ج 3 ، ص : 554
وفظايع العذاب «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ» أي حق اللّه وأمره وطاعته ، وهذا مما يطلق عليه الجنب ، قال القائل :
أما تتقين اللّه في جنب وامق له كبد حرى عليك تقطع
أي الجانب المؤدي لرضائه كالتقصير في الطاعات ومخالفة الأوامر والتفريط في حقوق الغير وفي كل ما يتعلق به حق اللّه تعالى وحق عباده وحيواناته لأن لكل حقا ، قال صلى اللّه عليه وسلم اتقوا اللّه فيما ملكت أيمانكم ، أي من الإماء والحيوان بأن تحمل فوق طاقتها أو تضرب بدون تقصير ، وجاء في الخبر : يعاقب ضارب الحيوان بوجهه لا بوجهه إلا بوجهه حيث يضرب على النفار لا على العثار ، لانه يكون غالبا من إهمال الراكب.
قال تعالى حكاية عن هذه النفس المفرطة «وَإِنْ كُنْتُ» في الدنيا «لَمِنَ السَّاخِرِينَ 56» بمن يحذرني هول هذا اليوم وينصحني عن التفريط في ضياع عمري سدى ، وهذه الجملة ترددها كل نفس فرطت في دنياها ندما وحزنا وغما على ما فاتها من عمل صالح وقول مرشد وقبول إرشاد «أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي» للتقوى وقبول نصح الناصحين «لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 57» الشرك ودواعيه في الدنيا ولم يحل بي العذاب الآن في الآخرة «أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ» عند طرحها فيه بشدة وعنف وتذوق ألمه «لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً» عودة إلى الدنيا «فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 58» فيها إلى نفسي وإلى الناس أجمع باتباع أوامر ربي وطاعة رسله وهكذا يتمنى هذه الأماني وغيرها ، ولكن في غير وقتها والتمني رأسمال المفلس ، لهذا فإن اللّه تعالى يرد تمنياته ولا يقبل أعذاره ويخاطبه أن الأمر ليس كذلك «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي» في الدنيا وأرسلت إليك رسلي فطلبوا منك الانقياد لأوامري وسلوك سبل هدايتي وبلغوك كتي فأبت نفسك الخبيثة إلا عصياني وأعرضت «فَكَذَّبْتَ بِها» وبمن جاءك بها «وَاسْتَكْبَرْتَ» وأنفت عنها وتعاليت عليها واستهزأت بها عدا التكذيب والجحود «وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ 59» بها وبمن جاءك بها والآن جئت تتمنى الاماني الفارغة بقبول اعتذارك وجوابها أن يقال لك اخسأ ولا تتكلم ، راجع الآية 108 من سورة المؤمنين الآتية ففيها بحث نفيس «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» يا سيد الرسل «تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى(3/554)
ج 3 ، ص : 555
اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ»
سوادا بشعا شنيعا لا يقاس بما تراه من تراه من سواد الدنيا فهو نوع مكروه قبيح منتن والعياذ باللّه ، والجملة من المبتدأ والخبر حال اكتفى فيها بالضمير عن الواو وعلى أن ترى فيها بصرية لا اعتقادية أما إذا كانت عرفانية قلبية فالجملة في محل نصب مفعول ثاني لها «أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ 60» عن آياتي والإيمان برسلي وكتبي ، بلى وجاهه فيها منازل شتى الواحد منها أشر من الآخر يأوي إليها أمثال هؤلاء
«وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ» بظفرهم وفلاحهم وبلوغهم المقصد الهنيء الأسنى ، لأنهم قطعوا مفازات الجهل بميثاق الطاعات ، والمفازة الطريق بالجبل وهي من الأضداد لأنه الطريق الوعر فإذا قطعه فاز بمقعده وبلغ الراحة «لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ» هو كل ما تستاء منه النفس وأعظمه عذاب النار وهو المراد هنا واللّه أعلم لمناسبة المقام إذ لكل مقام مقال «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 61» على ما فاتهم في الدنيا لأنهم رأوا خيرا منها ولا يصيبهم أذى يؤدي إلى حزنهم ولا ينال قلوبهم غم يسبب حزنهم بل يكونون فرحين مسرورين بما آتاهم «اللَّهُ» ربهم من فضله العميم الواسع كيف لا وهو «خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» مما هو كائن أو سيكون في الدنيا والآخرة من خير وشر وإيمان وكفر في خلقه لا بطريق الجبر بل بمباشرة المتصف بها والمتعرض لأسبابها ، وفي هذه الآية ردّ صريح على المعتزلة ومن نحا نحوهم المنزهين اللّه عن خلق الشرور وإرادة الكفر ، راجع ما يتعلق في هذا البحث في الآية 40 من سورة الأنعام المارة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 62» فهو القائم بحفظ الأشياء كلها والمتصرف بها كيف يشاء بمقتضى الحكمة وفق ما هو سابق في علمه ، فأمر كل شيء موكل إليه دون منازع أو معارض أو مشارك ، وتدل هذه الجملة على أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى لأنها لو وقعت بخلقهم لكانت موكولة إليهم فلا حجة للمعتزلة أيضا فيها وهم القائلون بخلق أفعال العبد نفسه.
واعلم أن صدر هذه الأمة لم يختلف في أفعال وأعمال العباد بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام فبين اللّه تعالى في هذه الآية أنها كلها من خلقه والشيء الوارد من الآية عام يدخل فيه كل ما يتقولون عنه «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» مفاتح خزائنها بيده جل جلاله وهما وما بينهما(3/555)
ج 3 ، ص : 556
وفوقهما وتحتهما ملك لعظمته يتصرف فيهما وبما فيهما كيفما يشاء ويختار.
وكلمة مقاليد قيل إنها فارسية معربة من إقليد قال الراجز :
لم يوذها الديك بصوت تغريد ولم يعالج غلقها باقليد
والصحيح أنها عربية لتكلم العرب بها قبل نزول القرآن ، وقدمنا ما يتعلق بجميع هذه الكلمات الموجودة في القرآن العظيم في الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1 فراجعها ، والمراد في المقاليد هنا واللّه أعلم ما ذكرناه من أنه لا يملك أمرهما ولا يتمكن من التصرف فيهما غيره ، إذ لا يقدر على ذلك إلا اللّه ، كما أنه لا يقدر على حفظهما وما فيهما غيره.
هذا ، وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وغيرهم عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال لا إله إلا اللّه واللّه أكبر سبحان اللّه والحمد للّه أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شي قدير.
وجاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس مثله بزيادة كثيرة.
وهناك خبر آخر عن ابن عمر بمعناه أيضا وأخبار أخر لم نعتمد صحتها ، وعليه يكون المعنى أن للّه تعالى هذه الكلمات يوحّد بها سبحانه ويمجّد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه ذلك الخير ، ووجه إطلاق المقاليد على هذه الكلمات أنها موصلة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى ما في الخزائن ، وقد ذكر صلّى اللّه عليه وسلم شيئا من الخير لمن يقولها في حديث ابن عباس وهي عشر خصال لمن قالها في اليوم مئة مرة 1 أن يحرس من إبليس وجنوده ، 2 أن يعطى قنطارا من الأجر 3 أن يتزوج من الحور العين ، 4 أن تغفر ذنوبه ، 5 أن يكون مع سيدنا إبراهيم عليه السلام ، 6 أن يحضر موته اثنا عشر ملكا يبشرونه بالجنة ، 7 ويزفونه من قبره إلى الموقف كما تزف العروس ، 8 أن يحفظ من هول الموقف ، 9 أن يعطى كتابه بيمينه 10 أن بمر على الصراط ويدخل الجنة.
والحديث بتمامه بالدر المنثور واللّه تعالى على كل شيء قدير فيعطي لمن يشاء هذا الفضل على هذه الكلمات وأقل منها وبلا شيء أيضا إذا شاء وقد ألمعنا إلى مثل هذا في الآية 59 من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية 198 من سورة(3/556)
ج 3 ، ص : 557
الشورى الآتية «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 63» وهذه متصلة بما قبلها أي أنه تعالى ينجي المتقين ويهلك الكافرين ويجعل صفقتهم خاسرة (وجملة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ) معترضة مشار فيها إلى أنه الذي لا يخفى عليه شيء لأنه الخالق لكل شيء الفاتح كل شيء «قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ 64» بعد أن ظهر لكم الدليل القاطع والبرهان الساطع مما تقدم بأنه لا يستحق أحد العبادة غيره ، وجاءت هذه الآية بمعرض الجواب للكفرة القائلين لحضرة الرسول أن يوافقهم على دين آبائهم وعبادة أوثانهم تبكيتا لهم كيف يدعونك يا سيد الرسل إلى هذا «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» الأنبياء إخوانك بأن يبلغوا كل فرد من أممهم فيقولون له «لَئِنْ أَشْرَكْتَ» شيئا مع ربك بالعبادة «لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» بسبب الشرك وكما أن الإيمان يجب ما قبله فالشرك يمحق ما قبله من الأعمال الصالحة ، واللامان في لئن وليحبطن موطئتان للقسم كأنه جل قوله يقول اعلم أيها الرجل وعزتي وجلالي لئن أشركت ليحبطن عملك «وَلَتَكُونَنَّ» أيها الإنسان «مِنَ الْخاسِرِينَ 65» لخيري الدنيا والآخرة.
مطلب في عصمة الأنبياء والردة وخلاف الأئمة وإحباط العمل وتعريفات منطقية :
وإنما صح هذا الخطاب على ظاهره لحضرة الرسول ولمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام مع علمه بمعصوميتهم واستحالة الشرك عليهم ، لأن المراد به غيره من أممهم على طريق ضرب المثل (إياك أعني واسمعي يا جاره) وعلى فرض المقصود به الأنبياء لأن الخطاب موجه إليهم خاصة فيكون لتبهيج حضراتهم وإقناط الكفرة والإيذان بشناعة الشرك وقبح الكفر وكونهما بحيث ينهى عنهما من لا يكاد يقربهما ، وإذا كان ينهى عنهما من لا يتصور مباشرتها منهم فكيف بمن عداهم وهما على غاية من الذم ونهاية من الشؤم ، وعلى القول بأن المراد أمم الأنبياء فتفيد هذه الآية التنبيه الشديد والوعيد الأكيد لمن يشرك باللّه وتهدده بأن مصيره والعياذ باللّه إلى الخسران الذي ما بعده خسران ، وما استدل به صاحب المواقف على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء ولا وجه له ، وقد أوضحنا ما يتعلق بعصمة الأنبياء في الآية 44 من سورة يوسف المارة وفي الآية 124(3/557)
ج 3 ، ص : 558
من سورة طه في ج 1 وأشرنا فيها إلى المواضع التي تكلمنا فيها على هذا من آيات القرآن العظيم ، فراجعها ففيها كفاية.
هذا وما ذكرناه من أنه على سبيل الفرض والتقدير بالنظر لظاهر الآية لأن احتمال الوقوع فرضا كاف في القضية الشرطية كما هنا.
وليعلم أن القضايا قسمان : حملية وهي ما ينحلّ طرفاها إلى مفردين كزيد كاتب أو ليس بكاتب ، وشرطية وهي ما لا ينحل طرفاها إلى مفردين مثل إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.
ولكل منهما أقسام يرجع في معرفتها إلى علم المنطق.
وليعلم أيضا أن القضية والخبر والمطلوب والنتيجة والمسألة في الأصل شيء واحد ولكنها تختلف من حيث التسمية فقط ، فإنها من حيث اشتمالها على الحكم تسمى قضية ، ومن حيث اشتمالها على الصدق والكذب تسمى خبرا ، ومن حيث كونها جزءا من الدليل تسمى مقدمة ، ومن حيث كونها نتيجة تسمى علما ، ومن حيث كونها يسأل عنا في العلم تسمى مسألة.
قال صاحب التلويح : الذات واحدة واختلاف العبادات باختلاف الاعتبار ، وقيل في المعنى :
عباراتهم شتى وحسنك واحد وكل إلى ذلك الجمال يشير
عود على بدء : إلا أنه ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع في المعصية على جميع الأنبياء شرعية كما ستقف عليه من مطالعة المواقع التي أرشدناك لمراجعتها أيها القارئ المنصف الكريم ، وقد استدل السادة الحنفية من عدم تقييد الإحباط بالاستمرار على الشرك إلى الموت بأن الردة تحبط العمل الذي قبلها مطلقا وبوجوب قضاء الحج فقط لأن ثواب حجه قبل الردة أحبط بها أيضا ، أما عدم قضاء الصلاة والصيام والزكاة مثلا فلم يوجبوه باعتباره دخل في الإسلام حديثا والدخول بالإسلام يكفر ما قبله من الآثام ، فلو فرض أنه لم يصلّ ولم يزكّ قط كسائر الكفرة فإنه لا يكلف بشيء من ذلك ، لأن الإيمان يجب ما قبله.
وقال السادة الشافعية إن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتدّ على الكفر إلى الموت ، وقالوا إن ترك التقييد هنا اعتماد على التصريح به في قوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الآية 218 من سورة البقرة في ج 3 ، وقالوا إن هذه الآية من حمل المطلق على المقيد.
وقال بعض الحنفية في(3/558)
ج 3 ، ص : 559
الرد عليهم : إن في الآية المستدل بها توزيعا وكيفيته أن قوله تعالى (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ناظر إلى الارتداد في الدين ، وقوله (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلخ ناظر إلى الموت على الكفر ، وعليه فلا قيد فيها للآية التي نحن بصددها ليصح الاحتجاج بها متى حمل المطلق على المقيد ، ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاة سيد الأنام أو قبلها إلا أنه لم يره هل يسلب عنه اسم الصحبة أم لا ؟ فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا ، وهو ما عليه الحنفية ، ومن ذهب إلى التقييد قال نعم ، وهو ما عليه الشافعية.
وليعلم أن هكذا خلافات وأمثالها بين الأئمة لا علاقة لها بأصول الدين المجمع عليها إذ لم يقع اختلاف ما قط في ذلك.
أما ما يتعلق في الفروع فإن ما يقع من الاختلاف فيها عبارة عن اختلاف الرأي والاجتهاد ، وهذا مما لا يخلو منه البشر في كل زمان ولا يضر بل يحصل من تصادم الأفكار وتحاكك الآراء فيه فوائد جلى ومنافع عظمى ، لأنك إذا لم تقدح الزناد على الحصى لم تحصل النار «بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ 66» الدائبين على شكر النعم المتوالية عليك من ربك فيزيدك بها فضلا ، قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ولا عظموه حق تعظيمه وما عرفوه حق معرفته حين دعوك قومك يا محمد إلى عبادة آلهتهم وأشركوا بالإله الواحد ما لا يستحق العبادة وجعلوا له بنين وبنات وهو منزه عن ذلك كله وكيف يكون هذا «وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بما فيها من جبال وأبحار وغيرها «وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» بما فيها من كواكب وخلائق وغيرها «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ 67» به من الأوثان ، راجع الآية 91 من سورة الأنعام المارة تنبئك عما يتعلق في هذه الآية العظيمة المصورة لعظمة جلال اللّه والموقفة على كنه هيبته.
والقبضة المرة الواحدة من القبض وهي المقدار المقبوض بالكف ، مع العلم بأن هذه الآية مكية ، وتلك التي بالأنعام مدنية.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : يطوي اللّه السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ، ثم يطوي الأرضين بشماله ، ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون.
وفي رواية يقول(3/559)
ج 3 ، ص : 560
أنا اللّه ويقبض أصابعه أنا الملك ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه ، حتى أني أقول أساقط هو برسول اللّه ، لفظ مسلم.
وللبخاري : إن اللّه يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك.
ورويا عن عبد اللّه ابن مسعود رضي اللّه عنه : جاء جبريل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد إن اللّه يضع السماء على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع ، ثم يقول أنا الملك.
فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقال (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
وروى البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : يقبض اللّه الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض.
قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى اللّه عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه بيمين وليس لها عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها ، ويصح أن يقال عقيدة : له جل شأنه يد لا كالأيدي ووجه لا كالأوجه وهكذا إجراؤها على حالها دون تأويل أو تفسير ، وتنتهي بها إلى حيث انتهى بها كتاب اللّه والأخبار المأثوره الصحيحة في كل آية من آيات الصفات التي ألمعنا إليها قبلا في مواقع كثيرة كالآية 158 من الأنعام المارة وغيرها ففيها ما تبتغي ، ولهذا البحث صلة في الآية 105 من سورة الأنبياء الآتية.
مطلب ما هو النفخ في الصور ولما ذا وفي الصعق ومن هم الشهداء :
قال تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» القرن الذي قدمنا بحثه في الآية 73 من سورة الأنعام بصورة مفصلة فراجعها ، والنافخ هو سيدنا إسرافيل عليه السلام «فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» أي مات خوفا وجزعا من هول الصيحة الأولى «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» راجع الآية 87 من سورة النمل المارة في ج 1 ، تعلم المستثنيين من الموت عند النفخة الأولى.
قال السيد محمد الهاشمي في شرحه شطرنج العارفين للشيخ محي الدين العربي قدس اللّه سره : إن المستثنين سبع 1 الجنة 2 والنار 3 والعرش 4 والكرسي 5 واللوح 6 والقلم 7 والأرواح ، واللّه أعلم بذلك.
وإذ كان بين النفختين مدة لا يعلم حقيقتها إلا اللّه جاء العطف في الآخرة(3/560)
ج 3 ، ص : 561
على الأول بما يدل على التراخي ، وهو قوله تعالى «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ 68» ماذا يأمر اللّه فيهم بعد قيامهم من قبورهم ، وقيل إن ما بين النفختين أربعون سنة بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما بين النفختين أربعون ، قالوا أربعون يوما ؟ قال أبيت ، قالوا أربعون شهرا ؟ قال أبيت ، قالوا أربعون سنة ؟ قال أبيت (وهذا ورع منه رضي اللّه عنه لأنه لم يسمع من الرسول ما يتذكره على الضبط هل هي ساعات أم أيام أو شهور أو سنون ، ولم يتذكر إلا لفظ الأربعين ، ولهذا لم يتجاسر على تمييزها ، هذا أبو هريرة الذي يطعن في أحاديثه من لا خلاق له من التقوى ، فإذا كان لا يستطيع أن يبين ماهية الأربعين في الحديث وهو عبارة عن اخبار لا علاقه لها في الأحكام والحدود ، فكيف يتصور أن يقول شيئا لم يسمعه من حضرة الرسول فيما يتعلق فيها وكيف يظن به أن يتكلم بشيء لم يتحققه ، ألا فلينتبه المتقولون وليتقوا اللّه في أصحاب رسوله ولا يظنوا بهم إلا الخير والصدق ، وليحذروا أن ينسبوا إليهم غير ذلك ، وقد سمعوا من نبيهم قوله : (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ثم ينزل اللّه من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ، وليس من شيء إلا يبلى إلا عظم واحد هو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة ، وقدمنا ما يتعلق بعجب الذنب في الآية 99 من سورة الإسراء ج 1 فراجعه.
قال تعالى «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» حين تجلى لفصل القضاء بين خلقه «وَوُضِعَ الْكِتابُ» الذي فيه صحائف أعمال الخلق ليحاسب كلا بمقتضي عمله وجيء باللوح المحفوظ لمقابلته بكتب الأعمال التي دونها الحفظة ليظهر للمنكرين أن كل شيء وقع من خلقه ثابت عنده في علمه ومدون في كتابه قبل وقوعه «وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ» ليسألهم عن تبليغ رسالتهم وعما أجابهم به قومهم ويستشهدهم عليهم وهو أعلم بذلك كله ، وإنما ليطلع عباده على ذلك وليعلموا أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم لا غير «وَالشُّهَداءِ» يؤتى بهم أيضا ليشهدوا عليهم وهو أعلم بما اقترفوه هذا إذا كان المراد بالشهداء الشهود ، أما إذا أريد بهم شهداء الحرب الذين قتلوا في سبيل اللّه تعالى فيكون إحضارهم لإكرامهم وسرورهم بالفوز والنعيم الدائم ، (3/561)
ج 3 ، ص : 562
وإذا أريد بهم الحفظة أو الموكلون بأعمال الخلق الكاتبون لحسناتهم وسيئاتهم فيكون إحضارهم ليتلى عليهم ما دوّنوه ليسألوا عنه بحضور المكتوب عنهم ليتبين لهم هل ظلموهم بشيء من ذلك أم لا ، وإذا أريد بهم الرجال العدول الأبرار من كل أمة فيكون حضورهم لسؤالهم هل أن الرسل بلغوا أممهم رسالة ربهم أم لا ، لأن من الناس من يجحد مجيء الرسل ، وإذا أريد بهم أمة محمد يكون المراد من حضورهم أن يشهدوا على الأمم السالفة بأن رسلهم بلغوهم أوامر اللّه ونواهيه عند ما يقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فيقال لهم من أين علمتم أنهم بلغوهم وأنتم بعدهم ولم تجتمعوا معهم ؟ فيقولون من كتاب أنزله اللّه علينا ذكر فيه أن الرسل بلغوا أممهم وهو حق وصدق ، ومن أقوال رسولنا محمد الذي أخبرت يا ربنا أنه لم ينطق عن هوى ، وان قوله وحي منك يوحى إليه ، وقد علمنا أنه حق وأن رسالته صدق ، ومما يدل على أن هذه الأمة تشهد يوم القيامة على الأمم التي قبلها قوله تعالى :
(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) الآية 143 من البقرة في ج 3 ، ومثلها الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 أيضا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» لكل ما يستحقه بموجب عمله «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 69» شيئا فلا يزاد على سيئات المسيء ، ولا ينقص من حسنات المحسن وينال كل جزاء ما عمله إذا عاملهم بعدله ، أما إذا عاملهم بفضله الواسع الذي يدخل فيه من يشاء جنته عمل أو لم يعمل فهو أهل لذلك فقد يعفو عن المسيء ويضاعف للمحسن أضعافا كثيرة وهو جل عطفه لا يسأل عما يفعل «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها من خير أو شر «وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ 70» قبل محاسبتهم وقبل الإطلاع على كتبهم والاستشهاد عليهم إذ ليس هو بحاجة إلى كتاب أو شاهد ، ولكن ليعترفوا أنفسهم بما وقع منهم ، وليعلموا أن اللّه ما ترك لهم مثقال ذرة مما عملوه ، وأنه قضى عليهم ولهم بما يستوجبونه ، لأن الحاكم إذا أفهم المحكوم عليه جرمه وأسبابه وأدلته التي أدانته به ووجه ثبوته عليه بالبراهين التي لا تقبل التأويل والحجج القاطعة لرد دفاعه يوقع الحق على نفسه ويلومها ويبرأ الحاكم من الحيف والجور والخصومة ، ولا يوقر بقلبه غلا عليه ، (3/562)
ج 3 ، ص : 563
وإذا لم يفعل ذلك فيقول له لما ذا حكمت عليّ وبماذا أثبت التهمة الملصقة بي ؟ ولو كان في الحقيقة فاعلا فيوقع اللوم على الحاكم ويسند إليه الجور والحيف والخصومة من حيث لا لوم عليه في الحقيقة إلا تقصيره بعدم بيان الأسباب المذكورة.
قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ» محل تنفيذ العقوبة المترتبة عليهم بعد تفهيمهم الحكم من الحاكم العدل وبيان أسبابه وتبيانه واعترافهم بجرمهم «زُمَراً» أفواجا بعضهم إثر بعض بواسطة شرطة العذاب الذين خصصهم اللّه تعالى لهذه الغاية في يوم النّهاية أذلاء مهانين مكبلين بالسلاسل والأغلال بدلالة لفظ السوق «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» لأنها كانت مغلقة لئلا يتأذى منها من ليس من أهلها لا خشية الفرار إذ لا فرار هناك كدور السجن في الدنيا فإنها تكون دائما مغلقة حتى إذا جيء بسجين جديد فتحت فأدخل وأغلقت أيضا ، إهانة لهم وإعلاما بأن إدخالهم قسرا إذلال لهم «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» الموكلون بها المفوضون بتعذيب أهلها بأنواع العذاب المقدر لهم بعلم اللّه وبالمكان المعين لهم من قبله حين يقضى عليهم لأن جهنم دركات الواحدة أشر من الأخرى عند إرادة إدخالهم الدركة المخصّصة لهم ليذوقوا وبال أمرهم من عذابها ، ويقال لهم توبيخا وتقريعا «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم في الدنيا «يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ» المنزلة عليهم من لدنه «وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى » إذ لم يبق مجال للإنكار والاحتجاج كما لا مجلل للفرار ولا محل لتعقيب الحكم من استئناف وتمييز وإعادة محاكمة كأحكام الدنيا إذ لا معقب لحكم اللّه ، ولهذا يقول اللّه تعالى حكاية عنهم «وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ» الصادرة من الإله العظيم شديد العقاب المبينة في الآية 119 من سورة هود المارة «عَلَى الْكافِرِينَ 71» يعنون أنفسهم لأنهم كفروا باللّه ورسله وما جاءهم من الوحي «قِيلَ» فتقول لهم الملائكة المذكورون بعنف وشدة بعد ما سمعوا قولهم «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها» لا مخرج لكم منها البتة ، وإنما قالوا أبواب لأن كلا منهم له عذاب دون الآخر ،
فيدخل كل الباب الذي فيه محل عذابه ، ثم يقال لهم بعد أن يستقر كل في مكانه هذا مثواكم «فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ 72» عن طاعة اللّه(3/563)
ج 3 ، ص : 564
ورسله المستأنفين عن قبول النصح والإرشاد المعرضين عن الهدى والصواب والسداد.
قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ» التي حكم لهم بدخولها والتنعم بنعيمها «زُمَراً» جماعات وزرافات على مراكبهم ومراتبهم ، وجاء هنا لفظ السوق للمقابلة أو أنه للمراكب لا للراكبين لإرادة السرعة إلى دار الكرامة بالهيبة والوقار والاحترام ، فشتان بين السوقين «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها» قبل وصولهم زيادة في تبجيلهم وليحصل لهم كمال السرور بدخولها رأسا من غير انتظار لأن الخزنة فتحوا أبوابها ووقفوا عليها صفوفا منتظرين قدومهم ليتشرفوا بهم كما هي الحالة في الدنيا عند قدوم أمير أو وزير أو عند ما يدخل السلطان مقامه في الأيام الرسمية ليتقبل التبريكات من رعيته والسلام عليه إذ يقف الجنود والموظفون صفوفا عن يمين وشمال الباب الذي يجلس فيه إكراما له وإعلاما بأنها مهيأة لهم ، فيدخلون بالاحترام والتكريم وتؤدى لهم التحية عنده دخولهم وخروجهم ، وهكذا في الآخرة تقف الملائكة صفوفا لاستقبال أهل الجنة ، وشتان بين هؤلاء الصفوف وتلك الصفوف ، راجع الآية 50 من سورة ص في ج 1.
ومن هنا فليعلم أهل الدنيا الفرق بين تلك الحالتين ، وعند ما يقبل أهل الجنة تحييهم الملائكة عن يمين الأبواب وشمالها احتراما لهم بدلالة قوله تعالى «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ» مقاما ونفسا «فَادْخُلُوها خالِدِينَ 73» فيها أبدا فيدخل كل منهم الباب المهيء له فيها منزله بحسب عمله ، اللهم اجعلنا منهم بكرمك «وَقالُوا» بعد أن رأوا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في الدنيا «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ» الذي وعدنا به أنبياؤه في الدنيا «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» ملكنا أرض الجنة بدلا من أرض الدنيا والمراد بالأرض التي استقروا عليها بعد دخولهم الجنة تشبيها بأرض الدنيا من حيث الاسم وإلا لا مشابهة ولا مقايسة ، وجعلنا «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» من قصورها ومضاربها ومنتزهاتها التي منحنا اللّه إياها مما تشتهيه أنفسنا وتلذ أعيننا «فَنِعْمَ» الأجر «أَجْرُ الْعامِلِينَ 74» خيرا الفاعلين حسنا في الدنيا ، الجنة ونعيمها :
نعمت جزاء المؤمنين الجنة دار الأماني والمنى والمنة(3/564)
ج 3 ، ص : 565
«وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ» عليهم محيطين بهم ومحدقين صفوفا «مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» إلى حيث يشاء اللّه تعالى إذ ذكر لنا ابتداء الغاية وسكت عن المغيا فلا يعلمها غيره لأن عرش الرحمن يكون في عرصات في الأرض ، قال تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الآية 18 من سورة الحاقة الآتية ، وذلك بعد أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات ، راجع الآية 48 من سورة إبراهيم الآتية ، لأن أرضنا هذه لا تحويه وهي بالنسبة له كحلقة ملقاة في فلاة ، وقال تعالى :
(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا) الآية 22 من سورة والفجر المارة في ج 1 ، وقال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) الآية 38 من سورة النبأ الآتية وهؤلاء الملائكة ديدنهم «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» تلذذا لا تعبدا إذ لا تكليف هناك وهذا التسبيح والتحميد من الملائكة بمقابلة أبواق الجند وترتيلاتهم في الدنيا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» من قبل الحق ووضع كل من الفريقين بمنزلته المخصصة له بقضاء قاضي القضاة الأبدي «وَقِيلَ» والقائل واللّه أعلم المؤمنون «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 75» شكرا على ما أولاهم من هذه الكرامة الأبدية ، فالحمد الأول كان على انجاز وعده وإيراثهم الأرض ، وهذا الحمد الثاني على القضاء بالحق فلا تكرار ، والأول فاصل بين الطرفين بالوعد والوعيد والرضى والسخط ، والثاني للتفريق بينهما بحسب الأبدان فريق في الجنة وفريق في السعير ، ثم إن الملائكة تحمد اللّه تعالى أيضا على ذلك القضاء لخلاصهم من تهم ما نسبوه إليهم من العبادة.
ويوجد أربع سور مختومة بمثل هذه اللفظة هذه والصافات والقلم وكورت.
هذا ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة المؤمن
عدد 10 - 60 - 40
(وتسمى سورة غافر) نزلت بمكة بعد سورة الزمر عدا آيتي 56/ 57 فإنهما نزلنا في المدينة ، وهي خمس وثمانون آية ، والف ومئة وتسعون كلمة ، وأربعة آلاف وتسعمئة وستون حرفا ، ويوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بما بدئت به ، وهي هذه والسجدة والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف ، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.(3/565)
ج 3 ، ص : 566
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «حم 1» اسم للسورة ومبدأ أسماء اللّه المحسن والحكيم والحاكم والحنان والمنان والحي والمميت والمجيد والمبدئ المعيد ، قال ابن عباس : لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم ، والمر ، وحم ، ونون اسم اللّه الرحمن حروف مقطعة ، وحم بمعنى حمّ أي قضي الأمر بما كان وما سيكون من مبدأ الكون إلى منتهاه ، وهذه السور السبع تسمى آل حميم.
قال الكميت بن يزيد في الهاشميات :
وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقي ومغرب
وقال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه : إن مثل صاحب القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث ، فبينما هو يسير ويتعجب منه إذ هو على روضات دمثات ، فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب ، فقيل له إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن ، وإن مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم وتجمع بالمدّ كالطواسين والطواسيم وتقرأ بالتفخيم ومد الحاء وفتحه وإسكان الميم ، وقرأها حمزة وغيره بالإمالة ، وقرأها قراء المدينة بين الفتح والكسر ، وقرأها بعضهم بكسر الميم ويجمعها على حاميمات ، ومن شواهد هذا الجمع ما قاله ابن عساكر في تاريخه :
هذا رسول اللّه في الخيرات جاء بياسين وحاميمات
أما معناها فأحسن الأقوال فيها قول من قال اللّه أعلم بمراده بذلك كما هو الحال فيما تقدم من الأقوال في الر والم والمص وطسم وطس وق ونون وص ، وشبهها لأنها رموز بين اللّه تعالى ورسوله لا يعرفها على الحقيقة غيرهما ، راجع ما ذكرناه أوائل السور المذكورة تجد ما تريده ، إذ لم نترك قولا قيل فيها وزدنا فيها ما لم يقله أحد وهو أنها رموز بين اللّه ورسوله ، ومنها اتخذ الملوك والأمراء الشفرة التي لا يعرفها غيرهما ، لأن جميع ما في الدنيا أخذ من كتب اللّه السماوية ، سواء ما يتعلق بالملوك والحكام والأحكام والآداب والأخلاق والتنعيم والتعذيب والحراسة والمراسيم وغيرها.
«تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ» الغالب المنيع ، والكلام فيها كالكلام في مبدأ سورة الزمر المارة لفظا ومعنى وإعرابا ، إلا أنه هنا يجوز(3/566)
ج 3 ، ص : 567
جعل تنزيل فما بعده خبرا لحميم ، وهناك ختم الآية بلفظ الحكيم ، وهنا بلفظ «الْعَلِيمِ 2» بكل ما كان وسيكون في الدنيا والآخرة وهو من تفتن النظم ولا شك أن البليغ علمه بالأشياء وكنهها يكون حكيما بتصرفاتها ووصفها ووضعها في محالها «غافِرِ الذَّنْبِ» مهما كان لمن يشاء عدا الشرك «وَقابِلِ التَّوْبِ» من أي كان مهما كان فاعلا ، وساتر لما كان قبل التوبة من الذنوب «شَدِيدِ الْعِقابِ» لمن يبقى مصرا على كفره وعناده لاستكباره عن الرجوع إلى ربه «ذِي الطَّوْلِ» السعة والغنى والأنعام الدائم «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ 3» والمرجع في الآخرة.
قد اشتملت هذه الآية العظيمة على ست صفات من صفات اللّه تعالى ملزمة للإقرار بربوبيته واستحقاقه للعبادة إذ جمعت بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وهي وحدها كافية للإيمان به تعالى وبما جاء عنه من كتاب ورسول لمن كان له قلب واع وآذان صاغية.
مطلب الجدال المطلوب والممنوع وبحث في العرش والملائكة ومحاورة أهل النار :
قال تعالى «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» باللّه ورسله وكتبه ، أما المؤمنون فلا يجادلون بل يمتثلون أوامر ربهم فيه وينقادون لها ويسلمون لما جاء به الرسل ويحققونه فعلا.
واعلم أن هذه الآية والآية 176 من سورة البقرة في ج 3 وهي (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) من أشد آيات القرآن على المجادلين فيه.
أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال : إن جدالا في القرآن كفر ، وقال المراء في القرآن كفر.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قوما يتمارون ، فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب اللّه عزّ وجل بعضه ببعض ، وإنما أنزل الكتاب ليصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعضه فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال :
هاجرت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج صلّى اللّه عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب ، فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.
وقد نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين ، والمراد بالجدال(3/567)
ج 3 ، ص : 568
ما كان منه بالباطل من الطعن في آيات اللّه المبرأة من الطعن ، وما كان القصد منه ادحاض الحق وإطفاء نور اللّه عز وجل ، يؤيد هذا ما سيأتي من تشبيه حال كفار مكة بكفرة الأحزاب قبلهم.
أما الجدال في آيات اللّه لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقاومة آراء أهل العلم في استنباط معانيها وبلاغة مبانيها وردّ شبه أهل الزيغ عنها وإحراقهم بإفحامهم وإظهار جهلهم فيها فهو أعظم من الجهاد في سبيل اللّه تعالى ، وهو لازم على كل قادر كامل عارف في كلام اللّه.
هذا ، وما نقلناه من الأخبار أعلاه يومىء إلى هذا إذ يشعر أن نوعا من الجدال في القرآن كفر فدحضه من أعظم القربات للّه تعالى وهذا يسمى جدالا عن آيات اللّه لا في آيات اللّه ، فلذلك كان محمودا لأن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذّب عن الشيء ، ويتعدى بغي إذا كان بخلافه وهو المذموم «فَلا يَغْرُرْكَ» يا سيد الرسل «تَقَلُّبُهُمْ» تصرف الكفرة المجادلين «فِي الْبِلادِ 4» ذاهبين آئبين سالمين غانمين في تجاراتهم وزراعاتهم وزياراتهم ، فإن عاقبة أمرهم الهلاك والخسار ، ومرجعهم إلى العذاب والدمار.
واعلم أنه كما كذبك قومك «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ» الرسل أمثالك «قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ» الذين تحزبوا على رسلهم بالتكذيب وقاتلوهم فنصر اللّه رسله عليهم ، وفي هذه الآية إشارة إلى أن قوم محمد وأقاربه سيتحزبون عليه أيضا ، وقد كان منهم ذلك كما سيأتي في الآية 9 من سورة الأحزاب في ج 3 ، «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ» فيقتلوه ، وفي هذه الجملة إيماء أيضا إلى أن قوم محمد سيهون بقتله وكان منهم أيضا كما سيأتي في الآية 31 من سورة الأنفال ، وسيأتي تفصيله في بحث الهجرة في سورة العنكبوت إن شاء اللّه.
هذا سببها الظاهري ، أما سببها الباطني فهو علو شأن الإسلام وشموخ حكمته وارتفاع رايته وتعظيم أهله «وَجادَلُوا» رسلهم «بِالْباطِلِ» كما جادلوك به «لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» الذي جاءوهم به ويمحقوه بقصد إبطاله ، ولكن اللّه تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ويطفىء كلمة الكفر على رغم أنفهم.
قال تعالى «فَأَخَذْتُهُمْ» ودمرتهم عقابا لفعلهم ذلك «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ 5» إياهم أي كان عقابا مهولا يتعجب منه المتعجبون «وَكَذلِكَ» مثل ما وجب العذاب على أولئك أقوام الرسل قبلك(3/568)
ج 3 ، ص : 569
«حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» بالعذاب «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» من قومك ، لأن السبب الداعي إليه واحد وهو «أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ 6» في الآخرة فضلا عن عذاب الدنيا الذي عجلناه لهم ، يقرأ أنهم بالكسر على أن الجملة بدل من قوله كلمة ربك وبفتح الهمزة على حذف لام التعليل وهكذا.
قال تعالى «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» من الملائكة «وَمَنْ حَوْلَهُ» منهم الحافّين به وهم سادات الملائكة وأعيانهم.
وكلمة الذين كلام مستأنف مبتدأ خبره «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ» بأنه الواحد الفرد الصمد الذي لا شريك له ولا وزير ولا صاحبة ولا ولد ، وهذا إظهار لشرف الإيمان وترغيب المؤمنين به ، لأنهم مؤمنون حقا وإيمانهم به معلوم ، وهذا على حد وصف الأنبياء بالصلاح والصدق والوفاء وهم كذلك إظهارا لوصف هذه الخصال ، وترغيبا للمؤمنين بالاقتداء بهم فيها.
وكيفية تسبيحهم واللّه أعلم هو : سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم من هيبة جلاله ، وهم أشد خوفا من جميع أهل السموات ، لأن العبد كلما ازداد قربا من ربه ازداد معرفة به ، وكلما ازداد معرفة ازداد خشية منه ، ولذلك من عرف ربه هابه كما أن الذي يتقرب من الملك يعرف من سطوته مالا يعرفه غيره البعيد عنه ، فيشتد خوفه بقدر قربه منه ومعرفته له «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» ويقولون في استغفارهم «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً» أي وسع علمك ورحمتك كل شيء فكل منها تمييز محول عن الفاعل «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا» من عبادك من كفرهم وعصيانهم «وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ» القويم في الدنيا وآمنوا برسلك وكتبك فاعف عنهم يا مولانا «وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ 7» في الآخرة «رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ» على لسان رسلك يا ربنا ، هم «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الغالب المنيع سلطانه البديع شأنه «الْحَكِيمُ 8» فيما يفعل الذي لا يقع في ملكه إلا ما هو مقتضى حكمته الباهرة.
ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 21 من سورة الطور الآتية والآية 22 من سورة الرعد في ج 3 فراجعهما ، (3/569)
ج 3 ، ص : 570
ومنها يفهم أن مطلق الإيمان كاف لإلحاقهم بهم وإدخالهم الجنة ، لأن الإنسان متى ما وسم بالإيمان صار صالحا لدخول الجنة ولو لم يعمل شيئا ، وذلك من فضل اللّه بعباده «وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ» وأجرهم من عقابها بكرمك وجودك وإحسانك «وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ» الموجبة للعذاب وتمنعه من قربانها بفضلك وتوفيقك وهدايتك «يَوْمَئِذٍ» يوم إذ كان في الدنيا «فَقَدْ رَحِمْتَهُ» رحمتين رحمة في الدنيا من أن يوصم بها ، ورحمة في الآخرة بالنجاة من عقابها ووبالها.
واعلم أن لفظ السيئة عام في كل شيء يعمله الإنسان بنفسه أو بغيره مالا وبدنا مادة ومعنى من كل ما يطلق عليه لفظ قبيح وجميع الحركات الرذيلة والإشارات البذيئة «وَذلِكَ» اتقاء السيئات في الدنيا والرحمة بالآخرة هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 9» في جوار اللّه تعالى في جنته فلا فوز أعظم منه ولا تصل العقول إلى كنه عظمته.
انتهى كلام الملائكة عليهم السلام وهو كلام جميل بديع جامع مانع محصور في جهتين التمجيد للرب وطلب المغفرة لأهل الإيمان.
قال مطرف : أنصح عباد اللّه تعالى للمؤمنين الملائكة ، وأنمش الخلق لهم الشياطين.
وقد وردت أخبار كثيرة في وصف الملائكة والعرش ضربنا عنها صفحا لعدم الوثوق بصحتها ، ولأنهما في الحقيقة فوق ما يقولون ولا يعرف حقيقتهما وصفتهما على ما هما عليه إلا اللّه تعالى ، وما نقل من الأخبار لا قيمة له ، لأنهما مما لم يشاهد وما لم يشاهد لا يوصف.
هذا ، وقد أخرج جابر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة اللّه تعالى عزّ وجل من حملة العرش إن ما بين شحمتي أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمئة عام.
وروى جعفر عن محمد عن أبيه عن جدّه قال : ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية كخفقان الطير المسرع ثلاثين الف عام.
فما بالك ببقية الأوصاف التي ذكرها الأخباريون ؟ لأن العقل لا يسعها ، فعلى العاقل أن يكتفي بما وصف اللّه في كتابه من كونهم غلاظ شداد لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وأن العرش من عظم خلق اللّه ، وأن الملائكة أقوياء أشداء متناهون في العظمة ، وقدمنا ما عثرنا عليه من الأقوال الصحيحة في الآية 20 من سورة التكوير والآية 54 من سورة الأعراف والآية 4 من سورة طه والآية الأولى من سورة الإسراء في(3/570)
ج 3 ، ص : 571
ج 1 والآية 6 من سورة هود المارة فراجعها.
هذا ، وقد جاء دعاء الملائكة شاملا وكأنها القائل :
إن تغفر اللهم فاغفر جمّا فأي عبد لك لا ألمّا
أشار إلى دعائهم.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ» يوم القيامة من قبل خزنة جهنم حين يضجون من المكث فيها فتقول لهم الملائكة «لَمَقْتُ اللَّهِ» لكم «أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ» والمقت البغض الشديد والبغض نفار النفس من الشيء ترغب فيه ، وهو ضد الحب وأشده لمن يراه متعاطيا القبيح من الأعمال ، فالكفار يمقتون أنفسهم من طول المكث في جهنم ، لأنها أمرتهم بالسوء الذي من أجله وقعوا فيها فيغضبون عليها ويغيظونها ويعضون أناملهم من الغيظ حتى يأكلونها وينكرون على أنفسهم بما قادتهم إليها شهواتهم على رءوس الأشهاد ، فعند ذلك تناديهم الملائكة كما قص اللّه عز وجل فتقول لهم «إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ 10» باللّه وتكذبون رسله تبعا لأهوائكم واقتداء بآبائكم ، فهذا جزاؤكم ، فيجاوبونهم بقولهم
«قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» الموتة الأولى حينما أشهدهم على أنفسهم في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإيمان به وبرسله ، راجع الآية 152 من سورة الأعراف في ج 1 ، ثم خلقهم بعد هذه الموتة التي كانوا بعدها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات مستقرين ومستودعين ، ثم أماتهم بعد انقضاء آجالهم في الدنيا ، والموتة الثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال «وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» الأولى في الدنيا بالولادة والظهور إلى عالم الظهور من دنيك المستودع والمستقر راجع الآية 99 من سورة الأنعام المارة ، قال الغزالي : الولادة الأولى الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام فهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم ، ثم تكون الولادة الثانية من الرحم إلى هذه الدنيا ، والحياة الثانية الإحياء للبعث في الآخرة ، ونظير هذه الآية الآية 29 من سورة البقرة فراجعها.
هذا ، وقد عدد في هذه الآية أحوال المحنة والبلاء أربعة : موت في عالم الذر وموت في الدنيا وحياة في الدنيا وحياة في الآخرة ، وكلها عرضة إلى المحن والبلايا ، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على عذاب القبر وفسروا الحياة الثانية فيه والموتة الثانية(3/571)
ج 3 ، ص : 572
التي تعقب هذه الحياة ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 46 من هذه السورة ، وقالوا أيضا لربهم «فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا» الآن وتبنا عما كنّا عليه في الدنيا «فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ 11» للرجوع إلى الدنيا لنعمل صالحا يا إلهنا لأنا عرفنا كل شيء كنا نكرهه وننكره أنه حق كالبعث وإنزال الكتب وإرسال الرسل والجنة والنار وغيرها والحساب والعقاب على كل ذرة من الأفعال وكل حرف من الأقوال وكل حركة من الأطوار وكل فتيل ونفير وقطمير ، وتحقق لدينا أن الشرك باطل والأوثان لا تنفع وأن الملائكة وعزير وعيسى عباد اللّه تعالى ليس لهم من الأمر شيء ولا شفيع ولا شفاعة إلا بإذن اللّه لمن يريده ، وأن اللّه منزه عن الصاحبة والولد لا وزير له ولا شريك.
فقيل لهم لا طريق إلى الرجوع إلى الدنيا ولا سبيل إلى الخروج من النار «ذلِكُمْ» الذي أوقعكم في العذاب وحرمكم من ثواب الآخرة منّى لكم الرجوع إلى الدنيا هو «بِأَنَّهُ» كنتم «إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ» به واشمأزت نفوسكم من ذكره «وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا» تصدقوا وتستبشروا ، وقد بلغتكم رسلكم مصيره وحذرتكم هول هذا اليوم الذي تخلدون فيه بما أنتم عليه من العذاب ، وليس بوسع أحد إجابة طلبكم ، ثم تقول لهم الملائكة أيضا قولوا كما نقول نحن لا مناص مما حكم اللّه به «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ» في هذا اليوم العصيب «الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ 12» الذي لا أعلى ولا أكبر منه ، ولا رادّ لحكمه ولا معقب لقضائه.
مطلب احتجاج الحرورية ومعنى الروح وإعلان التفرد بالملك وإجابة الكل للّه به :
قيل كان الحرورية أخذوا قولهم لا حكم إلا للّه من هذه الآية ، قال قتادة :
لما خرج أهل حروراء قال علي كرم اللّه وجهه من هؤلاء ؟ قيل المحكمون أي القائلون لا حكم إلا للّه ، فقال رضي اللّه عنه : كلمة حق أريد بها باطل.
