب ؟ فأوحى إليه إذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضاي ، وإذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطي.
وهذا على حد قوله كما تكونوا يولى عليكم.
وقوله أعمالكم عما لكم.
قالوا للحجاج الثقفي لم لا تعدل وقد شاهدت زمن عمر ؟ قال تبذروا لي أنعمر لكم.
أي كونوا كأبي ذرّ من أصحاب عمر في الزهد والتقوى أكن لكم كعمر في العدل والإنصاف.
وهذا لا يخلصه من اللّه فيما جار في حكمه إذ كان عليه أن يعدل في كل حال ، لأن الحاكم مكلف بالعدل أحسن الناس أم أساؤوا.
وتفيد هذه الآيات أن العزة والكرامة من منح اللّه تعالى ينشرها على من يشاء من عباده وأن الخير كله منه ، وان تقسيمه على الخلق تابع لسنن مطردة عنده تعالى يجعلها في صالح خلقه ، كما أن تفاوت ساعات الليل والنهار وتداخلها بحسب تطور الفصول هو في مصلحتهم أيضا.
والحكم الشرعي وجوب الاعتقاد بما ذكر من المشيئة لا على الأسباب ، لأن القول بترتب الأسباب على المسببات يستلزم الدور والتسلسل ويتعارض مع كمال القدرة ، وان ما قضت به حكمة اللّه من السنن والأسباب الظاهرة عبارة عن وسائل ومظاهر خارجية لا تأثير لها في خلق الحوادث وإيجاد المسببات ، لأن اللّه تعالى له أن يغير تلك السنن ويعطل هاتيك الأسباب التي نراها(5/330)
ج 5 ، ص : 331
ويفعل ما هو من مقتضى مشيئته.
وبعد أن أمر اللّه تعالى رسوله في ذلك الدعاء المشار إليه في الآيتين المارتين وأفهمه بأنه هو الذي يملك الملوك ويمنح العزة لمن يشاء من عباده ليتحققوا ويتيقنوا أن لا يكون شيء إلا بإرادته ، طفق يحذره من الاتصاف بأحوال لا تتفق وكرامة المؤمن الصادق الواثق بربه ، فقال «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ» أنصارا لهم وأعوانا على غيرهم «مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» إذ قد تؤدي موالاتهم للتفريط في حقوق اللّه والإفراط في حقوق المؤمنين «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» فيواليهم ويحبهم وينقل أخبار المسلمين إليهم «فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ» ولا قيمة لهم عند اللّه ، ولا وزن ، وقد يفضي لغضب اللّه انظر لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) الآية 144 من سورة النساء الآتية ، وان اللّه تعالى نهى حتى عن اتخاذ الآباء والأبناء أولياء إذا كانوا كفارا كما سيأتي في الآية 25 من سورة التوبة الآتية.
وسيأتي في الآية 118 مما هو من هذا القبيل وأشد ، لأن موالاتهم توجب معاداة اللّه ، وقيل في هذا :
تودّ عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب
أي ليس الحمق عنك بمفارق بل هو ملازم لك ما دمت على هذه الحالة وقول الآخر :
إذا والى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
وهذا تكرر النهي عن ذلك في القرآن العظيم كما سيأتي في الآيتين المذكورتين والآية 54 من سورة المائدة وأول سورة الممتحنة وآخر سورة المجادلة الآتيات ، فضلا عما جاء في الأحاديث الصحيحة من تحذير موالاتهم بصداقة أو مصاعرة أو قرابة أو نسبة أو لأمر ما من أسباب المعاشرة والتقرب إليهم ، لأن المحبة يجب أن تكون للّه وفي اللّه ومن أجله ، والبغض كذلك في سبيل اللّه ولا نتهاك حرماته ، ولأجل أوليائه ، وهذا أصل من أصول الدين التي يجب التقيد فيها ، وهذا لا يعني عدم مراعاة حقوقهم ومحافظتهم وكف الأذى عنهم وعيادتهم في الأفراح والأتراح وزيارتهم ومجالستهم وغيرها ، لأنه حق على المسلمين كلهم لقوله صلّى اللّه عليه وسلم لهم ما لنا وعليهم ما علينا إذا قاموا بالشروط المأخوذة عليهم وأدّوا الجزية المفروضة عليهم ، (5/331)
ج 5 ، ص : 332
أما إذا خالقوا وتجاوزوا ونقضوا فلا ، والحب المذموم هو الذي يوجب ضررا دينيا أو دنيويا لعامة المسلمين وخاصتهم ، وسيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المشار إليها آنفا إن شاء اللّه تعالى القائل «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» فتخافوا فتنة محققة أو بغلبة الظن تضر بالمسلمين وليس بوسعكم دفعها ولا تجدون من يعصمكم منها ، فإنه يجوز لكم موالاتهم ظاهرا مع الكراهة الباطنة كالمسلم المنفرد في دار الحرب ، وفيما إذا ظهروا على المسلمين والعياذ باللّه ، ففي هاتين الحالتين وشبههما فلا بأس من مداهنتهم ومداراتهم كمن أكره على الكفر ، فإنه يجب عليه أن يكون قلبه مطمئنا باللّه والإيمان به كما بيناه في الآية 106 من سورة النحل المارة في ج 2 ويشترط أن يكون الخوف صحيحا ، وأن يكون القتل أو تلف العضو محققا أو بغلبة الظن ، لأن دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان واجب ، وإلا فلا يجوز حتى انه لو صبر على القتل ولم باطنهم في أمر المسلمين فهو خير له ، وله عند اللّه الأجر العظيم لأخذه بالعزيمة وترك الرخصة ، لأن الرخصة إنما تباح إذا لم ينشأ عنها مضرة عامة للمسلمين فإذا تحقق حصولها ولو بغالب الظن فليس له الأخذ بها ، تدبر «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» من أن تخالفوا أمره أو تولوا أعداءه إذ يشتد غضب اللّه لهذين لأمرين أكثر من غيرهما «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (28) والمرجع فلا مهرب لكم أيها الناس منه.
واعلموا أن من تيقّن أن مرجعه إلى اللّه عمل لما به رضاء ولم يقدم على ما نهاه.
هذا ، وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما ذهب رسول اللّه إلى بدر ، وكان تبعه رجل من المشركين ذر جرأة ونجدة ، وان المسلمين فرحوا به ، فلما رآه الرسول قال له ارجع فلن أستعين بمشرك ويروون هذا عن عائشة رضي اللّه عنها فلا نصيب له من الصحة ، لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم أي أعطاهم من الغنيمة شيئا رآه ، لأن الرضخ عطاء غير كثير أقل من سهم المجاهد ، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن ، فالاستعانة بهم جائزة بشرط الحاجة والوثوق ، وبدونهما لا ، وعلى هذين الشرطين يحتمل خبر عائشة إن صح ، وما رواه الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وله خلفاء من اليهود ، فلما خرج صلّى اللّه عليه وسلم يوم الأحزاب(5/332)
ج 5 ، ص : 333
قال له إن معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معك ، فستظهر بهم على العدو ، بعيد أيضا ، لأن حادثة الأحزاب لم تقع قبل ، أو عند نزول هذه هذه الآية وانطباقها عليها لا يعني أنها نزلت فيها ، وكثير من الآيات مما نزل في مكة ينطبق على حوادث وقعت في المدينة وبالعكس ، فلا يقال إنها سبب للنزول.
وعلى هذين الشرطين جاز التزوج بالكتابيات واتخاذهن والرجال منهم خدما ، أما من قال بعدم جوازهم عمالا واستخدامهم بالدواوين الحكومية فهو مقيد بنفي هذين الشرطين أيضا ، أما إذا كانوا متلبسين بالشرطين المذكورين وهما الحاجة والوثوق فلا بأس ، تدبر.
وكونهم من أهل الذمة الذين تنبغي مجاملتهم واحترامهم ومخالطتهم بالحسنى يؤيد ما نحن فيه ، لأن هذا من البر الذي أمرنا اللّه تعالى به في الآية 8 من سورة الممتحنة الآتية فراجعها.
وقالوا أنزلت هذه الآية في حاطب ابن بلتعة ، أو في عبد اللّه بن أبي بن سلول ، وأضرابه من المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، وهي عامة في كل من هذا شأنه وفي من يظهر هو عورات المسلمين لأعدائهم خاصة ، وما ذكرناه أعلاه الحكم الشرعي في هذه الآية ، ومنه يؤخذ عدم جواز ولاية الكافر على المسلم ، بأن يكون فيما أو ووصيا عليه ، ولا يعقل المسلم جناية الكافر ولا الذمي لما فيه من الولاية له والنصر وان الاتقاء المرخص به في هذه الآية بشترط فيه تحقق تلف النفس أو بعض الأعضاء ، أو ضرر كبير يحل فيه ، والأحسن أن يأخذ بالعزيمة إذا كان فيه دفع ضرر عام عن المسلمين ، أو فيه إعزاز دين المسلمين فيما يتعلق بالحروب وغيرها.
وتومىء هذه الآية إلى جواز عقد المعاهدات والاتفاقات معهم إذا ضمن فيها مصلحة المسلمين ، لأن النهي لا يمنع من هذا.
قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الذين يوالون الكفرة خلسة «إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ» من مودتهم ومحبتهم «أَوْ تُبْدُوهُ» غير مبالين به ولا بإخوانكم المؤمنين «يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ويعاقبكم عليه وكيف يخفى عليه حالكم هذا وهو يطلع «وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (29) لا يعجزه من وما فيهما ، واحذروا أيها الناس «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً» مثل ما عملت لم(5/333)
ج 5 ، ص : 334
يزد ولم ينقص «وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ» محضرا أيضا كما عملته ، وحذف لفظ محضر من هذه الجملة لدلالة وجوده في الأولى ، كما يحذف مثله من الأول بدلالة وجوده في الثانية ، وهو كثير في القرآن ، ومن محسنات البديع في الكلام ولبحثه صلة في الآية 86 من سورة النساء الآتية.
وإن النفس التي عملت السوء «تَوَدُّ» في ذلك اليوم العصيب «لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ» بين عملها السيء «أَمَداً بَعِيداً» زمانا ومكانا بحيث لا تراه «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كررت هذه الجملة تأكيدا لزيادة الاعتناء بالاجتناب «وَاللَّهُ رَؤُفٌ 30» ولذلك يحذرهم بالتباعد عما يضرهم لئلا يؤدي بهم إلى الهلاك.
مطلب من معجزات القرآن تماثيل الأعمال كالسينما وفي طاعة اللّه ورسوله التي لا تقبل الأولى إلا مع الثانية وهناك من الأمثال ما يقاربها :
تفيد هذه الآية أن أعمال العباد كلّها تجسم لهم يوم القيامة كما وقعت منهم وتعرض عليهم بأزمنتها وأمكنتها وهيئتها كما يعرض شريط السينما الآن فيسرون لما فيها من الخير ويساؤن لما فيها من الشر ، وهذه من معجزات القرآن العظيم إذ لم يغفل شيئا مما وقع في الدنيا من أولها إلى آخرها ، راجع الآية 88 من سورة الأنعام والآية 49 من سورة الكهف المارتين في ج 2.
وتشير أيضا إلى وجوب عدم التعرض لذات اللّه تعالى بالبحث عن كنهها أو تصورها وهيئتها ، لأنه قد يوقع في نسبة التجسيم والتكييف وهما محالان على اللّه تعالى ، ولهذا قال (ص) :
تفكروا في آلاء اللّه ولا تفكروا في ذاته متهلكوا.
وترمي إلى أن العبد إذا كان يوم القيامة تمثل له أعماله ، وأنه يسر لما حسن منها ويساء لما قبح ، فعلى العاقل أن لا يقدم على ما يعاقب عليه ، ويكثر مما يثاب عليه.
قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء القائلين نحن أبناء اللّه وأحباؤه وإلى وفد نجران القائلين إنما نقول إن عيسى بن اللّه محبة فيه وتعظيما له «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 31» نزلت هذه الآية ردّا لهم وتعليما بأن طاعة اللّه هي محبته ولذلك أمره بقوله لهم «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» لتكونوا أحبابه وأنبيائه على أنه هو الأب الأكبر(5/334)
ج 5 ، ص : 335
لجميع الخلق «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنكو لم يمتثلوا أمرك وأصروا على كفرهم «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)» ومن لا يحبه اللّه فإنه يبغضه يا ويله ، لهذا فإنه تعالى رسم لعباده في هذه الآية طريق القرب لرضائه والحصول على محبته ، وبين لهم أن ذلك يكون بمتابعة رسوله في أقواله وأفعاله وفي كل ما يندب إليه.
نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبي سلول إذ قال إن محمدا يريد أن يجعل طاعته كطاعة اللّه ، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى.
مشعرة بأن طاعة الرسول هي طاعة اللّه ولا تتم طاعة للّه إلا بطاعة الرسول.
والحكم الشرعي أن طاعته واجبة كطاعة اللّه ، والامتناع عنها يعد كفرا يعاقب عليه من المقالات التي لا تقبل الجملة الأولى منها إلا بالثانية المعطوفة عليها ، فلا تقبل طاعة اللّه مع عدم طاعة الرسول ، وإن زعم أنه مطيع ومطيع ، والثانية قوله تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية 14 من سورة لقمان في ج 2 ، فمن شكر اللّه ولم يشكر والديه فكأنه لم يشكر اللّه ولا يقبل منه شكره إن لم يشكر والديه.
والثالثة قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الآية 43 من سورة البقرة المارة وهي مكررة كثيرا في المكي والمدني ، فمن لم يزك كأنه لم يقم الصلاة.
وهنا يقال أربعة تحتاج إلى أربعة : 1 - الحب إلى الأدب ، 2 - والسرور إلى الأمن ، 3 - والقرابة إلى المودة ، 4 - والعقل إلى التجربة.
وأربعة تؤدي إلى أربعة : 1 - العقل إلى الرياسة ، 2 - والرأي إلى السياسة ، 3 - والعلم إلى التقوى ، 4 - والحلم إلى التوقير.
وهنا مثلثات أخر : المؤمن لا يخلو من قلة أو ذلة أو علة.
وثلاثة لا ينامون :
البردان والخائف والجائع.
وثلاثة لا يبردون : الوجه والجاهل والمجنون ، أي لا يعرفون البرد ولا مضرته.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : من أطاعني فقد أطاع اللّه ، ومن عصاني فقد عصى اللّه ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني.
وقيل :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا محال في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع(5/335)
ج 5 ، ص : 336
وعليه فإن من ادعى محبة اللّه وخالف سنة رسوله كان كاذبا في دعواه ، لأن من أحب حبيبا أحب من يتصل به ، حتى داره وكلبه ، وقال العامري :
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
هذا وبعد أن بين اللّه تعالى لعباده طريق الظفر بمحبته وسبيل نيل رضوانه ، أراد أن يبين لهم بعض من اصطفى من عباده فقال عز قوله «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ» إسماعيل وإسحاق ويعقوب «وَآلَ عِمْرانَ» موسى وهارون وأولادهم أو مريم وعيسى إذ قد يكون المراد بعمران والد مريم والأول أولى واللّه أعلم ، واختارهم لذاته «عَلَى الْعالَمِينَ» (33) من أهل زمانهم وهذان الآلان النجيان كانا «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» على دين واحد وعقيدة واحدة «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لمن يدعوه بنية خالصة «عَلِيمٌ» (34) بمن يؤهله لهذا الاصطفاء ، لأنه أعلم حيث يجعل رسالته.
قال ابن عباس : قالت اليهود نحن من ذرية إبراهيم وإسحق وعلى دينهم ، فأنزل اللّه هذه الآية ترد عليهم بأن اللّه اصطفى هذه الذرية للإسلام وإبراهيم كان مسلما ، فلستم من ذريته ما دمتم على يهوديتكم.
واذكر يا سيد الرسل لقومك وأمتّك «إِذْ قالَتِ» حنّة بنت فاقوذ «امْرَأَتُ عِمْرانَ» بن باثان أحد رءوس بني إسرائيل ، قالوا كان بينه وبين عمران والد موسى ألف وثمنمئة سنة ، ومقول القول «رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» عتيقا خالصا لعبادتك لا أسفله بشيء من أمور الدنيا «فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لدعائي «الْعَلِيمُ» (35) بنيتي وحقيقة نذري «فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» بأن هذه الأنثى خير من كثير من الذكور لما سيكون منها إلا أنه كان متعارفا عندهم أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة ، لذلك قالت ما قالته على سبيل الاعتذار «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى » في جواز تحريرها وصلاحيتها للنبوة «وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ» ومعناه الخادمة والعابدة «وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها» أعيذها بك يا رب «مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» (36) وأحصنها(5/336)
ج 5 ، ص : 337
باسمك من غوايته فلا تجعل له سبيلا عليها.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال :
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : ما من بني آدم من مولود إلا نفسه الشيطان حين يولد ، فيستهل صارخا من نخسه إياه إلا مريم وابنها.
ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم (وَإِنِّي أُعِيذُها) الآية.
قال تعالى مجيبا لهذه النادرة الكريمة «فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً» بأن غرس فيها الصلاح والعفّة والثقة باللّه تقديرا لثقة أمها به وإخلاصها إليه وسلك بها طريق السعادة وسوى خلقها فنشأت كأحسن نساء زمانها «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» بأن جعله فيما عليها وضامنا لمصالحها وهو زوج خالتها إذ توفي والدها وهي في بطن أمها فتربت في حجرة تربية عالية ، وناهيك بتربية معلمي الناس التربية حتى إذا كبرت بني لها محرابا في الكنيسة مرتفعا ، وصار يتعاهدها وحده ويأتيها بطعامها وشرابها ، وأول ما رأى من كرامتها على ربها أنه «كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً» فاكهة بغير أولها ولما تكررت رؤيته لتلك «قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا» الرزق ومن أين أتاك ومن الذي جاءك به وهو لا يوجد لفوات موسمه وعدم حلول أوانه «قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لأني أراه بحضر إلى دون أن يأتي به أحد ولا تعجب أيها العم «إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (37) ومن حيث لا يحتسب الإنسان بمحض الفضل مما لا يدخل تحت عد أو حصر من شيء لا ينقص ولا يحد أي أنه من ثمر الجنة إذ لا يوصف غيره بما ذكر وهذا من الإحسان الذي يأتي بلا كسب ولا عناء.
مطلب ولادة مريم من حنة وتزويج زكريا من إيشاع وقصتهما وما يتعلق فيهما :
وخلاصة هذه القصة على ما ذكروا أن زكريا عليه السلام بن آذن بن مسلمة ابن حبرون من أولاد سليمان عليه السلام تزوج إيشاع اخت حنه أم مريم عليها السلام وكانت حنة زوجة عمران أيست من الولادة فبينما هي في ظل شجرة ، رأت طائرا يطعم فرخا فتحركت نفسها ودعت اللّه أن يهب لها ولدا على أن تتصدق به إلى بيت المقدس سادنا ، فحملت بمريم فأخبرت زوجها فقال ويحك كيف إذا جئت بأنثى ؟
فاهتمّا لذلك ثم مات عمران ووضعت بعده مريم فاعتذرت إلى ربها وهو عالم بذلك(5/337)
ج 5 ، ص : 338
فسمتها العابدة أو الخادمة وتضرعت إلى اللّه أن يعصمها ويجعلها صالحة لأنها من بيت الصالحين فلفتها وألقتها في المسجد لدى سدنته من آل هرون ، وحيث كان أبوها امامهم أراد كل منهم ضمها إليه ليربيها ، فاقترعوا عليها وألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها في نهر الأردن ، على أن الذي يظهر قلمه تكون له ، فرست كلها وهي تسع وعشرون قلما وطاف قلم زكريا فقط ، فأخذها وتكفل بها وتقبلها اللّه منه ورضيها وأنشأها نشأه حسنة طاهرة مرضية كما ذكر اللّه ، ولما رأى زكريا ما عندها من الفاكهة كما مر في الآية وأن أمها ولدتها بعد الكبر واليأس وكان هو أيضا لم يأته ولد ، طمع في ربه عز وجل وقال الذي يقدر على هذا قادر على أن يعطيني ولدا على شيخوختي وانقراض أهل بيتي ، قال تعالى «هُنالِكَ» في ذلك الوقت الذي رأى فيه معجزة الولادة مع الكبر ومعجزة وجود الفاكهة بغير أوانها وكل ذلك على خلاف العادة فقد حدا به الحال إلى أن «دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ» وهو جالس في محراب مريم «قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ» (38) فأجابه عزّ وجل بقوله «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ» جبريل عليه السلام ومرافقوه «وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ» نفسه حالا وقالوا له «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى » سماه بهذا الاسم لأن اللّه تعالى أحيا به عقر أمه وكبر أبيه «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» أي بعيسى عليه السّلام ابن خالته ، لأنه كان بكلمة كن من غير أب فوقع عليه اسم الكلمة ولأن اللّه تعالى بشر به أمه على لسان جبريل فسمي كلمة ، ولأن اللّه أوحى إلى الأنبياء قبله في الكتب المنزلة أنه يخلق نبيا من غير أب ، فلما ولد قالت الأحبار المطلعون على ذلك هذا هو ملك الكلمة أي الوعد الذي وعد اللّه به ، قالوا وولد قبل عيسى بستة أشهر ، وهو أول من آمن به ، وان عيسى تعمد عنده ، وقتل يحيى قبل
رفع عيسى إلى السماء كما مر بيانه ، وسبب قتله في الآية 7 من سورة الإسراء ج 1 «وَسَيِّداً» رئيسا ليسود الناس لأنه من بيت الأسياد ، وعظيما جليلا مهابا «وَحَصُوراً» لا يأتي النساء هضما لنفسه مع القدرة على الجماع ، لأن العنّة نقص والأنبياء مبرءون من النقص المادي والمعنوي «وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (29) لإرشاد عبادك وإعلاء كلمتك ، أي(5/338)
ج 5 ، ص : 339
مرسلا لا نبيا فقط «قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ» وهاتان الحالتان لا يتأتى معهما حصول الولد إلا علي طريق خرق العادة وهو من عادتك «قالَ كَذلِكَ» مثل هذا الفعل الخطير الذي يعجز عنه البشر يحدثه ربك «اللَّهُ» العظيم الذي «يَفْعَلُ ما يَشاءُ» بأن يهب لكما ولدا وأنتما على حالتكما هذه.
قالوا وكان عمره مئة وعشرين سنة ، وعمر زوجته ثمانيا وتسعين سنة ، وقوله هذا ليس على طريق الاستبعاد بل استعظاما للقدرة واعتذارا منه عز وجل ، لأنه يعلم أن ربه قادر على أكثر من ذلك ، ولكن الذي ساقه على ذلك عظم سروره وشدة فرحه بإجابة دعوته حدث به إلى ذلك ، والتذاذه بسماع كلام ربه ، عدا ما قاله سفيان بن عيينة رحمه اللّه بأنه كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة ، وانه نسي السؤال وقت البشارة ولذلك استبعد شيئا على خلاف جريان العادة ، ينفيه وجود الفاء الدالة على التعقيب بلا فاصلة تأمل.
وما قيل إن الخطاب الأخير كان مع الملائكة يرده صراحة القول باسم
(رَبِّ) وإياك أيها العاقل أن يخطر ببالك معنى الشك ، فإن ساحة الأنبياء مبرأة منه البتة ، فاحذر أن يحوك في صدرك شيء من هذا ، قالوا أزال اللّه عقمهما وكبرهما وجعلهما صالحين لذلك ، راجع الآية 90 من سورة الأنبياء المارة في ج 2 ، إذ قال فيها (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) قال بعضهم بقيا على حاهما وهو أبلغ في القدرة وأعجب ، ولكن الأول أولى لصراحة القرآن بالإصلاح ، وكلتا الحالتين عند اللّه سواء ، إذ لا يعجزه شيء «قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» على حمل زوجتي «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» أي لا تقدر على تكليم أحد خلاها شفاها راجع الآية 10 من سورة مريم في ج 1 وأفضل العبادة الصمت وانتظار الفرج.
قالوا ولما حملت عقد لسانه إلا عن ذكر اللّه كما جاء في قوله عزّ قوله «وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» (41) وهذه من المعجزات الباهرة لأن قدرته على الذكر دون الكلام مع الناس أمر خارق للعادة وإنما منع من الكلام ليخلص العبادة للّه على هذه النعمة ، وكان يشير لمن يكلمه بالمسبحة لأن الرمز هو الإشارة باليد أو بإحدى الأصابع أو العين أو الحاجب أو الرأس.(5/339)
ج 5 ، ص : 340
ومن قال إن صومهم كان بلا كلام خالف صريح القرآن من غير حاجة إلى العدول عن ظاهره وهو لا يجوز.
مطلب في الاصطفاء ، ومن كمل من النساء ، وما احتوت عليه هذه الآيات وما يتعلق بها :
قال تعالى «وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ» من الحيض والنفاس ومس الرجال ومن الذنوب والنقائص ، لأنك ربيت في المسجد بكفالة أكبر الأنبياء فيه ، لأنه لم يخصص لخدمة البيت أنثى غيرك «عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)» من أهل زمانك ، وخصك بالإتيان بولد من غير زوج وبإسماع كلام الملائكة المقدم بالآية السابقة وفي قوله «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ» اخضعي وأديمي القيام في الصلاة لمولاك الذي شرفك بهذه النعم «وَاسْجُدِي» له سجود تعظيم وعبادة «وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» (43) للّه ، قالوا قامت في عبادة ربها حتى تورمت قدماها وسالت قيحا ، وكانت صلاتهم سجودا بلا ركوع وبعدها ركوعا بلا سجود ، فأمرها بهما معا ولم نجمع قبل إلا لها ، وجمعت لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وصارت على هذه الصفة الحاضرة الآن بتعليم جبريل عليه السلام دون سائر الأمم ، وسندوم إلى يوم القيامة إن شاء اللّه «ذلِكَ» الذي قصصناه عليك يا سيد الرسل هو «مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ» لتذكره لأمتك وأهل الكتابين ليعلموا أنه من غيب اللّه لأنك لا تقرأ ولا تكتب «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» أي الأنبياء والأحبار الموجودين في البيت المقدّس حينما تشاوروا على طلب مريم كفالتها وحينما افترعوا على تربيتها «إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ» في النهر ليظهر لهم «أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ» فيكون أهلا لتربيتها «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» حاضرا معهم «إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (44) في شأنها ، وقد أخبرناك به لنخبر به قومك وخاصة أهل نجران الذين جاءوا ليختبروك فيستدلوا به على نبوتك.
روى البخاري ومسلم عن علي كرم اللّه وجهه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول خير نسائها (أي الأرض في عصرها) مريم بنت عمران وخير نسائها (أي على الإطلاق) خديجة بنت خويلد.
لا تدخل فاطمة رضي اللّه عنها لأنها كانت صغيرة حين هذا القول وهي أفضل نساء(5/340)
ج 5 ، ص : 341
الدنيا والآخرة.
ورويا عن أبي موسى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وليس في هذا الحديث ما يدل على تفضيلها على خديجة وفاطمة رضي اللّه عنهن ، كما ليس فيه ما يدل على تفضيلها على مريم وآسية بل على من عداهما في زمانهما ، يدل على هذا ما أخرج الترمذي عن أنس قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون إذ لم يذكر عائشة معهن ، تدبر.
قال بعضهم :
ولو أن النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
ويفهم من هذا أن الاصطفا من قبل الله لأحد من خلقه لا يقتضي كونه نبيا ، لأن مريم متفق على عدم نبوتها وعلى عدم صلاحية الأنثى للنبوة ، ولهذا فلا يكون أيضا سببا للعصمة لأنها خاصة بالأنبياء بعد النبوة ، وإنما يفيد البشارة لشموله بعين الرضاء ، ومن شملته عناية الرضاء فقد نجا ، وتدل على أن الرزق قد يكون بلا سبب كما وقع لمريم ، ومن جحد هذا كان جاحدا لقدرة اللّه وهو كفر ، وعلى أن صلاح الآباء ودعاءهم لأولادهم يعود عليهم بالخير كما سيأتي في الآية 26 من سورة الرعد ولآية 25 من سورة محمد الآتيتين ، وتفد جواز النذر ووجوب الوفاء به إذا كان فربة للّه تعالى ، أما إذا خصص ببشر فلا ، لأنه من نوع العبادة ولا تكون إلا للّه كما سنفصله في الآية 30 من سورة الحج الآتية إن شاء اللّه ، وترمي إلى جواز تأديب الولد وتربيته راجع الآية 12 فما بعدها من سورة قمان ج 2 ، وتشير إلى تعليمه من قبل أمه وتسميته حال فقد أبيه ، وتوجب على الخلق الإيمان بقدرة اللّه فيما هو خارج عن نطاق العقل كوجود ولد بلا أب مثل عيسى عليه السلام ، وان إنكاره كفر صريح ، وترشد إلى أن صدور الدعاء مع الثقة باللّه في وقت الحاجة لا بد وأن يجيبه اللّه تعالى تفضلا منه وبرّا بوعده المار ذكره في الآية 187 من سورة البقرة المارة ، والآية 10 من سورة المؤمن في ج 2 ، وتنبيه(5/341)
ج 5 ، ص : 342
إلى عدم استبعاد الإجابة ولو كانت محالا إذ لا محال على اللّه ، وعلى الداعي أن يربط قلبه بالأسباب الظاهرة ، لأن اللّه يعطي بلا سبب ويمنع بلا سبب ، ومن السخف ما جرى على ألسنة الجهلة من قولهم قال اللّه (وجعلنا لكل شيء سببا) مع أن اللّه لم يقل هذا في كتابه ، فهو كذب على اللّه وإنما قال في سورة الكهف (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) يعني ذا القرنين الآية 84 ، وترمي إلى أن اللّه تعالى إذا اختار أحدا من خلقه رفع قدره وحفظه وعمل على يده العجائب ، وان الاصطفاء مهما كان لنبي أو وليّ لا يسقط عنه التكليف كما يزعمه بعض الجهلة المتصرفة بل قد يزيد عليه من التكاليف الشرعية لتزداد رغبته وتعلو رتبته عند ربه ، إذ ليس أحد في غنى عن الكمال الأنبياء فمن دونهم ، كما ليس لأحد أن يستغني عن الإكنار من الطاعة.
ثم طفق جل شأنه بعدد ما أنعم به على مريم فقال يا سيد الرسل اذكر لقومك «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ» كون منها ولدا بلا بعل «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» أي معروف بهذه الجملة ، وأصل عيسى يشوع إذ لا سبن في اللغة العبرية ولهذا يسمون موسى موشى والمسيح مشيح ومعناه الصديق الذي تمس يده ذوي العاهات فتبرئهم.
أما تسمية الدجال مسيحا لأنه ممسوح العين اليمنى كذاب يخرج آخر الزمان فينزل عيسى إذ ذاك من السماء فيقتله ، وكان السيد عيسى عليه السّلام في زمنه صديقا كاسمه ولا يزال «وَجِيهاً» ذا جاه سام ورفعة عالية وقدر كريم وسماة شريفة ووجاهة عالية «فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» (45) عند اللّه ، وفيها إشارة إلى رفعه إلى السماء كما سيأتي بعد عشر آيات ، ومن خصائصه أنه معظم عند ربه «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ» قبل أو ان كلام مثله راجع الآية 20 من سورة مريم فى ج 1 إذ تكلم ببراءة أمه مما رميت فيه وهو رضيع قريب عهد بالولادة «وَكَهْلًا» بإنذارهم وبشارتهم إذ يرسله اللّه بعد إكمال الثلاثين من عمره ، والكهل من اجتمعت قراه وكمل شبابه وتجاوز الثلاثين من عمره.
قال ابن قتيبة أرسل عيسى لثلاثين من عمره ودعا الناس إلى اللّه ثلاثين شهرا أو ثلاث سنين على قول وهب بن منبه ، ثم رفع إلى السماء «وَمِنَ الصَّالِحِينَ» (46) كإبراهيم وبنيه(5/342)
ج 5 ، ص : 343
لأنه من نسله «قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ» وهذا على طريق التعجب لا شكا منها ، كيف وقد رأت المعجزات في محرابها مما يشابه معجزات الأنبياء ومن ابنها كذلك ، وإنما قالت ذلك لأن العادة مطردة عدم كون ولد بلا والد «قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» مما هو خارق للعادة ابداعا منه فيحصل منك ولد وأنت عذراء كما جعل آدم من الطبن وخلق حواء منه و«إِذا قَضى » الإله القادر على كل شيء «أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (47) بلا كلفة ولا زمن ولا واسطة ، لأن أمره بتكوين ما يريده يكون بين هذين الحرفين فيولده منك بذلك «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)» الذي سينزله عليه خاصة «وَرَسُولًا» يجعله ويرسله «إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ» خاصة وهو آخر نبي يرسل إليهم منهم وأول أنبيائهم يوسف عليه السلام ويقول لهم «أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» دالة على صدقي ونبوتي وهي «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ» أصوّر «مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ ، الْأَكْمَهَ» مطموس العينين المولود أعمى «وَالْأَبْرَصَ» الذي في جلده وضح بياض شديد مكروه وهو عيب من العيوب الشرعية التي ترد بها لزوجه ، وينتقل من الجدود إلى الأحقاد ، وقد سماه اللّه سوءا في الآية 23 من سورة طه فى ج 1 ، لقبحه في البشر والبقرة منه «وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ» في بيوتكم دون معاينة وسماع به «وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» للأكل «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخلق والإبراء والإحياءو الإخبار «لَآيَةً» عظيمة على صدق رسالتي «لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 49» باللّه لذي أرسلني إليكم «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ
لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» في التوراة من جواز العمل يوم السبت وأكل لحوم الإبل والشحوم وغيرها ورفع الآصار الثقيلة ، راجع الآية الأخيرة من البقرة المارة تعلم ماهيتها ، وهذا هو معنى النسخ ، لأن اللّه بعث عيسى بشريعة أخف من شريعة موسى عليهما السلام لما رأى فيها أزلا من الصلاح لعباده في عصره ، وجعل نهايتها(5/343)
ج 5 ، ص : 344
في عصر عيسى لتلك الغاية ، كما هو مدون في لوحه العظيم ، وعلى هذا ينطبق قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) كما أوضحناه في الآية 107 من البقرة المارة.
واعلم أن كلمة إصر لا توجد إلا آخر البقرة وفي الآية 81 من هذه الصورة ، واعلم أن كلمة إصر لا توجد إلا آخر البقرة وفي الآية 81 من هذه الصورة ، والآية 156 من سورة الأعراف ج 1 ، وكلمة تدخرون لم تكرر في القرآن كله «وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ» واضحة «مِنْ رَبِّكُمْ» على كوني عبدا له ورسولا منه إليكم «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» (50) لما أدعوكم إليه وهو أن تعترفوا
وتقولوا «إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ» وحده أيها الناس ولا تشركوا به شيئا كما دعت الرسل قبلي أقوامها إلى هذا ، وفيه براءة له عليه السلام مما ينسب إليه من وقد نجران وغيرهم القائلين بأنه ابن اللّه أو أنه الإله أو جزء من الإلهية مما هو بهت وزور عليه وعلى ربه القائل لكم أيها الناس «هذا» للذي أدعوكم إليه هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (51) لا يتعداه إلا كافر.
مطلب معجزات عيسى عليه السلام وقصة رفعه إلى السماء وعمل حوارييه من بعده :
وإنما خص اللّه تعالى عيسى في هذه المعجزات لأن الغالب المرغوب في زمانه الطب ، فالرجل البارع فيه معتبر عندهم فجعل اللّه معجزته من جنس ما يرغبون ولكن ما يعجز عنه البشر لأنهم مما برعوا في الطب لا يستطيعون إبراء الأكمه والأبرص بمجرد اللمس دون عقاقير فضلا عن إحياء الموتى ، لأنه ليس في طوق البشر ، وأنه عليه السلام لما ادعى النبوة تعنت عليه بنو إسرائيل وطلبوا منه أن يخلق لهم خفاشا والخفاش من أكمل الطير خلقا لأنه يطير بلا ريش وله أسنان وللأنثى ثديان ، ويحيض كما تحيض النساء ، وتطير بالليل وتكمن بالنهار ، وتختفي في البرد وتظهر في الحر ، ولها خصائص عجيبة ، راجع تفصيلها في كتاب حياة الحيوان للأستاذ الدميري ، فأخذ عليه السلام طينة وصورها في الظاهر مثلها وقال لها كوني بإذن اللّه كما يريدون ، ونفخ فيها فكانت حالا وطارت أمامهم ، ولم يؤمنوا ، ثم كلفوه إحياء العازر ابن العجوز بعد ثلاثة أيام ، فأحياه ولم يؤمنوا ، ثم أحيا لهم بطلبهم بنت العاشر وبقيا حيين وولد لهما بعد إحيائهما ، وأظهر معجزات(5/344)
ج 5 ، ص : 345
أخرى كثيرة من تكثير الطعام وإحياء سام بن نوح عليه السلام فقام أمامهم من قبره وقال هل قامت القيامة ؟ فقال له عيسى له ولكن دعوتك بالاسم الأعظم ليؤمن قومي ، ثم قال له مت ، قال له على أن يعيذني اللّه من سكرات الموت ، قال نعم فمات.
وكان وهو صغير يلعب مع الصبيان ويخبرهم بما يفعل أهلهم ويقول لهم إن أكل أهلكم اليوم كذا وكذا وقد رفعوا لكم منه ، فينطلقون فيجدون كما قال ، ويقولون لأهلهم أخبرنا عيسى بن مريم بذلك ، فصاروا يمنعون صبيانهم عن الاختلاط معه بداعي أنه ساحر ، ومن هذا القبيل معجزة يوسف عليه السلام ، راجع الآية 37 من سورته في ج 2 ، قالوا وطرق مرة الباب على دار فيها صبيان فقالوا لا أحد فيها ، قال وما هؤلاء ؟ قالوا خنازير ، قال فليكن كذلك ، فمسخوا كلهم خنازير ، فهم بنوا إسرائيل ليقتلوه ، فهربت به أمه إلى مصر ، وإلى هذه الرحلة يشير قوله تعالى (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) الآية 50 من سورة المؤمنون ج 2 كما بيناه في الآية 24 من سورة مريم ج 1 ، وجاء في الإصحاح الثاني من إنجيل منى أن أمه ويوسف النجار أخذاه إلى مصر خوفا عليه من الملك فيرودس أن يقتله ، وهذه المعجزات دليل قاطع على نبوته عليه السّلام ، فمن أنكر أحدها فهو كافر لأنه أنكر القرآن ، ولا يقال إن النجم والكاهن يخبران بالغيب ، لأن المنجم يستعين علي ما يخبر به واسطة سير الكواكب وامتزاجاتها وحساب الرمل وغيره وقد يخطئ كثيرا ، والكاهن يستعين برائد من الجن ويخطئ كثيرا أيضا ، والمنوم المغناطيسي يستعين بالواسطة وقراءة الأفكار وغيرها من الشعوذة ويخطئ كثيرا.
وقد لا يقدرون أن يخبروا بشيء إذا اختلط عليهم الأمر وفيما لم يحدث المخاطب نفسه بما يسأل عنه وفيما إذا سئل في شيء لا يعرفه ، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآيات 20/ 23 و102 من سورتي الأنبياء والصافات في ج 2.
وليعلم أن أخبار الأنبياء كلها حق وصدق ، وبغير واسطة إذ لا واسطة لهم غير الوحي الإلهي الذي يتلقونه بواسطة الملك أو الإلهام الذي يلقى في قلوبهم من اللّه تعالى أو التكليم رأسا أو من وراء حجاب ، كما فصلناه في الآية 51 من سورة الشورى في ج 2 فراجعه.
وليعلم أيضا أن السرّ في خلق الكون بما فيه تعلق(5/345)
ج 5 ، ص : 346
الإرادة الإلهية بوجوده ، وان ارتباط الأسباب بالمسببات التي بلغو الناس فيها لا تأثير لها بنفسها من دون اللّه تعالى بل التأثير كله منحصر بقدرته ، وما نراه من الارتباط في الظاهر لا يقيد سلطة اللّه ولا يمنع من تنفيذ إرادته ، وإن تغيير الشرائع وخرق العادات وتعطيل الأسباب من الدلائل على كمال القدرة ، لأن من يضع نظاما يقدر على تعديله ، ويملك نقضه ، وان ما يقع من التعديل والنسخ لبعض الأحكام هو في مصلحة البشر بما يوافق عصرهم ويلائم حالهم.