واستدلالهم هذا فاسد واه ، ويكفي الرد عليهم قوله تعالى (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) الآية 35 من سورة النساء ج 3 وقوله تعالى (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) الاية 95 من المائدة ج 3 ، فإذا كان جل جلاله أمر بالتحكيم لحل خلاف بين الزوجين وتقدير قيمة الحيوان المصاد أو مثله فلئن يأمر بالإصلاح بين المسلمين على(3/572)
ج 3 ، ص : 573
طريق التحكيم من باب أولى وخاصة ما يتعلق بأمر الإمامة.
قال تعالى «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ» الدالة على قدرته في كل شيء من مكوناته :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
قالا أو حالا «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» ماء هو نفسه رزق ، وفي الآية 5 من سورة الجاثية الآتية (مِنْ رِزْقٍ) لأنه أفضل الأرزاق وأحوجها للبشر ، ويتسبب عن نزوله جميع الأرزاق لجميع الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها وفصائلها شرابا وقوتا وفاكهة غطاء ووطاء ولباسا «وَما يَتَذَكَّرُ» في هذا الرزق الذي فيه حياة كل نام وبقاء كل جامد «إِلَّا مَنْ يُنِيبُ 13» إلى خالقه في جميع أموره ، فالخاشع الخاضع هو الذي يتذكر في تلك الآيات الباهرات المبرهنة على وجود الخالق وصدق ما جاء به رسله ، ولذلك «فَادْعُوا اللَّهَ» أيها الناس حالة كونكم «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» من كل شك وريبة وشبهة ومرية «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ 14» إنابتكم وإخلاصكم فلا تلتفتوا إليهم ، وألجئوا إلى ربكم ذلك الإله العظيم «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ» المعارج المعظمة في غيوبه وفي صفات جماله وجلاله وكماله وهي مصاعد الملائكة إلى عرشه العظيم حين يعرضون إليه عليها وهو كناية في علو عزّته وشامخ ملكوته ورفعة شأنه وارتفاع سلطانه وسامي برهانه ، ورفيع وما بعده اخبار لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) إلخ أو كل منها خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رفيع ، وكلمة رفيع لم تكرر في القرآن «ذُو الْعَرْشِ» المجيد الذي وسع كرسيه السموات والأرض وهو الذي «يُلْقِي الرُّوحَ» التي هي «مِنْ أَمْرِهِ» ولم يعلم أحد ماهيتها ، أو الوحي المعبر عنه بالروح لما فيه من حياة الأرواح «عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين اصطفاهم لطاعته واجتباهم لرسالته ، وقال بعضهم إن الروح هنا جبريل عليه السلام (فتكون جملة من أمره) سببية ، أي يلقى الروح من أجل تبليغ أمره ، ولا يخفى أن الروح يطلق على معان كثيرة الروح المعلوم والقرآن وجبريل والوحي ، وكلها ينعم اللّه بها على عبادة المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة ، والكل جائز
هنا ، والأولى أن يكون بمعنى الوحي لمناسبته لما بعده ، واللّه أعلم.
وقد أسهبنا البحث في الآية 86 من سورة(3/573)
ج 3 ، ص : 574
الإسراء فراجعها في ج 1 «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ 15» هو يوم القيامة إذ يتلاقى فيه الأولون والآخرون وأهل الأرض والسماء والأنبياء وأممهم والعابدون والمعبودون والظالمون والمظلومون والمتحابّون في اللّه ، فتراهم «يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ» ظاهرون للعيان لا يخفى أحد عن أحد ، لأن اللّه يعطي الخلق قوة الإبصار بحيث يرى بعضهم بعضا جميعا ، لا تحول رؤية أحد عن أحد ، ثم يتجلى عليهم بحيث «لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ» من أشخاصهم ، ولا من أحوالهم وأفعالهم ، كيف وهو المطلع عليهم في حين كونهم في الرحم إلى وقت وقوفهم بين يديه في الآخرة إلى ما بعد ذلك ، لا يعزب عن علمه ذرة مما عملوه في الدنيا وما يصيبهم مثلها في الآخرة وإنما خصّ يوم بروزهم وهو عالم قبل ذلك وبعده ، ولو اختفوا في أطباق الأرض أو في أقطار السماء ، لأنهم كانوا في الدنيا يتوهمون أنه لا يراهم إذا استتروا بالحجب وأنه قد تخفى عليه بعض أحوالهم ، أما اليوم فقد زال توهمهم وانمحق ظنهم ، لأنهم مكشوفون على وجه البسيطة التي لا عوج فيها ولا ارتفاع ، ثم يقول اللّه تعالى لجميع خلقه «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» فتخضع الخلائق إجلالا لهيبته وإعظاما لجلاله وخاصة ملوك الدنيا فإنهم ينحنون لعظمته ويطأطئون رءوسهم لجلاله حياء وخجلا لا يتكلم أحد منهم ، فيجيب الربّ نفسه بنفسه «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» 16 الذي قهر عباده بالموت وبعثهم قسرا للحساب والجزاء الذي لا رب غيره.
وقيل إن أهل الموقف كلهم بلسان واحد يقولون للّه الواحد القهار ، فالمؤمنون على طريق التلذذ والتذكر والكافرون على جهة الذل والصغار.
وما قيل إن هذا النداء يكون بعد النفخة الأولى وفناء العالم ينافيه ظاهر الآية ، لأن التلاقي لا يكون إلا بعد النفخة الثانية ، والبروز يكون في المحشر ، والنداء يكون لحاضر يسمع لا لميت ، فبطل هذا القيل من ثلاث وجوه ، ويؤكد بطلانه الدليل الرابع وهو قوله عز قوله «الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» في دنياها «لا ظُلْمَ الْيَوْمَ» على أحد منكم ، ولا يكون هذا إلا يوم الحساب إذ يحاسب فيه كل على ما عمل إن خيرا يكافى خيرا منه وإن شرا يجازى شرا بمثله ، الحقير والخطير والقوي والضعيف والغني والفقير سواء ، فليأمن الكل من الظلم لأن
الحاكم هو ملك الملوك وقاضي(3/574)
ج 3 ، ص : 575
القضاة الذي لا يبالي بأحد ولا يراعي أحدا «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ 17» يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة شخص واحد ، لا يشغله حساب أحد عن غيره ولا يلهينه جزاء واحد عن الآخر ، كما لا يشغله شأن عن شأن.
انتهى خطاب اللّه لخلقه الذي سيخاطبهم به في الآخرة ، وقد أعلمهم به الآن ليكونوا على بصيرة من أمرهم فيتفوه ويحذروه ويخافوه.
ثم التفت إلى حبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم فقال «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ» القيامة سميت آزفة لقرب وقتها ، لأنها لا شك آتية وكل آت قريب ، ولا يبعد على اللّه شيء قال الشاعر :
أزف الرحيل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
أي لا تستبعدوها أيها الناس ، فإنها مباغتتكم وسترون من شدة هولها «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ» تصعد قلوبهم إلى حناجرهم من شدة الفزع وكثرة الوجل فتكون في تراقيهم لا تعود لأماكنها فيستريحوا ولا تخرج من أفواههم فيموتوا حال كونهم «كاظِمِينَ» مكروبين ممسكين أنفسهم على قلوبهم ممتلئين خوفا وجزعا ، لأن في ذلك اليوم «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ» صديق شفوق أو قريب ودود أو حبيب رءوف يميلون إليه ، ولا يقدر أحد أن يحميهم ولو بكلام «وَلا شَفِيعٍ» لهم في ذلك اليوم «يُطاعُ» قوله أو يسمع كلامه لأن شفعاء الكفرة أوثان مهانة لا شفاعة لها وأنها قد تتبرأ منهم وتنكر عبادتهم لها ، وقد يأتي يطاع بمعنى يجاب قال الشاعر :
رب من أنضجت غيظا قلبه قد تمنى لي موتا لم يطع
وعليه يكون المعنى ما لهم شفيع يجاب طلبه ، أي أن لهم أصدقاء وشفعاء ولكن لا يجاب طلبهم ، وفي تلك الساعة شفعاء المؤمنين أيضا لا يقدرون أن يشفعوا إلا لمن يأذن لهم بشفاعته ، فلا يتكلمون بالشفاعة لأحد إلا بإذنه ولمن يرتضيه سواء كانوا أنبياء أو أولياء أو شهداء أو أصدقاء وأقرباء صلحاء ، فالكل إذ ذاك سكوت لا يقبل قول ولا يسمع كلام ، إلا أن المؤمنين لهم أمل بالشفاعة من هؤلاء الكرام على اللّه تعالى وهو لا يخيب أملهم ، أما الكافرون فلا أمل لهم البتة ، لأن اللّه يهين أوثانهم التي كانوا يأملون شفاعتها ، فتتقطع أفئدتهم أسفا وأسى وحزنا.(3/575)
ج 3 ، ص : 576
واعلموا أيها الناس أن ذلك الإله الجليل الذي ستعرضون عليه في ذلك اليوم «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ» استراق النظر من أحدنا إلى ما لا يحل ، فكل نظرة لما نهى اللّه عنه تسمى خائنة يحاسب عليها العبد ، ألا فليتق اللّه الإنسان وليصرف نظره عن المحارم إلى ما أحل اللّه والتفكر في ملكوته والتملي من كتابه ، ولا يستحسن إلا الحسن الجائز له أن يستحسنه ، قال بعض العارفين :
وعيني إذا استحسنت غيركم أمرت الدموع بتأديبها
لأن البكاء من خشية اللّه يطهر المساويء «وَما تُخْفِي الصُّدُورُ 19» يعلمه أيضا وما هو أخفى لاستواء السر والعلانية عنده ، فكل ما تضمره القلوب من خيانة أو غل أو غش أو حسد أو غيره يعلمه اللّه ، فافعلوا ما شئتم أيها الناس فهو لكم بالمرصاد «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ» بينكم وبينه وبينكم وبين عباده وأعدائه ، لا رجاء ولا رشاء ولا مودة ولا مكانة ولا مال ولا جاه ولا منصب ولا عشيرة «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أوثانا ويعبدونها بدله أو يشركونها معه بالعبادة «لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ» لدعاتهم ولا لعبادهم في ذلك اليوم وقد كانوا في الدنيا يقضون بينهم بحق وباطل بحسب ما تهواه أنفسهم ، أما اليوم فالحكم كله للّه ولا يكون إلا بالحق وهذا من قبيل التهكم فيهم ، لأن من لا يوصف بالقدرة لا يقال له يقضي أو لا يقضي ، وهذا أبلغ من جعل يقضي هنا من باب المشاكلة لأن القصد السخرية بهم لا الاستدلال على صلاحيتهم للإلهية والقضاء.
واعلم أنا قد نأتي بالضمائر في مثل هذا كضمائر العقلاء موافقة لزعم عابديها ، لأن القرآن العظيم أتى بمثل ذلك لهذا الفرض «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوال خلقه «الْبَصِيرُ 20» بأفعالهم فيكافيء كلا بما يستحقه بمقتضى عمله ، وفي الآية تعريض بأن أصنامهم لا تبصر ولا تسمع ولا تعلم ولا تقدر على شيء ،
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ» وكيف أهلكناهم وبقيت ديارهم خاوية «كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ» من قومك يا سيد الرسل «قُوَّةً» على تحمل المشاق والقتال وغيره «وَآثاراً فِي الْأَرْضِ» أيضا أكثر منهم لأنهم مكثوا فيها وعمروا أكثر منهم كما يعلم من المعالم المتروكة عنهم وأطلال ديارهم ، (3/576)
ج 3 ، ص : 577
ومع هذا كله فلم تغن عنهم قوتهم وتعميرهم من اللّه شيئا «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ» التي عملوها ، فاعتبروا بهم وأقلعوا عما يوجب أخذكم ، فالعاقل من اعتبر بغيره «وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ 21» يقيهم عذابه أو يحول دون نزوله بهم «ذلِكَ» الأخذ الفظيع من قبل الإله العظيم «بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ليؤمنوا «فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ» بكفرهم وعدم طاعتهم أنبيائهم وعدم اكتراثهم بهم وبما أظهروه لهم من الأدلة الواضحة على وحدانيته «إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ 22» دائمه لا مخلص لأحد منه ولا مهرب لمن قدّر له منه ، وكل عقاب دون عقابه هين ، لأنه منته ولا نهاية لعقاب اللّه.
قال تعالى فيما يقصه على نبيه «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ» 23» «إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ 24» كرر اللّه تعالى هذه القصة لنبيّه بأوسع مما ذكرها قبل في سورة القصص في ج 1 وما بعدها وغيرها تسلية له لئلا يحزن على عدم إيمان قومه ولا يضجر مما وصموه به فإن قوم موسى جابهوه بأكثر مما وصمت قريش محمدا صلى اللّه عليه وسلم ولتكون له أسوة به فلا يجزع ، وليقف على ما فعلوه به عدا ذلك «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا» لم يكتفوا بتكذيبه وإنكار معجزاته ورميه بالكذب والسحر بل «قالُوا» لقومهم «اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ» حتى لا يتابعه أحد ، ويتركوا دينه كما فعلوا بقومه ذلك قبل ولادته ورسالته ، فأبطل اللّه كيدهم وقال «وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ 25» لأن الطريقة التي اتبعوها أولا كانت بقصد موسى ، وقد حفظه اللّه منهم حتى ربّاه في داره ، فعودهم إليها الآن بقصد التخلي عنه وعدم إيمان أحد به ، ورجوع قومه إلى دينهم لا يغني عنهم من تنفيذ قضاء اللّه بإبقائهم مؤمنين واستخلاصهم من قبضة فرعون وقومه ، كما لم تغن أعمالهم الأولى من قتل موسى ، إذ حفظه اللّه ونجاه من كيدهم.
مطلب قصة موسى مع فرعون واستشارة فرعون قومه بقتله ومدافعة مؤمن آل فرعون عنه :
ثم ذكر اللّه تعالى ما كان يضمره فرعون لموسى عليه السلام وهو «قالَ فِرْعَوْنُ»(3/577)
ج 3 ، ص : 578
لوزرائه وخاصته وحاشيته «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» ليمنعه مني وذلك أنه كان مصممّا على قتله وكلما أراد تنفيذ ما صمم عليه يكفونه عنه خوف سوء السمعة لئلا يقول الناس إنه عجز عن معارضته بالحجة فقتله.
وهذا قول حق قد أنطقهم اللّه به ليحفظ اللّه موسى من القتل تنفيذا لوعده بذلك المار في الآية 45 من سورة طه والآية 25 من سورة القصص المارتين في ج 1 ، وقد نصحوا ملكهم بهذا ، وهكذا الوزراء الذين يحرصون على سمعة ملكهم يشيرون عليه بكل ما يحفظ سمعته من الشوائب.
على أن فرعون لا يقدر على قتله لو وافقوه عليه ، لأن اللّه تعالى حافظه ومنجز وعده له بإهلاك فرعون واستخلاص قوم بني إسرائيل منه ، والخبيث فرعون يعرف يقينا بدهائه وذكائه أن موسى نبي مرسل من اللّه وأنه لا يستطيع إيقاع أي شيء به ، وأنه سيهدم ملكه ، ولو هم بقتله لعاجله اللّه بالهلاك ، قبل أن يمسه اللّه بسوء.
ولذلك لم يجرؤ عليه ، وإلا فهو السفّاك للدماء بأقل شيء ، وإنما كان يهدد تهديدا رغبة بامتداد أجله ويموه على قومه بما يقول وليظهر أنه قادر على قتله وقال لهم بما يستعجلهم لموافقته «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ» السوي الذي أنتم عليه ويغير سلطانكم ويستذلكم فيتفوق عليكم «أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ 26» الهيجان بسبب ما يدعو إليه فيكثر القتل وتتعطل معايش الناس ومصالح الدولة ، ولهذا أريد أن توافقوني على قتله ، قاتله اللّه على هذا التمويه ، إذ ما هو عليه ليس بدين يرتضى حتى يخاف على تبديله ، وهل على وجه الأرض أفسد منه في زمانه حتى يخاف الفساد ، ولكن حب الرئاسة حبذّ له بيع الباقية بالفانية ، وحمله على ذلك.
ولما سمع موسى قوله ورأى ما هو عازم عليه قال ما أخبر اللّه عنه بقوله عز قوله «وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ 27» مخاطبا قومه عليه السلام بالتجائه إلى ربه مما توعده به فرعون ، كما أن فرعون خاطب قومه بما أراده فيه محتجا بما ذكره من الترهات ، وإنما قال (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) لأن فرعون وقومه لا يعتقدون وحدانية اللّه ، فجاهرهم بذلك.
ونظير هذه الآية الآية 121 من سورة الأعراف المارة في ج 1 ، ولما كان مؤمن آل فرعون المار(3/578)
ج 3 ، ص : 579
ذكره في الآية 7 من سورة القصص المارة في ج 1 ، يسمع قول فرعون وآله وقول موسى عليه السلام ، أخذته الأريحية ، فانتبهت مروءته «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ» بموسى وربه من يوم ألقي في البحر ، راجع قصته في الآية المذكورة آنفا من القصص «أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا» أيها الناس بسبب «أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ» استفهام إنكار بتعجب لأن مثل هذا ينبغي أن يتّبع لا أن يقتل ، وكيف تقتلونه «وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ» اليد والعصا وإزالة العقدة وإفحام السحرة «مِنْ رَبِّكُمْ» برهانا واضحا على صدق دعوته وفي قوله رحمه اللّه (مِنْ رَبِّكُمْ) بعث لهم على أن يقتدوا به بالكفّ عن تعرضه فيما يدعيه «وَإِنْ يَكُ كاذِباً» كما تزعمون «فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ» لا يلحقكم من وباله شيء «وَإِنْ يَكُ صادِقاً» وكذبتوه بما جاءكم عنادا لا بد «يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» به من العذاب إن لم يحل بكم كله.
وهذه على طريقة التقسيم في بديع الكلام ، أي الأمر لا يخلو من أحد هذين الأمرين وكان أوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة ، وعليه يكون المراد بالبعض هنا عذاب الدنيا ، لأنه مهما عظم فهو جزء قليل من عذاب الآخرة ، وقد تأتي بعض بمعنى الكل ، قال عمرو القطامي :
قد يدرك المتمني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
ولعلها التأني بدليل مقابلتها بالمستعجل.
وقال :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
وقال الآخر :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أي لا أزال أترك ما لم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت ، والأولى حملها على ظاهرها ، لأن هذه الشواهد ليست بقوية لإمكان حمل بعض منها على ظاهرها ، هذا ، وقد أراد بخطابه فرعون ووزراءه وحاشيته الذين استشارهم بقتل موسى ، وقد سلك رضي اللّه عنه في كلامه هذا غاية في المداراة ونهاية في الإنصاف بتوفيق اللّه له وهدايته للإيمان «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ 28» وهذه الجملة أيضا فيها مجاملة ومجاهلة ، لأن ظاهرها الذي يريد أن يفهمه لهم هو إن(3/579)
ج 3 ، ص : 580
كان موسى متجاوزا الحد في دعواه ، فإن اللّه يخذله فتخلصون منه دون أن تقتلوه ، وباطنه وهو الذي يريده أن فرعون باغ متجاوز الحد كثير الكذب وأن اللّه لا بد أن يخذله ونتخلص منه ، فلا توافقوه على قتل موسى.
ثم قال رضي اللّه عنه مذكرا لهم ما هم عليه من النعم ومهددا لهم بزوالها إن لم يطيعوه «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ» على غيركم «فِي الْأَرْضِ» وقاهرين أهلها وغالبين على من فيها «فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ» عذابه بسبب إقدامنا على قتله «إِنْ جاءَنا» ولا راد له حينئذ ، أي لا تتعرضوا له فتكونوا عرضة إلى عذاب اللّه الذي لا يمنعنا منه أحد إذا نزل بنا.
انتهى كلام المؤمن آمننا اللّه وإياه من عذابه ثم «قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ» ما أشير عليكم يا قوم «إِلَّا ما أَرى » لنفسي من النصح «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ 29» طريق الصلاح برأيي الصائب الذي لا أدخر منه شيئا ولا أسر غير ما أظهر وإني لا أستصوب إلا قتله لما فيه من المصلحة العامة لكم ولملككم ، وان ما ترونه من خلافي فهو خطا وستعلمون ذلك ، قاتله اللّه لو عرف سبيل الرشاد لآمن به ولكنه عديم الرشاد لأن اللّه بعثه رحمة له ولقومه فأبى قبولها ولما لم يتعرض لقول المؤمن لأنه لا يعرفه مؤمنا بموسى وهو يسمع كلامه ، انبعثت فيه الغيرة وخاف أن تتفق الكلمة على قتله لما ذكر لهم فرعون من مصلحة بقاء الملك فقوى عزمه وأخذ بالعزيمة وبادر يرد عليه بما يخوفه فيه سوء العاقبة فقال فيما يحكيه عنه ربه «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن أجمعتم على قتله هلاكا عاما يستأصلكم «مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ 30» الأمم الذين تحزبوا واجتمعوا على رسلهم
«مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ» إذ عمهم اللّه بالغرق «وَعادٍ» إذ أهلكهم اللّه بالريح العقيم «وَثَمُودَ» دمرهم اللّه بالصيحة «وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» أهلكوا كذلك بعذاب من عند اللّه فكان لكل يوم دمار قوم ، والمراد باليوم الأيام ، وإنما لم يجمع لأن جمع الأحزاب المتضمن طوائف مختلفة زمانا ومكانا وعنصرا اغنى عن جمع اليوم «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ 31» فيعذبهم بغير ذنب ، ولكنهم أرادوا الظلم فظلموا فدمرهم اللّه ، ونحن يا قومنا نخشى إن أردنا قتل هذا الرجل أن يصيبنا مثل ما أصابهم.
ولما رآهم أصغوا لكلامه(3/580)
ج 3 ، ص : 581
تلبس بالجزم طلبا للكف عما أشار به فرعون ، وأملا بإيمان قومه ، فبادرهم بأمر الآخرة بعد أن لم ينجح معهم التهديد بأمور الدنيا ، فقال «وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ 32» يوم القيامة سمي بذلك ، لأن الناس تتنادى فيه كما حكاه اللّه تعالى في الآية 47 من سورة الأعراف ج 1 ، وينادى فيه سعد فلان وشقي فلان ، وينادى بخلود أهل النار وخلود أهل الجنة ، ويقول المؤمن (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ويقول الكافر (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) كما سيأتي في سورة الحاقة الآتية ذلك اليوم الذي يتبرأ فيه الناس من آبائهم وأمهاتهم «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» عن موقف الحساب متجهين إلى موقع العذاب «ما لَكُمْ» في ذلك اليوم المهول الذي يبرأ فيه الوالدان من أولادهم «مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» يقيكم من عذابه ، لهذا فإني أقول لكم يا قوم إن أصررتم على قتله ضللتم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ 33» يهديه البتة ، وهذا تخويف لهم بالعذاب الأخروي الدائم بعد أن حذرهم العذاب الدنيوي الفاني ، وبعد أن أيس من إيمانهم وقبولهم نصحه بالكف عنه ، ورأى الوزراء والحاشية غير مبالين بذلك ، لأن ملكهم يريد قتله لمصلحتهم ولم يروا أنهم يخالفونه بعد أن بث لهم نصحه من أنه لا يريد لنفسه إلا ما يريده لهم من الخير لأنهم رأوا أنفسهم مخطئين قبلا حين استشارهم بقتله أول أمره ، وقالوا (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أما الآن وقد استفحل أمره وتبعه بعض قومه فلم يقدروا أن يصرحوا له بعدم قتله خوفا من أن يجابهم باللوم والتعنيف على ما سبق منهم وأنهم السبب في إبقائه لاتباعه رأيهم ، وخافوا أن يفاجئهم فيبين لهم سوء رأيهم وخطأ تدبيرهم ، ولربما أن يستفحل أمره أكثر من ذي قبل فيعجزون عن مقابلته ويصيرون سببا لضياع الملك ، إلا أنهم لم يقدروا على مجابهة المؤمن بما داهمهم به من التهديد
بسوء العاقبة لأنه لا يقابل بباطل فجنحوا عنه وأطرقوا والتزموا السكوت ، فقوي جنان المؤمن وطفق يونجهم على ما وقع من آبائهم الأولين من تكذيب الرسل ، فقال «وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ» بن يعقوب ابن إبراهيم «مِنْ قَبْلُ» مجيء موسى بن عمران هذا المتصل نسبه به «بِالْبَيِّناتِ» الواضحات كتعبير الرؤيا والإخبار بالغيب ، وحفظ أهل مصر من الهلاك بالقحط بما(3/581)
ج 3 ، ص : 582
ألهمه اللّه من التدبير ، وقد مكث عليه السلام أربعا وعشرين سنة يدعوهم إلى اللّه تعالى وتوحيده وأن يتركوا أوثانهم بما قد حكى اللّه عنه في الآية 37 من سورته المارة ، لأنهم كانوا عبدة أوثان وقوم فرعون كذلك ، لأنهم على أثرهم وزادوا عليهم عبادة فرعون لقوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) كما سيأتي في الآية 25 من النازعات الآتية أي على هذه الأصنام التي هي أربابا ، لأنه كان يأمرهم بنحت الأصنام وتصويرها وعبادتها ، وأنه يرى نفسه فوقها ، لذلك ادعى تلك الدعوى الفاغمة التي لم يدعها أحد قبله إلا أخوه نمروذ الذي أنكر وجود الإله العظيم وأظهر لهم أن لا إله إلا هذه الأصنام ، وأنه ربها وربهم ، وزاده هذا الخبيث بما وصف به نفسه من العلو قال تعالى فيما يحكيه عن تذكير ذلك المؤمن الصادق الحازم موبخا لهم صنيعهم الأول بقوله «فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ» من الدعوة لتوحيد اللّه وترك الأوثان ، لأنكم لا تزالون تعبدونها وظننتم أن يوسف ملك لا نبي ولم تنتفعوا بهديه «حَتَّى إِذا هَلَكَ» يوسف عليه السلام «قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» فأقمتم على كفركم ولم تصدقوه ، وهكذا جاءكم موسى نبيا مثله فكذبتموه أيضا وأصررتم على ضلالكم «كَذلِكَ» مثل ضلالكم الأول الواقع من أسلافكم والضلال الثاني الحادث منكم «يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ» في العصيان «مُرْتابٌ 34» شاك في أمر النبوة.
واعلموا يا قومي ان المتجاوزين الحد في الطغيان الشاكين في الدين القويم هم «الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ» بغية تكذيبها ورغبة في إبطالها «بِغَيْرِ سُلْطانٍ» لديهم وحجة يحتجون بها وبرهان يدافعون به ودليل «أَتاهُمْ» من اللّه العظيم فهؤلاء «كَبُرَ» جدالهم هذا وعظم «مَقْتاً» بغضا شديدا «عِنْدَ اللَّهِ» رب الأرباب على الحقيقة «وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا به» يكبر ويعظم أيضا ، لأن المؤمن من يتخلق بأخلاق اللّه «كَذلِكَ» مثل ما طبع اللّه على قلوب المكذبين قبلا ، فجعلها لا تعي الحق ولا تهتدي لسلوكه «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ» بالكسر وينوّن «مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ 35» منكم وممن يعمل عملكم ويقتفي أثركم ، وإنما خص القلب لأنه عمود البدن فإذا قوي قوي سائره وإذا ضعف ضعف باقيه ، وإذا فسد فسد الجسد كله وإذا صلح بنور(3/582)
ج 3 ، ص : 583
الحكمة وفقت الأعضاء لكل حسن من قول أو فعل.
ولهذا خص القلب بهاتين الخصلتين ووصفه بهما ، لأنه منبع الكبر والجبروت ، كما أنه معدن الخصال الحسنة ، فهو الكل بالكل فلم يرد فرعون ولا قومه على هذه الآيات البينات التي جمع فيها هذا المؤمن الغيور فأوعى ، لأنها حجج داحضة قاطعة وبراهين لامعة ساطعة قامعة ودلائل باهرة وامارات واضحة بالغة لا جواب لها إلا القبول ممن أراد اللّه له القبول والسكوت ممن أراد اللّه له الهلاك ، وإن فرعون خاصة يعلم أن ما جاء به هذا المؤمن الذي لم تأخذه في الحق لومة لائم ، ولم يخش فيه إلا اللّه حقا لا مرية فيه ، فلما غشيهم السكوت التفت فرعون إلى رأس وزرائه وخاطبه بقوله كما قصّ اللّه عنه :
مطلب بناء الصرح وسببه والقول السائد ما اتخذ اللّه وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه :
«وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً» قصرا عاليا مرتفعا في السماء ظاهرا المرائي على بعد ، وقد مرّ بيانه في الآية 38 من سورة القصص في ج 1 فراجعه تعلم ماهيته وما فعل اللّه به «لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ 36» ثم بين هذه الأسباب العظيمة فأبدل منها «أَسْبابَ السَّماواتِ» يريد أطرافها وأبوابها وكل ما أداك إلى الشيء فهو سبب كالرشاء الحبل الموصل إلى الماء في غور البئر «فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى » نصب الفعل لجواب الترجي وهو جائز عند الكوفيين كالتمني ولم يجزه البصريون ، وخرجوا نصب الفعل هنا على أنه جواب للأمر وهو (ابن) وعليه قوله :
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فتستريحا
أي سيري فتستريح ، قال تعالى حاكيا قول هذا الخبيث «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» فيما يدعيه من أن له ربا سواي ، بل هو الكاذب قبحه اللّه وأرداه ، قالوا إنه أراد بهذا البناء الرفيع رصد أحوال الكواكب التي هي أسباب تدل على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدل على رسالة موسى ، لأنه كان حزاء يعرف في النجوم ، وهذا يدل على أنه كان معترفا بوجود اللّه تعالى ، ومما يؤيد اعترافه باللّه محاورة المؤمن له ولقومه المارة والآتية وعدم ردّه عليه هو وقومه ، وكان اقتصارهم على أمر قتل موسى وعدمه مع الصفح عما يتعلق بالآلهة دليل على اعترافهم بالإله العظيم ، إذ ما من أحد إلا ويعترف بوجوده ، قال تعالى (وَلَئِنْ(3/583)
ج 3 ، ص : 584
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)
الآية 26 من سورة لقمان المارة وهي مكررة كثير في القرآن بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ، وهو نسبه كل شيء للّه «كَذلِكَ» مثل هذا التزيين والصد البذيين «زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ» فانهمك فيه انهماكا لا يرتدع عنه «وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ» السوي الموصل إلى اللّه وصد قومه عنها فضل وأضلهم ومنعه اللّه من تنفيذ ما كاده لموسى «وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ 37» دمار وفساد وهلاك ، ولما رأى المؤمن وجوم فرعون وقومه تجاه ما أسمعهم من التحذير والتهديد وضرب المثل فيمن قبلهم قويت شكيته فكر عليهم بالنصح والإرشاد والترغيب فيما عند اللّه تعالى لمن آمن به وصدق رسله ، وصرح لهم بإيمانه باللّه وحده والدار الآخرة بما ذكر اللّه عنه وهو «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ» فيما عرضته عليكم من الهدى ودللتكم عليه من طرق الرشاد المؤدية للخير والسداد «أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ 28» الحقيقي الموصل إلى اللّه لأن الطريق الذي يريدكم فرعون عليه هو طريق الفساد لا الرشاد وهو من أسماء الأضداد وهو يعلم ذلك إلا أن توغله في حب الرياسة وتمحضه في الأنانية والعناد وانهماكه في الشهوات أدى لتصلبه في الأمر وللتمويه عليكم في القول وليغريكم فيما يسرده عليكم لاستدامة استعبادكم وامارته عليكم فأطيعوني ، وأنا الناصح الصادق البار بكم ، أن تؤمنوا بموسى الذي جاء بما جاء به يوسف قبل الذي خلص أهالي مصر وغيرها من الهلاك المادي والمعنوي ، وإن موسى سيخلصكم أيضا من محن الدنيا وعذاب الآخرة إذا آمنتم به ، والرشاد نقيض الغي وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون هو طريق الغي ، لأن غايته التنعيم بالدنيا الفانية وأنه يريدهم للآخرة الباقية ونعيمها الدائم ، وشرع يذم الدنيا ويصغرها بأعينهم فقال «يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ» يسير يتمتع بها أياما قليلة ثم تنقطع «وَإِنَّ
الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ 39» الأبدي الذي لا يزول فاعملوا لها لتنالوا نعيمها فهو باق لا يزول أبدا واعملوا يا قوم خيرا إن «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً» في هذه الدنيا «فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» سوءا في الآخرة غير جزاء الدنيا «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» في الآخرة جزاء(3/584)
ج 3 ، ص : 585
عملهم الحسن «يُرْزَقُونَ» من النعم الجسيمة والخيرات العظيمة «فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ 40» رزقا واسعا بلا تبعة ولا تقتير ولا إسراف ولا تقدير بمقابلة العمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه ورحمة ، وفيها إشارة إلى عظيم فضل اللّه وشرف ثوابه ومزيد عطائه
«وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ 41» في هذه الآية طلب منهم أن يوازنوا بين ما يدعونه إليه من اتخاذ الأوثان الموصلة إلى النار أندادا للّه - تعالى عن ذلك - وبين دعوته لهم إلى دين اللّه الموصل إلى الجنة ليتفكروا في هاتين الدعوتين ويميزوا بينهما ويعرفوا ثمرة كل منهما ، ولهذا قال لهم «تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» أنه إله وإني لا أعلم إلها غير الإله الواحد الحق «وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ 42» لمن أناب إليه ، ذكر لهم صنفين عظيمين من صفات اللّه تعالى الذي يدعوهم لعبادته بأنه منيع غالب قوي الجانب لا يقابل ولا يغالب ، فمن التجأ إليه أوى إلى ركن شديد لا يقدر أحد أن يتسلط عليه ، وأنه كثير المغفرة لمن يرجع إليه فلا يهولن من يأوي إليه كثرة ذنوبه وعظيم خطأه فإنه يسترها له مهما كانت ، وهو واسع المغفرة ، وهذا مما قذفه اللّه في قلب هذا المؤمن الكامل من نور الإيمان والمعرفة ، فجعله ينطق بالحكمة توا ، إذ أبدل جهله علما وكفره إيمانا وجبنه شجاعة ، ومن هنا قيل : ما اتخذ اللّه من ولي جاهلا ولو اتخذه لعلمه «لا جَرَمَ» حقا «أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» من البقاء على دينكم وعبادة الصنم الذي «لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ» مقبولة «فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ» لأنه لا ينطق حتى يدعو الناس لعبادته ومن لا يقدر على النطق لا يجيبه أحد ، وإن من حق المعبود أن يدعو العباد لعبادته ، فإذا لم تكن له دعوة مجابة في الدنيا فمن باب أولى أن لا تكون له في الآخرة ، ولهذا عطفها عليها ، لأنها فضلا عن أنها لا تجيب عابديها فيها فإنها تتبرأ منهم وتنكر عبادتهم حينما يؤهلها اللّه للنطق لهذه الغاية «وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ» جميعا نحن وأنتم «وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ» المتجاوزون حدود اللّه في
استرقاق عباده السفاكين لدماء الأبرياء الغاصبين أموالهم بغير حق ، فكأنه رحمه اللّه أراد أن يختم كلامه بما افتتحه وهو (أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) فقال وإن المسرفين في القتل وغيره(3/585)
ج 3 ، ص : 586
من سائر المحرمات «هُمْ أَصْحابُ النَّارِ 43» لا غيرهم لأن كل متجاوز حدود اللّه بالقتل والكفر والشرك والفواحش ومات مصرا عليها فهو من أهل النار ، كما جاءت به الآيات والآثار.
ولا يقال هنا إن اللّه لا يحدد عليه ، فله أن يعفو عن أمثال هؤلاء ويدخلهم الجنة ، وله أن يدخل من أهل الجنة النار لأنه جل ذكره لا يسأل عما يفعل ، ثم ضربهم بآخر سهم من كنانته فقال «فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ» الآن يا قوم غدا إذا لم تؤمنوا بربي وتسمعوا رشدي عند معاينتكم العذاب في الآخرة ، وتندمون ولات حين مندم ولا ذكرى أقول لكم قولي هذا «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ» وحده ، فإذا أردتم أن توقعوا بي شرا بعد نصحي إليكم فهو لا بد منقذي منكم ، ولهذا فلست بسائل عن وعيدكم وتهديدكم ، فافعلوا ما شئتم ، وذلك لما أطال عليهم وجاهرهم بإيمانه هددوه بالقتل أيضا إن لم يقلع عما يقوله لهم فأجابهم بأنه قد أدى ما هو واجب عليه وأنه لا يبالي بهم لأنه معتمد على اللّه ، ولهذا ختم مجادلته بقوله «إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ 44» يعلم المحق من المبطل وما يؤول إليه أمري وأمركم فهموا به ليأخذوه فهرب من بين أيديهم وأعماهم اللّه عنه فطلبوه فلم يجدوه وذلك قوله تعالى «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» فحال دون وصولهم إليه وحفظه من مكرهم وأذاهم «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ 45» وذلك بعد أن هرب موسى بني إسرائيل ولحق بهم فرعون وجيشه حتى وصلوا إلى البحر وتراءوا وكان ما كان كما بيناه في الآية 53 من سورة الشعراء في ج 1 فراجعه ، فكان عذابهم الدنيوي بالغرق ، ولعذاب الآخرة أشد كما سيتلى عليك بعد هذا ، ومن قال إن هذا المؤمن هو موسى قول لا قيمة له فهو أوهى من بيت العنكبوت ، وكأن هذا القائل استكثر على هذا المؤمن أن يقع منه مثل هذا ولم يدر أن نظرة من بحر جوده تقلب المريض صحيحا ، والأبكم فصيحا ، والمجرم بريئا ، والكافر وليا ، والفاجر بارا ، والرجس طاهرا ، قال تعالى معرضا بعذاب آل فرعون الأخروي بعد أن ذكر عذابهم الدنيوي في الآية 130 من سورة الأعراف المارة في ج 1 بقوله عز قوله «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا» وهذا العرض يكون لهم في البرزخ بعد الموت ، هو غير(3/586)
ج 3 ، ص : 587
عذاب الآخرة بدليل قوله تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ» يقال لخزنة جهنم «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ 46» أعظمه وأكبر أنواعه وأفظع ألوانه وأقبح أشكاله ، ومنه إراءتهم أمكنتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين ثم زجهم في النار حتى وصلوا إلى قعرها.
مطلب عذاب القبر ومحاججة أهل النار وبقاء النفس والدجال :
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشية إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك للّه إليه يوم القيامة.
وفي هذا دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب القبر في البرزخ لا غبار عليه ، لأن المراد من العرض في الآية والمقعد في الحديث هو برزخ القبر لا غير ، ولأن البعث يكون منه ، ولا يراد منه وجوده في الدنيا ، لأنه لم يكن حاصلا فيها ، ولا يقال إنه خاص بآل فرعون لأنه إذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم ، إذ لا قائل في الغرق ، تدبر.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبيد بن حميد عن هذيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار ، فذلك عرضها.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك ، وهذه الطير صور يخلقها اللّه تعالى من صور أعمالهم كما يخلق لتمثيل أرواح الشهداء طيرا خضرا ترتع في الجنة لتنعم في البرزخ قبل نعمة الآخرة.
ويؤيد هذا ، الحديث الوارد ، القبر إما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار.
وأحاديث أخرى في هذا المعنى ، وهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة نوح الآتية إن شاء اللّه ، واللّه على كل شيء قدير.
ومما يشهد لهذا ما أخرجه ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار ، ويقول أول الليل ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار ، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ باللّه تعالى القائل عز قوله «وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً» في(3/587)
ج 3 ، ص : 588
الدنيا «فَهَلْ أَنْتُمْ» الآن «مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً» حصة وجزءا «مِنَ النَّارِ 47» بأن تدفعوا عنا ألمها ولو ساعة لقاء ما كنا نخدمكم في الدنيا وننقاد لأمركم بمخالفة الرسل «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» لأتباعهم المستضعفين «إِنَّا كُلٌّ فِيها» فلا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا فكيف يمكننا أن نتحمل عنكم قسما من عذابها فاسكتوا «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ 48» ولا راد لحكمه ولا دافع لقضاءه «وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ» لما اشتد عليهم البلاء فيها هلم «ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ 49» لنستريح فيها من ألمها المبرح «قالُوا» لهم «أَ وَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ» وينذرونكم أيها الكفرة لقاء يومكم هذا ويحذرونكم وباله ؟ «قالُوا بَلى » جاءونا ونصحونا وخوفوها هول هذا اليوم وعذابه ولكنا كذبناهم «قالُوا» لهم «فَادْعُوا» أنتم لأنفسكم لا ندعو لكم نحن لأنكم لا عذر لكم بعد أن بلغكم الرسل ذلك ، ولم تصغوا لإرشادهم.
قال تعالى قاطعا لأطماعهم «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ 50» لا يسمع ولا يجاب لأنه عبث باطل دعوا أو لم يدعوا ،
ثم ذكر ما يغيظهم ليزدادوا غما فقال «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بإعلاء كلمتهم على مجادليهم وتوفيقهم إلى الحجج الظاهرة والبراهين القاهرة والدلائل الباهرة مع النصر الفعلي على أعدائهم في الدين كما نوهنا به في الآية 103 من سورة يونس والآيتين 172/ 173 من سورة الصافات المارات وله صلة في الآية 47 من سورة الروم الآتية «وَ» إنا نحن الإله القادر كما ننصرهم في الدنيا سننصرهم «يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ 51» من الحفظة والأصفياء والكتب وغيرها فيشهدون على الأمم بما فعلوا في الدنيا وتكذيبهم للرسل وفيه تشهد الأمم الصالحة للرسل على أنهم بلغوا أممهم فكذبوهم ويكون لهم هذا النصر أيضا «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ» لأنهم اعذروا في الدنيا بالإنذار من قبل الرسل والدنيا هي محل قبول العذر ، أما الآخرة فلا اعتذار فيها ولا إنذار بل يكون لهم فيها التوبيخ والتقريع واللوم «وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ» أيضا وهي الطرد من رحمة اللّه والبعد عنه «وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ 52» جهنم وبئست الدار هي.
ولفظة يوم الأخيرة بدل من(3/588)
ج 3 ، ص : 589
الأولى لأنه حال قيام الأشهاد لا تنفع المعاذير ، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى » بجميع وسائله «وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ 53» ليهتدوا به ويعملوا بمقتضاه بحياته وبعد وفاته لأنا جعلناه «هُدىً» للناس ، لأن التوراة المعبر عنها بالكتاب هنا أجمع كتاب أنزل من بدء الخليقة حتى نزول القرآن العظيم ، لأنه الجامع لكل ما في الكتب المتقدمة عليه «وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ 54» يتذكرون بها ، لأن ذوي القلوب الواعية هم أهل التذكر والتفكر فيها ، وعلى هذا فإن قومه لم يعملوا بها ومن عمل منهم بها كان مرغما ، وقد هجروها من بعده ولم يتقيدوا بوصاياها وأهملوا أحكامها وغيروا وبدلوا قسما منها.
ثم التفت إلى حبيبه محمد وخاطبه عزّ خطابه بقوله «فَاصْبِرْ» يا سيد الرسل على أذى قومك وتحمل جفاهم ولا يهمنك عدم سماعهم لقولك وما تتلوه عليهم من كتابك ، فقد صبر قبلك الرسل إخوانك على أقوامهم حتى أتاهم الوقت المقدر لعذابهم ، وأنت اصبر إلى أن يحين عذابهم الذي وعدناك به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ» بإظهار دينك وإعلاء كلمتك ونصرتك عليهم وإهلاكهم «حَقٌّ» منجز لا يخلف عن موعده المقدر له «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» الذي تراه ذنبا بالنسبة لمقامك ، وإن لم يكن ذنبا بالنسبة لأمتك كترك ما عمله أولى وأفضل ، وهذا من قبيل التعبد لزيادة الدرجات له صلّى اللّه عليه وسلم ولتستنّ أمته بذلك ، وقدمنا بأن الذي يعد ذنبا على الأنبياء هو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وأوضحنا ذلك في الآية 65 من سورة الزمر المارة وغيرها ، وهذا الاستغفار أحد قسمي الطاعة وهي التوبة عما لا ينبغي فعله ، والقسم الثاني الاشتغال بما ينبغي فعله ، وهو قوله تعالى قوله «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ 55» بعد التوبة لأن التوبة من قبيل التخلية ، والتسبيح بعدها من قبيل التحلية ، والتحلية تكون عادة بعد التخلية.
مطلب الآيتان المدنيتان وعصمة الأنبياء وكلمات لغوية والدجال ومن على شاكلته :
وهاتان الآيتان المدنيتان من هذه السورة ، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ» وهم كفار اليهود الجهلة فهم «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ» مما يجادلون به ما هو «إِلَّا كِبْرٌ» في نفوسهم حملهم عليها وانهم مهما تعاظموا(3/589)
ج 3 ، ص : 590
«ما هُمْ بِبالِغِيهِ» أي ذلك الكبر الذي يتوخونه بقصد الترؤس على غيرهم والتعالي عليك يا أكرم الرسل ، فأنت أكبر مما يراد بك من كبر وتعاظم «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» من كيدهم ومجادلتهم الباطلة والتجئ إلى ربك من مكر من يريد بك المكر وما جدالهم إلا حسدا على ما أولاك اللّه من النعم الكثيرة الدائمة في الآخرة «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لما يقولون فيك «الْبَصِيرُ 56» لما يريدونه من البغي عليك وهو حافظك من كل ما يتوقعونه به.
وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحضرة الرسول إن صاحبنا المسيح بن داود يأتي آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد الملك إلينا وأنه يكون منهم ويفعل ما يفعل وهو آية من آيات اللّه ، وجادلوه مجادلة بغير حق ، لأن المسيح هو عيسى عليه السلام بن مريم الذي كذبوه وأهلوه وأرادوا قتله ، ففداه اللّه بالمنافق يهوذا كما سيأتي في الآية 157 من سورة النساء في ج 3 ، ولكنهم يريدون الدجال ممسوح العين اليمنى لأنهم من أتباعه وسيخرج آخر الزمان لإغراء الناس فيقتله السيد عيسى بن مريم ، إذ يكون نزوله إلى الأرض زمن خروج الدجال كما يأتي تفصيل هذا في الآية 61 من سورة الزخرف الآتية ، قال أبو العالية هذا الأمر من اللّه لرسوله بالاستعاذة من الدجال.
واعلم أن الكبير بالكسر معظم الشيء وبالضم أكبر ولد الرجل ، ومثله العظم بالضم أكثر الشيء ومعظمه وبالسكون نفس الشيء ، والجهد بالفتح الطاقة وبالضم المشقة ، ومثله الكره بالضم إذا أكرهت غيرك ، وبالفتح إذا أكرهك غيرك ، والعرض بالضم الناحية وبالفتح ضد الطول ، وربض الشيء بالسكون وسطه ، وبالفتح نواحيه ، والميل بالسكون ما كان فعلا كقولك مال عن الحق وبالفتح ما كان خلقة تقول في عنقه ميل ، والحمل بالفتح والسكون حمل كل أنثى وكل شجرة ، وبكسر الحاء ما كان على الظهر ، والقرن بالسكون المثل من جهة السن ، وبالكسر مثله في الشدة ، والعدل بالسكون مثل الشيء وبالكسر زنته ، والحرق بالسكون من النار في الثوب والبدن ، وبالفتح نفس النار ، ولهذا البحث صلة أول سورة الكهف الآتية.
قال تعالى «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» قال أبو العالية المراد بالناس هنا الدجال ، وليس بشيء ، لأنه بنى قوله هذا على أن(3/590)
ج 3 ، ص : 591
المجادلين اليهود جادلوا حضرة الرسول في أمره فنزلت الآية الأولى فيهم ، وهذه نزلت بعدها معها ، وهذا فيه بعد إذ لا يلزم من كون الآية الأولى فيهم لزوم كون الثانية فيهم أيضا إذ ليس كل آية مدنية في حق اليهود ، إذ لا مانع أن تكون في مشركي العرب وغيرهم المجادلين في البعث واستعظام إعادة الأجسام بعد فتاتها على حد قوله تعالى (أَ وَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الآية 86 من سورة يس في ج 1 أي أن خلق هذين الهيكلين العظيمين أعظم من خلق الناس وإعادتهم بعد إماتتهم فتكون مسوقة لمنكري البعث ، لأنهم لا يستدلون بالأكبر على الأدنى ، ولأن إعادة البشر بالنسبة إلى بداية خلقه كلا شيء ، كما أن إعادتهم بالنسبة لخلق السموات والأرض كلا شيء «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 57» لكونهم في غاية الجهل ونهاية من البلادة فيما يتعلق بأمور الدين ومكونات الكون ومبتدعاته ، أما الأقل منهم أولو الألباب الذين يستدلون بالأدنى على الأكبر ويعتقدون قدرة اللّه فوق كل قدرة وقادرة على كل شيء لأنهم ينتفعون بجوارحهم فيتفكرون ويتدبرون ، ولو أن الأكثر استعملوا عقولهم لما أنكروا على اللّه قدرته ، ولكن قد استولت الغفلة عليهم فحالت دون تأملهم بذلك.
روى مسلم عن هشام بن عروة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال ، أي أكبر فتنة منه وأعظم شوكة في انقياد الناس إليه.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلم ذكر الدجال فقال إنه أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية.
ولأبي داود والترمذي عنه رضي اللّه عنه قال : قام النبي صلّى اللّه عليه وسلم في الناس فأثنى على اللّه بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني أنذركموه وما من نبي إلا أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه ، ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور ، وإن اللّه تعالى ليس بأعور ، وذلك أن الخبيث يدعي الإلهية مع نقصه واللّه تعالى منزه عن النقص ومبرأ منه ، والعور عيب والأنبياء معصومون منه أيضا ، لأنهم كاملو الخلقة.
راجع الآية 84 من سورة يوسف المارة وما ترشدك إليه من السور الأخرى.
وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : ما من نبيّ(3/591)
ج 3 ، ص : 592
إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ، الا إنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، مكتوب بين عينيه كافر.
وفي رواية لمسلم : بين عينيه كافر ثم تهجى ك ف ر يقرأه كل مسلم.
وروى البخاري ومسلم عن حذيفة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن مع الدجال إذا خرج ماء ونارا ، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء ، والذي يراه الناس أنه ماء فنار محرقة ، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار ، فإنه ماء عذب بارد.
ورويا عن المغيرة بن شعبة قال : ما سأل أحد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الدجال ما سألته ، وأنه قال لي ما يضرك ؟ قلت إنهم يقولون إن معه جبلا من خبز ونهر ماء ، قال هو أهون على اللّه من ذلك.
أي هذا أهون على اللّه من أن يجعل ما خلقه اللّه على يده مضلّا للمؤمنين ومشككا لقلوبهم ، وإنما جعله اللّه له ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويثبت الحجة على الكافرين ، وليس معناه أن ليس معه شيء من ذلك ، لما ثبت في الحديث المتقدم أن معه ماء ونارا ، وإذا كان معه ماء ونار فلم لا يجوز أن يكون معه جبل خبز ونهر ماء ، وإنما أعطي هذا لأنه يظهر والناس في زمن قحط وجدب كما سيأتي بعد.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دبر أحد ، ثم تصرف الملائكة وجهه إلى الشام ، وهناك يهلك.
وروى مسلم عن أنس رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة.
وأخرج الترمذي وقال حديث حسن صحيح
عن مجمع ابن حارثة الأنصاري قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول يقتل ابن مريم الدجال في باب لد.
وأخرج البغوي بسنده عن أسماء بنت زيد الأنصارية قالت :
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال ، فقال إن بين يديه ثلاث سنين ، سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها ، والثانية تمسك ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها ، والثالثة تمسك السماء قطرها والأرض نباتها كله ، فلا تبقى ذات ظلف ولا ضرس من البهائم إلا هلكت.
ومن أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول أرأيت إن أحييت لك ابنك ألست تعلم أني ربك ؟ فيقول بلى ، فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضرعا وأعظمه أسنمة ، ويأتي الرجل قد مات أخوه(3/592)
ج 3 ، ص : 593
ومات أبوه فيقول أرأيت إن أحييت لك أخاك وأباك ألست تعلم أني ربك ؟
فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أخيه ونحو أبيه (يستفاد من هذا أن ما يظهره اللّه على هذا الخبيث هو من نوع السحر ، وهو كذلك واللّه أعلم ، لأنه ينص على أن الشيطان يتمثل بذلك) قالت ثم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ مما حدثهم ، قال وأخذ بلحمتي الباب ، فقال فيهم أسماء ، فقالت يا رسول اللّه لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال ، قال إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه ، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن ، قالت أسماء فقلت يا رسول اللّه إنا لنعجن عجيننا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمن يومئذ ؟ قال يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس.
وهذا من شدة شفقتها على المؤمنين ، وإلا فهي رضي اللّه عنها آمنة من ذلك.
وفي رواية عنها قالت : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة ، السنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، والجمعة كاليوم ، واليوم كاضطرام السعفة في النار.
وجاء في صحيح مسلم : قلنا يا رسول اللّه ما لبثه في الأرض ؟
قال أربعون يوما يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر الأيام كأيامكم هذه ، قلنا يا رسول اللّه فذاك الذي كسنة أتكفينا له صلاة يوم ؟ قال لا ، أقدروا له قدره ، قلنا يا رسول اللّه وما إسراعه في الأرض ؟ قال كالغيث استبدرته الريح.
وفي رواية أبي داود عنه : فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، فإنها جوازكم من فتنته ، وفيه ثم ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، فيدركه عند باب لد فيقتله.
وفي هذا الحديث إشارة إلى بركة آيات اللّه ونفعها لكل شيء حتى للأمن من فتنة الدجال وهو كذلك ، راجع الآية 82 من سورة الإسراء في ج 1.
هذا وإن اليهود لم يريدوا من تعظيم الدجال ومن نسبته إليهم حين أن جادلوا حضرة الرسول إلا نفي رسالة عيسى بن مريم عليه السلام وجحود كونه المسيح المبشر به في التوراة والذي أخبر عنه الأنبياء قبل ، الذي رفعه اللّه تعالى إلى سمائه ، وسينزله آخر الزمان ، لأنهم يقولون الذي سيخرج آخر الزمان هو الدجال لعنه اللّه وأخزاهم وأذلهم ، فقد كذبوا أولا بأن المسيح بن مريم ليس هو من نسل داود المبشر به مع أنه هو ، لأن أمه من نسل داود ، وقد(3/593)
ج 3 ، ص : 594
نسبه اللّه تعالى إلى إبراهيم جد داود في القرآن العظيم ، راجع الآية 85 من سورة الأنعام واللّه أصدق القائلين ، وكذبوا ثانيا بقولهم لحضرة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم لست بصاحبنا ، يعنون لست نبي آخر الزمان ، واللّه تعالى يقول خاتم النبيين ، راجع الآية 96 من سورة الأحزاب في ج 3 ، وكذبوا ثالثا بأن الدجال هو المسيح وهو نبي آخر الزمان ، ولم يبعث اللّه نبيا من لدن آدم إلى محمد صلوات اللّه عليهم ، إلا وقد حذّر أمته من الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة ، وكل ذلك من الجدال بالباطل مكابرة وعنادا ليس إلا.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه ؟ إنه أعور وإنه يجيء بتمثال الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار ، والتي يقول إنها النار هي الجنة ، وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه.
فأولى لهؤلاء اليهود أن يكون النبي المسيح الذي ينتظرونه أعور كذاب وأنه يدعي الإلهية وأولى.
أما كونه آية من آيات اللّه فلا ينكر ، لأنه من أمارات الساعة ، وأماراتها آيات وعبر للناس وإن منها ما يزيد المؤمن إيمانا ، وما يزيد الكافر كفرا ، قال تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ...
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآيتين 134/ 135 من سورة التوبة في ج 3 ، فهذه الآيات والأحاديث والأخبار الثابتة المتواترة الصحيحة حجة قاطعة وبرهان قوي ساطع على أن الدجال الملعون ليس بالمسيح المأمون ولا بالنبي الذي هو خاتم الرسل الذي لا نبي بعده ، وإنما هو كذاب خداع مموّه أعور أشقر يظهر لأتباعه الذين أكثرهم من اليهود الحق باطلا والباطل حقا والصدق كذبا والكذب صدقا ، ومثبتة وجوده ومجيئه وكونه آية من آيات اللّه ، وإن ما يقدره اللّه على يده من إراءة الماء والنار والخبز وإحياء الموتى صورة والخصب وتمثال الجنة والنار وانباع كنوز الأرض وإنزال المطر بإشارته إلى السماء وإنبات الأرض الكلا وغيرها مما تشبه الكرامات والمعجزات ابتلاء لخلقه واختبارا لتمييز الخبيث من الطيب ، وإن اليهود ينتظرونه يوما فيوما ، لأنهم يزعمون أن خروجه عز لهم وسلطان وإعادة لملك إسرائيل المبرأ منهم ومن أعمالهم وأقوالهم.
هذا ، ثم إن اللّه تعالى بعد ذلك(3/594)
ج 3 ، ص : 595
يعجزه عن كل شيء حتى عن حفظ نفسه ثم يتفرق أتباعه عنه ويقتله عيسى بن مريم عليه السلام.
قال الجبائي المعتزلي ومن وافقه من الجهمية وغيرهم بصحة وجوده ، ولكن ما يأتي به من الأشياء الخارقة عبارة عن خيالات لا حقائق لها ، وقالوا لو كانت حقا لضاهت معجزات الأنبياء.
أي أنها من قبيل السحر كما ذكرنا آنفا استنباطا من معنى الحديث ، إلا أن التمسك بهذا الاستنباط وحصره فيه قد يكون خطأ منهم ، لأن الدجال الخبيث لم يدع النبوة ليكون ما يأتي به تصديقا لها ، وإنما هو قاتله اللّه يدعي الإلهية وهو مكذب لها في نفس دعواه بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه ونقص صورته وعجزه عن إزالة عور عينه وإزالة الشاهد الذي بين عينيه وعجزه عن دفع القتل عن نفسه ، فلا يغتر به إلا العوام من الناس لشدة الفاقة التي تحصل بسبب القحط وبذلك يستصحب معه الخبز الكثير ، أما المؤمنون فلا يحول صحاهم خداعه ولا تصل إلى قلوبهم
خزعبلاته لعلمهم بحاله ، واللّه أعلم.
قال تعالى «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» كناية عن الجاهل والعالم ولذلك حث الأنبياء على تعليمهم العلم لأممهم ليكونوا على بصيرة من هذه الفتن وأشباهها «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِي ءُ» أي لا يستوون أيضا ، فتذكروا أيها الناس وتفكروا وكونوا على بصيرة من أمركم فإنكم «قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ 58» في الأمثال التي يضربها اللّه لكم لأن تذكركم في مكوناته قليل جدا وإنكم في غفلة عنها لأنكم لو توغلتم في الفكر في معاني أمثال اللّه ومغازيهه لو قفتم على علوم كثيرة وفوائد وفيرة ولعرفتم الفرق بين الأعمى والبصير والمحسن والمسيء ولتيقنتم «إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها» ولا شك ولا مرية في مجيئها عند كل مؤمن عارف «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ 59» بها ، لأن الكفرة والجهلة دائما أكثر من المؤمنين والعالمين في كل زمان وأوان لا في كل مكان ، إذ قد يوجد مكان على العكس وهو نادر ، وهذا العموم يخص منه بداية ذرية آدم إلى زمن قتل قابيل هابيل وبداية الزمن الذي رسى فيه نوح عليه السلام ومن معه بالسفينة على الجودي لأن الأكثر بل الكل مؤمنين على القول بأن الطوفان عم وجه الأرض كلها وإنه لم يبق إلا نوح ومن معه ولهذا سمي بأبي البشر الثاني.(3/595)
ج 3 ، ص : 596
مطلب في الدعاء والعبادة وإنعام اللّه على عباده ومراتب الإنسان في الخلق وذم الجدال :
قال تعالى «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» دعاءكم قال بعض المفسرين ادعوني هنا بمعنى اعبدوني بدليل قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي» ولا يدعوني «سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ 60» صاغرين أذلاء مهانين لأنهم لم يدعوه ولم يعبدوه ولم يعترفوا بربوبيته ، ولا يخفى أن الدعاء مخ العبادة بل هو العبادة نفسها وزبدتها كقولك الحج عرفة والدين النصيحة أي معظمه فإبقاء اللفظ على ضاهره أولى.
ومما يدل على هذا ما رواه النعمان بن بشير صاحب معرة حلب قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول على المنبر الدعاء هو العبادة ، ثم قرأ هذه الآية ، أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك : الدعاء مخ العبادة.
هذا ، ولا يقال إن الإنسان يدعو فلا يستجاب له ، لأن للدعاء شروطا وآدابا أمها الإخلاص ، وأبرها اليقين ، وملاكها أكل الحلال ، وقوامها رد المظالم ، فالتخلف يكون من جهة الداعي لا من جهة الإله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء القائل (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، وقد يكون الداعي يدعو وقلبه مشغول بغير الدعاء وقد يدعو بما لا مصلحة له به ولا فائدة لغيره أو بما فيه قطيعة رحم أو تعد على الغير ، وقد يدعو فيما فيه المصلحة والصلة ، ولكنه غير متيقن بالدعاء ولا موقن بالإجابة ، أما إذا اتصف بالشروط المطلوبة فيكون جديرا بالإجابة حالا أو مآلا بحسب المصلحة المقدرة ، واللّه أكرم من أن يرد سائله من بحر جوده الذي لا ينضب وواسع عطائه الذي لا ينفد ، وقدمنا في الآية 111 من سورة الإسراء ما يتعلق في هذا البحث بصورة واسعة ، فراجعها وما ترشدك إليه ، وله صلة في الآية 185 من سورة البقرة في ج 3 فراجعها أيضا.
قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ» تأخذوا راحتكم من التعب بالنوم والاضطجاع وأنكم من الوحشة باجتماعكم بنسائكم وأولادكم «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» لتتمكنوا فيه من قضاء حوائجكم وأشغالكم من من غير حاجة إلى ضياء آخر ولتقوموا فيه بوسائل معاشكم وتتعرفوا فيه لفضل ربكم فتصيبوا منه حظكم «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» عظيم لا يوازيه(3/596)
ج 3 ، ص : 597
فضل في هذا وفي غيره «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» 61 فضله ولا يراعون حقه فيمنع استمرار نعمه عليهم لعدم شكرهم إياها ، وإذا لم يسلبها منهم يسلبها من أولادهم ، وهذا مما لا يمتري فيه أحد ، لأنه واقع مشاهد «ذلِكُمُ» الإله العظيم كاشف الكربات ومجيب الدعوات الفعال لما ذكر هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 62» بنسبة هذا لغيره وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وتختلقون له أندادا وهو لا مثل له وتفترون له شركاء وهو المنفرد في السموات والأرض وتكذبون بقولكم إن اللّه أمرنا بهذا وهو لم يأمركم به «كَذلِكَ» مثل هذا الإفك الواقع من قومك يا محمد «يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا» من قبلهم «بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 63» ويكذبون الرسل الذين جاءوهم بها أيضا ، قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً» تستقرون عليها في حلّكم وترحالكم «وَالسَّماءَ بِناءً» كالسقف المرفوع الذي تستظلون به من الشمس والمطر والرياح وغيرها ولكن شتان بين بنائكم وبنائه وظلالكم وظلاله.
وفي هذه الآية إشارة إلى كروبة الأرض ، راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة وما تدلك عليه من المواقع «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» بأن ميزكم عن الحيوانات باعتدال القامة والأكل باليد والنطق واللباس والحسن والعلم «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» غير رزق الحيوانات مما لذّ وطاب «ذلِكُمُ» الرب الجليل المدبر لذلك كله والمنعم بما هنالك هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 64» مؤمنهم وكافرهم إنسهم وجنهم وملكهم وحيواناتهم وطيورهم ووحوشهم وحيتانهم وحشراتهم وديدانهم وعوالم اللّه لا تحصى ، وقد رتب الخلق جل جلاله على ثلاث مراتب : الطفولة وهي مرتبة النشوء والنماء ، وبلوغ الأشد وهي مرتبة كمال التزايد إلى قبيل تطرق الضعف ، والشيخوخة وهي مرتبة التراجع حتى بلوغ أرذل العمر ، فالذي قسم هذا التقسيم «هُوَ الْحَيُّ» الباقي وما سواه هالك ، وفيما تقدم أشار أولا لفضله المتعلق بالمكان بعد أن أشار فيما قبل إلى فضله المتعلق بالزمان ، وهنا أشار إلى العلم التام والقدرة الكاملة والحياة الدائمة ، ثم ختم بالدلالة على محض وحدانيته بقوله «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ» أيها الناس كلكم برّكم وفاجركم لا تشركوا(3/597)
ج 3 ، ص : 598
معه غيره حالة كونكم «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وقولوا بنهاية دعاءكم «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 65» والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، ولما كلف بعض كفرة قريش مكة حضرة الرسول لعبادة أوثانهم ، وكان هذا التكليف قد تكرر منهم عند كل مباحثة في أمر الدين أنزل اللّه تعالى قطعا لأطماعهم عن ذلك «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الملحين عليك بما لا يكون منك «إِنِّي نُهِيتُ» نهيا باتا ومنعت منعا جازما من قبل ربي الحق الواحد «أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من جميع الأوثان «لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي» ببطلانها وعدم نفعها «وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ» إسلاما محضا حقيقيا «لِرَبِّ الْعالَمِينَ 66» وحده لا شريك له وأن أدعوكم لعبادته من حين تشريفي بالنبوة إلى وقت انقضاء أجلي لا أفتر ولا أحول عن هذا أبدا ، وقد جاءت هذه الآيات الثلاث مختومة بلفظ رب العالمين جل جلاله ، ولم يسبق مجيئها على هذا النمط ولا تعد مكررة ، لأن مبدأ كل آية منها ومغزاه يغاير الأخرى ، فالأولى للشكر على أفضاله ، والثانية على توحيده ، والثالثة على الاستسلام إليه ، فتدبر أيها القارئ إذا أردت أن تظفر وتفوز بمعرفة كلام اللّه.
واعلم أن المستحق للعبادة «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» أي خلق أباكم آدم عليه السلام الذي هو أصلكم «مِنْ تُرابٍ» وخلق زوجته حواء منه من لحم وعظم ودم «ثُمَّ» خلقكم أنتم ذريته كلكم «مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» جعل جل شأنه مراتب الإنسان بعد خروجه من رحم أمه ثلاثة.
مطلب في مراتب الخلق على ثلاث وحالة المجادلين وأمر النبي بالصبر وشيئا من أفضاله على خلقه :
وكذلك جعل المراتب في الرحم ثلاثة بعد تكوينه : الأولى علقة مكونة من النطفة المخلوقة من الماءين ، والثانية مضغة مكونة من لحم ودم ، والثالثة جنين مكون من لحم وعظام وأمعاء ، فهو ما دام في بطن أمه يسمى جنينا وعند الولادة وليدا وما بعدها طفلا ، وما دام في الرضاع صبيا ومن الفطام إلى تسع سنين غلاما ومن سبع إلى اثنتي عشرة سنة مميزا ومن اثنتي عشرة إلى خمس عشرة مراهقا ، ومنها إلى(3/598)
ج 3 ، ص : 599
ثماني عشرة بالغا ، ومنها إلى إحدى وعشرين رشيدا ، ومنها إلى ثلاث وثلاثين كهلا وحتى الأربعين ، ومنها إلى الستين شيخا ، وإلى الثمانين أيضا ، إلا أن الستين هي سن الكمال أي منتهاه ، إذ يبدأ من الأربعين وما دون الأربعين يسمى شابا وفتى وبعد الثمانين هرما ، ويطلق لفظ الرجل على الكامل في الرجولية والفتى على الكريم اللطيف الشجاع ، ويطلق لفظ الولد والذرية على من لم يبلغ الحلم.
وبعد كمال أربعة أشهر في رحم أمه تنفخ فيه الروح فتنتقل بعد كمال مدته من برزخ المشيمة إلى برزخ الحضانة إلى برزخ الاستغناء كما تنتقل بعد استيفاء الأجل في الدنيا من برزخ الدنيا إلى برزخ القبر ومنه إلى برزخ الآخرة ، فالانتقالات أيضا ثلاث ثم في الآخرة من برزخ القبر إلى برزخ الموقف فإلى برزخ الحساب فإلى الجنة أو النار ، فسبحانه من إله عظيم قدر ما أراد وأراد ما قدر وهو القائل «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» ذلك التنقل فيسقط قبل تمام خلقه أو بعده أو يموت في الرحم أو عند الولادة أو قبل الشبوبية أو قبل الكهولة أو قبل الشيخوخة كما هو مقدر عنده تعالى المشار إليه بقوله «وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى» لبقائكم في الرحم من لحظات وأيام وشهور فلا تخرجون منه قبل استيفائها ، وكذلك بقاؤكم في الدنيا محدود لا يتقدم ولا يتأخر «وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 67» هذه الأحوال العجيبة التي تعتوركم منذ نشأتكم إلى دخولكم الجنة أو النار ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 5 من سورة الحج ج 3 ، فتتفكروا في قدرته البالغة وإبداعه الباهر ، واعلموا أنه «هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» من أحياه من نطفة وسواه بشرا سويا عند انقضاء أجله «فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 68» بلا كلفة ولا عناء ، راجع الآية 95 من سورة الأنعام المارة «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ» من كفرة قومك وينكرون البعث وغيره مما تخبرهم عن ربك «أَنَّى يُصْرَفُونَ 69» الصدق إلى الكذب ويعدلون الحق إلى الباطل في هذه الآية تعجيب لحضرة الرسول من أحوال قومه المختلفة وآرائهم المضطربة الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ» كله أو بعضه لأن فيه ال للجنس فيشمل الكتب السماوية كلها ، وكذلك إذا اعتبرت للاستغراق «وَ»(3/599)
ج 3 ، ص : 600
كذبوا «بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا» من التعاليم الدينية المقتبسة من الشرائع الإلهية والوحي المقدس والصحف المنزلة عليهم «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 70» سوء عاقبتهم ، وفي هذه الجملة تهديد شديد ووعيد كبير وصفه بقوله
«إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ» في أيديهم وأرجلهم بها «يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ 71» الماء الشديد الغليان «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ 72» يوقدون فيها ، والسجور لإيقاد النار في التنور لغة أهالي دير الزور ولم يكرر هذا الفعل في القرآن ، وجاء بلفظ الماضي في الآية 6 من سورة الإنفطار ، وبلفظ المفعول في الآية 6 من سورة الطور الآتيتين ، وجاء لفظ إذ ، بصدر هذه الآية مع أنها للماضي موضع ، إذا للمستقبل لكونها واقعة في إخبار اللّه المتيقنة الوقوع المقطوع بها ، وإلا فلا يجوز إيقاع مثلها في غير كلام اللّه لكونه غير محقق ، تأمل.
وقد تكرر في هذه السورة ذكر الجدال في آيات اللّه في ثلاث مواضع ، ولكن كلا منها لأناس مخصوصين وأصناف مختلفين.
ولذلك فلا يعد تكرارا ، ومن قال باتحاد الأقوام المجادلين قال بالتكرار وهو غير وجيه ، لأن التكرار قد يكون للتأكيد لما في الجدال في آيات اللّه ما يوجب غضبه جل جلاله ، لذلك شدد فيه ليتباعد الناس عنه ويوقنوا بما أنزله إليهم إيقانا جازما دون تردد ، ويسلموا لأوامر رسلهم ، فيكون التكرار لحاجة في الأمر وهو مطلوب ، قال تعالى «ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ» وهم في النار «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ 73» أروني إياهم هاتوهم ليشفعوا لكم كما كنتم تزعمون في الدنيا «قالُوا ضَلُّوا عَنَّا» عابوا في وقت نحن أحوج ما يكون إليهم من غيره في زعمنا وفقدناهم في حالة كنا نظن وجودهم فيها ، لأنا لأجلها عبدناهم ثم قالوا بعد أن لم يجدوهم «بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ» في الدنيا «شَيْئاً» أبدا «كَذلِكَ» مثل هذا الإضلال «يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ 74» ويحيرهم في أمرهم حتى يفزعوا إلى الكذب والإنكار «ذلِكُمْ» العذاب الذي حل بكم «بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ» بالدنيا «بِغَيْرِ الْحَقِّ» بطرا وأشرا وظلما لأنفسكم «وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ 75» تحتالون وتتكبرون على الناس وتتوسعون في الأرض بغير الحق أيضا وقد حذف من الثاني بدلالة الأول كما مر(3/600)
ج 3 ، ص : 601
آنفا ، وهذا الفعل لم يكرر في القرآن وجاء منه (مَرَحاً) في الآية 17 من سورة الإسراء في ج 1 ، ثم يقال لهم «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ 76» عن توحيد اللّه وطاعة رسله وتعس مقرهم ومنزلهم ، قال تعالى مخاطبا حبيبه بقوله عزّ قوله «فَاصْبِرْ» على أذى قومك يا أكرم الرسل وتحمل أذاهم وجفاهم حتى يأتي الوقت المقدر لنصرتك عليهم «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» منجز لا محالة إلا أنه لا يؤخر ولا يقدم عن أجله المقدر في علمه «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» بحياتك من القتل والأسر والجلاء «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبله فنريكه في الآخرة لأنهم لا يفلتون منا «فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ 77» وننتصف لك منهم وقد أراه اللّه عذابهم الدنيوي في بدر وما بعدها وسيريه عذابهم الأخروي أيضا البتة «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ» خبره وقومه في هذا القرآن «وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ» ولقد آتيناهم آيات معجزات وكذبهم أقوامهم أيضا ، فلا توجد في نفسك غضاضة فلك أسوة بهم وفي هذه الآية تسلية له صلّى اللّه عليه وسلم من ربه جلّ وعلا كي لا يضيق صدره مما يرى من قومه ، ونظير هذه الآية الآية 38 من سورة الفرقان في ج 1 والآية 167 من سورة النساء في ج 3 فراجعهما.
قال تعالى «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ» من تلقاء نفسه أو بحسب اقتراح قومه عليه إذ لا يتمكن من الإتيان بها «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» فإذا أذن له أظهرها على يده وإلا لا «فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ» بعذاب قوم «قُضِيَ بِالْحَقِّ» بين الرسل وأممهم «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ 78» الذين يكلفون أنبياءهم بالمعجزات ويجادلونهم بالباطل عنادا ومكابرة ، ثم بين نبذة من أفضاله على خلقه فقال تعالى «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها» أي اللاتي للركوب كالإبل والخيل والبراذين وشبهها «تَأْكُلُونَ 79» ففيها نعمتان نعمة الركوب ونعمة الأكل ، ومنها للأكل فقط كالغنم والمعزى وغيرهما ، ومنها للأكل والعمل كالبقر والجاموس وغيرهما ، إذ تستعمل للحراثة وقد تستعمل الإبل لها وللسقي «وَلَكُمْ فِيها» كلها «مَنافِعُ» أخرى غير الأكل والركوب والعمل من حليب ولبن وزبدة وسمن وجبن واقط وصوف ووبر وشعر للباس(3/601)
ج 3 ، ص : 602
والبيوت وغيرها «وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ» من زيارة البلاد والآثار الموجبة للعبر وللنزه وحمل الأثقال والاتجار لكسب الأموال
بأثمانها أو بالمقايضة وتنميتها والكرم بها وغير ذلك كثير «وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ 80» برا وبحرا
َ يُرِيكُمْ»
اللّه تعالى ياتِهِ»
في تنقلاتكم عليها من البلاد البعيدة القائمة والمدمرة لتعتبروا بها وتشكروا الذي عافاكم مما ابتلى أهلها من العذاب الباقي أثره في ديارهم لتتذكروا فترجعوا إلى ربكم خشية أن يصيبكم ما أصابهم ولنعتبروا بهاَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
81» أيها الناس وهي ظاهرة لا يمتري فيها أحد ، إلا من لم يكن عنده لمعة من فكر أو ذرة من عقل ، وجاءت كلمة أي هنا مذكرة في محل التأنيث لأن الشائع المستفيض هو تذكير أي في المذكر والمؤنث وقد جاء تأنيثها في المؤنث في قوله :
بأي كتاب أو بأية سنة ترى حبهم عارا علي وتحسب
قال تعالى «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ» من قومك يا محمد «وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ» التي كانوا فيها أولئك المتمردون ومصانعهم وقصورهم فيها تدل على ذلك ، لأنها منها ما هو باق حتى الآن فضلا عن وجودها زمن نزول القرآن وأن البشر الآن يعترف بعجزه عن الإتيان بمثل ما شيدوه من البناء والصروح وعظم هندستها وقوة إتقانها ومع ذلك كله «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 82» فيها من وقايتهم من عذاب اللّه ، وقد مرّ نظير هذه الآية في الآية 21 من هذه السورة ولا تعد مكررة لما في هذه من الألفاظ ما ليس في تلك.
ولذلك ذمهم اللّه تعالى بقوله (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الآية 30 من سورة النجم في ج 1 ، وقوله بما يقارب هذه الآية لفظا ومعنى «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» بأمور الدنيا وتدبيرها واستغنوا عما جاءهم به الأنبياء ولم يعلموا أن ذلك وحده جهل في الحقيقة إذا لم يضموا إليه العلم بأمور الآخرة ، ولذلك ذمهم اللّه في الآية 9 من سورة الروم الآتية بقوله (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) وفي الآية 66 من سورة(3/602)
ج 3 ، ص : 603
النمل المارة في ج 1 بقوله (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ولهذا فقد لحقتهم الخيبة وغشيهم الغم والحزن على ما فرحوا به في الدنيا «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 83» على الأنبياء وما جاءوهم به وذلك فرحهم بالسخرية على ما يبلغونهم من الأوامر والنواهي والآداب الإلهية حتى أنزل اللّه فيهم (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) الآية 12 من الصافات المارة ، قال تعالى «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» عذابنا وقد أحاط بهم من كل جانب «قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ 84 في الدنيا مع أنهم كانوا يشمئزون من ذكر اللّه وحده ويفرحون بذكر آلهتهم كما نعى اللّه عليهم حالتهم بقوله (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الآية 45 من سورة الزمر المارة ومثلها الآية 46 من سورة الإسراء في ج 1 ، قال تعالى «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» لأنه لا إيمان في حالتي البأس واليأس ، ولا توبة مقبولة أيضا في هاتين الحالتين وهذه «سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ» ولا مجال لتبديل ما سنّه اللّه ، راجع الآية 158 من سورة الأنعام المارة والمواضع التي تدلك عليها «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ 85» لأنهم لم يعرفوا ذلك الخسار إلا عند إملاكهم ولا يلجأون إلى التوبة إلا في غير إبانها وإلا فهم خاسرون دائما حال نزول العذاب وقبله وبعده ، ومجموع جملة وخسر إلخ بحساب الجمل 1360 مثل الجملة المارة في الآية 173 من سورة الصافات ، فنسأل اللّه أن يدمر الكفرة وبعلي كلمة الإسلام من الآن فصاعدا ، وأن يديم خسار الكفرة وخاصة اليهود ، ويجمع شمل المؤمنين ويديم
ربحهم ، ويرفع رتبتهم على من سواهم ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة ، هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين.(3/603)
ج 4 ، ص : 1
[الجزء الرابع ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة فصلت
عدد 11 - 61 - 41
نزلت بمكة بعد سورة غافر المؤمن ، وهي أربع وخمسون آية ، وتسعمئة وست وتسعون كلمة ، وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «حم» 1 «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» 2 تقدم مثله وفيه ما فيه.
واعلم يا أكرم الرسل أن المنزل عليك من لدنا هو «كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ» تفصيلا شافيا وبينت تبيينا كافيا وافيا وأعني به «قُرْآناً عَرَبِيًّا» أنزلناه «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» 3 هذه اللغة حق العلم فيجيلون النظر في مبانيه ويتفقهون في معانيه ويعرفون المراد منه ، وفي هذه الآية إيذان بتعليم اللغة العربية للوقوف على معاني القرآن العظيم ، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها ، لأن القرآن لا يقرأ إلا بها :
مطلب عدم جواز ترجمة القرآن وبحث في الزكاة وفي معجزات القرآن :
وان الترجمة باللفظ والمعنى غير ممكنة ، إذ الحروف العربية لا توجد كلها في اللغات الأجنبية ، فيضطر المترجم إلى تبديل حرف بغيره أو تحريره ، ويجر هذا التغيير إلى تبديل كلمة تعطي غير المعنى المراد من أجلها ، ومن المعلوم أن تغير شيء من كتاب اللّه كفر ، إذ قد يختل المعنى المقصود منه وهو مبرأ من الخلل ، أما تفسيره باللغات الأجنبية مع المحافظة على متنه فجائز ، ومن هنا طرأ التحريف على الكتب السماوية المترجمة ، راجع هذا البحث في المقدمة تقف على ما تريده.
وقد جعلنا هذا الكتاب المنزل عليك يا خاتم الرسل (بشيرا) للطائعين المنقادين لأحكامه بالجنة ونعيمها «وَنَذِيراً» للعاصين الجاحدين له بالنار وجحيمها «فَأَعْرَضَ»(4/1)
ج 4 ، ص : 2
أكثرهم عن الأخذ به والامتثال لأوامره «أَكْثَرُهُمْ» عنه لسابق سقائهم «فَهُمْ» أي قومك يا سيد الرسل «لا يَسْمَعُونَ» 4 اليه تكبرا وأنفة مع أنه بلغتهم ، وقد أنزل على رجل منهم ، وعلى هذا المثل السائر (زجرته فلم يسمع) «وَقالُوا» لرسولنا الذي يدعوهم إليه «قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ» أغطية كثيفة «مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» ولذلك لا نفقهه «وَفِي آذانِنا وَقْرٌ» ثقل وصمم ولهذا لا نسمعه «وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» ستر كثيف غليظ مانع من الرؤية حاجز ، من التواصل والتوفيق لما بين ديننا ودينك من البون الشاسع ، وأرادوا بذكر هذه الموانع المختلقة إقناطه عليه السلام من إجابتهم إليه ، وذلك أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينين على تحصيل المعارف قالوا له أن هذه الثلاثة محجورة عن أن يصل إليها شيء من قولك ، فكيف تريد أن نعي ما تقوله لنا أو نفهمه «فَاعْمَلْ» على ما يقتضيه دينك واتركنا «إِنَّنا عامِلُونَ» 5 على ديننا أيضا.
قيل إن السبب في نزول هذه الآية أن قريشا أقبلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لهم ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب فقال له أبو جهل ذلك القول وأخذ ثوبا فمده بين يدي الرسول وبينهم حتى لا يرى أحدهم الآخر ، وقالوا له إنك بشر مجنون ليس إلا قال تعالى «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» كما تقولون ولست ملكا ولا بي مما تقولونه من الجنون والسحر ، وإنما «يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» سميع بصير لا أصنام جامدة لا تفقه ولا تعلم ولا تسمع ولا تبصر «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ» يا قومي وارفضوا ما أنتم عليه «وَاسْتَغْفِرُوهُ» من الشرك «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» 6 به غيره «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» لبخلهم وحبهم للمال وعدم شفقتهم على الفقراء المعدمين والأرامل المحتاجين ، ولم يعلموا ما أعد اللّه للمشركين ولا يفقهون كنهه ، قال ابن عباس المراد بالزكاة هنا تزكية النفس من الشرك بحجة ان الزكاة لم تفرض ، إلا أن المعنى لا يستقيم لوجود فعل يؤتون ، فمعه لا يجوز أن يقال يزكون أنفسهم ، بل يعطون الزكاة والإعطاء يكون من الشخص لغيره مما هو عنده ، وليس لديهم زكاة في هذا المعنى ليعطوها لأنفسهم ، لهذا يكون الأولى أن يراد بالزكاة هنا ما كان متعارفا إعطاؤها عندهم(4/2)
ج 4 ، ص : 3
قبل نزول القرآن ، كصلاة الركعتين قبل فرض الصلاة ، إذ لم تخل أمة من الصلاة والزكاة والصيام ، إذ تعبدهم بها كما تعبد هذه الأمة بها على اختلاف بالقدر والهيئة ، فعلى ظاهر هذه الآية يكون عدم إعطاء الزكاة كفرا ، ولهذا حكم أبو بكر رضي اللّه عنه بكفر مانعي الزكاة ، وحجة من قال إنها تزكية النفس ان الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وهما حاصلان فلا يلزم الكفر وقال الفراء كانت قريش تطعم الحاج فمنعته عمن آمن بحمد أي ، ونزلت «وَهُمْ» قومك يا محمد مع عدم إتيانهم بها تراهم «بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» 7 جاحدون وجودها مع انها حق ثابت يعترف بها أهل الكتب السماوية كلهم ، ومما يدل على هذا أن المراد بالزكاة إعطاء المال ، قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» التي من جملتها انفاق المال للمعوزين «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» 8 به عليهم لأنه بمقابل أعمالهم الصالحة وعطاء هذا الأجر فضل من اللّه تعالى ، لأنه هو الذي أعطى المال للمتصدق وهو الذي وفقه للتصدق وجعل ثواب الزكاة غير مقطوع ولا منقوص لما فيها من الرأفة على عباد اللّه وعياله ، هذا ولو كان المراد بالزكاة هنا تزكية النفس لكانت هذه الآية معترضة لعدم مناسبة ذكرها بل جيء بها استطرادا تعريضا بالمشركين المستغرقين بالدنيا التاركين للآخرة ، وقد جعل جل شأنه منع الزكاة مقرونا بالكفر ، لأنها معيار الإيمان المستكين بالقلب ، ولهذا خصها
من بين أوصاف الكفرة ، وقيل إن المال شقيق الروح ، وهو عند من لا إيمان له أغلى منها قال بعض الأدباء البخلاء :
وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ به فأجبت المال خير من الروح
أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي وتضييعه يقضي لتسآل مقبوح
قال في الكشف : الأولى إبقاء اللفظ على ظاهره لأن صرفه عن حقيقته الشائعة من غير موجب لا يجوز ، كيف ومعنى الإيتاء لا يقر قراره ، نعم لو كان بدل يؤتون يأتون كما في قوله تعالى «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى » الآية 56 من سورة التوبة لجاز ذلك بالنظر للفرق بين الإيتاء والإتيان ، ولم يقرأ أحد من القراء بها ، لهذا لا يجوز الركون لذلك القول ، ولا يخفى أن اطلاق الاسم(4/3)
ج 4 ، ص : 4
على طائفة مخرجة من المال على وجه القربة من أناس عندهم فضل على حاجتهم كان شايعا قبل فرض الزكاة ، وكان يسمى عندهم زكاة أيضا ، وكانوا متفاخرين بإعطائها ، بدليل قول أمية بن الصلت في مدح طائفة من قومه : الفاعلون للزكوات ، وإن ما جاء في تفسير الإمام الرازي من ان ويلا خصت بالأصناف الثلاثة المشركين ، ومانعي الزكاة والكافرين حسن جدا لو لا ان الآية عدتهم صنفا واحدا ، إذ وصفت المشركين بمانعي الزكاة وسمتهم الكافرين تدبر هذا ، وان خطتنا في هذا التفسير المبارك اتباع الظاهر ما استطعنا ، لأن الجنوح إلى التأويل مع إمكان عدمه قد يكون خوضا والخوض قد يؤدي إلى الوقوع فيما لا ينبغي ، وقد ذم اللّه تعالى الخائضين راجع الآية 67 من سورة الأنعام المارة والآية 140 من سورة المائدة والآية 31 من سورة التوبة في ج 3 ، لهذا أرى الكف عن التوغل في مثل هذا مطلوبا لأن اللّه تعالى لو شاء لقول ما يقدمون على تأويله ، ولكنه لم يشأ ، فعلى العاقل أن يترك مشبثته لمشيئة اللّه ويعلم أن كثرة ذكر الزكاة في القرآن العظيم لزيادة الحث على اعطائها وشدة التحذير من منعها ، لأن بذل المال في سبيل اللّه أقوى دليل على الاستقامة وصدق النية وقوة الإيمان ونصح الطوية ، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا قرت بها عصبيتهم ولانت شكيمتهم ، وما ارتد بنو حنيفة إلا بمنع الزكاة ، ففي هذه الآية بعث لاستنهاض همم المؤمنين على أدائها عن طيب نفس وتخويف عظيم على منعها ، قيل إن هذه الآية الأخيرة نزلت بالزمى والمرضى والهرمي المتحقق عجزهم عن العمل الصالح بأن يكتب لهم مثله ، بدليل ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول ، إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله مرض أو سفر كتب اللّه له كصالح ما كان يعمل ، وهو صحيح مستقيم.
فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة القائلين ذلك القول المشار اليه في الآية الخامسة ما يلي :
مطلب خلق السموات والأرض وما فيها ولما ذا كان في ستة ايام وفي خلق آدم :
«أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» استفهام انكار عن هذا المنكر وعن المنكر الآخر المبين في قوله «وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً»(4/4)
ج 4 ، ص : 5
أكفاء وأشباها من الملائكة والجن وغيرهما من سائر الأوثان المنحوتة من أحجار وأخشاب والمصوغة من الفضة والذهب والحديد وغيرهما من المعادن بصنع أيديكم لا تقدر على خلق شيء لأنها عاجزة عن حفظ نفسها ومع هذا فإنكم تعبدونها وتعرضون عن الإله الخلاق «ذلِكَ» المستحق للعبادة وحده «رَبُّ الْعالَمِينَ» 9 أجمع الناطق منهم والأعجم والمتحرك والجامد «وَجَعَلَ فِيها» في الأرض التي خلقها في يومين الأحد والأثنين «رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها» راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة «وَبارَكَ فِيها» بالأشجار والثمار والزروع والأنهار والحيوان والحيتان من جميع ما يحتاجه البشر وغيره «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» أرزاقها لكل ما فيها وكميّتها وكيفيتها «فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» اليومين الأولين والخميس والجمعة لأنه خلق السماء بعد الأرض في يومي الثلاثاء والأربعاء قبل خلق الروامي وتقدير الأقوات لا انه غيرهما وهذا كما تقول سرت من القنيطرة إلى دمشق في يومين والى النبك في أربعة أيام أي في تنمة أربعة أيام ، ولا بد من هذا التقدير لأنه بغيره يكون تمام الخلق بثمانية أيام وهو مناف لما جاء في قوله تعالى في آيات عديدة في ستة أيام كما أوضحناه في الآية 54 من سورة الفرقان والآية 59 من الأعراف في ج 1 «سَواءً لِلسَّائِلِينَ» 10 الذين يسألونك يا أكرم الخلق عن مقدار الزمن الذي خلق ربك فيه الأرض وما فيها بلا زيادة ولا نقص
«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ» شيء ظلماني كالدخان ، وقد مرّ أن عرش الرحمن كان على الماء وكان قبله عماء ، راجع الآية 6 من سورة هود المارة ، وأحدث اللّه في هذا الماء سخونة ، فارتفع زبد ودخان ، فأما الزبد فبقي على وجه الماء فأيبسه اللّه وأحدث منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا ، فخلق منه السموات ، قال الراجز في صفة الأرض :
فبطنها محشوة بالغار وقشرها قد شق بالبحار
ومما يدل على هذا قوله تعالى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) الآية 7 من سورة الطور الآتية ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم : (البحر طباق جهنم) وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية 27 من سورة الحجر المارة فراجعها ، وفي هذه الآية معجزة من معجزات القرآن أيضا ، إذ لم يكن عالم أو فيلسوف في ذلك العهد أخبر حضرة الرسول أن هذا الكون(4/5)
ج 4 ، ص : 6
كان بادىء بدء مملوء بالسديم أي الأثير والهيولى ، مع أن هذه القضية لم تعرف إلا بعد نزول القرآن بمئات من السنين.
والدخان أجزاء أرضية لطيفة ترتفع بالهواء مع الجرارة ، والبخار أجزاء مائية ترتفع في الهواء مع الأشعة الراجعة من سطوح المياه ، فعبر بالدخان عن مادة السماء أي الهيولى والصورة الجسمية أو عن الأجزاء المتصغرة المركبة منها أي الأجزاء التي لا تتجزأ.
ولما كان أول حدوثها مظلمة سميت بالدخان تشبيها لها به من حيث أنها أجزاء متفرقة غير متراصة ولا متواصلة عديمة النور ، أشبه شيء بالدخان.
أما الإستواء فقد تقدم توضيحه في الآية 54 من سورة الأعراف والآية 5 من سورة طه المارتين في ج 1 ، وهو متى ما عدّي بعلى يكون بمعنى الاستيلاء والاستعلاء كقوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) الآية المذكورة من طله ، ومنى ما عدي بإلى كما هنا يكون بمعنى الانتهاء ، فاحفظ هذا وتذكره عند كل جملة من هذا القبيل ، وراجع بيانه فيما أرشدناك إليه من المواضع.
قال تعالى «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً» وهذا تمثيل لتحتيم قدرة اللّه تعالى فيها واستحالة امتناعهما المشعر به «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» 11 فوجدتا كما أرادهما اللّه تعالى ، وجاء الجمع بلفظ العقلاء لأنه تعالى لما خاطبهما بأوصاف العقلاء أجراهما في الجمع مجرى من يعقل ، ونظيره (ساجِدِينَ) في الآية 4 من سورة يوسف وهو جمع للكواكب وقد خاطب اللّه تعالى من لا يعقل بصيغة من يعقل في كثير من آي القرآن ، لدلك السبب ، ولهذا جرينا أيضا على هذا المجرى تبعا لكلام اللّه تعالى ولتلك الأسباب نفسها.