قال تعالى «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ» من اليهود «الْكُفْرَ» به رمحاولة قتله وحان وقت رفعه إلى ربه بإخبار اللّه تعالى إياه «قالَ» لأصحابه الملازمين له «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» والوصول إلى طريقه وإعمار دينه ليقوم بعدي بهدي الناس وإرشادهم على حسب تعاليمي التي تلقينها من ربي ؟ «قالَ الْحَوارِيُّونَ» جمع حواري بمعنى صاحب «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ» وجنوده لإعلاء كلمة اللّه لأنا «آمَنَّا بِاللَّهِ» وحده واتبعناك بما جئت به من لدنه «وَاشْهَدْ» علينا أيها الرسول المتولي «بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (52) للّه منقادون لأوامر وممتنعون عن نواهيه ، وأنا سنسير بسيرتك وننشر تعاليمك للناس ونبذل جهدنا في نصحهم ما استطعنا.
وقالوا «رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ» من أحكام التوراة والإنجيل «وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ» الذي أرسلته إلينا وهو عيسى ، لأن الألف واللام للعهد ولا معهود هنا غيره إذ ذاك «فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (53) لك بالواحدية والوحدانية ولرسولك بالتصديق والانقياد «وَمَكَرُوا» اليهود أي اختالوا للقبض عليه وقتله تخلصا منه وحبا ببقاء الرياسة لهم وهو لا يريدها عليه السلام وإنما يريد صلاحهم «وَمَكَرَ اللَّهُ» جازاهم على مكرهم حين دلهم عليه حواريه المنافق يهوذا الأسخريوطي ليغتالوه في البيت الذي هو فيه مع بقية أصحابه ، فأوقع شبهه على المنافق المذكور ورفعه من بينهم إلى السماء ، فألقوا القبض على يهوذا وأوثقوه على ظن منهم أنه هو المسيح ، فصار يصيح أنا الذي دللتكم عليه أنا لست المعلم يعني عيسى ، إذ كانوا يسمونه معلما ولات حين مناص ، لأن اللّه تعالى إذا عمل شيئا كان عمله كاملا من كل وجه ، ولذلك فإن كل من رآه قال هذا عيسى بعينه حتى حوارييه وحتى أمه ، ولذلك(5/346)
ج 5 ، ص : 347
صاروا يبكون عليه «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (54) المجازين أهل الحيل ، وبهذا الأخذ والرد بين اليهود إذ يقول لهم أنا لست بعيسى وهم يلكمونه ويقولون له أنت هو ، تخلص بقية حوارييه من القبض عليهم ، إذ كانت نيتهم اغتيال عيسى وحوارييه لأمر أراده اللّه وليتم مراده ببث دعوته من بعده من قبلهم.
واعلم أن إضافة المكر إلى اللّه بمعناه لا يجوز ، لذلك أول بالجراء ، وكذلك الخداع والاستهزاء لأنها صفات مذمومة في الخلق فلا يليق أن يوصف بها الخالق المنزه عن سمات خلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وخلاصة القصة أن اللّه تعالى لما أرسل عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ليدعوهم إليه ويتركوا ما أحدثوا من البدع ويرجعوا إلى حكم التوراة وما وعدهم به من التخفيف لبعض أحكامها وأظهر على يده المعجزات المذكورات وغيرها كقلب الماء خمرا والمشي على الماء مما ذكر في الإنجيل ومما لم يذكر ، لأنه لم يشتمل على سيرته جميعها وكان في بداية أمره مر بجماعة يصطادون سمكا فقال لهم اتبعوني لنصطاد الناس فقال له أحدهم شمعون ائتنا بآية ، فدعا اللّه فاجتمع في الشبكة سمك كثير حتى كادت تتمزق منه ، فاستغاثوا بأصحاب السفينة الأخرى وملأوها ، فآمنوا به واتبعوا وصار يدعو الناس وإياهم إلى اللّه ، فاشتد ذلك على اليهود ، لأنهم عرفوه أنه المسيح البشر به في التوراة ، وأنه الذي يبطل دينهم ويحوله إلى أحسن ، فخافوا ذهاب الرياسة منهم ، فقر رأيهم على قتله ، وخدعوا ملكهم بأن عيسى يريد أخذ الملك منه ، وأنه على خلاف ما جاء في التوراة ، وأنه ظهرت منه أقوال توجب الكفر وحاشاه من ذلك ، فوافقهم على ما يريدون ، فدبروا المكيدة بينهم على أن يتسلطوا عليه بواسطة أحد أتباعه ، فأغروا المنافق يهوذا الأسخريوطي بثلاثين درهما على
أن يدلهم عليه ليلا بحيث لا يكون إلا هو وأصحابه الأحد عشر ، وقد اطلعه اللّه على ذلك فاجتمع بأصحابه ، وكان الخبيث معهم يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، فوعظهم عيسى عليه السلام وأرشدهم وداعبهم وقال يا أصفيائي ويا خاصتي إن اليهود أجمعت على قتلي ، وإن اللّه سيرفعني إلى السماء ويلقي شبهي على أحدكم الذي سيكفر بي ويبيعني بدراهم بسيرة ، فدهشوا قوله ولم يعلم الأحد عشر من هذا الكافر الذي يجرز على ذلك ، ولم يفهم الخبيث(5/347)
ج 5 ، ص : 348
يهوذا المراد من إلقاء الشبه ليتم مراد اللّه ، وذات ليلة لم يكن فيها أحد غير المسيح اغتنم الخبيث الفرصة فذهب وأخبر اليهود وجاء معهم فأدخلهم عليه ، وعند ما أشار إليهم أنه هو هذا رفعه اللّه تعالى وألقى شبهه عليه ، فأمسكوه وصاروا يلكمونه ويوثقونه فصار يصيح إني لست هو أنا الذي دللتكم عليه على الوجه المار آنفا وذلك قوله تعالى «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ» مستوفي أجلك الأول من الدنيا إذ انتهت مدة لبثك في الأرض وقابضك من غير موت.
ولئلا يصل أعداؤك إليك ، ومنتقم لك من عدوك المنافق بالصلب والإهانة ، وهذا هو الصواب إذ لو كان المراد الموت كما زعم العير : قال تعالى «وَرافِعُكَ إِلَيَّ» ومجلسك في سمائي مع ملائكتي ، وعليه ما جاء في التفسير رافعك الآن ومتوفيك بعد ، لأن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا ، وصار عليه السلام بعد الرفع إنسيا ملكيا وأرضيا سماويا «وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بك من أن يدنوا حضرتك الطاهرة مما أرادوا بك من القتل والصلب والهوان «وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ» وآمنوا بك.
إيمانا خالصا «فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بك بالعز والنصر والغلبة والحجة الظاهرة «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» حتى انقضاء آجالهم في الدنيا والبرزخ «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» أنتم وهم في الآخرة ومن اتبعك مخلصا ومن كفر بك «فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» يوم الجزاء «فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (55) من الحق الناصع.
قالوا ولما دخلوا عليه ليقضوه أظلمت الأرض والسماء فظن ذروه أن ذلك من أجل صلبه ، ولهذا ذكروا هذا السبب في الأناجيل الأربعة ، قالوا ولما صلب المنافق الذي شبه به ذهبت إليه أمه ومريم المجدلية التي أبرأها من الجنون وصارتا تبكيان عليه ، فجاءهما عيسى عليه السلام إذ نزل به جبريل من السماء وقال لهما إني لم أصلب وان ربي رفعني إلى السماء ولم يعلم اليهود أن اللّه ألقى شبهي على يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليّ ، وانه هو الذي صلب وعذب وأهين ، وان اللّه ربي حفظني من كيدهم وجازاه بذلك ، وجمع الحواريين وأخبرهم بذلك وأمرهم أن يبثوا دعوته في الأرض وخولهم شفاء المرضى وإبراء الأكمه والأبرص ، وقد تحققوا ذلك كله لأنهم لم يروا يهوذا حين القبض ولا بعد الصلب بما أقنعهم أنه هو(5/348)
ج 5 ، ص : 349
المصلوب ، وجعلهم رسلا من بعده إلى الناس ، ومتّعهم بوصاياه القيمة كما أشرنا إلى هذا في الآية 13 من سورة يس ج 1 ، ومن أراد التفصيل فليراجع إنجيل برنابا عليه السلام ففيه كل شيء يتعلق بهذا وغيره من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وهو أصح الأناجيل وموافق لما جاء في القرآن العظيم.
وفي قوله تعالى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) إشارة إلى رفع روحه وجسده صلّى اللّه عليه وسلم ليلة القبض عليه ، وردّ لمن قال إن الرفع كان للاهوتية (أي روحه) دون الناسوتية (أي جسده) وفيها إشارة أخرى إلى أنه عليه السلام سينزل إلى الأرض ، لأن المعنى رافعك إلى الآن ، ومنزلك إلى الأرض ومتوفيك فيها بعد على اعتبار التقديم والتأخير في كون الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا ، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق بهذا في الآية 66 من سورة الزخرف ج 2 فراجعها.
قال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا» بالذل والعار والتشتيت «وَالْآخِرَةِ» بعذاب اللّه الشديد والتبكيت «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (56) فيها يحولون دون ما يحل بهم «وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ» في الدنيا بالحياء الطيبة وبالآخرة بالجنة ونعيمها جزاء إيمانهم وتصديقهم وتحملهم الأذى في سبيل اللّه ، وان من لم يفعل الصالحات ويقتدي بنبيه فقد ظلم نفسه «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (57) المتجاوزين حدوده «ذلِكَ» الذي ذكرناه لك يا سيد الرسل من خبر عيسى و
أمه ورفعه وإهلاك عدوه «نَتْلُوهُ عَلَيْكَ» لتخبر به قومك لأنه «مِنَ الْآياتِ» الدالة على صدقك «وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ» (58) المدون في لوحنا المحفوظ المحكم الذي لا يتطرق إليه الباطل ولا يأتيه الخلل ، فذكر به أمتك وخاصة وقد نجران وقل لهم لا تعجبوا من كيفية خلق عيسى بلا أب لأن قدرة اللّه صالحة لأكثر من ذلك ، وقل لهم لينتبهوا «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ» من جهة الخلق «كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» بلا أب ولا أم وجعله بشرا سويا من لحم ودم وعظام وهو أعظم من خلق عيسى وأبلغ في القدرة من خلق حواء أيضا ، لأن التراب ليس فيه مادة من تلك المواد فيكون خلقه أعجب وأغرب من خلق عيسى وحواء لأنهما من مادة فيها تلك المواد المجانسة لمادته ، فلا تستبعدوا على اللّه(5/349)
ج 5 ، ص : 350
شيئا أيها الناس ولا ترتابوا في خلقه على تلك الصورة «ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59) أي فكان كما كان ، وكذلك خلق عيسى وحواء بكلمة كن فكانا كما أراد اللّه.
واعلم يا سيد الرسل أن الذي تلوناه عليك في هذا وغيره هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» (60) في هذا التمثيل أيها السامع والناقل ، لأن الخطاب فيه عام لكل من يتأتى منه السمع والخطاب ، وإن كان لحضرة الرسول لأن المراد به غيره وساحته بريئة من الامتراء والشك والتردد في كل ما جاء به عن ربه ، فيفهم مما ذكر في هذه الآيات أن الدعوة إلى اللّه لا بد لها من أنصار كاملي العقيدة مخلصين مطيعين موادين ، وأن الإيمان المجرد لا يكفي ما لم يقترن بعمل صالح.
وتشير إلى أن تدبير اللّه لعباده فوق كل تدبير ، فإذا شمل عبدا برعايته حفظه من كل كيد ، وأنّ الوفاة في هذه الآية ليست بمعنى الموت ، قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الآية 42 من سورة الزمر في ج 2 ، وهذا فارق بين الموت والوفاة.
والحكم الشرعي : وجوب الاعتقاد بأن خلق عيسى بن مريم بمجرد كلمة كن ، وإن رفعه للسماء حيا حق لا مرية فيه ، وأن كل جدل في هذا الموضوع يؤدي إلى خلاف هذا فهو كفر.
قال تعالى «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ» في عيسى من جهة خلقه ورفعه «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» بأنه كما ذكره اللّه لك يا سيد الرسل «فَقُلْ تَعالَوْا» أيها المجادلون المخاصمون بذلك «نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ» نحن وأنتم بأن نتضرع إلى اللّه ونجهد أنفسنا بالدعاء «فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» (61) منا ومنكم.
مطلب في المباهلة ما هي وعلى أي شيء صالح رسول اللّه وقد نجوان وحكاية أسير الروم.
والمباهلة الملاعنة أي ليدع كل منها ربه بأن يلعن الكاذب في قوله ، فقال له وقد نجران انظرنا وقتا مناسبا كي ننظر في الأمر ونتداول بيننا ونرجع إليك ، فأمهلهم ، فذهبوا إلى مقرهم وتذاكروا بينهم وقالوا فقد عرفنا من هذه الآيات وما تقدمها أنه نبي مرسل ، وأنا إن باهلناه هلكنا ، فأجمع رأيهم على عدم المباهلة(5/350)
ج 5 ، ص : 351
والانصراف إلى بلدهم ، فجاءوا إليه من الغد فإذا هو محتضن الحسن والحسين وبيده فاطمة وعلي عليهما السلام خلفه وهو يقول لهم إذا دعوت فأمنوا ، فقال لهم أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا لأزاله ، واللّه إن باهلتموه فلا يبقى على وجه الأرض نصراني ، فأقدموا عليه وقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباء لك وتتركنا على ديننا ، فقال إن أبيتم فأنا لا اضطركم على المباهلة ولكن أريد منكم أن تسلموا ، قالوا لا نسلم ، فقال أنا جزكم ، قالوا لا طاقة لنا يحربكم ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا ونؤدي لك ألف حلّة في صفر وألف حلة في رجب وثلاثة وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا ، فرضي منهم وتركهم ، لأنه لم يؤمر بقتالهم إذا رضخوا للجزية ، ولم يؤمر بحملهم على الإيمان به.
حكي أن بعض العلماء أسر في بلاد الروم فباحثهم في عبادة عيسى عليه السلام ، قالوا نعبده لأنه لا أب له ، فقال لهم آدم لا أب له ولا أم فهو أولى بالعبادة ، قالوا لم يكن آدم يحيي الموتى ، فقال إذا حزقيل أولى لأنه أحيا أربعة آلاف (راجع الآية 243 من سورة البقرة المارة لتقف على قصتهم) وعيسى لم يحي إلا أربعة ، قالوا لم يكن يبرىء الأكمه والأبرص قال إذا جرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليما ، قالوا لم يرفع إلى السماء ، قال فأدريس أولى لأنه رفع قبله ، فلم يعتبروا ، ومن يضلل اللّه فما له من هاد.
قال تعالى «إِنَّ هذا» الذي قصصنا عليك يا سيد الرسل «لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه «وَما مِنْ إِلهٍ» يستحق العبادة في الكون كله «إِلَّا اللَّهُ» لا عيسى ولا عزير ولا الملائكة ولا غيرهم كما يزعم أهل الكتاب وبعض المشركين العرب وغيرهم ، وما ذلك إلا نقص في عقولهم ، وخاصة الأصنام فلا يعبدها من فيه ذرة من عقل لأنها معرضة للهوان والذل ، ومحتاجة إلى الحفظ من عابديها «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب العظيم «الْحَكِيمُ» (62) البالغ في الحكمة الذي لا رب غيره «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك وفد نجران وغيرهم ولم يقبلوا نصحك وإرشادك بعد ما تبين لهم الحق فهم قوم ميالون للفساد فأعرض عنهم «فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» (63) لا يخفى عليه شيء من أحوالهم ، فيا سيد الرسل أدعهم أولا(5/351)
ج 5 ، ص : 352
إلى المساواة معك بأن «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» لعلهم يؤمنون بك وينقادون لأمرك «فَإِنْ تَوَلَّوْا» بعد هذا أيضا وأعرضوا عن الإجابة بعد أن سويتهم بنفسك «فَقُولُوا» لهم أنت وأصحابك «اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (64) للّه وحده ومنقادون لأمره وأنتم وشأنكم.
كررت هذه الآية المبدوءة بنا أهل الكتاب ست مرات في القرآن العظيم ، هذه والآيتان الآتيتان 69 و70 وفي الآية 170 من سورة النساء وفي الآيتين 16 و21 من سورة المائدة الآتيتين.
ثم ان وفد نجران تلاحى مع اليهود لقولهم إن إبراهيم كان نصرانيا بسبب قولهم إنه كان يهوديا وكل منهم يحتج بكتابه لذكره فيه فأكذبهم اللّه بقوله «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ» وتتخاصمون من أجله «وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ» التي تدينون بها أيها اليهود «وَالْإِنْجِيلُ» الذي تدينون به أيها النصارى «إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ» فكيف تدعون أنه كان من أحدكم ولم تحدث اليهودية ولا النصرانية إلا من بعده ، فكلاكما مبطل في دعواه لأن المدة الطويلة الكائنة بين إبراهيم ونزول الكتابين إليكم دليل قاطع على كذبكم ، وأن مجرد ذكره فيهما لا يدل على أنه كان يهوديا أو نصرانيا أو أنه كان يدين بهما بل كان يتعبد بما ألهمه اللّه وبما أنزل عليه من الصحف وبالصحف المنزلة قبله على آدم وشيث فمن بعدهما «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» (65) هذا فتتنازعون فيه «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» من كتبكم من أمر موسى وعيسى ، ولا مانع من ذلك لأن لكم فيه بعض العلم بما هو موجود في كتبكم «فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» من أمر إبراهيم الذي أغفله كتاب كل منكم ولم تعلموا من أمره على ما هو عليه شيئا فاتركوا هذا ولا تخوضوا بشيء لا تعلمونه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» ما كان عليه إبراهيم من الدين وقد أخبر به رسوله «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (66) شيئا عنه ، ثم إن اللّه تعالى أعلمهم بأنه بريء ومنزه مما قالوا فقال «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا» يوما من الأيام كما زعمتم «وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً»(5/352)
ج 5 ، ص : 353
كما أخبركم محمد «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (67) قط كما زعم مشركو العرب من أهل مكة وغيرهم ، وقولهم إنا أولاد إبراهيم لا يعني أنه كان على ما هم عليه تنزه وتبرأ منه ، وإنما يعنون أنهم أولاد إسماعيل من جهة النسب فقط.
تفيد هذه الآية إثبات دعوى المسلمين بأن إبراهيم كان مسلما لذكره في القرآن ومنع اليهود والنصارى من ادعائهما كونه كان منهما لعدم ذكره في كتبهم ، فالمكابرة بعد هذا النص القاطع لا قيمة لها ومن العبث أن يبحث في أمر محكوم ببطلانه ، لأن أصدق أنباء التاريخ ما جاء بالوحي المقدس ، وأن الانتساب إلى إبراهيم يوجب اتباع شريعته ، وإلا فهو زور يجب الانكفاف عنه ، ولهذا لما أثار أهل الكتابين دعوة الانتساب إلى إبراهيم وكان المشركون قبلهم ادعوا هذه الدعوة فأنزل اللّه ما يكذبهم كلهم ويصدق دعوى المسلمين بقوله «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ» في زمانه وماتوا على دينه «وَهذَا النَّبِيُّ» حفيده محمد الذي اقتفى أثره في العبادة قبل نزول الوحي إليه «وَالَّذِينَ آمَنُوا» به بعد نبوته ورسالته من أمته أيضا هم أولى بإبراهيم من اليهود والنصارى والمشركين المخالفين لدينه ودين حفيده «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (68) أجمع الذين يخلصون إيمانهم وأعمالهم ، ومن كان اللّه وليه فقد فاز ، وعليهم أن لا يتوجهوا بحاجاتهم في الدنيا والآخرة إلا إليه وهو أولى بإجابتهم فيها ، ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه.
أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن لكل نبي ولاة من المؤمنين ، وان وليّي أبي وخليل ربي إبراهيم ، ثم تلا هذه الآية.
ورواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
قال تعالى «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» عن الإسلام ، أي أنهم لم يقتصروا على عدولهم عن الحق وإعراضهم عن قبول الحجة بل أحبوا إضلالكم أيضا «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» لرسوخ الإيمان بالمؤمنين «وَما يَشْعُرُونَ 69» أن هذا وبال عليهم لما فيه من الإثم فوق ما هم عليه من الوبال «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» (70) أنها مصدقة لما في كتبكم وتعترفون أنها حق إذا تركتم التعسف ورجعتم إلى الإنصاف
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ» ت (21)(5/353)
ج 5 ، ص : 354
الذي تكتبونه بما يخالف ما أنزل اللّه عليكم وتغيرون به كلام ربكم «وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ» الذي فيها «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (71) أنه محرم عليكم ، ذلك لأن طمر الحق ووضع الباطل محله كفر في جميع الكتب السماوية «وَقالَتْ طائِفَةٌ» أخرى من هؤلاء اليهود المعدودين «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا» أظهروا الإيمان «بِالَّذِي» بالكتاب الذي «أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» بمحمد «وَجْهَ النَّهارِ أوله وحينما تواجهون المؤمنين به «وَاكْفُرُوا آخِرَهُ» وهذا يدل على أن استعمال كلمة وجه بمعنى الأول ، وعليه قول الربيع بن زياد :
من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
وقيل في الوجه نفسه :
وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عودت المزايا تعودا
«لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (72) عن دينهم لقد تفنن اليهود بالتلبيس لأنهم من جند إبليس فقد استجروا أولا معاذ بن جبل وحذيفة اليمان وعمار بن ياسر وجما وحببوا لهم دينهم وترك الإسلام فنزلت فيهم الآية المتقدمة قبل هذه فلم يتجحوا ثم صاروا يحرفون الكتب الإلهية ويغيرون ما فيها من نعت الرسول والبشارة والأمر باتباعه كما فعلوا زمن عيسى ، فلم يفلحوا ، ثم اخترعوا هذه الطريقة الثالثة فتواطأ منهم اثنا عشر رجلا من أحبارهم بأن يؤمنوا بمحمد بادىء الرأي ، يكفروا به ، ليبينوا للناس أنه تبين لهم أنه على غير الحق وأنه غير النبي المبعوث آخر الزمان المخبر عنه في كتابهم ، ليشككوا الناس فيه ، فنزلت هذه الآية فيه ليخبر حضرة الرسول أصحابه بما دبروه من الكيد والحيل ليكونوا على بصيرة أمرهم.
تشير هذه الآية إلى أن اليهود دأبهم إضمار الشر للمسلمين ، فيجب أن يحذروا من مكايدهم لأنهم جبلوا على السوء ، وأنهم لا يحسنون ظنهم بمن هو ليس على دينهم ، وإلى هنا انتهى قول اليهود والذي حكاه اللّه عنهم.
ثم التفت يخاطب المؤمنين بعد أن بين لهم مطويات اليهود الخبثاء ، فقال «وَلا تُؤْمِنُوا» أيها المؤمنون «إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» وانقاد لأوامر شريعتكم ، لأن النصير واجبة لبعضكم على بعض ، وإياكم أن تركنوا لأقوال أهل الكتاب ، فإنهم لا يودّ و(5/354)
ج 5 ، ص : 355
إلا ظاهرا ، وإنهم يبطنون لكم الشر ، وإياكم والميل إليهم ، وعليكم أن تتناصحوا بينكم وتتصادقوا ، فالمؤمن أخو المؤمن لا يكذبه ولا يحقره ولا يسلمه في كل حال مهما استطاع.
وأعرضوا بكلكم عن خلط أهل الكتاب وخاصة اليهود فإنهم أهل بهت يريدون أن يوقعوا الشك في دينكم ، وليس بنافعهم ذلك ، ولم يزدهم إلا فضيحة وضلالا ، ويزيد المؤمنين تصديقا ويقينا ، فلا تقبلوا نصيحة ما إلا من أهل دينكم ، وإن هؤلاء الأحبار وغيرهم يقصدون إضلالكم لتكونوا مثلهم ، فالحذر كل الحذر منهم.
ثم التفت إلى رسوله فقال «قُلْ» يا سيد الرسل إلى قومك وغيرهم «إِنَّ الْهُدى » الذي جئتكم به وأدعوكم إليه أيها الناس هو «هُدَى اللَّهِ» فتمسكوا به فهو الذي يقيكم من مكايدهم وان كل ما يأتون به من خدع وتلبيس لا يؤثر فيكم أيها المؤمنون ما دمتم متمسكين بهدى اللّه ، لأن المؤمن المخلص لا يصده صادّ عن دينه ، ولا تصدقوا أبدا «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» من الكتاب والهدى والدين ، واعلموا أنه لا نبي بعد نبيكم ، ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ، ولا تصدقوا أقوال اليهود بأنهم يخاصمونكم «أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» بأن دينهم هو الواجب التقيد به ، كلا فإن دينكم خير الأديان وقد جعله اللّه ناسخا لما تقدمه مما يخالفه ، فلا يقدرون على محاجتكم في هذا لأنكم أحق منهم وأهدى.
وقد جاءت جملة إن الهدى اعتراضية لتأكيد أحقية دين الإسلام وتعجيل المسرة بالنتيجة.
ويا سيد الرسل «قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده إنعاما منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» على من يريد أن يوسع عليه ، لأن خزانته لا تنفد ، وعطاءه غير محدود ، وهو «عَلِيمٌ» (73) بمن يؤهله لعطائه ويفضله على غيره ويوسع عليه برحمته.
وهذا الذي جرينا عليه في تفسير هذه الآية على رأي بعض المفسرين أولى من غيره وأحسن بالمقام.
وقال أكثر المفسرين إن الخطاب في هذه الآية لليهود من تتمة ما حكاه اللّه عنهم ، وعليه يكون المعنى لا تصدقوا أيها اليهود إلا لمن يتبع دينكم من ملتكم ، لأن أحدا لم يؤت مثل ما أوتيتم من التوراة التي فيها العلم والحكمة والآيات التي أظهرها اللّه على يد رسولكم موسى ، ولا تصدقوا أن الإسلام يخاصمونكم عند اللّه كما يقوله محمد ، لأن دينكم(5/355)
ج 5 ، ص : 356
أقدم الأديان وأصحها (إِنَّ الْهُدى ) إلخ اعتراضية أيضا ، وقد أتى بها بمعنى أن الذي أنتم عليه إنما صار دينا بحكم اللّه وهو الهدي الذي هدى الناس إليه وأمر باتباعه ، فإذا أمر باتباع دين غيره وجب الانقياد إليه إذعانا لحكمه ولكنه لم يأمر.
وقال بعض المفسرين انتهى ما حكاه اللّه عن اليهود عند قوله (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وما بعد خطاب لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وعليه تتجه قراءة الحسن والأعمش (أَنْ يُؤْتى ) بكسر الهمزة (من إن) وما جرينا عليه أولى لسلامة الآية عن التبعيض ولمناسبتها لسياق ما بعدها وكون التفضيل المنبئة عنه هذه الآية أولى بأن يعزى لسيد الأنبياء وسيد الكتب وخير الأمم.
وهذه الآية من أصعب آيات القرآن تفسيرا بعد سورة البينة ، والآية 108 من المائدة الآتيتين ، هذا واللّه أعلم ، وهو الذي «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من خلقه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (74) الذي لا يوازيه فضل.
تشير هذه الآية إلى أن فضل اللّه ورحمته لا يتقدان بسبب ولا علة وان من هداه اللّه لحقه عن يقين لن يرجع عن هداه بترهات المبطلين ، وان التذبذب في الإنسان دليل على عدم صحة عقيدته.
قال تعالى مبينا شأن أولئك الظالمين «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» عند ما تطلبه منه دون مماطلة أو جحود تقيّدا بما أمرهم اللّه به من أداء الأمانة «وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً» بالمطالبة والإلحاح «ذلِكَ» عدم أدائه الأمانة ناشىء عن استحلال مال من لم يكن على دينهم خلافا لدينهم «بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» أي ليس عليهم إثم في أكل أموال الأميين أمة محمد لأنهم على غير دينهم ويعزون هذا إلى التوراة ، فكذّبهم اللّه بقوله «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بنسبة ما لم يذكره في كتابهم إليه «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75) أنه كذب ، والواو هنا حالية أي يقولون ذلك والحال أنهم يعلمون خلافه وعدم صحته.
قالوا نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن سلام إذ أودع عنده رجل من قريش قبل إسلامه ألفا ومئتي أوفية من ذهب فأداها إليه حال طلبه والشق الأخير منها في فنخاص ابن عازوراء إذ استودعه رجل من العرب دينارا واحدا فجحده ولم يؤده إليه إلا بعد(5/356)
ج 5 ، ص : 357
مخاصمة وبيّنة.
وهي عامة في كل من هذا شأنه من الطرفين ، وقد بينا ما يتعلق بحق الأمانة أول سورة المؤمنين في ج 2 فراجعها ولبحثها صلة آخر سورة الأحزاب الآتية.
قال تعالى «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ» الذي عاهد عليه ربه في التوراة الذي من جملته لزوم أداء الأمانة إلى أي كان «وَاتَّقى » الخيانة فيها والمماطلة بدفعها إذ عليه أن يؤدي ما ائتمن عليه لأنه من الوفاء المأمور به ، والتقوى التي هي أساس الدين «فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (76) روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا» قلله اللّه تعالى لأنه مهما كان كثيرا فهو قليل بالنسبة لما ينجم عنه ، لأن فيه أكل مال الغير بغير حقه وهو عظيم عند اللّه تعالى لأنه أعظم من أكله أموال الناس بالباطل ، راجع الآيتين 188/ 282 من سورة البقرة المارة ، والآيتين 28/ 72 من سورة الأحزاب الآتية ، ولهذا قد وجه اللّه تعالى إلى أمثال هؤلاء الذمّ والمهانة في الدنيا ، وأكبر لهم العقاب في الآخرة بقوله «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم في خيانة الأمانة وبيع آيات اللّه بالثمن البخس وكتم ما أنزل اللّه فيها وتبديله أو تغييره والحلف كذبا ولا يضعون نصب أعينهم العاقبة الوخيمة ولا يتخيّلون ما رتب اللّه عليهم من العذاب «لا خَلاقَ» حظ ولا نصيب «لَهُمْ فِي» منافع ونعيم وفضل «الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ» بما يسرّهم فيها «وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» نظر رحمة وعطف «يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» من أدران الذنوب وأوساخ العيوب «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 77» لا تطيقه قواهم.
يدخل في هذه الآية رؤساء اليهود كأبي رافع ولبابة أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأضرابهم الذين اعتادوا هذه الأفعال القبيحة تجاه ما يأخذونه من رعاعهم.(5/357)
ج 5 ، ص : 358
مطلب في الحلف الكاذب والمانّ بما أعطى والمسبل إزاره وخلف الوعد ونقض العهد :
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن منصور أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال :
من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي اللّه وهو عليه غضبان.
قال عبد اللّه ثم قرأ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مصداقه من كتاب اللّه تعالى هذه الآية.
ولفظ المسلم هنا ليس بقيد ولا شرط في هذا الحديث والذي بعده لأن اللفظ عام فيشمل هذا الحديث كل أحد.
ورويا عن عبد اللّه بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق فحلف باللّه لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية.
وعهد اللّه يشمل جميع العهود والمواثيق والوعود سواء كانت بين الرجل وربه أو بين الرجل وغيره ، راجع الآية 34 من الإسراء في ج 1 فيما يتعلق بالعهود والمعاهدات.
ورويا عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب ، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها حق امرئ مسلم ، ورجل منع فضل ماله فيقول اللّه له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك.
وروى مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها ثلاث مرات ، قلت خابوا وخسروا من هم يا رسول اللّه ؟ قال المسبل (أي إزاره) والمان (أي فيما أعطى) والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.
وللنسائى المانّ بما أعطى والمسيل إزاره ، إلخ.
وروى مسلم عن أبي أمامة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم اللّه عليه الجنة وأوجب النار ، فقالوا يا رسول اللّه وإن كان شيئا يسيرا ؟ قال وإن كان قضيبا من أراك وكلمة بعد العصر في الحديث السابق مثل كلمة المسلم في غيره ليست بقيد ولا شر فسواء كانت اليمين بعد العصر والمحلوف له مسلما أو كانت في أي وقت كان والمحلوف له كتابيا أو مجوسيا فهو يمين يستحق صاحبها الوعيد المذكور.
ولا يخفى أن اليم على نية المحلف لا على نية الحالف ، ألا فليتيقظ المتيقظون ، ولينتبه الغافلون(5/358)
ج 5 ، ص : 359
فإن اللّه لا يخفى عليه شيء وإنه ينظر إلى نياتكم وقلوبكم.
قال تعالى «وَإِنَّ مِنْهُمْ» اليهود «لَفَرِيقاً يَلْوُونَ» يفتلون ويصرفون «أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ» التوراة عن المعنى المراد فيها إلى غيره وهو ضرب من ضروب التبديل والتحريف لكتاب اللّه ويفعلون ذلك «لِتَحْسَبُوهُ» أيها الناس وهو محرف مبدل «مِنَ الْكِتابِ» الذي أنزله اللّه عليهم واللّه تعالى يقول لكم أنه مغير «وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» واللّه يقول لكم أنه مبدل محرف «وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وكررت هذه الجملة في لفظ متحد لقصد التأكيد وهو مطلوب هنا لا سيما في هذه المواقع لما فيها من نسبة ما لم يكن للحضرة الإلهية «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» خلافا لما هو في علمه «وَهُمْ يَعْلَمُونَ 78» أنه كذب ليس من الكتاب ولا من عند اللّه ، وكررت الجملة الأخيرة أيضا بعين ما هو في الآية 75 المارة لأنها بصنف غير الصنف المبين فيها لما اجتمع اليهود مع وقد نجران ، قال أبو رافع القرظي أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ وقال السيد من وفد نجران أتريد ذلك يا محمد وأن نعبدك كما تعبد اليهود عزيرا وكما تعبد بنو مليح الملائكة ؟ قال معاذ اللّه أن نعبد أو نأمر أو نريد غير عبادة اللّه وحده ما بذلك بعثت يا قوم ولا أمرني ربي به وليس هو من شأني ، فأنزل اللّه «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي لا ينبغي هذا لأحد أصلا فضلا عن هذا الصنف الذي هو أبعد الناس عن مثله ، لأن هذه النعم التي منّ اللّه بها عليه تمنعه من ذلك «وَلكِنْ» يقول لهم «كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» علماء حكماء تربّون الناس بأخلاقكم وآدابكم الحسنة وتعلمونهم طرق الخير وسلوك سبل الرشاد وتمحضونهم التوحيد وأن لا تنسبوا للحضرة الإلهية ما لا يليق بها ، وأن تنزهوه ولا تعزو شيئا مما في هذا الكون إلا إليه وحده «بِما» بسبب ما «كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ» لغيركم «وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» (79) على الغير ممن تقدمكم من أهل العلم ، لأنهم لم يولوكم إلا على هذا وأن تقرءوا لمن معكم ولأنفسكم ما أنزل اللّه لكم حرفيا ، ومن هنا جاءت النسبة لأن الرباني هو(5/359)
ج 5 ، ص : 360
المنسوب إلى الرب ، وزيادة الألف والنون دلالة على كمال هذه الصفة ، ومبالغة لاسم الفاعل الذي هو ربان «وَلا يَأْمُرَكُمْ» أيها البشر «أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً» وهذا تنديد في بني مليح ومن تبعهم والصابئين القائلين إن الملائكة بنات اللّه ، واليهود والنصارى القائلين إن عزيرا والمسيح ابنا اللّه «أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ» أيها الناس «بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (80) وهذا استفهام على طريق التعجب والإنكار وفيها من
إلقاء الروعة والمهابة ما فيها لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
وفي يأمركم ثلاث لغات : إسكان الراء لعدم توالي الحركات ، والنصب بالعطف على يقول ، والرفع على الاستئناف المؤيدة بقراءة ولن يأمركم بدل من ولا يأمركم الأولى وهو ما مشيت عليه ، لأنه الأظهر لخلوها عن تكلف جعل الأمر بمعنى النهي عند جعل لا غير زائدة عند من يرى ذلك ، لأني أرى أن لا زائد في القرآن وأن من يقول نجاء بالحرف الزائد لتحسين الكلام وتقويته وتأكيده يقال له إذا ليس بزائد لأنه أدى معنى لم يكن عند عدمه ، وكل ما يجاء به لمعنى فهو غير زائد ، ولأن القراءة بالنصب تستدعي صلة لا وجعلها للتأكيد فقط أو جعلها غير زائدة بجعل عدم الأمر في معنى النهي ، فيكون معنى أيأمركم ينهاكم ، وتستدعي القراءة التقديم على جملة (وَلكِنْ كُونُوا) إلخ تدبر.
يفهم من هذه الآيات أن الأمانة وما يضاهيها لا يثاب عليها المرء إلا إذا راعى فيها خوف اللّه ، وإن أداءها حال طلبها من الخصال الحميدة ، وإن جميع الشرائع تحت على أدائها بالمعروف على الوفاء بالعهد والوعد ، وإن الخيانة والنكث من الكبائر التي نهى اللّه ورسوله عنها ، وإنما كان أداؤها محمودا لما فيه من الوثوق بالناس ومحافظة حقوقهم ، وبضدها عدم الثقة وضياع الحقوق.
وترمي هذه الآيات لعدم الوثوق بأهل الكتاب فيما ينقلونه من أمر الدين ، وان اتخاذ الأيمان الكاذبة وسائل لبيع السلع وأخذ مال الغير حرام قطعا.
وتشير أيضا إلى حرمة ما يتفكه به من معارضة الكوثر أعطيناك كلام اللّه كقولهم بدل إنا أعطيناك كذا ، أو إنك أقصر من سورة الكوثر ، أو أفرغ من فؤاد أم موسى ، وقولهم والسماء والطارق أي لا يملك شيئا من حطام الدنيا على قبيل ضرب المثل ، لأن كلام اللّه لا يجوز أن يدخله الهزل والسخرية(5/360)
ج 5 ، ص : 361
وهو منزه منهما ، وعدم جواز قراءة شيء منه يقصد به إيهام سامعه أنه من كلام اللّه على سبيل التفكه أيضا ، لأنه يعد من قبيل الانتهاك لحرمته مما قد يؤدي إلى الكفر.
وتفيد الآيتان الأخيرتان إلى أن ما يدعيه أهل الكتاب من أن الأنبياء دعوا الناس إلى عبادتهم أو إلى عبادة الملائكة كذب بحت وباطل محض ، يدحضه الشرع وينفيه العقل.
وتفيد أن من أوتي سلطة ما ليس له أن يستعبد الناس أو يسترقهم أو يتعاظم عليهم بها ، وأن ليس للبشر أن يحب الأنبياء والصالحين كحب اللّه ولا يخافهم كخوفه ولا يعظمهم كتعظيمه ولا ينسب إليهم ضرا ولا نفعا مطلقا.
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما» تقرأ بفتح اللام أي من أجل الذي ، وبكسرها توطئة للقسم ، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف ، ويكون المعنى وإذا استخلف النبيين للذي «آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» من الكتب الإلهية ، وجواب القسم قوله «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» أي الرسول والمراد به هنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم لما أخرج ابن جرير عن علي كرم اللّه وجهه قال : لم يبعث اللّه نبيا ، آدم فمن بعده إلا أخذ اللّه تعالى عليه العهد في محمد صلّى اللّه عليه وسلم لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به وليتصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ، ثم تلا هذه الآية.
وإذا كان حكم الأنبياء هكذا فأممهم من باب أولى ، لأن العهد مع المتبوع عهد مع التابع حتما «قالَ» تعالى بعد أخذ العهد عليهم «أَ أَقْرَرْتُمْ» بهذا الميثاق «وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ» العهد «إِصْرِي» ميثاقي «قالُوا أَقْرَرْنا قالَ» تعالى لهم «فَاشْهَدُوا» على بعضكم في هذا الإقرار «وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (81) عليه وعلى تشاهدكم على بعضكم ، ثم هدد من ينكث ذلك الميثاق بقوله «فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ» فأعرض عن هذا الميثاق ونكث عهده وأنكر شهادته ولم يؤمن بهذا الرسول «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (82) الخارجون عن الإيمان كله هذا عهد النبوة أما عهد الربوبية فقد تقدم في الآية 173 من سورة الأعراف ج 1 فراجعه.
ولما تخاصم إلى حضرة الرسول وفد نجران مع اليهود في ادعاء كل منهم دين إبراهيم وقال لهما كل منكما بريء منه ، وقالا له لا نرضى بقضائك ولا نأخذ(5/361)
ج 5 ، ص : 362
بدينك وأصر كل منهم على قوله أنزل اللّه عز وجل «أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ» حكما بينهم «وَلَهُ أَسْلَمَ» انقاد وخضع «مَنْ فِي السَّماواتِ» من الملائكة «وَالْأَرْضِ» من الإنس والجن «طَوْعاً» بالنظر والاستدلال والإنصاف من النفس «وَكَرْهاً» بالقوة حال الصحة كنتق الجبل على اليهود أو عند معاينة العذاب كالغرق لآل فرعون ، والإشفاء على الموت كما في قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) الآية 84 من سورة المؤمن ج 2 فرد اللّه عليهم (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) في الآية 85 منها «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» (83) في الآخرة فاتركهم يا سيد الرسل و«قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا» من القرآن.
واعلم أنه لما كان الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول عدّى ما أنزل في سورة البقرة في الآية 136 المارة بإلى المفيدة للانتهاء ، وعدّاه هنا بعلى المفيدة للاستعلاء على المعنيين تارة بإلى وطورا بعلى ، وقدم القرآن لأنه أشرف الكتب وأجمع لمراد اللّه فيها «وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ» من الصحف «وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» من الصحف والوصايا «وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى » من التوراة والإنجيل «وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ» من كتب وصحف «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» لأنهم كلهم مرسلون من قبله وأن ما أنزل عليهم من عنده «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (84) لا لغيره.
قال تعالى «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» لأنه هو المقبول عنده لا دين غيره البتة «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (85) ثواب عمله فكل من يطلب دينا غير الإسلام فقد خسر الدنيا والآخرة.
تدل هذه الآيات على وجوب الإيمان بالرسل كافة ، وعلى محاربة الشرك بجميع أنواعه ، وأن كل ما يخالف تعاليم دين الإسلام باطل ، وأن جميع ما أنزل من عند اللّه متحد المعنى في أصول الدين ، لأن الرسل كلهم جاءوا من عند اللّه على وتيرة واحدة ، وأن الاختلاف في الفروع وقع لمصلحة الأمم بحسب حالهم واختلاف مداركهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأن الإيمان بجميع الكتب الإلهية والعمل بآخرها وهي شريعة الإسلام واجبة على جميع الخلق ، لأن التشريع الأخير يلغي ما قبله وهذه سنة اللّه في خلقه ، وعليه جرت(5/362)
ج 5 ، ص : 363
عباده إلى الآن وإلى ما بعد حتى يأتي اللّه بقيام الساعة.
هذا وان حضرة الرسول بعد أن صدع بأمر اللّه بما أنزل إليه من عنده تمنى لو أن ربه يمن عليه بإيقاع الهدى في قلوب خلقه لينقادوا إليه فيما يأمره وينهاه ، فرد اللّه تعالى على ما وقع في قلبه وهو العالم بذات الصدور بقوله عز قوله «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» ببعثتك وتوقعهم ظهورك اتباعا لما وجدوه في كتبهم «وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ» أي أنك صادق بدعواك الرسالة عند ما ظهرت لهم البشائر بها وانطبقت عليك الصفات المذكورة في كتبهم «وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» على صدق نبوتك ، وإنما ساءهم أنك لست منهم وخافوا أن يحرموا الرياسة فعدلوا عن قبول الهدى الذي جئتهم به فظلموا أنفسهم قصدا «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (86) أنفسهم ببيعهم الآخرة بالدنيا اختيارا ، وقد قضت سنة اللّه أن لا يهدي من يعرض عن الهدى برضاه ولا يهدي إلا ذوي النفوس الطاهرة والنية الخالصة ، أما هولاء الذين ألفوا الكبر والإصرار على الكفر فلا سبيل لهدايتهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (87) وان مأواهم النار «خالِدِينَ فِيها» مع هذه الفظيعة المفضية للطرد من رحمة اللّه «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» (88) يؤخرون عن وقته «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الارتداد والكفر وندموا على ما وقع منهم وآمنوا وأخلصوا «وَأَصْلَحُوا» عملهم بالتوبة النصوح «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لهم «رَحِيمٌ» (89) بهم وبجميع عباده وخاصة من يتوب ويحسن توبته.
نزلت هذه الآيات في الحارث بن سويد الأنصاري وطعمة بن أبيرق وجموح بن الأسلت ورفقائهم التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة إلى مكة كفارا ، وقد ندم أحدهم وهو الحارث وأرسل لحضرة الرسول بقبول توبته.
وآخر هذه الآيات عام في جميع الكفرة المرتد منهم وغيره ، وهذه آخر ال 89 آية من هذه السورة التي نزلت في وفد نجران ومحاججتهم مع اليهود ومجادلتهم مع حضرة الرسول وما تفرع عن ذلك ، ولبعضها أسباب أخرى لصلاحيتها لها ، لأن السبب الواحد قد يكون لأغراض كثيرة تنطبق عليها ، كما أن بعضها تكون عامة(5/363)
ج 5 ، ص : 364
فيهم وفي غيرهم ، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
ويفهم من هذه الآيات جواز لعن المرتد والكافر على العموم ، وعدم جواز تخصيص أحد منهم باللعن إلا إذا تحقق موته على الكفر.
وأن العمل الصالح شرط لقبول التوبة ممن يتوب من كفره ، وأنها تمحو ذنوب التائب إذا خلصت نيته ، ثم بين تعالى أن من لم يتب توبة خالصة ورجع إلى كفره فسيغلق اللّه في وجهه باب التوبة بقوله «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بسيدنا عيسى «بَعْدَ إِيمانِهِمْ» بسيدنا موسى وما أنزل عليهما من الإنجيل والتوراة «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» بجحودهم رسالة محمد وما أنزل عليه من القرآن «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» (90) الذين لا سبيل إلى هدايتهم ، لأن اللّه تعالى إنما قبل توبة المرتد والكافر على أن يطهر دخيلة قلبه بالأعمال الصالحة التي يستدل بها الناس على صحة إيمانه وقبول توبته فلا تقبل توبته ، ولهذا أجمعت الأمة على أن المرتد يمهل ثلاثة أيام فإن أصر على كفره قتل وإلا فلا ، أما الكافر الذي نشأ على الكفر فقد جعل اللّه أمامه باب التوبة مفتوحا ، ووعده بغفران ما كان منه حال كفره إذا أسلم.
قال تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الآية 39 من سورة الأنفال المارة ، فإذا حق عليه الشقاء ومات على كفره فتبا له وسحقا ، وإذا حفته السعادة فآمن نجا ، قالوا نزلت هذه الآية في اليهود خاصة ، وقيل في المشركين والنصارى لأنهم كفروا بمحمد وازداد كفرهم بإقامتهم على الكفر ، إلا أنها لا تنطبق على المشركين لأنهم لم يؤمنوا قبل بسيدنا محمد ولا بموسى ولا بعيسى لأنهم أهل شرك انقرضت النبوة فيهم وآثارها بعد وفاة إسماعيل عليه السلام الذي لم يترك لهم كتابا أو يدون لهم شريعة يتدينون بها من بقايا الشرائع القديمة ، لذلك فان نزولها باليهود أوفق للمعنى وأطبق للحال.
مطلب وقت قبول التوبة وعدم قبولها.
ومعنى البر والإثم.
والتصديق بالطيب.
والوقف الذري.
وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان :
ومعنى قوله لن تقبل توبتهم محمول على قوله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ) الآية 18 من سورة النساء الآتية ، لأن اللّه تعالى علم قولهم فيما بينهم أنهم يبقون على الكفر(5/364)
ج 5 ، ص : 365
حتى إذا نزل بهم الموت تابوا ، ولا تقبل التوبة عنده.
ولا حال اليأس كما بينته في الآية المذكورة قال في بدء الأمالي :
وما إيمان شخص حال يأس بمقبول لفقد الامتثال
وقد علم أنهم لم يتوبوا قبل نزول الموت ، لذلك قال لن تقبل توبتهم ، وإنما يظهرونه نفاقا إيمانا كان أو توبة ولا قيمة لهما عند اللّه ، لأنه لا يقبل إلا الخالص من الإيمان والنصوح من التوبة ، وهؤلاء فضلا عن أنه لا يقبل توبتهم فإنه يزيدهم وبالا على وبالهم إذ لا تقبل توبة من أقام على شرك أو نفاق حتى يقلع عنهما أو يتوب توبة خالصة قبل وقت الحشرجة بأن يكون له أمل بالحياة ،
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (91) ينصرونهم ويخلصونهم من ذلك.
ومن المعلوم أن أحدا لا يملك يوم القيامة شيئا ولا يقبل منه الفداء على سبيل الفرض بأنه يقدر عليه لينجي نفسه من عذاب اللّه ، فلو أمكنه التقرب إلى اللّه بخلاصه مما حل به بملء الأرض ذهبا لفعل ، وأنّى له ذلك ؟
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال يقول اللّه عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به ؟
فيقول نعم ، فيقول أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا الشرك.
ألا فلينتبه العاصون ، ألا فليحذر اللاهون ، ألا فليتفطن الغافلون ، وليشتروا أنفسهم من عذاب اللّه حال قدرتهم عليه ، ولينفقوا من أموالهم قبل أن يتركوها لغيرهم ويلقون وبالهم عند اللّه وحدهم.
تشير هذه الآية إلى مصير الذين يموتون على كفرهم والعياذ باللّه بأن هذا مصيرهم ، وأن ما أسلفوه من عمل لا عبرة به لأن الشرط بحصول الثواب على الأعمال هو الإسلام والإيمان ، وترمي إلى أن العبرة بخواتيم العمر فمن مات مؤمنا فقد نجا واللّه أولى بأن يعفو عنه ، ومن مات على كفره فقد هلك ولا ناصر له من اللّه ، وهذه الآيات من 84 إلى هنا تضاهي الآيات من 134 إلى 140 ومن 159 وإلى 62.
من سورة البقرة.
قال تعالى «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ» أيها الناس ولن تعطوا الخير الكثير والإحسان الجزيل فتعدوا(5/365)
ج 5 ، ص : 366
من الأبرار المحسنين «حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» من أنفس أموالكم لتؤجروا عليها بأحسن منها ، وهذه الآية بمقابل قوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية 267 من سورة البقرة «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ» نفيس تحبونه أو خبيث تكرهونه «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (92) فيجازيكم على حسبه ، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللّه كذابا.
وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن البر والإثم ، فقال البرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك.
وعن وابصة بن معبد الجهني دفين الرقة قال : أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البرّ ؟ قلت نعم : فقال استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأقنوك.
- بالقاف أي أرضوك - وروي بالفاء وأفتوك من الفتيا ، وهي الإرضاء أيضا ، والمعنى وإن أقنعك المفتون بأنه ليس بإثم فلا تقبل منهم لأن الإثم يحز القلب والبر يشرحه وهذا الحديث من باب الكشف لما روي أن رابصة جاء يتخطى الناس حتى جلس بين يدي رسول اللّه فقال له تحدثني بما جئت به أو أحدثك ، فقال بل تحدثني يا رسول اللّه فهو أحب إلي ، قال جئت تسأل عن البر والإثم ؟ قال نعم ، ورويا عن أنس بن مالك قال كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه (بئر ماء) وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، فلما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة فقال يا رسول اللّه إن اللّه تعالى يقول في كتابه (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية وإن أحب أموالي إلي (بئر ماء) وإنها صدقة للّه عز وجل أرجو برها وذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه حيث شئت ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم بخ بخ ذلك مال رابح أو قال رائج أرى أن تجعلها في الأقربين ، فقال أفعل يا رسول اللّه ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه ، وهي حائط (بستان) عظيم فيه ماء ، ومن هذا أخذ الوقف الذري وتداول حتى الآن ، (5/366)
ج 5 ، ص : 367
وأبقى أسماء الواقفين مخلدة بالذكر الحسن ويعيش بخيرهم جماعات يدعون لهم بالخير كلما انتفعوا ، وهذا هو الصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها فهو رضي اللّه عنه أول من سن الوقف بإرشاد رسول اللّه فله أجره إلى يوم القيامة في صريح قوله صلّى اللّه عليه وسلم من سن سنة حسنة إلخ الحديث ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث أحدها الصدقة الجارية (وبخ) كلمة تحسين تقال عند ما يرى الإنسان أو يسمع ما يحب ويستحسن وهي مبنية على السكون ، وتكرر للمبالغة بالكسر والتنوين ، ثم إن بعض الأصحاب اقتدوا بأبي طلحة وتصدقوا من أموالهم النفيسة على أقاربهم وذراريهم كعمر وابنه عبد اللّه وزيد بن حارثة ، وتفيد هذه الآية بان الطاعة إنما تتحقق بتضحية النفيس وإنفاق العزيز من المال وإن خير الصدقة المستمرة الدائمة وأحسنها التي تخصص للأقارب ، قالوا نزل ضيف عند أبي ذرّ فقال للراعي ائتني بخير إبلي فجاءه بناقة مهزولة ، فقال له خنتني ، فقال الراعي وجدت خير إبلك فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه ، فقال أبو ذر يوم حاجتي إليه يوم أوضع في قبري.
ولما قال اليهود يا محمد تزعم أنك على دين إبراهيم وتأكل لحوم الإبل ولبنها وهو لا يفعل ذلك ، فقال لم يحرمه إبراهيم ، فقالوا كل ما نحرم اليوم بمقتضى التوراة فهو حرام على نوح وإبراهيم وانتهى إلينا كذلك ، فأنزل اللّه عز وجل «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ» لأن يعقوب عليه السّلام اعتراه مرض قيل هو عرق النسا وقد منعه الطبيب من أكل لحوم الإبل بداعي انه يزيد في ذلك المرض فحرمه على نفسه لهذه العلة لا بتحريم اللّه تعالى ، وقد اقتفى أولاده أثره بعدم أكلها ، فلما أنزلت التوراة حرمه اللّه على بني إسرائيل ، فأنكروا ذلك فقال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المعاندين «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (93) بأن الإبل كانت محرمة على إبراهيم فأتوا بها فلم يجدوا ذلك وظهر كذبهم ، وهذا من معجزات الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لأنه من قبيل الإخبار بالغيب إذا لم يقرأ ولم يعرف ما في التوراة ، ففي هذه الآية ردّ على قول اليهود بأن النسخ غير جائز إذ جاء بالقرآن حل لحوم الإبل ، راجع الآية 145 من سورة(5/367)
ج 5 ، ص : 368
الانعام ج 2 وهو ناسخ لما في التوراة كما جاء في الإنجيل نسخ بعض أحكامها بالنظر للمصلحة والعصر كما في الآية 49 المارة ، وهذا معنى قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة المارة بالنسبة لما تقتضيه المصلحة والزمان ولانقضاء الوقت المقدر للعمل فيه عند اللّه تعالى كما ذكر الشيخ محي الدين في فتوحاته ، ومن هنا أخذت قاعدة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان ، ومن هذا قول علي كرم اللّه وجهه لا تقسروا أولادكم على طباعكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمانكم.
قالوا والسبب في إصابة يعقوب هو أنه كان نذر لأن أعطاه اللّه اثنى عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا ليذبحنّ أحدهم تقربا إلى اللّه تعالى ، ولما منّ اللّه عليه بذلك توجه لبيت المقدس لإيفاء نذره فلقيه ملك على صورة بشر فحسبه لصا فتصارع معه فغمزه في فخذه.
فعرض له عرق النسا ، ولما وصل أراد ذبح ابنه ولم يعرف أيهم يذبح ، فجاءه الملك الذي عرض له وقال لا سبيل لك لذبحه لأنك لم تصل صحيحا ، وإنما غمزتك في فخذك للمخرج من نذرك فكف عن ذبحه ، وهناك منعه الأطباء عن أكل لحوم الإبل ولبنها ، وقد ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم دواء هذا العرق بقوله : شفاء عرق النساء إلية شاة اعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم تشرب على الريق كل يوم جزءا.
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه والحاكم وهو حديث صحيح كما في شرح العزيزي ، قال أنس رضي اللّه عنه قد وصفت ذلك لثلاثمأة نفس كلهم تعافوا.
وهذا واللّه أعلم ، إذا حصل من يبس في بلاد حارة كالحجاز ، لأن فيها تليينا وإنضاجا.
وقيل إذا طبخ دماغ الوطواط بدهن الورد ودهن به عرق النسا يسكن وجعه بإذن اللّه.
ومثل ما وقع لسيدنا يعقوب وقع لعبد المطلب جد النبي صلّى اللّه عليه وسلم إلا أنه فدى ابنه الذي أراد ذبحه بمئة من الإبل ولهذا صارت دية الرجل مئة من الإبل.
قال تعالى «فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»
البرهان القاطع الدال على كذب اليهود وحل أكل لحوم الإبل وألبانها زمن إبراهيم عليه السلام وأصر على افترائه «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»
(94) أنفسهم وغيرهم «قُلْ» يا سيد الرسل «صَدَقَ اللَّهُ» وكذبتم أيها اليهود «فَاتَّبِعُوا» أيها الناس «مِلَّةَ(5/368)
ج 5 ، ص : 369
إِبْراهِيمَ»
التي يدعوكم إليها محمد وانقادوا لأمره وليكن كل منكم «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين خاضعا لدين محمد دين الإسلام الذي هو عليه وأصحابه «وَما كانَ» إبراهيم قط «مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (95) كما أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولم يعبد غير اللّه ، وهكذا كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإنهم يولدون على الفطرة ويتعبدون بما يلهمون من تعاليم اللّه أو مما كان عليه الأنبياء قبلهم.
مطلب في البيت الحوام والبيت المقدس وفرض الحج وسقوطه وتاريخ فرضه والزكاة والصوم والصلاة أيضا :
ولما قال اليهود للمسلمين بعد تبدل القبلة إن بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ومدفنهم ومهبط الوحي وفيه الصخرة الشريفة محل عروج الأنبياء إلى السماء وهي أقرب وجه الأرض فيها إليها وفلسطين أرض المحشر وأقدم قبلة استقبلت في الصلاة ، أنزل اللّه ردا عليهم «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» قبلة «لَلَّذِي بِبَكَّةَ» وليس بيت المقدس ، وجاء بالباء لأن العرب تعاقب بين الباء والميم فيقولون ضربة لازب ، وضربة لازم ، ومكة ، وبكة ، لأن الناس يتباكون حولها قديما وحديثا ، ويطلق هذا اللفظ على البيت نفسه وموضع المسجد فيها مما هو محيط به ، ويوجد في المسجد الأقصى محل تسميه اليهود المبكى فهم يقفون فيه يبكون حتى الآن ، وسميت مكة لقلة مائها يقال مك الفصيل أمه إذا لم يبق فيها لبنا.
روى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض فقال المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال المسجد الأقصى ، قلت كم بينهما ؟ قال أربعون عاما ثم الأرض لك مسجدا ، فحينما أدركتك الصلاة فصل.
زاد البخاري فإن الفضل فيه «مُبارَكاً» بيت مكة تشمل بركته الأرض كلها «وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» (96) فيها إذا وقفوا لزيارتها مؤمنين بربها يهتدون بهديه ويتباكون حوله طلبا لمغفرة ما سلف منهم ولما عند اللّه من الرحمة بهم «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» منها «مَقامُ إِبْراهِيمَ» وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بنائه ، راجع الآية 125 من البقرة المارة في بحثه ، «وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» وهذا من جملة آياته أيضا ، قال أبو حنيفة رحمه(5/369)
ج 5 ، ص : 370
اللّه إن من وجب عليه القصاص أو الحد لا يستوفى منه فيه ما زال ملتجئا إلى الحر.
ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا بشارى ويضيّق عليه حتى يخرج منه ليقنص من لئلا تتعطل الحدود ، أما إذا قتل أو سرق بالحرم فيستوفى منه الحدّ فيه عقوبة له لخرقه حرمة الحرم في الحرم بخلاف الأول ، وهذا هو الحكم الشرعي في هذا وقال بعض المفسرين إن معنى آمنا أي من العذاب مطلقا وهو محمول على أنه إذا لم يقترف ما يستوجب العقوبة بعد حجة مما يستدل به على قبول حجة ، أما من كانت حالته قبل الحج أحسن من بعده فلا ، لأن ذلك دليل على عدم القبول أجارنا اللّه من ذلك.
تشير هذه الآية إلى أن هذا البيت وضعه اللّه لجميع خلقه وأوجب الأمن لمن دخله منهم أجمع وعم بركته فيهم ، فمن آمن واتقى فقد فاز بخير الدنيا والآخرة ، ومن أعرض فأمره إلى اللّه ، يدل عليه قوله «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» فلم يخص فيه أحدا ، بل أوجب فرض زيارته على جميع خلقه ، ولم يستثن أحدا إلا العاجز ، إذ أبدل من عموم لفظ الناس «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» لأن اللّه تعالى لا يكلف غير المستطيع لقوله (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية ، وما قاله بعضهم من (من) فاعل لكلمة حج لا وجه له ولا عبرة فيه ، إذ يكون المعنى أن الناس كلهم مكلفون بإقسار المستطيع على فعل الحج ، وهذا غير معقول ، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.
وتفيد اللام في للّه وعلى بعدها التأكيد والتشديد على فعل الحج والحكم الشرعي وجوبه على المستطيع مرة في العمر.
روى مسلم عن أبي هر قال : خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال أيها الناس قد فرض اللّه عليكم الحج فحجو فقال له رجل أفي كل عام يا رسول اللّه ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم.
والقيد بالاستطاعة ينفي الوجوب على غير المستطيع لعموم القدرة على ما يوصله إليه وعدم وجود ما يكفيه وأهله مدة ذهابه وإيابه أو لعدم أمن الطريق ، وما جاء عن ابن عمر في حديث الزاد والراحلة لم يثبت ، ليس بمتصل وسنده فيه إبراهيم بن زيد الجوزي متروك الحديث ، وقال يحيى معين إنه ليس بثقة ، وكذلك ما جاء عن علي كرم اللّه وجه لأن في إسناده مقالا(5/370)
ج 5 ، ص : 371
وفيه هلال بن عبد اللّه مجهول والحارث يضعف في الحديث ، وقال الترمذي فيه حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولأنهما وحدهما لا يكفيان ولا يعد القادر عليهما فقط مستطيعا ، لأن المستطيع ينبغي أن يكون صحيحا قادرا على لوازم الحج ذهابا وإيابا فضلا عن دينه وحوائجه وأهله وضرورياتهم مدة ذهابه وإيابه وعلى نفقة من تلزمه نفقته أيضا ، فإذا فقد شيء من هذا انتفت الاستطاعة وسقط الفرض ، أما العاجز جسما لمرض أو هرم فيشترط له علاوة على ما تقدم القدرة على نفقة من يقوم بخدمته ذهابا وإيابا وإلا فلا يعد مستطيعا أيضا ، لما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : كان الفضل بن عباس رديف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فجاءته امرأة من قثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول اللّه يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، قالت يا رسول اللّه إن فريضة اللّه على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال نعم.
وذلك في حجة الوداع أخرجاه في الصحيحين - والعجز لزمانه كذلك ، ويشترط مع أمن الطريق وجود الماء في كل مرحلة ، ووجود الرفقة أيضا لكراهة السفر للواحد والاثنين ، وإذا كان في الطريق من يطلب خفارة عند المرور منه كأعراب البادية الذين يطلبون خوّة ممن يمرّ بهم فلا يعد أمنا ، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك.
هذا ولما تلا هذه الآية حضرة الرسول على جميع أهل الأديان إذ ذاك وهم المبينون في الآية 18 من سورة الحج الآتية ، قالت اليهود والنصارى ومن تابعهم لا نحج هذا البيت ولا نصلي إليه ، أنزل اللّه «وَمَنْ كَفَرَ» أي ومن جحد فريضة الحج فهو كافر «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» (97) وعن طاعتهم لأن كلمة ومن كفر تفيد معنى ومن لم يحج ، وهذا تغليظ عظيم على تارك الحج مع القدرة ، وفي ذكر الاستغناء دليل على المقت والعياذ باللّه والسخط على التارك له كلا.
وفي قوله (الْعالَمِينَ) بدل عن/ عنه/ إشارة إلى عظيم غضب اللّه على من يترك الحج استغناء ، لأن الاستغناء عن العالمين يتناول التارك مبدئيا ولم يخصه تهاونا بشأنه واستخفافا به.
وغير خاف أن الحج أحد أركان الإسلام الخمس ، وله شروط وأركان وسنن مبينة في كتب الفقه ، وذكرنا ما يتعلق بالرمي في الآية 113 من سورة الصافات في(5/371)
ج 5 ، ص : 372
ج 2 ، وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى الباحثة عن ذلك ، ولبحثه صلة في الآية 25 فما بعدها من سورة الحج الآتية ، وقد فرض في السنة التاسعة من الهجر مما يدل على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن سورتها ، وقد وضعت هنا كفيره بإشارة من حضرة الرسول ودلالة من الأمين جبريل طبق ما هو عند اللّه.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان.
وبينا أن الصوم فرض في 10 شعبان السنة الثانية من الهجر.
وأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء في 27 رجب السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بسنتين وسبعة أشهر تقريبا ، وأن الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة ورويا عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : لا يشير الرجال إلا لثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام َ(5/372)
ج 5 ، ص : 373
«تَبْغُونَها»
سبيل اللّه الموصلة إليه «عِوَجاً» بكسر العين أي الزيغ والميل عن الاستواء في الدين والقول والعمل وكل ما لا يرى ، أما الجدار والعصا وغيرهما مما تراه العين فيفتح العين راجع الآية الأولى من سورة الكهف المارة في ج 2 ، «وَأَنْتُمْ شُهَداءُ» بأن الدين الحق ما عليه محمد صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأن ما أنتم عليه ضلال «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (99) من إلقاء الشبه بقصد تشكيك الناس لصدهم عن الإيمان بمحمد واتباع دينه القويم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» (100) فاحذروهم وتباعدوا عنهم
ثم أتى بما ينم بالتعجب من طروء الكفر على الإيمان بقوله «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ» باللّه ورسوله استفهام تعجب يليه جملة حالية أي كيف يكون منكم ذلك «وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ» قائم بين أظهركم ، أي لا يليق بكم ذلك بل لا يتصور وقوعه منكم وأنتم على ما أنتم عليه من العقل والدراية «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ» ويتمسك بدينه ويتبع رسوله «فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (101) بوصله إلى الجنة لأن من يعصمه اللّه يقيه من الوقوع في الآفات ويدفع عنه كل شر.
مطلب فتن اليهود وإلقائها بين المسلمين وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول وألفتهم :
ولما رأى شاس بن قيس اليهودي ألفة الأوس والخزرج في الإسلام بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان قال واللّه ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار ، فأمر من يذكّرهم بوقائعهم يوم بعاث وما جرى فيه من القتل بينهم والسلب ليوقع بينهم الشحناء ويثير الضغائن الكامنة في قلوبهم ، والفتنة قائمة لعن اللّه من أيقظها ولا سيما والناس كانوا قربي عهد بالإسلام ، فذكروهم ولا زالوا يثيرون بينهم ما وقع منهم زمن الجاهلية ، حتى استفز أوس بن قبطي من بني حارثة الأوسي وجبار بن صخر من بني سلمة الخزرجي ، فتفاخروا وتمارون بما أغضب الفريقين ، وحملهما على حمل السلاح وخرجا إلى الحرة ليتقاتلا ، قاتل اللّه اليهود ما ألعنهم ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأخذ المهاجرين وخرج إليهم ، فقال أجاهلية وأنا بين(5/373)
ج 5 ، ص : 374
أظهركم ، وقد أكرمكم اللّه بالإسلام وقطع أمرهم عنكم ، وألف بينكم ، أترجعون إلى الكفر! اللّه اللّه ، فوقع كلامه فيهم موقعا بعيدا وزاح عنهم ما بينهم وعرفوا أنها نزعة شيطانية قام بها أعداؤهم اليهود ، فألقوا السلاح وتعانقوا ، وتباكوا ورجعوا مع حضرة الرسول سامعين مطيعين.
قال جابر فما رأيت يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم ، وأنزل اللّه الآية المارة وأعقبها بقوله جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (102) وهذه الآية محكمة لأن من التقوى قيام العبد بأداء ما يلزم بقدر طاقته لا أنه يأتي بكل ما يجب عليه للّه ويستحقه ، لأنه مما يعجز البشر عنه ، ولذلك قال بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية التغابن عدد 16 وهي قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بل هذه الآية مفسرة لها لا ناسخة ولا مخصصة ، فمن اتقى اللّه جهده فقد اتقاه حق تقواه فضلا عن أنه يوجد من الكاملين من يتق اللّه حق تقواه ، إذ يصرف كل زمنه في عبادته والتفكر بآلائه ومصنوعاته ويتداوى بعبادته ويقول فيها :
إذا العبادة لم تنقذك من وصب كلا لعمري لم تشفك الأطباء
قال تعالى «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ» الموصل إليه وهو القرآن الآمر بالألفة والمودة والمفضي لدخول الجنة «جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» كاليهود والنصارى الآن وكما كنتم زمن الجاهلية على اختلاف ألوانكم وأجناسكم «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» كما كنتم قديما لأن أوس وخزرج أخوان شقيقان ، فلما تناسلوا وكثروا وقع بينهم الخلاف فتعادوا بسبب حسد بعضهم بعضا ووضع بينهم العداء ، وإذا وقع الخصام بين الأقارب كان قويا ولهذا قيل :
وظلم أولي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
ولهذا يذكر اللّه تعالى بحالتهم الأولى وما آبوا إليها بقوله «وَكُنْتُمْ» قبل الإسلام اشتد بينكم الخصام حتى صرتم «عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم «فَأَنْقَذَكُمْ» اللّه «مِنْها»(5/374)
ج 5 ، ص : 375
بسبب إيمانكم به واتباعكم رسوله ، إذ ألف بينكم الإسلام ونجاكم من الوقوع بالكفر «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشافي «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 103» قال مقاتل بن حبان : افتخر ثعلبة بن غنم الأنصاري من الأوس فقال منا خزيمة بن ثابت ذر الشهادتين ، وحنظلة غسيل الملائكة ، وعاصم بن ثابت ابن أفلح حمى الدين (واعلم أن «أفلح» اسم تفضيل من أفلح وهو خاص بمن هو أشرم الشفقة السفلى ، ويقال لأشرم العلياء «أعلم» وللفرجة التي بين الشاربين تحت ضلع الأنف «نثرة» قف على هذا فقل من يعرفه) وسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته ورضي اللّه بحكمه في بني قريظة ، فرد عليه سعد بن زرارة الخزرجي فقال منا ابي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد الذين أحكموا القرآن ، وسعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم (قيل إن سعدا هذا بال في جحر فقتله الجن وقالوا فيه :
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده.
ضربناه بسهم فلم تخطئ فؤاده ولهذا كره الفقهاء البول في الجحر خوفا من حيوان يؤذي أو يؤذى) وتفاخروا فيما بينهما ، وتناشدوا الأشعار ، وقاموا إلى السلاح ، فأتاهم رسول اللّه فأصلح بينهم ، وأنزل اللّه هاتين الآيتين المتقدمتين على هذه الآية ، والأول الذي ذكرناه آنفا في سبب النزول وهو قصد إيقاع الفتنة من اليهود بينهما أولى وأوفق في مناسبة سياق الآية ولفظها ، لأن الحوادث التي ذكرت في تفاخرهم من حكم سعد وموته وشهادة خزيمة وموت حنظلة لم يقع قبل نزول هذه الآيات ولا في زمنها حتى يكون سبب النزول مسوفا إليها ، وعلى القول بأنها متأخرة بالنزول فكذلك لا يستشهد بها على ذلك.
جاء في افراد مسلم من حديث زيد بن أرقم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ألا وإني تارك فيكم ثقلين ، أحدهما كتاب اللّه هو حبل اللّه المتين ، من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة ، الحديث.
وعن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن هذا القرآن هو حبل اللّه المتين ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به.
وروى مسلم حديث ابن أرقم بأطول من ذلك ، وفيه وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي كررها مرتين.(5/375)
ج 5 ، ص : 376
واعلم أن سبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم هو أن سويد بن الصامت الذي كان شريفا في قومه ويسمى بينهم الكامل لجده وحسبه ونسبه ، قدم مكة بعد مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فاجتمع به ودعاه للإسلام فقال له إن معي مجلد لقمان يعني كلمته وسيرته ، فقال له الرسول اتلها علي فتلاها ، فقال هذا حسن ، وما معي أفضل منه ، قرآن أنزله اللّه علي نورا وهدى ، وتلا عليه مما كان قد نزل ، فقال هذا القول حسن وانصرف إلى المدينة ، وقتل يوم بغاث ، فقال قومه قتل وهو مسلم ، ثم قدم أبو الحبس أنس بن رافع وأياس بن معاذ مع فتية من بني عبد الأشهل يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج ، فأتاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقال لهم هل لكم إلى خير مما جئتم به قد بعثني اللّه إلى العباد رسولا أدعوهم بعدم الشرك وأنزل علي الكتاب ، وتلا عليهم منه ، فقال أياس أي قوم واللّه هذا خير ، فضربه أبو الحبس بخفنة من الحصباء وقال ما لهذا جئنا ، وانصرف رسول اللّه ورجعوا إلى المدينة ، وهلك أياس في واقعة فيما بينهم ، ثم خرج الرسول إلى الموسم يدعوا الناس إلى اللّه كعادته لعله يجد من يأخذ عنه دينه فيهتدي به أو يستحسنه فيذكره لغيره كسويد بن الصامت وأياس بن معاذ المذكورين آنفا ، فلقي رهطا من الخزرج أراد اللّه بهم خيرا وهم أسعد بن زرارة ، وعون بن الحارث بن عفراء ، ورافع بن مالك العجلاني ، وقطبة بن عامر بن خريدة ، وعقبة بن عامر بن باني ، وجابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهم ، فجلس إليهم وتلا عليهم قرآنا ودعاهم إلى الإيمان ، فآمنوا ، وكانوا يسمعون من اليهود أن نبيا يخرج آخر الزمان ويقولون إنهم يتبعونه ويقتلونهم معه وقال بعضهم لبعض لنسبقن اليهود عليه ، وقالوا للرسول سندعوا قومنا إلى اتباعك وعسى اللّه أن يجمعهم عليكم فلا يكون أعزّ منك ، ولما دخلوا المدينة ذكروا حضرة الرسول ورغبوا أتباعهم في الإسلام ،
فأسلموا ، وفشا الإسلام بالمدينة لما رأوا من حسن تعاليمه القيمة وعملوا بما بلغهم عنه من المذكورين ، وفي الموسم الآخر قدم من المدينة اثنا عشر رجلا زكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت ، وزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة من الخزرج ، وأبو الهيثم ابن التيهان ، وعويمر بن مساعدة من الأوس ، والستة الأول ، فبايعوا حضرة الرسول(5/376)
ج 5 ، ص : 377
في العقبة الأولى على صيغة وصفة بيعة النساء المبينة في الآية 13 من سورة الممتحنة الآتية ، وقال لهم الرسول إن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة ، وإن ستر عليكم فأمركم إلى اللّه إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم ، وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن أسعد بن زرارة وصاروا يجلسون في حائط بني ظفر ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن صفير انطلق إلى هذين الرجلين - يريد مصعبا وأسعد - فازجرهما لئلا يسفها ضعفائنا ، فلو لا أن أسعد ابن خالتي لكفيتكه ، فأخذ حربته وتوجه نحوهما ، فلما رآه سعد قال لمصعب هذا سيد قومه ، فلما وصلهما قال لهما اعتزلا عنا ، فقال له مصعب أو تجلس فإن رضيت أمرا قبلته ، وإلا كف عنك ما تكره ، قال أنصفت ، فركز حربته فكلمه بما يتعلق بالإسلام من آداب وأخلاق وتوحيد الإله وتفنيد الشرك وقرأ عليه القرآن ، قالا واللّه لقد عرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم ، فقال لهما ما أحسن هذا وكيف الدخول في هذا الدين ؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتصلي ركعتين ، فقال إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد وأخذ حربته وأقبل على نادي سعد ، فقال سعد لمن عنده أحلف لكم إنه جاء بغير الوجه الذي ذهب به فقال يا أسيد ما فعلت ؟ قال ما رأيت بهما بأسا وقالا لا نفعل إلا ما أحببت ، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه تحقيرا لك لأنهم عرفوه
ابن خالتك ، فقام مغضبا وأخذ حربته ، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا أراد ذهابه إليهما ليسمع منهما ، فقال أسعد لمصعب هذا واللّه سيد قومه ، فقال له مصعب أو تقعد فتسمع فإن رغبت قبلت وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره ، قال أنصفت ، فقرأ عليه القرآن وعرض عليه الإسلام ، قالا فعرفنا الإسلام فى وجهه واللّه قبل أن يتكلم ، فقال وكيف الدخول في دينكم ؟ قالا له مثل ما قالا لأسيد وأن مبنى هذا الدين على العفو والسماحة والغيرة والشهامة من كل ما يؤثر في قلب الكريم أمثاله ، فقبل ذلك ، فقام واغتسل وطهر ثيابه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته وذهب ، فلما أقبل على الناس قال أسيد واللّه إنه رجع بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما وقف عليهم قال يا بني(5/377)
ج 5 ، ص : 378
عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ، قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقية ، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا باللّه ورسوله ، فما أمسى في دار بني الأسهل رجل ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة ، وأمر مصعبا بتلقينهم الإسلام وتعاليمه وتحبب إليهم بالطرق التي تمرن عليها رحمه اللّه ورضي عنه وأرضاه ، ثم صار مصعب وأسعد يدعوان الناس إلى الإسلام علنا حتى لم يبق في المدينة بيت من بيوت الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار أمية ابن زيد وخطمة ووائل إذ كان فيهم أبو قيس الأسلت فوقف بهم عن الإسلام وكان شاعرا مشهورا.
واعلم أن كلمة الأنصار لم تعرف قبل هجرة الرسول إلى المدينة وإنما كانوا يسمون بقبائلهم ، وإنما لقّبوا بها لتشرفهم بموالاة حضرة الرسول ونصرتهم له.
هذا ، وفي الموسم الثالث خرج مصعب وأسيد ومعهم سبعون رجلا وامرأتان هما نسيبة بنت كعب وأم عمارة أسماء بنت عمرو أم منيع إلى مكة وأخذوا معهم أبا جابر والتقوا برسول اللّه بالعقبة ، وكان معه العباس ولم يسلم بعد ، فقام خطيبا وقال يا معشر الخزرج (وكانوا يطلقون هذه الكلمة على الأوس والخزرج) إن محمدا منا حيث علمتم وقد منعناه عن قومنا ممن هو على مثل رأينا ، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده ، وأنه قد أبي إلا الانقطاع إليكم والحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم مسلموه وافون إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم به من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة ، فقالوا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول اللّه وخذ لنفسك وربك ما شئت ، فبدأ صلّى اللّه عليه وسلم بتلاوة القرآن ودعا إلى اللّه عز وجل ورغب في الإسلام ، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم ، قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا - أي ظهرنا ويطلق على القوة والضعف فهو من الأضداد - فبايعنا يا رسول اللّه فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناهما كابرا عن كابر ، فاعترض القول والبراء يتكلم أبو الهيثم بن التيهان ، فقال يا رسول اللّه إن بيننا وبين الناس حبالا وعهودا وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه أن ترجع إلى قومك(5/378)
ج 5 ، ص : 379
وتدعنا ؟ فتبسم رسول اللّه ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم ، أنتم مني وأنا منكم ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال صلّى اللّه عليه وسلم أخرجوا لي منكم اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ، قال عاصم بن عمر بن قتادة إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول اللّه قال العباس بن عبادة بن ثعلبة الأنصاري يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتوه فمن الآن فهو واللّه خزي في الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو واللّه خير الدنيا والآخرة ، قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، ثم قالوا فما لنا بذلك يا رسول اللّه إن وفينا ؟ قال الجنة ، قالوا ابسط يدك ، فبسط يده فبايعوه ، وأول من ضرب على يده
البراء بن معرور ، ثم تتابع القوم ، قال فلما بايعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خرج الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمع قط (يا أهل الحباحب ، هل لكم في مذمم والصياة معه قد أجمعوا على حربكم ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم هذا عدو اللّه إبليس هذا أرنب العقبة أي شيطانها ، اسمع عدو اللّه واللّه لأفرغنّ لك) ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم انفضوا ، فقال العباس بن عبادة والذي بعثك بالحق لئن شئت ليملن عليهم أي على أهل منى بأسيافنا ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لم تؤمن ؟ ؟ بذلك (ومن هنا يعلم أن هجرة رسول اللّه لم تكن عن ضعف وخوف كما أشرنا إليه في بحث الهجرة آخر الجزء الثاني لأنها متصورة قبل اجتماع قريش في دار الندوة على الصورة المارة في بحث الهجرة المذكور.