وليعلم أن اللّه تعالى خلق أولا الأرض ، ثم السماء ، ثم دحا الأرض ، بدليل قوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) الآية 30 من سورة النازعات الآتية لا انها خلقت بعد السماء بل خلقت قبلها ودحيت بعدها ، ولهذا قلنا آنفا في الآية العاشرة إن خلق الأرض في يومي الأحد والاثنين وما فيها في يومي الخميس والجمعة ، إذ كان خلق السماء في الثلاثاء والأربعاء تدبر ، ولا تغفل.
وعلى هذا «فَقَضاهُنَّ» ذلك الإله العظيم كلهن وما فيهن وسواهن «سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» مما أراد أن يكون فيها مما لا يعلمه على الحقيقة غيره ، ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة من(4/6)
ج 4 ، ص : 7
سورة النازعات الآتية إذ يفهم من هذه الآية أن خلق الأرض ودحوها قبل خلق السماء ، وآية النازعات توضح أن الدحو بعد خلق السماء وهو ما أجمع عليه المفسرون وقال الأخباريون وأصحاب السير والمؤرخون : أول ما خلق اللّه التربة ، أي الأرض بلا دحو ولا بسط ولا مد ولا تمهيد في يومي الأحد والإثنين ، ثم سوى السموات السبع وما فيهن في الثلاثاء والأربعاء ، ثم مد الأرض ودحاها وشق بحارها وأنهارها وثقلها بالجبال وجعل فيها فجاجا وأودية في الخميس والجمعة ، ثم خلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة أي سوى خلقه من التراب وتركه ولم ينفخ فيه الروح بدليل أول سورة الإنسان وما جاء في الأخبار أن إبليس كان يمر به ويتأمله ويفكر في خلقه ، ويقول إنه أجوف لا يتمالك ، وهكذا إلى أن أراد اللّه تعالى نفخ الروح فيه فنفخها وصار بشرا سويا ، أو أنه خلقه في غير تلك الجمعة التي أتم فيها خلق السموات والأرض ، بدليل خلق الجان الذين سكنوا الأرض قرونا كثيرة ، ثم فسدوا وبغوا فأهلكهم اللّه ولم يبق منهم طائعا في الظاهر إلا إبليس بدلالة الآية 30 من البقرة في ج 3 فراجعها ، وبعد أن خلق اللّه الحيوانات بأصرها والوحوش والأشجار وكل ما في الأرض خلق آدم أي نفخ فيه الروح ، لأن كل ما في الأرض خلقه لأجله ولذريته.
هذا واعلم أن اللّه تعالى قادر على خلق الكون بما فيه وإبادته في لحظة واحدة ، لأنه عبارة عن الأمر بلفظ كن فيكون بين الكاف والنون ، قال تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الآية 81 من سورة يس وهي مكررة كثيرا في القرآن في المعنى ، وقال تعالى (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) الآية 20 من سورة القمر المارة في ج 1 ، وإنما القصد من خلقها في ستة أيام هو أنه جعل لكل شيء حدا محدودا لا يتعداه ، فلا يدخل شيء من مخلوقاته في الوجود إلا بالوقت الذي قدره لدخوله ، وانه ليعلّم خلقه التثبت في الأمر والتأني بفعله ، قال صلّى اللّه عليه وسلم التأني من اللّه والعجلة من الشيطان ، وانه إذا جعل الشيء دفعة واحدة ظن وقوعه اتفاقيا ، وإذا حدث تدريجيا شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة ، والقول الفصل في هذا وأمثاله هو أن يقال إن أفعال اللّه لا تعلل ، ومن علم أنه لا يسأل(4/7)
ج 4 ، ص : 8
هما يفعل ، وأيقن بالقدرة ، وأن الحكيم لا يفعل شيئا إلا عن حكمة ، وعلم أن اللّه أحكم الحاكمين حكما وحكمة ، سكت وسلم فحفظ وغنم وسلم ، وإلا فهو على خطر عظيم حفظنا اللّه ووقانا.
وهو القائل «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» كواكب مختلفة في الحجم والشكل واللون والضياء والسير «وَحِفْظاً» من الشيطان الذي يسترق السمع ، راجع الآية 11 من سورة الصافات المارة «ذلِكَ» الصنع البديع والتقدير العظيم «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» 12 البالغ علمه كل خفي وجلي
العالم بشئون خلقه كلها وفيما أودعه في مكوناته من الحكم والمنافع والمصالح لعباده «فَإِنْ أَعْرَضُوا» عنك يا سيد الرسل بعد أن أبديت لهم ذلك ولم يعتبروا بما أبدعه ربك من الآيات الدالات على وحدانيته وعظيم سلطانه وبالغ قدرته «فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» 13 وقرئ صعقة والصعق الموت خوفا ، وذلك أن عادا أهلكوا بالريح وثمود بالصيحة ، وإنما أهلكهم اللّه لأنهم حين «إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ» من كل جانب بمعنى أنهم بذلوا وسعهم وقصارى جهدهم بأنواع الإرشاد والنصح وأنذروهم «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» وحده واتركوا عبادة الأوثان «قالُوا» عنادا وعتوا إنا لا نطيع بشرا مثلنا «لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» يدعوننا لعبادته لأن البشر لا يصلح للنيابة عن اللّه في الدعوة إليه «فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» 14 لا نصدق بما جئتم به ونكذبكم لأنكم مثلنا لا فضل لكم علينا يؤهلكم لهذه الدعوة.
مطلب قول رسول قريش لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وما رد عليه به حضرة الرسول والأيام النحسات :
قال ملأ من قريش وأبو جهل : قد التبس علينا أمر محمد فالتمسوا رجلا عاقلا عالما بالشعر والسحر والكهانة يكلمه ويأتينا ببيانه ، فاتفقوا على عتبة بن ربيعة ، فذهب إليه ، وقال يا محمد أنت خير أم هاشم ، أنت خير أم عبد المطلب ، أنت خير أم عبد اللّه ، فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا ، فإن كان ما بك للرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسا ما بقيت ، وإن كان ما بك من الباءة زوجناك عشر نساء تختارهن من بنات قريش كلها ، وإن كان ما بك من المال جمعنا لك ما تستغني به(4/8)
ج 4 ، ص : 9
أنت وعقبك من بعدك ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلم ساكت ، فلما فرغ قال اسمع يا عتبة :
بسم اللّه الرحمن الرحيم حم حتى بلغ هذه الآية ، فقام عتبة وأمسك على فيه ، وناشده الرحم ، ورجع إلى أهله ، واحتبس عن قومه لما أدركه من مغزى ما تلاه عليه وقر لديه معناه ، وما دخل في روعه من الخشية ، فقال أبو جهل صبأ واللّه عتبة يا معشر قريش ، وأعجبه طعام محمد لفاقته ، هلم فانطلقوا إليه نؤنبه على ذلك ، فلما وصلوا إليه قال له أبو جهل ما قال وزاد على التأنيب بأن قال له سنجمع لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمدا أبدا ، وقال يا معشر قريش إني من أكثركم مالا ، ولكن أتيته فكلمته ، وذكر لهم ما قال له ، فأجابني بشيء واللّه ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة ، وقرأ عليهم ما سمعه منه ، ولما قرأ (فَإِنْ أَعْرَضُوا) نهضت فأمسكت بقية وناشدته الرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب ، وهذا الذي ألزمني بيتي ما هو كما يقول أبو جهل ، وأنتم تعلمون أني لست بذلك الرجل.
وهذا الخبر رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد اللّه ونقله محمد بن كعب القرظي بزيادة ، وقال إن عتبة كان سيدا حليما ، وكانت هذه القصة بعد إسلام حمزة رضي اللّه عنه وتكاثر المسلمين ، وقال أطيعوني يا معشر قريش واعتزلوه ، فو اللّه ليكوننّ له نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه ، وإن يظهر فعزّه عزكم ، وأنتم أسعد الناس به.
قالوا سحرك واللّه ، لقد جئت بغير الوجه الذي ذهبت به ، قال هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم ، ولم يرد اللّه له ، ولأبي جهل وجماعته الخير ، فأصروا على عنادهم فهلكوا كفارا.
«فَأَمَّا عادٌ» قوم هود عليه السلام «فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» وتعاظموا على أهلها واستولوا على ما ليس لهم منها ظلما «وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» لينزعنا عنها ، يهدّدون نبيهم بهذا القول حينما خوفهم عذاب اللّه معتمدين على ضخامة أجسادهم وقوة سواعدهم ، قالوا كان أحدهم يقلع الشجرة من الأرض والصخرة من الجبل بيده ، فرد اللّه عليهم بقوله عزّ قوله «أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً» لأنه قادر على إبادتهم بصيحة من أحد ملائكته ، ولو شاء لانتزع قوتهم وجعلهم أضعف خلقه ولكنهم بغوا بما(4/9)
ج 4 ، ص : 10
أنعم اللّه عليهم «وَكانُوا بِآياتِنا» التي أريناهم إياها «يَجْحَدُونَ» 15 ويكذبون قدرتنا مع اعترافهم بها «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً» عاصفا شديدا باردا له صوت قاصف ، وهذا أحد أسماء رياح العذاب ، وعاصف وقاصف وعقيم ، ورياح الرحمة لها أربعة أسماء أيضا : ناشرات ومبشرات ومرسلات وذاريات ، ويأتي في القرآن العظيم ذكر الريح غير الموصوف للعذاب ، والرياح للرحمة ، كما أن المطر للعذاب ، والغيث للرحمة ، وكان ذلك الريح الصرصر «فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ» نكدات مشؤومات مغيرات للنعم مكدرات للعبش ، قالوا كان أولها يوم الأربعاء من صفر ، وآخرها الأربعاء من آخره ، قالوا وما أنزل اللّه عذابا إلا يوم الأربعاء ، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 20 من سورة القمر في ج 1 والآية 102 من سورة الصّافات والآية 22 من سورة الحجر المارتين ، وذكرنا أنه لا قباحة للأيام ، وأن الشؤم والقباحة بعمل أهلها ، قال الأصمعي :
إن الجديدين في طول اختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وقال الآخر :
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
إلى أن قال : ولو نطق الزمان لقد هجانا راجع الآيتين 62/ 51 من سورة الزمر المارة ، ومنه تعلم أن النحس والسعد والصفاء والكدر بتقدير اللّه تعالى لا علاقة للأيام والنجوم والأمكنة وغيرها بذلك ، واعلموا أيها الناس إنما أرسلنا عليهم هذا العذاب بالدنيا «لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ» بسبب استكبارهم فيها فيذلوا ويحتقروا «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى » أشد إهانة وأكثر مهانة «وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» 16 منه البتة وكل ما كان من اللّه لا رافع ولا مؤخر له.
قال تعالى «وَأَمَّا ثَمُودُ» قوم صالح «فَهَدَيْناهُمْ» ودللناهم على طريق النجاة بواسطة نبيهم «فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى » اختاروا الكفر على الإيمان بطوعهم ورضاهم سوقا ورغبة ولم يلتفتوا لدعوة نبيهم عليه السلام ونبذوا نصحه وإرشاده وراء ظهورهم «فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ» داهية وقارعة الذل والمهانة «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 17 في الدنيا من إهانة نبيهم واحتقار(4/10)
ج 4 ، ص : 11
معجزته وهي الناقة إذ عقروها فعقرهم اللّه «وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا» منهم مع نبيهم «وَكانُوا يَتَّقُونَ» 18 التعدي عليه وعلى معجزته فأنجيناهم معه جزاء خشيتهم عقاب اللّه الدنيوي وخوفهم عذابه الأخروي.
مطلب معنى الهداية وما قيل فيها وشهادة الأعضاء وكلام ذويها :
واعلم أن معنى الهداية لدى أهل السنة والجماعة هو الدلالة فقط وصلت إلى المطلوب أو لم تصل ، قال تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية 53 من سورة الشورى الآنية ، لأن اللّه تعالى أنزل الآيات وأرسل الرسل وأعطاهم العقل وأمرهم بالهداية ومكنهم منها وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذرا لحصول بغيتهم بحصول موجبها ومقتضيها ، ولا وجه لقول بعضهم اشتراط التوصل إلى المطلوب أخذا من قوله هديته فاهتدى بمعنى حصول البغية كما تقول ردعته فارتدع لما تقدم ، كما لا وجه لاستدلالهم في هذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على قولهم في قوله تعالى (فَهَدَيْناهُمْ) بكونه دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة ، وقوله (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ) يدل على أنهم أنفسهم آثروه ، لأن الإيمان لا يكون إلا بتوفيق اللّه تعالى ، ولأن لفظ (فَاسْتَحَبُّوا) يشعر بأن قدرة اللّه تعالى هي المؤثرة ، وأن لقدرة العبد مدخلا ما ، وهو الجزء الاختياري للإنسان الذي يجعل له رغبة ورضا وشوقا ما ، في فعل ما يقدم عليه ، على أن المحبة مطلقا ليست اختيارية محضة بالاتفاق وإيثار العمى وهو الاستحباب المأخوذ من معنى استحبوا ، وهو لا يكون إلا من الأفعال الاختيارية ، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية انها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه ، فهي نفسها غير اختيارية باعتبار مقدماتها.
اختيارية بحسب ما تؤول إليه لأنها لا تكون إلا عن رغبة وميل ، ولذلك كلّفنا بمحبة اللّه تعالى ومحبة رسله صلوات اللّه عليهم وسلامه.
قال تعالى (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) الآية 189 من الأعراف في ج 1 فقد جعل علّة ميلها كونها منه بما يدل على أن المحبة ميل روحاني طبيعي ، وإليه الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه وسلم : الأرواح جنود بجندة ما تعارف منها أتلف.
وقد تكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال(4/11)
ج 4 ، ص : 12
ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والانقياد والتعظيم ، وهذه هي التي يكلف الإنسان بها ، لأنها اختيارية ، فتدبر وتفكر وافهم واعرف وفتح عينيك تهدى وترشد.
قال تعالى «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ» المتوغلون في إنكاره وجحود آياته وتكذيب أنبيائه «إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» 19 يستوقف أولهم ليلحق آخرهم.
فيحبسون حتى إذا تكاملوا سيقوا إلى أرض الموقف «حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ» فروجهم وأيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم لأنها هي التي للامس الحرام بدليل تخصيصها بعد ، وإنما كنى اللّه تعالى عنها بالجلود تحاشيا عن ذكرها وتعليما لعباده الأدب بالمكالمات ، وكثير أمثاله في القرآن وشهادتهم «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 20 بالدنيا فينطق كل بما وقع منه إذ تكت الألسنة عن النطق : فعلت الجوارح
«وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا» بما كتمناه نحن لئلا تعذبوا «قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» ولا نقدر على المخالفة والكتمان «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» من لا شيء ، فهو قادر على انطاقنا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 21 بعد الحساب إذ يضعكم موضع المجازات المترتبة عليكم ، كما أرجعكم إليه بعد الموت «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ» أيها العصاة عند ارتكابكم الفواحش بالحيطان والحجب خيفة من اللّه ليسترها عليكم الآن ، وإنما كنتم تستترون خشية أن يطلع عليكم الناس وما كنتم تظنون «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ» بأفعالكم القبيحة «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» 22 في دنياكم من الخير والشر ، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال :
اجتمع قريشيان وثقفي ، أو ثقفيان وقريشي عند البيت كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، فقال أحدهما للآخر أترون أن اللّه يسمع ما نقول ؟ قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا ، وفي رواية قال : فذكرت ذلك للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه هذه الآية.
على أن الآية عامة ولا قول في الحديث من حيث الصحة ، لأنه جاء برواية الشيخين وناهيك بهما ثقة ، وإنما في كونه سببا للنزول وعلى صحة ذلك فإنه لا يخصص حكم الآية ، ومثل هذا القول يقال في الحديث المذكور في(4/12)
ج 4 ، ص : 13
الآية 8 المارة آنفا ، وقدمنا في الآية 65 من سورة يس في ج 1 ما يتعلق في شهادة الأعضاء من الأحاديث ما به كفاية فراجعها ، فإذا كان اللّه تعالى وكل بالإنسان حفظة يحصون عليه أعماله وأنفاسه ، وفضلا عن هذا فإنه يستنطق جوارحه عما يقع منها ، فينبغي للمؤمن أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة ربه عز وجل ، فإن عليه رقباء منه ، قال أبو نواس :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن اللّه يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
ويكفيك قوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الآية 42 من سورة إبراهيم الآتية ، ولا يستغرب نطق الأعضاء بما وقع منها بقدرة اللّه تعالى ، بعد أن نرى الأسطوانة تتكلم بما وقع عليها ، والشريط السينمائي ينطق بما تكلم عليه على اختلافه ، وهما من صنع البشر ، فما بالك بما هو من صنع اللّه خالق البشر ، إذا لا يتطرق أحدكم بالظن في ذلك فيهلك ، وقد قال تعالى «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ» أوقعكم في الردى ، أي الهلاك ، وفي هذه الإشارة الدالة على البعد إيذان بغاية بعد منزلة ظنهم في الشر والسوء «فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» 23 بسبب ظنكم ذلك ، لأن اللّه تعالى أنعم عليكم في هذه الجوارح لتستعملوها فيما خلقت لها فتنالوا سعادة الدارين ، فإذا حرفتموها لغير ما خلقت لها كانت سببا لشقائكم فيها ، لأن استعمالكم إياها في طرق الخير يؤدي إلى إدراك ما تهتدون به إليه من اليقين ومعرفة رب العالمين الموصلة للسعادة الأبدية ، وصرفها لغير ذلك يؤدي إلى كفران النعمة الموصل إلى الشقاء الأبدي ، قال بعد أن حكم عليهم بشهادة أنفسهم وأعضائهم «فَإِنْ يَصْبِرُوا» على ما صاروا إليه من العذاب أو لا يصبروا «فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» لأن صبرهم ليس فيه مظنة الفرج حتى يأملوا الانتفاع به فصبرهم وفجرهم بحقهم سواء ، والآية هذه على حد قوله تعالى (أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) الآية 20 من سورة إبراهيم الآتية ، وقوله تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) الآية 16 من سورة الطور الآتية «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا» يطلبوا العتبى والرضاء «فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» 24(4/13)
ج 4 ، ص : 14
أيضا ، إذ لا سبيل للرضاء حتى يكونوا من المسترضين ولا محل له «وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ» هيأنا لهم أخدانا من نظرائهم الشياطين (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» من زخارف الدنيا المحيطة بهم «وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» الصادر ممّا بالعذاب «فِي» جملته «أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» 25 دنياهم وآخرتهم كغيرهم من الأمم الظالمة «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ» الذي يتلوه عليكم محمد «وَالْغَوْا فِيهِ» قولوا عند قراءته قولا لا رقوع له كي يتشوش القارئ ويلتبس على السامع «لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» 26 في لغوكم على تلاوة محمد ، فلا تتركون مجالا للسامع أن يفهمه كما هو ، وذلك أن المشركين علموا عذوبة ألفاظ القرآن وكمال معانيه وجزالة جمله ، وعرفوا أن من أحبط به علما وعقله مال إليه ، فخافوا على أنفسهم وغيرهم من الانخراط في الدين المنزل عليه وقبول ما جاءهم به ، فلذلك صار بعضهم يوحي إلى بعض بأن كل من يسمع محمدا يقرأ فليكثر من اللغو ورفع الصوت ليختلط عليه الأمر وعلى السامع أيضا ، فلا يعقله تماما خشية تسرب قوله إلى الناس فيؤمنوا به ، فأنزل اللّه هذه الآية ينعى عليهم بها سوء صنيعهم ، راجع الآية 115 من الأعراف في ج 1 ، ثم هددهم بقوله «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» أظهر مكان الإضمار إشعارا بعظم عقابهم المشار بكونه «عَذاباً شَدِيداً» على فعلهم هذا «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» 27 تهديدا مؤكدا بالقسم ، أي وعزتي وجلالي لأعاقبتهم على سيئاتهم هذه بأسوأ منها ولا نكافئنهم على أعمالهم الحسنة من صلة رحم وإقراء ضيف وإغاثة ملهوف وغيرها ، لأنهم كانوا يفعلونها لنشر الصيت رياء وسمعة وتفاخرا ، ولا نثيبنهم على الأحسن من أعمالهم مما هي خالية من
تلك الشوائب ، لأنا كافيناهم عليها في الدنيا من صحة وسعة رزق وجاه وغيرها ، بل نجازيهم ونعاقبهم على أفعالهم السيئة بأعظم العقوبات وأسوئها ، وعلى الأسوإ أكثر من السيء «ذلِكَ» التشديد عليهم بالجزاء «جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ» المحاربين له في الدنيا هو «النَّارُ» التي لا يقاس عذابها بعذاب «لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ» الإقامة الدائمة «جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا(4/14)
ج 4 ، ص : 15
يَجْحَدُونَ»
28 ويكذبون رسلنا الذين جاءوهم بها ويسخرون بهم «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بعد قذفهم بالنار وعدم النظر إلى طلباتهم الواهية «رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا» في الدنيا عن الدين القويم وأوقعانا في هذا العذاب الأليم «مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا» في هذه النار انتقاما منهم «لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ» 29 فيها فيتالا عذابا أكبر من عذابنا ، لأنهما هما اللذان أوقعانا فيه ، فلا يلتفت إلى قولهم لأن أولئك لهم مكان خاص في النار أيضا مع أمثالهم.
مطلب ما للمؤمنين المستقيمين عند اللّه ومراتب الدعوة إلى اللّه ودفع الشر بالحسنة :
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» بأفعالهم وأقوالهم على إيمانهم «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ» بالرحمة من اللّه عند الموت وفي القبر وزمن البعث تؤنسهم وتقول لهم «أَلَّا تَخافُوا» من هذه الأهوال التي ترونها في المواقع الثلاثة «وَلا تَحْزَنُوا» على ما فاتكم من الدنيا فإن اللّه تعالى أبدلكم خيرا منها وآمنكم من كل هم وغم وعناء ، والحزن غم يلحق الإنسان من توقع مكروه أو خوف فوات محبوب أو حصول ضار ، «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» 30 بها على لسان رسلكم في الدنيا والآن
«نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ»
وأنصاركم ومتولوا أمركم كما كنا لكم «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ»
اليوم «فِي الْآخِرَةِ»
كذلك لا نقارقكم أبدا حتى تدخلوا مقركم في الجنة «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ»
من أكل وشرب ولبس وظلال وترف وصحبة ونساء وغيرها «وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
31 تطلبون وتتمنون من كل ما يخطر ببالكم وهذا أعم من الأول «نُزُلًا» هذا الذي ذكر كله بمقام ما يقدم للضيف أول نزوله من شراب وقهوة ، فما بالك بما يقدم له بعد ، وناهيك برب المنزل «نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» 32 بالنازلين كثير المغفرة لما وقع منهم كيف وهو أكرم الأكرمين ممطر الألطاف والكرامة على عصاته ، فكيف بأضيافه ومطيعيه «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ» أيا كان من عباده المخلصين وأمر بطاعته ونهى عن معصيته ، وهذا عام في كل مؤمن يدعو الناس عامة طائعهم وعاصيهم برّهم وفاجرهم إلى عبادة اللّه ويدخل فيه الأنبياء بالدرجة(4/15)
ج 4 ، ص : 16
الأولى ثم الأمثل فالأمثل ، ولا وجه لتخصيصها بالرسل عليهم السلام كما قاله بعض المفسرين ، لأن إجراءها على عمومها أوفق للفظ وأنسب بالمعنى وأحسن بالمقصد «وَعَمِلَ صالِحاً» بإخلاص وحسن نية «وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 33 المذعنين المنقادين للّه تعالى قلبا وقالبا.
واعلم أن للدعوة إلى اللّه مراتب : الأولى دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالآيات والمعجزات والحجج والبراهين المقرونة بالتحدي وبالسيف إذا لم ينجع ذلك.
الثانية دعوة العلماء بالحجج والبراهين وطرق الإرشاد والنصح وضرب الأمثال فقط ، ولا شك أن العلماء أقسام : علماء باللّه ، وعلماء بصفاته ، وعلماء بأحكامه ، وقد يجمع الكل بواحد إذا كان من العارفين :
وليس على اللّه بمتنكر أن يجمع العالم في واحد
وكل من هؤلاء مكلف بإرشاد الناس إلى طرق الهداية ، أوتوا من قوة في النطق وفي الدلائل الشرعية.
الثالثة دعوة المجاهدين ، وهذه لا تكون إلا بالسيف لأنهم مأمورون من قبل ولي الأمر يقتال الكفار حتى يؤمنوا ، وفقال الخارجين عن الطريقة الإسلامية حتى يذعنوا ، فإذا آمن الأولون وأذعن الآخرون وجب عليهم الكف عن قتالهم ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
الرابعة دعوة المؤذنين إلى الصلاة ، فينبغي لمن سمع الصوت أن يجيب الداعي ، ولهذا فما روي عن عائشة أن هذه الآية نزلت في المؤمنين خاصة ، مع أنها عامة لا يخصصها رواية عائشة رضي اللّه عنها على فرض صحة نزولها فيما قالت ، لأنها مطلقة في كل من يدعو إلى اللّه ويحث الناس على سلوك طريقة السوي لا يقيدها قيد أبدا.
هذا ، وعلي من يتصدى للإرشاد أن يكون بمقتضى الآية 135 من سورة النحل الآتية «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ» في الآثار والأعمال والأحكام ، بل بينهما برن شاسع ، فيا أيها الإنسان الكامل «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» بالإحسان إلى من أساء إليك والصبر على أذاه والتأني عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند القدرة ، فهذه هي الحالة التي وصفها اللّه بالأحسن ، وشتان بين من تحلى بالخصال الممدوحة ، ومن تقمص بالخلال المذمومة ، والآية عامة في كل فعل حسن وسيئ قليلا كان أو كثيرا ، خطيرا كان أو حقيرا ، فعلى العاقل أن يحسن لمن أساء إليه ، ويصل من(4/16)
ج 4 ، ص : 17
قطعه ، ويعرض عمن آذاه ، ويعطي من حرمه ، ويمدح من يذمه ، ويدعو لمن شتمه ، ويعفو عمن تعدى عليه أو على ماله أو ولده أو أهله ، اتباعا لكلام اللّه وأحاديث رسوله ، ولا يتأنى في ذلك ، ففي التأني تفوت الفرص ، وهو محمود في غير هذا وأمثاله مثل تزويج البكر وإقراء الضيف ودفن الميت وغيره ، كان سيدنا عيسى عليه السلام إذا مرّ بأناس يشتمونه يدعو لهم فقال له أصحابه في ذلك ، فقال كل ينفق مما عنده.
وعليه المثل المشهور : وكل إناء بالذي فيه ينضح.
وكان من تعاليمه عليه السلام : من ضربك على خدّك الأيمن فأعطه الأيسر ، ومن أخذ ثوبك فأعطه رداءك ، وكان يأمر بمحبة الأعداء والعفو عن الاعتداء ، وكان أزهد الناس في الدنيا عاش ثلاثا وثلاثين سنة في الأرض ، ورفع إلى السماء ولم يختص بمحل يأوي إليه حتى آواه اللّه برفعه إليه «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» 34 مخلص صادق في محبتك ولوع في مودتك ، لأن اللّه تعالى يقلب عداوته صداقة محضة بأن يجعله أدنى لك من قريبك ، قال :
إن العداوة تستحيل مودة بتدارك الهفوات بالحسنات
«وَما يُلَقَّاها» أي تلك الخصال الحميدة «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا» على أنفسهم وتحملوا المكاره وتجرعوا الشدائد وكظموا الغيظ وتركوا الانتقام ، فصارت طبيعتهم الصبر وشأنهم العفو وديدنهم التحمل «وَما يُلَقَّاها» الأمور المذكورة آنفا ويقوم بها «إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» 35 أي موقق للخير ميسّر للهدى مسوق المرشد ذو نصيب كبير من كمال النفس ، وحظ عظيم من طهارة القلب ، وحصة جليلة من مكارم الأخلاق.
مطلب في النزغ وسجود التلاوة وعهد اللّه في حفظ القرآن :
قال تعالى «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ» أيها الإنسان الكامل «مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» فتحس بما ينخسه في قلبك ويوسوس فيه بصدرك من ترغيبك لفعل ما لا ينبغي فعله وصرفك عن القيام بتلك الخصال النفيسة وحثك للانتقام ، فاحذر أن تطيعه ، وإن حاك في نفسك شيء من اجراء المقابلة «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» منه والجأ إليه(4/17)
ج 4 ، ص : 18
ليحفظك من خدعه وغشه «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لمن يستغيث به فيجيبه وهو «الْعَلِيمُ» 36 بصدق ركونك إليه فيحفظك من شر نزغاته ، ويحول دون التفاتك إليه ، وقدمنا ما يتعلق بالنزغ في الآية 100 من سورة يوسف وفي الآية 12 من سورة يونس المارتين ، وفيهما ما يرشدك لمراجعته من الآيات الباحثة عن هذا.
اعلم أن مناسبة هذه الآية لما قبلها هو دفع ما يتوهم إن فعل ذلك بمقابل إساءة الغير قد يكون ذلا أو خوفا أو عازا من الناس ، وإن حصول هذه الوساوس من الشيطان الذي لا يريد إلا الشر للإنسان ، كيف وقد حذّرنا اللّه منه بقوله عزّ قوله (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) الآية 60 من سورة النساء في ج 3 ، بأن تجنحوا بكليتكم إلى المساوى والمكاره وتعرضوا عن العفو ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ، فعلى العاقل أن ينتبه لذلك ، لأن تلك الأعمال الحسنة ما هي إلا من علو النفس وزكاة القلب وكمال الإيمان ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ» الدالة على توحيده وعظيم قدرته وبالغ حكمته «اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» المسخّرات بأمره لمنافع الخلق وما في الكون كله يخضعون لعظمته ويسجدون كل بحسبه انقيادا لجلاله ، فإذا علمتم هذه تفعل هذا وهي دونكم في العقل والفضل ، فيا أيها العقلاء «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» لأنها ليست بأهل لذلك ولأنها من جملة مخلوقاته الكائنين في قبضته «وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ» لمنافعكم فهو وحده المستحق للسجود «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» 37 تخصونه بعبادتكم وتطلبون ثوابها «فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا» عن حصر السجود للّه وعمدوا إلى غيره ، فاترك يا أكمل الرسل هؤلاء الذين اختاروا المخلوقين على الخالق «فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة الكرام يسجدون له كما يسجد المؤمنون أمثالك و«يُسَبِّحُونَ» له «بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ» 38 من عبادته ويملون منها ولا يتكاسلون عنها وهنا موضع السجود على الوجه الأكمل لا عند قوله (تَعْبُدُونَ) كما قاله بعض القراء ، بل عند تمام هذه الآية الأخيرة لأن السجود يكون عند تمام المعنى المراد به فتكون السجدة آية واحدة
فقط ، كما في الإنشقاق والنجم والسجدة والفرقان(4/18)
ج 4 ، ص : 19
والحج ومريم والعلق والأعراف والرعد ، وتكون آيتين كهذه ، وسجدة ص ، وتكون ثلاث آيات كالنمل والنحل والإسراء ، وعلى هذا لا يكون السجود إلا عند ختام الآية الأولى بل عند تمام الثانية في فصّلت هذه وص ، وعند تمام الثالثة في النمل والنحل والإسراء ، وهذه السجدة من عزائم السجود ، وقدمنا ما يتعلق فيها في الآية 45 من سورة ص في ج 1 ، وفيها ما يرشدك لما تتمناه.
قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً» متكامنة من شدة التبيس مغبّرة وعليها آثار الذل بسبب ذواء نبلتها «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ» تمايل نباتها وتحرك بمرور الرياح عليه «وَرَبَتْ» فاشت وانتفخت ولانت ، ونظير هذه الآية الآية من سورة الحج في ج 3 مع اختلاف في بعض الكلمات ، فقل يا أكرم الرسل لهؤلاء المنكرين إعادة الأجسام من قومك «إِنَّ الَّذِي أَحْياها» بعد يبسها المشابه للموت في الإنسان «لَمُحْيِ الْمَوْتى » من البشر وغيرهم مرة ثانية كما خلقهم أول مرة وهو أهون عليه «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 39 لا يعجزه شيء وليس عليه شيء بأهون من غيره.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا» وينحرفون عن تأويلها فيميلون عن الحق المبشرة به إلى الباطل الذي يريدونه على حد قوله تعالى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) الآية 45 من المائدة في ج 3 ، وهي مكررة في القرآن لفظا ومعنى.
واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء «لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا» لأنا نراهم ونرى ما يعملون ، وفي هذه الجملة تهديد كبير بعظيم مجازاتهم «أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ» هذا تمثيل للكافر على الإطلاق «خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً» من العذاب «يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهذا تمثيل للمؤمن مطلقا أيضا ، وما قيل إن هذه الآية نزلت في أبي جهل وحضرة الرسول ، أو في أبي بكر أو عمار بن ياسر أو عمر أو عثمان أو حمزة على اختلاف الأقوال في ذلك ، وفرض صحة هذا السبب لا يقيدها عن عمومها ولا يخصصها عن إطلاقها ، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
ثم ذكر تعالى ما هو غاية في التخويف والتهديد والوعيد لأولئك الملحدين بقوله عز قوله «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» أن تعملوه أيها الكفرة «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» 40 والبصير بالشيء يعلمه ويعلم ما يستحقه(4/19)
ج 4 ، ص : 20
فاعله من العقوبة ، وهذه الآية غاية في التشديد وعظم التهديد للملحدين خاصة ، ويدخل فيها من على شاكلتهم من الكفرة
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ» الجملة من ان واسمها وخبرها واقعة مبتدأ وجملة (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) إلخ خبرها ، وما بينهما اعتراض ، والمراد بالذكر هنا هو القرآن «وَإِنَّهُ» ذلك الذكر ولَكِتابٌ عَزِيزٌ» عديم النظير محمي بحماية اللّه كريم عليه محفوظ ؟ ؟ ؟ التبديل والتغيير والتحريف «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ» الذي يريده الملحدون ليوقعوا فيه تناقضا بزعمهم «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» قبله وأمامه «وَلا مِنْ خَلْفِهِ» ورائه ودبره ، لا يتطرق إليه الباطل بوجه من الوجوه لأنه «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» 41 في أقواله وأفعاله محمود على ما أسداه من النعم المتتابعة إلى خلقه ، ومن أجلّها هذا القرآن المصون ، وتقدم في الآية 9 من سورة الحجر ما يتعلق في هذا البحث ، المراجعة.
ثم إنه جل شأنه عزى حبيبه محمد على ما يلاقيه من قومه بقوله جل قوله «ما يُقالُ لَكَ» يا حبيبي مما تراه من الأذى والجفا في القول والفعل «إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» فلك أسوة بهم فلا تضجر ولا تحزن «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ» لمن آمن بك منهم ومن غيرهم عما سبق من ذنبه مهما كان «وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» 42 لمن أصر على التكذيب «وَلَوْ جَعَلْناهُ» ذلك الكتاب المعبر عنه بالذكر «قُرْآناً أَعْجَمِيًّا» يتلى بغير لغة قومك «لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ» بالعربية لفهمناه وآمنا به فكيف تريد أن نؤمن بما لا نفهمه «ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ» كيف يكون ذلك أتهدى أمة عربية بلسان أعجمي لا تعيه كلا ، لا يكون ذلك ، أي لتذرعوا بالإنكار في هذه الحجة ولصح قولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) الآية 5 المارة ، لأنهم لا يحيطون بمعناه أما وأنه أنزل بلغتهم فلم يبق لهم ما يعتذرون به ، فلا يصح قولهم ذلك بأنه أعجمي لا نفهمه.
وفي هذه الآية إشارة على أنه لو نزل بلسان العجم لكان قرآنا فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه اللّه في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية ، وتقدم أن بينا عدم جواز ترجمة القرآن باللغات الأجنبية في الآية 3 المارة ، لأنها لا تحتوي على جميع الحروف العربية ، فليس بوسع أعظم عالم باللغة المترجم إليها وباللغة العربية أن يعبر(4/20)
ج 4 ، ص : 21
عن كل كلمة منه بلفظها ومعناها من غير أدنى تغيير فيها بل تعرض المحال ، لأن إمكان وجود لغة أجنبية تحتوي على الحروف العربية كلها محال ، وإن ما اطلعتما عليه من اللغات التركية والإفرنسية والعبرية والسريانية والكردية والهندية والإنجليزية والألمانية لا تحتوي عليها ، وغيرها كذلك ، وإمكان التعبير عن بعض كلماته لا يكفي ، لأنه لا يجوز أن يترك منه حرف واحد.
أما ما جاء عن أبي حنيفة فهي عبارة عن حفظ آية طويلة أو ثلاث آيات قصار بمقدار ما تصح به الصلاة للعاجز عن تعليمها بالعربية خشية من ترك الصلاة التي لا تصح بغير القراءة ، فذلك ممكن ، إذ يوجد في القرآن ما هو ممكن الترجمة بذلك القدر من آيات الدعاء والرجاء ، أما كله أو نصفه أو عشره أو معشاره فلا يمكن البتة ، لأنه خارج عن طوق البشر ، وقدمنا في الآية 195 من سورة الشعراء في ج 1 ، ما يتعلق بهذا البحث بصورة موضحة فراجعها.
مطلب القرآن هدى لأناس ضلال الآخرين بآن واحد ، وعدم جواز نسبة الظلم إلى اللّه تعالى :
قال تعالى «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً» من الضلال وإرشاد للحق «وَشِفاءٌ» من مرض الشرك والشك الذي يحوك بالقلب وبعض الأمراض لصاحب اليقين القوي الاعتقاد ، راجع الآية 80 من سورة الإسراء ج 1 ، «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» به «فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ» ثقل وصمم عن سماعه «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» لا يبصرونه لأنهم لا ينظرون إليه عن صدق وحقيقة ولا يسمعونه سماع قبول فيكون ظلمة وشبهة ومرضا عليهم فهو بآن واحد نور لأناس ظلمة لآخرين ، لأنهم لا ينتفعون به فيكون عليهم بالضد من غيرهم «أُولئِكَ» الصم العمي عن القرآن «يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» 44 فلم يسمعوا ذلك النداء ولم يعوه ، شبه اللّه تعالى عدم فهمهم بما دعوا إليه بمن ينادى من مسافة بعيدة فإنه إن سمع الصوت لا يفقه المعنى ، وهو مثل يقال للذي لا يفهم : أنت تنادي من مكان بعيد ، والنداء على الشخص من بعد فيه إهانة له وعدم اكتراث به ، ولهذا فإن الكفرة يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأشنع أسمائهم من مكان بعيد هوانا بهم وإذلالا لهم ، فتعظم السمعة عليهم وتتكاثف المصائب بفضيحتهم على رؤوس الأشهاد.
قال تعالى(4/21)
ج 4 ، ص : 22
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» من قبل قومه ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر مثل قومك يا محمد «وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» بتأخير العذاب «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» في الدنيا وأهلكوا جميعا كسائر الأمم السالفة ، ولكن أرجأناهم بمقتضى سابق علمنا ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» 45 صفة مؤكدة للشك ، كما أن قوم موسى كانوا في ريب من كتابهم «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» 46 فلا يعذب إلا المسيء بحسب إساءته فقط ، وحاشاه من الظلم ، وقدمنا في الآية 16 من سورة يونس المارة ما يتعلق بعدم جواز نسبة الظلم إلى اللّه فراجعها ، ونظير هذه الآية الآية 15 من سورة الجاثية الآتية ، إلا أنها ختمت بغير ما ختمت به هذه.
قال تعالى «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ» عند السؤال عنها ، أي إذا سئلت يا سيد الرسل عن زمن القيامة فقل علمها عند اللّه وحده «وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها» أو عينها ، ومن الأولى مؤكدة للتنكير مما يزيد عمومه وإطلاقه ، أي مطلق ثمره من جميع أنواعها ، وكذلك من قوله «وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ» وأمره وإرادته أي لا يكون شيء من ذلك كما لا يكون غيره بغير علم اللّه وأنه ما يقع من ذلك على لسان بعض العارفين من الإخبار بوقت الإثمار ووقت تكون الحمل وزمن الوضع وبيان الموضع ، هو من إلهام اللّه تعالى إياهم.
أما ما يقوله المنجمون والسحرة والكهنة فمن طريق الحسبان والظن والتوسم ، راجع الآية 76 من سورة الحجر المارة تجد هذا البحث مستوفيا «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي» الذين سميتموهم بالدنيا أحضروهم إليّ الآن لأسألهم عن الذي حدا بهم لهذه الدعوى الباطلة «قالُوا آذَنَّاكَ» أخبرناك يا ربنا وأعلمناك بأنه «ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» 47 الآن بأن لك شركاء البتة ، وذلك لأن الذين اتخذوهم شركاء ينكرون ذلك ويتبرءون منهم عند معاينة العذاب ، وقبله في الوقف وهو الحساب.
قال تعالى «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ» من الشركاء «مِنْ قَبْلُ» في الدنيا «وَظَنُّوا» أيقنوا إيقانا لا ريب فيه أنهم «ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» 48 من العذاب ولا محيد عنه وحاص(4/22)
ج 4 ، ص : 23
بمعنى عدل ومال وماد وحاد وهرب ، والأنسب بالمقام ما ذكرناه «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ» لا يمل ولا يضجر من تكرار طلبه بل يظل يسأله مالا وولدا وجاها ورياسة وعافية بصورة دائمة ، ولو أعطى أحدكم نهرين لتمنى الثالث «وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ» من شدة وفقر وفاقة أو مرض وذل أو فقد شيء ما «فَيَؤُسٌ» شديد اليأس من روح اللّه «قَنُوطٌ» 49 كثير التفاؤل بالشر وقطع الرجاء من رحمة اللّه وفضله ، ولقد بولغ هذا الكلام من جهتين من جهة الصيغة ، لأن فعولا من صيغ المبالغة ، ومن جهة التكرار ، وهذه صفة الكافر بالدنيا والآخرة أيضا.
قيل نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة ، وهي عامة يدخل في عمومها هذان الكافران وغيرهما دخولا أوليا.
قال تعالى في وصف هذا الكافر أيضا «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا» من غنى وعافية ورياسة «مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ» من فقر ومرض وذل
«لَيَقُولَنَّ» بلا حياء ولا أدب «هذا لِي» حقي استحقيته بعملي «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ» التي تخبرنا بها يا محمد «قائِمَةً» واقعة ، يريد أنه ليس موقنا بالبعث ، وأن أهل هذه الدنيا يحيون حياة ثانية ، ثم أقسم الخبيث فقال «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي» على فرض صحة قولك «إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى » المنزلة الحسنة بالآخرة أيضا كما هي بالدنيا على فرض وجودها ، وهذا قياس مغلوط أشبه بقياس أخيه إبليس الذي أشرنا إليه في الآية 12 من الأعراف في ج 1 ، لأن نعم الدنيا لا يستدل بها على نعم الآخرة من حيث حيازتها ، لأن الدنيا تملك بالمال والآخرة بالأعمال.
قال تعالى مقسما ومؤكدا «فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» أمثل هذا القائل أن الأمر ليس كما زعم وأنهم مستحقون الإهانة لا الكرامة «بِما عَمِلُوا» في الدنيا من السوء ثم أقسم ثانيا فقال «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» 50 شديد لا يطاق في نار جهنم على ما فرط منهم.
قال تعالى «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى » تباعد بطرا عن شكر المنعم «بِجانِبِهِ» بنفسه تعاظمأ وتكبرا ووضع الجانب مكان النفس ، لأن مكان الشيء وجهته لينزل منزلة نفسه ، ومنه قول الكتاب في مكاتباتهم إلى جناب وجانب فلان يريدون نفسه وذاته ، وعليه قوله تعالى : (4/23)
ج 4 ، ص : 24
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) الآية 46 من سورة الرحمن ج 3 أي ذاته ، وقول الشاعر :
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذنب كالرجل اللعين
وقال أبو عبيد نأى نهض بجانبه وهو عبارة عن التكبر وشموخ الأنف ، هذا وقد يعبر عن ذات الشخص بالمقام والمجلس بقصد التعظيم والاحتشام عن التصريح بالاسم ويتركون التصريح لزيادة الاحترام ، قال زهير :
فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى وإياك أن تنسى فتذكر زينبا
سيكفيك من ذاك المسمى إشارة فدعه ، مصونا بالجلال محجبا
وليس من هذا قوله تعالى (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) الآية 36 من سورة النساء ج 3 ، وقوله تعالى (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) الآية 56 من سورة الزمر المارة كما ستطلع عليه في تفسيرها إن شاء اللّه «وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» 51 كثير مستمر كناية عن الإقبال على الدعاء بكليته والإلحاق به والابتهال صباح مساء ، والعرض من وصف الأجسام وهو أقصر الامتدادين والطول أطولهما ، ويفهم عرفا من العريض العظم والاتساع ، يقال بالقلم العريض أي الكبير الذي يقرأ عن بعد ، وإن صيغة المبالغة وتنوين التنكير فيه يشعران بذلك.