وهذه الحادثة قبلها بسنة وستة أشهر) وما كانت إلا لظهور الإسلام وعلوه وفاقا لما هو عند اللّه أزلا بأن الإسلام يفشو بالمدينة قبل مكة بسنتين ، ومن هنا يظهر قول عيسى عليه السلام (ألحق أقول لكم أن لا يكون نبي في قومه) فرجعنا إلى مضاجعنا وكان وقت السحر من اليوم الثاني من ذي الحجة سنة 52 من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة العظيمة ، فصابحوهم أجلة قريش وقالوا يا معشر الخزرج بلغنا أنكم بايعتم صاحبنا على حربنا ، وإنا واللّه ما حي من العرب أبغض إلينا أن ينشب الحرب بيننا وبينه منكم ، (5/379)
ج 5 ، ص : 380
قال كعب بن مالك فانبعث بعض المشركين من قومنا يحلفون باللّه ما كان شيء من هذا وما علمناه أبدا ، فصدقوا لأنهم لم يعلموا بالمبايعة ، ولو علموا لما اعتذروا لأنهم لا يخافون من قلة عدد أو وهن عدد ، قال وكان بعضنا ينظر إلى بعض ، فقاموا ورجعوا ووقانا اللّه من الكلام ، ولو لا أن سخّر اللّه بعض مشركيهم وحلفوا على نفي ما سمعوا وهم صادقون لصدقوا ما سمعوا به ولوقع ما وقع.
وهذا أول خير رأوه من بيعة حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وأظهروا فيها الإسلام.
وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول اللّه ، فقال لهم حضرة الرسول إن اللّه قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها وأمرهم بالهجرة إلى المدينة ، وأول من هاجر أبو أسامة بن عبد الأسد المخزومي ، ثم عامر ابن ربيعة ، ثم عبد اللّه بن جحش ، ثم تتابعوا حتى هاجر رسول اللّه على الصورة المبينة في الآية 44 من سورة العنكبوت في ج 2 ، ودخل المدينة يوم الاثنين في 12 ربيع الأول سنة 13 من البعثة ، وجمع اللّه شملهم ، وأزال الضغائن من بينهم بسببه صلّى اللّه عليه وسلم وذلك قوله (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) بعد حروب دامت مئة وعشرين سنة بين الأوس والخزرج.
مطلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والاجتماع والفرقة وكون هذه الأمة خير الأهم ومعنى كان والتذكير والتأنيث :
قال تعالى «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ» أيها المؤمنون «أُمَّةٌ» جماعة «يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ» الطائفة التي هذه صفتها «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (104) الفائزون بنعيم الدنيا والآخرة «وَلا تَكُونُوا» أيها المؤمنون «كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا» في أمر دينهم كأهل الكتابين والصابئين «مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» على الوحدة في الدين ولم الشعث والألفة بأن يكونوا يدا واحدة فاختلفوا «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ 105» في الآخرة لا يتصورونه عدا ما ينالهم في الدنيا من الذل والهوان والصغار والعار والخزي والخسار وما يصيبهم من قتل وأسر وسبي وجلاء.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من رأى(5/380)
ج 5 ، ص : 381
منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
لأنه لم يأخذ بالعزيمة ، فعلى الرجل الحازم أن يغير المنكر ما استطاع بيده إذا كان مرتكبه من هو تحت ولايته كابن وزوجته لأنه لا يعذر بإقرارهم عليه لكونه مسؤلا عنهم عند اللّه.
قال صلّى اللّه عليه وسلم.
كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته.
فالرجل راع في أهله ، والزوجة راعية في بيت زوجها ، فإذا قصّرا سئلا ، لأن كلّا منهم قادر على إزالة ما يقع من المنكر ، وإلا فله أن يطلق زوجته ويطرد ابنه إذا لم يمتثل ، فهذا شأن المسلم وطريق جماعة المسلمين.
وأخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
والربقة الحبل الذي فيه العرى وتشد فيها الغنم ، والمراد بها هنا عقد الإسلام وعهده.
وروى البغوي بسنده عن عمر بن الخطاب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من سرّه أن يسكن بحبوحة الجنة أي وسطها - فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ - أي الواحد - .
وأخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن اللّه لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة ، ويد اللّه مع الجماعة ، ومن شذ شذ في النار.
وأخرج عن أنس : مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله.
وأخرج البخاري عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : مثل القائم في حدود اللّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا خرقا في نصيبنا لم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا.
والأمر في هذه الآية للوجوب الكفائي ، أما في قوله تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) الآية 132 من سورة طه في ج 1 فهو للوجوب العيني بدليل قوله تعالى هنا (مِنْكُمْ) أي بعضكم فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين ، وإلا فالكل آثم لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم اللّه بعذابه.
وأخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درّة بنت أبي لهب قالت : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من خير الناس ؟ قال آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم للّه وأوصلهم للرحم.
وروى الحسن(5/381)
ج 5 ، ص : 382
عنه صلّى اللّه عليه وسلم : من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة اللّه ورسوله وخليفة كتابه.
وقد ذكر اللّه تعالى في صدر هذه الآية ما هو الحسن والخير ثم أتبعه بنوعيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة في البيان.
والمعروف كل شيء يعرف بالعقل حسنا ويحسنه الشرع ، والمنكر عكسه أي كل شيء يعرف بالعقل منكرا ويقبحه الشرع.
الحكم الشرعي : يجب وجوبا كفائيا على من آنس في نفسه الكفاية أن يتصدر لأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر على أن يكون رحب الصدر لا تصده كلمةمتكلم ولا يغضبه نهر ناهر ولا يترك من أجل متعند أو متعنت لأن الترك بهذه الأسباب لا تخلصه عند اللّه إذا كان متعينا عليه.
قال الحسن البصري والأكمل أن لا يعيب الناس بعيب هو فيه ، وأن يأمر بإصلاح عيوبهم بعد أن يصلح عيبه ، وإلا فليشتغل بخاصة نفسه ، وعلى الناس أن يأخذوا بقوله ولو لم يقم هو بما يأمر ، ولا حجة لهم عليه بقوله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) الآية الثانية من سورة الصف الآتية لأن المراد منها نهيه عن عدم الفعل لا عن القول ، ولا بقوله تعالى (أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) الآية 44 من سورة البقرة المارة لأن التوبيخ فيها على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر ، ولا يمنعه عدم أخذ الناس فيما يأمرهم وينهاهم ، وإنما عليه القيام بالأمر والنهي فعلوا أم أبوا ليخلص عند اللّه وتكون الحجة عليهم ، وإذا قام بعض الأمة في هذا سقط عن الإثم عن الباقين وآمنوا من الوعد والوعيد الوارد في قوله صلّى اللّه عليه وسلم : لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطنّ اللّه عليكم سلطانا ظالما لا يجلى كريمكم ولا يرحم صغيركم ، ويدعوا خياركم فلا يستجاب لهم ، وتستنصرون فلا تنصرون.
قال تعالى واذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» من المؤمنين يوم القيامة فيسرون ويتباهون على رءوس الأشهاد «وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الكافرين فيه فيتحسرون على ما وقع منهم في الدنيا ويفتضحون في ذلك الموقف العظيم «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» فيقال لهم على ملأ الناس «أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» باللّه يوم أعطيتموه العهد والميثاق في عالم الذر «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» (106) فيه ولنقضكم العهد الذي عاهدتم عليه(5/382)
ج 5 ، ص : 383
ربكم «وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ» بإيفائهم العهد وقيامهم بما أمروا به واجتنابهم لما نهوا عنه «فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (107) لا يتحولون عنها أبدا ، والمراد بالرحمة هنا الجنة «تِلْكَ» حالة الفريقين يوم القيامة هي «آياتُ اللَّهِ» القاضية بذلك «نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» كما أنزلت بالحق لتتلوها على قومك ليأخذوا بها ويحفظوا أنفسهم من عاقبة يوم القيامة فيقوها من الظلم بالدنيا «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» (108) بإركاسهم في النار وإنما هم يسببوه لأنفسهم ويريدون ظلم غيرهم بإعراضهم عن الأخذ بآيات اللّه «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (109) فيقضي بها وحده بالعدل.
واعلم أن اسوداد الوجه يحصل للكافر من شدة ما يلاقي من الهول ، قال الشاعر :
ومن الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا
إلى أن قال :
فرد شعورهن السود بيضا وردّ وجوههن البيض سودا
كما أن ابيضاض وجه المؤمنين يحصل من السرور العظيم الذي يرونه فتبتهج وتنبسط ، وقيل في المعنى :
وتنبسط الوجوه لأمر خير كما تغبر من شر تراه
وقال غيره :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وفي هذا البيت اكتساب المضاف التأنيث من المضاف اليه كما في قوله :
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وقد يكتسب التذكير أيضا كما في قوله :
انارة القلب مكسوف بطوع هوى وقلب عاص الهوى يزداد تنويرا
تحذر هذه الآية الناس عاقبة أمرهم إذا هم لم يقوموا بأوامر اللّه تعالى بما ذكر ألا فليقلع الناس عما هم عليه قبل حلول الأجل وليزداد الطائعون طاعة لينالوا ما وعدهم اللّه به من الخير.
هذا ولما قال مالك بن الصيفي ووهب بن يهوذا اليهوديان(5/383)
ج 5 ، ص : 384
لعبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة نحن أفضل منكم ، أنزل اللّه تعالى على رسوله خطابا له ولأمته قوله جل قوله :
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» ولهذا وصفتم بالأخيرية على غيركم من الأمم «وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ» كإيمانكم بمحمد وكتابه «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» من الإصرار على ما هم عليه الذي يؤدي بهم إلى شر العاقبة وليس كل أهل الكتاب على ضلال «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ» كالنجاشي وأصحابه من النصارى الذين آمنوا قبلا وعبد اللّه بن سلام وأصحابه من اليهود المتوقع إيمانهم ، لأنهم يصدقون الرسول ويؤمنون بكتابه ويميلون للإسلام ، وهؤلاء آمنوا بعد نزول هذه الآيات كما سيأتي في الآية 17 من سورة النساء «وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110) ويدخل في هذا الخطاب جميع الأمة المحمدية أولها وآخرها إلى قيام الساعة بحسب معناها على أنه إذا كان المخاطب به محمد صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه فهو على حد قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الآية 14 من البقرة ونحوه فإنه خطاب عام يشمل الكل وإن كان بحسب اللفظ للحاضرين فقط ، روى نهر بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول في قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) إلخ قال أنتم تتممون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللّه - أخرجه الترمذي - وفي حديث آخر افترقت الأمم إلى اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي وهنا سبعون باعتبار بعض الأمم تضم فرقا أخرى ، وكان هنا ناقصة تدل على تحقيق الشيء بصفته في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لا حق ، وتحمل تارة على الانقطاع كما في قولك كان التمر موجودا ، والرجل قائما ، وطورا على الدوام كقولك كان البر محمودا ، وكان ربك رحيما ، ومنه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) الآية ، ولها ارتباط بالآيات قبلها ، وقد سبق بيان المعروف الذي تتسابق إليه النفوس الطيبة وتتسارع له ذوو المروءات والشهامة ، وملاك الأمر فيه محصور في قوله صلّى اللّه عليه وسلم : (التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه) لأنه إما أن يكون لواجب الوجود لذاته وهو اللّه جل شأنه ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته والخضوع لأمره(5/384)
ج 5 ، ص : 385
والخشوع لجنابه والاقنات لباب عزته والاعتراف بكونه موصوفا بصفات الكمال مبرأ عن النقائص أو للمكنى بذاته ، وهو إما أن يكون حيوانا فيجب إظهار الشفقة عليه بغاية ما يقدر عليه إنسانا كان أو غيره ، وإذا كان جمادا فعلى العاقل أيضا أن ينظر إليه بعين التعظيم من حيث أنه مخلوق للّه ، لأن كل ذرة من ذرات الوجود فيها سرّ وحكمة للّه تعالى ودليل على وجوده وبرهان على توحيده ، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 45 من الإسراء في ج 1 وقال أمية بن الصلت :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ففعل المعروف لكل بما يناسبه معروف عند اللّه وتسر النفس بفعله إذا كانت طيبة طاهرة ، وللّه در القائل :
ويهتزّ للمعروف في طلب العلا لتذكر يوما عند سلمى شمائله
هذا إذا فعله لسلمى ، فكيف إذا فعله لربها ، فإنه يذكره في ملئه الأعلى ، وشتان بين هذا وذاك ، فالسعيد من يصرف عمله وماله وجاهه في مرضاة اللّه ، والشقي من يعكس ، وكل ميسر لما خلق له ، قال :
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
هذا إذا رافقته عناية اللّه ، وإلا فكما قال :
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيّرت ظنون مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباء فرعون مرسل
روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : خير الناس قرني (أي الزمن الذي هو فيه وهو ما بين الثلاثة والثلاثين سنة والمائة) ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم.
قال عمران لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم ان بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن.
زاد في رواية : ويحلفون ولا يستحلفون.
ورويا عن ابن مسعود خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، ثم تجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته وذلك لقلة يقينهم(5/385)
ج 5 ، ص : 386
وضعف دينهم وعدم مبالاتهم في الزور والعياذ باللّه ، ولذلك قال الفقهاء : من شهد قبل أن يستشهد لا تقبل شهادته ، أي لما فيها من التهمة بسبب تسابقه عليها ، أما إذا كان لديه شهادة لصاحب حق لا يعرفه كقاصر أو غائب فعليه أن يخبر صاحب الحق بذلك ليشهد له عند الاقتضاء ، وهذا لا يدخل في الحديثين المارين ، بل هو مأجور لما فيه من إظهار الحق ، راجع الآية 282 من سورة البقرة المارة.
ورويا عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
هذا ولما عمد اليهود إلى ضر المؤمنين وصاروا يتداولون في إساءتهم ووقع في قلوب المؤمنين شيء من الرهب لما يعلمون من كيدهم ومكرهم أنزل اللّه تطمينا لهم قوله جل وعلا «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً» هو ما يقع من بذاءة لسانهم من الشتم والتهديد والطعن في الدين «وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ» لا يقدرون عليكم ، لأن اللّه ألقى الرعب في قلوبهم منكم ، ولذلك فإنهم إذا أقدموا على قتالكم «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ» يهربون أمامكم خوفا منكم ويخذلون بنصرة اللّه لكم «ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» (111) عليكم أبدا ، وذلك لأنهم «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ» من اللّه فصاروا يتوقعون القتل والسبي والجلاء ، ووقع عليهم الصغار والهوان بضرب الجزية عليهم «أَيْنَما ثُقِفُوا» وجدوا وقبضوا ولم يأمنوا منكم «إِلَّا بِحَبْلٍ» عهد وذمة وأمان «مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ» أمان وذمة «مِنَ النَّاسِ» أي المؤمنين «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» استوجبوه بسوء فعلهم ورجعوا به وأملوا أنفسهم فيه «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ» خوف الفقر مع اليسار وخوف الفزع مع الأمن «ذلِكَ» الغضب والذلة والمسكنة «بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ» الكفر والقتل «بِما عَصَوْا» اللّه وخالفوا أمره وتعاليم رسله وجحدوا كتابه «وَكانُوا يَعْتَدُونَ» (112) على أنفسهم وعلى غيرهم ويتجاوزون حدود ربهم.
واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ست آيات مبدوءة بحرف الضاد هذه والآية 10 من سورة التحريم الآتية والآية 75 من سورة النحل و27 من سورة الروم و29 من سورة الزمر و27 من سورة النازعات(5/386)
ج 5 ، ص : 387
المارات في ج 2.
أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني بسند حسن واللفظ للأخيرين عن ابن مسعود قال : أخر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب فأنزل اللّه «لَيْسُوا سَواءً» أي ليس المؤمنون الذين يصلونها مثل غيرهم ممن لم يصلها ثم ذكر ما يزيل إيهام تساويهم بقوله «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ» على طاعة اللّه «يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ» (113) لهيبة اللّه ويقرءون في صلاتهم وهم قيام خاشعين لربهم ، وهذا لأن التلاوة لا تكون عادة في السجود بل في الصلاة حالة القيام ، لأن الركوع والسجود فيهما التسبيح فقط ، وإنما أطلق السجود على الصلاة كما ذكرنا في تأويل الآية لأنه أقرب حالات المصلي إلى ربه ، فيكون من هذه الجهة معظم الصلاة مكنى به عنها ، وهذه الطائفة «يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «مِنَ الصَّالِحِينَ» (114) لقرب اللّه وجنته ، فلا يتساوون مع أمة مذمومة عاصية لربها لا تؤمن ولا تسارع للخير بل بقيت على ضلالها راجع الآية 156 من سورة الأعراف ج 1 والآية 111 من البقرة المارة وما ترشدك إليه من الآيات ، وهؤلاء هم الذين سبق ذكرهم بالآية الأولى ولم يذكرها اللّه ثانيا اكتفاء بذكرها أولا ، وهذا مما هو جار على عادة العرب فانهم يستغنون بذكر أحد الضدين عن الآخر قال أبو ذؤيب :
دعاني إليها القلب إني امرؤ لها مطيع فلا أدري أرشد طلابها
أي أو ضلال اكتفاء بذكر الضد أولا ، ومثله في القرآن كثير ، راجع الآية 81 من سورة النحل في ج 2.
ومما يدل على أن سبب نزول هذه الآية ما ذكر في الحديث وإن المعنى لا يستوي اليهود المذكورون بالآية التي قبلها وأمة محمد المقصودون في هذه الآية ، مارواه الطبري بسند صحيح عن المنكدر أنه قال :
خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذات ليلة وأنه أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد ، فقال : أما انكم لن تزالوا في صلاة(5/387)
ج 5 ، ص : 388
ما انتظرتموها ، ثم قال أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم.
وما نقل عن ابن عباس أنها نزلت حينما أسلم عبد اللّه بن سلام وثعلبة وأمية بن شعبة وأسيد بن عبد وغيرهم ، وإن اليهود قالوا لو لم يكونوا أشرارنا لما تركوا دينهم لا يصح لأن عبد اللّه بن سلام لم يسلم بعد كما أشرنا إلى ذلك آنفا في الآية 110 وفي الآية 20 من سورة الأحقاف ج 2.
قال ابن عباس ولما قال اليهود إن الذين أسلموا خسروا أعمالهم الصالحة وأموالهم لا لتجائهم إلى المؤمنين الفقراء ، ردّ اللّه عليهم بقوله «وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ» ولم يحرموا ثوابه البتة بل يحفظ لهم تقواهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» (115) قبل إيمانهم وبعده.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (116) أبدا.
هذه الآية عامة في جميع أنواع الكافرين ، وما قيل إنها خاصة باليهود قيل لا يلتفت إليه ، ونظيرها الآية 10 المارة إلا أن خاتمتها تختلف عن هذه ، ثم أنزل اللّه في بيان صدقات الكفار على الإطلاق أيضا في قوله عن قولهَ ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا»
من جميع أصناف النفقات معدوم من الثواب عند اللّه لأنه للرياء والسمعة والتفاخر ، ولهذا جعل اللّه مثلهَ مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ»
برد شديد أو حر مزيدَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»
بمعاصي اللّه وتجاوز حدودهَ أَهْلَكَتْهُ»
جزاء ظلمهمَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ»
بمحق ثوابهم منهاَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
(117) لأنهم لم يبتغوا بها وجه اللّه في الدنيا فلم ينتفعوا بها في الآخرة ، وهكذا كل نفقة ينفقها الرجل مؤمنا كان أو كافرا إذا لم يطلب بها مرضاة اللّه تكون عاقبتها الحرمان ، بل قد يعذب من أجلها إذا كان في معصية أو لمعصية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً» أخصاء وأصفياء ولجاء «مِنْ دُونِكُمْ» من غير ملتكم وممن لا تعتمدون عليهم منكم أيضا ، لأنهم ليسوا منكم إذا لم يكونوا مثلكم لأنهم «لا يَأْلُونَكُمْ» لا يقصرون فيما يعود عليكم بالشرّ والخذلان «خَبالًا» خسارا بنقص عقولكم «وَدُّوا» تمنوا ورجوا «ما عَنِتُّمْ» ما يوقعكم بالإثم والمشقة ، أما ترونهم أيها(5/388)
ج 5 ، ص : 389
المؤمنون «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» بشتمكم والطعن في دينكم «وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» بغضا لكم مما يظهرونه لكم «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ» الدالة على صنعكم من موالاتهم والأضرار المرتبة عليها ، فاحذروا موالاتهم «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» (118) مغزى هذا النهي ، راجع الآية 48 المارة ويتأكد هذا النهي في الحروب ، لأن المؤمنين إذا اتخذوا فيها عمداء من غيرهم لا بدّ وان يعود عليهم اتخاذهم بالشر ، لأن قضايا الحرب هامة جدا فلا يسوغ الاعتماد بها إلا على خلصاء الأمة ، ولا يجوز الإدلاء بشيء مما يتعلق به إلا لمن يعتمد عليه منهم أنفسهم ، وما تقوضت حكومة العباسيين ومن بعدهم إلا لهذا السبب ، وخاصة الأندلس والأتراك أيضا.
مطلب حقد اليهود والمنافقين ورؤية حضرة الرسول وقصة أحد وما وقع فيها :
لهذا فإن هتلر زعيم الريح أخرج اليهود كافة من بلاده لما تحقق لديه أنهم هم السبب في انكسار الألمان في الحرب الواقعة سنة 914 م وقد يوجد منهم الآن وزراء في حكومتي انكلترا وأميركا ولا بد أن ينالهما الضرر منهم فيسببون تبديد ممالكهم إذا هم لم يوافقوهم على آرائهم من إنشاء دولة لهم حسبما وعدهم بلفور الظالم الغاشم لأن مقتضى دينهم المتمسكين به عدم النصح لعير اليهود واستحلال دم ومال غيرهم وتحريم النفع لغيرهم وهم أكبر عدو للنصارى عامة وللمؤمنين خاصة فإذا لم تنتبه هاتان الحكومتان إلى مكايدهم ودسائسهم فسوف يندمون ولات حين مندم هذا وتشير هذه الآية إلى رجوع عبد اللّه بن أبي بن سلول بجماعته وانخذالهم عن جماعة المسلمين في غزوة أحد الآتي بيانها ، قال تعالى «ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ» وتفشون إليهم أسراركم وتتخذونهم أولياء وهم لا يخلصون إليكم «وَلا يُحِبُّونَكُمْ» ولا يقابلونكم بمثل ما تقابلونهم بل يتربصون بكم الدوائر ويظهرون لكم المحبة مداهنة لتطلعوهم على خفايا أموركم «وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ» بجميع ما أنزل اللّه من الكتب لأن أل فيه للجنس فيدخل فيه عامة الكتب والصحف السماوية وهم لا يؤمنون إلا بقسم من التوراة «وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا» نفاقا منهم إذ(5/389)
ج 5 ، ص : 390
يبطنون الكفر بدينكم «وَإِذا خَلَوْا» مع قومهم «عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» الكامن في قلوبهم يود أحدهم أن يقطعه إربا إربا وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز عن الانتقام أو تضييع وقته «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (119) ومخبر نبيه بأحوالكم كلها واعلموا أيها المؤمنون «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ» من خير ونصر وغيرهما «تَسُؤْهُمْ» حسدا وعدوانا «وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ» من شر وخذلان وشبههما «يَفْرَحُوا بِها» تشفيا فيكم «وَإِنْ تَصْبِرُوا» على أذاهم وتجثنبوا موالاتهم «وَتَتَّقُوا» اللّه ربكم وتعتصموا به وتتوكلوا عليه فهو خير لكم و«لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» لأن اللّه يحفظكم منهم «إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (120) وإنه يخبركم به لتتقوه فلا يضركم كيدهم ، نزلت هذه الآيات في رجال من المسلمين كانوا يواصلون اليهود لما بينهم من قرابة ورضاع وصداقة وخلطة في الأموال والسكن قبل الإسلام
ولما أخبرهم حضرة الرسول ارتدعوا وجانبوهم ، قال تعالى «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ» أي خرجت غدوة من بيت زوجتك عائشة لتوطن وتهيء وتمهد و«تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ» مجالس ومواضع «لِلْقِتالِ» للمقاتلين من قومك «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما تقوله لهم «عَلِيمٌ» (121) بما يقع لك ولأمتك واذكر لهم «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» تجنبا عن القتال وتضعفا عن اللقاء وهذا الهمّ من قبيل جيشان النفس لا العزم والتصميم لأنه بمعناه الأخير بعيد عنهم وهم أصحاب محمد وهو معهم وإنما هو على حد قول القائل :
أقول لها إذا جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
أي حدثت نفسها بذلك ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» ومن كان اللّه وليه لا يجبن ولا يضعف كيف وهو ناصرهما وعاصمهما «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (122) ومن يتوكل على اللّه يكفه ويجعل له من ضيقه مخرجا ويهيء له ما يرومه من حيث لا يحتسب ، روى البخاري ومسلم عن جابر قال :
نزلت فينا هذه الآية وقال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة ، وما يسرني(5/390)
ج 5 ، ص : 391
أنها لم تنزل لقول اللّه (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) لما فيها من الشرف لهم بولاية اللّه.
لما انكسرت قريش في وقعة بدر المار ذكرها في الآية 8 من سورة الأنفال ورجعوا خائبين قال بعضهم لبعض إن محمدا وتركم وقتل خياركم ، وحث بعضهم بعضا على جمع المال واستعدوا للقتال وخرجوا قاصدين المدينة بقيادة أبي سفيان ومعه زوجته هند بنت عتبة حتى نزلوا على شفير الوادي بمقابل المدينة ، فاستشار الرسول أصحابه فأشار عليه بعضهم بأن لا يخرجوا إليهم فإذا دخلوا المدينة قتلوهم فيها وأشار الآخرون بالخروج ، وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلم أعجبه الرأي الأول لرؤيا رآها وهي أنه رأى في ذباب سيفه ثلما فأوولها هزيمة ، ورأى أنه أدخل يده في درع منيعة فأوولها المدينة ، إلا أن الآخرين كرروا عليه الخروج ، فلبس لامته واستعد ، فندم الذين أشاروا عليه وقالوا كيف نشير على نبي يأتيه الوحي واعتذروا وطلبوا إليه العدول عن رأيهم ، فقال لا ينبغي لنبي يلبس لا مته فيضعها حتى يقاتل ، فخرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى وصل الشوط قريبا من أحد ، والشوط حائد عند جبل أحد ، انعزل عبد اللّه بن أبي بن سلول بأصحابه وانخذل راجعا مع المنافقين بحجة أن ليس هناك قتال ، ومضى الرسول وأصحابه حتى نزلوا الشعب من أحد ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وتهيأ صلّى اللّه عليه وسلم للقتال ، وصف أصحابه كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا أخره ، أو داخلا قدمه ، وأمرّ على الرماة عبد اللّه بن جبير وقال له انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتوننا من خلفنا إن كان علينا أو لنا ، فاثبت مكانك لا يؤتين من قبلك ، وعبأ الآخرين وقال لا تقاتلوا حتى نأمركم ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، وظاهر صلّى اللّه عليه وسلم بين درعين ، وأكد على عبد اللّه وأصحابه أن لا يبرحوا مكانهم ولا يتبعوا المدبرين ، وقال لن نزال غالبين ما لبثتم في مكانكم ، وتعبأت قريش وعلى ميمنتها خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة ابن أبي جهل ، وصار النساء
يضربن بالدفوف وينشدن الأشعار ، فقاتلوا حتى حميت الحرب.
وروى البخاري عن البراء بن عازب قال : جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا وهم الرماة عبد اللّه بن جبير ، فقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا ، حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا(5/391)
ج 5 ، ص : 392
هربنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، فهزمهم اللّه ، قال فأنا واللّه رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسواقهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد اللّه بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ فقال عبد اللّه ابن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول اللّه ؟ فقالوا واللّه لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين ، فذلك قوله تعالى (والرسول يدعوكم في أخراكم فلم يبق مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم غير اثني عشر رجلا ، فأصابوا منا سبعين رجلا ، وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلم أصاب من المشركين يوم بدر مئه وأربعين ، سبعين أسيرا ، وسبعين قتيلا ، فقال أبو سفيان أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات ، فنهاهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاث مرات ، ثم قال أفي القوم عمر ؟ ثلاث مرات ، ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا ، فما ملك عمر نفسه فقال كذبت يا عدوّ اللّه إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك ما يسوءك ، ولا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، قال يوم بيوم بدر والحرب سجال ، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم أر ما يسوءني.
ثم أخذ يرتجز ويقول أعلى هبل أعلى هبل ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ فقالوا يا رسول اللّه ما نقول ؟ قال قولوا اللّه أعلى وأجل.
قال أبو سفيان إن لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا يا رسول اللّه ما نقول ؟ قال قولوا اللّه مولانا ولا مولى لكم.
وكان النبي أثناء الحرب أخذ سيفا وقال من يأخذ هذا بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن ؟ فأخذه أبو دجانه سماك بن حرشه الأنصاري فاعتم بعمامة حمراء وصار يتبختر في مشيته ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إنها لمشية يبغضها اللّه ورسوله إلا في هذا الموقع.
قال فلما نظرت الرماة المشركين وقد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب ، فقال بعضهم لبعض لا تجاوزوا أمر الرسول ، فلم يصغوا ، وثبت عبد اللّه بن جبير ونفر دون العشرة ، فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في قلبه ، أي في الذين هم أمامه من قومه ليتبعوه ، وحمل على اصحاب رسول اللّه فهزموهم ، وحملوا على الرماة فقتلوهم ، وأقبلوا على المسلمين ، وتحولت(5/392)
ج 5 ، ص : 393
الريح دبورا بعد ما كانت صبا ، وانقطعت صفوف المسلمين ، واختلطوا فطفقوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا من الدهش ، ورمى عبد اللّه بن قمئة حضرة الرسول بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله ، وتفرق عنه أصحابه ، ونهض إلى صخرة ليعلوها ، فلم يستطع وكان قد ظاهر بين درعين ، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى على الصخرة ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أوجب طلحة وكان حوله أبو بكر وعمر والعباس والزبير وعبد الرحمن بن سعد وتكاثر عليه المشركون وهو وأصحابه يذبونهم بأيديهم وثيابهم ، ووقفت هند والنسوة يمثلن بالقتلى حتى جعلن من الآذان والأنوف قلائد وأعطينها وحشيا ، وبقرت كبد حمزة رضي اللّه عنه فأخذت قطعة منه فلاكتها فلم تسغها فلفظتها ، وأقبل عبد اللّه بن قمئة يريد قتل الرسول فذب عنه مصعب بن عمير رضي اللّه عنه وهو صاحب رايته صلّى اللّه عليه وسلم فقتله وهو يظن أنه قتل حضرة الرسول ، فرجع وقال قتلت محمدا ، وصاح صارخ إبليس عليه اللعنة ألا إن محمدا قتل ، فانكفأ الناس ، قالوا ولما فشا في الناس خبر قتل رسول اللّه ، قال بعض المسلمين ليت لنا رسولا إلى عبد اللّه بن أبي سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، وقال المنافقون نلحق بديننا الأول ، وقال أنس بن النضر إن كان محمد قتل فلم يقتل ربه ، وما تصنعون بالحياة بعده ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك من هؤلاء المسلمين ، وأبو إليك مما جاء به المشركون ، ثم شد سيفه فقاتل حتى قتل رحمه اللّه رحمة واسعة.
ثم جعل رسول اللّه يقول إليّ عباد اللّه ، فاجتمع إليه نحو ثلاثين وكشفوا المشركين عنه ، ثم رأى رسول اللّه رجلا في صورة مصعب حامل لواءه ، فقال تقدم يا مصعب فقال لست ، بمصعب فعرف أنه ملك ، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه - السّية بالتخفيف ما يظهر من طرفي القوس - ونقل له رسول اللّه كنانته ، وقال إرم فداك أبي وأمي ، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر قوسين أو ثلاثة يومئذ ، وكان الرجل يمر ومعه جعبة النبل فيقول انثرها لأبي طلحة وأصيبت يد طلحة بن عبيد اللّه إذ كان يقي بها الرسول حتى يبست ، وأصببت عين قتادة بن النعمان حتى(5/393)
ج 5 ، ص : 394
وقعت على وجهه فردها الرسول لمكانها فصارت أحسن ما كانت عليه ، ثم انصرف الرسول من مكانه فأدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول لا نجوت إن نجوت ، فتناول رسول اللّه الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه في عنقه ، فسقط وخار خوار الثور يقول قتلني محمد ، فقال له أصحابه لا بأس ، فقال لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم ومات بعد يوم.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم اشتد غضب اللّه على من قتله نبي في سبيل اللّه.
اشتد غضب اللّه على قوم أدموا وجه نبي اللّه.
ولما صار الرسول يدعو الناس من على الصخرة عرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول
اللّه ، فأشار إليه أن اسكت ، فانحدرت إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم على الفرار ، فقالوا فديناك يا رسول اللّه بآبائنا وأمهاتنا ، قالوا قد قتلت فولينا مدبرين من الرعب ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها والآيات 48/ 49/ 50 من سورة القلم في ج 1 كما أشرنا إليها فيها.
مطلب من أمي قديم ، إلى حزن حادث وفي الربا ومفاسده.
ووجود الجنة والنار والأوراق النقدية :
وفي هذه الساعة من يوم الثلاثاء 14 صفر سنة 1358 جاء إليّ قائد الدرك السيد محمد أمين العاشق الحديدي من أهالي دير الزور نعى إلي بمزيد الأسف وفاة ملك العراق المحبوب الشريف غازي الأول بسبب اصطدام سيارته بعامود الكهرباء في بغداد ، تغمده اللّه برحمته وأسكنه فسيح جنته وجبر مصاب أهل البيت والمسلمين أجمع بفقده ، وعوضهم خيرا منه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وإنا للّه وإنا إليه راجعون ، فتركت القلم إلى العزاء بهذا المصاب الأليم وبصفتي وكيلا للقائمقام بقضاء القنيطرة علاوة على وظيفة القضاء أمرت بتنكيس الأعلام الرسمية وقعدت لأتقبل التعزية ، وهكذا لمدة ثلاثة أيام ، ثم عدت بعد انتهاء العزاء إلى ما أنا فيه جعلها اللّه خاتمة المصائب إلى إكمال هذا الحزن الذي فيه من أسى ما وقع لجده في حادثة أحد التي تكبد فيها حضرة الرسول ما تكبد من مشاق بسبب مخالفة أصحابه أوامره ، ولكن ما قدره اللّه أزلا فهو كائن لا محالة.(5/394)
ج 5 ، ص : 395
قال تعالى «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» لقلة عددكم وعددكم «فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (123) نعمه ، فإن التقوى هي الأساس الأقوى لنيل كل خير ودفع كل ضر ، ولم تكرر لفظة بدر بالقرآن.
واذكر يا محمد لقومك «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ» يوم بدر وعليه اكثر المفسرين وقيل يوم أحد ولكل وجهة في تأويل القلة بالنسبة ليوم أحد ، والكثرة بالنسبة ليوم بدر ، وهو أحوج لأنه أول بادرة وقعت من المسلمين تقوية لقلوبهم وخذلانا لأعدائهم ، ومقول القول «أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» (124) من قبل اللّه منزلين الخوف بقلوب أعدائكم «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ» من ساعتهم مأخوذ من فارت القدر إذا غلت واستعير إلى السرعة الشديدة التي لا ريث فيها ، ولذلك وصف الفور «هذا» لتأكيد السرعة فكأن المؤمنين لما رأوا كثرة المشركين وبلغهم أنه سيأتيهم مدد ، حصل لبعضهم خوف بسبب قلتهم ، فقال لهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ما ذكره اللّه في صدر الآية وأكد لهم قربه لنصرتهم بقوله هذا ، كأنه ينظر إلى نزول الملائكة من السماء ويشير إليهم قائلا هذا «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (125) معلمين بعلامات يعرفها الفارس يوم اللقاء ، قال عنترة :
فتعرفوني أنني أنا ذلكم شاركي السلاح في الحوادث معلم
قال تعالى «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ» إمداد الملائكة «إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» بالنصر والمعونة «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» فتقوى ولا يتخللها الجزع من كثرة عدوها «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ» الذي لا غالب له النادر الوجود «الْحَكِيمِ» (126) بإعطائه النصر والظفر لمن يريد لا لمن نريد نحن حسبما هو كائن في علمه لأن كل ما يكون في الكون عبارة عن إظهار ما هو مدون أزلا عنده ، لا من الملائكة ولا هو منكم ، وقد فعل اللّه ذلك «لِيَقْطَعَ طَرَفاً» يهلك طائفة «مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ» يوهنهم ويصرعهم على وجوههم «فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» (127) من الظفر الذي أملوه في غزوتهم هذه.
تشير هذه(5/395)
ج 5 ، ص : 396
الآية إلى أن القصد من إنزال الملائكة في حادثة أحد هو هذا لا غير ، ولهذا ذكرهم بنصرهم بواسطة الملائكة في حادثة بدر مع قلتهم لأخذهم بتعاليم الرسول ، وكان مددهم بألف من الملائكة لأن عدوهم كان ألفا ، قال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ) الآية 10 من سورة الأنفال المارة فكان النصر لكم وفي واقعة أحد هذه قد أغاثكم أولا بثلاثة آلاف لتكثير سوادكم بأعين عدوكم ، وإلا فملك واحد يكفي لإبادتهم ، ألم تر كيف أدخل السيد جبريل جناحه تحت قرى قوم لوط الأربع ورفعها إلى العلو ثم قلبها كما مرت الإشارة إليه في الآية 82 من سورة هود ج 2 ، وان عدد الخمسة آلاف مشروط (1) بالصبر (2) والتقوى (3) ومجيء الكفار مددا ، وبما أن مدد الكفار لم يأت لسماعهم بخذلان قومهم فالآية لا تشير إلى حضورهم إلا بتلك الشروط الثلاثة ، وكان الوعد بإنزال الخمسة آلاف ليناسب عدد الكفار فيها كما كان الألف مناسبا لحادثة بدر بالنسبة لعددهم واللّه أعلم.
قالوا إن الملائكة في حادثة أحد لم تقاتل إلا عند الدفاع عن الرسول.
روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : رأيت عن يمين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد.
وقال عمير بن إسحاق لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فنى النبل أتاه فنثره وقال إرم أبا إسحاق ، إرم أبا إسحاق ، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف ذلك الرجل.
ولهذا قال ابن عباس إن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر ، وفي بقية الحوادث تنزل تكثيرا لسواد المسلمين ، وحمل ما جاء في هذا الحديث وهذا الخبر على أنهما كانا جبريل وميكائيل ، ومعنى يقاتلان أي يذبان ويدافعان عنه ويردان ضربات المشركين عنه بعد ما أصابه ما أصابه ، ولم يغلب المؤمنون إلا بسبب مخالفتهم تعاليم حضرة الرسول كما مرّ.
قال تعالى «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» (128) روى مسلم عن مالك بن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كسرت رباعيته وشجّ في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو(5/396)
ج 5 ، ص : 397
يدعوهم إلى اللّه ؟ فأنزل اللّه هذه الآية وذلك لما رأى رسول اللّه تمثيلهم بحمزة وتجاسرهم عليه أراد أن يدعو عليهم.
وقيل إنه أقسم ليمثلنّ في سبعين من خيارهم فرد اللّه عليه لعلمه بإسلام بعضهم وأنه قد يولد منهم من يوحد اللّه تعالى ، ولهذا خاطبه بأن أمر إهلاكهم ليس لك بل هو لي وحدي إن شئت عذبتهم بظلمهم وإن شئت عفوت عنهم ووفقتهم للإيمان ، وهنا نزلت الآيات من آخر سورة النحل كما ألمعنا إليها في محلها ج 2.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في حادثة بئر معونه ينافيه سياق التنزيل وسياقه ومؤخره.
قال تعالى «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء فينصر من يشاء ويخذل من يشاء و«يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (129) بعباده لا يعجل عقوبتهم لسابق علمه بما يئول أمرهم إليه ، فقد أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوم أحد اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت الآية ، ثم يتوب عليهم كلهم كما سيأتي بعد هذا ، وكان قدوم قريش إلى أحد يوم الأربعاء في 12 شوال سنة 3 من الهجرة وخروج الرسول وأصحابه بعدم.
ومن هنا يعلم أن الآيات من 90 إلى إلى 127 نزلت متأخرة عما بعدها كما هو معلوم من سياق القصص تأمل ، وكان التقاء الجمعين يوم السبت الخامس عشر منه ، وسبب الانكسار ما ذكره اللّه من المخالفة لأمر الرسول لأنه حذرهم من مبارحة أمكنتهم وأكد عليهم ملازمتها سواء غلبوا أم غلبوا كما مر آنفا في الآية 122 ، وقد أراد اللّه بذلك أن يمنعهم عن العود إلى مثلها فيتباعدوا عن مخالفته ولا يتجاسروا على معارضته ولا يميلوا إلى غير رأيه ، وأن لا يدخل في قلب أحد منهم ريب بأن ما يريده هو الصواب وليعلموا أن ظفرهم يوم بدر كان ببركة نبيهم وطاعته ولطف اللّه ومعونته لا بقوتهم.
وسيأتي لهذه الحادثة زيادة تفصيل بعد هذه الآيات الواردة كالمعترضة بين آيات القصة وهي قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ» بالابتعاد عن تعاطي جميع أنواع الربا «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (130)(5/397)
ج 5 ، ص : 398
في الآخرة فتفوزوا بالسعادة وزيادة الثواب المتوقفين على التقوى في المحرمات كافة ومن تعاطي الربا في الدنيا لأنه من الكبائر
بدليل قوله تعالى «وَاتَّقُوا النَّارَ» بانكفافكم عنه لأنه يؤدي إليها ، ويوجب الوقوع فيها وذوق عذابها المؤلم وهي «الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» (131) وهيئت لهم لاستحلالهم ما حرم اللّه وتحريمهم ما أحل.
وأنتم أيها المؤمنون إذا لم تنتهوا عن الربا يكون مصيركم مصيرهم.
تشير هذه الآية بهذا التهديد والوعيد لهذا الصنف من الناس وهي أخوف آية في القرآن إذ أوعد اللّه المؤمنين بما أعده للكافرين إن لم يجتنبوا محارمه ، وهذه الآية والآية 44 من سورة البقرة المارة تؤيد أن النار مخلوقة ومهيأة للكفار ، كما أن الجنة معدة ومهيأة للمؤمنين ، وهما كافيتان المراد على قول القائلين بعدم وجود الجنة والنار وأن اللّه سيخلقهما بعد ، فضلا عن الآيات الأخر المثبتة وجودهما والأحاديث المخبرة عن ذلك ، وخاصة حديث المعراج المصرح فيه اطلاع حضرة الرسول عليهما ليلة أسري به ، راجع أول سورة الإسراء ج 1 ، فلم يبق من قيمة لما يتقولونه بعدم خلقهما بعد هذا تدبر «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (132) فتخلصون من النار وتدخلون الجنة برحمته.
هذا ، وقد ذكرنا في الآية 39 من سورة الروم في ج 2 ما يتعلق بربا البيوع كالعينة وشبهها وفي الآية 275 فما بعدها من البقرة المارة ما يتعلق بربا النسيئة وهذه الآية الثانية النازلة في الربا المبينة ربا الفضل وهو نوع آخر من أنواع الربا الثلاثة وهو أعظمها إثما عند اللّه تعالى ، راجع الآية 175 من البقرة ، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا استحق الدين الذي أصله ربا أو غيره على المدين ولم يقدر على إيفائه يقول له الدائن زدني في المال لأزيدك في الأجل ، فيفعل مضطرا لعدم القدرة على أدائه ولربما استحق ثانيا وثالثا فيزيده في المال ويزيده في الأجل حتى يكون الفضل أكثر من الأصل ، ولذلك شدد اللّه تعالى فيه ونهى عن أكله ، وقد حرم اللّه الربا بأنواعه الثلاثة في هذه الآيات الثلاث وبالأحاديث التي ذكرناها قبل وفي سورة البقرة وحديث أحمد الذي لفظه : درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية في الإسلام.
وحديث ابن جرير وأبي الدنيا : الربا اثنان(5/398)
ج 5 ، ص : 399
وستون بابا أدناها الذي يقع على أمه.
وحديث النسائي قال ابن مسعود إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ، إذا علموا ذلك يلعنون على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلم يوم القيامة.
وهذه الآيات الثلاث كلها محكمة ، لأن كلا منها في نوع مخصوص كما بيناه في محله ، وما قاله بعضهم من أن هذه الآية ناسخة للآية والآيات من سورتي الروم والبقرة لا مستند له ولا حجة ولا دليل ، بل جاءت تبين أن عذاب هذا الصنف كعذاب الكفرة ، لأن التضعيف في الربا دلالة على الاستحلال والعياذ باللّه.
هذا وما قاله بعضهم من أن آية البقرة مطلقة وآية آل عمران مقيدة لها فلا يكون الربا محرما إلا بالأضعاف المضاعفة لا وجه له ولا حجة ولا عبرة به ، لأن قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) في البقرة نص على العام ، وأل فيه إما أن تكون للجنس فيكون مطلقا في سياق النهي فيعم ضرورة كل أنواعه ، وآية آل عمران هذه نص على فرد من أفرد ذلك العام ولا تعارض بين منطوقيهما ، وإن التعارض بين منطوق الأول ودلالة الخطاب في الثانية لا يتحقق إلا إذا لم تكن هناك فائدة للقيد غير فائدة التخصيص ، وقد اتفق علماء الأصول على ترجيح المنطوق على المفهوم في باب المطلق والمقيد ولو لم يكن للقيد فائدة أخرى ، وعليه فلا تعارض بين هاتين الآيتين وبقي الحكم للعام على فرض أن أضعاف مضاعفة ليس لها فائدة في التقيد بها غير التخصيص باتفاق الأصوليين ، وإما أن تكون للاستعراق فيكون من قبيل العام أيضا وحاصله كذلك نص على العام ونص على فرد من أفراده ، ولا تعارض بين منطوقيهما ، وإنما التعارض بين منطوق الأول ومفهوم الثاني ، ولا عبرة بالمفهوم حتى يكون القيد ليس له فائدة غير فائدة التخصيص ، وقد اتفقت العلماء على أن القيد للتقبيح والتشنيع ، ومثله مثل خشية إملاق في قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) لأن القتل منهى عنه سواء وجد خوف الفقر والفاقة أم لا كما أشرنا إليه في الآية 33 من سورة الإسراء في ج 1 والآية 15 من سورة الأنعام في ج 2 ومثل (أَرَدْنَ تَحَصُّناً) في قوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الآية 33 من سورة النور الآتية ، لأن الإكراه على البغاء ممنوع شرعا سواء أريد التحصن أم لا كما سنوضحه في محله إن شاء اللّه.
وهذا الأسلوب(5/399)
ج 5 ، ص : 400
وهو التنصيص على أشنع الحالات وأقبحها أسلوب معروف في لغة العرب وكتاب اللّه وسنة رسوله ، لأنه أدخل في الزجر وأقوى باعث على امتثال النهي ، لا أنه هو العلّة التي يدور عليها الحكم وجودا وعدما ، بل العلة غيره ، وهذا هو أقبح الصور التي سيتحقق فيها ، والذي يقطع الشك في تحريم القليل والكثير ويرد قول القائل بحل قليل الربا الذي يعين بالاجتهاد على زعمه الفاسد (ويجهل أن لا اجتهاد في مورد النص) ويعتبران آية (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) ناسخة لآية (وَحَرَّمَ الرِّبا) لأنها مطلقة ومتأخرة عنها والمتأخر ينسخ المتقدم أو يقيده أو يخصصه ، قوله تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لأنها جملة حاصرة للخبر المقدم على المبتدأ المؤخر وللصفة على الموصوف ، لأن معناها لكم رءوس أموالكم التي خرجت من أيديكم لا غيرها ، ثم تأكيدها بقوله (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) فهو تأكيد يدفع كل احتمال ويقطع كل شك ويجتث كل شبهة ، لأن معناه لا تظلمون الآخذ بأن تأخذوا منه أكثر مما أعطيتموه ، ولا تظلمون أنفسكم بحط شيء من رأس مالكم فتأخذوا أنقص منه إلا ما عفوتم ، وعلى هذا فلم يبق من شك أن الحكم للعام باتفاق العلماء وعلى جميع قواعد الأصوليين.
على أنا قد ذكرنا آنفا في تفسير الآية 752 من البقرة أن هذه الآية مقدمة في النزول على آية البقرة لأنها آخر آية نزلت في العقود ، فلم يبق محل لدعوى النسخ ، تدبر ما يأتي فيما يدل على ما ذكرناه.
هذا ، وأن ما استأنس به هذا القائل بحل الربا القليل وعدم تحريمه إلا أن يكون أضعافا مضاعفة من قول عمر رضي اللّه عنه على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أيها الناس ثلاث وددت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ينتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب الربا.
وفي رواية : الحد بالحاء.
وقوله رضي اللّه عنه إلا أن آخر ما نزل من القرآن هو آية الربا.
ثم توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قبل أن يفسرها لنا ، فدعوى الربا والريبة هو استيناس بغير محله ، لأن عمر وسائر الأصحاب رضوان اللّه عليهم يعلمون ما بينه اللّه ورسوله من تحريم الربا الذي كان يتعاطى بالجاهلية قليله وكثيره ، وجميع أنواعه لا سيما وأن الرسول قال في خطبته المشهورة في حجة الوداع على رءوس الأشهاد : كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.(5/400)
ج 5 ، ص : 401
ألا وان حضرة الرسول بين بالأحاديث المتقدمة في سورة البقرة ما يكون فيه الربا من الأنواع الستة مما حدا بسيدنا عمر رضي اللّه عنه أن يقول ما قال وهو ما بينه الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بأحاديثه التي بلغت عمر وما يلتحق بها فحسب ، أو أن المراد بالربا معناه اللغوي ، فيدخل فيه ما ذكره الرسول وما لم يذكره مما يتدرج تحت المعنى اللغوي الذي هو زيادة على مزيد عليه في معاملة بين طرفين عينا كانت أو نقدا ، حاضرة أو نسيئة ، ويدخل في هذا الباب الأوراق النقدية التي أحدثتها الحكومة وأمرت بالتعامل بها بدلا من الذهب والفضة بين الناس في مبايعاتهم وأنكحتهم وغيرهم إذا بيعت بالتفاضل حالا أو نسيئة ، لأن اللّه تعالى حرم الربا بصورة عامة لم يقيده بشيء ما ، والحديث الشريف إنما عد الأشياء الستة لأنها كانت مما يرابى بها بالمدينة ولم يحصرها بها ليقال لا يجوز أن يزاد على ما ذكره الرسول ، ولا يقال إن هذه الأوراق من قبيل العروض فلا مانع من التفاضل ببيعها ، لأن العروض لها قيم خاصة معروفة ومجهولة ، أما الأوراق النقدية لو لا طابع الدولة فلا قيمة لها ، لأن الذي جعلها تتداول بين الناس بمثابة الذهب والفضة هو طابع الدولة وتكفلها بدفع قيمتها عند الحاجة.
واعلم أن القول بعدم الربا في هذه الأوراق يجرّ إلى القول بعدم وجوب الزكاة فيها والنقد المتداول كله منها ، فيتعطل ركن من أركان الدين الإسلامي والعياذ باللّه.
هذا ، ونعود إلى البحث الأول فنقول وباللّه التوفيق وبيده أزمة التحقيق : إذا كان المراد بالربا معناه اللغوي أي مطلق الزيادة اعتبار بإطلاق الآية المندرج تحتها كل ما فيه تفاضل فيا ترى ما حد هذا الاندراج ، أيشمل ما قصد وما لم يقصد فيشمل زيادة العين وزيادة الانتفاع وغيرهما ، أم لا يشمل إلا ما قصد إليه في المعاملة فحسب ، أم هو المراد ؟ فلهذا ود عمر أن يكون بينه الرسول حتى لا يقع في هذا التورط الشاق وهذه المسئولية العظيمة ، وكيف لا وهو إن أخذ بالأول من غير مرجح له وحمل الناس عليه أوقعهم في معاملات كثيرة قد تكون الآية شاملة لها إن كان المراد المعنى الثاني ، وإن أخذ بالمعنى الثاني ولم يكن مرادا في نفس الأمر أحرج الأمة وضيق عليها فيما لا قطع فيه ، لذلك احتاط لنفسه في الفتوى وأخذ بأحوط الأمرين لأنه تردد بين احتمال مبيح واحتمال محرم ، ت (26)(5/401)
ج 5 ، ص : 402
ولما كان من الأحوط الأخذ بالتحريم فقد نصح لهم أن يتركوا ما فيه ريبة في ذلك اتباعا لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم : الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة ، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ، والمعاصي حمى اللّه ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه.
فالتقي الورع الذي يخشى عتاب اللّه يجتنب كل ما فيه شبهة ربا من نقد ومكيل وموزون وما يقوم مقام النقد من أوراق نقدية وغيرها حتى بيع العينة التي نهى الرسول عنها بأحاديث متعددة وهي أن يبيع الرجل آخر سلمة بثمن ثم يشتريها منه بأنقص مما باعها ، لأن هذا من باب الاحتيال على اللّه بشأن الربا ، وهو لا تخفى عليه خافية ، ألا ترى أن بني إسرائيل لما احتالوا على صيد السمك الذي نهاهم اللّه عنه يوم السبت مسخوا قردة وخنازير كما بيناه في الآية 164 من سورة الأعراف في ج 1 ؟ ولهذا البحث صلة في الآية 63 من سورة المائدة الآتية وفي الآية 16 من سورة النساء أيضا فراجعهما.
وان قول عمر رضي اللّه عنه في الأثر الأول (وأبواب من أبواب الربا) يفيد أن
اشتباهه لم يكن مداره القلة والكثرة في تحريم الربا ولكن فيما لم يعهد إليهم فيه عهد منه مما لم يتبيّنه ولم ينته إليه علمه من غير الأمور الستة التي كانت متعارفة في المدينة ولم يقل صلّى اللّه عليه وسلم لا ربا في غيرها ليكمل الاحتجاج به إلى عموم الآية وهي (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي بجميع أنواعه وأصنافه من كل ما فيه زيادة تأمل.
هذا واعلم أن قوله في الأثر الثاني (إن آخر القرآن تنزيلا هو آية الربا) كما ألمعنا إليه في الآية 275 من البقرة المارة ، أي إن الآية التي هي من آخر ما نزل من القرآن هي آية البقرة وقد علمت أنها تمنع القليل والكثير.
ومما يدل على أن المراد بآية البقرة ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير أنه قال :
من آخر ما نزل آية الربا ، وأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قبض قبل أن يقسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة ، أي كل ما يشك به من الربا.
ولو أن عمر رضي اللّه عنه كان مدار اشتباهه في الآية على عدم التمييز بين الربا القليل الذي هو حلال ، والربا الكثير الذي هو حرام ، لكانت آية آل عمران هذه هي محل الاشتباه ، ولو كان(5/402)
ج 5 ، ص : 403
في هذه الآية لديهم من ريبة لسألوا عنها حضرة الرسول لأنها نزلت قبل وفاته بكثير ، لأن آية قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من المائدة ، نزلت بعدها ، وقد عاش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعدها واحدا وثمانين يوما ولم ينزل بعدها إلا آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية 280 من البقرة المارة ، فراجعهما.
هذا وقد علمت مما تقدم أن الأثرين حجة عليه لا له ، وإن تذرعه بالاجتهاد مردود عليه ، إذ لا اجتهاد في مورد النص ، وممنوع إذ يصادم قوله تعالى (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) الآية ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم وان ربا الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، مما يدل دلالة صريحة على أن آخر آية في الربا نزولا هي آية البقرة المذكورة.
واعلم أن القصد من معارضة هذا المعارض إرادته إباحة إنشاء المصارف (البنوك) وأخذ الناس منها بربا يسير أقل من ربح البايع فيما يبيعه ، وهذا لمن يتكلم بحق إرادة الباطل مثل دعاة السفور وهم يريدون الخلاعة لا غير ، وإذا بحثنا في هؤلاء الذين يأخذون من المصارف تجدهم إنما يأخذونه لغير حاجة ماستة لأنهم إما يريدون تكثير زراعتهم إن كانوا مزارعين ، وتجارتهم إن كانوا تجارا ، أو زواجا أو بناء أو ملكا ما أو بذخا ليساووا من هو فوقهم وأكبر منهم وأغنى ، أو طمعا بربحه اليسير وإعطائه بأضعاف ريحه لمن لا يقدر أن يأخذ من المصرف ليكاثر وينامي غيره به ومع هذا إنا نرى الذين تعاطوا هذا لم يتيسر لهم ما أملوه ، فلم تمض مدة حتى ترى الملاك حجزت أملاكه ، ولتاجر أعلن إفلاسه ، والمزارع صار يستلف على زراعته لأداء ما عليه منه ، والآخر أصبح فقيرا معدما ، وهذا هو السر في قوله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) فكان الأحسن لهذا والأجدر به أن يكون داعيا إلى اللّه موصيا الناس بالقناعة بما في أيديهم ، ويحث الأغنياء على زكاة أموالهم لكفاية الفقراء ، ويحبذ لهم القرض لمن يأمنوا على أدائه لهم وجواز إعطاء الفقير بما دون حد الغنى من الزكاة ، فلو أعطى هؤلاء وأقرض الآخرون لقدر الفقراء على تأمين معيشتهم من البيع والشراء بالأشياء العادية من الخضروات وشبهها مما هو من حوائج العامة فيغنيهم اللّه من فضله ويبارك لمن ساعدهم ويعطى هذا المحبذ للمصارف والأخذ منها أكثر مما يعطونه أهلها ، لأن(5/403)
ج 5 ، ص : 404
عطاء اللّه ممدود ، وعطاءهم مقصور محدود ، فيتكل على اللّه ويمنع أولئك من الأخذ من المصارف والاشتغال بما في أيديهم فهو أنفع لهم من الازدياد بما يوجب دمارهم ، ويعلمهم بأن أخذ بعضهم من بعض سواء كان بطريق القرض أو التجارة أو الصدقة أبقى للرابطة بينهم ، واحفظ لمادة التفاضل ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت.
وقال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية 72 من سورة النحل ، وقال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية 253 من البقرة المارة ، ولهذا فإن نظام العالم لا يقوم ولا يدوم إلا بهذه الصورة.
وإذا أنعمت نظرك علمت أن الربا لا يجوز بوجه من الوجوه ، لأن المال الذي يعطيه الغني إلى الفقير هو مقدار ما بذل من جهود إلى الهيئة الاجتماعية فلا يستحق عليها مزيدا ، ولأنه ليس سلعة معينة بيد الآخذ ينهكها العمل ويؤثر فيها الاستعمال حتى يستحق تعويضا في نظيرهما ، ولأن كل ما حصله الآخذ بواسطتها إنما يكون بجهوده ، وهو المستحق لثمرة حصلت بها دون سواء ، ولأن الزائد الذي يدفعه إلى المرابي إنما هو زيادة أخذها من جهوده فوق ما قدم للوجود من جهود ، فأخذه لها من غير استحقاق ظلم بحت ومعاملة مخالفة للنظامه الفطري الذي هو التعاون الموجب للتوادد والتحابب بين الناس ، لأن معاملة الربا تؤدي للتنازع والتفرقة والبغض والحقد ، وكل هذا مما يضر بالمجتمع ويرهقه ويضعف مادة التناصر المجبولة عليها الفطر السليمة ، فضلا عن أنه فيه قلب لوضع الذهب والفضة لأنهما بعد أن وضعا مقياسا للأشياء ووساطة في نظام التبادل أصبحا سلعا يقصد بها الربح الربوي مما يسبب تعطيلا للأيدي العامة اتكالا على ما يدره إليها من ربح الربا فيجعل مجهود العامل لغيره وليس له حق فيه أو بينه وبين المرابي ، وهذا مما ينهكه أيضا ويضاعف جهوده على حساب غيره فلا يستطيع القيام بأعباء الحياة.
وإن هذه الطريقة تجعل المال دولة بين الأغنياء إرهاقا للفقير بأخذ مجهوده ليتنعم الغني ويبلس الفقير ، ومن هنا تنشأ العداوة والضغائن وتقع التفرقة والبغضاء ، وتضعف الروح المعنوية بين المجتمع الإنساني ، فتحصل الأضرار التي لا تتلافى حتى يعقد الفقير في قلبه التربص للانتقام من الغني أو الانتحار لنفسه ، ولأنه يؤدي لاحتكار النقدين لقصد التعامل بالربا فقط فيقلان في أيدي الناس(5/404)
ج 5 ، ص : 405
وهم محتاجون إليها ، فيشق عليهم التعامل مع غيرهم الذي وضع للتسهيل والتيسير ، فيخل نظام الفطرة الاجتماعية في وجوه الكسب ، فيقع تحت براثنه ضحايا من الناس هم أحوج في حياتهم لأقل قليل من مجهوداتهم ، ولأن فيه مخاطرة من جهة الآخذ إذا ألزم نفسه أن يدفع كسبا المرابي محققا في نظير ما يؤمل كسبه ، إذ قد يخيب ظنه فيخسر فيشق عليه أداء الزيادة للمرابي ، ولأنه يعود الناس الطمع بما في أيدي الغير ، فتقسو قلوب بعضهم على بعض فيفقدون ملكة التعاون والتراحم والتعاطف بعضهم على بعض ، فتنقطع بينهم عرى المساعدة حالة الشدة ، ويحرمون من الثناء والحمد ، وتنهال عليهم المذمة والدعاء والشتم في الدنيا فضلا عن حرمانهم في الآخرة الثواب المعين للقرض الذي هو أفضل من الصدقة ، ولقائهم عذاب اللّه الأليم.
فهذه اثنتا عشر خصلة كل واحدة منها كافية للقول بحرمة الربا على القطع ، وفي كل منها مفسدة كافية للقول بمنعه ، فما بالك إذا تحلقت جميعها ، فهل تهد قوى الأمة وتنقص فضلها وتحطم كمالها وتقطع بينها مادة التواصل أم لا ؟ قل بلى ، ولا يقولها إلا موفق من يوم قالوا بلى للّه القائل «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (133).
أخرج ابن جرير عن التنوخي رسول هرقل قال : قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بكتاب هرقل وفيه إنك كنت تدعو إلى جنّة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟
فقال صلّى اللّه عليه وسلم فأين الليل إذا جاء النهار ؟ أي أن القادر على إذهاب الليل قادر على أن يخلق النار حيث يشاء ، أو أنها بعرض هذه السموات والأرض المرئية الآن ، لا اللّتين تبدلان ، راجع الآية 48 من سورة إبراهيم في ج 2 ، وفي خبر لأبي هريرة مما يؤيد هذا ، وما قاله بعضهم بأن عرضها ثخنها بحيث لو عرضت لبلغ ثخنها ثخن السموات والأرض فليس بشيء وهو خلاف الظاهر وبعيد عن المعنى وعن المأثور ، وهذه الآية تؤيد وجود الجنة كما بيناه في الآية 131 المارة.
مطلب في التقوى وكظم الغيظ والعفو والإحسان ، ومكارم الأخلاق والتنزه عن مذامتها :
ثم بين هؤلاء المتقين بقوله «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ» أموالهم فيما خلقت لها ابتغاء مرضاة اللّه بلا منّ ولا أذى ولا طريق محرم «فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» أي في(5/405)
ج 5 ، ص : 406
حالتي العسر واليسر ، فلا يتركون الإنفاق سواء كانوا في عرس أو حبس.
«وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» الجارعين مضضه عند امتلاء نفوسهم منه فلا يظهرونه بقول ولا فعل بل يصبرون ويسكتون ، لأن الكظم حبس الشيء عند امتلائه ، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
وعليه قول ابن الوردي :
اتق اللّه فتقوى اللّه ما جاررت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقا بطلا إنما من يتق اللّه البطل
وقالت عائشة لخادم أغاظها : للّه درّ التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء.
وذلك أن شفاء الغيظ بالبطش والانتقام ، وقد حالت التقوى والحلم دونه ، ونعم الحائل والمانع.
ولهذا قالوا : كن من العاقل إن أحرجته ، ومن الأحمق إن مازحته ، ومن الجاهل إن عاشرته ، ومن الفاجر إن خاصمته ، ومن الكريم إذا أهنته ، ومن اللئيم إذا أكرمته على حذر.
روى سهل بن معاذ عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه اللّه يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيّره في أي الحور شاء - أخرجه الترمذي وأبو داود «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» إذا جنوا عليهم فلم يؤاخذوهم وقد يحسنون إليهم بالعطاء فضلا عن إحسانهم بالعفو «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (134) عامة ومحبة اللّه أعظم درجات ثوابه وخاصة لمثل هؤلاء ، لأن من يعفو وهو قادر فقد تذرع بالصبر وعرف أن ذلك من قضاء اللّه وقدره فلم يتبرم ولم يسخط فكان من الصادقين الذين إذا قالوا صدقوا وإذا عاهدوا وفوا وإذا ائتمنوا أدّوا ، فيكون من القانتين الذين سلمت أعمالهم من الرياء وأقوالهم من السمعة طلبا لما عند اللّه ، وهذا كله من حسن الخلق الذي منّ اللّه عليهم به ، قال محمد بن ثور الهلالي :
وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا
وقال غيره :
فإذا رزقت خليقة محمودة فقد اصطفاك مقسّم الأرزاق(5/406)
ج 5 ، ص : 407
فالناس هذا حظه مال وذا علم وذاك مكارم الأخلاق
والمال إن لم تدخره محصنا بالعلم كان نهاية الإملاق
والعلم إن لم تكتنفه شمائل تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق
«وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» فعلة قبيحة كالزّنى واللواطة وغيرهما «أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» باقتراف الذنوب صغارا كانت أو كبارا كالقبلة واللمس والنظر للأجنبية والأمرد بشهوة والربا والغصب والخمر والقمار وما شابههما من الذنوب ثم «ذَكَرُوا اللَّهَ» وعرفوا بأنه سيسألهم عنها يوم لقائه فاستحيوا منه وخافوا عتابه وعقابه قبل أن يلقوه «فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» هذه وتابوا وأنابوا وندموا على فعلها وعزموا على عدم العودة لمثلها يوشك أن يغفرها لهم «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» الرؤوف الرحيم بعباده ، وفي هذه الجملة شيء من البشارة العظمى أي لا أحد يفعل ذلك غيره وهو أهل التقوى وأهل المغفرة ، وذلك كله بمقتضى كرمه إذ لا مفزع للمذنبين غير فضله ورحمته ولطفه وإحسانه ، ولا ملجأ إلا لكرمه وعفوه وعطفه وامتنانه «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا» من تلك الذنوب بل أفعلوا عنها حالا من غير توان في الإقامة على شيء منها «وَهُمْ يَعْلَمُونَ 135» أن ما وقع منهم مؤاخذون عليه وأن لهم ربا يغفر لمن يرجع إليه ويعفو عمن يلتجىء إليه ، لأن التوبة مع الإصرار على الذنب استهزاء وسخرية بالرب يوجبان المقت والعياذ باللّه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم :
التائب من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه.
واعلم أن في إعداد النار للكافرين في الآية 13 المارة وإعداد الجنة للمتقين في هذه الآية بشارة عظيمة على تقوية رجاء المؤمنين المتقين المتصفين بالصفات المذكورة برحمة اللّه تعالى لدخول الجنة المهيأة لهم ، وتباعدهم عن النار المعدة لغيرهم إذا لم يسلكوا طريقها ، قال القائل :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وعلى كل يجب الاستعانة باللّه تعالى على حفظ النفس من الذنوب ، إذ لا مانع له منها إلا هو ، وقد صدق من قال : (5/407)
ج 5 ، ص : 408
من استعان بغير اللّه في طلب فإن ناصره عجز وخذلان
روى أبو صالح عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم آخى بين أنصاري وثقفي فخرج الثقفي في غزوة واستخلف أخاه الأنصاري على أهله فدخل عليها وقبل يدها ثم ندم ووضع التراب على رأسه وهام في البرية لأنه رأى في عمله هذا وقاحة مذمومة وانسلاخا من الإنسانية ومنشؤهما لجاج النفس في تعاطي القبح ، وهي مغايرة للحياء الذي هو انقباض النفس عن القبائح وهو من خصائص الإنسانية ومغاير للخجل الذي هو صون النفس لفرط الحياء ويحمد في النساء والصبيان ، فلما جاء الثقفي سأل امرأته عنه فقالت لا أكثر اللّه مثله وذكرت له ما وقع منه فذهب في طلبه وجاء به إلى أبي بكر فذكر له قصّته وقال هلكت فقال أبو بكر ويحك أما علمت أن اللّه يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ، ثم جاء عمر فقال مثل ذلك ، فأتيا النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال مثل ذلك وأنزل اللّه هذه الآية.
وقال ابن مسعود : قال المؤمنون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كانت بنو إسرائيل أكرم على اللّه منا كان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفارته مكتوبة على عتبة بابه اجدع أنفك أو أذنك أو افعل كذا ، فسكت صلّى اللّه عليه وسلم ، فنزلت.
وقال عطاء في رواية ابن عباس بأنها نزلت في تيها التمار جاءت إليه امرأة تشتري منه تمرا فضمّها وقبلها وندم.
والأول أولى.
أخرج أبو داود عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من لزم الاستغفار جعل اللّه له من كل ضيق مخرجا ومن كل همّ فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب اللّه بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر اللّه لهم.
وروى أبو يعلى في مسنده وابن السني أبو بكر بن محمد بن أحمد : من استغفر اللّه دبر كل صلاة ثلاث مرات فقال أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فرّ من الزحف.
تشير الجملة الأخيرة من هذا الحديث للبشارة بإدخال الكبائر أيضا وما ذلك على اللّه بعزيز.
وأخرج الترمذي عن أنس قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول قال اللّه تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء (أي ما عاينته منها)(5/408)
ج 5 ، ص : 409
ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا (أي ما يقارب ملئها) ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة.
وقد ألمعنا إلى ما يتعلق في هذا البحث في الآية 43 من سورة الشورى في ج 2 فراجعه.
قال تعالى «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم «جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» (136) في هذه الدنيا الجنة عند اللّه تعالى والأمن من العقاب وحسن الثواب على عمله الصالح وتوبته النصوح.
هذا وقد ذكرنا أن هذه الآيات من آية الربا إلى هنا معترضة بين قصة أحد لمناسبات وأسباب ذكرت خلالها.
ثم ذكر اللّه تعالى ما فيه تسلية لحضرة الرسول وأصحابه عما وقع لهم في حادثة أحد بقوله «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» طرق وعادات في الأمم الماضية بإهلاك العصاة وإثابة الطائعين أيها المؤمنون (قد تأتي الأمة بمعنى السنة والسنن بمعنى الأمم) كما قيل :
ما عاين الناس من فضل كفضلكم ولا رأوا مثلكم في سالف السنن
أي الأمم «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» (137) ليهون عليكم ما وقع بكم لأن الذين كذبوا الرسل قبلهم أمهلهم اللّه ولم يعجل عقوبتهم ثم استأصلهم بالهلاك وكذلككفار قريش فإن اللّه يمهلهم حتى يبلغ الكتاب أجله فيستأصلهم إذا لم يؤمنوا كغيرهم الذين لم تسكن مساكنهم من بعدهم ويستدل على ما وقع بهم من أطلال ديارهم وآثارهم التي ينطق لسان حالها :
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
ولا مناقشة في المثل إذ يجوز أن يضرب على حسن الصنايع والأفعال وعلى قبحها وسوءها بحسب المقام ولكل مقام مقال كما لكل مقال مقام «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» (138) حدود اللّه الواقفين بعيدا عن حماه المتفكرين في آلائه العاملين لرضائه العارفين مصيرهم إليه والعاقبة المحمودة عنده «وَلا تَهِنُوا» أيها المؤمنون فتضعفوا عن الجهاد وتجبنوا عنه بسبب ما أصابكم في هذه الحادثة ففيه هوان لكم وذلة لمن بعدكم بل عليكم بمتابعته ففيه العزة والاحترام «وَلا تَحْزَنُوا» على قتلاكم فإنهم لقوا ربهم وغشيتهم رحمته وعمهم رضوانه فهم(5/409)
ج 5 ، ص : 410
شهداء في الدنيا سعداء في الآخرة «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» بالنصر والغلبة لأنكم أصبتم منهم ببدر أكثر ما أصابوا منكم بأحد والعاقبة الحسنة لكم ، فاصبروا واطمأنوا ولا تجزعوا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (139) بما وعدكم اللّه به فلا تهنوا على ما وقع منكم ولا تحزنوا على ما فاتكم ولا على ما أصابكم والأحسن أن تؤول (إِنْ) هنا بمعنى إذ على التعليل أي إنما يحصل لكم العلو على غيركم لأنكم مؤمنون باللّه مصدقون لما جاء به رسوله «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ» أيها المؤمنون في أحد «فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ» أعدائكم «قَرْحٌ مِثْلُهُ» إذ قتل منهم سبعون وأسر سبعون في حادثة بدر ، والقرح بالفتح الجراحة وبالضمّ المها ، وقد قتل من الكفرة نيف وعشرون رجلا وجرح كثيرون في حادثة أحد.
مطلب الأيام دول بين الناس ، وكون الجهاد لا يقرب الأجل ، وكذب المنافقين ، واللغات التي تجوز في كأين :
«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» من واحد لآخر ومن طائفة لأخرى ، كما قيل :
فيوما علينا ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر
وكلمة نداولها لم تكرر في القرآن ، ومنه الدنيا دول تنتقل من أمة إلى غيرها وقيل :
هي الأمور كما شاهدتها دول من سرّه زمن ساءته أزمان
«وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» أن هذا التداول يتميّز فيه المؤمن الصادق من المبطن المنافق الذي يرجع عن دينه لأدنى نكبة ، قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الآية 12 من سورة الحج الآتية «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» جمع شهيد وهو من مات في صف القتال وسمي شهيدا لأنه يشهد على الأمم يوم القيامة مع الأنبياء ولأنه يشهد له في الموقف العظيم لدى رب العالمين على أنه قتل في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (140) من الكافرين والمنافقين وغيرهم لذلك لا يقدر لهم الشهادة كما لم يقدر لهم الإيمان
«وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» في هذا التداول فيعرفون الحكمة منه فيطهرهم وينقيهم من ذنوبهم وكرر هذا الفعل في الآية 154 الآتية ، وكلمة يمحق في الآية 276 من(5/410)
ج 5 ، ص : 411
البقرة فقط وفي قوله «وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» (141) يمحوهم ويفنيهم فلا يبقى لهم ذكر بخلاف المؤمنين فإن في قتلهم شهداء بقاء لذكرهم «أَمْ حَسِبْتُمْ» أيها المؤمنون «أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» دار الكرامة مجانا بلا ثمن «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» بصدق وإخلاص «وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (142) منكم على الأذى والقتل ، أي ليظهر للناس صبركم على المشاق في أمر دينكم كما هو معلوم عند اللّه.
تشير هذه الآية إلى تبكيت الذين انخذلوا ورجعوا من الطريق بعد أن خرجوا مع الرسول وهم عبد اللّه بن سلول وأصحابه لأنهم في مثابة المنهزمين من الجهاد لشدة جبنهم مع أنهم كانوا يتغنون بالجهاد بين الناس ويحبذونه فأظهر اللّه كذبهم وقيل :
وإذا ما خلا الحبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
والمعنى : أتظنون أن تدخلوا الجنة أيها الناس كما يدخلها هؤلاء الذين بذلوا مهجهم لربهم يوم أحد ؟ كلا لا تحلموا بذلك أبدا وذلك أن هؤلاء المنهزمين كانوا يتمنون الشهادة بسبب ما أخبر اللّه عن الكرامة التي حازها شهداء بدر فلما حان وقتها هربوا فحرموا منها فأنزل اللّه تعالى «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» (143) فكيف تنهزمون وهذا زيادة في توبيخهم وتقريعهم على هزيمتهم ، ثم ندّد ما وقع من بعضهم فقال جل قوله «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» رجعتم إلى دينكم الأول.
يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه رجع وراءه ونكص على عقبيه «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً» بل يضر نفسه كما أن قتل محمد وموته لا يوجب وهنا في الدين أو ضعفا بأهله ورجوعا عنه لأن الأنبياء قبله لم ينشأ عن قتلهم أو موتهم ارتداد أتباعهم بل تبروا على طريقة أنبيائهم ودعوا الناس إليها ، وهذا توبيخ وتبكيت للمنافقين الذين قالوا عند ما سمعوا أن محمدا قتل نرجع إلى ديننا الأول وتقريع لبعض المسلمين الذين قالوا ليت لنا رسولا إلى عبد اللّه بن سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان كما مر في الآية 122 «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» (144)(5/411)
ج 5 ، ص : 412
نعمة الإسلام الثابتين على دينهم في السراء والضراء مثل أنس بن النضر إذ قال إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل وقال لأولئك ما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال إني اعتذر يا رب إليك من هؤلاء المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون ثم شد سيفه وقاتل حتى قتل رحمه اللّه ، قال عبد اللّه بن رواحة حين نهض إلى الموت في جملة ما قال :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات قرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي أرشدك اللّه من غاز وقد رشدا
وقال الحارث بن ظالم المزني :
فأقتل أقواما لئاما أذلة يعضون من غيظ رءوس الأباهم
ولما سئل حضرة الرسول عن المراد بالشاكرين هنا فقال إن أبا بكر وأصحابه هم الشاكرون وقد التفوا حوله ووقره كلهم بأنفسهم.
قال تعالى «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» لا يتعداه ولا يتقدمه ، تفيد هذه الجملة أن الجهاد والجرأة لا تقدم أجل الإنسان ، والجبن والحذر لا يؤخره ، فلا يموت الإنسان إلا بأجله المقدر له عند ربه ولو خاض في المهالك واقتحم المعارك وفيها إشارة إلى حفظ الرسول من القتل مع تكالب الأعداء عليه وحرصهم على قتله وإعلام بأن الحذر لا يغني عن القدر وإيذان بأن المقتول ميت بأجله ، قال صاحب الجوهرة :
وميت بعمره من يقتل وغير هذا باطل لا يقبل
«وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا» بعمله وطاعته «نُؤْتِهِ مِنْها» جزاء عمله كالذين تركوا مكانهم الذي عينه لهم حضرة الرسول وحذرهم مفارقته فتركوه وطلبوا الغنيمة حتى سببوا الانكسار «وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها» كالذين ثبتوا في محلهم الذي أمرهم بالبقاء به والذين ثبتوا مع الرسول ، وهي عامة في جميع الأعمال وخصوصها في أهل أحد لا ينفي عمومها وهكذا غيرها من الآيات لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب «وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» (145)(5/412)
ج 5 ، ص : 413
الذين يريدون بعملهم وجه اللّه ، ولا تعد هذه الجملة مكررة لأنها منصرفة لمعنى آخر بالنسبة لما قبلها.
روى البغوي بسنده عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من كانت نيته طلب الآخرة جعل اللّه غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة ، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل اللّه الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له.
وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال :
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها - وفي رواية يتزوجها - فهجرته إلى ما هاجر إليه.
قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» نسبة للرب وقيل جماعات كثيرة والربيّة الواحدة عشرة آلاف مثل قوم طالوت المار ذكرهم في الآية 250 من سورة البقرة المارة «فَما وَهَنُوا» خافوا ولا جبنوا عند اللقاء في قتال الكفرة «لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» من القتل والأسر والجروح «وَما ضَعُفُوا» عن قتال عدوهم «وَمَا اسْتَكانُوا» خضعوا واستسلموا لهم ولكنهم ثبتوا وصبروا «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» (146) الذين لم يجزعوا في الجهاد ولم يفزعوا من الكثرة.
واعلم أن كلمة كأين فيها خمس قراءات الأولى بإثبات النون في الوقف والخط وبالتشديد وهي اللغة المشهورة فيها كما هنا ، والثانية كائن على وزن اسم الفاعل بلا ياء وعليها قوله :
وكائن لنا فضل عليكم ومنّة قديما ولا تدرون ما من منعم
والثالثة بالياء مع الهمزة بلا نون كأي ، والرابعة بالياء قبل الهمزة وبعدها النون كيئن وتقرأ بسكون الياء وكسر الهمزة ، والخامسة كئن بكاف مفتوحة وهمزة مكسورة ونون ساكنة وعليها قوله :
كئن من صديق خلته صادق الإخا أبان اختباري أنه لمداهن
قال تعالى «وَما كانَ قَوْلَهُمْ» أي الربيون عند اللقاء «إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا» أي إفراطنا وتجاوزنا حد العبودية «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا» عند لقاء عدونا وأزل من قلوبنا الفزع والرعب(5/413)
ج 5 ، ص : 414
«وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» (147) نعمتك الجاحدين دينك المكذبين نبيك «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا» بالنصر والغنيمة والثناء «وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» بالغفران ودخول الجنان ومرافقة الأعيان لحسن صنيعهم «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (148) في أعمالهم ونياتهم ، وهذه الآيات فيها تعليم من اللّه لعباده بأن يفعلوا كفعلهم ويقولوا كقولهم.