ويستلزم وصف الدعاء بالعرض وصفه بالطول أيضا ، هذا وقد تضمنت هذه الآيات نوعين من طغيان الإنسان الأول شدة حرصه على جمع الدنيا وشدّة جزعه على الفقد ، والتعريض بتظليم ربه ، تعالى عن ذلك ، في قوله هنا لي مديحا فيه سوء اعتقاده بالمعاد المستجلب لتلك المساوى كلها ، والثاني بين طيشه المتولد عنه إعجابه بنفسه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها ، وقد ضمّن ذلك ذمّه بشغله بالنعمة عن المنعم بالحالتين أما في الأولى فظاهر ، وأما في الثانية فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم ، بل تأسفا على الفقد المشغل عن المنعم كل الإشغال ، تدبر ، قال تعالى أيها الناس «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ» هذا القرآن «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» كما ذكرت لكم «ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ» لقولكم إنه ليس من عنده ، أخبروني «مَنْ أَضَلُّ» منكم بتجارئكم على هذا القول ، وقد وضع محل هذه الجملة «مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ» خلاف «بَعِيدٍ» 52 عن الحق وهو أبلغ إذ تفيد لا أضل منكم أبدا ، لأنكم في(4/24)
ج 4 ، ص : 25
خلاف بعيد غاية البعد عن الحق السوي ، قال تعالى «سَنُرِيهِمْ آياتِنا» عند حلول الوقت المقدر لخذلانهم «فِي الْآفاقِ» نواحي الأرض شرقا وغربا ، ومن جميع جهاتها ، وأفاق السماء نواحيها وجوانبها أيضا ، والأفق القطر وما تراه من اتصال السماء بالأرض يسمى أفقا أيضا ، وفسر بعض المفسرين هذه الآية بما أجراه اللّه تعالى على يد نبيه صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه وخلفائه الكرام رضي اللّه عنهم ومن حذا حذوهم وتبع خططهم من فتوحات البلاد والقرى والاستيلاء على الأراضي الدالة على قوة الإسلام ومتانة شكيمة المسلمين للمؤمنين الذين اخترقوا البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، وافتتحوها وكانوا واسطة هداية أهلها ، وعلى وهن الباطل وتفرق جنده وتشتيت أهله وخذلان الكفرة وإذلالهم ، وذلك استدلالا من معنى السين في (سنريهم) لدلالتها على الاستقبال أي أنّا سنري أصحابك وأمتك بعدك آياتنا الدالة على قدرتنا بمحق الباطل وإظهار الحق من بعدك ، كما أريناكه في حياتك ، وعليه يكون الخطاب في الآية عاما للكافرين والمؤمنين الموجودين زمن صاحب الرسالة فمن بعدهم ، ولا مانع من ذلك «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» نريهم آياتنا أيضا بإنزال البلاء على الكافرين من قحط أو خوف وقتل وأصر وجلاء كما أراهم في بدر وما بعدها من المواقع وزمن الفتح وبعده ، وبمقابل هذا للمسلمين رخاء وظفر وعز وغنيمة ، وفي هذه الآية على التفسير الأول إشارة إلى فتح مكة عنوة لما فيها من معنى لتهديد في لفظ سنريهم والوعيد وهو من الإخبار بالعيب وإن مكة شرفها اللّه لم تفتح عنوة على يد أحد قبله قط ، وعلى التفسير الثاني إلى فتح بلاد العرب خاصة استشعارا من قوله (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) والبلاد الأخرى عامة وإلى أن ذلك كله كائن لا محالة لإخبار اللّه تعالى به ، وهذا وإن كان فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلاد فهو آية بالنسبة إلى الأنفس ، ونفس الإنسان فيها آيات
كثيرة لم يحط بها البشر ، ومن قرأ علم التشريح ووقف على ماهيته وشاهد تراكيب الإنسان عرف مغزى قول علي كرم اللّه وجهه :
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ومن العجيب أن بعض العلماء بالطب مع وقوفهم على علم التشريح ينكرون الإله مع أن المنكر يجب أن يؤمن لما يرى من صنع المبدع في هذا الوجود ، (4/25)
ج 4 ، ص : 26
ولكن من يضلل اللّه فماله من هاد «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ» القرآن المخبر عن ذلك هو «الْحَقُّ» المنزل من عند اللّه العاوي عن كل شائبة «أَ وَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ» يا سيد الرسل الذي أنزل عليك هذا القرآن وجعل فيه بيانا لكل شيء مما كان ويكون «أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» 53 لا يغيب عن علمه ما يقع في جميع مكوناته وإن كل ما يجري فيها يراه ويسمعه وتكون بأمره وإرادته ، قال تعالى «أَلا إِنَّهُمْ» قومك يا حبيبي مع ظهور هذه الآيات المثبتة للتوحيد والتنزيه والأمر بالعدل والإحسان ، لم يزالوا «فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ» في الآخرة لأنهم ينكرون البعث وسيعلمونه حين يشاهدونه «أَلا إِنَّهُ» ذلك الإله الواحد العظيم القادر على كل شيء «بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» 54 إحاطة ضافية لعلمه بواطن الأمور وظواهرها ، ومن كان كذلك فلا يخفى عليه شيء البتة.
ولعظم شأن معاني هذه الآية رءف فيها أداة التنبيه ليتنبّه القارئ إلى معانيها ويتذكر ويتفكر فيما انطوت عليه هذا.
ومنا قيل إن هذه الآية تنبىء عن أن علوم اللّه تعالى غير متناعيه ، قيل ولو لا يلتفت إليه بل إنها تفضي أن علمه محيط بكل شيء من الأشياء ، وتقيد أن كل واحد منها مثناه لا كون مجموعها متناهيا ، ولا أن علوم اللّه متناهية تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه السورة.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، آمين ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الشورى
عدد 12 - 62 و42
نزلت بمكة بعد سورة فصلت عدا الآيات 23 إلى 27 فإنهن نزلن بالمدينة ، وهي ثلاث وخمسون آية ، وثلاثمائة وستون كلمة ، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «حم عسق» 1 فصل بينهما بعض القراء وجاءت عليه المصاحف خطأ هكذا (حم) 1 (عسق) 2 ولم يفصل بين (المص) و(كهيعص) و(المر) لأنه وقع بين سور أوائلها حم فقط فأجريت(4/26)
ج 4 ، ص : 27
مجرى نظائرها ، ويجوز وصلها ، وعلى الفصل يكون حم مبتدأ وعسق خبر ، وعلى الوصل تكون كلها مبتدأ لخبر مقدر أو خبر لمبتدأ محذوف ، وفيه من مبادئ أسماء اللّه الحسنى الحليم والمالك والعالم والسلام والقهار والقادر ، ويكون اسما للسورة ، ولا يعلم المراد منه على الحقيقة إلا اللّه تعالى ، راجع تفسير ما قبله ، هذا ، وإن ما جاء في تفسير روح البيان لاسماعيل حقي وابن كثير في تفسيره من أن ملكا من آل النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم اسمه عبد اللّه أو عبد الإله يكون خراب الدولة على يده إلى آخر ما ذكراه ، قيل لا ثقة به ولا عمدة عليه ، ولا ينطبق على الواقع ولا يوجد ما يؤيده ولا يعرف مصدر نقله ولا من أين تلقيا ذلك ، فهي خرافة لا يلتفت إليها ، ولذلك لم ننقلها ، وإن آل النبي الذين هم آله حقا لا يقع منهم إلا الإصلاح وهم أغير على هذه الأمة وملكها من كل أحد على الإطلاق ، وإنك إذا قرأت تلك الأسطورة تمجها وتكذبها من عبارتها ، سامحهم اللّه كم يودعون كتبهم من الغث ما لا فائدة فيه.
راجع الآية 58 من الإسراء في ج 1 ، «كَذلِكَ» مثل ما أوحي إلى الرسل قبلك يا سيدهم «يُوحِي إِلَيْكَ» ربك الذي رباك هذا القرآن «وَ» أوحى كتبا سماوية أيضا «إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» كموسى وداود وعيسى وصحفا إلى غيرهم كشيث وإبراهيم ، وأوحى وحيا بالتكلم وبواسطة الرسل والإلهام لهؤلاء وغيرهم من كافة الأنبياء والرسل ربهم ومرسلهم ومتولي أمورهم «اللَّهُ» الواحد في ملكه «الْعَزِيزُ» الغالب بقهره «الْحَكِيمُ» 3 المصيب في صنعه الذي «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا «وَهُوَ الْعَلِيُّ» الشأن «الْعَظِيمُ» 4 السلطان الذي لا يشغله شأن عن شأن «تَكادُ السَّماواتُ» على عظمهنّ وقوتهنّ «يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ» من عظمته وهيبته ويكدن يتشققن أيضا من قول الكافرين إن له شريكا وإن الملائكة بناته وقول أهل الكتابين إن عزيرا وعيسى ابناه وهو منزه عن الصاحبة والولد والشريك والنظير والوزير والمعين.
هذا ، والقياس أن يكون التفطر من تحت وقد بولغ فيه لكبير ما يسنده لصاحب الجلالة والعظمة فأسند إلى الفوق ، فيا أيها الناس نزهوا ربّكم عن ذلك كله ، وخذوا بقول أنبيائكم عنه كيف لا تفعلون ذلك «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ»(4/27)
ج 4 ، ص : 28
وينزهونه عما يقول الظالمون مما لا يليق بكبريائه من البهت والافتراء «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» من المؤمنين الذين يبرثون الحضرة الإلهية مما عزي إليها فانتبهوا أيها الناس لتقديس الملائكة وقدسوا ذلك الإله القوي البرهان ، ولأجل أن تنتبهوا لذلك جاء جل جلاله بأداة التنبيه ، فقال عز قوله «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ» لمن يرجع إليه تائبا منيبا «الرَّحِيمُ» 5 بعباده كلهم ومن رحمته يريد لهم الخير ومن عميم إحسانه شاء أن يبدل سيئات من يخلص إليه التوبة حسنات بعظيم فضله وكبير كرمه وجليل رأفته راجع الآية 70 من سورة الفرقان في ج 1 ، قال تعالى «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» لينصروهم ويشفعوا لهم جهلا وعنادا اتركهم الآن يا حبيبي ما عليك منهم «اللَّهُ» ربك ومالك أمرك وأمرهم «حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ» رقيب على أحوالهم محيط بهم وهو الذي يجازيهم على ذلك إذا بقوا مصرّين «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» 6 تدافع عنهم وتجهد نفسك لأجلهم لأن أمرهم غير مفوض إليك وإنما أنت منذر لهم فقط وإن قولهم هذا ليس بضائرنا ، وللّه در القائل في هذا المعنى :
ما حطك الواشون عن رتبة عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم اثنوا ولم يعلموا عليك عندي بالذي عابوا
«وَكَذلِكَ» مثل ما أوحينا إلى غيرك من الأنبياء ما أنزلناه عليهم من الكتب والصحف والتكلم بلسانهم ولسان أقوامهم لينذروهم بلغاتهم «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى » مكة أي أهلها من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه بلغتهم دون حاجة إلى ترجمة ، لأن الأنبياء يترجمون الموحى المنزل إليهم بلغة قومهم ليفهموه وأنت لم يحجك ربك إلى الترجمة.
مطلب تسمية مكة أم القرى وقوله ليس كمثله شيء وإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ومقاليد السموات :
وإنما سميت مكة أمّا لأن الأرض دحيت من تحتها أو لأنها من أشرف البقاع «وَمَنْ حَوْلَها» من البلاد بما يعم منتهى أطرافها الأربع لغاية الشرق والغرب ونهاية الجنوب والشمال ، لأن رسالته عامة لجميع أهل الأرض ، فلا تقيد هذه الآية(4/28)
ج 4 ، ص : 29
رسالته بمن حوالي مكة من العرب وغيرهم ، بل عامة كما ذكرنا ، راجع الآية 158 من الأعراف في ج 1 والآية 28 من سورة سبأ المارة وغيرها من الآيات الصريحة القاطعة بعموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم ، وكذلك الأحاديث الصحيحة شاهدة على عموم رسالته ، ولهذا البحث صلة في الآية 4 من سورة السجدة الآتية فراجعها.
«وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ» يوم القيامة وسمي به لقوله تعالى (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) الآية 99 من الكهف الآتية ، وقوله تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) الآية 103 من سورة هود المارة وغيرها ولأن فيه اجتماع الأولين والآخرين وأهل الأرض والسماء «لا رَيْبَ فِيهِ» فهو كائن لا شك وفيه يفترق الناس لا محال منهم «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ» للنعيم والسعادة «وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» 7 للعذاب والشقاوة وذلك بعد أن يحاسبوا في الموقف الذي جمعوا فيه «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً» على دين واحد «وَلكِنْ» لم يشأ ذلك ل «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» بتوفيقه للإيمان «وَالظَّالِمُونَ» الذين خذلهم كما سبق في علمه اختيارهم للكفر يدخلهم في عذابه «ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» 8 يمنعهم من العذاب المقدر عليهم «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» أم منقطعة مقدرة ببل وهي حرف انتقال من بيان ما قبلها إلى ما بعدها ، والاستفهام لإنكار الوقوع ، ونفيه على أبلغ وجه وآكده لإنكار الواقع واستقباحه ، كما قيل إن المراد بيان اتخاذهم الأولياء ليس بشيء لأنها أصنام لا تقدر على نصرتهم بل على الحقيقة لأن المعنى اتخذوا أصناما من دون اللّه وهو باطل ، لأن الولي من يقدر على نصرة مواليه وهي ممتنعة في الأوثان ، وإذا أرادوا أولياء على الحقيقة «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» وحده «وَهُوَ «يُحْيِ الْمَوْتى » وإن الأوثان لا تقدر على إحياء شيء «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 9 والأصنام عاجزة عن كل شيء ، وعليه يكون المعنى أن الجدير بأن يتخذوا وليا يقدر على الإحياء والإماتة وعلى كل شيء لا الأوثان العاجزة عن حفظ نفسها.
قال تعالى «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ» أيها المؤمنون مع هؤلاء الكافرين من أمر الدين كالتوحيد وإنكار البعث واتخاذ الأوثان آلهة وشركاء مع اللّه الواحد وجعلهم أولياء لكم من دونه ، فلا تكثروا الجدال فيه معهم لأنهم عاتون(4/29)
ج 4 ، ص : 30
معاندون «فَحُكْمُهُ» أي حكم ما اختلف فيه مفوض «إِلَى اللَّهِ» وحده وهو الذي يحاسبهم عليه ويجازيهم يوم يعاقب فيه المبطلون والظالمون ويثاب فيه المحقون والمهتدون «ذلِكُمُ» الحاكم العدل الذي يقضي بينكم بالحق في ذلك اليوم العصيب هو «اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» 10 أرجع في كل ما يهمني كيف لا وهو
«فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وشافيا عن بعضهما ، راجع قوله تعالى (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الآية 31 من سورة الحج في ج 3 «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» قال جل قوله من أنفسكم لأنه خلق حواء من آدم وهي أصل في الزوجات كما قال (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) يريد به آدم ، لأنه أصل البشر والمعنى أنه استق حواء من آدم كما استق السماء من الأرض ، راجع الآية 27 من سورة الحج وأول آية من النساء في ج 3 والآية 189 من الأعراف في ج 1 «وَمِنَ الْأَنْعامِ» خلق لكم «أَزْواجاً» أصنافا راجع الآية 143 من سورة الأنعام المارة «يَذْرَؤُكُمْ» يخلقكم ويكثركم ، لأن ذرّ وذرأ بمعنى كثر وخلق «فِيهِ» أي التزويج المستفاد مما ذكر قبله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» أبدا فلا يشبه ذاته المقدسة شيء أصلا ، ويطلق الشيء على جميع المكونات عرضا كان أو جوهرا ، واللّه تعالى منزه عن ذلك ، ولا كاسمه اسم ، قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الآية 66 من سورة مريم في ج 1 ، والمحال كل المحال أن تكون الذات القديمة مثل المحدثة أو يكون لها صفة حادثة أيضا ، وهذا لا يتوقف على تحقيق مثله في الخارج فعلا ، بل يكفي تقرير المثل بالقوة فقط لأن ذاته لا يماثلها ذات في الوجود بوجه ما ، وكنى بالمثل عن الذات ، لأن المماثلة إذا كانت منتفية عمن يكون مثله وعلى صفته ، فلأن تكون منتفية عمن يكون كذاته من باب أولى ، وتقدم جواز إطلاق الشيء على اللّه تعالى في الآية 19 من سورة الأنعام المارة ، وإقامة المثل مقام النفس شائع في كلام العرب ، يقولون مثلك لا يبخل ، وهو أبلغ من قولهم أنت لا تبخل ، لأنه إذا نفي عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى ، قال القائل :
جلّ المهيمن أن تدرى حقيقته من لا له مثل لا تضرب له مثلا
لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسدّه فقد نفوه عنه ، قال أوس بن حجر : (4/30)
ج 4 ، ص : 31
ليس كمثل الفتى زهير خلق يوازيه في الفضائل
وقال الآخر :
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ما ان كمثلهم في الناس من أحد
أما قوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى ) فهو الوصف الأعلى الذي ليس لغيره جلّ شأنه ، كما سيأتي في الآية 60 من سورة النحل والآية 27 من سورة الروم الآتيتين إن شاء اللّه ، ويجوز عقيدة إطلاق الشيء على اللّه تعالى ، قال في بدء الأمالي :
نسمي اللّه شيئا لا كالاشيا وذاتا عن جهات الست خالي
«وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوالنا خفيها وجليها لفظها ورمزها «الْبَصِيرُ» 11 بأعمالنا كلها «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» مفاتحها بيده ، وهي وما فيهما ملكه يتصرف فيهما كيف يشاء.
وتقدم البحث في هذا في الآية 63 من سورة الزمر بصورة مفصلة فراجعها ، «يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء بحسب الحكمة «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» 12 ومن مقتصى علمه إعطاء كل ما يستحقه «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» أي أن الذين الذي شرعه لك ربك يا محمد ليس بشيء جديد ، وإنما هو الذي شرعه لمن قبلك من الأنبياء ، وقد تطابقت الشرائع على صحته وأجمعت على دعوة أممهم إليه من حيث أصوله الراسخة ، لأن الكل مرسلون من قبله على نمط واحد ووتيرة واحدة ، فكلهم يدعون إلى توحيد اللّه وعبادته والاعتراف بأنبيائه ، وبالبعث بعد الموت ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
«وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا أكرم الرسل من القرآن فيه ما أوحينا به لمن قبلك «وَما» أي الذي «وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » من قبلك عبارة عن أمرنا لهم «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ» وأمروا أممكم بالاستقامة فيه وواظبوا عليه وشيدوا أركانه يحفظه من الزيغ وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 194 من سورة الشعراء المارة في ج 1 ، وإنما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء دون غيرهم لأنهم من أولي العزم ، ولأنهم أكثر الناس أتباعا ، ولأنهم أصحاب الشرائع المعظمة ، وقد ذكرهم اللّه تعالى في الآية 7 من سورة الأحزاب مجتمعين أيضا ، لأنهم خمسة لا سادس لهم على القول الصحيح ، (4/31)
ج 4 ، ص : 32
وإن شأنهم في قدم النبوة أعلى من غيرهم وشهرتهم في الكون أكثر من غيرهم ، ولأن جهادهم في استمالة قلوب الكفرة وأهل الزيغ بلغ الغاية القصوى ، ولهذا فإن كلّا من الأمم متفقة على نبوتهم وحبهم عدا قسم من اليهود المنكرين نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وتقدم البحث في هذا أيضا في الآية 57 من سورة المؤمن المارة واعلم ممأنه لم يرسل نبي إلا وله شرع أمر بإقامته ، وإن الدين عند اللّه هو دين الإسلام ، دين إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء ، وخاصة فيما لم يقع فيه اختلاف قط ، وهي الأصول الثلاثة : التوحيد والنبوة والمعاد ، وتوابع هذه الأصول ثلاثة أيضا : الإيمان بالكتب السماوية وبالقضاء والقدر والطاعة للرسل.
«وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» لأن إقامته مع الاختلاف تؤدي إلى التفرقة وهي مذمومة في غير أمر الدّين فكيف به ، هذا أمر اللّه عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه ، وتقدم بحث هذا أيضا في الآية 159 من سورة الأنعام المارة فراجعها.
وأعلم أن ليس المراد من إقامة الدين هنا الشرائع الأخرى ، لقوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية 48 من سورة المائدة ، لذلك فإن ما يعود المرسل الأول يكون بمقتضى شرائعهم ، وما يعود لنبينا محمد وأمته يكون بحسب ما أنزل اللّه عليه وشرعه على لسانه لأن شريعته ناسخة لما قبلها وباقية إلى الأبد وصالحة لكل زمان ، ولهذا ختم بها جميع الشرائع كما ختم بصاحبها باب النبوة ، إذ بلغت الكمال اللائق ، ولا يصلح الكون إلا بتطبيقها ، فعلى أولي الأمر السهر عليها والعمل بها ليتم لهم الأمر ويستتب الأمن ، قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) الآية 3 من سورة المائدة في ج 3 ، وقال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية 85 من آل عمران في ج 3 ، فيا أيها الناس أرضوا بما رضيه اللّه لكم ، واعملوا به ، لأن العمل بغيره لا يقبله اللّه وتكون عاقبته الخسران «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ» من رفض عبادة الأوثان ولم يعظم عليهم رفض عبادة الرحمن ، لهذا فإنهم ليسوا بأهل لأن يختارهم اللّه لإقامة دينه «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده الصالحين لذلك الدين القويم «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ(4/32)
ج 4 ، ص : 33
يُنِيبُ»
13 لجنابه ويرجعه عن خطأه لصوابه.
ونظير صدر هذه الآية في المعنى الآية 163 من النساء في ج 3 ، قال تعالى «وَما تَفَرَّقُوا» أي الأمم السابقة من أهل الكتابين خاصة فمن قبلهم عامة عن الدين القويم والشرع الصحيح «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بصحته من قبل اللّه على لسان رسلهم وكان ذلك التفريق «بَغْياً بَيْنَهُمْ» على أنبيائهم وحسدا لهم ببقاء الرياسة ليس إلا «وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل بتأخير عذابهم «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا ينقدم ولا ينأخر لأنه من الأمور المقضية المبرمة في الأزل «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بتعجيل العقوبة وإنزال العذاب بسبب اختلافهم في الدين وتفريقه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ» من أبنائهم وأحفادهم «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» أي الكتاب تقليدا لما كان عليه آباؤهم وأجدادهم ، ثم وصف ذلك الشك بأنه «مُرِيبٍ» 14 مبالغة فيه لأن الريب قلق النفس واضطرابها ويسمى الشك مريبا لأنه يزبل الطمأنينة «فَلِذلِكَ» لأجل تفرقهم وبغيهم على رسلهم وشكهم في كتبهم المنوهة بك وبنبوتك وصدق ما جئنهم به من ربك ، ولأجل ما شرع لهم من الدين المستقيم الجدير بأن يتنافس فيه المتنافسون «فَادْعُ» إلى الائتلاف والتوحيد اللذين وصى بهما الأنبياء قبلك وإلى الاتفاق على الملة الحنيفية.
مطلب في الاستقامة والمراد بالميزان وآل البيت وعدم أخذ الأجرة على تعليم الدين :
«وَاسْتَقِمْ» عليها أنت وأمنك ، وأدم الدعوة إليها «كَما أُمِرْتَ» من قبلنا «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» الباطلة المختلفة وآراءهم الفاسدة «وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» أي بجميع الكتب المنزلة من عند اللّه ، لأن النكرة إذا أطلقت عمت ، فتشمل كل كتاب أنزله اللّه من لدن آدم إلى زمنه ، وقدمنا ما يتعلق في بحث الاستقامة على الدين في الآيتين 112/ 119 من سورة هود المارة بصورة مفصلة فراجعهما.
واعلم أن في هذه الآية تعريضا بالكافرين وبعض أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض من الكتب السالفة والآيات القرآنية ، ولهذا قال تعالى على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلم «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» فيما أمرني فيه ربي من الأحكام المنزلة عليّ من لدنه فلا أخص بعضا دون بعض ، (4/33)
ج 4 ، ص : 34
وأبلغ شريعته جميع خلقه الذين أراهم بنفسي ، وبالواسطة لمن لم أرهم ، وأعدل بينكم في الخصومات إذا تحاكمتم لدي ، فلا أجور ولا أحيف على أحد ، ولا أخاصم أحدا إلا بالحق ولأجل الحق ، لأن الذي أدعوكم إليه هو «اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» ورب الخلق أجمع فكما لا يختص به واحد دون آخر لا يرضى أن يتميز أحد على أحد بدون الحق ، فهذه خطتي التي أمرت بها يا قوم ، فإن لم تقبلوا فتكون «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» لا تسألون عما أعمل ولا نسأل مما تعملون.
وهذه الجملة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من سورة الكافرون في ج 1 ، وعلي حد قوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 24 من سورة سبأ المارة ، وإذ ظهر الحق الصريح فأقول لكم «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» ولا خصومة ولا محاججة وجاءت هنا الحجة بمعنى الاحتجاج وهي الأصل «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا» فيجازي كلا على عمله «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» 15 في الخصومات والمحاججات ، ولا وجه لقول من قال بنسخ هذه الآية بآية السيف من المفسرين إذ ليس فيها ما يدل على المتاركة وإقرار الكفار على ما هم عليه من الكفر وإنما هي من باب التعريض راجع الآية 25 من سورة سبأ المارة تجد مثل هذا.
قال تعالى «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» ويخاصمون في دينه «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ» بعد استجابة الناس لدينه ودخولهم فيه فهولاء «حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ.» باطلة زائلة مهجورة غير مقبولة «عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» 16 في الآخرة ، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الناس أجمع ، وما قيل إنها نزلت في كفار بدر بعد أن استجاب اللّه تعالى دعاء حضرة الرسول بظفره عليهم قول لا دليل لقائله عليه ، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق وواقعة بدر بعد الهجرة وهو لم يهاجر بعد وكذلك القول بحمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب لا يتجه لأن أهل الكتاب لم يباحثهم حضرة الرسول إلا في المدينة ولم يجب دعوته أحد منهم إلا فيها ، لذلك فحمل الاستجابة على من أجابه لدين الحق وهو في مكة من أهل مكة ، والمحاججون هم روساء الكفر أولى وأنسب في المقام.
قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» مفصلا فيه الدلائل(4/34)
ج 4 ، ص : 35
والأحكام ليجري عليه الناس «وَالْمِيزانَ» آلة العدل ، لأن المراد به واللّه أعلم نفس العدل والإنصاف والتسوية بين الناس ، أنزله أيضا وأمر خلقه فيه ليتحلوا به فيستقيم أمرهم ويعدلوا فيما بينهم.
راجع رسالة القسطاس المستقيم للإمام الغزالي رحمه اللّه تجد أن المراد بالميزان ما ذكرته ، لأنه يقول في قوله تعالى (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الآية 7 من سورة الرحمن في ج 3 ، إن هذا الميزان الذي قابله اللّه بالسماء لا يتصور أنه الذي يزن به الناس الخس والبصل مثلا ، بل إنما هو العدل الذي به قوام الدنيا والآخرة إلخ ، ما جاء فيها.
«وَما يُدْرِيكَ» يا سيد الرسل «لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» 17 حدوثها ولعلّها مظلّة عليك ولا تراها ، فعليك أن تأمر الناس باتباع الكتاب وإجراء العدل بينهم قبل أن يفاجئهم الأجل وقبل حلول يوم وزن العمل الذي يظهر فيه الرابح في هذه الدنيا من الخاصر.
واعلم انما «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» استعجال إنكار واستهزاء فيقولون لك لما تخوفهم بها متى هي ، ليتها تأتي الآن حتى يظهر لنا الذي نحن عليه حق أم أنت وأصحابك.
وذلك لجهلهم بها وبعظمة اللّه «وَالَّذِينَ آمَنُوا» بها وصدقوا بوجودها «مُشْفِقُونَ» خائفون وجلون «مِنْها» لعلمهم بحقيقتها وحقيقة ما فيها من الأهوال «وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» الكائن لا محالة فانتبهوا أيها ؟ ؟ ؟
«أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ» يجادلون «فِي السَّاعَةِ» ويخاصمون بوجودها جهلا ويشكون بحقيقتها «لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» 18 عن الصواب ، لأن البعث بعد الموت أقرب الغائبات بالمحسوسات ، لأنه يعلم من إحياء الأرض بعد موتها وغيره من الأدلة العقلية فضلا عن السمعية «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ» كثير الإحسان إليهم جليل النعم عليهم بالغ البرّ بهم «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» من كل نام بحسبه وبقدر ما يكفيه «وَهُوَ الْقَوِيُّ» باهر القوة على كل شيء «الْعَزِيزُ» 19 الغالب على كل شيء المنيع الذي لا يدافع ولا يرافع «مَنْ كانَ» منكم أيها الناس «يُرِيدُ» بأعماله وكسبه «حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ» من واحد إلى عشرة إلى سبعمئة إلى ما لا نهاية واللّه كثير الخير جليل العطاء واسع الفضل «وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا» مؤثرا لها على الآخرة فإنا أيضا «نُؤْتِهِ(4/35)
ج 4 ، ص : 36
مِنْها»
ما قدرناه وقسمناه له فيها أزلا لا نعطيه غيره «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» 20 أبدا لأن همته كانت مقصورة على الدنيا ، ومن كان كذلك فإنه يؤتى حظه المقدر له من كل ما فيها كاملا ويكافأ على أعماله الحسنة كالصدقة والصلة وقول المعروف وإماطة الأذى وغيرها من عافية ورزق وجاه وولد وغيره ، فيأتي في الآخرة محروما من ثوابها ، لأنه لم يقصد بها وجه اللّه ،
قال تعالى «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ» من الأوثان «شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» من الشرك فيه وإنكار البعث والكتب والرسل والجنة والنار.
والاستفهام هنا إنكاري أي ليس لهم شرع ولا شارع على حد قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) الآية 43 من سورة الأنبياء الآتية ، قال تعالى مهددا لهؤلاء الفجرة «وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ» السابقة منا بتأخير العذاب «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بإنزاله وفرغ من عذابهم وجدالهم وإنكارهم «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ» أنفسهم بالكفر أمثال هؤلاء «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 21 في الآخرة غير عذاب الدنيا ويوم القيامة بأكرم الرسل «تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا» خائفين أشد الخوف من وبال أعمالهم الدنيوية «وَهُوَ» أي العذاب المترتب عليهم جزاء أعمالهم «واقِعٌ بِهِمْ» لا محالة لأنه محتم عليهم أزلا «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ» يكونون في أطيب بقاعها جزاء لأعمالهم الحسنة «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» فيها من كل ما لذّ وطاب وخطر بالبال «عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ» الجزاء الحسن «هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» 22 الذي لا أكبر منه لأنه من الإله الكبير ، وهذه الآيات المدنيات في هذه السورة.
قال تعالى «ذلِكَ» النعيم العظيم «الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ به عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بأن قرنوا أعمالهم الطيبة بفعل ما هو صالح لأن الإيمان بلا عمل كالصوم بلا صلاة والحج بلا زكاة «قُلْ» يا حبيبي لمن تبلغهم أحكامي «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» أي التبليغ «أَجْراً» جعلا ما ليكون مدار للتهمة والظن بي ، ولا أطلب منكم شيئا عما أبلغه لكم من كلام ربي ولا لموعظة ما لإرشادكم «إِلَّا» شيئا واحدا «الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » لا غيرها أريد منكم أبدا ، قال ابن عباس لم تكن بطن من قريش إلا وله صلّى اللّه عليه وسلم فيهم قرابة ، لهذا(4/36)
ج 4 ، ص : 37
قال لا أريد منكم لقاء نصحي وإرشادي للأخذ بكلام ربي إلا أن تحفظوا قرابتي وتصلوا رحمي وتكرموهم ، لأن هذه الآية نزلت في الأنصار حينما قالوا له تمنّ علينا يا رسول اللّه ، قال لا أريد شيئا إلا المودة في القربى.
قال أبو بكر رضي اللّه عنه وأرضاه فيما يرويه البخاري عن ابن عمر ارقبوا محمدا في أهل بيته.
وروى مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إني تارك فيكم ثقلين أولها كتاب اللّه فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به وأهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، أذكركم في أهل بيتي ، كررها صلّى اللّه عليه وسلم تأكيدا في حبهم وإكرامهم والصحيح أن أهل بيته نساؤه ومن حرمت عليهم الصدقة بعده ، وآل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضوان اللّه عليهم.
وهذا الطلب لا يسمى أجرا بالنسبة لقريش في الحقيقة ، لأن قرابته قرابتهم ، فتكون مودتهم لازمة بل يكون فيه الأجر بالنسبة للأنصار المخاطبين في هذه الآية.
أخرج الترمذي عن ابن عباس قال قال صلّى اللّه عليه وسلم أحبّوا اللّه لما يغذوكم به ، وأحبوني لحب اللّه ، وأحبوا أهل بيتي لحبّي.
وعلى كل لا يقال إنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة ، لأن ذلك ممنوع إذا كان أجرا ماديا كالدراهم وغيرها ، أما الكفّ عن أذية أهله وإرادة مودتهم فلا يسمى أجرا بالمعنى المتعارف ، وعليه فإن طلب المودة في القربى ليس بأجر ، فيرجع الحاصل على لا أجر البتة ، ولهذا فلا ينتقد عليه إلا كما ينتقد على القول فيهم.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
لأن هذا ليس بعيب يلام عليه ، بل يمدح فيه ، ولأن المودة بين المسلمين واجبة ، فهي في أهل البيت أوجب ، ولهذا كان الاستثناء متصلا.
أما من جعل الاستثناء منقطعا فقد ركن إلى تقدير فعل (تَوَدُّونَ) وعمد على الوقف على كلمة أجرا أي إلا أن تودوا أقاربي أو تقدير أذكركم المودة في القربى ، والأول أولى كما ترى لما في الأخير من لزوم وتقدير ما الأمر في غنى عنه ولا حاجة فيه.
هذا ولا معنى لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) الآية 47 من سورة سبأ المارة ، وهي آية مقدمة في النزول على هذه الآية لفظا ورتبة ومن المعلوم أن المقدم لا ينسخ المؤخر ، راجع(4/37)
ج 4 ، ص : 38
بحث النسخ في المقدمة ، وهذا من جملة المرامي التي من أجلها أقدمت على هذا التفسير المبارك ورتبته بحسب النزول ليعلم القارئ خطأ القائلين بنسخ أمثال هذه الآية متى ما عرف أنها متقدمة ، لأن العلماء رحمهم اللّه أكثروا من أقوالهم بالنسخ ومنهم من تغالى فيه حتى خالف الأصول التي وضعت لمعرفة الناسخ والمنسوخ كهذه الآية وآيات الإخبار والوعد والوعيد وغيرها ، سامحهم اللّه.
وليعلم أن مودته صلّى اللّه عليه وسلم وأقاربه وكفّ الأذى عنهم من فرائض الدين ، فقد روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ قال علي وفاطمة وابناهما.
وقد أجمع السلف والخلف الصالحون على مودتهم ، فلا يصح القول بوجه من الوجوه بنسخ هذه الآية أبدا ، وعفا اللّه عن هؤلاء الذين لا هم لهم إلا أن يقولوا هذا ناسخ وهذا منسوخ ولو لا الراسخون في العم الواضعون أصول علم الناسخ والمنسوخ والوافقون لأمثالهم على ما يتقولون به من النسخ بالمرصاد لتوسعوا بأكثر من هذا.
وأخرج بن جرير عن أبي الديلم قال لما جيء بعلي بن الحسين رضي اللّه عنهما أسيرا ، أقيم على درج دمشق ، فقام رجل من أهل الشام فقال الحمد للّه الذي قتلكم واستأصلكم ، فقال له علي : أقرأت القرآن ؟ قال نعم ، قال أقرأت آل حم ؟ قال نعم ، قال أما قرأت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ؟ قال فإنكم لأنتم هم ؟ قال نعم ، قال فأطرق أي ندما على ما قال وأسفا.
فانظروا أيها الناس كيف قاتل من قاتل من أهل الشام أناسا لا يعرفونهم ولا يقدرون مكانتهم.
راجع الآية 137 من الأعراف في ج 1 ، وقال علي كرم اللّه وجهه قال اللّه فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن.
يعني هذه الآية.
وقال الكميت :
وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقي ومعرب
وقال عمر الهيتي :
بأية آية يأتي يزيد غداة صحائف الأعمال تتلى
وقام رسول رب العرش يتلو - وقد صمت جميع الخلائق - قل لا وقال الآخر : (4/38)
ج 4 ، ص : 39
أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جدّه يوم الحساب
وأخرج ابن حبان عن أبي سعيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله اللّه تعالى النار ، وأخرج احمد والترمذي وصححه النسائي عن المطلب بن ربيعة قال دخل العباس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال إنا لنخرج فترى قريشا تتحدث ، فإذا رأونا سكتوا ، فغضب صلّى اللّه عليه وسلم ودر عرق بين جبينه ، ثم قال واللّه لا يدخل قلب امرئ ايمان حتى يحبكم للّه تعالى ولقرابتي.
وما أحسن ما قيل :
داريت أهلك في هواك وهم عدا ولأجل عين الف عين تكرم
وقد سئل ابن الجوزي في جامع دمشق هل يوجد لهذا المثل في القرآن ما يشير اليه ، قال نعم قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية 33 من سورة الأنفال في ج 3 ولهذا أكثر الناس من الثناء عليهم إرضاء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وطاعة لربه ، حتى أنهم أفرطوا بذلك ، ومنهم من يمدحهم رياء ، قال علي رضي اللّه عنه لرجل أفرط في الثناء عليه وكان يتهمه في مودته : أنا دون ما نقول وفوق ما في نفسك رضي اللّه عنه ما أعظمه وأحلمه.
قالوا كان الشيخ محي الدين العربي يكره الشريف عونا ويندد به ، فرأى في النوم السيدة فاطمة رضي اللّه عنها وهي معرضة عنه ، فقال لها لما ذا يا سيدتي ؟ فقالت لكراهتك عونا ، فقال أما تعلمين ما يفعل من المظالم ؟ فقالت له أما تعلم أنه منا أهل البيت ؟ فانتبه مرعوبا لشدة غيظها عليه ، فذهب اليه ، فلما رآه عرف الغضب في وجهه لما كان يسمعه من ذمه ، فقال على رسلك يا ابن بنت رسول اللّه واللّه ما جاء بي إليك وأنت تعلم ما أنا عليه من كراهتك إلّا اني رأيت كذا وكذا ، ولهذا جئتك معتذرا ، فلما سمع منه الرؤيا تهلل وجهه ، وقال اشهد يا محي الدين اني أشهد اللّه بأني تبت اليه من كل ما كنت أفعل ولا أعود اليه وحسن حاله بعد ذلك.
رحم اللّه الجميع رحمة واسعة فهؤلاء أهل البيت أيها الناس ، حبهم ايمان وبغضهم كفر ا ه ملخصا من الفتوحات المكية ، وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد ، وقد تساهل الناس في هذا الزمن في حبهم حتى انهم لم يلتفتوا إليهم ، وأفرط آخرون فجعلوا(4/39)
ج 4 ، ص : 40
حبهم رفضا وسلكوا محببهم في سلك الروافض وهم فرقة من إخواننا الشيعة لا الشيعة أنفسهم الذين يفضلون عليا فضله اللّه على غيره من الأصحاب رضوان اللّه عليهم أجمعين لقرابته من رسول اللّه ومصاهرته له ولقوله إن عليا مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي.
ولأن نسبه بسببه ، ولميزات أخرى كثيرة سنأتي عليها في غير هذا الموضع إن شاء اللّه.
وآخرون قالوا بحبه وادعوا فيه ما هو براء منه ، وهو من التفريط بمكان ، أما أنا فأقول ما قاله الشافعي رحمه اللّه :
ان كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
ولكنه ليس برفض من واجبات الدين ، ولكن بلا تفريط ولا افراط ، وقد سئل الإمام الجوزي عن المثل السائر (مدّ رجلك على طول فراشك) هل يوجد في القرآن ما يشير اليه ؟ قال نعم قال تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الآية 45 من سورة الفرقان في ج 1 أي لا إفراط ولا تفريط ، رحمه اللّه ما أكثر دقة نظره في القرآن وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 38 من سورة الانعام فراجعها.
وعلى هذا فيجب على كل مؤمن احترامهم وتعظيمهم والقيام بحقوقهم وقضاء مصالحهم وعدم النظر إلى بعض هفواتهم ، فإن غصن الشجرة منها وإن مال ، والعبرة بالخاتمة نسأل اللّه حسنها ، قال تعالى «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» مضاعفا «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» 23 للمحبين الطائعين «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بما جاء به من الكتاب وقد كذبوا «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» فينسيك القرآن أو يجعلك من المختوم على قلوبهم لو كذبت علينا يا محمد ، لأنه لا يجترئ على افتراء الكذب علينا إلا من كان كذابا مثل بعض قومك ، وهذا تعريض حسن بأنهم هم المفترون المطبوع على قلوبهم ، لأن الكلام جاء بمثابة التعليل لقولهم ، وقد أتى بأن بدل إذا مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به إرخاء للعنان ليفهموا بأنه لو كان محمد نفسه فعل ذلك لختم على قلبه ، وهو معصوم بعصمة اللّه محال عليه أن يقع منه شيء يغضبه ، فكيف بغيره «وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ» وهذا تأكيد بأن ما يقوله(4/40)
ج 4 ، ص : 41
محمد صلّى اللّه عليه وسلم ليس بمفترى ، وكيف يكون مفترى ومن عادته تعالى أن يمحق الباطل «وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» المنزلة على رسوله بطريق الوحي «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» 24 ودخائلها وخفيات الأمور وبواطنها فلا يخفى عليه شيء مما يحوك في صدورهم وما هو قار في قلب محمد.
وهذه الآية تدل دلالة تامة على تنزيهه من الافتراء وطهارة ما هو ثابت في خلده عن أن يصره بشيء من ذلك.
وقال بعض المفسرين في هذه الآية إن يشأ يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم ، وهو حسن ولكن ما جرينا عليه أحسن وأوفى بالمرام وأنسب بالمقام وأليق لسياق الكلام ، وقد مشى عليه جهابذة من العلماء ، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما لما نزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً)
الآية ، قالوا يريد أن بحثنا على أقاربه من بعده فأخبره جبريل عليه السلام بأنهم لتهموه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» بالتجاوز مما تابوا عنه «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» صغارها وكبارها «وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» 25 سرا وعلما من خير وشر.
انتهت الآيات المدنيات وهي لها مناسبة بما قبلها وبعدها كما لا يخفى بخلاف غيرها وإن كانت معترضة ، فالقاعدة من كونها تأتي معترضة ، وإنك إذا حذفتها وقرأت ما بعدها متصلا بما قبلها صح المعنى ، أغلبية ، تدبر.
قال تعالى «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» دعوة ربهم ويجيب اللّه دعاء المؤمنين إذا دعوه وفعل استجاب وأجاب بمعنى واحد ، وكل منهما يتعدى باللام للداعي وبنفسه الدماء وعليه قوله :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
«وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» فوق ما يستحقون بحسب أعمالهم «وَالْكافِرُونَ» باللّه تعالى الذين لا يدعون ولا يعترفون بألوهيته «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» 26 جزاء ألفتهم عن دعاء اللّه وكفرهم به.
تدل هذه الآية المكية بأن اللّه تعالى لا يجيب دعاء الكافرين ، وهو كذلك ، قال تعالى (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) الآية 16 من سورة الرعد ج 3 ، ومن قال إنه تعالى يستجيب لهم فإنه على طريق الاستدراج ، والمؤمنون على طريق التشريف ، وهذه الآية المدنية الرابعة ، وقد(4/41)
ج 4 ، ص : 42
نزلت في أصحاب الصفّة حينما سألوا رسول اللّه أن يغنيهم اللّه من فضله ويبسط عليهم الرزق ويدر عليهم الأموال.
مطلب بسط الرزق وضيقه والتوبة وشروطها والحديث الجامع ونسبة الخير والشر :
قال جل قوله «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ» بعضهم على بعض ، وعتوا عتوا كبيرا ، إذا أعطوا زيادة على حاجتهم النسبية لأن الإنسان شرير بالطبع ، فإذا وجد الغنى والقدرة والصحة رجع لمقتضى طبيعته ، ولو أن اللّه تعالى يرزق عباده من غير كسب لتفرغوا إلى الفساد ، ولكن شغلهم به حكمة منه قال الشاعر :
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسدة
وقال الآخر :
عليك بالقصد لا تضب مكاثرة فالقصد أفضل شيء أنت طالبه
فالمرء يفرح بالدنيا وبهجتها ولا يفكر ما كانت عواقبه
حتى إذا ذهبت عنه رفارقها تبين الغين فاشتدت مصائبه
وعلى القانع أن يثق باللّه فإنه لا يضيعه ويعطيه ما يكفيه وليقل كما قال :
أتتركني وقد أيقنت حقا بأنك لا تضيع من خلقت
وأنّك قاسم للرزق حتما تؤدّي ما رزقت كما قسمت
وإني واثق بك يا إلهي ولكن القلوب كما علمت
«وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ» لمن يشاء بقدر حاجته «إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» 27 بما يناسبهم يغني هذا والغناء خير له ويفقر هذا والفقر خير له بمقتضى حكمته ، فلو أغناهم جميعا أو أفقرهم جميعا لتعطلت مصالح الكون ، ولا يخفى ان البغي مع الفقر أقل منه مع البسط ، وكلاهما سبب ظاهري للإقدام على البغي ، والإحجام عنه ، فلو عم البسط القلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن.
ولهذا يشير قوله صلّى اللّه عليه وسلم إذا أحب اللّه عبدا حماه الدنيا كما يضل أحدكم يحمي مقيمه الماء.
وإلى ذلك يوعز سبب النزول المشار اليه أعلاه ، وينظر إليه قول خبّاب بن الأرت : نظرنا إلى أموال بني قريظة ، (4/42)
ج 4 ، ص : 43
والنضير وبني قينقاع فتمتيناها ، فنزلت هذه الآية.
ولا يضرّ تعدد أسباب النزول ، فقد تكون آية واحدة لأسباب كثيرة.
هذا ، واعلم أن التوبة واجبة في كل ذنب ، وشروطها أن يقلع عن المعصية ، وأن يندم على فعلها ، وأن يعزم على أن لا يعود أبدا «فإن فقد أحدها لا تصح ، وهذا فيما يتعلق بالذنوب التي بين العبد وربه ، أما إذا كانت بين الناس يزبد عليها شرط رابع وهو الاستحلال من صاحبها وإبراء ذلك من كل حق ، مثلا إذا كان غصب مالا من أحد فيجب ردّه اليه أو مسامحته من قبله ، وإن قولا أو فعلا فبالمسامحة والعفو من قبله ، وإن لم يعين له ما قال وما فعل إذ قد يكون مما لا يقال خشية الفتنة فيكون الإفشاء أشد ضررا من الذنب.
وليعلم أن مصائب الدنيا لا تختص بواحد دون آخر فيشترك فيها الصديق والزنديق ، إلا ان المؤمن أكثر مصابا من غيره ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم : خص البلاء بالأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
أو ان أكثره في هؤلاء لأنه لا يتعداهم تدبر.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : واللّه اني لأستغفر اللّه وأتوب اليه في اليوم أكثر من مائة مرة ، وفي رواية للغزالي انه صلّى اللّه عليه وسلم قال إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة ، وذلك لترقيه سبعين مقاما عما كان فيه حيث يرى دائما بعدا بين حالته الحاضرة والماضية بسبعين درجة ، ولهذا قيل حسنات الأبرار سيّئات المقربين ، لأن الأبرار إذا وصلوا إلى درجة المقربين رأوا أنفسهم مقصرين ، وان عملهم الأول يحتاج إلى توبة واستغفار.
وروى مسلم عن الأعز بن يسار قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : يا أيها الناس توبوا إلى اللّه جميعا ، فاني أتوب إليه في اليوم مائة مرة.
ورويا عن عبد اللّه بن مسعود قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول للّه أفرح بتوبة عبده من المؤمن من رجل نزل في أرض دويّة مهلكة (أي فلاة لا ماء فيها ولا نبات والمفازة في الجبل والأرض الوعرة وتسميها العامة الدوّة) معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش أو ما شاء اللّه قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه ، فاللّه أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده.
وفي رواية لهما من لفظ(4/43)
ج 4 ، ص : 44
مسلم : فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك من شدة الفرح ، أي بدلا من أنت ربي وأنا عبدك.
وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال اللّه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
وروى انس بن مالك رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن جبريل عن اللّه عز وجل من أهان لي وليا بارزني بالمحاربة ، واني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرود ، وما تقرّب إليّ عبدي المؤمن بمثل ما افترضته عليه ، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ، وإن في عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة ، فأكفه عنه ان لا يدخله عجب فيفسده ذلك ، وان من من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانهم إلا الفقر ، فلو أغنيته لأفسده ذلك ، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو صححته لأفسده ذلك ، إني أدير أمر عبادى بعلمي بقلوبهم ، إني عليم خبير ، أخرجه البغوي بإسناده وهذا الحديث الجامع لأحوال العباد من أحاديث الصفات ، وقدمنا ما يتعلق بأمثاله في الآية 158 من الأنعام المارة ، وفيها ما يرشدك إلى المواقع التي فيها ما يتعلق بذلك ، فراجعها.
وجاء عن صفوان بن عسال المرادي قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله ، وذلك قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية 158 المنوه بها أعلاه ، أخرجه الترمذي حديث حسن صحيح انتهت الآية المدنية ، وهي كالتي قبلها.
قال تعالى :
«وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا» أي اشتد يأسهم من نزوله ، اللّه حبسه عنهم ولا يعلمون وقت إطلاقه «وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» بقيض الغيث عليهم(4/44)
ج 4 ، ص : 45
«وَهُوَ الْوَلِيُّ» الذي يتولى أمور عباده بإحسانه ولطفه بسائق رأفته «الْحَمِيدُ» 27 على انعامه المحمود على إنزال بركات السماء وبسط منافعها ، المتعطف على خلقه بما ينفعهم وكشف ما يضرهم ، وقد ذكرهم اللّه تعالى في هذه النعمة لأن الفرح بعد الشدة بحصول النعمة اتمّ وأدعى للشكر.
قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ» أوجد وفرق «فِيهِما مِنْ دابَّةٍ» هي لغة ما دبّ على وجه الأرض ، وعرفا ذوات الأربع من الحيوان فقط «وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ» بعد تفرقهم وتشتتهم «إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» 29 وجاز إطلاق لفظ الدابة على من في السماء لأن الدبيب لغة المشي الخفيف ويحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران أو أن اللّه تعالى خلق فيها أنواعا من الملائكة أو أصنافا من الحيوانات يدبون دبّا كالإنسان ، أو أن الملائكة أنفسهم قد يتمثون بالبشر فيمشون مشيا ، لأن لهم التشكل بصور غير صورهم ، كجبريل حينما تمثل للنبي مرة بصورة أعرابي في حديث الإيمان والإسلام والإحسان ، ومرة بصورة دحية الكلبي ، قال تعالى «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» من الذنوب ، لأن جل البلاء من الأوجاع والقحط والغرق والحرق وغيرها من المصائب يوجدها اللّه تعالى عقوبة لمقتر في الأعمال المكروهة ، وقد يوجدها عفوا للثواب كما ذكر آنفا ، وبما أن البشر هو المسبب لعملها نسبها اللّه إليه ، وإلا في الحقيقة كل من عند اللّه ، قال إبراهيم عليه السلام بعد أن نسب الهداية والطعام والشراب للّه تعالى «وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الآية 80 من سورة الشعراء ج 1 ، نسب الشفاء للّه كما نسب الإحياء والإماتة إليه ، لأنها متحققة منه لا علاقة للعبد وغيره فيها البتة ، ونسب المرض لنفسه لأن أكثر أسبابه من الأكل والشرب والحر والقر وإن كانت بإيجاد اللّه تعالى ، إلا أنه هو المسبب لها باختياره ورغبته ، وهذا من قبيل التأدب مع اللّه تعالى ، إذ ينبغي للعاقل أن ينسب الخير إلى اللّه والشر لنفسه ، لأن اقترافه له برضاه وشهوته ، وإن عقابه عليها من هذه الحيثية «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» 30 من الذنوب فلا يعاقب عليها وعن كثير من خلقه فلا يجازيهم على سيئتهم.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي ثميلة قال : قال علي رضي اللّه عنه ألا أخبركم(4/45)
ج 4 ، ص : 46
بأفضل آية في كتاب اللّه حدثنا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم (وَما أَصابَكُمْ) الآية هذه وسأفسرها لكم يا علي ، ما أصابكم من مصيبة أو مرض وعقوبة أو بلاء في الدنيا فيما كسبت أيديكم ، واللّه أكرم من أن يثني عليكم عقوبته في الآخرة ، وما عفا اللّه عنه في الدنيا فاللّه أحلم من أن يعود بعد عفوه.
وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للمؤمنين المصابين ، اللهم إنا نسألك العفو والعافية وأن ترزقنا الصبر إذا ابتلينا ، وتعظم لنا الأجر عليه.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه اللّه بها درجة وحط عنه خطيئة.
وقال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو للّه عنه أكثر.
قال ابن عطاء من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر ، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه.
مطلب أرجى آية في القرآن والقول بالتناسخ والتقمص وفي معجزات القرآن وبيان الفواحش والكبائر :
وقال علي كرم اللّه وجهه : هذه أرجى آية في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانيا وإذا عفا لا يعود.
راجع الآية 84 من سورة الإسراء والآية 5 من سورة الضحى في ج 1 والآية 160 من سورة الأنعام والآية 53 من سورة الزمر المارتين.
هذا ، وقد تعلق في هذه الآية من يقول بالتناسخ بحجة أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا ، مع أن السياق والسياق من هذه الآية يدلان على أنها مخصوصة بالمكلفين أصحاب الذنوب فإن من لا ذنب له كالأنبياء قد تصيبهم مصائب ، لما جاء في الخبر : أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، كما مر آنفا ، ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا ، فالأطفال والمجانين غير داخلين في الخطاب لأنهم غير مكلفين ، وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فيما يصيبهم من المصائب ، فهي لحكم خفية ، قيل مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ، لا لأن لهم حالة سابقة كما زعموا ، ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب(4/46)
ج 4 ، ص : 47
وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة بدليل الأحاديث المذكورة آنفا ، فلا وجه إذا لما تعلق به القائل بالتناسخ ولا دلالة في الآية.
والقائلون بالتناسخ هم فرقة من الفلاسفة يعتقدون أن الروح إذا ماتت ولم تستكمل فضائلها تنسخ أي تنقل إلى نطفة أخرى لاستكمال الفضائل المزعومة ، ويقرب من هذه عقيدة الدروز الذين يقولون بالتقمص أي إذا مات الميت تتقمص روحه أي تنقل إلى إنسان أو حيوان ولد ساعة موته ، وهذه عقائد عقلية ساذجة لا أصل لها ولعلها سرت عليهم من الخوارج الخارجين عن شرائع الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ، والدين عند اللّه هو الإسلام دين أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام
«وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» اللّه ولا فائتينه عن أن يصيبكم بذنوبكم بل هو قادر عليكم لا تستطيعون الهرب من قضائه والتفلّت من قبضته «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أراد معاجلتتكم بالعقوبة «مِنْ وَلِيٍّ» يدافع عنكم «وَلا نَصِيرٍ» 31 ينصركم ويحميكم منه «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ» السفن الجاريات على الماء «فِي الْبَحْرِ» والأنهار التي هي في عظمها «كَالْأَعْلامِ» 32 الجبال العالية وأصل العلم بفتح العين الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق والجيش ، ولذلك سمي الجبل علما سواء كان عليه نار كما قالت الخنساء :
وإن صخرا لنأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
أو لم يكن قيل إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما سمع قولها هذا قال قاتلها اللّه ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا.
وهذه الآية من الإخبار بالغيب أيضا ، لأنه عند نزولها لم تكن هذه المراكب الضخمة ، والبواخر العظيمة التي هي حقيقة في كبرها كالجبال ، فسبحان من أودع كتابه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وما بعده ، لأن فيه ما يكون من حالتي أهل الجنة والنار بعد يوم القيامة أيضا ، قال تعالى «إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ» تلك السفن «رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» أي البحر أو النهر ، لأن السفن إذ ذاك والآن أيضا تجريها الرياح بالشراع «فإذا سكنت وقفت بخلاف سفينة سيدنا نوح الجسيمة التي كان سيرها ووقوفها بكلمة اسم اللّه راجع الآية 46 من سورة هود المارة ، وهذا معجزة له(4/47)
ج 4 ، ص : 48
عليه السلام ، أما المراكب العظيمة ذوات المحركات وإن كانت تسير بقوة البخار فإن الرياح تؤثر فيها تأثيرا قد يلحىء ربانها إلى الوقوف إذا رأى مريا خوفا من الغرق لأنه لا يقدر أن يسيرها بانتظام لما تلعب فيها الرياح يمينا وشمالا حتى تكون كالكرة بيد الشاب ، فيمشيها بتؤده لأنها مهما عظمت فهي عند اشتداد الريح وهيجان البحر كتبنة صغيرة ، وقد رأيناها عيانا هكذا بسفرنا إلى الحجاز ، وممن عظيم ما رأينا لم تسمح أنفسنا بالعودة بحرا ونسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لزيارة بيته الحرام وضريح نبيه عليه الصلاة والسلام «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من آيات اللّه «لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القادر وعبرة مؤثرة «لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» 33 لنعم اللّه من كاملي الإيمان ، لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر ، وهذه صفه المؤمن يصبر في الشدة وبشكر في الرخاء فيظفر بمطلوبه كما قيل :
وقلّ من جد في أمر يطالبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
قال تعالى «أَوْ يُوبِقْهُنَّ» يغرقهن ويهلكهن «بِما كَسَبُوا» ركابها من الذنوب الموجبة لذلك ، لأن السفن لا جرم لها ، ولهذا عاد الضمير على راكبيها وعود الضمير على ما ليس بمذكور جائز إذا تقدم ما يدل عليه أو كان معلوما كما هنا ، راجع الآية 4 من سورة القدر في ج 1 ، «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» 34 بأن ينجيهم بفضله ورحمته ومنّه وعطفه ولطفه «وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» 35 محيد يحيدون عنه ويلجأون إليه إذا وقفوا في مثل هذه الشدائد وعرفوا بطل جدالهم.
واعلم أن (وَيَعْلَمَ) في صدر هذه الآية جار على الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر ، وقرأ الباقون بالنصب عطفا على تعليل محذوف ، أي لينتقم منهم وليعلم الذين يجادلون إلخ ، «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» أيها الناس من الحطام «فَمَتاعُ الْحَياةِ» في هذه «الدُّنْيا» تتمتعون فيها به لانقضاء آجالكم ، ثم تتركونه ، وهذا مما يستوي فيه المؤمن والكافر «وَما عِنْدَ اللَّهِ» من الثواب الذي خبأه لكم بمقابل أعمالكم الصالحة «خَيْرٌ» من زخارف الدنيا وجاهها «وَأَبْقى » منها وأدوم وأحسن «لِلَّذِينَ آمَنُوا» بنعيم الآخرة «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 36 في أمورهم كلها ، (4/48)
ج 4 ، ص : 49
وما قيل إن هذه الآيات نزلت في أبي بكر رضي اللّه عنه حين تصدق بكل ماله لا يتجه ، لأن هذه الآية مكية وهو رضي اللّه عنه تصدق بالمدينة لا بمكة ، لهذا فإنها عامة في كل من اتصف بما جاء فيها ، ويدخل فيها الصديق دخولا أوليا ، لأنها غير مقيدة بزمان فتشمل كل من هذا شأنه إلى يوم القيامة.
ثم قسم اللّه تعالى عباده من جهة التحمل إلى ستة أقسام فقال أولا «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ» كالشرك باللّه ونسبة الولد والزوجة إليه تعالى عن ذلك «وَ» يجتنبون «الْفَواحِشَ» كل ذنب عظيم قبحه يسمى فاحشا كالزنى واللواطة والقذف والسرقة من محل محرم والقتل عمدا ، راجع تفصيلها في الآية 32 من سورة الأعراف في ج 1 «وَإِذا ما غَضِبُوا» على من أساء إليهم «هُمْ يَغْفِرُونَ» 37 إساءته لا يعاقبونه عليها ويكظمون غيظهم حلما وعفوا ، فهؤلاء داخلون في قوله تعالى :
(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الآية 134 من آل عمران في ج 3 ، ثانيا «وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ» لما دعاهم إلى الإيمان به «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» إذا أرادوا عمل شيء يهمّ المجتمع تذاكروا فيه فيما بينهم لا يستبدون برأيهم ، فقد ورد : ما تشاور قوم إلا هدوا لما فيه رشدهم ، «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» 38 في سبيل الخير ووجوه البر.
واعلم أن المشورة هي استخراج الرأي بمراجعة الناس بعضهم إلى بعض ، فتحصل من تصادم الآراء واحتكاك الأقوال النتيجة المرضية التي يجمع عليها للتشاورون أو أكثرهم ، كما تحصل النار من قدح الحجر بعضه ببعض أو بالزناد.
وتشير الآية إلى مدح المشاورة والمتشاورين ، وقد جاء في الخبر : ما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور.
وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر عن الحسن قال : ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم ، ثم تلا هذه الآية.
وقد كانت الشورى بين النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب ، وكذا بين الأصحاب رضي اللّه عنهم بعده ، وكانت بينهم في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك مما لم يرد فيه نص شرعي ، لأن(4/49)
ج 4 ، ص : 50
الشورى تكون إذا لم يكن نص ، ولهذا أتت القاعدة الشرعية (لا اجتهاد في مورد النص) هذا في الأحكام والحدود ، أما في الأمور الإدارية والسياسية والتي مصدرها العرف والعادة فيؤخذ بما يقر عليه رأي الجماعة ، لأن الأمة لا تجمع على ضلالة.
وفيما يتعلق بالحروب لا بأس من اتخاذ ما لم يتخذه العدو ، لأن الحرب خدعة ، ولذا جاز فيه الكذب على العدو.
أخرج الخطيب عن علي كرم اللّه وجهه قال : قلت يا رسول اللّه الأمر ينزلبنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء ؟ قال اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ، ولا تقصوا برأي واحد.
فعلى هذا ينبغي أن يكون المستشار عاقلا عابدا وأن يؤخذ بقول الأكثر كما يستفاد من قوله ولا تقضوا برأي واحد.
وأخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا :
استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا.
والشورى على هذا الوجه من جملة أسباب صلاح الأرض ، ففي الحديث : إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها ، وإذا كان أمراؤكم أشراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها.
وقيل :
إذا استشارك عدوك فاخلص له النصيحة لأنه بها خرج من عداوتك ودخل في مودتك.
وهذه الآية عامة محكمة نافذة إلى الأبد ، حكي عن ابن الفرس أن هذه الآية نزلت بالمدينة وقد انفرد وحده بهذا إذ لم يقل به غيره ، وان الغرس ما احتج به على ذلك من أن وقوع المشورة في القتال وغيره لم يكن إلا في المدينة لا يؤيد كون هذه الآية مدنية ، لأن كثيرا من الآيات المكيات تنطبق على حوادث وقعت في المدينة ، وكثيرا من الآيات المدنيات تنطبق على وقائع حدثت في مكة ، فلا يعني أن هذا مكي وذلك مدني ، لأن إثبات ذلك متوقف على السماع الصحيح والقول غير المطعون فيه من الرجال الثقات ، وقدمنا في الآية 32 من سورة النمل في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية 159 من آل عمران الآتية في ج 3 فراجعهما ، وثالثا «وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ» بأن تعدي عليهم ظلما وعدوانا «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» 39 لأنفسهم ممن بغى عليهم من غير تعد عليه مراقبا قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من سورة(4/50)
ج 4 ، ص : 51
البقرة ج 3 ، وذلك أن المؤمن خلق عزيزا يأبى الذل وسكوته في مثل هذه الحالة هوان فيه ومهانة عليه ، وقال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 9 من سورة المنافقين ج 3 ، وعلى هذا يؤول قول الإمام الشافعي : زن من وزنك ، بما اتزنك.
وما وزنك به فزنه.
من جاء إليك ، فرح إليه.
ومن جفاك ، فصدّ عنه.
ومع هذا إذا عفا وهو قادر على الانتصار لنفسه فهو أحسن وقد أخذ بالعزيمة وهي أحسن من الرخصة إذا لم يكن فيها إغراء للسفيه إذ يكون حط من الكرامة وقد يأباها خلق المؤمن ، قال :
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته وذا يشجّ فلا يرثي له أحد
وقال الآخر :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقال الآخر :
فوضع الندى في موضع السيف بالعدى مضر كوضع السيف في موضع الندى
أما إذا كان يملك نفسه كالقائل :
إذا فاه السفيه يسب عرضي كرهت أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا
وقول الآخر :
فأعرض عن شتم الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
فلا بأس ، فقد أخذ بالعفو والصفح المحمودين ، وكان من ذوي النفوس الطاهرة النقية يأبى أن يطرأ عليها معنى الذل وخاصة إذا كان يقصد تحمل الأذى قربة إلى اللّه تعالى فلا يحب الانتصاف لنفسه ، فهو من الكاملين ولا يظن به ما يظن بغيره من الهوان والضعف.
وإذا كان الإعراض عن المقابلة تمدها كقوله في السكوت عن إجابة اللئيم في سبابه :
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا(4/51)
ج 4 ، ص : 52
فلا بأس أيضا لأنه مهما كان يعد من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب.
ورابعا المقابلة المعنية بقوله تعالى «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ» عملها المساء إليه بالسيء هي أيضا «سَيِّئَةٌ مِثْلُها» لأنه إذا جازى الرجل من أساء إليه بمثل إساءته له فقد أساء أيضا ، إلا أنه لا يجازى على ذلك ، لأنها بالمقابلة بلا زيادة ، لهذا سمى جزاء السيئة سيئة أيضا ، لمشابهتها لها صورة وإلا فليست بسيئة حقيقة ، وبما أن اللّه تعالى لا يرغب الانتصار للنفس ويحب العفو فقد سمى الانتصار سيئة ، ولهذا أعقبها بقوله «فَمَنْ عَفا» عمن أساء إليه «وَأَصْلَحَ» بغض النظر عن العقوبة ولم يجابه خصمه بمثل سيئته «فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ومن كان أجره على اللّه سعد وفاز ، لأن اللّه تعالى يكافىء عن القليل كثيرا ، ومن انتقم حرم من هذا الأجر العظيم ، لأن الانتقام قد يقع فيه تعدي لأنه من الصعب أن يقابل التعدّي بمثله تماما ، ولهذا حذر اللّه تعالى عن التعدي المستلزم للظلم ، فختم هذه الآية بقوله عز قوله «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» 40 الذين يتجاوزون حد الانتصار والبادئين غيرهم بالظلم لا بالمقابلة ، وعلى كل البادي أظلم.
خامسا قال تعالى «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ» لنفسه بأن قابل الاعتداء بمثله لأن نفسه لم تسمح بالعفو وليس من أولي التحمل ولا التمدح «فَأُولئِكَ» الآخذين تارهم ذيّا عن كرامتهم وحفظا لعزّهم «ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» 41 يؤاخذون به لأنهم أخذوا بالعزيمة وفعلوا ما خول لهم فلا عقاب عليهم ولا عتاب ولا عيب عليهم «إِنَّمَا السَّبِيلُ» الطريق الموجب للعقوبة يكون «عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ» مبدئيا بلا سبب «وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ» يفسدون فيها ويتكبرون على أهلها ويعملون المعاصي ويطفون على الناس «بِغَيْرِ الْحَقِّ» تجبرا وأنفة وأنانية بقصد التعاظم عليهم «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 42 في الآخرة غير الذي يبتليهم اللّه به في الدنيا مما لم يعف عنه ، إذ قد يسلط عليهم من هو أظلم منهم فينتقم لذلك المظلوم.
وقد جاء في الخبر : الظالم سيفى انتقم به وأنتقم منه.
قال تعالى في وصف الصنف السادس وهو أحسنهم «وَلَمَنْ صَبَرَ» على ما نابه من الغير «وَغَفَرَ» له تعديه عليه فضلا عن أنه لم يقابله به ولم يؤنبه عليه ولم يعاتبه به أيضا مع قدرته على الانتقام «إِنَّ ذلِكَ» الصبر على الأذى(4/52)
ج 4 ، ص : 53
مع المغفرة عمل مبرور.
ولهذا أشار إليه بالصبر إعلاما بحسنه وتعاظمه على النفس إذ قل أن تجد من يتخلق بهذه الأخلاق الحميدة غير الأولياء وقليل ما هم ، ولهذا أشار تعالى بجليل ثوابه وكبير أجره وجميل عمله عنده بقوله عزّ قوله «لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 43 التي أمر اللّه تعالى بها خلّص عباده لأن الصبر على المكاره من خصال الأنبياء والغفران مع القدرة من أفعال العظماء وهاتان الخصلتان من شأن أولي العزم.
هذا ، وقد ذكر اللّه تعالى في هذه الآيات ألست من قوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) إلى هنا اثنتي عشرة خصلة متداخلة ، ولذا قلنا ستة أقسام ، لأن في كل قسم خصلتين ، وكلها من كرائم أخلاق المؤمن وأحاسن صفاته ، إرشادا لعباده للأخذ بها ، وحثا لهم على التحلي بمكارم الآداب.
قال :
وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا
وقائله حميد بن ثور الهلالي ، وإن أمير الشعراء السيد شوقي قال :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فانظر بين المتقدم والمتأخر تجد البون شاسعا.
هذا ، والتمسك بآداب الأنبياء تعليما للأمراء والحكام أن يتقبدوا بهم ، فيفعلوا ما أرشدوا إليه من تلك الخصال العالية ، فيكونوا أكبر شأنا من غيرهم ، وعلى الناس أن تتأسى بهم ، لأن العبد إذا عفا عن أخيه فاللّه تعالى أولى بأن يعفو عنه ، إذ لا يخلو أحد من قصور تجاه مولاه ، ومن هنا أخذت قاعدة إسقاط الحق العام تبعا للحق الشخصي.
وأعلم أن اللّه تعالى جعل عباده شطرين ، شطر أخذ بالعزيمة التي هي من العزم وهو عقد القلب على إمضاء الأمر بالصبر والمغفرة والصفح مما هو موافق لشريعة سيدنا عيسى عليه السلام ، راجع الآية 34 من سورة السجدة المارة ، وهؤلاء الذين مدحهم اللّه تعالى فيها وقليل ما هم ، وشطر أخذ بالرخصة وهي الانتصاف والمقابلة بالمثل وهذه من خصائص هذه الأمة التي جعلها اللّه سبحانه أمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس وخير الأمور أوساطها ، ومما خصت به من السنّة مما بوافق هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم :
أنصر أخاك ظالما أو مظلوما.
ونصر الظالم ردعه عن الظلم ، وخيرها في هذه الآية بين الأمرين الرخصة والعزيمة وندبها إلى ما هو الا حسن بقوله (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ(4/53)
ج 4 ، ص : 54
ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)
الآية 55 من سورة الزمر المارة ، ومدح هؤلاء بقوله عز قوله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الآية 19 منها فراجع هاتين الآيتين ففيهما كفاية.
قيل دخل رجل دميم على امرأته وقد تزينت له فقال لها :
لقد أصبحت رائعة في الجمال ، فقالت له أبشر فإن مصيرنا الجنة ، قال وكيف ؟
قالت لأنك أعطيت مثلي فشكرت ولأني ابتليت بمثلك فصبرت ، والشاكر والصابر في الجنة.
وهذا إذا حسنت النية في الصبر والشكر وكان القصد من الانتصاف والمقابلة ما ذكرناه آنفا في تفسير الآيتين المذكورتين فيكونون ممدوحين أيضا كما يشير إليه سياق التنزيل وسياقه ، إذ جاء بمعرض المدح وإلا فلا ثواب ولا عقاب ، وقد أثبتنا لك أيها القارئ فيما يلي جملة أحاديث في هذا الموضوع لتلين عريكتك وتخفض جناحك وتجنح إلى العفو رغبة بما يعده اللّه تعالى للعافين أمثالك في يوم أنت أكثر احتياجا إليه ، عنك تمتنع من الانتقام الذي فيه حظ النفس الخبيثة الأمارة بالسوء فتحرم من الأجر المقدر على العفو والصفح ، فمنها ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : قال موسى ابن عمران عليه السلام يا ربّ من أعزّ عبادك عندك ؟ قال من إذا قدر غفر.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من كان أجره على اللّه فليدخل الجنة ، ثم نادى الثانية ليقم من أجره على اللّه تعالى ، قالوا ومن ذا الذي أجره على اللّه تعالى ؟ قال العافون عن الناس ، فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب.
وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي اللّه عنه والنبي صلّى اللّه عليه وسلم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسّم فلما أكثر رد عليه بعض قوله ، فغضب النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقام ، فلحقه أبو بكر فقال يا رسول اللّه كان يشتمني وأنت جالس ، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت ؟ قال إنه كان معك ملك يردّ عنك ، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ، ثم قال عليه الصلاة والسلام ثلاث من الحق : ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها للّه تعالى إلا أعزّ اللّه عز وجل بها نصره ، وما فتح رجل باب عطية(4/54)
ج 4 ، ص : 55
يريد بها صلة إلا زاده اللّه تعالى بها كثرة ، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده اللّه تعالى بها قلة.
وفي هذا الحديث تنبيه لأبي بكر رضي اللّه عنه على ترك الأولى والأخذ بالعزيمة ، ولا وجه لقول من قال إن فيه عتبا من حضرة الرسول وهو فعل بعض ما وقع عليه ، واللّه تعالى يقول في مثله (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 41 المارة ، لأن التنبيه شيء والعتب شيء آخر ، وكذلك لا يعد لوما لأنه لم يقترن بقول الرسول له لم فعلت أو لم قابلته.
هذا وقد أمر صلّى اللّه عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم فقد أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : دخلت عليّ زينب رضي اللّه عنها وعندي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأقبلت عليّ تسبني ، فردعها النبي صلّى اللّه عليه وسلم فلم تنته ، فقال لي سبّيها ، وفي رواية دونك فانتصري ، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها ووجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يتهلهل سرورا.
وهذا من قبيل التعزير لزينب بلسان عائشة ، لما أن لها حقا في الرد ، وقد رأى صلّى اللّه عليه وسلم المصلحة في ذلك ففوض إليها إقامة هذا الحق عنه.
الحكم الشرعي : هو أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف ، وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم ، وقد يغلب في التعزير حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ، وقد يكون حقا محضا للّه فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل فله ذلك ، وإذا لم تطاوع نفسه على العفو فعليه السكوت حالئذ لئلا يفرط منه ما لا يتلافى فهو سبيل السلامة قال أحمد بن عبيد :
لعمرك ما شهود الناس إلا بلاء والسلامة في الغياب
فغب ما استطعت إلا عن كريم يرى لقياك من خير الطلاب
يهدّي إن دللت على صواب ويهدي إن زللت إلى الصواب
ويهدي بصدر هذا البيت بمعنى يهتدي.
وسيأتي لهذا البحث صلة عند قوله تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ) الآية 178 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء اللّه «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أمره ويهديه إلى رشده «مِنْ بَعْدِهِ» كما أن من يهديه فما له من مضل «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» يوم القيامة «يَقُولُونَ» يسألون ربهم ثم بين صورة سؤالهم بقوله عزّ قوله(4/55)
ج 4 ، ص : 56
«هَلْ إِلى مَرَدٍّ» إلى الدنيا لنعمل صالحا وهل «مِنْ سَبِيلٍ» 44 إلى ذلك لنؤمن باللّه ورسله وكتبه فلا يجابون إلى طلبهم «وَتَراهُمْ» يا سيد الرسل «يُعْرَضُونَ عَلَيْها» أي النار المستفادة من لفظ العذاب آنفا «خاشِعِينَ» متقاصرين متضائلين خاشعين «مِنَ الذُّلِّ» الذي رأوه والهوان الذي حلّ بهم «يَنْظُرُونَ» إلى النار القادمين إليها «مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» أي بمسارقة لشدة الخوف كنظر المقتول إلى الجلاد والتيس إلى الجزار والمحكوم بالإعدام إلى المشنقة.
«وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا» عند رؤيتهم أولئك «إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ» الذين اتبعوهم في الدنيا وعملوا بأعمالهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» إذ عرضوهم للعذاب باتباعهم أعمالهم ، وكذلك خسروا الذين لم يتبعوهم من أهليهم لأنهم صاروا إلى الجنة وانفردوا عنهم في النار ، فصارت خسارتهم مزدوجة فانتبهوا أيها الناس لهذه الخسارة الفظيعة «أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» 45 لا يتحول عنهم ولا يتحولون عنه «وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ» من عذاب ذلك اليوم «مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأن الأمر كله له «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ» 46 طريق إلى النجاة فلا يصل إلى الحق في الدنيا ولا إلى الجنة في الآخرة ، فيا أيها الناس «اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ» وآمنوا به وانقادوا لرسله «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» حين لا يستطيع من بالكون كله على دفعه أو تأخيره ، واعلموا أنه «ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ» يقيكم من عذابه ولا ملتجى تلجأون إليه منه «يَوْمَئِذٍ» يوم يأتيكم وهذا التنوين عوض عن جملة وقد يكون عن كلمة ويكون عن حرف كما سنبين كلا بمحله وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» 47 مما اقترفتموه من الذنوب لأنكم إذا جحدتموها أقرت بها جوارحكم «فَإِنْ أَعْرَضُوا» عن إجابتك يا حبيبي ولم يلتفتوا إلى نصحك «فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» حتى تهتم بشأنهم ويضيق صدرك من عدم إيمانهم «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» لما أرسلت به إليهم ما عليك غيره ، وليس لك أن تقسرهم على الأخذ بإرشادك ، وقد علمنا أنك قمت بما أمرناك به ، فاتركهم الآن حتى يحين اليوم الذي قدر فيه إيمان من يؤمن منهم وتعذيب من بصر على(4/56)
ج 4 ، ص : 57
كفره «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» من غنى وصحة وأمن وأولاد ورياسة «فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من فقر ومرض وخوف وذل «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الخبائث التي جنوها «فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» 48 لما أسلفناه من النعم قبلها وكان عليه قبل أن يغمط حق النعمة أن يتأمل أن زوالها كان بسبب كفره وأنه إذا تاب وأناب فاللّه أكرم من أن يرد عليه نعمه لا أن يقابلها بالإعراض والجحود.
مطلب أنواع التوالد وأقسام الوحي ومن كلم اللّه من رسله ورآه :
قال تعالى «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما فيهما لا لغيره ولا لأحد شركة معه فيهما ، فهو وحده يتصرف بهما كيفما شاء وأراد «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» لا يحق لأحد الاعتراض عليه ، وليس يوجب عليه إجابة طلب أحد من خلقه «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» 49 فقط «أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً» كثيرين بدلالة التنوين ، قالوا ولد لأنس بن مالك مئة ولد ، وكذلك لعبد الرحمن بن عمر الليثي ، وخليفة السعدي ، وجعفر بن سليمان الهاشمي ، وهذا من الغرائب ولكن ليس على اللّه بغريب ولا عجيب «وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» لا يولد له البتة من الذكور والإناث «إِنَّهُ عَلِيمٌ» بما يناسب كلا من خلقه فعطاؤه عن حكمة وتخصيصه عن حكمة ومنعه عن حكمة «قَدِيرٌ» 50 على ما يريده من هذا وغيره.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأن منهم لوطا وشعيا لم يرزقا إلا بنات وإبراهيم لم يرزق إلا ذكورا ومحمدا صلّى اللّه عليه وسلم ذكورا وإناثا وعيسى ويحيى لم يولد لهما ، لا يتجه ، لأن عيسى ويحيى لم يتزوجا ، والآية عامة في جميع خلقه ، وليس المراد من يزوجهم أن بولد ذكر وأنثى في بطن واحدة توءما كما قاله بعض المفسرين إذ لا دليل على التخصيص بل مجرد إعطائهم ذكورا وإناثا في بطن أو بطون متفرقين لا مجتمعين ، كما هو الظاهر ، واللّه أعلم.
وقدم اللّه تعالى الإناث على الذكور في هذه الآية لا لشرفهن ولكن لسياق التنزيل بأنه يفعل ما يشاء هو لا ما يشاءونه فصار تقديمهن أهم والأهم واجب التقديم ، تدبر.
قال تعالى «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ(4/57)
ج 4 ، ص : 58
اللَّهُ»
كما يكلم أحدكم صاحبه وما يكلمه جل شأنه «إِلَّا وَحْياً» إلهاما كما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلم قوله فنفث في روعي ، أو مناما كما وقع لإبراهيم عليه السلام في ذبح ولده ، وكما ألهمت أم موسى بقذفه في البحر ، قال صلّى اللّه عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي.
وما جاء أنه صلّى اللّه عليه وسلم كلم ربه ليلة الإسراء كما أشرنا إليه أول سورة الإسراء في ج 1 في بحث الإسراء والمعراج فهو مخصوص به دون سائر الأنبياء إذ ما من عموم إلا وخصص منه البعض ، ولرؤيته صلّى اللّه عليه وسلم لربه عز وجل في الدنيا من خصوصياته أيضا وهي حق ثابت لا مرية فيها ، ولم يره بالدنيا بعيني رأسه غيره ولم يكلمه أحد مشافهة مع الرؤية غيره أيضا.
وقد ثبت لموسى عليه السلام تكليم اللّه فقط من غير رؤية ، وليعلم أن رؤية اللّه تعالى وتكليمه جل شأنه لا بوصفان بوصف ، ولا يكيفان بكيفية ، لأن النطق عاجز عن بيان ذلك ، وهذا أنكر من أنكر لسوء ظنه ويقينه ، وصدّق من صدق بحسن إيمانه وعقيدته ، وهذا نوع من أنواع الوحي.
والثاني بيّنه بقوله «أَوْ» يسمع الموحى إليه كلامه المقدس الخالي عن الحرف والصوت المنزه عن الشبيه والمثيل «مِنْ وَراءِ حِجابٍ» يحجب السامع في الدنيا عن الرؤية لا أن يحجب اللّه عن رؤيته ، لأنه جل شأنه لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام ولا يحجبه حجاب ، وذلك من غير رؤية كما سمع موسى عليه السلام كلامه من الشجرة وكما سمعت الملائكة كلامه في دعوتهم للسجود لآدم عليهم السلام ، راجع الآية 45 من سورة الإسراء في ج 1 في بحث الحجاب ، هذا.
والنوع الثالث هو المذكور في قوله «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» من ملائكته الكرام «فَيُوحِيَ» ما يتلقاه منه بِإِذْنِهِ» عز وجل إلى المرسل إليه «ما يَشاءُ» أن بوحيه من الوحي المقدس «إِنَّهُ عَلِيٌّ» عن سمات وصفات خلقه «حَكِيمٌ» 51 صائب المرمى فيما بوحيه من الأمور القولية والفعلية.
وسبب نزول هذه الآية على ما نقله الآلوسي رحمه اللّه في تفسيره روح البيان نقلا عن البحر أن قريشا قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ألا تكلم ربك وتنظر إليه إن كنت صادقا كما كلمه موسى ؟ فقال لهم لم ينظر موسى ربه ، فنزلت.
وهذا أصح مما نقله الإمام علي بن محمد بن ابراهيم البغدادي في تفسير الخازن المسمى لباب التأويل من أن سبب نزولها هو أن اليهود قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ألا تكلم(4/58)
ج 4 ، ص : 59
ربك إلخ ، لأن السورة مكية والآية ليست بمستثناة منها ، واليهود لم يجادلوا حضرة الرسول في مكة ولم يقع معهم أخذ ورد إلا بالمدينة ، وهذه الآية محمولة على عدم جواز النظر في الدنيا ولا دليل فيها على عدم جواز الرؤية في الآخرة ، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث وتقسيم الوحي وجواز رؤية اللّه تعالى في الدنيا والآخرة في الآية 52 من سورة المزمل ، والآية 60 من سورة والنجم ، والآية 60 من الإسراء في ج 1 ، وتطرقنا لها في غيرها من السور وفي الآية 53 من سورة يونس ، والآية 36 من سورة يوسف ، والآية 103 من سورة الأنعام المارات ، وأشرنا إلى المواقع التي تطرقنا فيها لهذا البحث فراجعها.
قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما أوحينا للرسل من قبلك كتبّا وصحفا «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا خاتم الرسل «رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» قرآنا فيه حياة الأرواح في الدنيا والنجاة الطيبة والنعيم الدائم في الآخرة ، وما قيل إن المراد بالروح هنا جبريل عليه السلام قيل غير سديد ، لأنه لو كان المقصود هو لقال جل شأنه وهو أعلم بما يقول أرسلنا إليك روحا فقط ، لأن جبريل هو من أمر اللّه أيضا فيكون في الكلام تكرار دون حاجة.
هذا ، وقد اجتمعت له عليه الصلاة والسلام أنواع الوحي كلها ، إذ تشرف في بداية رسالته بالرؤيا الصادقة والنفث في الروع أي القلب ، ثم بإرسال الملك جبريل عليه السلام إليه ، ثم تكليمه ليلة الإسراء ، وزاده اللّه شرفا على سائر الرسل بالرؤيا الدنيوية.
قال تعالى «ما كُنْتَ تَدْرِي» يا سيد الرسل قبل أن شرفناك بالرسالة «مَا الْكِتابُ» القرآن الذي أكرمناك به «وَلَا الْإِيمانُ» بنا على وجه التفصيل الذي علمته بعد ذلك ، وليس المراد بالإيمان هنا معناه الحقيقي الذي هو ضدّ الكفر ، لأن الأنبياء مجمع على إيمانهم الإجمالي قبل النبوة كما علمت من ذكرهم ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم كغيره من الأنبياء يوحد اللّه تعالى قبل النبوة ويبغض الأصنام ويتعبّد على دين إبراهيم عليه السلام كما من قبله يتعبّد على دين من قبله من الأنبياء ، بل المراد من الإيمان هنا واللّه أعلم الإيمان بتفاصيل الشرائع للذكورة في الكتاب المنزل عليه ، لأنه في بداية أمره لم يعلم أنّ كتابا ينزل إليه ، فكيف يعلم تفصيلات ما فيه ، وقد يأتي الإيمان بمعنى الصلاة ، قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) الآية 149 من البقرة(4/59)
ج 4 ، ص : 60
في ج 3 ، إذ أجمع المفسرون على أن المراد به في هذه الآية الصلاة كما سيأتي في تفسيرها إن شاء اللّه ، ولهذه الأسباب يجوز أن يعدل هنا عن الحقيقة إلى المجاز لوجود الصارف وعدم إمكان الصيرورة إليها والأخذ بمجرد الظاهر ، وقد ألمعنا في المقدمة أن طريقتنا في هذا التفسير لزوم الظاهر ما استطعنا ، وأن لا نحيد عنه ، وهذا مما لم نتمكن من التقيد بظاهره لما علمت «وَلكِنْ جَعَلْناهُ» أي ذلك الكتاب «نُوراً» يهتدى به من الضلال ، ومما يؤيد عود الضمير إلى الكتاب لا إلى الإيمان قوله «نَهْدِي بِهِ» بذلك الكتاب «مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» لأنه أمر محسوس يهتدى به ، أما الإيمان فمعنى من المعاني يقر في القلب ويعبر عنه اللسان «وَإِنَّكَ» يا خاتم الرسل «لَتَهْدِي» الناس «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 52 عدل سوي «صِراطِ اللَّهِ» وطريقه الموصل إلى الحق الدال على الرشد ، كيف لا وهو سبيل اللّه العظيم «الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء ويريد لا يسأل عما يفعل فانتبهوا أيها الناس «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» 53 كلها في الآخرة مشاهدة كما هي الآن في الدنيا وما ترى منها بيد غيره فهو صورة إذ في الحقيقة لا أمر إلا للّه ولا يقع شيء إلا بأمره وإرادته ، وهناك يجد المحسن نواب إحسانه والمسيء عقاب وجزاء إساءته.
ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه الكلمة ، ولا مثلها في عدد الآي.
هذا ، واللّه أعم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه وسلم.
تفسير سورة الزخرف
عدد 13 - 63 و43
نزلت بمكة بعد سورة الشورى عدا الآية 54 ، فإنها نزلت بالمدينة ، وهي تسع وثمانون آية ، وثمنمئة وثلاث وثلاثون كلمة ، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «حم» 1 تقدم ما فيه ، وقد أقسم اللّه تعالى فقال «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 لكل شيء وجواب القسم قوله عز قوله «إِنَّا جَعَلْناهُ» أي الكتاب الملقى إليك يا محمد المشار إليه آخر السورة المارة «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» 3(4/60)
ج 4 ، ص : 61
معانيه فلا تحتجوا بعدم فهمه «وَإِنَّهُ» هذا القرآن ثابت عندنا مدوّن «فِي أُمِّ الْكِتابِ» اللوح المحفوظ.
وسمي أما لأن كل الكتب السماوية المنزلة على الرسل وغيرها مسجلة فيه ومنه ينسخ ما ينزله اللّه على من يشاء من عباده ، قال تعالى :
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) الآيتين من آخر سورة البروج في ج 1 ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة والباقون بضمها وهو الصواب ولهذا يقول تعالى «لَدَيْنا لَعَلِيٌّ» شرفا ومنزلة وشأنا «حَكِيمٌ» 4 لا يتطرق إليه البطلان على مرور الدوران ، راجع الآية 42 من سورة فصلت المارة وما ترشدك إليه من المواضع في حفظ هذا القرآن وتعهد اللّه به «أَ فَنَضْرِبُ» نذود وننحى ونترك «عَنْكُمُ» يا أهل مكة «الذِّكْرَ» بالقرآن فلا نذكركم به ونهملكم «صَفْحاً» إعراضا عنكم ، فلا نأمركم ولا ننهاكم ، أو نمسك عن إنزاله بسبب «أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» 5 بأنواع الكفر والمعاصي ونبقيكم سبهللا ، كلا ، لا نفعل ذلك من أجل انهماككم وإصراركم على المعاصي والكفر ، بل ننزله عليكم ونكلفكم بالإيمان به وترك ما أنتم عليه ، لئلا تقولوا في الآخرة ما جاءنا من كتاب ولا نذير.
قرأ نافع وحمزة بكسر الألف من أن ، أي إن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر ، وقيل إن أن هنا بمعنى إذ ، مثلها في قوله تعالى (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية 278 من البقرة في ج 3 ، أي والجزاء مقدم على الشرط ، وقرأ الباقون بفتحها على التعليل وهو الأحسن والأوفى بالمرام.
قال تعالى «وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ» 6 قبلكم «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 7 مثلما يسخر بك قومك فلا تضجر لما ترى منهم ، فإن لك أسوة بإخوانك الأنبياء ، وهذه تقدير للآية قبلها مبينة أن إسراف الأمم السابقة الكثيرة في التكذيب لم يمنعنا من إرسال الرسل إليهم ولا إنزال الكتب عليهم ، فكذلك إسراف قومك يا محمد لم يحل دون إرسالنا إياك إليهم وإنزالنا كتابك عليهم ، وفيها تسلية لحضرة الرسول ليهون عليه ما يلاقية من قومه ، قال تعالى يا محمد لا يغرّ قومك ما هم عليه من القوة والكثرة في المال والولد «فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً» وقوة ومن هم أكثر منهم أموالا وأولادا ، وهذا نوع آخر(4/61)
ج 4 ، ص : 62
من التسلية لحضرة الرسول صرف فيه الخطاب من قومه إليه ضمن إخباره عن حكاية حال سابقة لقوله جل قوله «وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» 8 أي القصة التي أهلكوا فيها وحالتهم مع أنبيائهم إذ سلف ذكرهم على التفصيل فيما قصه اللّه قبل ، وقد كرره مرارا حتى صار ما أوقعه بالأولين كالمثل السائر ، فحذّر قومك من أن ينزل بهم مثله ويصيبهم ما أصابهم ، يريد قوم نوح وصالح وهود وشعيب ولوط وموسى وعيسى ، ومن بينهم.
قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ» بالغ القدرة منيع الجانب العظيم الذي لا يكيّف «الْعَلِيمُ» 9 بما فيهن وبالحكمة التي خلقهنّ من أجلها لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا خلقهن غيره تعالى ولا يتمكنون من إنكارهما أو نسبة شيء بما فيهن منهما لأولهم خشية الكذب المستقبح عندهم ، وذلك الإله الفعال «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» لتستريحوا عليها ، ومنه مهد الصبي السرير الذي ينام فيه لأن فيه استراحته ومنامه ، وإنما جعلها مهدا ليمكن مخلوقاته من الانتفاع بها «وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» في الصحارى وفجاجا في الجبال ومرتفعا في الأودية ليتيسر لكم المشي عليها لتمام النفع «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» 10 في أسفاركم لمقاصدكم من القرى والبلاد والمراعي والمقالع وغيرها.
مطلب نعمة المطر ونعمة الدواب والأنعام وما يقال عند السفر والرجوع منه :
«وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» فيه حياتكم ، وهذا من جملة رأفته بكم أيها الناس ورحمته بدوابكم وأنعامكم وجعله «بِقَدَرٍ» لكل خلقه من نام وجامد يحسب الحاجة إليه وقدر ما اقتضته المشيئة المبينة على الحكم والمصالح ، فلم يشح عن الحاجة ولم يزد لحد الغرق الذي لا يكون إلا للعذاب أو أمر آخر يريده ، وهذا القدر الذي ذكره لا يعلمه غيره والإبرة المحدثة (أودوميتر) لا تفيد على التحقيق نزوله بالبقعة التي هي فيها أو بساعة معلومة ، لأن المطر قد يكون فيها أو بأطرافها قريبا منها أو بعيدا ، وقد يكون قليلا بمكان كثيرا بآخر ، لهذا لا يعرف مقداره على الضبط ، لأنه قد يكون فوقها قليلا وبأطرافها كثيرا وبالعكس ، وبمقدار ما تتأثر منه الأرض ، لذلك فإن ما يزعمونه من تقدير الأمطار هو بحسب التخمين(4/62)
ج 4 ، ص : 63
والحسبان بالنسبة للبقعة المغروزة فيه الآلة ، وهذا إذا لم يطرأ على الجو ما يغير رطوبته ، فإذا طرأ قد لا تمطر تدبر.