قال اللّه تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا» من المنافقين واليهود الذين يشيرون عليكم بترك الجهاد ويخوفونكم عاقبته «يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» في الكفر الذي كنتم فيه «فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (149) في الدنيا والآخرة «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ» فأطيعوه واستعينوا به «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» (150) لكم وهؤلاء الذين يغرونكم ويغرّونكم لا قدرة لهم على نصركم «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» في الدنيا منكم حتى تقهروهم ويظهر دينكم على سائر الأديان
«بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ» بسبب اتخاذهم شريكا للّه ، واللّه تعالى ليس له شريك ولهذا قال «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة وهو مثوى كل ظالم «وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» (151) النار ، وفي هذه الآية بشارة عظيمة للمسلمين لما فيها من إخبار اللّه تعالى لهم بالظفر في الدنيا ووعد لهم بالمغفرة في الآخرة ، ويوجد في القرآن 36 آية مبدوءة بلفظ بل.
قال تعالى «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» بالنصر والظفر قبلا في واقعة بدر وفي واقعة أحد أيضا لأن الظفر كان لهم مبدئيا وقد هزموا المشركين إلا أن أهل النبل لما خالفوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم التي عينها لهم طلبا للغنيمة رأى الكفّار خلو ظهور المسلمين منهم كروا عليهم فغلبوهم وانقلب الأمر كما تقدم في القصة آنفا ، واذكروا عباد اللّه «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ» تقتلونهم وعليه قول عتبة الليثي :
نحسهم بالبيض حتى كأننا نفلق منهم بالجماجم حنظلا
وقد استشهد بهذا البيت ابن عباس على أن معنى الحس القتل ، وقال غيره :
ومنا الذي لاقى بسيف محمد فحس به الأعداء عرض العساكر
ومعنى حسّه أصاب حاسته بآفة فأبطلها ولذا قال بعضهم : تبطلون حسهم بالقتل(5/414)
ج 5 ، ص : 415
الذريع.
وما كان ذلك إلا «بِإِذْنِهِ» إذ أجاز لكم قتالهم فقتلوا بقضاء اللّه وقدره «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» الذي أمركم به رسولكم فقلتم وما نصنع بمكاننا وقد انهزم وغلبوا وقلتم إنما أمرنا أن لا نبرح مكاننا حتى الغلب وقد كان ولكنكم خالفتم «وَعَصَيْتُمْ» أمره إذ قال لكم لا تبارحوا أبدا غلبنا أو غلبنا «مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ» من النصر والظفر بأعدائكم تركتم مواقعكم الحربية المقدر نصر اللّه على ثبوتكم فيها وخذلانه لكم على مبارحتها وذلك لأن «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا» فترك موقعه وذهب ابتغاء الغنيمة ولم تعلموا ما يصيبكم بسبب مخالفة رسولكم «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» فثبت مكانه وحافظ على وصية رسوله حتى قتل كالأمير عبد اللّه بن جبير ورفقائه رحمهم اللّه «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» عن الكافرين وكف معونته لكم فغلبوكم بسبب خلو ظهركم من أهل النيل الذين كانوا مانعين الكفرة من الوصول إليكم حسب التعبئة التي رتبها حضرة الرسول ، وفعل ذلك «لِيَبْتَلِيَكُمْ» يمتحنكم ويختبركم ليعلم صبركم وثباتكم ويظهر لكم ضعيفي الإيمان من غيرهم الذين تعودوا الارتداد وطلب المعونة من المنافقين الذين سببوا لكم الهزيمة والانكسار بتركهم مواقعهم التي أمروا بالبقاء فيها «وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» أيها المخلصون لما يعلم من نيتكم حين مبارحتكم أمكنتكم إذ غلب على ظنكم استمرار هزيمتهم وأمنتم من كرّتهم فأقدمتم على الغنيمة لئلا يختص بها أصحابكم وليس لأمر آخر ، وهذا لم يعجل عقوبتكم بفضله «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (152) خاصة والعالمين عامة ، وفي هذه الآية دليل على أن مرتكب الكبيرة مؤمن لأن اللّه سماهم مؤمنين مع أنهم خالفوا أمر الرسول بأشد الأوقات ومخالفته من الكبائر ، وردّ لمن قال إن مرتكب الكبيرة كافر خلافا لما عليه إجماع أهل
السنة والجماعة القائل قائلهم :
ومن يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض لربه
واذكروا أيها المؤمنون «إِذْ تُصْعِدُونَ» بضم التاء أي في الأرض هربا من عدوكم لأن هذا الفعل من أصعد والإصعاد الإبعاد في الأرض ، وقرىء بفتح التاء من صعد إذ يقال صعد في الجبل والصعود الارتقاء من الأسفل إلى الأعلى وضده(5/415)
ج 5 ، ص : 416
الهبوط «وَلا تَلْوُونَ» تلتفتون حال انهزامكم «عَلى أَحَدٍ» منكم بفتح الهمزة والحاء ، وما قاله بعض المتهوكين بضمها لا صحة له ولم يقرأ بها أحد من القراء إذ لا معنى لها هنا ، والقراءة الصحيحة على فتحها أي لا تنظرون ولا تميلون على أحد منكم لتعينوه أو تخلّصوه بل كل منكم هارب على جهة لا يهمه شأن غيره وكان الأجدر بكم أن تنأنوا وتراعوا بعضكم فتساعدوا العاجز وتعينوا الجريح وتعاونوا المريض وتأخذوهم معكم ولا تتركونهم لأعدائكم ليجهزوا عليهم «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» يناديكم من ورائكم : إلي عباد اللّه من كر فله الجنة ولم تلتفتوا إليه ولم تعلموا أن من فرّ له النار ، ولو لا عفو اللّه عنكم إكراما لرسولكم لعاقبكم «فَأَثابَكُمْ غَمًّا» بالقتل والجرح مع الهزيمة «بِغَمٍّ» آخر أذقتموه رسولكم بعصيانكم له حتى سببتم له كسر رباعيته وجرح وجهه والفشل والهزيمة لغيركم من إخوانكم وهذه الخصال ليست من شأن المؤمنين الموقنين وسميت العقوبة هنا غما مجازا لأن لفظ الثواب يغلب استعماله في الخبر وقد يستعمل بالشر كما في قوله :
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
والأداهم هي القيود الحديد ، والمحدرجة السياط ، وقال الأمير لرجل واللّه لأحملنك على الأدهم فقال له مثل الأمير من يحمل على الأدهم والأسفر والأحمر ، فقد صرف كلامه من المجاز إلى الحقيقة فعفا عنه لبلاغته وحسن ردّه.
فتعلموا أيها الناس الفصاحة والبلاغة فكم أنجت من مهالك.
روي أن الحجاج منع التجول ليلا وأوعد على المخالفة ، وذات يوم صادف ثلاثة فأمر بتوقيفهم ثم استحضرهم وسألهم فقال أحدهم :
أنا ابن من دانت الرءوس له يأخذ من مالها ومن دمها
فقال اتركوه لعله ابن أحد الأمراء ، وقال الآخر :
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره وإن نزلت يوما فسوف تعود
فقال اتركوه لعله ابن أحد الأكارم ، وقال الثالث :
أنا ابن الذي خاض الصفوف بنعله فيضرب يمناها طورا ويسراها(5/416)
ج 5 ، ص : 417
فقال اتركوه لعله ابن أحد الشجعان فإذا هم حجام وفوال وحائك ، فقد خلصتهم فصاحتهم من ظلمه.
أي إنما أذاقكم ذلك الغم بسبب الغم الذي أذقتموه رسولكم وإنما عفا عنكم «لِكَيْلا تَحْزَنُوا» مرة أخرى «عَلى ما فاتَكُمْ» من النفع وتنهالوا عليه خلافا لما أمرتم به «وَلا» تحزنوا على «ما أَصابَكُمْ» من الضر بسبب عفو اللّه عنكم «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (153) في ذلك الوقت وغيره ، وقد علم أن نيتكم لم تكن سيئة لأنكم تحققتم الظفر وعزوف العدو عن كرّه عليكم من بعد هزيمته «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً» ثم فسّر هذه الأمنة بكونها «نُعاساً» نوما خفيفا لإزالة الرعب عنكم لأن الخائف لا ينام وهذه من جملة أفضال اللّه تعالى عليكم وجعله «يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» أيها المؤمنون دون طائفة.
روى البخاري ومسلم عن أنس عن أبي طلحة قال :
كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي ، مرارا يسقط وآخذه.
وأخرجه الترمذي عنه قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد وذكر نحو رواية البخاري بزيادة.
والطائفة الأخرى هم المنافقون ليس لهم إلا هم أنفسهم أجبن قوم أرغبه وأخذله للحق وهم المعنيّون بقوله تعالى «وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» فتشربوا بالخوف وظن السوء باللّه وبإخوانهم لأنهم «يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» أي بإخلاف وعده رسوله ويعتقدون أنه لا ينصره وأصحابه وكان ظنهم هذا «ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» الذين لا يعتقدون بوجود الإله ولا يعترفون بكتبه ولا يصدقون رسله ويجحدون اليوم الآخر والقضاء والقدر لأنهم «يَقُولُونَ هَلْ لَنا» أي مالنا «مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ» فلم نقاتل ، وذلك أن رئيسهم عبد اللّه بن سلول أشار على النبي بعدم الخروج لقتال أحد ولم يأخذ بقوله ولهذا راق لهم ما وقع بالنبي وأصحابه فأنزل اللّه «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المنافقين «إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» وحده ولو شاء لما خرجنا ولكنه شاء ذلك ليري قومنا نتيجة مخالفتهم لأمر رسوله وليعلم أنه أعلم بضروب الحرب وفنونه من تعبئة الجنود وتعيين المواقع والكر والإقدام والإحجام والوقوف وغيرها ، وهؤلاء المنافقون «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ» من الكفر والشك في وعد اللّه «ما لا يُبْدُونَ لَكَ» ت (27)(5/417)
ج 5 ، ص : 418
من الإيمان والتصديق «يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» أي لما قتل في هذه المعركة لو أطاعنا محمد «قُلْ» لهم يا أكمل الرسل لا تظنوا هذا الظن وعزة ربي وجلاله «لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ» أي لخرجوا من بيوتهم قاصدين «إِلى مَضاجِعِهِمْ» مصارعهم التي قتلوا فيها فقتلوا فيها بنفس الوقت لأن التدبير لا يقاوم التقدير والإنسان لا يجاوز أجله راجع الآية 77 من سورة النساء الآتية «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ» فيخرج ما في ضمائركم ليطلع عليها الناس كما هو عالم فيها قبل خلقها «وَلِيُمَحِّصَ» يزيل ويذهب ويمحق «ما فِي قُلُوبِكُمْ» من شك وريبة فيما تصورتموه ويظهر ما تكنونه من العداوة للّه ورسوله والمؤمنين وما تعتقدونه فيهم لترتدعوا «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (154) ودخائلها لا يخفى عليه شيء من أفعالكم ونياتكم وأقوالكم ، ثم التفت جل شأنه إلى المؤمنين فقال «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» في أحد فانهزموا وتركوكم ونبيكم فلم يبق مع حضرة الرسول غير ثلاثة عشر رجلا من المهاجرين وسبعة من الأنصار «إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ» بإلقاء الخوف في قلوبهم وذلك «بِبَعْضِ ما كَسَبُوا» وهو جزاء تركهم مواضعهم الحربية حين التعبئة ومخالفتهم أمر القائد الأعظم الذي هو أعلم منهم بفنون الحرب وأبوابها لأنه يتلقى علمه فيها وفي غيرها من لدنا «وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ» لصدور تلك المخالفة عن نية حسنة بظنهم إذ رأوا أن ثباتهم فيها يحرمهم من الغنيمة فلم يكن تركهم وفرارهم عنادا ولا لقصد شيء ولا لخذلان إخوانهم وليس فرار زحف لأنهم كانوا غالبين «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لهم ولغيرهم ممن يقع منه ذنب لا عن قصد سيىء ولا استحلالا ولا تهاونا «حَلِيمٌ» (155) لا يعجل العقوبة على المذنبين ولا يؤاخذ حسني النية ومن يخطىء في اجتهاده كهؤلاء.
مطلب المقتول ميت بأجله ، وأنواع العبادة ثلاثة ، وبحث في الشورى ومن يشاور ، وخطبة أبي طالب :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا» أي المنافقين ، سماهم كفارا لأنهم أشد ضررا على المؤمنين من الكفار ، ومما يدل على أن المراد بالكفار(5/418)
ج 5 ، ص : 419
هم قوله جل قوله «وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ» سافروا فيه «أَوْ كانُوا غُزًّى» فماتوا أو قتلوا «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» مع أنهم لا بد من موتهم في ذلك الوقت وفي ذلك السبب وفاقا لما قدره اللّه عليهم في أزله ولكن سخرهم لهذا القول الباطل «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ» القول «حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» غما وأسفا وأسى فيقولون ذلك ويلومون أنفسهم على الخروج فيقتلونها هما وندما ، ولو كانوا مؤمنين حقا لعلموا أن القتل والإماتة بقضاء اللّه وقدره ولهما زمان ومكان وسبب يقعان فيه لا يتخطيانه وقد يتيسر إليه الإنسان أو يذهب إليه من تلقاء نفسه ليقع مراد اللّه وفق ما هو مدون في أزله وقيل في المعنى :
إذا ما حمام المرء كان ببلدة دعته إليها حاجة فيطير
«وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ» بسبب وبلا سبب ومن شيء وبلا شيء «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (156) قرئ بالتاء على أن الخطاب للمؤمنين وبالياء على طريق الالتفات للكافرين والأول أولى وأنسب بسياق السياق.
واعلم أن رؤية اللّه تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازات على المرئي كالمعلوم ، وفي الآية تهديد للمؤمنين لأنهم وإن كانوا لم يماثلوهم فيما ذكر إلا أن حصول الندم في قلوبهم على الخروج يقتضي ذلك «وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» خير لكم من أن تموتوا على فراشكم «أَوْ مُتُّمْ» في سفركم قبل خوضكم المعركة «لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ» لكم وكذلك في كل سفر طاعة «وَرَحْمَةٌ» عظيمة لكم منه في ذلك وهذا «خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (157) غيركم من حطام الدنيا وهم قعود في بيوتهم وقيل في المعنى :
إذا مت كان الناس صنفان شامت وآخر مثن بالذي أنا صانع
ثم أكد ذلك بقوله مع القسم أيضا «وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» (158) في الآخرة فيجازيكم على حسب أعمالكم ونياتكم أي إذا كان هلاككم بأي سبب كان فمرجعكم إلى اللّه لا مرجع إلا إليه ولا معول إلا عليه ولا ثواب إلا منه ولا عقاب إلا عنه ، قال الحسين رضي اللّه عنه وعن والديه : (5/419)
ج 5 ، ص : 420
فإن تكن الأبدان للموت أنشئت فقتل امرئ بالسيف واللّه أفضل
ويستفاد من هذه الآية أن مقامات العبودية ثلاثة : فمن عبد اللّه تعالى خوفا من ناره وهي أدنى مقامات العبودية (إذ ما تحتها إلا الرياء والنفاق الذين يخلد صاحبهما بالنار) فهذا قد يؤمنه اللّه مما يخاف وإليه الإشارة بقوله (لَمَغْفِرَةٌ) ، ومن عبده طمعا في جنته آتاه اللّه ما رجاه وإليه الإشارة بقوله (وَرَحْمَةٌ) لأن الرحمة من اسماء الجنة ، وهذه العبادة فوق تلك وكلاهما من حظوظ النفس ، ومن عبده باعتباره إله حق مستحق للعبادة لذاته ولو لم يخلق نارا ولا جنة تشوقا إلى وجهه الكريم فتلك العبادة الخالصة وهي أشرف أنواع العبادات على الإطلاق ، ولهذا فإنه تعالى وعده بما أراد ووعده الحق وإليه الإشارة بقوله (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) جعلنا اللّه منهم ومن أتباعهم.
قال تعالى «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» يا سيد الرسل على ما هم عليه من غلظة وفظاظة فترفقت بهم وتلطفت عليهم وتحملت جفاهم فتشكر محسنهم وتعفو عن مسيئهم حتى التفوا حولك وأحبوك لما أوتيته من أخلاق كريمة تعاملهم بها وآداب عالية تعلمهم إياها وتدعوهم لما فيه صلاحهم «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ» جافيا قاسيا عجولا فقابلت فعلهم في أحد على أثر ما وقع منهم حالة توغر صدورهم فأنبتهم وكدرتهم «لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وتفرقوا عنك ولكن اللّه الذي رباك فأحسن خلقك وأدّبك فأحسن تأديبك وجعلك سهلا يسرا رقيقا رفيقا فلم تعاملهم في الشدة ولم تحنق عليهم ولم تلمهم على فعلهم حالة تأثرهم على ما بدر منهم مما زاد في ندمهم وأسفهم وأكثر تحسرهم على تفريطهم بأمرك ولحقهم الخجل من أن يقابلوك لأنهم رأوا أنفسهم مقصرين لا عذر لهم ولهذا فإنا قد عفونا عنهم «فَاعْفُ» أنت أيضا «عَنْهُمْ» مخالفتهم هذه وزلتهم وإفراطهم «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» ربك وربهم وادع لهم أن لا يعودوا لمثلها فإنهم قد نالوا جزاءهم الدنيوي بما وقع فيهم من القتل والذل.
واعلم أنك مجاب الدعوة ، فلا تدعو عليهم ، بل اسأل ربك الخير لهم «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» تطييبا لقلوبهم حتى يتيقنوا رضاك عنهم قلبا وقالبا ، وذلك أن سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمور التي يساقون إليها يشق عليهم لأن ذلك يعدونه من عدم(5/420)
ج 5 ، ص : 421
المبالات بهم وإلا فإن اللّه تعالى يعلم أن ما لنبيّه من حاجة لمشورة أحد من خلقه ولكن أراد استجلاب عطفهم على رسوله وانفراز مودته في قلوبهم وجعل المشورة سنة لمن بعده على الإطلاق وعلى كل الرأي بعد المشورة له خاصة وليس عليه أن يتقيد برأيهم لأنه أوسع فكرا منهم وأصوب رأيا وأكبر تدبيرا وتدبرا في العواقب.
وهذا في الأمور التي لم ينزل فيها وحي أما ما نزل فيها الوحي فلا خيار له هو نفسه فيه فضلا عن أخذ رأي غيره.
واعلم أن المشاورة في الأمور ممدوحة مطلوبة ومحمودة قال بعضهم :
وشاور إذا شاورت كل مهذب لبيب أخى حزم لترشد بالأمر
ولا تك ممن يستبد برأيه فتعجز أو لا تستريح من الفكر
الم تر أن اللّه قال لعبده وشاورهم في الأمر حتما بلا نكر
وعلى المستشير ألا يشاور من لا يثق به ولا يحبه ولذلك قالوا سبعة لا يشاورون :
1 - جاهل لأنه يضل 2 - وعدو لأنه يريد الهلاك 3 - وحسود لأنه يتمنى زوال النعمة 4 - ومراء لأنه يقف مع رضاء الناس 5 - وجبان لأنه يهرب من كل ما يرعب فلا يميل إلا إلى سفاسف الأمور 6 - وبخيل لأنه يحرص على ماله فهو على نفسه أحرص فلا رأي له في العز 7 - ذوي هوى لأنه أسير هواه فلا خير في رأيه.
وقالوا أيضا لا يشاور معلم الصبيان الذي لا يخالط الناس لقصر رأيه ولا راعي غنم يقوم معها وينام معها ، ومن يخالط النساء دائما ، وصاحب الحاجة لأنه أسير حاجته فيلائم صاحبها على رأيه ، ويشاور من عناهم القائل بقوله :
عليم حكيم ما هو عند رأيه نظار إلى ما تبدوا إليه مذاهبه
بصير بأعقاب الأمور كأنما يخاطبه عن كل أمر عواقبه
وقال صلّى اللّه عليه وسلم المستشار مؤتمن وعليه يجب على العدو إذا استشاره عدوه أن يسديه نصحه هذا ، وإذا استشرت صاحبك فأشار عليك بما لم تره موافقا أو لم تحمد عاقبته فلا تلمه أو تعاقبه لأنه أدى لك ما يحبه لنفسه وأنت غير ملزم برأيه.
قال تعالى «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أي إذا قطعت الرأي بعد المشورة التي هي كالاستيناس والاستطلاع لأن في احتكاك الآراء يظهر القصد الأحسن من الحسن(5/421)
ج 5 ، ص : 422
وتستبين الغاية المنشودة كالنار الناشئة من تصادم الحجرين وعلى كل فليكن توكلك على اللّه في تنفيذ ما تصمم عليه «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» 159 عليه في كل أمورهم ، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 72 من سورة النحل ج 1 والآية 28 من سورة الشورى في ج 2 ، وتشير هذه الآية إلى أن الرأي للأمير والفقرة الأخيرة منها تؤكد عدم التقيد برأي الغير.
قال تعالى «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فيما بعد كما نصركم في بدر «فَلا غالِبَ لَكُمْ» البتة «وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ» كما وقع لكم في أحد «فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» أي لا أحد أبدا «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (160) لا على غيره وقد بينا ما يتعلق بالتوكل في الآية 40 من سورة الواقعة في ج 1 ، ولم تنته بعد الآيات النازلة في واقعة أحد إذ لم يذكر اللّه في حادثة مثل ما أنزل فيها لأنها أول فاجعة أصابت المسلمين.
وما قيل إن هذه الآيات الأخيرة بعد آية الرّبا نزلت في حادثة بدر لا صحة له ولا ينطبق على شيء منها
وإنما الآية الآتية قد يكون لها علاقة في غنائم بدر فقط وهي قوله تعالى «وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ» أي ما صح ولا استقام لأي نبي أن يخون في الغنائم البتة لمنافاته مرتبة النبوة التي هي أعلى المراتب وأسمى الكمال الإنساني وأشرفه ، وهذا للامتناع العقلي مثله في قوله تعالى (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) الآية 25 من سورة مريم وقوله (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) الآية 60 من سورة النمل في ج 1 ، وقرئ يغل على البناء للمجهول على أنها من أغللته إذا نسبته للغلول كما تقول أكفرته إذا نسبته للكفر قال الكميت :
وطائفة قد أكفرتني بحبكم وطائفة قالت مسيء ومذنب
أي لا يجوز لأحد أن ينسبه للغلول «وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» حاملا له على عنقه في النار ليزداد فضيحة «ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» إن خيرا فخير وإن شرا فشر «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (161) فتيلا من جزاء أعمالهم والصحيح أنها أيضا في حادثة أحد لأن الرماة لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن يقول الرسول من أخذ شيئا فهو له كما فعل في بدر ، وهذا الذي حدا بهم إلى ترك مراكزهم لا غير فعاتبهم الرسول وقال لهم أظننتم ذلك فيّ(5/422)
ج 5 ، ص : 423
فأنزل اللّه هذه الآية.
قال تعالى «أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ» كالمهاجرين والأنصار الذين جاهدوا ولم يبرحوا مكانهم ولم يتركوا رسولهم «كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ» أي رجع من ساحة الحرب لخذلان الرسول وأصحابه وهم المنافقون المار ذكرهم «وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (162) هي لأهلها لأن عبد اللّه ابن سلول وأصحابه ماتوا على الكفر وان المعبر عنهم برضوان اللّه «هُمْ» الذين اتبعوا الرسول لأن رضاء اللّه باتباعه صلّى اللّه عليه وسلم «دَرَجاتٌ» في التفضيل عند اللّه والذين تخلفوا عنه باءوا بسخط اللّه فهم دركات في غضبه والكل منهم متفاوتون «عِنْدَ اللَّهِ» في الثواب والعقاب «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (163) عليم بما يستحقه كل منهم ، لأن البصير لا تخفى عليه خافية مهما دقت وخفي حجمها وأمرها ، قال تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ» فأحسن وتفضل وأنعم «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» خاصة والعرب عامة «إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» من جنسهم ولسانهم وليسهل عليهم الأخذ منه وليثقوا به ، قال أبو طالب في خطبة خديجة رضي اللّه عنها إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم : الحمد للّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وضئضىء معد ، وعنصر مضر ، وجعلنا سدنة بيته ، وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، وإن ابني هذا محمد بن عبد اللّه لا يوزن بفتى إلا رجح ، وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل ، وقد صدق واللّه رحمه اللّه وحقق فراسته ، إذ أرسله إليهم «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ» من دنس الشرك ودرن الخبث ونجاسة المحرمات ووسخ الأرجاس «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» في تضاعيف تعليمهم مدارك آيات اللّه المنزلة عليه ومعاني السنة التي يسنها لهم «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ» بعثته إليهم «لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (164) لا يخفى على أحد.
قال تعالى «أَ وَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ» بحادثة أحد من هزيمتكم وقتل خمسة وسبعين من رجالكم فإنكم «قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها» من أعدائكم يوم بدر إذ قتلتم سبعين وأسرتم سبعين وهزمتموهم أيضا يوم أحد أولا وقتلتم منهم نيفا وعشرين عدا الجرحى «قُلْتُمْ أَنَّى هذا» أي كيف نغلب ولم أصابنا هذا وقد وعدنا النصر ، ومن أين جاءنا هذا الخذلان(5/423)
ج 5 ، ص : 424
والرسول معنا «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إن هذا الانكسار «هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» بسبب مخالفتكم رأي رسولكم أولا بالخروج ، إذ كان رأيه البقاء بالمدينة حتى يجابهوهم فيها فيقاتلهم ، وثانيا مبارحتكم أمكنتكم التي أمركم الثبات فيها في ساحة الحرب وحذركم وقال لكم إذا رأيتمونا تخطفنا الطير أو رأيتمونا هزمناهم ووطأناهم فلا تتركوها ، ولذلك خذلتم «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (165) ومن قدرته قدر خذلانكم على مخالفتكم تلك ولم ينصركم عليهم تأديبا لكم كي لا تعودوا لمثلها «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» من قتل وهزيمة في هذه الحادثة «فَبِإِذْنِ اللَّهِ» وإرادته وتقديره «وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ» (166) منكم من يصبر على الأذى في سبيل اللّه ، ومن يجزع ويظن باللّه ما لا يليق به ، أي يختبر اللّه ذلك منهم فيظهره لعباده «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا» فيظهر نفاقهم للناس أيضا ويفضحهم بينهم ، وإلا فإن اللّه عالم بذلك كله ومدون في أزله ، وإن ما وقع هو طبق علمه.
وكلمة النفاق لم تعرفها العرب قبل ، أخذت من نافقاء اليربوع ، لأن حجره له بابان إذا طلب من أحدهما هرب من الآخر ، فوضع في الإسلام علامة على تلك الطائفة التي تبطن الكفر وتظهر الإسلام وتكمن الغيظ والبغض وتعلن الرضاء والمودة وتضمر الحقد والحسد وتجهر بخلافهما «وَقِيلَ لَهُمْ» والقائل هو جابر بن عبد اللّه بن جزام الأنصاري والمقول له عبد الله
أبي سلول وأصحابه «تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ» أعداء اللّه إعلاء لكلمة اللّه «أَوِ ادْفَعُوا» الأعداء عن المجاهدين إخوانكم وكثروا سوادهم إن لم تقاتلوا «قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» ولم نرجع ، وقال عبد اللّه ما ندري علام نقاتل أنفسنا «هُمْ» المنافقون القائلون هذا القول «لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ» يوم مقالتهم هذه لجابر جوابا لقوله يا قوم اذكروا اللّه فلا ترجعوا وتخذلوا نبيكم عند حضور عدوه «أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ» لأنهم أظهروا نفاقهم وجاهروا بعنادهم وكانوا «يَقُولُونَ» كلمة الإيمان أمام الأصحاب «بِأَفْواهِهِمْ» قولا خارجيا «ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» المحشوة بالكفر الخالية من الإيمان «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» (167) في قلوبهم قبل تكلمهم بالإيمان نفاقا ، وهؤلاء هم «الَّذِينَ(5/424)
ج 5 ، ص : 425
قالُوا لِإِخْوانِهِمْ»
المنافقين في المدينة «وَقَعَدُوا» عن الجهاد بقصد خذلان الرسول ، ثم بين ما قالوه لإخوانهم بقوله «لَوْ أَطاعُونا» أولئك المؤمنون الذين خرجوا مع الرسول وقعدوا معنا «ما قُتِلُوا» في واقعة أحد فرد اللّه عليهم بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل «فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (168) أن قعودكم يمنعكم منه لأن المقتول ميت بعمره ، وإذا كان الموت لا بد منه فليمت العاقل في سبيل اللّه ، راجع الآية 158 المارة.
وتفيد هذه الآية أن المنافق شر من الكافر ، وأن الحذر لا يغني عن القدر ، وأن الموت في سبيل اللّه أشرف من الموت على الفراش وهو كذلك.
مطلب في حياة الشهداء ، وخلق الجنة والنار ، وقصة أهل بنو معونة ، وما قاله معبد الخزاعي :
قال تعالى «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً» كغيرهم ينقطع ذكرهم بالدنيا كلا «بَلْ أَحْياءٌ» يخلد ذكرهم فيها بما نالوه بسببه من الشهادة في الذب عن دينهم وعرضهم وبلادهم وكيانهم ، لذلك يبقى ذكرهم الحسن شائع في الدنيا وفي الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (169) رزقا كريما لا نعرفه كما أن حياتهم حياة لا نعقلها ، إذ اختصهم اللّه بها ، لا نطلع على كنهها بالحس ، ولا ندركها بالبصر ، لأنها من أحوال البرزخ ، ولا طريق للعلم بها إلا الاعتقاد الجازم بما ذكره اللّه ، فلو رأيتهم أيها الرائي هناك «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» من الكرامة والإحسان والنعيمه يفرحون «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» من إخوانهم الأحياء بأنهم إذا نالتهم الشهادة ولحقوهم إلى دار العزة يكونون مثلهم ، وإذا رأيتهم تيقنت «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من أحوال الآخرة «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (170) على ما فاتهم من الدنيا لأن الخير الذي رأوه أنساهم إياها
«يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ» والتنوين في هاتين النكرتين يدل على التكثير فيكون المعنى نعمة كبيرة وفضل عظيم بما رزقوا من خير مقيم ، كما أنهم يستبشرون لإخوانهم المار ذكرهم.
ولا تكرار هنا لأن الأول لغيرهم والثاني لهم «وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» (171)(5/425)
ج 5 ، ص : 426
الآخرين الذين جاهدوا ولم يتوفقوا للشهادة لأنهم سعداء مدّ اللّه في آجالهم ليكثر ثوابهم ، فلهؤلاء ما ذكر اللّه ، أما الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر أقعدهم أو أمر من الرسول بالبقاء للمحافظة على المدن ومن فيها من العاجزين والأطفال والنساء والقيام بشئونهم فإن اللّه تعالى يثيبهم على حسب نياتهم وإخلاصهم.
روى البخاري ومسلم عن مسروق قال : سألنا عبد اللّه بن عمر عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ) إلخ فقال أما انا قد سألنا عن ذلك (يدلّ على أن هذا الحديث مرفوع) فقال (يعني محمد صلّى اللّه عليه وسلم) أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال هل تشتهون شيئا ؟
قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا ، ففعل ذلك بهم ثلاثا ، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا ، قالوا يا رب نريد أن ترد علينا أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى (وهو راء) أن ليس لهم حاجة تركوا.
هذا إخبار اللّه ورسوله عن المقتول في سبيل اللّه بأنه حي ، وعليه فلا يجوز الدخول في هذا وأمثاله بالعقل ، فإن العقل لمثله عقال يفسد ولا يصلح ، بل يجب الدخول على هذا وأمثاله بالإيمان الصرف الذي من ورائه الإيقان الذي من ورائه العيان ، فالعقل هذا كالملح المفسد لبعض ، المصلح لآخر ، تأمل وتروّ وتأنّ ، ولا تقل هنا بالتأني تضيع الفرص واللّه يرشدك للصواب ، راجع ما قدمناه في نظير هذه الآية الآية ، 151 من سورة البقرة المارة.
واعلم أن في هذا الحديث دلالة على وجود الجنة وأنها مخلوقة خلافا لمن قال بخلافه ، ودليل أيضا على عدم فناء الروح ، وعلى أن المحسن ينعم في الآخرة وفي البرزخ ، والمسيء يعذب فيهما ، وهذا هو المذهب الحق ، وإن ما جاء في هذا الحديث ليس بمستحيل على اللّه لأنه قادر على أن يصوّر أرواحهم على هيئة الطير.
أما القول بحياة الجسد فهو وإن لم يكن بعيدا على من يحيي العظام وهي رميم ويخلق البشر من النطفة وآدم من الطين وحواء من اللحم وعيسى من غير أب ، وكون هذا الكون علويه وسفليه بلفظ كن ، إلا أنه لم تجر عادة اللّه جلت قدرته بذلك ، وليس فيه مزيد فضل أو عظيم منّة ، ولا إليه حاجة ، بل فيه ما فيه من إيقاع الشكوك والأوهام ، (5/426)
ج 5 ، ص : 427
وتكليف ضعفة المؤمنين بالإيمان به دون جدوى.
وما حكي عن مشاهدة بعض الشهداء الأقدمين كاملي الأجساد وأن قروحهم تشخب دما عند رفع أيديهم عنها أو نقلهم من محلهم فلعله مبالغة أو حديث خرافة عند بعض الناس الذين يعدون ناقله أو قائله في هذا الزمن من سفهة الأحلام وسخفاء العقول ، راجع الآية 43 من سورة الزمر في ج 2 وما تشير إليه من المواضع التي لها علاقة لما في هذا البحث وإلى هنا انتهت الآيات النازلة في حادثة أحد.
وما قيل إن هذه الآية الأخيرة نزلت في شهداء بدر لا يصح ، لأن الذي نزل فيهم هي آية 154 من سورة البقرة المارة.
وقال بعض المفسرين إنها نزلت في أهل بئر معونة ، ويستدل بما رواه البخاري ومسلم قال : بعث رسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر ، وفي رواية : بعث خالي أخا لأم سليم واسمه خزام ، في سبعين راكبا ، فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن آمنوني حتى أبلغهم عن رسول اللّه وإلا كنتم مني قريبا ، فتقدم ، فأمنوه ، فبينما هو يحدثهم عن رسول اللّه إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه ، فأنقذه ، فقال اللّه أكبر فزت ورب الكعبة ، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلا منهم أعرج صعد الجبل ، قال همام وأراه آخر معه ، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم ، فرضي عنهم وأرضاهم ، قال فكنا نقرأ (أن بلغوا عنا قومنا أن لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) وهذا إن صح فهو من كلام جبريل لحضرة الرسول وليس من القرآن ، إذ لو كان منه لأثبت فيه ، وقد ذكرنا أن كل ما هو من هذا القبيل ليس من القرآن ، يدل على هذا قوله) ثم نسخ بعد (أي أنهم نهوا عن قراءة تلك الجملة) فدعا عليهم رسول اللّه أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني عصبة الذين عصوا اللّه ورسوله.
وفي رواية.
رعلا وذكوان وبني لحيان استمدوا لرسول اللّه بسبعين رجلا من الأنصار كنا نسيهم القراء في زمانهم ، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل ، حتى إذا كانوا ببئر معونة (أرض ببني عامر وحرة بني سليم) قتلوهم وغدروا بهم ، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقنت عليهم شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصيه وبني لحيان ، قال أنس فقرأنا فيهم قرآنا ثم رفع (أي ما ذكر أعلاه) وليس(5/427)
ج 5 ، ص : 428
بشيء إذ ليس كل ما يخبر به جبريل حضرة الرسول يكون قرآنا ، أما قوله فكنا نقرأ فهو عبارة عن تكرار ما قاله جبريل عليه السلام لحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام بشأنهم ، وقراءته حكايته ، إذ لو كان قرآنا لدون في
الصحف كغيره فيما كان يكتب عليه التي كانت في بيت عائشة ثم حفصة التي نقلها القراء في زمن عثمان إلى المصاحف ، وحفظت كغيرها من قبل الكتبة ، لذلك فلا معنى لقوله ثم نسخ ، يدل عليه عدم بيان ما نسخ به ، إذ لكل منسوخ ناسخ بما يدل على أن ذلك ليس من القرآن ، ومن هنا شرع القنوت عند نزول كل حادثة بالمسلمين في الصلوات.
وفي رواية لمسلم : جاء أناس إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فسألوه أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة ، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار وذكر نحو ما تقدم ، وذلك في شهر صفر السنة الرابعة من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ، وهذا الخبر على فرض صحته كما جاء ليس نصا في سبب النزول ، إذ قيل إن الذي نزل فيهم هو قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ) الآية المارة ، وكذلك لا يكاد يصح لأن السبب في نزولها قد ذكرناه في الآية 127 المارة ، وقد بينا غير مرّة أن لا مانع من تعدد الأسباب ، وأن آية واحدة قد تكون لعدة حوادث ، واللّه أعلم.
قال تعالى «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» وسارعوا بالإجابة «مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» (172) عند اللّه لانقيادهم لأمر رسولهم.
نزلت هذه الآية في غزوة حمراء الأسد بعد الانصراف من غزوة أحد ، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها في هذه الآية قالت لعروة يا ابن أختي كان أبوك منهم والزبير وأبو بكر لما أصاب نبي اللّه ما أصاب يوم أحد وانصرف المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم ؟ فانتدب منهم سبعون رجلا كان فيهم أبو بكر والزبير ، قال فمر برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك ، فقال يا محمد واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك ، ولوددنا أن اللّه أعفاك فيهم ، ثم خرج معبد من عند رسول اللّه حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء ، وقد أجمعوا(5/428)
ج 5 ، ص : 429
على الرجعة إلى رسول اللّه وقالوا قد أصبنا جل أصحابه وقادتهم لنكرّن على بقيتهم ولنفرغنّ منهم ، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراءك يا معبد ؟ قال محمد قد خرج عليكم بطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا ، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم ، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ، قال أبو سفيان ما تقول ؟ قال واللّه ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل ، قال فو اللّه لقد أجمعنا على الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم ، فقال واللّه إني أنهاك عن ذلك ، فو اللّه لقد حملني ما رأيت على أن قلت أبياتا قال وما قلت ، قال قلت :
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
توري بأيد كرام لا تبابلة عند اللقاء ولا ميل معاذيل
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغطغطت البطحاء بالخيل
أتى نذير لأهل السيل ضاحية لكل ذي اربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وحش تقابله وليس يوصف ما أنذرت بالفيل
قالوا فثنى ذلك أبو سفيان ومن معه.
ومن هنا يعلم أن الكذب لمصلحة جائز كما بينته في الآية 26 من سورة الأحزاب الآتية ، وبأثناء هذا مر ركب من عبد القيس فقال أين تريدون ؟ قالوا المدينة لأجل الميرة ، قال فهل أنتم مبلغون عنا محمدا رسالة وأحمل لكم آبالكم زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا نعم ، قال إذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، وانصرف أبو سفيان إلى مكة.
مطلب غزوة حمراء الأسد ، وبدر الصغرى ، وأحاديث في فضل الجهاد والرباط :
ومرّ ركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه حسبنا اللّه ونعم الوكيل ، ثم انصرف رسول اللّه راجعا إلى المدينة بعد ثالثة ، فنزل قوله تعالى «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ» أي ركب عبد القيس المار ذكره «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» يعني أبا سفيان وقومه «فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ» هذا القول «إِيماناً» على إيمانهم وفي هذه(5/429)
ج 5 ، ص : 430
الجملة دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص كما بيناه في الآية الثانية من سورة الأنفال المارة «وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (173) قال عكرمة نزلت هذه الآية في بدر الصغرى ، لأن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى نقابل إن شئت ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم بيننا وبينك ذلك إن شاء اللّه ، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بمجنة من ناحية مرّ الظهران ، فألقى اللّه الرعب في قلبه فبدا له الرجوع ، وفي خلف وعده هذا قال عبد اللّه بن رواحة :
وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا لأبت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول اللّه أف لدينكم وأمركم الشيء الذي كان غاويا
وأني وإن عنفتموني لقائل فدّى لرسول اللّه أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا ، فقال له أبو سفيان يا نعيم إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي يوم بدر الصغرى ، وهذا عام جدب ، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن وبدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا ، فيزيدهم ذلك جرأة ، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي ، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا ، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يد سهل ابن عمرو وهو يضمنها لك وبعد أن استدعاه وتعهد له بذلك أتى المدينة فوجد الناس متجهزين لميعاد أبي سفيان ، فقال لهم لو عدلتم عن خروجكم لكان خيرا لكم ، إني واللّه قد رأيتهم وما أعدوه لكم ، واللّه لإن أتوكم في دياركم وقراركم لم يفلت منكم إلّا الشريد ، أفتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم ما ليس لكم بطاقة لمقابلته ، وو اللّه إن أخذوا بكم لا يفلت منكم أحد.