«فَأَنْشَرْنا» أحيينا «بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ» مثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالمطر «تُخْرَجُونَ» 11 من قبوركم أحياء في الآخرة بعد موتكم في الدنيا «وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها» من ذوات الأرواح والنمو من بشر وحيوان وحوت وطير وحشرات ونبات هو ذلك الإله العظيم الذي خلق السموات والأرض «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» 12 عليه برا وبحرا وتحت الأرض والبحر وفي الخلاء «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ» ما ظهر منه لجهة العلو وبطن الفلك بالنسبة للركوب فيه يسمى ظهرا لأن ظهرها طائف على الماء «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ» على لطفه بكم وعطفه عليكم «إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ» أي الفلك أو ظهور الأنعام والدواب وغيرها من كل ما يركب ، فيدخل فيه الطائرات والغواصات والسيارات على اختلاف أنواعها ، وهذا الشكر واجب ، لأنه بمقابل نعمة الركوب والتسخير ، لأنها أقوى منكم سواء أكانت بنفسها أو بما يسيرها من ماء وهواء أو بخار أو قوة أخرى ، ومن نعمته تذليلها فلولا تذليل الحيوان للإنسان ما استفاد منه شيئا لا ركبا ولا أكلا ، راجع قوله تعالى (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) الآية 72 من سورة يس في ج 2 ، والآية 32 من سورة الشورى المارة لتعلم هذه النعمة العظيمة ، وأنها تستحق الذكر والشكر ، ولها صلة في الآية الأخيرة من سورة لقمان المارة أيضا ، «وَتَقُولُوا» عند استواءكم على ما تركبونه شكرا لمسخره لكم «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» الفلك والأنعام والمراكب «وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» 13 مطيقين وضابطين بسبب قوتها وصعوبتها والصعب القوي لا يكون قرينا للضعيف ، ولو لا نعمة اللّه علينا بتذليلها لما كان لنا أن نقرن هذه الدواب والفلك والمراكب والسيارات والطيارات وغيرها ، لأنها أقوى منا ، قال عمر بن معد يكرب :
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقال ابن هرم :
وأقرنت ما حملتني ولقلّما يطاق احتمال الصدّ يا دعد والهجر(4/63)
ج 4 ، ص : 64
بما يدل على أن قرن بمعنى طاق ، ويقول الراكب أيضا «وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» 14 في المعاد وآخر ما تركب عليه هو النعش ، اللهم أحسن سيرنا إليك وأكرم وفادتنا عليك ، روى مسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد اللّه وسبح وكبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي إلخ اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون سفرنا هذا وأطوعنا بغده ، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من عناء السفر (تعبه وشدته) وكآية المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد.
وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون.
قال تعالى «وَجَعَلُوا لَهُ» كفار قريش لذلك الإله العظيم مع إنعامه عليهم «مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً» نسبوه إليه وهو قولهم الملائكة بنات اللّه لأن الولد جزء من الوالد «إِنَّ الْإِنْسانَ» جنسه «لَكَفُورٌ مُبِينٌ» 15 مظهر جحوده لنعم اللّه بلا حياء ولا خجل.
قال تعالى على طريق الاستفهام الإنكاري «أَمِ اتَّخَذَ» لنفسه «مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ» وأنتم أيها الكفرة تأنفون منهن «وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ» 16 منهم أي كيف يؤثركم على نفسه لأن من يقدر على الاتخاذ يتخذ لنفسه الأحسن فكيف يجدر بهم أن يقولوا هذا «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا» من جنس البنات وآثر ذكر الرحمن إعلاما بأنه لو لا سبق رحمته وسعتها لأهلكهم بهذا القول الذي لا يجوز نسبته له تعالى «ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا» صار مكفهرا من سوء ما بشر به «وَهُوَ كَظِيمٌ» 17 مملوء كربا وشدة حزن وغيظ وغم بحيث لا يكاد يتحمل أكثر مما هو فيه ، قيل إن بعض العرب هجر زوجته لأنها جاءت ببنت فخاطبته بقولها :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا حكمة رب ذي اقتدار فينا
فلم يرد عليها لشدة غضبه.
قال تعالى توبيخا لهؤلاء الكفرة «أَ وَمَنْ يُنَشَّؤُا» بالتشديد مبينا للمفعول وقرىء بالتخفيف وقرىء يناشأ بالمفعول أيضا بمعنى الإنشاء(4/64)
ج 4 ، ص : 65
كالمغالات بمعنى الاغلاء أي يتربّى «فِي الْحِلْيَةِ» الزينة يريد البنات لأنهن يزخرفن بالحليّ ليرغب فيهن أو باعتبار أنهن ناقصات ، ولهذا احتجن للتزيين «وَهُوَ» جنس البنات «فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» 18 لضعف حالهن وقلة عقولهن ، أي ألا ينسبوا للّه الولد الذكر القادر علي الخصومة والإتيان بالبرهان والحجة إذا كانوا لا بدّ ناسبين له تعالى ولدا ، تعالى عن ذلك ، أفضلوا أنفسهم عليه فجعلوا له البنت ولهم الولد ، قاتلهم اللّه.
وما قيل إن هذه الآية بالأصنام لأنهم كانوا يزينونها بالذهب والفضة ، يبعده قوله (فِي الْخِصامِ) لأن الأصنام جامدة لا تخاصم ولا توصف بشيء من الأنانية ، والكلام وارد على تقبيح قولهم ، وانهم من عادتهم المناقضة في أقوالهم ورميهم القول بغير علم رجما بالغيب.
وتشير هذه الآية على النشء في الزينة والنعومة بالعيش من المعايب والمذام ، لأنه من صفات ربات الحجال فعلى الشهم أن يتباعد عن ذلك ويأنف عنه ويربأ بنفسه عن التشبه بهن ويعيش كما قال عمر رضي اللّه عنه : اخشوشنوا في اللباس واخشوشنوا في الطعام وتمعددوا ، فإن الحاضرة لا تدوم ، أي تزيّوا بزيّ خشن الطعام واللباس ، لأن كلمة تمعددوا تأتي لثلاث معان : التزيّيّ بزيّ الغير ، والبرء من المرض يقال تمعدد إذا برىء ، والضعيف إذا أخذ بالسمن يقال له تمعدد أيضا كما في القاموس ، والأول هو المنطبق على المعنى المراد واللّه أعلم.
هذا ، وإذا أراد أن يزين نفسه فليحلها بلباس التقوى قال تعالى (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) الآية 26 من الأعراف في ج 1 ، وقال عليه السلام : ليس للمؤمن ان يذلّ نفسه ، وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة اللّه والتزين بزينة التقوى ، وإن كان لا بد فاعلا ومقلدا غيره فليتزين بما أحلّ اللّه له من اللباس لا غير على أن لا يتشبه بما هو من خصائص النساء ، لأن ذلك من التخنّث الذي تأباه مروءة المؤمن ، وقد جمع الكفرة في مقالتهم هذه ثلاث كفرات :
نسبوا إلى اللّه الولد وهو كفر ، ونسبوا إليه أخس النوعين وهو كفر مزدوج لما فيه من الإهانة بنسبة شيء لجلاله لا يرضونه لأنفسهم ، وجعلوا هذه البنات المشئومات من الملائكة وهو كفر لاستخفافهم بالملائكة وتسميتهم إناثا وهم ليسوا بإناث بل هم جنس خاص لا يوصف بأنوثة ولا بذكورة ، لذلك شنع اللّه عليهم بقوله عز قوله(4/65)
ج 4 ، ص : 66
«وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ» حتى يجزموا بذلك وهذا تهكم بهم لأنهم لم يشهدوا خلقهم وإنما قالوه جرأة على اللّه قاتلهم اللّه «سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ» هذه على إفكهم هذا «وَيُسْئَلُونَ» 19 عنه يوم القيامة.
نزلت هذه الآية حينما قال لهم حضرة الرسول وما يدريكم أن الملائكة إناث ؟ قالوا سمعناه من آبائنا ونشهد أنهم لم يكذبوا ، فوبخهم اللّه على ذلك وعلى قولهم «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ» أي الملائكة والأصنام ، والسياق يؤيد الأول إذ لم يسبق للأصنام ذكر ، وقد استدلوا بنفي مشيئة اللّه ترك عبادتها على امتناع النهي عنها أو على حسنها ، وقالوا إن اللّه لم يشأ ترك عبادتها ، ولو شاء لتحققت مشيئته ولعجل عقوبتنا على عبادتها ، بل إنه شاء عبادتها لأنها متحققة ، فتكون مأمورا بها أو حسنة ، ويمتنع أن تكون منهيا عنها أو قبيحة.
وهذا استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا ، وقد استدلت المعتزلة فيها أيضا على أن اللّه تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء الإيمان لأن الكفار ادعوا أن اللّه تعالى شاء منهم الكفر وما شاء منهم ترك عبادة الأوثان لقولهم (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي لو شاء منا ترك عبادتها لمنعنا من عبادتها ولكن شاء عبادتها فلم يمنعنا ، فوبخهم اللّه تعالى ورد عليهم قولهم واعتقادهم بقوله «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» البتة بدلالة التنكير والتأكيد بحرف الجر «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» 20 يحزرون ظنا وتخمينا وهو كذب محض لأن اللّه تعالى لم يشأ عبادتها ولم يرض بها ولم يستحسنها ، وعدم تعجيل العقوبة هو عدم حلول الأجل المعين لها وسبق الكلمة منه تعالى بذلك ، راجع ما تقدم في الآية 163 من الصافات المارة ، لأن اللّه تعالى قدر لكل ما يقع في كونه وقتا لا يتعداه ولا يسبقه.
قال تعالى «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ» أي القرآن ذكرنا لهم فيه ما يزعمونه «فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» 21 كلا لم نأتهم بكتاب ولم نرسل لهم رسولا بعد إسماعيل غير محمد وحيث لم يكن لهم حجة يتمسكون بها من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع ، وإنما حجتهم التقليد المحض المشار إليه بقوله عزّ وجل(4/66)
ج 4 ، ص : 67
«بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» طريقة مأخوذة من الأم وهو القصد وتطلق على الدين لأنه يؤم أي يقصد ويقتدى به يقال فلان لا أمّة له أي لا دين له ولا نحلة ، قال قيس بن الحطيم :
كنا على أمة آبائنا ويقتدي بالأول الآخر
وقال غيره : وهل يستوي ذو أمة وكفور.
وقيل الأمة بمعنى الجماعة وهو كذلك ، إلا أنه لا يتجه هنا «وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» 22 باتباعهم التقليدي فقط ، أخبر اللّه حبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم بأن قومه مسبوقون بمقالتهم هذه وأنهم ما يقولونها إلا تقليدا لآبائهم كما أن اتّباعهم تقليدي عار عن البرهان على صحة بقوله جل قوله «وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» رؤساؤها وأغنياؤها «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» 23 وقومك كذلك معترفون بهذا التقليد وهو داء قديم فيهم لا يعدل عنه إلا من وفقه اللّه ، وفيه تسلية لحضرة الرسول ، لأن ما يسمعه من قومه سجية فيهم تناقلوها دون سند أو حجة أو دليل ، فيا أكرم الرسل «قل» لهؤلاء المتنطعين «أَ وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى » بدين أصوب وأعدل وأقوم «مِمَّا» من الدين الذي «وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ» وأحسن منه وأيسر ألا تقبلونه وتتركون دين آبائكم ، فأجابوه بما حكى اللّه عنهم رأسا دون ترو بالأمر «قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» 24 لسوء حظهم وسبق شقائهم ، قالوا هذه المقالة القبيحة ولم يوفقوا أن يقولوا يتبعك إذ جئننا بدين خير من ديننا ودين آبائنا ، وهذا كقول قوم صالح (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الآية 76 من الأعراف ، قاتلهم اللّه تشابهت قلوبهم ، ويشير عدم توفيقهم لقول الحق الذي به نفعهم ما جاء في الآية 32 من سورة الأنفال ج 2 ، قال تعالى «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» إذ آثروا الكفر على الإيمان باختيارهم ورضاهم «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» 25 من الإهلاك والتدمير «وَ» اذكر لقومك يا محمد «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ» 26 من الأوثان وإني لا أعبد «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» 17 إلى دينه(4/67)
ج 4 ، ص : 68
القويم الحق وطريقه المستقيم الصدق «وَجَعَلَها كَلِمَةً» أي جعل براءته تلك من الأوثان «باقِيَةً»تردد «فِي عَقِبِهِ» ذريته وبعض من بعده وهي كلمة لا إله إلا اللّه ، لأن قوله (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) جاريا مجرى لا إله وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جاريا مجرى إلا اللّه ، فلا يزالون يلهجون بها ويوحدون اللّه بالعبادة «لَعَلَّهُمْ» إذا تلقوها عنه عقبا بعد عقب ، وقد أشرك بعضهم فلم يقلها «يَرْجِعُونَ» 28 عن الشرك إلى التوحيد اقتداء بجدهم الكريم ، وان من أشرك منهم يرجع إلى اللّه بدعاء من وجد منهم ، لأن ذريته عليه السلام لم تخل قط ممن يوحد اللّه ويدعو إليه منذ نشأ إلى يومنا هذا ، وإلى يوم القيامة إن شاء اللّه القائل «بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ» قومك يا محمد «وَآباءَهُمْ» من قبلهم بالنعم المترادفة ولم أعاقبهم «حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ» من عندنا وهو القرآن «وَرَسُولٌ مُبِينٌ» 29 موضح لهم الحق من الباطل من الأحكام والحدود والأخبار «وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ» بدل أن يصدقوه «قالُوا هذا سِحْرٌ» قد افتريته من عندك يا محمد «وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ» 30 فزادوا بالطين بلة والنار شرارة إذ ضموا العناد إلى الكفر والاستخفاف إلى البهت ، فسموا القرآن سحرا وكفروا به ، وسموا الرسول ساحرا وكذبوه
«وَقالُوا» فوق ذلك كله مفترحين علينا رأيهم الفاسد «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» 31 صفة لرجل ، وفيه دليل على جواز الفصل بين الصفة والموصوف يريدون أعماهم اللّه الوليد بن المغيرة من قريش مكة وعروة ابن مسعود من الطائف من ثقيف ، فرد اللّه تعالى عليهم مؤنبا لهم جرأتهم هذه «أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» كلا لا حقّ لهم بذلك ولم تكن النبوة خاصة بالأشراف والأغنياء الذين يزعمون ، وإنما هي فضل اللّه يختص به من يشاء من عباده الذين هم أهل لها ، قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 125 من الأنعام المارة ، فهو أعلم بمن يصطفيه لها ، ثم ضرب مثلا بقوله عز قوله «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا شريفا وهذا حقيرا «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» متفاوتة في الأموال والأولاد والنسب والعشرة والجاه والمنصب «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً(4/68)
ج 4 ، ص : 69
سُخْرِيًّا»
في مصالحهم ويستخدموهم بأشغالهم حتى يتعايشوا وبترافدوا.
وهذا لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المفتر عليه ، بل ليستقيم نظام العالم ، ولو لا ذلك لما سخر أحد لأحد ، ولأفضى الحال إلى خراب الكون ، إذ لا يستغني أحد عن معاونة الآخر ، وفي التساوي تنعدم الفائدة ، إذ لا ينقاد أحد لغيره ، فعلى العاقل أن يتدرج في هذه الدنيا ولا ينظر إلى ما يجمعه الأغنياء من الحطام ، بل ينظر إلى ما هو نافع له في عقباد «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» 32 لأنهم وما يجمعونه فان ورحمة اللّه باقية ، وهذا مما يزهد في الانكباب على الدنيا ويعين على التوكل والانقطاع إليه تعالى ، قال ابن الوردي :
فاعتبر نحن قسمنا بينهم تلقه حقا وبالحق نزل
ويرحم اللّه الشافعي إذ يقول :
فأعددت للمرت الإله وعفوه وأعددت للفقر التجلد والصبرا
فمن تمسك بهاتين العدّتين أمن من هول الدارين وفاز بالنجاة.
مطلب هو ان الدنيا عند اللّه وأهل اللّه وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس :
قال تعالى «وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» فيجتمعون على الكفر ويطبقون عليه رغبة فيه إذا رأوا السعة عند الكفرة «لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ» مصاعد من فضة أيضا «عَلَيْها يَظْهَرُونَ» 33 إلى العلو كالدرج والسلم الذي يصعد عليه للعلو «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً» من فضة أيضا «وَسُرُراً» من فضة «عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ» 34 خصّ السرر لأنها مما يجلس عليها المنعّمون «وَزُخْرُفاً» وجعلنا ذلك كله مزينا بالذهب والجواهر مرصعا بالأحجار الكريمة «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتمتع بها الإنسان مدة حياته أو بعضها ثم تذهب بذهابه وهي سريعة الزوال خاصة عند فقدان الشكر «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» 35 الكفر والمعاصي الصارفين جوارحهم وأموالهم في رضاء اللّه فهذه هي النعم الدائمة التي يجب أن يمتع بها المؤمن قال :
تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار(4/69)
ج 4 ، ص : 70
العرار وردة طيبة الرائحة ناعمة وكان القائل مر بها قبل العشية وهو سائر ، فإذا لم يشمها في ذلك الوقت فاته ريحها ، فكذلك الإنسان إذا لم يمتع نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح وهو قادر عليه فاته ذلك بالسقم والهرم والموت على حين غرة فيندم ولات حين مندم ، لذلك يجب على العاقل أن لا يضيع الفرص بالتسويف والتأني.
وليعلم أن الدنيا بما فيها كله زهيد عند اللّه تعالى ولذلك يقول في صدر هذه الآية (لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ) إلخ أي لأعطيت الكفار أكثر أسباب الحياة المفيدة للرزق ليتنعموا بها في هذه الدنيا الحقيرة ، ولكن لم نفعل ذلك لئلا تزداد الرغبة في الكفر ، وتشير هذه الآية إلى الإعراض عن الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى والتمسك بالدين القويم.
أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعد قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء.
وعن علي كرم اللّه وجهه قال : الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم.
هذا ، وأخذ من هذه الآية قاعدة شرعية وهي إذا كان بناء سفلي لرجل وعليه بناء علوي لآخر فيكون السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت.
وقرىء سقفا بضمتين وبضم وسكون وفتح وسكون.
وأخرج الترمذي بحديث حسن عن المسور بن شداد جدّ بنى فهر قال : كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على السخلة الميتة ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها ؟ قالوا من هوانها ألقوها يا رسول اللّه ، قال فإن الدنيا أهون على اللّه تعالى من هذه الشاة على أهلها.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر.
راجع الآية 104 من سورة يوسف المارة تعلم هذا.
وان اللّه تعالى لم يعط الكفرة جميع الأسباب المفضية للنعم كراهية أن يرغبوا فيها فتؤدي بهم إلى الكفر حين يرون أهله منعمين ، فيتوهمون أن ذلك لفضيلة فيهم.
قال تعالى «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ» فلم يذكره عند شدّته ورخائة ويعش بضم الشين بمعنى يتعامى ويتجاهل ، وقرىء بفتح الشين أي يعمى ، والفرق بينهما أن الأول من عشا يعشو إذا نظر ولا آفة في بصره ، والثاني عشي يعشى إذا كان في بصره آفة(4/70)
ج 4 ، ص : 71
فلا يكاد يبصر جيدا ، إذ يصير على عينيه كالضباب ، ونظيره عرج بضم الراء لمن به عرج حقيقة ، وعرج بفتحها لمن مشى مشية الأعرج من غير آفة في رجله ، وفعل يعش هذا من الأول أي يتعامى «نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً» يحمله على الغفلة عن ذكره ويسوقه إلى الهفوات في أقواله وأفعاله «فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» 36 لا يفارقه أبدا فيزين له العمى ويخيل له أنه على الهدى حتى يستولي عليه ، فيجب على الإنسان المسارعة لفعل الخير والتملّي في ذكر اللّه بعين بصره وبصيرته ، ولا يترك للشيطان مجالا في قلبه ليستولي ، ولهذا فإن من يداوم على ذكر الرحمن يتباعد عنه الشيطان فلا يقربه مادام ذاكرا له.
قال تعالى «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ» يصدون العاشين «عَنِ السَّبِيلِ» السوي والهدى والرشد «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» 37 بسبب وساوسه ودسائسه يريهم الشر خيرا والإيمان كفرا ، وقد جمع الضمير في أنهم لأن من مبهمة في جنس العاشي ، ولفظ شيطان مبهم في جنسه أيضا ، فأرجع الضمير في أنهم الذي يعود على الشيطان مجموعا لذلك ، ولأن من باعتبار معناها تدل على الجمع «حَتَّى إِذا جاءَنا» وقرأ بعضهم جاءنا أي العاشي وقرينه «قالَ» العاشي لقرينه اذهب عني «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» غلب المشرق على المغرب كما غلب القمر على الشمس في القمرين ، أو أنه أراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، لما بينهما من البعد ، والأول أبلغ لأنه المتعارف ولأنه أكبر بعدا ، أي انك أهلكتني بمقارننك في الدنيا ، ليتني لم أتعرف عليك «فَبِئْسَ الْقَرِينُ» 38 أنت ، قال تعالى «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ» العتاب والمجادلة والحذر من قرب بعضكم لبعض «إِذْ ظَلَمْتُمْ» أنفسكم بالأمس أي الدنيا ولم تذكروا يومكم هذا الذي منه حذركم أنبياؤكم «أَنَّكُمْ» اليوم «فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» 39 كما كنتم في الدنيا مشتركين بالكفر ، قالوا إن عموم البلوى بطيب القلب ، وعلى هذا قول الخنساء في بعض رثائها لأخيها صخر :
ولو لا كثرة الباكين عندي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أعزّي النفس عني بالتأسي
فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم في العذاب ولكن لا يروّحهم لعظم ما هم فيه ، (4/71)
ج 4 ، ص : 72
قال تعالى «أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ» في علم ربك الأزلي «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 40 كلا لا تقدر أن تهديه ولا تفدر على هداية من أضللناه
«فَإِمَّا» مركبة من إن الشرطية وما التأكيدية للشرط مثل لا التي في الاقسام «نَذْهَبَنَّ بِكَ» لنمينك وننقلك إلى الدار المهيأة لكرامتك قبل أن نوقع فيهم ما قدر لهم من العذاب «فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» 41 لك منهم بعدك في الدنيا وفي الآخرة لا محالة ، لأنا لا نتركهم سدّى وهم قد فعلوا ما فعلوا ، واقتصر بعض المفسرين هنا على عذاب الآخرة وبعضهم على عذاب الدنيا لقوله تعالى (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) إلخ الآية 43 من سورة يونس المارة والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وما جرينا عليه أتمّ فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام ، وأما تلك الآية فليس فيها ذكر الانتقام فلا تدل على تخصيص العذاب في الدنيا ، لأن من يهدده اللّه بعذابه في الآخرة لا يؤمنه من عذاب الدنيا ، كما أن من يعذبه في الدنيا لا يحتم عذابه في الآخرة «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ» به من العذاب الدنيوي قتلا وأصرا وجلاء في حياتك «فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» 42 في كل وقت ، وهذا من قبيل التسلية لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وإعلاما له بإنجاز وعده إياه بالانتقام الشديد من المشركين في حياته أو بعد وفاته ، وقد كررت هذه الآية معنى في الآية 46 من يونس والآية 77 من المؤمن المارتين وفي الآية 40 من سورة الرعد في ج 3 وغيرها لأنها بمثابة العهد لحضرة الرسول من ربه عز وجل بنصرته والانتقام له من أعدائه ، قال تعالي يا محمد «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ» من هذا القرآن وأدم العمل به كما أنت عليه «إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 43 في طريقتك لا ميل فيها ولا عوج «وَإِنَّهُ» القرآن الموحى إليك «لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» في حياتك وبعد موتك وشرف عظيم تذكرون فيه بالملأ الأعلى وفي الأرض «وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» 44 عنه يوم القيامة هل قمتم بحقه فشكرتموه حق شكره وعظمتم منزله حق تعظيمه أم لا راجع الآية 30 من سورة
الفرقان في ج 1 ، ويؤذن إفراد الضمير بالخطاب كله وجمعه آخر الآية أن المراد بمن يسأل هو قومه ، لأنهم هم الذين يترقب منهم التقصير حاشا البشير النذير أن يقصر في شكر ربه وتعظيمه ، (4/72)
ج 4 ، ص : 73
كان صلّى اللّه عليه وسلم قبل نزول هذه الآية إذا سئل لمن يكون الأمر في أمتك من بعدك ؟
يسكت ، لأن اللّه لم يخبره بذلك وهو لن ينطق من نفسه فيما هو من هذا القبيل ، فلما نزلت هذه الآية صار يقول لمن يسأله : هو لقريش.
وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان.
وروى البخاري عن معاوية قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبّه اللّه تعالى على وجهه ما أقاموا الدين.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال : كنت قاعدا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال ألا إن اللّه تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه وتعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه (الحديث).
راجع بحث النزول في المقدمة ، وفيه : فالحمد للّه الذي جعل الصدّيق من قومي والشهيد من قومي ، إن اللّه تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة ، إلى أن قال عدي ما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سرّه حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم.
وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية التي تشير إلى أن الإنسان بالطبع يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن هذا مرغوبا فيه لما امتنّ به على رسوله بقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ولما طلبه إبراهيم عليه السلام من ربه بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) الآية 84 من سورة الشعراء ج 1 ، وهو لا يسأل اللّه شيئا لنفسه من نجاته من النار ، راجع الآية 83 من الصافات المارة ، والآية 258 من البقرة في ج 3 وما يرشدانك إليه تقف على ما جرى لإبراهيم مع قومه وربه وأبيه والنمرود وغيرهم ، وذلك لأن الثناء خير من الغنى ، وقائم مقام الحياة الشريفة ، ولذا قيل ذكر الفتى هو عمره الثاني ، وقال ابن زيد :
إنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال الآخر :
إنما الدنيا محاسنها طيب ما يبقى من الخبر(4/73)
ج 4 ، ص : 74
فقد يكون الذكر أفضل من الحياة لأنه يحصل في كل مكان بخلافها ، حكي أن الطاغية هلاكو بعد أن بلغ ما بلغ من الظفر سأل أصحابه من الملك ؟ فقالوا أنت دوخت البلاد ، وأطاعتك الملوك ، وملكت الأرض ، وصار العباد في طوعك ، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن ، فقال كلا ، الملك هذا الذي له أكثر من ستمئة سنة قد مات ، وهو يذكر الآن على المآذن كل يوم وليلة خمس مرات ذكرا مكررا من ملايين الناس ، يريد محمدا صلّى اللّه عليه وسلم.
ولو لم يقل هذا الجبار هذه الجملة الدالة على حضرة الرسول لصرف قوله إلى الملك الأعظم حضرة المولى جلّ جلاله لأن ذكره على المآذن أكثر من ذكره رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ولاثيب بكلامه هذا ثوابا عظيما يوشك أن يقربه إلى اللّه ، ولكن أبت نفسه بل أبى اللّه أن يلهمه ذلك ، وهو إنما قالها بحق الرسول حسدا ليس إلا.
وهذه الآية نزلت في بيت المقدس قبل الهجرة زمن الإسراء ، فتصير مكية أيضا ، وهي «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» 45 قال ابن عباس لما أسري بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم بعث له آدم وولده من المرسلين ، فأذن جبريل وأقام الصلاة ، وقال يا محمد تقدم فصلّ بهم ، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل اسأل يا محمد وتلا الآية ، ان قريشا زعمت أن للّه شريكا وأن الملائكة بناته ، وزعمت اليهود والنصارى أن له ولدا ، فاسأل هؤلاء الأنبياء جميعهم هل كان شيء من ذلك ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت.
وقالت عائشة رضي اللّه عنها : قال عليه السلام ما أنا بالذي أشك ، وما أنا بالذي أسأل ، فكان صلّى اللّه عليه وسلم أثبت يقينا من ذلك.
هذا ، وقال أبو القاسم المفسر في كتابه التنزيل : نزلت هذه الآية في بيت المقدس ليلة المعراج ، فلما أنزلت وسمعها الأنبياء عليهم السلام أقرّوا للّه تعالى بالوحدانية وقالوا بعثنا في التوحيد ، وبهذا قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد ، وهذا القول أقوى وأوثق من القول بأنها نزلت في السماء ليلة المعراج ، لأن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لم يصلّ بالأنبياء في السماء ، وإنما صلى بالملائكة كما بيناه في قصة الإسراء والمعراج أول سورة الإسراء في ج 1 ، على أن ما وقع في المعراج لا يعد حجة لوجود الخلاف فيه بخلاف الإسراء المجمع عليه وعلى كفر من ينكره ، وكانت الصلاة بالأنبياء(4/74)
ج 4 ، ص : 75
ليلة الإسراء في بيت المقدس.
وهذا الأذان والصلاة الكائنة بالأنبياء في الأرض والتي بالسماء بالملائكة هي غير الأذان والصلاة المفروضة ، لأنها لم تفرض بعد إذ كان ذلك عند العروج ، وقد ذكرنا ما يؤيد هذا هناك ، وهذا التفسير أولى من تقدير كلمة (أمم) قبل لفظ (مَنْ) أي اسأل أمم من أرسلنا من قبلك من أقوامهم الموجودين في زمنك من أهل الكتابين وغيرهم ، إذ لا مانع من إجرائها على ظاهرها ، ولا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف أو تأويل آخر ، وعلى كل إنه لم يأت نبي ولا رسول ولا كتاب بعبادة غير اللّه تعالى القائل «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ» إلى فرعون «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» 46 إليكم وإلى بني إسرائيل ، وفيها تعريض لما يدعيه فرعون من الربوبية الكاذبة «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا» المار ذكرها في الآية 132 من الأعراف في ج 1 «إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ» 47 سخرية بها واستهزاء ، وقد علمت ما فعل اللّه بهم ، قال تعالى «وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» التي أريناها لهم قبلها ، أي أن كل آية منها موصوفة بالكبر والعظم على حد قولك إخواني كل منهم أكرم من الآخر أي كلهم كرماء ، وعليه قول الحماسي :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
أي كلهم أكابر عظماء «وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ» الأدنى أولا كالقحط والنقص والطوفان والدم والقمل والجراد «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 48 عن كفرهم لترحمهم فلم يرجعوا ، ولم تؤثر بهم الآيات ونقضوا عهودهم التي أعطوها لموسى بالإيمان به عند كشف كل آية «وَقالُوا» فرعون وملؤه «يا أَيُّهَا السَّاحِرُ» الماهر في السحر ، إذ كان السحرة عندهم مقدمين لما يرون من أعاجيبهم ، كما أن الطبيب كان مقدما زمن عيسى عليه السلام ، وذا الفصاحة في عهد محمد صلّى اللّه عليه وسلم وكان التفاخر بها ساريا بينهم فالطبيب والبليغ له القدم الأعلى عند قومه «ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» بأننا إذا آمنا يكشف عنا العذاب فاسأله يكشفه «إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ» 49 وقد دعى فكشف عنهم وعادوا مصرين على كفرهم ومتهمين رسولهم بالسحر ، قال تعالى «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ» الأخير كما هو الحال في كل مرة(4/75)
ج 4 ، ص : 76
إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» 50 بعهدهم أيضا ، ويقولون ما أصابنا إلا الخير لما يروا بعد كشف كل آية من آيات عذابهم خيرا وبسطة
«وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ» بقصد إغرائهم «قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» وكان قصره يمر من تحته نهر النيل يتدفق يمينا وشمالا ، قالوا له نعم ، ثم قال لهم «أَ فَلا تُبْصِرُونَ» 51 عظمتي وفقر موسى وضعفه ، قالوا نعم نبصر وقد جمعهم وخطب فيهم هذه الغاية ، قال لهم «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا» يشير إلى موسى عليه السلام وقد كذب بل شر من كل ذي شر ، ثم وصم موسى عليه السلام وحاشاه مما وصمه به ، فقال ما موسى بخير مني بل أنا خير من هذا «الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» 52 يفصح عن كلامه عايه الخبيث باللثغة التي سببها هو كما بيناه في الآية 27 من سورة طه في ج 1 ، وأجاب نفسه بالتفضيل عليه ولم ينتظر جواب قومه الذين جمعهم وألقى عليهم هذه الجملة ، إذ انتقل بنفسه من ذلك إلى الإخبار بالأخيرية ، وعليه قول الشاعر :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت بالعين أملح
ثم بين نوعا آخر من أسباب افتخاره فقال «فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ» مثلي ليعلم الناس أنه ألقي إليه مقاليد الملك فيطيعونه وينقادون لأمره ، وكان في ذلك الزمن إذا سور الرجل بسوارين من ذهب وطوق بطوق من ذهب يكون دلالة على سيادته في قومه ، ويريد الملعون بقوله هذا أن لو كان لما يدعيه موسى من صحة بأنه رسول اللّه رب العالمين أجمع لألبسه الذي أرسله أسورة ذهبية إعلاما برسالته وإيذانا بلزوم طاعته لينقاد له الناس «أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» 53 بعضهم ببعض متتابعين يشهدون له بصدق ما جاء به ويعينونه على من خالفه على الأقل إذا لم يحلّ بما يدل على السيادة والحاكمية ، قالوا له لم يسور ولم تأت معه الملائكة قال لهم حينئذ لا صحة لدعواه قالوا نعم ، وقد ظن اللعين أن الرياسة والقوة من لوازم الرسالة في المرسل ولم يعلم أن اللّه الذي أرسله كافيه عن ذلك ، ويقرب من قوله قول كفار قريش (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ) الآية 31 المارة.(4/76)
ج 4 ، ص : 77
مطلب الآية المدنيةو إهلاك فرعون ونزول عيسى عليه السلام وما نزل في عبد اللّه بن الزبعرى :
هذه الآية المدنية من هذه السورة وذلك أنه حينما تليت عليهم الآيات المارّة التي ذكرها اللّه تعالى عن فرعون قالوا وكيف أطاعه قومه وهم عقلاء ، وكان بهم قوام الملك ، وكيف سمعوا قوله ، قال تعالى «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ» بما موّه عليهم من كلامه ، ولمّا رآهم يسمعون له علم أنهم سخفاء ، لأنه يعلم أنه لا يصغي لقوله ذلك عاقل ، وأنه استفزهم بكلامه ، فأذعنوا له وطأطئوا رءوسهم لسلطانه ، وقد استزلهم بما ألقى عليهم من عظمة لجهلهم بحقيقة الأفضلية التي ذكرها لهم وعدم علمهم بأن الرسالة لا تستلزم الرياسة والمال والقوة ، وكانت هذه الثلاثة من دواعي التسلط على البشر فموّه عليهم بها وهو يعرف من أين تؤكل الكتف ، فصدقوا أقواله الواهية «فَأَطاعُوهُ» ووافقوه على تكذيب موسى بما استخف من عقولهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 54 خارجين عن الطاعة منقادين لإغواء فرعون مغرورين في النظر إلى الأمور الظاهرة ، قال تعالى «فَلَمَّا آسَفُونا» أسخطونا وأغضبونا بإفراطهم لطاعة فرعون وتفريطهم بالإعراض عن موسى وصاروا بحالة يؤسف عليها فقد استوجبوا إنزال العذاب عليهم وعدم الحلم الذي عاملناهم به لذلك «انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» 55 مع فرعون وملائه الذين أركسوهم بذلك «فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً» إلى النار وقدوة إلى الكفار «وَمَثَلًا» عبرة وموعظة «لِلْآخِرِينَ» 56 من بعدهم بأن صار حديثهم تتداوله الألسن وصار يضرب المثل لسيدهم ، فيقال لكل باغ لم يقبل النصح مثلك مثل فرعون ، وتقدمت كيفية إغراقهم في الآية 53 من سورة الشعراء ج 1 ، قال تعالى «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا» بالعبادة من حيث أن النصارى عبدته كما عبدت العرب الملائكة «إِذا قَوْمُكَ» يا سيد الرسل «مِنْهُ» من هذا المثل «يَصِدُّونَ» 57 بكسر الصاد أي يضجّون وقرىء بضمها بمعنى يعرضون عنك ولا يلتفتون لقولك ، والقراءة الأولى أولى
وأنسب بالمقام ، أي يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا أو ضحكا مع إعراض وتمايل «وَقالُوا» قومه من قريش «أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ» يعني عيسى عليه السلام يخاطبون(4/77)
ج 4 ، ص : 78
محمدا صلّى اللّه عليه وسلم قال له ربه «ما ضَرَبُوهُ لَكَ» أي المثل بعيسى «إِلَّا جَدَلًا» خصومة بالباطل لا حقا ولا لطلب التميز بين الحق والباطل ، بل لئلا يفهموا الحق فيذعنوا له «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» 58 ألدّاء شديد والخصومة واللجاج على طريق المغالبة والمكابرة والوقاحة ، أخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم تلا هذه الآية.
وقد نزلت هاتان الآيتان في عبد اللّه بن الزبعرى القرشي قبل إسلامه ، إذ كان يقول لحضرة الرسول إذا كان الآلهة المعبودة كلها في النار وأن اليهود عبدت عزيرا والنصارى عيسى بن مريم وبنو مليح من العرب عبدت الملائكة ونحن عبدنا الأوثان فترضى أن تكون آلهتنا مع هؤلاء ، ونحن مع أولئك ، إذ ليس ما عبدناه بأحسن مما عبدوه ، ولسنا بأحسن منهم أيضا ، ففرحت قريش ، ارتفعت أصواتهم بالضحك على زعمهم أنه حج محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين ، كيف وهم عبيد لمولاهم وهم أطوع الناس إليه ، ولم يرضوا بعبادتهم وأنهم سيتبرءون منهم بحضورهم في الموقف العظيم يوم يخيب ظنهم وظن أمثالهم بكل معبود من دون اللّه تعالى ، فرد اللّه عليهم بما تقدم من أنهم ضربوا لك هذا المثل على طريق الجدال عنادا وعتوا ، وسيأتي تمام هذا البحث في الآية 99 من سورة الأنبياء الآتية إن شاء اللّه فراجعه.
قال تعالى «إِنْ هُوَ» ما عيسى ابن مريم الذي ضربتم به الأمثال وقلتم ما قلتم فيه بأنه إله وهو براء من ذلك ، إذ ليس بإله وما هو «إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ» بالنبوة والرسالة كسائر عبادنا الذين اصطفيناهم لإرشاد العباد «وَجَعَلْناهُ مَثَلًا» عبرة عجيبة وآية كبيرة «لِبَنِي إِسْرائِيلَ» 59 إذ خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم من للتراب ، راجع الآية 90 من آل عمران في ج 3 ، وصار يضرب فيه المثل ليتأكدوا من قدرة اللّه تعالى ويعلموا أن العبد المخلوق لا يكون إلها ، قال تعالى «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا» ولدنا منكم يا أهل مكة وأنتم رجال ليس من شأنكم الولادة كما ولدنا حواء من آدم على خلاف ما جرت به العادة «مَلائِكَةً» كما ولدنا عيسى ، وهذا تذييل لوجه دلالته على القدرة البالغة وهو أعجب وأبدع من خلق عيسى من غير أب ، (4/78)
ج 4 ، ص : 79
أقررناهم «فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» 60 يخلفونكم فيها في
السكن والتصرف كما كنتم خلفا لمن قبلكم وكما يخلفكم أولادكم ، وإذا صيرناهم كذلك فإنهم لا يستحقون العبادة أيضا لأنهم مخلوقون مثلكم ، إلا أن خلقهم على طريق الإبداع وشأنهم التقديس والتحميد والتسبيح ، وأنتم خلقكم بطريق التوالد وشأنكم العمل ، ومع هذا فنحن قادرون على أن نخلقهم منكم ونجعلهم يعملون كما تعملون من عمارة الأرض ويعبدونني ويطيعونني كالملائكة في السماء ونجعلهم متصرفين في الأرض ، كما أن الملائكة يتصرفون في السماء
«وَإِنَّهُ» عيسى ابن مريم «لَعِلْمٌ» علامة «لِلسَّاعَةِ» أي نزوله من محل رفعه علامة على قرب القيامة ، وهذه الآية صريحة بأن سيدنا عيسى سينزل من السماء إلى الأرض التي رفع منها ، ويؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد.
وفي رواية أبي ذرّ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ليس بيني وبين عيسى نبي وانه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصّرتين (المحصرة من الثياب التي فيها صفرة خفية) كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل (أي أن له لمعانا وبريقا خلقة) فيقاتل الناس على الإسلام ، يدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك اللّه تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك الدجال ، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون.
وعنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم وفي رواية فامامكم منكم قال ابن ذؤيب فأمّكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلّى اللّه عليه وسلم.
ويروى أنه ينزل على تينة من الأرض المقدسة يقال لها أفيق (وهذه واقعة على بحيرة طبرية وهي مركز قضاء الزوية الآن من أعمال حوران ويحتمل أن رفعه كان منها) وبيده حربة وهي التي يقتل فيها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام فيقوم عيسى ويصلي خلفه علي شريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس (المراد بتخريبها إزالة ما فيها من الصور والتماثيل وقلبها إلى مساجد عادية أو أنه يهدمها جزاء لما(4/79)
ج 4 ، ص : 80
وقع فيها من المحرمات) ويقتل النصارى إلا من آمن أي آمن به ومشى على شريعته التي يقوم فيها في الأرض وهي شريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلم) وقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : ينزلنّ ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.
وقرأ ابن عباس (لعلم) بفتح العين واللام أي علامة على الساعة ، وهذه القراءة كالتفسير لعلم بكسر الغين وسكون اللام بأنه بمعنى العلامة وهي قراءة جائزة ولو كانت على خلاف ما عليه المصاحف إذ لا زيادة فيها ولا نقص ، أما ما جاء بأن أبيا قرأ (وإنه لذكر للساعة) فلا يجوز لأنها تخالف رسم القرآن وحروفه أيضا ، وكل قراءة هذا شأنها لا عبرة بها ولا قيمة لنقلها كما أشرنا إلى ذلك غير مرة ، وإن القراءات السبع كلها لا تخالف القرآن رسما ولا حروفا ، وما جاء فيها من مد المقصور وقصر الممدود وإشباع بعض الحروف بالحركات واختلاس بعض الحركات ونقلها لما بعدها وحذفها مثل بامركم وفي الأرض وبامركمو وما أشبه ذلك فلا بأس به ، إذ لا تبديل لأصل الكلمة ولا زيادة ولا نقص ، تدبر.
هذا وإن السيد عيسى عليه السلام كما أنه ثبت رفعه إلى السماء بالآية القرآنية 158 من سورة النساء في ج 3 وبالأحاديث الصحيحة ، كذلك نزوله ثبت في هذه الآية وبالأحاديث الصحيحة المار ذكرها ، وأنه عليه السلام يعمل بالشريعة المحمدية ويأخذ أحكامه من الكتاب والسنة ، وقال بعضهم إنه يأخذ الأحكام من نبينا عليه الصلاة والسلام شفاها بدليل حديث أبي يعلى الذي فيه : والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم ، ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنّه.
وقد تجتمع روحانيته بروحانيته ويأخذ عنه ، وقد وقع لكثير من الكاملين رؤيته صلّى اللّه عليه وسلم مناما والأخذ منه ، كما وقع لبعضهم رؤيته يقظة والأخذ عنه كالشيخ عبد القادر الجبلي والشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي والشيخ أبي العباس المرسي وغيرهم ، وواقعة الرفاعي رحمه اللّه مشهورة متواترة حينما زار قبره الشريف وقال بحضور جماعة لا يحتمل تواطؤهم على الكذب : (4/80)
ج 4 ، ص : 81
في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فمدها صلّى اللّه عليه وسلم وقبلها بحضور جم غفير وتناقلتها الركبان وشاع خبرها في مشارق الأرض ومغاربها ، وألفت فيها الرسائل والمدائح ، وقد رد الجلال السيوطي على منكري ذلك مستدلا بالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي.
وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد اللّه الخثعمي ومن حديث أبي بكرة ، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة وقال الإمام محمد بن أبي جمرة : هذا يدل على أن من يراه في النوم فسيراه في اليقظة ، وان رؤيته بصفته المعلومة إدراك الحقيقة ، ورؤيته على غير صفته إدراك للخيال.
هذا ، وقد جاء في الخبر : ما من مسلم يسلم عليّ إلا ردّ اللّه تعالى عليّ روحي حتى أرد عليه السلام.
وأخرج بن عدي عن أنس : بينا نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا ، فقلنا يا رسول اللّه ما هذا البرد الذي رأينا واليد ؟ قال قد رأيتموه ؟ قالوا نعم ، قال ذلك عيسى بن مريم سلم علي.
وفي رواية ابن عسكر عنه كنت أطوف مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا لم أره ، قلنا يا رسول اللّه رأيناك صافحت شيئا ولا نراه ، قال ذلك أخي عيسى بن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه.
فهذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على صحة الاجتماع بحضرة الرسول والأخذ عنه ، ولا بدع فقد جاء بالقرآن العظيم خطاب الملائكة لمريم في الآية 45 ولزكريا في الآية 39 من آل عمران في ج 3 ولإبراهيم ولوط في الآية 69 فما بعدها من سورة هود المارة وغيرها ، وثبتت رؤية الملائكة لكثير من أصحاب رسول اللّه بغير هورهم الحقيقية ، وإن قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) الآية 30 من سورة السجدة المارة تقيد جواز نزول الملائكة على غير الأنبياء.
أما صفة ذاته الشريفة التي يجتمع بها من يراه وكيفية حياته في البرزخ وردّ روحه إليه كما جاء في الحديث فلا يعلم حقيقتها إلا اللّه تعالى ، والصحيح أن عيسى عليه السلام قد يوحى إليه كما في حديث(4/81)
ج 4 ، ص : 82
مسلم وغيره عن النواس بن سمعان ، وجاء في رواية صحيحة : فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحوّل عبادي إلى الطور (أي لا قدرة ولا طاقة يقال ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان لأن المباشرة والدفاع إنما يكونان باليد واليدين فكأن يديه معدومتان لعجزه عن الدفع بهما) وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السلام وما جاء في الخبر : (ألا لا وحي بعدي) باطل لا أصل له ، وكذلك ما اشتهر أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد وفاه النبي صلّى اللّه عليه وسلم باطل لا أصل له أيضا ، ويرده خبر الطبراني : ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السلام.
فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه اللّه على الإيمان وهو على طهارته ، ومن نفى الوحي أراد نفى وحي التشريع وهو كذلك ، لأن ما ذكر من الوحي وحي لا تشريع فيه ، لأن شريعة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم باقية إلى الأبد ، وان عيسى عليه السلام يحكم فيها ويبقى في الأرض أربعين سنة وقيل سبع سنين تتمة الثلاث والثلاثين سنة التي مكثها قبل رفعه واللّه أعلم ، راجع الآية 55 من سورة المؤمن المارة لتقف على ما يتعلق في هذا البحث ، وان المهدي يقدمه للصلاة فيقول له إنما أقيمت لك ويصلي خلفه بما يدل على دفع توهم نزوله ناسخا بل متبعا لشريعة محمد ومؤيدا كونه مفتديا بشريعته ، وما عدا هذه الصلاة يكون هو الإمام دائما ، لأنه صاحب الوقت ولا يجوز أن يتقدم عليه أحد ، وان الدنيا ستيتهج بأهلها مدة مكثه ، ثم أنه عليه السلام يموت ويصلي عليه المؤمنون ويدفن بالحجرة الشريفة في الحرم النبوي.