فكره أصحاب الرسول الخروج ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي ، فرجع الجبان وتأهب(5/430)
ج 5 ، ص : 431
الشجاع ، وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل ، فخرج في أصحابه حتى وافوا بدرا ، وأقاموا فيها ، ولما قضي الموسم ولم يحضر أبو سفيان وأصحابه وكان معهم تجارات ونفقات فباعوها وربحوا بالدرهم اثنين وكان مدة سوق بدر ثمانية أيام ، وسيأتي لهذه الغزوة بحث في الآية 47 من سورة النساء الآتية إن شاء اللّه ، وعليه فإن سياق الآية يفيد الارتباط بما قبلها ، وإنها قصة واحدة ، وقد يجوز الوجه الآخر ، واللّه أعلم.
روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا) أي الفقرة الأخيرة فيها وهي (حَسْبُنَا اللَّهُ) إلخ قالها إبراهيم حين ألقي بالنار ، وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ، ويؤيد الحادثتين قوله تعالى «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» (174) وعلى اعتبار نزولها في بدر الصغرى يكون المراد بالناس أبا نعيم هذا إذ يجوز في لسانهم إطلاق الناس على الواحد باعتبار أنه إذا قال قولا ورضي به غيره ، حسن إضافة ذلك القول إليهم كلهم ، وعليه يكون قوله تعالى «إِنَّما ذلِكُمُ» الذي خوفكم بجمع أبي سفيان هو «الشَّيْطانُ» أبو نعيم الذي رشاه أبو سفيان بعشرة من الإبل على أن يفتري تلك الفرية ولم يفز ببغيته ، وقد خسر الدنيا والآخرة ، وعلى المعنى الأول ركب عبد القيس الذي مرت الإشارة إليه في الآية 172 وهي المعبر عنه بالشيطان الذي «يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ» المنافقين إخوان المشركين «فَلا تَخافُوهُمْ» أيها المؤمنون لأنهم ضعفاء لا يستنصرون باللّه ولا يعتمدون عليه ، وكذلك المنافقون الّذين يأخذون بقوله ، جبناء ، لا يثقون باللّه ويشكون في وعده ودعوة نبيه ، فانبذوهم «وَخافُونِ» أنا وحدي الجبار القاهر عظيم البطش «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (175) بي وبرسولي ، ثم التفت يخاطب سيد المخاطبين بقوله «وَلا يَحْزُنْكَ» يا حبيبي «الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» من المنافقين والمشركين فإنهم لا يضرونك واللّه معك «إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بمسارعتهم لقتالك الذي هو نفسه كفر ، وإنما يضرون أنفسهم «يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ» ويكلهم إلى الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (176) لا تطيقه قواهم لأنه من إله عظيم.(5/431)
ج 5 ، ص : 432
هذا ، وعلى القول الأول تكون هذه الآية آخر قصة أحد لأنها متعلقة بما قبلها ، وغزوة حمراء الأسد تبع لها وعلى الثاني يكون آخرها قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ومن قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) الآيات إلى هنا تعتبر نازلة في واقعة بدر الصغرى ، واللّه أعلم.
روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : لغدوة في سبيل اللّه أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
ورويا عن سهل بن سعد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدنيا وما فيها ، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
ورويا عن أبي سعد قال : أتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أي الناس أفضل ؟
قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل اللّه ، قال ثم من ؟ قال رجل في شعب من الشعاب يعبد اللّه تعالى ، وفي رواية يتقي اللّه ويدع الناس شره.
ورويا عن أنس بن مالك قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال ما بأحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما في الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : يغفر اللّه للشهيد كل ذنب إلا الدين.
راجع ما يتعلق في بحث الدين في الآية 280 من البقرة المارة.
وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته.
وأخرج الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما يجد الشهيد مس القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرحة.
وروى البخاري عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من احتبس فرسا في سبيل اللّه ، الحديث تقدم في الآية 60 من سورة الأنفال المارة ومعه أحاديث كثيرة في هذا البحث.
وأخرج الترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبد اللّه قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل ، فإنه ينمّي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر.
ورويا عن سهل بن سعد المذكور من الحديث الثاني في هذه الأحاديث المارة بزيادة : والروحة يروحها العبد في سبيل اللّه أو الغدوة خير من الدنيا وما فيها.
وروى مسلم عن سلمان قال :
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن(5/432)
ج 5 ، ص : 433
مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ» أي المنافقين لأنهم كفروا بعد إيمانهم فغبنوا وخابوا وخسروا أنفسهم لأنهم ببيعتهم الخاسرة «لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بل خسروا أنفسهم وحدها في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (177) في الآخرة ، ولا تكرار في جملة (لن يضروا اللّه) وفي جملة (ولهم عذاب أليم) لأنها في الآية الأولى في جميع الكفار وهذه في المنافقين المتخلفين فقط وتلك مختومة بلفظ عظيم وهذه بلفظ أليم.
قال تعالى «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بتاء الخطاب لحضرة الرسول وبالياء على الغيبة لعموم الكفار ، ولا يخصصها قول من قال إنها نزلت بالمشركين وبعض يهود بني قريظة والنضير الذين سبق ذكرهم وسبق في علم اللّه عدم إيمانهم «أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ» نمهلهم ونؤخرهم ليعتقدوا أن ذلك «خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ» كلا لا يظنوا ذلك بل هو شر لهم بدليل قوله عز قوله «إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» فتكثر أوزارهم في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (178) في الآخرة ينسون بكبير هوانه عز الدنيا وما فيها لو كانت كلها لهم.
روى البغوي بسنده عن عبد الرحمن عن أبيه قال : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله ، قيل فأي الناس شر ؟ قال من طال عمره وساء عمله.
وقال ابن الأنباري : قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا رأيت اللّه يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من اللّه لخلقه ، ثم تلا هذه الآية.
قال تعالى «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» بحيث لم يعرف المخلص من غيره «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» وذلك أن المؤمنين سألوا رسول اللّه آية يعرفون بها المخلص من المنافق ، فأنزل اللّه هذه الآية أي لم يترككم على هذا الاختلاط والالتباس بل لا بد وأن يبين المؤمن الموقن والكافر المصر.
وهذا بعد واقعة أحد ، لأن المؤمن ثبت على إيمانه وازداد إخلاصا ، والمنافق جاهر في نفاقه وازداد كفرا فظهر للناس حال الطرفين «وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» أيها المؤمنين توا لتميزوا بين الطرفين لأن هذا من الغيب وهو من خصائص اللّه.
واعلم أن فعل يذر لا ماضي له ، راجع الآية 278 من البقرة المارة ، ت (28)(5/433)
ج 5 ، ص : 434
ولا تنوهموا أن رسولكم يعلم شيئا دون تعليمنا إياه لأن شأنه في الغيب شأن غيره «وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» فيطلعه على ما يشاء من غيبه دلالة على نبوته لخلقه لئلا يبطنوا له خلاف ما يظهرونه «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» كلهم محمد فمن قبله «وَإِنْ تُؤْمِنُوا» بالرسل كلهم «وَتَتَّقُوا» جميع ما نهيتم عنه «فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (179) من الرب العظيم الذي يعطي العظيم «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة على كفايتهم «هُوَ خَيْراً لَهُمْ» كلا أيها الإنسان الكامل «بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ» بالدنيا بالذم وبالآخرة سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ» على رءوس الأشهاد «يَوْمَ الْقِيامَةِ» فيراهم أهل الموقف ، لأنهم لم ينفقوا ما أعطيناهم في طرق الخير ثم تركوه لغيرهم وتحملوا عقابه «وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لأن أهلهما يموتون وهو الباقي الوارث لهم «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (180).
مطلب في الزكاة وعقاب تاركها ، وتحذير العلماء من عدم قيامهم بعلمهم ، وحقيقة النفس :
نزلت هذه الآية في مانعي الزكاة بدليل تشديد الوعد فيها ، لأن منع صدقة الشرع لا تستلزم هذا التهديد ، يؤيد هذا ما جاء في تخريج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من آتاه اللّه مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاع أقرع (حية عظيمة) له زبيبتان (شعرتان في لسانه) بطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهمزتيه (شدقه) ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية.
وهذا الحديث مفسر لقوله تعالى (سيطوقون ما بخلوا به) وروى البخاري عن أبي ذر قال : انتهيت إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة ، قال فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت (وهذا من كمال أدبه رضي اللّه عنه إذ لم يرد أن يتجاسر على سؤال حضرة الرسول وهو قاعد) ومن هنا ين التمسك بالأدب مع العلماء لمن يسألهم عن أمر دينه أكثر من غيرهم ، فقلت يا رسول اللّه فداك أبي وأمي من هم ؟ قال الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ، ما من(5/434)
ج 5 ، ص : 435
صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت عليه وأسمن تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس - لفظ مسلم - وخرجه البخاري بمعناه في موضعين ، وتتمة هذا الحديث تأتي بالآية 26 من سورة التوبة الآتية.
هذا ومن قال إن هذه الآية نزلت في الذين يكتمون نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلم من اليهود وغيرهم فقد ذهل القصد وأغفل المطلوب وأخطأ المرمى ، لأن اللّه تعالى لما بين الباذلين أموالهم وأنفسهم في الجهاد أتبعه في الباذلين المال لأنه من لوازم الجهاد وضرورياته ، وقد سبقت آيات كثيرة في الكاتمين نعت الرسول ، فلا حاجة لأن تؤول غيرها على خلاف ظاهرها ولا نجهد الفكر بأن هذه ناسخة وهذه منسوخة من حيث لا ناسخ ولا منسوخ كما اعتاد بعض المفسرين حتى تجارءوا على مخالفة ظاهر التنزيل بلا جدوى ، وحتى ان بعضهم جرؤا على النظم الكريم مثل صاحب الجمل عفا اللّه عنه ، راجع الآية 5 من سورة الحج الآتية وما ترشدك إليه من سورة يونس في ج 2 ، ألا فليحذر العالم أن يخرج عن حد الاعتدال اغترارا بما آتاه اللّه من ذرة علم ، فكثير ممن هو أعلم منه وأعلم هوى به علمه إلى أسفل سافلين ، أعاذنا اللّه تعالى من ذلك ووقانا ممّا هنالك.
قال تعالى «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ» نكتب أيضا «قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ» من قبل أسلافهم «بِغَيْرِ حَقٍّ» عدوانا محضا «وَنَقُولُ» لهم في الآخرة عند ما يطرحون بالنار ويستغيثون بنا فيها «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» (181) فيها «ذلِكَ» العذاب الشديد ينالكم «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» من أعمال منكرة «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (182) فلا يعذب أحدا بلا جرم ، قال دخل أبو بكر رضي اللّه عنه بيت المدارس فقال لحبر اليهود فنخاص بن عازوراء على ملإ من قومه قد جاءكم محمد بالحق من عند اللّه تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فاتق اللّه وآمن وصدق واقرض اللّه قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب ، فقال يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض إذن هو الفقير ونحن أغنياء ، فغضب أبو بكر وضربه وقال والذي نفسي بيده لو لا العهد الذي بيننا وبينكم(5/435)
ج 5 ، ص : 436
لضربت عنقك يا عدو اللّه ، فذهب وشكاه إلى الرسول فاستدعاه وقال ما حملك يا أبا بكر على ما صنعت ؟ قال يا رسول اللّه إنه قال قولا عظيما ، زعم أن اللّه فقير وهم أغنياء ، فجحد فنخاص ذلك ، فأنزل اللّه هذه الآية تكذيبا له وتصديقا لأبي بكر ، وقد سمع اللّه قول «الَّذِينَ قالُوا» أي فنخاص المذكور وأضرابه لمالك بن الصيفي ووهب بن يهوذا وزيد بن تابوت وحيي بن أحطب وكعب بن الأشرف «إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا» في التوراة على لسان موسى «أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ» آية نبوته حتى نصدقه كما وقع لابن آدم هابيل ومن بعده من الأنبياء فأنزل اللّه جل جلاله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ» كزكريا ويحيى وعيسى «وَبِالَّذِي قُلْتُمْ» من القربان وغيره «فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ» بعد أن أتوكم بما طلبتم منهم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (183) في دعواكم «فَإِنْ كَذَّبُوكَ» يا حبيبي في هذا مع علمهم بصدقه فلا تحزن ولا تضجر «فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» نوح وصالح وهود وإبراهيم وغيرهم مع أنهم «جاؤُ بِالْبَيِّناتِ» لأقوامهم «وَالزُّبُرِ» الكتب ، يقال لكل كتاب فيه حكمة زبور ، والقربان لكل ما يتقرب به ، والزبر هي الكتب وبه سمي زبور داود عليه السلام ، لأنه يزبر به الناس أي يزجرهم عن الباطل ويدعوهم إلى الحق «وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ» (184) الواضح كالتوراة والإنجيل ويطلق القربان على كل عبادة مالية أو بدنية وعلى الأقوال والأفعال المادية والمعنوية يدل على هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم : الصوم جنة والصلاة قربان وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل فإذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جمعوها فتجيء نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة ، فيكون دليلا على القبول ، وإذا لم يقبل منهم يبقى على حاله ولم تنزل عليه نار تأكله.
ولهذا البحث صلة في الآية 27 من سورة المائدة الآتية قال السدي إن اللّه تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة أن من جاءكم يزعم أنه رسول فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار ، وحتى يأتيكم المسيح ومحمد ، وكانت هذه العادة باقية إلى بعثة المسيح ، ثم ارتفعت وزالت.
ولما قال بعض الأصحاب(5/436)
ج 5 ، ص : 437
يا رسول اللّه إن اللّه أنزل (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) وهذا خاص في بني آدم لأن الخطاب لهم فأين ذكر موت الجن والأنعام والوحوش والملائكة والطيور وغيرها ، فأنزل اللّه كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها التهديد للكفرة بالمعاد ، وهذه الجملة مكررة في الآية 25 من سورة الأنبياء والآية 27 من سورة العنكبوت في ج 2 وفي غيرهما أيضا ، أي لا ليهمنك تكذيبهم فمرجعهم إليّ بعد الموت وسأجازيهم على تكذيبهم وأكافئك على صبرك بدلالة قوله «وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» قليلها وكثيرها خفيها وظاهرها «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» بالسعادة الأبدية لأن كل أحد قبل الدخول فيها خائف فزع منتظر ما يفعل به.
ومن هنا يعلم حقيقة ما ذكرناه في الآية 45 من سورة الأعراف ج 1 بأن لا دار غير الجنة والنار «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (185) لمن آثرها على الآخرة أما من طلبها للآخرة فهي متاع بلاغ لها جائز طلبه ، والمتاع كل ما يمنع به الإنسان من مال أو غيره ، والغرور كل ما يغتر به أنه دائم وهو بال فإن ، شبّه الدنيا بمتاع معيب دلّسه البايع على المشتري حتى إذا ظهر له عيبه وتبين غبنه فيه ندم ، لأنه غرّ به.
واعلم أن العلماء اختلفوا في حقيقة النفس والروح فمن قائل إنهما اسمان مترادفان لمعنى واحد ، وعرّفوه بأنه جسم لطيف له مادة خاصة خلق منها وجعل على شكل معين وصورة معينة توجد داخل هذا البدن وهو مخالف لماهيته وينفذ في الأعضاء ويسري فيها سريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم ، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم مشابها لهذه الأعضاء وأفادها منه الحسّ والحركة الإرادية وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها خرجت عن قبول تلك الآثار وفارقت الروح البدن فانتقلت إلى العالم الثاني.
ولا يجاريهم في هذا الرأي بعض أهل العلم والتصوف الذين يقولون إن للإنسان غير بدنه حياة وروحا ونفسا ، وإن ما سبق من التعريف إنما ينطبق على النفس فقط لا على الروح ، أما الروح فقال بعضهم ما قاله اللّه عز وجل (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الآية 86(5/437)
ج 5 ، ص : 438
من سورة الإسراء ج 1 لأن اللّه أخفى حقيقتها وعلمها عن خلقه.
وقال بعضهم إنها نور من نور اللّه وحياة من حياته.
وقال بعضهم إنها معنى مرتفع عن الوقوع تحت النسق واللون ، وإنها جوهر بسيط مثبت في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير ، وانه لا يجوز عليه صفة قلة ولا كثرة ، وهي على ما وصفت من انبعاثها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية ، وانها في كل حيوان العالم بمعنى واحد ، فلا طول لها ، ولا عرض ، ولا عمق ، ولا لون ، ولا بعض ، ولا وزن ، ولا هي في العالم ولا خارجة عنه ، ولا مجانبة ، ولا مباينة ، وتعلقها بالبدن لا بالحلول فيه ، ولا بالمجاورة ، ولا بالمساكنة ، ولا بالالتصاق ، ولا بالمقابلة ، وإنما هو بالتدبير له فقط ، وما الحياة إلا المظهر الخارجي للدلالة على وجود الروح.
هذا وإن الباحث في القرآن عن حقيقة الأمر يرى أن اللّه سبحانه قد أطلق النفس على الذات بجملتها كما في قوله تعالى (فسلموا على أنفسكم) الآية 61 من سورة النور الآتية ، وقوله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) الآية 28 من سورة النساء الآتية ، وقوله تعالى (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) الآية 111 من سورة النحل في ج 2 ، وقوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) الآية 38 من سورة المدثر في ج 1 إلى غيرها من الآيات ، ولم تطلق الروح بالقرآن على البدن ولا على النفس ولا عليهما معا ، وإنما أطلق الروح في القرآن على الوحي الإلهي في قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) الآية 53 من الشورى ج 2 وقال (يلقي الروح من أمره على من يشاء) الآية 61 من سورة المؤمن أيضا وأطلقت أيضا على القوة في قوله تعالى (وأمدهم بروح منه) الآية 22 من سور المجادلة الآتية ولم تقع تسمية روح الإنسان في القرآن إلا بالنفس قال تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة) الآية 28 من سورة والفجر ، وقال (ولا أقسم بالنفس اللوامة الآية الثانية من سورة القيامة ، وقال تعالى (ونفس وما سواها) في ج 1 ، وقال تعالى (إن النفس لأمارة بالسوء) وقال (أخرجوا أنفسكم اليوم) الآيتين من سورة يوسف و93 من سورة الأنعام في ج 2 ، والآية المارة (كل نفس ذائقة الموت) وغيرها من أول سورة النساء الآتية وشبهها.
إلا أن الثابت في القرآن(5/438)
ج 5 ، ص : 439
والسنة أن النفس ذات قال بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن ، وقد وصفها اللّه تعالى بذلك بآيات متعددة ، فقال جل قوله (والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم) وقال (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) الآيتين المشار إليهما أعلاء وما ضاهاهما من الآيات ، مما يدل ذلك ، وأن حضرة الرسول سئل عن الروح فأنزل اللّه (قل الروح من أمر ربي) الآية المارة أيضا ، ولم يسأل عن النفس ولم يخبر عنها أنها جوهر أم عرض ، وأن قوله تعالى (اللّه يتوفى الأنفس) الآية 42 من سورة الزمر ج 2 لأكبر برهان على النفس غير الروح وأن الوفاة بمعنى القبض للنفس ، وأنه يفقد عاقليتها وشعورها ، وأما الموت فهو للبدن بانتزاع الروح منه ، فيتخلص من هذا كله أن الإنسان مكوّن من جوهرين فقط هما النفس وهي الجوهر الشفاف الذي لا يرى وهي الأصل في الإنسان وهي موضع التكليف والسؤال والثواب والعقاب.
الثاني البدن وهو الهيكل الجثماني والمظهر الخارجي لها ، وعليه فتكون الروح أمرا خارجيا عن تكوين الإنسان إلا أنه قائم به ، ومظهرها الخارجي الحياة ، لأن الروح قوة إلهية خصصت لحركة المخلوقات ونحوها ، فهي موجودة في كل إنسان وحيوان وشجر ، تبعث فيهم الحياة والنشاط ، فهي أشبه بقوة الكهرباء ، لأن وسائل توليدها ظاهرة ومظهرها في الخارج واضح ، إلا أن حقيقتها سرّ من أسرار اللّه لم يعرف بعد ، فقوة الحياة في جميع الخلق واحدة لا تتجزأ ، يهبها اللّه لمن قدرت له الحياة منحة منه تعالى ، ولا نعرف إلا أن اسمها الروح وأنها أمر من أمر اللّه وسر من أسراره الخفية كالذي نفخه بآدم بعد خلقه ، والذي نفخ في مريم حتى حملت بعيسى وولدته.
هذا وكما وقع الخلاف في معنى الروح اختلفوا في مصيرها ، فمنهم من قال إنها تفنى لقوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) الآية الأخيرة من سورة القصص في ج 1 ، ومنهم من قال بخلوها لكونها روحانية خلقت من الملكوت وترجع إليه خالدة لأنها من قوى اللّه عز وجل ، فهي خالدة بخلوده ، وإن اتصالها بالإحياء عبارة عن اتصال القدرة بالمقدور.
أما النفس فإنها تفنى لأنها مخلوقة ولها بداية وكل ماله بداية له نهاية ، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ(5/439)
ج 5 ، ص : 440
الْمَوْتِ)
الآية المفسرة ، وعلى هذا يكون تفسير الآية 12 من سورة المؤمن في ج 2 أن الموقة الأولى للبدن بزوال الحياة عنه ، والثانية للنفس يوم ينفخ في الصور ، والحياة الأولى هذه الحياة الدنيا ، والثانية في الآخرة التي أولها يوم البعث ولا آخر لها.
وقال بعض العلماء إن العلاقة بين الروح والنفس والبدن على أنواع قد تجتمع كلها في حياتنا هذه العادية وتنفرد الروح بالبدن دون النفس حالة النوم ، والنوم قد يكون طبيعيا وقد يكون بسبب آخر كالبنج والتنويم المغناطيسى ، وقد تتصل النفس بالبدن من غير الروح بعد مفارقة الروح له حالة الموت وتظل سابحة بمفردها في العالم غير المنظور إلى نهاية هذه الحياة الدنيا ، وذلك يوم النفخ في الصور المشار إليه بقوله تعالى بالآية 69 من سورة الزمر في ج 2 ثم تبدأ الحياة الأخرى.
ثم فصلوا هذا فقالوا إن اللّه تعالى جعل الدور ثلاثا : دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ، ووضع لكل دار أحكاما تختص بها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأنفس تبعا لها ، ولذلك جعل أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح ، وإن أضمرت النفوس خلافها ، وجعل أحكام البرزخ على الأنفس والأبدان تبعا لها ، فكما تبعت النفوس الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت لألمها والتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان النفوس البرزخ في نعيمها وعذابها ، وكما كانت النفوس هنا خفية والأبدان ظاهرة تكون هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها ، وتجري أحكام البرزخ على النفوس التي باشرت أسباب النعيم والعذاب فتسري منها إلى الأبدان.
وضربوا لذلك مثلا بحال النّائم فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على نفسه أصلا والبدن تبعا لها ، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا ، فتراه يقوم من نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك ، إلا أنه حينما يفيق تراه متأثرا مما يلاقي خيرا كان فيكون منبسط النفس أو شرا فتراه منقبضا منكمشا.
والسر في هذا أن الحكم لما جرى على النفس استعانت بالبدن من خارجه ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس كما يقع أحيانا فتراه يقوم مرعوبا من الخوف فيفيق من نومه.
ويعلم من هذا أن النفس كما أنها تتألم وتنعم في نومها(5/440)
ج 5 ، ص : 441
ويصل ذلك إلى بدنها بطريق التبعية فكذلك في البرزخ إلا أنه أعظم لأن تجرد النفس هناك أكمل وأقوى وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع ، فإذا كان يوم الحشر في دار القرار تتحد النفوس بأبدانها فيشتركان في الشعور بالعذاب والنعيم ويصير الحكم عليهما مباشرة ظاهرا باديا.
وما استدلوا به على التمييز بين النفس والروح قوله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) الآية 60 من سورة الأنعام ج 2.
وليعلم أن فعل جرح هذا واجترحوا في الآية 20 من سورة الجاثية في ج 2 لم يكرر في القرآن ، وقوله تعالى (اللّه يتوفى الأنفس) الآية المارة آنفا ، أي أنه تعالى ينتزع النفوس من أبدانها التي فقدت الحياة وهي التي لم تمت في منامها أي ينتزع النفوس من أبدانها الحية في منامها فيمسك التي قضي عليها الموت فلا يعيدها لبدنها ويرسل الأخرى أي يعيد نفس النائم إلى بدنه الحي فتبقى فيه إلى بلوغ أجلها المقدر لمفارقتها بدنها.
هذا وإن إمساكه تعالى النفس التي قضى عليها الموت لا يمنع ردها إلى جسدها الميت في وقت ردّا عارضا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا ، فكما أن النائم تكون روحه في جسده وهو حي حياة غير حياة المستيقظ لأنها من غير نفس فلا يحس ولا يشعر مع أنه يتحرك وقد يمشي ويتكلم كما هو مشاهد في بعض الأشخاص ، فكذلك الميت إذا أعيدت نفسه إلى جسده كانت له حياة أخرى عكس حياة النائم فإنه يحس ويشعر ولكنه لا يتحرك لأنه من غير روح ، وقد وردت آيات وأحاديث تدل على بقاء النفس وتعارفها بعد مفارقة أبدانها إلى أن يرجعها اللّه تعالى إلى أجسادها في الحياة الأخرى ، قال تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه) الآيات 169/ 170/ 171 المارات آنفا ، وفي الحديث الذي رواه جرير قال أصحاب رسول اللّه ما ينبغي لنا أن نفارقك فإذا مت رفعت فوقنا فلم نرك ، فأنزل اللّه (ومن يطع اللّه ورسوله فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم) الآية 69 من سورة النساء الآتية ، كما مر في الآيات المذكورة ، وسيأتي في تفسير هذه الآية ، وقد ثبت عن رسول اللّه أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه ، وأنه قال : ما من رجل يزور قبر أخيه إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم.
وفي حديث آخر لما(5/441)
ج 5 ، ص : 442
مات بشر بن البداءة بن معمر وجدت عليه أمه وجدا شديدا وقالت يا رسول اللّه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام ؟
فقال صلّى اللّه عليه وسلم نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطير في رءوس الشجر.
وكان لا يهلك هالك من بني سلمة إلا أرسلت معه أم بشر السلام إلى ابنها.
وجاء في حديث آخر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عند اللّه كما يتلقى البشر أهل الدنيا ، فيقولون أنظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد ، فيسألونه ماذا فعل فلان ، وماذا فعلت فلانة ، وهل تزوجت فلانة ، وناهيك حديث الصحيحين لما أمر صلّى اللّه عليه وسلم بإلقاء قتلى بدر في القليب ثم وقف عليهم وناداهم بأسمائهم ، فقال له عمر ما تخاطب من أقوام قد جيفوا ؟! فقال له والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع منهم لما أقول ، ولكنهم لا يستطيعون جوابا.
وقد كان الأقدمون يتصلون بالعالم غير المنظور بواسطة المنام ، ثم توصل العلم أخيرا إلى مخاطبة النفوس بواسطة التنويم المغناطيسي بما يدل على اتصال النفوس بعضها ببعض بعد الوفاة ، وأنها حية حياة برزخية لا نعلم كنهها وقد مر أن تكلمنا على أن النفس والروح هل هما شيء واحد أم لا في الآية 86 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعها.
مطلب إخبار اللّه تعالى عما يقع على المؤمنين وقتل كعب بن الأشرف والاعتبار والتفكر والذكر وفضلهما وصلاة المريض :
ثم التفت جل شأنه يخاطب المؤمنين بما يصيبهم بعد مما هو أشد مما حل بهم في أحد فقال مقسما وعزتي وجلالي «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ» فيما بستقبل من الزمان فتنهبون وتسلبون وتهانون «وَأَنْفُسِكُمْ» فتقتلون وتؤسرون وتعذبون «وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» اليهود والنصارى «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» باللّه غيره فيدخل فيه الكفرة كافة «أَذىً كَثِيراً» متنوعا قولا وفعلا «وَإِنْ تَصْبِرُوا» على ذلك مع محافظتكم على دينكم «وَتَتَّقُوا» اللّه فتعملوا بما يأمركم وينهاكم «فَإِنَّ ذلِكَ» الصبر على ذلك الأذى مع المحافظة على التقوى «مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» (186) بشير صدر(5/442)
ج 5 ، ص : 443
هذه الآية إلى قول الفلاسفة إن النفس هي الجسم المعاين دون ما فيه من المعنى الباطن كما أشرنا إلى هذا المعنى آنفا في بحث النفس ، وإنما خاطب اللّه تعالى حضرة الرسول وأصحابه المؤمنين كافة بهذا ليوطنهم على احتمال ما سيلقونه من الشدائد التي لا تقابل إلا بالصبر لئلا يرهقوا عند نزولها بهم على غرة فيجزعوا أو يشمئزوا ، وهي عامة اللفظ والمعنى محكمة ثابتة الحكم بين الناس إلى يوم القيامة ، وقد ظهر مصداقها في زماننا هذا بتولية الإفرنسيين علينا وفعل بعضهم كما ذكر اللّه في الآية 24 من سورة النمل ج 1 ، وها نحن أولاء صابرون على أذاهم ، وعسى اللّه أن يزيحهم عنا بتقوى أهل التقوى منا وهو على كل شيء قدير ، إذ أصاب بعض المؤمنين منهم ما ذكره اللّه ولم يجدوا بدا إلا الصبر ، فنسأله أن يقيض لنا من يجمع كلمة المسلمين ويرد لهم مجدهم ويدفع عنهم من يتسلط عليهم ، ولا لوم إلا على أنفسنا ، لأن ذلك كله بما كسبت أيدينا من ظلمنا بعضنا لبعض وتعاظمنا وانتصارنا للقوي والغني وعدم التفاتنا للضعيف والفقير والسكوت على المعاصي وهدر الحقوق والتقاطع ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
روى البخاري ومسلم عن جابر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى اللّه ورسوله ، قال محمد ابن سلمة أتحب أن أقتله ؟ قال نعم ، قال فأذن لي فلأقل ، قال قل ، فأتاه فقال له وذكر ما بينهم ، وقال إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وقد عنانا ، فلما سمعه قال وأيضا واللّه لتبلغه ، قال إنا قد اتبعناه ونكره الآن أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء بصير أمره ، قال وقد أردت أن تسلفني سلفا ، قال فما ترهن عندي تأمينا لما تستلفه ؟ فقال له ما شئت ، قال أترهنني نساءكم ، قال أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا ، قال له ترهنون أولادكم ؟ قال يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسقين من تمر ، ولكن نرهنك اللّامة (أي السلاح) قال نعم ، وأوعده أن يأتيه بالحارث وأبي عيسى بن جبير وعباد بن بشير ، قال فجاءوا فدعوه ليلا ، فنزل إليهم ، قالت امرأته إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم ، قال إنما هو محمد ورضيعي أبو ناثلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب ، قال محمد لأصحابه إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه ، فإذا استحكمت منه فدونكم ، قال فلما نزل وهو متوشح(5/443)
ج 5 ، ص : 444
قالوا نجد منك ريح الطيب ، قال نعم نحن فلأنه أعطر نساء العرب ، فال فتأذن لي أن أشم منه ؟ قال نعم ، فتناول فشم ، ثم قال أتأذن لي أن أعود ، قال نعم ، قال فاستمكنني من رأسه ، ثم قال دونكم فقتلوه.
وزاد أصحاب السير فاختلف عليه أسيافهم فلم تغن شيئا ، قال محمد بن سلمة فذكرت معولا في سيفي فأخذته ، وقد صاح عدو اللّه صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار ، قال فرضعته في شذروته (صرّته) (والشذر خرز معروف وقطع من الذهب المتلقطة من معدنه قبل إذابته) ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ، ووقع عدو اللّه ، وأصيب الحارث بن إدريس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا ، فخرجنا وقد أبطأ علينا ، ونزفه الدم ، فوقفنا له ساعة حتى أتانا فحملناه وجئنا به رسول اللّه آخر الليل وهو قائم يصلي ، فسلمنا عليه وأخبرناه وجئناه برأسه وتفل على جرح صاحبنا فبرىء ، وأنزل اللّه في شأنه هذه الآية.
وعلى فرض صحة نزولها فيه لا يمنع شمولها لغيره وعمومها لآخر الزمان ، وكعب هذا من ألدّ الخصوم لحضرة الرسول وقد أشرنا إليه في الآية السابقة وما قبلها.
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ»
عن
أحد منهم لا كلّا ولا بعضا بل تبينوه كله لكل أحد بلا عوض فلم يفعلوا ولهذا قال تعالى «فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ» أي الكتمان لما في الكتاب «ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» (187) هذه الآية وإن كانت خاصة في اليهود والنصارى فلا يبعد أن يشمل مضمونها علماء هذه الأمة ، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ولأنهم أشرف أهل الكتب السماوية كما أن كتابهم أشرف الكتب ورسولهم أشرف الرسل.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سئل علما فكتمه الجم بلجام من نار.
ولأبي داود : من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة.
والمراد بالعلم هنا علم الدين وما يتعلق به والتنكير فيه للتعظيم بما يدل على ذلك ولأن هذا الجزاء الكبير لا يترتب إلا على العلوم الدينية البحتة بدليل قول أبي هريرة لو لا ما أخذ اللّه عز وجل (أي من العهد والميثاق) على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء وتلا هذه الآية ، والعهد الذي أخذ هو على الإيمان(5/444)
ج 5 ، ص : 445
باللّه وجميع أنبيائه كما في الآية 81 المارة.
قال تعالى «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا» من حطام الدنيا على ما زينوه للناس من الضلال بكتمان الحق وإظهار غيره باطلا «وَيُحِبُّونَ» مع عملهم القبيح ذلك «أَنْ يُحْمَدُوا» عليه وعلى تسميتهم علماء «بِما لَمْ يَفْعَلُوا» من الوفاء بميثاق اللّه وعهده على الإخبار بما في كتبهم من الحق والصدق بأنهم ناجون من العذاب كلا «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» ونجاة منه بل لا بد من انغماسهم فيه «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (188) جدا فلا تظننّ عذابهم بسيطا بل هو شديد لا تطيقه قواهم ، وهذه الآية أيضا وإن كانت خاصة بالمذكورين فمعناها عام شامل لكل من هذا شأنه ، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ إلا ما خصص أو قيد «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» هذا تفريع على قوله آنفا (إن اللّه فقير) الآية ، أي كيف يكون فقيرا وهو مالك لما بين السموات والأرض وما فوقهما وتحتهما «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (189) ومن كان كذلك فلا يليق أن يسمى فقيرا قاتل اللّه قائل ذلك.
قال تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ» عظيمات على قدرتنا «لِأُولِي الْأَلْبابِ» (190) الذين خلص لبتهم عن الهوى خلوص اللب عن القشر فمن أراد عبرة فليعتبر فيهما والويل كل الويل لمن يقرأ ولم يتفكر وينظر ولا يعتبر لأن المراد بأولي الألباب هم أهل القلوب الحية المطهرة ، أما الذين صدأت قلوبهم وغشى عليها الرّين بسبب كثرة المعاصي فلا يفهمون من التفكر والنظر شيئا.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال :
بت في بيت خالتي ميمونه فتحدث رسول اللّه وأهله ساعة ثم وقد ، فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال (إن في خلق السموات والأرض) الآية ، على أنه كان في بني إسرائيل من إذا عبد اللّه ثلاثين سنة أظلته سحابة فعبدها فتى فلم تظله فقالت له أمه لعلك فرطت منك فرطة في مدتك قال ما أذكر ، قالت لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر ، قال لعل ، قالت فما أوتيت إلا من ذلك.
ولهذا وصف اللّه أولي الألباب بقوله «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ» مضطجعين «وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»(5/445)
ج 5 ، ص : 446
بكيفية اختراعهما وعظمهما وبناء السموات وبسط الأرض وإبداعهما على غير مثال سابق وما فيهما من الكواكب المسخرة لمنافع الخلق والجبال التي لولاها لمادت بأهلها والوديان والأنهر والمعادن المختلفة والنظر في كيفياتها وكمياتها وأشكالها وألوانها واختلاف سيرها ، ويديمون هذا في جميع أحوالهم دون غفلة ، ثم يقولون «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» ولا عبثا ولا لعبا بل لحكم أردتها «سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (191) وهذا تعليم من اللّه لعباده بأن يقولوا هكذا ويثنوا على اللّه بما هو أهله وينزهونه عما لا يليق بحضرته الكريمة كلما نظروا إليهما ثم يذكرون حاجتهم.
وفي الآية دلالة على صحة صلاة المريض والرخصة فيها.
روى البخاري عن عمران ابن حصين قال كانت بي بواسير فسألت النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن الصلاة ، فقال صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب.
ودليل على ندب ذكر اللّه تعالى في كل حال والمداومة عليه ، روى مسلم عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يذكر اللّه عز وجل في كل أحيانه.
وأخرج أبو ذر عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من قعد مقعدا لم يذكر اللّه فيه كانت عليه من اللّه ترة (نقص وتبعة) ومن اضطجع مضجعا لا يذكر اللّه فيه كانت عليه من اللّه ترة وما مشى ممشى لا يذكر اللّه فيه إلا كانت من اللّه عليه ترة أي حسرة وندامة مستمرة لا تتلافى.
والفكر اعمال الخاطر في الشيء وتردد القلب فيه ، وهو قوة متطرقة للعلم إلى المعلوم ، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل ولا يمكن التفكر إلا فيما له صورة في القلب ، ولهذا قالوا تفكروا في آلاء اللّه ولا تفكروا في اللّه لأنه منزه عن الصورة ، ولذا قال تعالى (ويتفكرون في خلق) الآية أي في عجائبها وغرائب صنعها ، وكون السماء بلا عمد أو بعمد لا ترى ، وكون الأرض على الماء أو الهواء راكدة أو متحركة بيضوية أو مدورة أو مربعة أن مستطيلة للاستدلال بذلك على قدرة القادر وحكمته البالغة ، وليعلموا أن خالقهما عظيم ومدبرهما حكيم وان عظم الخلق يدل على عظم الخالق وعظمة آياته :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ولينظر إلى آثار قدرته في هذين الهيكلين العظيمين وإلى من فيهما من الخلق : (5/446)
ج 5 ، ص : 447
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
وقدمنا ما يتعلق في تفسير هذه الآية 50 من سورة الروم ج 2 فراجعها ، وقولوا في دعائكم يا ذوي العقول «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ» أهنته وأذللته وفضحته وهذا خاص للمخلدين فيها بدليل قوله «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» (192) في ذلك اليوم ولا تمسك في هذه الآية للقائلين أن كل مؤمن لا يدخل النار احتجاجا بقوله تعالى (يوم لا يخزي اللّه النبي) الآية 6 من التحريم الآتية لأن هذه الآية محمولة على نفي الإخزاء حينما يكونون معه صلّى اللّه عليه وسلم وفضلا عن هذا فإن مذهب أهل السنة جواز دخول بعض المؤمنين النار وخروجهم منها ، لأن مرتكب الكبيرة مؤمن وإن كان فاسقا ، وهذا الجواب لا يتجه على مذهبهم لأنهم يقولون الفاسق يخلد في النار ومرتكب الكبيرة كافر ، ويجوز حملها على العموم لأن مجرد إدخال النار خزي وعار سواء أخرج منها أو لا وهذا أولى إذ لا مقيد ولا مخصص لها نصا ، ولأن لفظ الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك ، والمشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معتبيه جميعا فيسقط الاستدلال به لأحدهما وقولوا أيضا «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ» وهو محمد سيد الأكوان لقوله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) الآية من أواخر سورة النحل ج 2 ومن قال إن المنادي هو القرآن قال ليس كل أحد سمع النبي والقرآن مقروء ومسموع إلى الأبد ويقول ذلك المنادي «أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ» أيها الناس وأجيبوه بقولكم «فَآمَنَّا» بربنا وما أنزل إليها على لسان رسولنا «رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا» صغيرها وكبيرها خفيها وجليها قصدها وخطأها وسهوها وتعمدها وجميع أنواعها اعفوها لنا يا ربنا «وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ» (193) واحشرنا في زمرتهم ، قال المفسرون إن اغفر وكفّر بمعنى واحد وكررا لفظا للتأكيد لأن الإلحاح
في الدعاء والمبالغة فيه مندوبة ومطلوبة ، مع أن الغفران مصدر غفر بمعنى الستر ، والتكفير مصدر كفّر بمعنى الفداء لأن الكفارات شرعت لذلك ، يقال كفر عن يمينه إذا أدى الكفارة ، والألفاظ العربية وإن كانت متقاربة في المعنى ففيها تفاوت ، وقل أن تجد كلمتين تدل على معنى واحد فقط من كل وجه إلا في اختلاف(5/447)
ج 5 ، ص : 448
اللغات مثل (كل) بمعنى ثقيل في العربية وهو في التركية بمعنى أقرع وما أشبه ذلك فهكذا.
قال تعالى آمرا عباده بأن يقولوا في دعائهم أيضا «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى » لسان «رُسُلِكَ» من الخير في الدنيا والآخرة ، ولا يقال كيف سألوه انجاز وعده وهو لا يخلف الميعاد وهم معترفون بذلك لأنهم التوفيق فيما يحفظ لهم انجاز وعده ، ولهذا اتبعوهم بقولهم «وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» (194) لأن المقصود منه طلب التوفيق على الطاعة والعصمة ممّا يحول دون تأهلهم ، لذلك فلا يقال أيضا لا حاجة إليه لأنه متى حصل الثواب اندفع العقاب ، وإن طلب عدم الخزي خوفا من أن تظهر لهم أعمال ليست بالحسبان مما سيكون لغيرهم.
قال تعالى (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الآية 47 من سورة الروم ج 2 ، أي وهم يظنون أنهم على عمل صالح فقط ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : إن أحدكم ليتكلم الكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أربعين خريفا.
الا فليتق الغافل ولا يهرف بما لا يعرف ، ولا يتكلم بمعصية قصد إضحاك الناس أو سرورهم فيقع بمثل هذا المبين في الآية والحديث.
قال تعالى «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ» دعاءهم ، وقال لهم «أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ» أيها المؤمنون وأثببكم على أعمالكم القولية والفعلية كلكم «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى » لا أفضل أحدا على أحد إلا بالتقوى «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» وأثيبكم عليها أيضا على ما تعملونه من الخير فيما بينكم فمن قضي لأخيه حاجة قضيت له حوائج ، ومن رحمه رحمته وأكرمته ، ومن عفى عنه زلته أقلت عثرته يوم القيامة وعفوت عنه «فَالَّذِينَ هاجَرُوا» منكم بطوعهم «وَ» الذين «أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ» قهرا من قبل أعدائهم «وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي» بسبب إسلامهم ومتابعتهم رسولي وجهادهم معه لإعلاء كلمتي «وَقاتَلُوا» أعداءه وأعداءهم «وَقُتِلُوا» بسبب ذلك «لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» مهما كانت ولا أؤاخذهم عليها وأبد لها لهم حسنات «وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً» لهم ورحمة بهم وتفضلا ولطفا وإحسانا عليهم وكرامة لهم «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ» (195) على أحسن الأعمال وثوابا مطلقا على غيرها.(5/448)
ج 5 ، ص : 449
أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت : قلت يا رسول اللّه ما أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل اللّه هذه الآية ، ثم خاطب سيد المخاطبين بقوله «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ» (196) على حد (إياك أعني واسمعي يا جارة) لأنه صلّى اللّه عليه وسلم لا يغتر بذلك وإنما أراد به غيره كما في أمثال هذه الآية من الآيات آخر سورة القصص في ج 1 وشبهها أي لا تغتر أيها الإنسان بما ترى من ذلك لأنه «مَتاعٌ قَلِيلٌ» يتمتعون به في هذه الدنيا الفانية القليلة ثم يتركونه فيها وبالا عليهم «ثُمَّ مَأْواهُمْ» في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» (197) هي لأهلها.
قيل إن بعض المؤمنين لما رأى حالة الكفار قال أرى أعداء اللّه في سعة من العيش ونحن أصحاب محمد وأحباب اللّه في جهد منه ، فأنزل اللّه هذه الآية تنديدا بسعة الكفرة وأنزل بعدها ما يسر المؤمنين بقوله «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ» عنده في الآخرة خير مما أعطاه لأعدائه في الدنيا وهو «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» أبدا ، ويقول اللّه تعالى جعلناها لهم «نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» إكراما لهم وتقدمة لقراهم «وَما عِنْدَ اللَّهِ» المعطي هذا النزل لعباده أولا من النعيم الدائم والخير الوافر ما هو «خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» (198) من الدنيا وما فيها جزاء أعمالهم الحسنة وإحسانهم لغيرهم وهو خير مما يتقلب به الكافرون من حطام الدنيا وزخارفها الزائلة المنغمصة بالأكدار ، روى البخاري عن عمر بن الخطاب قال : جئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فإذا هو في مشربة غرفة أو علية وانه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرط مصبور (القرط ورق السلم نبات معروف ، ومصبور معناه مجموع كالصبرة من الطعام) وعند رجليه أهب (أي جلود) معلقة ، فرأيت أثر الحصير في جنبه ، فبكيت ، فقال ما يبكيك ؟ قلت يا رسول اللّه إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول اللّه ؟ فقال أما ترضى يا ابن الخطاب أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ قال بلى يا رسول اللّه.
قال تعالى «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ» يؤمن ب «ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» من القرآن «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ» من التوراة والإنجيل «خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» كغيرهم ممن ت (29)(5/449)
ج 5 ، ص : 450
يحرف ويبدل لقاء ما يأخذه من حطام الدنيا من الرعاع ولحب بقاء الرياسة والمال «أُولئِكَ» الذين هذا وصفهم «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (199) يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة رجل واحد كطرفة عين أحدكم من حيث لا يعلمون هذه السرعة.
هذا ولا يفهم من لفظ (قليلا) أن الذين يبيعونها بكثير غير مذمومين ، بلى هم مذمومون مدحورون أيضا ، وإنما سماه اللّه قليلا لأنه مهما كان كثيرا فهو قليل بالنسبة للمبيع الذي لا يوازى بالدنيا وما فيها ولا بحرف منه.
وهذه الآية عامة في جميع أهل الكتاب الذين حسن إسلامهم ، لا ينافي عمومها ما قالوه بأنها نزلت في النجاشي الذي اسمه أصحمة بالحبشية ومعناه بالعربية عطية ، إذ آمن على يد من هاجر سنة خمس من البعثة من أصحاب رسول اللّه قبل نزول سورة والنجم.
مطلب فيما وقع للنجاشي مع أصحاب رسول اللّه ووفد قريش.
ومأخذ قانون عدم تسليم المجرمين السياسيين.
والصلاة على الغائب :
وخلاصة قصته أن قريشا لما عادت من بدر مكسورة جمعت مالا وأهدته إلى النجاشي مع عمرو بن العاص وحمادة بن معيط ليسلمهم جعفر بن أبي طالب وأصحابه الذين هاجروا إليه قبلا لينتقموا منهم ، فلما وصلا دخلا عليه ساجدين إذ كان تحيته السجود ، وبعد أن قدما له الهدايا وتحية قومهم قالا إن قومنا شاكرون لك ولأصحابك محبون لكم ويؤيدون شعائركم ، وإنهم يحذرونك من هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل منا يزعم أنه رسول اللّه لم يتبعه إلا السفهاء وقد بعثهم إليك ليفسدوا دينك وملكك ورعيتك ، فادفعهم إلينا لنكفيكهم ، وآية ما قلنا أنهم لن يسجدوا لك إذا استدعيتهم ، فأمر بهم ، فلما حضروا قال جعفر يستأذن عليك حزب اللّه ، فقال النجاشي مروه فليعد كلامه ، ففعل ، فقال النجاشي نعم ليدخلوا بأمان اللّه وذمته ، فنظر عمرو إلى صاحبه وقال ألا تسمع كيف يرطنون (الرطانة الكلام بالأعجمية) فدخلوا وسلموا ولم يسجدوا ، فقال ألا ترى استكبارهم ، فقال النجاشي لم تحيّوني بالسجود ، وقد علمتم أنه تحيّتي ، فقالوا كان السجود تحيّتنا ونحن نعبد الأوثان ، فلما شرفنا اللّه بنبينا الصادق علمنا تحية أهل الجنة ، وهي السلام(5/450)
ج 5 ، ص : 451
فحييناك بها لأن السجود لا ينبغي إلا للّه الذي ملكك ، فعرف النجاشي ذلك لما يعلمه من التوراة والإنجيل ، ثم ذكر لهما ما جاء به عمرو وصاحبه وقال لجعفر تكلم ، قال أنت ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا تريد الظلم ، وأنا أجيب عن أصحابي فمر أحد هذين يتكلم وليصمت الآخر فتسمع محاورتنا ، ففعل فقال سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار ، فإن كنا عبيدا أبقنا فردنا إلى أسيادنا ، فسأله فقال أحرار كرام ، فقال النجاشي نجوا من العبودية ، فقال سلهما هل أرقنا دما بغير حق فوجب علينا القصاص به فتردنا من أجله إليهم ليقتصّوا منا ، فسألهم فقالا لا ، فقال سلهما هل أخذنا أموال أحد بغير حق فوجب علينا قضاؤها ولم نؤدها وهربنا من أجل ذلك ، فسألهما وقال لهما أي النجاشي إن كان قنطار فعلي قضاؤه ، قالا لا ولا قيراط ، فقال سلهم إذا ما يريدون منا ؟ فقال النجاشي إذا ما تطلبون منهم ؟ قالا كنا وإياهم على دين واحد دين آبائنا فتركوه واتبعوا غيره ، فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا فتردهم إلى دينهم ، فقال جعفر أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان ، وقد كنا نعبد الحجارة ونكفر باللّه ، فقيض اللّه لنا نبيا منا فهدانا إلى دين الإسلام دين إبراهيم عليه السلام ، وانزل اللّه عليه كتابا ككتاب ابن مريم ، فقال النجاشي تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك ، فأمر بضرب الناقوس فاجتمع إليه القسس والرهبان ، فقال أنشدكم باللّه هل تجدون بين عيسى والقيامة مرسلا ؟ قالوا نعم ، اللهم بشرنا به عيسى وقال من آمن به فقد آمن بي ، ومن كفر به فقد كفر بي ، فقال النجاشي ما ذا يقول لكم هذا الرجل ؟ قال يأمرنا بالمعروف وبحسن الجوار وصلة الرحم وأن نعبد اللّه وحده ، وينهانا عن المنكر ، قال اقرأ علي شيئا مما يقرأ عليكم ، فقرأ سورة العنكبوت والروم ، ففاضت عيناه وأصحابه من الدمع ، وقالوا زدنا ، فقرأ سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال انهم يشتمون عيسى وأمه ، فقال على رسلكم
هذا شيء عظيم ثم قال لهما ما تقولون في عيسى وأمه ؟ قال اسمع أيها الملك ما أمرنا اللّه ورسوله أن نقول فيهما ، فقرأ عليهم سورة مريم ، فرفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين وقال واللّه ما زاد المسيح على ما تقولون بقدر هذا ، ثم قال لجعفر وأصحابه أنتم سيوم بأرضي ، (أي آمنون) من سبكم أو أذللكم أو آذاكم غرم ، ابشروا(5/451)
ج 5 ، ص : 452
ولا تخافوا فلا دهورة على حزب ابراهيم ، أي لا تبعة ، وهذه الكلمة وكلمة سيوم بلغة الحبشة ومعناها ما ذكر ، قالوا ثم رد الهدية على عمرو ورفيقه ، وقال هذه رشوة ، واللّه ملكني بلا رشوة ، فلا سبيل إلى إجابة طلبكم ، ومن ذلك اليوم عرف عدم جواز تسليم المجرمين السياسيين إلى الدولة الخارجين عنها واتخذت الحكومات عمله هذا دستورا ، ونظمت فيه قوانين عليها عملهما حتى الآن ، ورجعا خائبين ، ولما مات النجاشي رحمه اللّه نعاه جبريل لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فأخبر أصحابه بوفاته وصفهم وصلّى بهم عليه صلاة الغائب ، فلما رأى ذلك المنافقون قال بعضهم لبعض انظروا إلى محمد يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط ، ولم يعلموا أنه أسلم على يد رسل رسول
اللّه ، وانه مات مسلما.
ومن هنا شرعت الصلاة على الميت الغائب ، وأخذ بها الأئمة عدا أبي حنيفة ، إذ عدها خصوصية للنجاشي ، وقيل نزلت هذه الآية في أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا ، والآية صالحة لهذا كله ولغيره مما ينطبق على معناها إلى يوم القيامة ، فقال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا» على ما أنتم عليه والصبر على ترك الشكوى وقبول القضاء والقدر وصدق الرضاء «وَصابِرُوا» غيركم من الكفار والمنافقين وغالبوهم على الصبر في الشدائد كلها وخاصة الجهاد وانفاق المال في سبيله «وَرابِطُوا» على ثغوركم بأن تكونوا مستعدين لقتال متهيئين للهجوم على من يريد قربها ساهرين على محافظتها ، راجع ما يتعلق في بحث الرباط الآيتين 167 المارة و60 من سورة الأنفال المارة أيضا.
«وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (200) بلقائه وتسرون برضائه وتفرحون بعطائه.
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يكن في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة ، واستدل بما روي عن أبي هريرة قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم الا أدلكم على ما يمحو اللّه به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟
قالوا بلى يا رسول اللّه قال إسباغ الوضوء على المكاره (البرد ونحوه) وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط - أخرجه مسلم - ولا مقال في هذا الحديث لأنه صحيح ورجاله ثقات ، ولكن في هذا التأويل صرف اللفظ عن ظاهره دون صارف ، فإذا لم يكن رباط في زمنه صلّى اللّه عليه وسلم فقد كان بعده ، ويكون(5/452)
ج 5 ، ص : 453
من جملة إخباره عليه الصلاة والسلام بالغيب ، على أنه كان هناك رباط وهو سهر الاصحاب على الخندق لئلا يقتحمه المشركون فهو الرباط بعينه.
هذا وقد ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أحاديث صحيحة في ثواب الرباط ذكرنا قسما منها في الآيتين المذكورتين آنفا ، وفيها ما يرشدك لغيرهما ، فإذا أجلت النظر ركنت إلى عدم العدول عن الظاهر وجعلت معنى الرباط الوارد في هذا الحديث مجازا ، وأن للقائم بما فيه ثواب المرابط في سبيل اللّه.
قال أهل المعاني اصبروا أيها المؤمنون على الدنيا ومحنتها رجاء الراحة في القيامة وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة رجاء النصر والعز والسلامة ، ورابطوا على مجاهدة النفس اللوامة واتقوا ما يعقبكم الندامة تفوزوا عند اللّه في دار الكرامة وقالوا على لسان ذي الجلال جل جلاله اصبروا على بلائي ، وصابروا على نعمائي ، ورابطوا على مجاهدة أعدائي ، واتقوا محبة سوائي تربحوا بلقائي ، وقالوا اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ، ورابطوا على دور الأعداء ، واتقوا إله الأرض والسماء تنجوا في دار البقاء.
ومعنى قوله صلّى اللّه عليه وسلم فذالكم الرباط أي معظمه ، لأن الرباط انتظار مراقبة العدو على ثغور المسلمين ، ومنعه من اقتحامها ، وفي الحديث انتظار دخول وقت الصلاة بعد الصلاة ، فيكون فيه مجازا كما ذكرنا هذا ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد للّه رب العالمين ، حمدا دائما كثيرا يوافي نعمه ويكافي مزيده.
تفسير سورة الأحزاب
عدد 4 - 90 و33
نزلت بالمدينة بعد سورة آل عمران ، وهي ثلاث وسبعون آية ، والف ومئتان وثمانون كلمة ، وخمسة آلاف وسبعمئة وتسعون حرفا ، لا يوجد مثلها في عدد الآي ، وتقدم في سورة الكافرين ج 1 السور المبدوءة بما بدئت به.
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال تعالى : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» فيما يعرضانه عليك أو يطلبانه منك لأنك لا تعلم دخائلهم «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» (1) لا يخفى على علمه شيء(5/453)
ج 5 ، ص : 454
زمانا ولا مكانا ولا كما ولا كيفية.
واعلم ان كان لاتصاف المخبر عنه بالخبر والدوام والاستمرار ، لأنه لم يزل ولا يزال كذلك في الماضي والحال والاستقبال ، وهي إذا كانت عاملة فيعود اسمها على اللّه تعالى ولا تسمى ناقصة تأدبا بل تسمى الرافعة للمبتدأ الناصبة للخبر ، وإذا لم تكن عاملة سميت تامة فقط لأن الفعل إذا أضيف للّه تعالى تجرد عن الزمان وصار معناه الدوام بخلاف قولك كان الشيخ شابا ، لأن الشبوبة تنقطع بالشيخوخة ، فتكون في مثله بلا انقطاع قال تعالى «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» من الأوامر والنواهي والوفاء بالعهد وغيرهما مما أمرناك به «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (2) يستوي عنده السر والجهر «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (3) عن كل خلقه فتمسك به أنت وأصحابك.
اعلم أنه بعد حادثة أحد وبدر الصغرى المارتين طلب أبو سفيان الأمان من محمد صلّى اللّه عليه وسلم ليقدم إلى المدينة فيتحادث معه بما يتعلق بعقد معاهدة سلم ، فأعطاه الأمان ، فحضر هو وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي ونزلوا على رأس المنافقين ابن سلول ، ثم ذهبوا معه وعبد اللّه بن أبي سرح وملعجة بن أبيرق إلى حضرة الرسول ليقابلوه ، وكان عنده عمر بن الخطاب ، فقالوا له ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة وقل ان لها شفاعة وندعك وربك ، فشق ذلك على حضرة الرسول ، فقال تأذن يا رسول اللّه بقتلهم ؟ قال لا قد أتونا بالأمان ، فقال لهم عمر إذن اخرجوا في امنة اللّه وغضبه ، فخرجوا وأمر عمر بأن يخرجهم من المدينة آمنين كما دخلوها آمنين ، فأنزل اللّه مبدأ هذه السورة كأنه يقول أيها المخبر عنا المأمون على أسرارنا المبلغ أحبابنا دم على التقوى التي أنت عليها والتوكل الذي أنت متحل به ونحن نكفيك من ناوأك ، ولم يسمه تشريفا له وتنويها بتصريح اسمه فيما بعد.
قال تعالى «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» ينتفع بهما معا فإذا وجدا على خلاف العادة وللّه خرق العادات فيكون أحدهما زائدا كالأصبع الزائدة في اليد أو الرجل أو كلاهما بمثابة واحد بسبب الاتصال كالأصبعين المتلاصقين ، وعدم وجود قلبين في شخص واحد محقق شائع قال المجنون في هذا
فلو كان لي تقليان عشت بواحد وتركت قلبا في هواك يعذب(5/454)
ج 5 ، ص : 455
وقال أبو دلامة :
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها لكنها خلقت فردا فلم أجد
«وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ» لأنهن لم يلدنكم «وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ» الأولاد الذين تربونهم «أَبْناءَكُمْ» لأنكم لم تلدوهم فلا يليق تسمية المظاهرات أمهات ولا الذين تربونهم أولادا ولا يجوز نسبتهم هذه إليكم ولا نسبتكم إليهم «ذلِكُمْ» القول بوجود قلبين ينتفع بهما وجعل الزوجة الظاهرة اما والمربى ابنا «قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ» مجرد عن الصحة لا يرتكز على حقيقة ، ولا يستند إلى دليل لأن اللّه تعالى لم يخص أحدا بقلبين ينتفع بهما ولم يجعل امرأة قط زوجة من جهة وأمّا من أخرى ولم يجمع بين البنوة والدعي في رجل واحد «وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ» لكم ظاهرا وباطنا فاسمعوا له وأطيعوا «وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» (4) العدل الموصل إلى الرشد والسداد فاتبعوه ولا تزيغوا عنه.
واعلم أن لكل جملة من هذه الآية سببا في نزولها فالأولى كانت العرب تسمي أبا معمر الفهري ذا القلبين لشدة حفظه وكان يدعي أن له قلبين فأكذبه اللّه وأظهر كذبه لقومه حين انهزم المشركون في حادثة الأحزاب الآتية إذ رآه أبو سفيان وإحدى نعليه في رجله والأخرى في يده ، فقال له ما بالك هكذا ؟ قال ما شعرت إلا أنها في رجلي فقالوا لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس ان المنافقين قالوا إن لمحمد قلبين قلبا معنا وقلبا مع أصحابه ولذلك يخبر عما يقع منا ، فأكذبهم اللّه وبين أنه يتبع ما يخبر به ما يوحى إليه من ربه وإنما قلنا لو وجد لأحد قلبين على سبيل الفرض والتقدير لا ينتفع إلا بأحدهما ، لأنه لا يخلو إما أن يعقل بأحدهما ما يعقل بالآخر من الحسّ وافعال القلوب فيكون الآخر فضلة لا حاجة إليه ، واما أن يعقل بأحدهما ما لا يعقله بالآخر فيؤدي إلى اتصافه بكونه مريدا كارها عالما جاهلا موقنا شاكا في حالة واحدة وهما حالتان متنافيتان لا ينتفع بهما البتة.
والجملة الأخرى في الظهار وسيأتي تفصيله أول سورة المجادلة الآتية إن شاء اللّه ، والجملة الثالثة في التبنّي وذلك أن زيد بن حارثة من بني كلب سبي صغيرا فاشتراه حكيم بن خزام إلى عمته خديجة فلما تزوجها حضرة الرسول وهبته إليه(5/455)
ج 5 ، ص : 456
فجاء أبوه وعمه يطلبانه من الرسول فخيره بين أن يذهب معهما أو ان يبقى عنده ، فاختار البقاء عند رسول اللّه عليهما فأعتقه صلّى اللّه عليه وسلم وتبناه على عادة العرب قبل الإسلام ، إذ لم ينزل قرآن بشأن التبنّي ، ثم زوجه زينب بنت جحش ، ولما طلقها كما سيأتي بيانه في هذه السورة وتزوجها رسول اللّه قال المنافقون تزوج زوجة ابنه ، فأنزل اللّه هذه الجملة تكذيبا لهم ، وأعلمهم فيها ان المتبنى ليس بولد صلبي ولا مثله في تحريم الزواج.
وما قيل ان هذه الآية نزلت في نسخ التبني لا صحة له.
لأن اللّه لم يسمه ابنا قط فيما أنزل على رسوله قبل ، ولم يمنع التبني في هذه الآية وانما منع اسم البنوة عنه فقط ، فلا محل لدعوى النسخ ، قال تعالى «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ» إذا كانوا معروفين وهذا «هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» واعدل من أن تنسبوهم لأنفسكم كذبا لأنهم لهم آباء غيركم «فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» أي ادعوهم بلفظ الأخ ، فتقول يا أخي ويا ابن أخي على عادة العرب أيضا في نداء بعضهم بعضا ، وهذا أحسن من قول الناس الآن لابن الغير يا ولدي يا ابني ، واصدق لأن الناس كلهم أخوة «فِي الدِّينِ» واخوة في الخلق إذا لم يكونوا على دين واحد «وَمَوالِيكُمْ» بأن تقولوا إذا ساقتكم الأنفة من تسميتهم إخوانا فقولوا يا مولاي ، والمولى يطلق على السيد والعبد لغة ، وقيل فيه :
ولن يتساوى سادة وعبيدهم على أن اسماء الجميع موالي
قال تعالى «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ» قبل النهي قصدا لأنكم لا تعلمون انه ينهى عنه كما لا يؤاخذكم إذا أخطأتم بعد النبي سهوا أو نسيانا «وَلكِنْ» الذي يؤاخذكم عليه هو «ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ» عليه وعملتم به بعد النهي ففيه الإثم عليكم «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً» ولم يزل لمن يخطىء أو يجرم إن شاء «رَحِيماً» (5) بعباده يعاملهم بعفوه وحلمه.
روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة حرام عليه.
وجاء عنه ملعون من ادعى إلى غير مواليه ، ملعون من انتسب لغير آبائه.
ولهذا ورد عنه صلّى اللّه عليه وسلم الناس مأمونون على أنسابهم.
وبعد ان تبين ان الذي ينتسب إلى غير آبائه ملعون لا يتصور أن يجرؤ قصدا على الانتساب زورا لغير آبائه ، ويختار(5/456)
ج 5 ، ص : 457
اللعن استحقاقا بنصّ الحديث المار ذكره ، وعليه فان من أراد أن يكذب وينتسب قصدا أو رياء ليظهر للناس انه ذر نسب فيستحق اللعن وما هو بنافعه ، لأن من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور لا بنسب ولا بغيره ، على أن الأدب قد يغني عن النسب فيما يريده.
قال غسان بن سعيد في ذلك :
من خانه حسب فليطلب الأدبا فقيه منيته إن حل أو ذهبا
فاطلب لنفسك آدابا تعزّ بها كيما تسود بها من يملك الذهبا
أما النسب فلا يغني عن الأدب ، راجع الآية 101 من سورة المؤمنين في ج 2 وما ترشدك اليه.
ورويا عن ابن عمر قال ان زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزلت هذه الآية فانتهينا.
قال تعالى «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أي بعضهم من بعض فتكون طاعتهم له أولى من طاعة أنفسهم ، لأنه لا يدعوهم إلا إلى ما فيه نفعهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا ان شئتم هذه الآية ، فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا ، ومن ترك دينا أو ضياعا (بفتح الضاد عيالا) فليأتني فأنا مولاه.
أي أوف عنه دينه وأعول عياله.
وهو صلّى اللّه عليه وسلم لقد وكل خير اهل «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» لأن نكاحهن محرم على المؤمنين كافة بعده على التأييد كما سيأتي فمن هذه الجهة جاز تسميتهنّ أمّا ويستفاد من الآية انهن لسن بأمهات للنساء بل للرجال خاصة ، لما روي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة ، يا أمة ، فقالت لست لك بأم ، إنما أنا أم رجالكن والآية خاصة فيهن لا تتناول أخواتهن أو بناتهن ، ولا جميع أقاربهن لجواز زواجهن بهم «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» على ترتيب الإرث ، وكذلك في الميراث ، وهذه كالآية من آخر سورة الأنفال المارة.
قالوا كان المسلمون يتوارثون بينهم لأن الرسول آخى بينهم ، وبقي ذلك إلى نزول آية الأنفال ، فصار الإرث للأقرب نسبا أو رحما ، وذلك لأن المسلمين كثروا وجاءوا بأهاليهم من دار الحرب إلى دار الإسلام ، فصاروا يتوارثون بينهم بالأولوية ومن جهة الدين ، لأن أقاربهم كانوا كفارا أو في دار الحرب ، وان اختلاف الدين(5/457)
ج 5 ، ص : 458
والدار مانعان من الإرث كالرق والكفر ، وقبل نزولها كانوا يتوارثون فيما بينهم لأن إخوانهم المؤمنين الذين هم معهم في دار الإسلام أولى بإرثهم من أقاربهم الكفرة والذين في دار الحرب.
ولا نسخ في هذا البتة لأن الأمر كما ذكر ، ولأن ما كانوا يتعاملون به بينهم لم ينزل فيه قرآن ، ولأن آية الأنفال لم تعقب بما تعقبت به هذه الآية بل ختمت بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وان اختلاف الدار مانع من الإرث عند أبي حنيفة وعليه العمل حتى الآن والأولوية هذه ثابتة ازلا «فِي كِتابِ اللَّهِ» بسابق حكمه ومدون في لوحه إن أولي الأرحام أولى «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ» المتآخين قبلا في حق الولاية الدينية التي وقعت بعد الهجرة ، وهذا هو الأولى والأحق بالإرث «إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» بأن توصوا إليهم بشيء من أموالكم فلا جناح عليكم بذلك ، وهذا الحكم محق ثابت مستمر إلى الأبد ، إذ يجوز للرجل أو المرأة أن يوصيا بشيء من مالهما لأقاربهما الذين لا يرثون ولخدمهما وعبيدهما وأصدقائهما وغيرهم من الأقارب غير المسلمين راجع الآية 180 من سورة البقرة المارة ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم لا وصية لوارث «كانَ ذلِكَ» المذكور في هذه الآية من التوارث وغيره «فِي الْكِتابِ» الأزلي المحفوظ عند اللّه «مَسْطُوراً» (6) مثبتا ، وقد أنزلناه عليكم الآن لتعملوا به.
وهذا أيضا من التدريج في الأحكام الملمع إليه في المقدمة جريا على سنن الكون وتغيراته ، واللّه أعلم بما ينزل ، واعلم بحاجة الناس ومصلحتهم.
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ» بتبليغ ما أرسلوا به ردعوة الناس إليه «وَمِنْكَ» يا سيد الرسل «وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» وسائر النبيين أيضا أخذنا هذا العهد ، وإنما خص هؤلاء الخمسة على جميعهم الصلاة والسلام لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم المتفق عليهم ، راجع آخر سورة الأحقاف ج 2 في بحثهم وقدّم محمدا في الذكر مع أنه آخرهم بعثا ووجودا تشريفا له وتفضيلا واشارة إلى أنه أول الخلق معنى وذكرا ، فقد روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال كنت أول النبيّين في الخلق وآخرهم في البعث وهذا الحديث مستقى من هذه الآية لأنها تدل على أنه أول خلق اللّه بدليل أخذ هذا العهد «وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً(5/458)
ج 5 ، ص : 459
غَلِيظاً»
(7) على الوفاء بما عهد إلى جميع النبيين الذين هم أولى خلق اللّه به «لِيَسْئَلَ» اللّه تعالى
يوم السؤال في الموقف العظيم «الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ» للّه وفي اللّه وباللّه ولأنفسهم والمرسل إليهم «وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ» بهم الجاحدين ما جاؤهم به «عَذاباً أَلِيماً» (8) في الآخرة عدا عذاب الدنيا ، قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ» قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير حينما تحزبوا على المؤمنين في منتصف شوال السنة الخامسة من الهجرة بعد غزوة بني النضير الواقعة في السنة الرابعة منها التي سيأتي ذكرها أول سورة الحشر الآتية إن شاء اللّه «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ» أي الجنود المتحزبة الباغية عليكم «رِيحاً» شديدة بدليل التنكير كما سترى من فعلها في القصة الآتية «وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها» ولم تعلموها وإنما تشاهدون أثرها وفعلها فيهم «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» (9) ناظرا لما عملتموه من الخندق كي تتحصنوا به من عدوكم وعالما بثباتكم وحسن نيتكم وثقتكم برسولكم واعتصامكم معه بحبل اللّه هذا على القراءة بالتاء على الخطاب ، وعلى القراءة بالياء على الغيبة يكون المعنى بصيرا بما يعمله الكفار من السعي لإطفاء نور اللّه الذي أظهره على أرضه ببعثة محمد واذكروا أيها المؤمنون «إِذْ جاؤُكُمْ» بنو غطفان وأسد ويهود قريظة برياسة مالك بن عون النضري وعيينة بن حصن الفزاري وطلحة ابن خويلد الأسدي وحيي بني احطب «مِنْ فَوْقِكُمْ» من أعلى الوادي من قبل المشرق «وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» من بطن الوادي من قبل المغرب وهم قريش وكنانة برياسة أبى سفيان بن حرب وجاء أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي ومن تبعه من قبل الخندق.
واذكروا أيها المؤمنون تلك الحالة التي صورتكم بها أعداؤكم من الكفار والمنافقين واليهود إذ ضاقت صدوركم ذرعه «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ» عن مستوى نظرها لشدة الرعب وعظم الرهب «وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» لأن الرنة تتنفخ من كثرة الفزع بسرعة الزفير والشهيق فيرتفع القلب بارتفاعها إلى الحنجرة وصرتم تختبطون «وَتَظُنُّونَ» أيها المؤمنون «بِاللَّهِ» ربكم الذي وعدكم النصر والظفر «الظُّنُونَا» (10) المختلفة من كل على حسب يقينه وعقيدته ونيته والمخلصون منكم قد جزموا بنصر اللّه والذين دونهم سكتوا وضعيفو الإيمان(5/459)
ج 5 ، ص : 460
ترددوا والمنافقون قطعوا بأن المؤمنين سيغلبون ويستأصلون والكافرون واليهود تهيأوا للفنك والغنيمة لأنهم رأوا أن المؤمنين صاروا بحوزتهم ففرحوا وصفّقوا وتكلموا بينهم كيف يقتسمون الرجال والمال والأنعام والأثاث
«هُنالِكَ» في تلك الساعة الرهيبة في تلك اللحظة العسرة «ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ» بالصبر والثبات والتوكل على اللّه ولكنهم ازعجوا «وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» (11) واضطربوا اضطرابا بليغا وماج بهم الخوف موجا عظيما بسبب احاطة العدو بهم ولو لا قوة إيمان حلت بهم من اللّه لسلموا ولكن كبير ثقتهم باللّه وعظيم صدقهم بوعده أحدثا في قلوبهم السكينة وتوقع نصر اللّه لهم دون تفككهم لأن منهم من جاهر بما يغضب اللّه ورسوله وهم المشار إليهم بقوله «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ» عبد اللّه بن سلول ومتعب بن قشير وأضرابهم «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة لضعف إيمان وعقيدة وقلة يقين وتصديق منهم ، وقالوا «ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» بالنصر على الأحزاب وبملك كسرى وقيصر واليمن «إِلَّا غُرُوراً» (12) أي إنهما غرونا بقولهم ذلك وموهوا علينا بتوسيع بلادنا لأن أحدنا الآن لا يستطيع أن يجاوز رحله «وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ» أي المنافقين ومن والاهم كأوس بن قبطي وأصحابه «يا أَهْلَ يَثْرِبَ» اسم لأرض المدينة وما حولها سميت باسم يثرب من العماليق ، وقد نهى صلّى اللّه عليه وسلم أن تسمى المدينة بهذا الاسم لأن معناه غير لايق بها بعد أن شرفت بسيد الكائنات لأنه مأخوذ من التثريب بمعنى التقريع والتوبيخ ، وسماها صلّى اللّه عليه وسلم طيبة لأنها كانت وخمة كثيرة الأمراض فطابت بسكنى الطيبين بها وزال عنها ما كان فيها «لا مُقامَ لَكُمْ» في هذا المكان أي محل القتال «فَارْجِعُوا» إلى منازلكم واتركوا معسكر الرسول ولا تقاتلوا معه إذ لا قبل لكم بهذه الأحزاب المحيطة بكم «وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ» من الذين مع الرسول أيضا وهم بنو حارثة وبنو سلمة «النَّبِيَّ يَقُولُونَ» ينتحلون سببا للمغادرة من موقع القتال «إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» خالية لا أحد فيها وهي مما
يلي العدو ونخشى عليها السرقة ، فأذن لنا نذهب نحافظها ، فكذبهم اللّه بقوله «وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» (13) من القتال وتقليل سواد المسلمين والغدر بهم «وَلَوْ دُخِلَتْ» تلك(5/460)
ج 5 ، ص : 461
البيوت من قبل الأحزاب «عَلَيْهِمْ» أي المحتجين المذكورين «مِنْ أَقْطارِها» أي المدينة «ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ» الرجوع إلى الكفر والارتداد عن الدين الحنيف «لَآتَوْها» حالا مسرعين لضعف إيمانهم باللّه وقلة يقينهم بوعده وشكهم في كلام الرسول ولأجابوا داعي الفتنة وافتتنوا في دينهم وكفروا «وَما تَلَبَّثُوا بِها» أي الإجابة إلى داعي الفتنة ولا تفكروا ولا ترددوا «إِلَّا يَسِيراً» (14) بقدر ما يكون به إعطاء الجواب ولم يتوقفوا أو يتأخروا ، لأن إيمانهم صوريا لم تنشر به قلوبهم «وَلَقَدْ كانُوا» هؤلاء الطوائف الأربعة «عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ» رؤيتهم الأحزاب وقبل غزوة الخندق على أنهم «لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ» للأعداء وقد نقضوا عهدهم هذا فهربوا وتركوا المؤمنين وأولهم بنوا حارثة الذين احتجوا بتلك الحجة الواهية «وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا» (15) عنه في الآخرة أكثر مما يسأل عنه في الدنيا ويوبخ عليه فيهما.
وهذه المعاهدة وقعت بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وإنما أضافها اللّه تعالى لنفسه الكريمة ، لأن معاهدة رسوله معاهدة لحضرته المقدسة ، ولأن الرسول لم يعاهد إلا بأمر ربه وقد نصوا في هذه المعاهدة على عدم الفرار فنكثوا ولهذا يقول اللّه إذ رأوا أنهم لم يسألوا عن ميثاقهم هذا في الدنيا فإنهم لا بدّ من أن يسألوا عنه في الآخرة (قل) يا سيد الرسل لهؤلاء كلهم «لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ» إذا كان كتب عليكم «وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ» بعد فراركم هذا «إِلَّا قَلِيلًا» (16) بقية مدة آجالكم في الدنيا ، ويا حبيبي «قُلْ» لهم أيضا «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً» قتلا أو غيره «أَوْ» من يمسك فضله إن «أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» نصرا أو غيره أي لا أحد يقدر على شيء من ذلك غيره «وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (17) يمنعهم مما قدر عليهم ، بل لا بد نائلهم قال تعالى «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ» المثبطين الناس عن نصرة الرسول «وَ» يعلم «الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ» وهم ابن سلول وأصحابه «هَلُمَّ إِلَيْنا» تعالوا نحونا واتركوا محمدا وأصحابه لأنهم مغلوبون لا محالة فلو كانوا لحما لابتلعهم أبو سفيان وأصحابه لأن محمدا وأصحابه بالنسبة إليهم كأكلة رأس ، فتراهم يا حبيبي يقولون هذا القول البذيء «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ»(5/461)
ج 5 ، ص : 462
أي الحرب «إِلَّا قَلِيلًا» (18) بقدر ما
يرون موقعها ثم ينصرفون عنها ، وهؤلاء المنافقون شديد والبخل على المؤمنين ولهذا يقول اللّه تعالى «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ» بأن تنصروا وتغلبوا وتغنموا ، ولذلك فإنهم لا يأتون الحرب إلا إتيانا قليلا لينظروا من الغالب «فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ» من قبل العدو «رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ» في موقعها يمينا وشمالا من شدة الرعب ترى أحدهم «كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» أي مثل دوران عين المحتضر «فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ» وأمنوا لقاء العدو «سَلَقُوكُمْ» خاطبوكم مخاطبة عنيفة في مقاسمة الغنائم يقولون قاتلنا معكم وناضلنا عنكم وبنا غلبتم عدوكم «بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» سليطة ذرية تفعل بالمخاطب فعل الحديد بالرجل وتراهم «أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ» أي الغنيمة يشاقون المؤمنين فيها فلا يريدون أن يتركوا شيئا إلا قاسموهم عليه وطالبوهم فيه ولو عقال بعير «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَمْ يُؤْمِنُوا» بقلوبهم ، ولا عبرة بما نطقت به ألسنتهم من الإيمان لأنه رياء وخوف من أن تقتلوهم «فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» التي عملوها من جهاد وغيره «وَكانَ ذلِكَ» الإحباط وعدم انتفاعهم من أعمالهم «عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (19) هينا جدا شأنه شأن غيره ، إذ لا يعسر على اللّه شيء ، وهم عند اللّه كذلك لا وزن لهم ولا قيمة ولا مكانة «يَحْسَبُونَ» هؤلاء المنافقون الخاسرون «الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا» ينهزموا لشدة جبنهم ويعتقدون ثباتهم ومقاومتهم المؤمنين ، مع أن هزيمتهم لا بد منها تأييدا لوعد اللّه الذي وعده المؤمنين على رغم أنف المنافقين والكافرين «وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ» مرة ثانية «يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ» أي يتمنون أن يكونوا في البادية ليأمنوا على أنفسهم منهم لشدة فزعهم من الموت بأن يكونوا «فِي الْأَعْرابِ» بينهم في البادية لا بالحاضرة مع أهل
المدينة وتراهم عن بعد «يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ» وما آل إليه أمركم «وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» (20) بما يقدمون به عذرهم وارائتهم أنفسهم للناس أنهم مع المجاهدين فيا أيها المنافقون
«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» وقدوة صالحة بأن تنصروا دين اللّه وتعلوا كلمته وتصبروا على ما يصيبكم مثله ، لا أن تتخلفوا عنه وتنخزلوا من سواده وتهربوا من الجهاد ، ولكن هذه القدوة(5/462)