وما بعده من خير لأهل الأرض وإذ ذاك يكون بطنها خيرا من ظهرها ، لأن موته عليه السلام علامة على قرب الساعة وهو حق واقع لا محالة «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» لا تشكوا بها أيها الناس إذ لا محل للشك في نزول عيسى ولا موته بعد إقامته المدة المقدرة له في الدنيا ، قال تعالى «وَاتَّبِعُونِ» إيها الناس واهتدوا بهداي وتمسكوا برسلي وتعبدوا بشرعي «هذا» الذي أدعوكم إليه على لسان رسلي «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 61 يوصل إلى النجاة فإياكم أن تنحرفوا عنه «وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ» عن سلوك هذا الطريق السوي ولا تسمعوا(4/82)
ج 4 ، ص : 83
لوساوسه بعدم التصديق بما جاءكم في كنابي وعلى لسان رسولي وعدم الإيمان بي «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» 62 عداوته من زمن آدم فاحذروه وتباعدوا عنه لا يوقعنكم بأشراكه فتندموا.
مطلب في عيسى عليه السلام أيضا وفي الصحبة وماهيتها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا :
قال تعالى حاكيا عن سيدنا عيسى عليه السلام زمن إرساله الأول بمناسبة ذكر نزوله «وَلَمَّا جاءَ عِيسى » قومه «بِالْبَيِّناتِ» التي أظهرها اللّه على يديه من إبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى وإحياء الموتى وغيرها «قالَ» إلى قومه المرسل إليهم «قَدْ جِئْتُكُمْ» يا بني إسرائيل «بِالْحِكْمَةِ» العدل والحلم والعلم والإنجيل والنبوة «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ» في الكتاب المنزل علي من ربي عز وجل «بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» من التوراة في أمر الدين والدنيا ، وقال في الآية 50 من آل عمران في ج 3 (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وكان عليه السلام غابة همه في الدعوة ما يتعلق بأمر الدين لأنه عن الدنيا بمعزل لذلك لم يبالغ في أمر الدنيا ولم يلتفت إليها ولم يلفت نظرهم إليها «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 63 فيما آمركم وأنهاكم وإني أقول لكم «إِنَّ اللَّهَ» فاطر السموات والأرض «هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ» لأني بشر مثلكم قد فضلني بالنبوة والرسالة «فَاعْبُدُوهُ» كما أنا أعبده وحده «هذا» الذي أنا عليه من التوحيد الذي أدعوكم إليه هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 64 يوصلكم إلى الجنة إن تمسكتم بعبادة ربكم الواحد «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ» من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى وتحزبوا عليه وهموا بقتله وهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية الذين كانوا في زمنه ، وقدمنا شيئا من هذا في الآية 165 من الأعراف في ج 1 ، «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم وغيرهم بالإنكار على عيسى والإصرار على قتله «مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» 65 في الآخرة راجع الآيتين 33/ 34 من سورة مريم في ج 1 ، قال تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ» قوم عيسى بإصرارهم على الكفر به وقتله «إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» على حين غرة من انهماكهم في هذه الدنيا «وَهُمْ(4/83)
ج 4 ، ص : 84
لا يَشْعُرُونَ»
66 بها وإذ ذاك يرون سوء صنيعهم فيه.
وإلى هنا انتهى ما جاء في حق عيسى عليه السلام.
قال تعالى «الْأَخِلَّاءُ» على المعاصي في الدنيا «يَوْمَئِذٍ» يوم تقوم الساعة ويقفون في الموقف يكون «بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» فيه ، لأن كلّا منهم يحمل على صاحبه وخليله بما حل به من العذاب ، فيقول له أنت الذي سببته لي «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» 67 الذين تحابوا في الدنيا على تقوى اللّه وتخاللوا من أجله فهؤلاء ينتفعون بها بالآخرة فيشفعون لبعضهم كما انتفعوا بها في الدنيا بأمر بعضهم بعضا بالمعروف ونهيهم عن المنكر ويرون ثواب ما كانوا مجتمعين عليه ويتناصحون فيه ، راجع الآية 63 من سورة يونس المارة والآية 31 من سورة إبراهيم الآتية في بحث الصداقة ، ويقول اللّه تعالى لهؤلاء «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» مما يخاف الناس العصاة من أهوال يوم القيامة «وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» 68 على ما فاتكم في الدنيا ، قال المعتمر بن سليمان إن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع ، فينادى يا عبادي ، فيرجوها كل أحد ، فيتبعها قوله عز قوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) التي أظهرناها على أيدي رسلنا «وَكانُوا مُسْلِمِينَ» 69 لنا منقادين لأوامرنا ، فييأس الكفار ويقفون حائرين مبهوتين ، ويقال لهؤلاء المؤمنين «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ» المؤمنات «تُحْبَرُونَ» 70 تسرون فيها وتنعمون بنعيمها فيظهر على وجوههم آثار الفرح والسرور والرضاء
ثم «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ» جمع صحيفة أواني الطعام «مِنْ ذَهَبٍ» بيان لنوعها وجنسها «وَأَكْوابٍ» أوانى الشرب من ذهب أيضا ، ولما كان الطعام عادة أكثر من الشراب جمع الصحاف جمع كثرة والأكواب جمع قله «وَفِيها» أي الجنة التي أدخلوها «ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» من المأكول والمشروب والملبوس والمنام والنساء وغيرها ، وجاء هنا ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهائها تخصيص بعد تعميم كما ذكر أولا الوصف الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف بأواني الذهب الذي هو بعض من النعيم والترفه تعميم بعد تخصيص ، قال تعالى «وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» 71 أبدا لا تتحولون عنها «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ» العظيمة بهية المنظر منعشه الأرواح(4/84)
ج 4 ، ص : 85
«الَّتِي أُورِثْتُمُوها» شبه اللّه تعالى ما استحقوه بأعمالهم الصالحة من الجنة ونعيمها الباقي لهم ، بما يخلفه الرجل لوارثه من الأملاك والأموال ، ويلزم من هذا التشبيه تشبيه العمل نفسه بالمورث بكسر الراء فاستعير الميراث لما استحقوه ، ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية ، وقيل تمثيلية ، وجاز أن تكون مكنية ، فالتبعية هي التي لا تجري الاستعارة فيها ابتداء غير اسم الجنس بل تبعا ، وردها السكاكي إلى المكنية ، وهي لفظ المشبه به المتروك المستعمل في المشبه المرموز إليه بذكر لازمه كلفظ السبع المتروك في قولنا : أظفار المنية نشبت بفلان ، والتمثيلية هي الهيئة الحاصلة في الذهن المنتزعة من عدة أمور نحو إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، لمن يتردد في الفتوى والأمر ، ولكل أقسام مذكورة في محلها ، وقد فسرها الخطيب بغير هذه التفاسير ، ومن أراد تمام الاطلاع على هذا فليراجع علم البيان.
هذا ، ويقول اللّه تعالى قوله وقد جعلت لكم الجنة ميراثا «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 72 بسبب عملكم الطيب في الدنيا ونعم الميراث الجنة الدائمة من الدنيا الفانية يا عبادي الأبرار «لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ» لا يحصى نوعها ولا جنسها فهي ألوان وأشكال وطعمها متنوع لا يقدر أن يصفها واصف ولا يعدها عاد «مِنْها تَأْكُلُونَ» 73 متى اشتهيتم بلا تعب ولا ثمن ، أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال : قال رجل يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل ؟ قال إن يدخلك اللّه الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من يا قوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت.
وسأله آخر فقال : يا رسول اللّه هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل ؟ قال فلم يقل له ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك.
وجاء في حديث آخر أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا بنت مكانها مثلها.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما من أحد إلّا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالكافر يرث المؤمن منزلته في النار والمؤمن يرث الكافر منزلته في الجنة وذلك قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) الآية ، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 43 من سورة الأعراف وله صلة في الآية 32 من سورة النحل الآتية.(4/85)
ج 4 ، ص : 86
وأخرج هناد وعيد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال : تجوزون الصراط يعفو اللّه ، وتدخلون الجنة برحمة اللّه ، وتقتسمون المنازل بأعمالكم.
أي بفضل اللّه لأن الأعمال وحدها لا تكفي ، وهذا معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلم : لن يدخل أحدكم الجنة.
بعمله أي على سبيل الاستقلال والسببية ، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث.
واعلم أن الآية السابقة تفيد أن ما كان بين الناس في الدنيا من مودة ومحبة وخلة تنقطع كلها إلا ما كان منها على تقوى اللّه وطاعته ورضاه ، وهؤلاء هم المتحابون في اللّه ، المتصادقون على محبته.
روي عن علي كرم اللّه وجهه في تلك الآية قال : خليلان مؤمنان وخليلان كافران ، مات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك ، يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني ، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه ، فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب ، قال ويموت أحد الكافرين فيقول يا رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني
غير ملاقيك ، يا رب أضلّه ولا تهده كما أضلني ، ولا تكرمه كما أهانني ، فإذا مات خليله الكافر جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه ، فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب.
وقيل في هذا :
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك ان ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وقال الآخر :
وتعجب في قطعي مودة صاحب وقد كنت قدما مولعا بوداده
فقلت لها يا عزّ لا تعجبي له من الحزم قطع العضو عند فساده
هذا وقد ذكر اللّه تعالى الملاذ كلها ولم يذكر اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجهه الكريم ، على انها تدخل في قوله (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وعلى هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم فيما رواه النسائي عن أنس : حبب إليّ الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة.
وقال قيس بن ملوح : (4/86)
ج 4 ، ص : 87
ولقد هممت بقتلها من حبها كيما تكون خصيمتي في المحشر
حتى يطول على الصراط وقوفنا وتلذ عيني من لذيذ المنظر
ولهذا قال جعفر الصادق رضي اللّه عنه : شتان ما بين ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذّ الأعين كإصبع تغمس في البحر ، لأن شهوات الجنة لها عد ونهاية لأنها مخلوقة ، ولأتلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل جلاله ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية.
ولسائل أن يسأل هل في الجنة توالد لأنه من جملة ما تشتهيه النفس ؟ فالجواب نعم أخرج الإمام احمد وهناد والدارمي وعيد بن حميد وابن ماجه وابن حبّان والترمذي وحسّنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول اللّه إن الولد من قرة العين وتمام السرور ، فهل يولد لأهل الجنة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي.
قال ابن منده لا ينكر هذا الحديث إلا جاهل أو جاحد أو مخالف للكتاب والسنة لأنه من جملة ما يشتهى وهو مذكور في الكتاب والسنة.
وقال في حاوي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم.
وقال السفاريني في البحور الزاخرة حديث أبي سعيد أجود أسانيده اسناد الترمذي.
وقال الأستاذ أبو سهيل فيما نقله الحاكم إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ.
وأما من قال إنه لا يولد لهم فقد احتج بقوله تعالى (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) والمطهرات لا يحضن ولا ينفسن كما أنهن لا يبلن ولا يتغوطن ، وان الولد يجعل من المني ولا مني هناك ، ويعقبه الطمث والوجع ولا وجع هناك ، ولم ينظر.
هذا القائل إلى أن اللّه تعالى قادر على أن يولدهن في الجنّة بلا نفاس ولا ألم ويحملهن بلا حيض وبلا مني ، لأن في اشتراط لزوم ذلك تعجيزا للقدرة.
وما قيل إن التوالد في الدنيا لبقاء النوع الانساني وهو باق في الجنة بلا توالد فيكون عبثا ، يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب والسماع والنظر فإنها للدنيا لشيء ، وفي الجنة لشيء آخر.
بقي هنا أن من أصحاب النفوس الخبيثة الذميمة من يقول انه ليشتهي اللواط في الجنة وهو بعيد عنها كما يشتهيها في الدنيا وهو من أهلها ، فيقال(4/87)
ج 4 ، ص : 88
له إنها لا تكون في الجنة لأن ما لا يلبق أن يكون فيها لا يشتهيه أهلها لأن أنفسهم طاهرة سليمة من الأرجاس ، والجنة مقدسة لا يدخلها إلا مقدس وهذه الفعلة القبيحة لا يشتهيها في الدنيا إلا ذو والأنفس الرذيلة مثل المعتزلي الذي أشرنا إليه في الآية 84 من الأعراف في ج 1 ومن تحدثه نفسه بذلك ويشتهي اللواطة في الجنة فالجنة عليه حرام ، لأن ذلك دليل على ولعه فيها والوالع فيها لا شك مستحلّ ومستحل الحرام كافر بالإجماع ولا يشم ريح الجنة لوطي ، وهو داخل في قوله تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ» 74 لأنها خبيثة وأهلها خبثاء وأنفسهم خبيثة والخبيث أحق أن لا يخرج من النار ويدوم عليه العذاب وأجدر أن «لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ» العذاب أبدا «وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» 75 آيسون من رحمة اللّه وأنى لأمثالهم الرحمة في الآخرة وكانوا لا يؤمنون بها وكيف يرجون لطف اللّه وهم قد كفروا به ، قال تعالى «وَما ظَلَمْناهُمْ» بتخليدهم بالعذاب لأنا لا نعذب أحدا بلا جرم «وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ» 76 أنفسهم بجناياتهم وشهواتهم وسوء فعلاتهم الدنيئة.
قال تعالى «وَنادَوْا يا مالِكُ» خازن النار يستغيثون به ، قيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ يا مال فقال ما أشغل أهل النار عن الترخيم ، وهذا الثناء على طريق الاستفهام المعنوي «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» هذا العذاب فنموت ونستريح منه فرد عليهم بقوله «قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» 77 فيه لا خلاص لكم منه خلود بلا موت ، راجع الآية 108 من سورة هود المارة «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ» الذي وعدناكم به على لسان رسلنا يا أهل النار «وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» 78 لأنكم في الدنيا كنتم تنفرون عنه ولا تقبلونه لما فيه من تعب النفس وعدم رغبتها له وقد اخترتم رغبة الدنيا عليه فتعبتم بالآخرة.
قال تعالى مخبرا حبيبه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بما يحوك في صدر قومه من تجمعاتهم ومذاكراتهم في شأنه «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً» في المكر بك والكيد لك ، وذلك أنهم كانوا مجتمعين في دار النّدوة يتناجون فيما يفعلونه به ليتخلصوا منه وقد بعث رحمة لهم ، قال تعالى لا تخشهم يا حبيبي «فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» 79 أمورا كثيرة من أنواع الكيد والمكر بأعظم وأكبر مما يتصورونه ومهيئون لهم ما يدحض إبرامهم مما(4/88)
ج 4 ، ص : 89
يخلصك منهم «أَمْ يَحْسَبُونَ» هؤلاء الكفرة الذين يريدون اغتيالك بما تسول لهم أنفسهم الضالّة الغاشمة فيظنون «أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى » وحياتك يا حبيبي أنا أسمع له منهم وأعلم بما تحدثه به أنفسهم «وَرُسُلُنا» أيضا الموكلون بالخلق والمرسلون لهذه الغاية «لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» 80 ما يقع منهم سرا وعلنا لا يتركون منه شيئا ، لأنا أرسلناك لتدبر لهم أسباب الرحمة الدائمة رحمة بهم ، وهم يحيكون لك أسباب العذاب ليجلوك أو يحبسوك أو يقتلوك ولجهلهم لا يعلمون أنا حافظوك منهم ومن غيرهم ومؤيدوك عليهم ، وهذا إيماء لحضرة الرسول بالهجرة عن قومه الذين أشغلوا أنفسهم بكيفية التخلص منه وهو متعب نفسه الكريمة بماهية خلاصهم من الكفر وإنجائهم من العذاب ، ولكن كل ينفق مما عنده ، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يزعمون أن الملائكة بنات اللّه «إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ» كما تظنون «فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» 81 له المعظمين شأنه ولسبقتكم بطاعته كما يعظم ابن الملك احتراما للملك ، وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد لأنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال ، فالمعلق بها محال مثلها ، ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج حين قال له : واللّه لأبدلنك في الدنيا نارا تلظى ، فقال سعيد لو عرفت هذا إليك ما عبدت إلها غيرك.
وهاتان الآيتان باعيتان على المشركين عداوتهم لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وإسنادهم الولد إلى اللّه وهو منزه عنه «سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» 82 من الافتراء عليه وهو براء من الولد وغيره «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل ودعهم «يَخُوضُوا» في أباطيلهم «وَيَلْعَبُوا» في دنياهم ويستبروا في اللهو «حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 83 به بالدنيا قتلا وأسرا أو الجلاء والموت وفي الآخرة بأنواع العذاب الأليم «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ» الآية يعبد ويقدس ويطاع لا إله غيره له الخلق والأمر.
ونظير هذه الآية 4 من سورة الأنعام المارة من حيث المعنى فكأنه جلّ ذكره ضمّن معنى المعبود فيهما وحذف الضمير الراجع إلى الموصول لطول الكلام ليصح تعليق الجار والمجرور فيه وهو هو(4/89)
ج 4 ، ص : 90
ولا يقال هنا إن النكرة إذا أعيدت تكون غير الأولى لأن المعنى هنا أن نسبته إلى السماء بالألوهية كنسبته إلى الأرض ، وهي دلالة قاطعة على أنه تعالى غير مستقر في السماء وكما أنه غير مستقر في الأرض وهو إلههما فكذلك هو إله السماء مع أنه غير مستقر فيها تدبر.
ومن الشك فاحذر فتسقط إلى الحضيض.
واعلم أن كل ما خطر ببالك فاللّه تعالى غير ذلك ، راجع الآيتين 18/ 103 من سورة الأنعام المارة «وَهُوَ الْحَكِيمُ» في تدبير خلقه «الْعَلِيمُ» 84 بما يصلحهم «وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها فلا يعلمه غيره «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 85 في الآخرة «وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ» لأن أمرها منوط به وحده وما يزعمون من أن أوثنهم تشفع زور وبهت ، لأنها باطلة ولا يأذن اللّه بالشفاعة لأحد «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» كالأنبياء والرسل والملائكة ومن يشاء من عباده العارفين الكاملين ، ولمن يأذن لهم من غيرهم أن يشفعوا له «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» 86 بحالة المشفوع له لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعوّل عليها.
وجمع الضمير هنا باعتبار معنى من ، كما أن الإفراد باعتبار لفظها والاستثناء متصل لأن المراد به أي بالذين يدعون هم المشركون وبمن دونه كل من يعبد من دون اللّه عز وجل لما في معنى من من معنى الشمول والعموم.
وسبب نزول هذه الآية أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا بأنه يشفع لمن يتبعه فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة منه وكذلك قول اليهود والنصارى إن عزيرا والمسيح يشفعان لهم ، فردّ اللّه تعالى على هؤلاء كلّهم بأن ما يتوخونه من الشفاعة من أولئك باطل لأنهم لا يملكون شيئا من الشفاعة لهم ، وأن الذين يمكن أن يشفعوا هم الذين اعترفوا بالإله الواحد الحق إذا خولهم ذلك لمن يشاء من عباده ، فالشافعون مقيدون بمشيئة اللّه والمشفوع لهم مقيدون برضاء اللّه ، راجع الآية 79 من سورة الإسراء والآية 109 من سورة طه في ج 1.
ولهذا البحث صلة في الآية 28 من سورة الأنبياء الآتية ، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أوثانكم أم اللّه «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» الذي خلقهن لعلمهم بعجز أوثانهم لأنها من صنع أيديهم فقل لهم عند ذلك «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» 83 تختلقون(4/90)
ج 4 ، ص : 91
القول بأن أصنامكم شركاء للّه ، والشريك لا بد وأن يعمل مثل شريكه أو أقل منه وشركاؤكم عاجزون عن عمل شي ما في السموات والأرض ، فكيف تسندون لهم أمر الشفاعة وهم لا يدفعون عن أنفسهم سوءا ، وكيف تعبدون غير اللّه مع اعترافكم بأنه خالقكم ورازقكم ؟ وفي هذه الجملة تعجيب مما هم عليه من المناقضات «وَقِيلِهِ» قول محمد صلّى اللّه عليه وسلم «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ» قومي «قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» 88 بك ولا يصدقوني وفيه معنى التحسر والتحزّن منه صلّى اللّه عليه وسلم وهنا قد شكا إلى ربه تخلف قومه عن الإيمان كما قال ابن عباس وقال قتادة هذا نبيّكم يشكو قومه إلى ربه وهو آسف من ذلك.
وفيه معنى القسم أي وحق قيله ، وإنما أقسم بقيله لبيان رفع جنابه وعلو شأنه والتعظيم لدعائه والتبجيل لا لتجائه إليه ، قال تعالى «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ» يا سيد الرسل لا تدع عليهم وأمهلهم كما أمهلتهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم «وَقُلْ سَلامٌ» أي اتركهم الآن لأن السلام هنا سلام متاركة لا سلام تحية ، ومن قال إنه سلام تحية استدل بجواز السلام على الكفار وابتداؤهم بالتحية محتجا بما أخرجه ابن أبي شيبة عن شعيب بن الحجاب قال كنت مع علي بن عبد اللّه العارفي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه ، فقال شعيب فقلت انه يهودي أو نصراني فقرأ علي هذه الآية.
وما أخرجه بن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد اللّه قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف تقول في ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال ما أرى بأسا أن تبدأهم ، قلت ولم ؟ قال لقوله تعالى وتلا هذه الآية.
وان هذين الحديثين لا حجة فيهما ، لأن اليهود والنصارى من أهل الكتاب الذين لا يقولون بنبوة عيسى وكونه ثالث ثلاثة ولا بإلهيته ، والذين لا يقولون بنبوة عزير وبالبداء على اللّه من اليهود وليسوا من الكفار والمشركين مع اللّه غيره المعهودين بقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) 89 عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم وقبيح اعتقادهم وفساد آمالهم وخيبة رجائهم لأنها بحقهم خاصة لا دخل لأهل الكتابين بها والأولى بالسياق أن يكون سلام متاركة مثل سلام ابراهيم عليه السلام لأبيه ، كما مر في الآية 47 من سورة مريم في ج 1.
هذا ، وما قيل ان هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل غير سديد ، قال الإمام : وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل ، لأن الأمر(4/91)
ج 4 ، ص : 92
لا يفيد الفعل الا مرة واحدة ، فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ ، ومثله يمين الفور فهي مشهورة عند الفقهاء ، وهي دالة على أن اللفظ المطلق قد يتقيد بحسب قرينة العرف ، وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ واللّه أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب.
هذا واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيرا ، آمين.
تفسير سورة الدخان
عدد 24 - 64 - 24
نزلت بمكة بعد الزخرف وهي تسع وخمسون آية وثلاثمائة وست وأربعون كلمة ، وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «حم» 1 تقدم ما فيه وهو رمز بين اللّه ورسوله لا يعلمه غيرهما ، وهذا من معجزات القرآن (أن المنزل عليهم لا يعلمون وقت انزاله أن هناك كلمات معروفة عند المخاطب أو المخاطب مجهولة عند غيرهما ، ومنه أخذت الملوك الرموز فيما بينهم (شفرة) لا يعرفها غيرهم ، ثم أقسم جل قسمه فقال «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 المظهر الحلال والحرام والحدود والاحكام.
وجواب القسم قوله «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» أي القرآن العظيم المقسم به بلفظ الكتاب «فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» هي ليلة القدر السابعة والعشرون من شهر رمضان سنة 41 من ميلاده الشريف ، إذ أنزل فيها جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا بحسب ما أراده اللّه تعالى القائل (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية 186 من سورة البقرة في ج 3 ، وقال هنا (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وقال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) السورة المارة في ج 1 ، وانما وصفها بالبركة إذ لا أبرك ولا أعظم ولا أحسن ولا أشرف مما نزل فيها ، لا سيما أنها كانت ليلة الجمعة فصارت مباركة من وجوه شتى ، وإنما أنزله ليلا لأن الليل زمن المناجاة ومهبط النفحات ومورد(4/92)
ج 4 ، ص : 93
الكرامات ومحل الاسرار ومجمع الأبرار وفيه فراغ القلوب واجتماع المحب بالمحبوب بخلاف النهار.
ولهذه الأسباب وقع الإسراء ليلا كما أشرنا اليه أول سورة الاسراء ج 1 فراجعها وراجع سورة القدر وآية البقرة المذكورة أعلاه لتقف على ما يتعلق بها.
مطلب في ليلة القدر وليلة النصف من شعبان وفضل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعمال :
وتفسير هذه الليلة بليلة القدر هو ما عليه ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد وابن زيد والحسن وأكثر المفسرين وهو الموافق لظاهر التنزيل وهناك أقوال لعكرمة وغيره بأنها ليلة النصف من شعبان المسماة ليلة البراءة ومشى عليه بعض المفسرين لما روى البغوي بسنده أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل ينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى.
ولما روى عن عائشة رضي اللّه عنها قالت قصدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال يا عائشة أكنت تخافين أن يحيف اللّه عليك ورسوله ؟ قلت ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك ، فقال إن اللّه عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بنى كلب. - أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه - قالوا وبينها وبين ليلة القدر أربعون أو واحد وأربعون يوما ما عداهما ، ويقول ابن عباس رضي اللّه عنهما إن اللّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر.
وهذه الأحاديث والأقوال على فرض صحتها غاية ما فيها عدّ ليلة النصف من شعبان مباركة ، وهو كذلك لأنها لا تزال معظمة يقومها الناس ويصومها البعض ويتصدقون فيها ، إلا أنها ليس فيها ما يدل على أن القرآن أنزل فيها ، ولا يوجد ما يقابل النصوص الظاهرة الصريحة المارة المثبتة بأن المراد في هذه الليلة الواردة في هذه السورة هي ليلة القدر وما ورد لا ينافي أفضلية ليلة البراءة المشار إليها بما تقدم وبما أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن اللّه تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى(4/93)
ج 4 ، ص : 94
السماء الدنيا فيقول : ألا مستغفر فأغفر له ، ألا مسترزق فأرزقه ، ألا مبتلي فأعافيه ، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر.
وبما أخرجه أحمد ابن حنبل في المسند عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : يطلع اللّه تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس ، وفي رواية وقاطع رحم.
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تؤيد أفضليتها على غيرها عدا ليلة القدر ، ولا أعلم كيف صرفوا هذه الليلة إلى ليلة النصف من شعبان مع صراحة القرآن بأنها ليلة القدر ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ولا يوجد حديث صحيح يصرفها بل ولا غير صحيح ، وأما أقوال المفسرين فمجرد اجتهاد منهم وقد أخذ بعضهم عن الآخر دون استناد لقرآن أو سنة ، ولم يذكر في هذه الأحاديث أنها ليلة النصف من شعبان ، وهنا يظهر لك قول المغالين بأنها ليلة البراءة أنه غير مستند على نص صريح من الكتاب والسنة أنها هي ، أما فضلها فلم يختلف فيه اثنان.
واعلم أن ما ورد في فضل بعض الليالي والأيام والأوقات وما قيل إن للّه خواصّ في الأزمنة والأمكنة والأشخاص هو بالنسبة لما يقع فيها من الأعمال والأفعال والأقوال ، وإلا فالأيام والساعات والمواقع متساوية من حيث هي ، وعلى هذا فإن أفضل السنين السنة التي ولد فيها محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهي عام الفيل التي حمى اللّه بها بيته ، وأهلك من قصد نخريبه أبرهة ومن معه ، وأفضل الشهور شهر رمضان لذكره تعالى باسمه في القرآن العظيم ولإنزال القرآن فيه ولتشريف سيدنا محمد بالرسالة فيه أيضا ، ثم ربيع الأول لوقوع ولادته الشريفة فيه ، ثم رجب لانه مفرد الأشهر الحرام المذكورة صراحة في القرآن الكريم ولوقوع الإسراء فيه وتحريم القتال فيه ، ثم شعبان لوقوعه بين رجب ورمضان ولكون ليلة البراءة فيه المحترمة لسنية صيامها وقيامها ، وقد ورد بارك اللّه في خميسها وسبتها لوقوعهما في جوار الجمعة ، ثم ذو الحجة لوقوع الحج فيه ولكون الأيام المعدودات والمعلومات المنوه بهما في القرآن العظيم فيه ومنها يوم عرفه ويوم التروية ويوم النحر وأيام التشريق ، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها ، ثم شوال لوقوعه بين رمضان وذي القعدة
الحرام ولكون عيد الفطر فيه واستحباب صيام الأيام الستة منه ، ثم ذو القعدة لمجاورته ذا الحجة ، ولهذا(4/94)
ج 4 ، ص : 95
فإن الدار إذا كانت بين جيران صالحين تفضل على غيرها وتعتز بجوارها حتى قيل بجيرانها تغلو الديار وترخص.
ثم المحرم شهر الأنبياء ورأس السنة وآخر الأشهر الحرام وفيه يوم عاشوراء وفيه أجاب اللّه تعالى دعوة أنبيائه وأهلك أعداءه.
وأفضل الأيام يوم الجمعة لما فيه من اجتماع الناس لسماع الذكر ، ولأنها بمثابة العيد وجاء أنها حج المساكين وفيها ساعة الإجابة ، راجع الآية 4 من سورة القدر في ج 1.
هذا في الأزمنة ، أما الأمكنة فأفضل بقعة في الأرض بل وفي السماء البقعة التي ضمت جثمان سيد الكائنات عليه أفضل الصلاة والسلام ، وقد أجمع على هذا السلف والخلف ولما دفن فيها رثته ريحانته فاطمة رضي اللّه عنها فقالت :
ماذا على من شمّ تربة أحمد أن لا يشمّ مدى الدهور غواليا
صبّت علي مصائب لو أنها صبّت على الأيام صرن لياليا
وقال الأعرابي حينما زار تلك الروضة المطهرة :
يا خير من دفنت في الترب أعظمه وطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي فداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ورثاه حسان رضي اللّه عنه فقال :
كنت السواد لناظري فعمى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر
ولم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق بمثل هذا ، ثم المسجد الحرام المشتمل على الكعبة المعظمة ، وقد جاء أن الصلاة فيه تعدل مئة ألف صلاة بغيره ، ثم مسجده صلّى اللّه عليه وسلم لاحتوائه على الروضة المقدسة ، وورد أن الصلاة فيه تعدل ألفا بغيره ، ثم المسجد الأقصى لاحتوائه على الصخرة الشريفة والحرم المقدس مهبط الأنبياء ومجمع أضرحتهم الطاهرة ، وجاء أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة بغيره ، مما يدل على أفضلية هذه المواقع الكريمة ، ثم مدافن الأنبياء والأولياء العارفين والعلماء الكاملين لقربهم من اللّه تعالى والجوامع والمساجد والمحال التي يقام ذكر اللّه بها ويتلى فيها كتابه وأحاديث نبيه.
أما الأشخاص فأفضل من عليها الرسل الفخام والأنبياء العظام ، ثم الأمثل فالأمثل من الأولياء العارفين والعلماء العاملين والشهداء والشجعان المقاتلين(4/95)
ج 4 ، ص : 96
في سبيل اللّه فمن دونهم ، وقد نص اللّه تعالى على تفضيل الأنبياء وكونهم درجات لما أوتوا من منّ اللّه عليهم وتوفيقه ، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.
وأما الأعمال فلبعضها أيضا فضل وشرف على بعض بالنسبة لفاعلها وللزمان والمكان المعمولة فيه وبحسب النيات والمقاصد والإخلاص ، قال ابن الفارض رحمه اللّه :
وعندي عيد كل وقت أرى به جمال محياها سبعين قريرة
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت كما كل أيام اللقا يوم جمعة
أما التسمية فمقتضى الحال سميت ليلة القدر لما يقدر اللّه تعالى فيها من الأمور ، وسميت مباركة لما يعود فيها من البركة على العاملين فيها وليلة الرحمة لما يقع فيها من رحمات الرحمن على عباده ، وسميت ليلة البراءة ليلة النصف من شعبان لما أن من قبل فيها برىء من الذنوب وصار كيوم ولدته أمه نقيا وليلة الإجابة لما أن اللّه يطلع فيها على عباده فيجيب ما يطلبونه منه ، وليلة العرض لما فيها من اطلاع اللّه تعالى على عباده المتعرضين لألطافه ، وليلة الصك لأن العامل إذا استوفى الخراج من الناس أعطاهم صكا بوفاء ما عليهم من الذّمة فكذلك الباري جل جلاله يكتب لعباده المقبولين صكا بقبول أعمالهم وغفران ذنوبهم ، ويوم العيد لأن اللّه تعالى يعود بالإحسان على عباده فيه ، وقد جاء في الخبر : إذا كان يوم العيد وخرج الناس إلى الجبّانة يقول اللّه تعالى ما حق الأجير إذا أكمل عمله ؟ فتقول الملائكة أن يعطى أجره ، فيقول اللّه اشهدوا أني قد غفرت لهم.
وليلة التروية لأن الخليل رأى فيها ذبح ولده ، وليلة عرفة لأنه عرف أن تلك الرؤيا من اللّه حقا فعزم على تنفيذها ، ويوم النحر لنحر إبراهيم ولده إسماعيل وفاء لأمر ربّه.
هذا ، وما قيل إن آدم عليه السلام تلاقى مع حواء في عرفة فسمي به لم يثبت ثبوتا يصح الاستناد إليه ويستدل فيه ، وهكذا لم يوضع اسم إلا لمعنى في الأصل زمن وضعه واللّه أعلم.
قال تعالى «إِنَّا كُنَّا» نحن إله السموات والأرض ولم نزل «مُنْذِرِينَ» 3 الناس أن يجتنبوا مخالفتنا ويحذروا عقابنا ، واعلموا أيها الناس أن تلك الليلة المباركة «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» 4 مفصول مقضى به حسب حكمتنا بمقتضى إرادتنا ، قال ابن عباس يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر(4/96)
ج 4 ، ص : 97
ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج فيبرم وينفذ ذلك ، لأن الكتابة لا تكون إلا ليلة البراءة كما تقدم ، قال تعالى ما معناه نأمر بكل شيء «أَمْراً» نصب على الاختصاص وإن الأمر المحكم الذي أنزلناه حاصل «مِنْ عِنْدِنا» بمقتضى علمنا وتدبيرنا وحكمتنا «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» 5 الرسل إلى الأمم السابقة لأجل إرشادهم وقد أرسلناك يا محمد إلى من على وجه الأرض وخاصة لأهل زمانك «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» إليهم ورأفة بهم ونعمة عليهم «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم إذا أجابوا دعوتك وآمنوا بك «الْعَلِيمُ» 6 بأفعالهم كلها.
ومن قال إن الضمير في أنزلناه لا يعود للكتاب وأراد بالكتاب اللوح المحفوظ المقدس أعاده إلى غير موجود لمعلوميته كما في قوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) كما أشرنا إليه في الآية 34 من الشورى المارة ، قال تعالى «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «مُوقِنِينَ» 7 به عن علم فهو رب هذين الهيكلين العظيمين ومن فيهما ومرسل الرسل رحمة ومنزل الكتب هدى ، وهذا كما تقول إن هذا الإنعام الكثير هو انعام فلان الذي تسامع الناس بكرمه وداع صيته لدى الخاص والعام ، أي بلغك حديثه أو حدثت عنه أو ذكرت لك قصته «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» عنى القطع والجزم هو الذي «يُحْيِي وَيُمِيتُ» وهل تعلم أحدا يقدر على هذا غيره ، كلا ثم كلا ، هذا هو الإله العظيم القهار «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» 8 لا ربّ غيره ، وإن هذه الأصنام ليست بآلهة لأحد وليست بقدرة على شيء من ذلك بل عاجزة عن كل شيء ، قال تعالى مخبرا نبيه بعدم إيقانهم بذلك «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ» منه ، ولذلك تراهم «يَلْعَبُونَ» 9 فلم يتأثروا من هذه الآيات ولم يلقوا لها بالا ولم يوقروا مبلغها لهم بل يسخرون منه ويستهزئون به «فَارْتَقِبْ» يا سيد الرسل عذابهم «يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ» 10 يراه كل أحد وذلك أن الهواء يتكدر في سني الجدب والقحط لما يخالطه من الغبار فيراه الرائي كأنه دخان حتى ان الجائع يصير على بصره مثل الغشاوة فيرى الفضاء ما بينه وبين السماء كأنه دخان
«يَغْشَى النَّاسَ» أجمع حتى يقولوا من شدة جزعهم منه «هذا عَذابٌ أَلِيمٌ» 11 لا يطيقه البشر ، ولهذا سماه عذابا ووصفه بكونه مؤلما ، لأنه ناشىء عن شدة الجوع.(4/97)
ج 4 ، ص : 98
مطلب آية الدخان والمراد ببكاء السماء والأرض ونبذة من قصة موسى مع قومه وألقاب الملوك وقصة تبّع :
وليعلم أن هذا الدخان ليس بالدخان الذي هو آية من آيات الساعة ، لأن ذلك لم يحضره حضرة الرسول ، ولو كان المراد هو لما خاطبه به بقوله تعالى :
(فَارْتَقِبْ) وإنما هو ما ذكرنا واللّه أعلم ، وذلك لمن حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لما رأى قومه لا يزالون يتمادون في الإنكار والكذب دعا عليهم فقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف.
فأجاب اللّه دعاءه فأخذتهم سنة قد حصت أي أهلكت كل شيء حتى أكلوا الجيف والجلود وقد أثر فيهم الجوع حتى صار أحدهم يرى الفضاء كهيئة الدخان ، فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة اللّه وبصلة الرحم وإن قومك أنهكهم الجوع ، فادع اللّه لهم يرفع عنهم ما حل بهم وإلا هلكوا.
فأنزل اللّه هذه الآية إلى قوله (عائِدُونَ).
يؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن مسروق قال : كنا جلوسا عند عبد اللّه ابن مسعود وهو مضطجع بيننا ، فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن قاصّا عند باب كنده يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام ، فقام عبد اللّه وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا اللّه ، من علم منكم شيئا فليقل به ومن لا يعلم شيئا فليقل اللّه أعلم ، فإن من العلم أن يقول ، اللّه أعلم ، فإن اللّه عز وجل قال لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) الآية 88 من سورة ص في ج 1 ، إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما رأى الناس إدبارا ، قال اللهم سبعا كسبع يوسف.
وفي رواية للبخاري قالوا «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» 12 فقيل له إن كشفنا عنهم القحط عادوا فدعا ربه فكشف عنهم وسقوا الغيث ، وأطبقت السماء عليهم فشكوا كثرة المطر فلجأوا إليه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال اللهم حوالينا ولا علينا فكشف عنهم.
ومع ذلك عادوا إلى إصرارهم وكفرهم فانتقم اللّه منهم يوم بدر ، فذلك قوله تعالى (فَارْتَقِبْ) إلى قوله (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ).
هذا ، وإطلاق الدخان على ما يراه الجائع(4/98)
ج 4 ، ص : 99
أو على الذي يرى عند تكدر الهواء لا يأباه وصفه بقوله (مُبِينٍ) لأنه مما يتخيل ويتوهم أنه دخان ظاهر ، وقد يقره العقل.
واعلم بأن إرادة الجدب من هذا الدخان والمجاعة مجاز من باب ذكر السبب وإرادة المسبب ، وهذا هو الصارف عن إرادة الظاهر ، لأنه لو كان المراد به الدخان الذي هو من علامات الساعة لما صح قوله تعالى على لسانهم (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) ولم يصح أيضا قوله جل جلاله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) الآية ، إذ لا يكون شيء من ذلك يوم القيامة.
هذا ، وما روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال (خمس قد مضين أي من علامات الساعة اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان) فهو غير هذا الدخان المقصود في هذه الآية ، وعلى فرض صحته فيها وهو بعيد فتكون الآية على ظاهرها وتلزم بأن نقول إن المخاطب بها غيره صلّى اللّه عليه وسلم ممن لم يخلق بعد أو نجبر أن نقول بوقوعها في زمانه صلّى اللّه عليه وسلم وهو خلاف الواقع ، إذ لم يثبت أن هذه العلامة وقعت بزمنه صلّى اللّه عليه وسلم.
وعلى كل الحالين فلا يصح تأويلها به واللّه أعلم.
هذا وقد وقع في دير الزور وأطرافها سنة 1931 - 1932 غبار في أوقات متفرقة بسبب انقطاع الأمطار ويبس الأرض وارتفع بالجو فأظلم الأفق وصار ذلك الفضاء العظيم ملآن بما يشبه الدخان حتى أنرلنا المصابيح لأنا صرنا بحالة لم ير أحدنا الآخر من كثافة ذلك الغبار ولا نستطيع الخروج إلى الساحات والطرق وضاقت النفوس وأولئك كثير من الأطفال والشيوخ أن يهلكوا لو لا أن منّ اللّه تعالى علينا بكشفه بعد ساعات ، بما يدل على أن هذا مثل ذلك ، وأن الدخان الذي هو من علامات الساعة لم يقع بعد ، وما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أول الآيات الدخان ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين (على وزن اقرن جزيرة اليمن) تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا.
قال حذيفة يا رسول اللّه وما الدخان ؟ فتلا هذه الآية (المارة) يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام ، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره ، فعلى فرض صحة هذا الحديث فهو صريح بأنه يكون آخر الزمان وهو من علامات الساعة ولا ينطبق(4/99)
ج 4 ، ص : 100
بصورته المبينة في هذا الحديث على هذه الآية بمقتضى ما فسرت به وواقع الحال في ذلك الزمن ، إذ لم يثبت وقوعه البتة على الصورة المبينة في هذا الحديث ، وتلاوة الآية من قبل حضرة الرسول على فرض صحته يكون من قبيل التمثيل ، لأن الآية صالحة لذلك مجازا لا حقيقة ، وعليه فإن ما جرينا عليه من التفسير هو ما عليه جمهور جهابذة المفسرين ومروى عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد ومقاتل واختاره الزجاج والقراء.
قال تعالى «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى » أي كيف يتذكرون ومن أين يتعظون بما أصابهم «وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ» 13 لكل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم فهو أعظم واولى من أن يتذكروا به ولم يتذكروا «ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لإرشاده «وَقالُوا مُعَلَّمٌ» من قبل الغير يعنون عداما غلاما لبعض ثقيف أعجمي ولم يكتفوا بقولهم معلم بل قالوا «مَجْنُونٌ» 14 أيضا لأنه يغشى عليه كالمجنون ، وذلك أنهم يرونه حين ينزل عليه الوحي كالمغمى عليه ، قال تعالى «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ» القحط الذي حل بكم إجابة لدعوة نبيكم ومؤخرون العذاب الآخر «قَلِيلًا إِنَّكُمْ» يا أهل مكة «عائِدُونَ» 15 إلى الكفر والجحود لا محالة سواء أمهلناكم أم لا ، ولهذا لم نرجئكم كثيرا ، فانتظروا «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى » فيكم بالدنيا في بدر وغيرها وفي الأخرى أكبر وأشد لأن يوم بدر مهما كان عظيما لا يبلغ هذا المبلغ الموصوف بالآية ولا يحصل به الانتقام النام من الكفرة ، ولكن يوم القيامة بعد الفصل بين الناس «إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» 16 منكم الانتقام القاسي وناهيك بالجبار إذا كان هو المنتقم كفانا اللّه شر انتقامه «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ» قبل قومك يا سيد الرسل «قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» 17 على ربه مثل ما أنت كريم عليه ، ولما كان إرساله للقبط قوم فرعون ولبني إسرائيل قومه قال موسى لفرعون وملائه «أَنْ أَدُّوا» أعطوا وسلموا «إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ» الذين استعبدتموهم وتخلوا عنهم «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ» من اللّه بذلك «أَمِينٌ» 18 على أداء الرسالة إليكم «وَأَنْ لا تَعْلُوا» تترفعوا وتتبختروا وتستكبروا «عَلَى اللَّهِ» الذي أرسلني إليكم ، وإن شئتم بيّنة على صدقي «إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ(4/100)
ج 4 ، ص : 101
مُبِينٍ»
19 دليل واضح وبرهان ساطع تقتنعون به إذا لم يتغلب عليكم العناد والمكابرة.
فلما سمعوا هذا منه هددوه وتوعدوه بالقتل إن لم يكف عنهم فقال لهم «وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ» 20 تقتلوني رجما بالأحجار أو تؤذوني بكلام قبيح ، وإنما قال عذت ، لأن اللّه تعالى أخبره بقوله (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) الآية 35 من سورة القصص في ج 1 ، راجع تفسيرها
ولوثوقه بعهد ربه أنهم لا يتمكنون من أذاه كرّ عليهم فقال «وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» 21 أيها القبط وخلوني واتركوا لي بني إسرائيل قومي إذ أيس منهم وعلم بإعلام اللّه إياه أن القبط لا يؤمنون «فَدَعا رَبَّهُ» قائلا في دعائه «أَنَّ هؤُلاءِ» القبط قوم فرعون «قَوْمٌ مُجْرِمُونَ» 22 لا يهتدون إلى الرشاد لكثرة إجرامهم ، فاهلكهم يا رب وأنجز لي وعدك فيهم ، فأجابه بقوله «فَأَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل خاصة «لَيْلًا» وهذا إعلام بتلبية طلبه بإهلاك القبط وإنجاء بني إسرائيل «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ 23 من فرعون وقومه ، فخرج بهم إلى البحر فدخله وقومه ، ثم تبعه فرعون وقومه فدخلوه وراءهم حتى صاروا جميعا فيه ، قال تعالى «وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً» ساكنا على حالته حتى يكمل خروج قومك منه ويكمل دخول آل فرعون «إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» 24 كلهم جميعا لا محالة وأنت وقومك كلهم ناجون فلا تستعجل ، فامتثل أمر ربه ، ولما تم خروج بني إسرائيل وتكامل دخول القبط أمره ربه أن يأمر البحر ينطبق عليهم ، فأمره فانطبق عليهم ، فلم ينج منهم أحد ، كما لم يغرق من بني إسرائيل أحد ، ثم نعى اللّه تعالى حال المغرقين بعد أن اطمأن موسى وقومه فقال «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 25 تدفق بين البساتين «وَزُرُوعٍ» متنوعة تركوها «وَمَقامٍ كَرِيمٍ» 26 محل قعود مزخرف عظيم بناؤه كانوا ينعمون به وليس بمقام واحد بل مقامات كثيرة بدليل التنكير «وَنَعْمَةٍ» جليلة وهي نعم كثيرة أيضا عظيمة «كانُوا فِيها فاكِهِينَ» 27 ناعمين أشرين بطرين ، لأنهم لم يقدروها ولم يشكروها ، لذلك حرموا منها «كَذلِكَ» مثل هذا الفعل الفظيع أفعل بأعدائي فيذهبوا هدرا «وَأَوْرَثْناها» تلك البساتين والأنهار والقصور وغيرها(4/101)
ج 4 ، ص : 102
«قَوْماً آخَرِينَ» 28 هم بنو إسرائيل إذ عادوا إلى مصر بعد ذلك واحتلوا محالهم «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ» إذ لا عمل صالح لهم يصعد إلى السماء أو يعمل في الأرض لتفقداه فتبكيان على فقده بخلاف المؤمنين فإنهما تبكيان عليهم لأن لهم فيها عملا صالحا قارا وصاعدا ، وذلك لأن السماء تبكي على فقد عبد كان لتسبيحه وتكبيره وتهليله وقراءته فيها دوي كدوي النحل ، وإن الأرض تبكي على فقد عبد كان يعمرها بالقيام والركوع والسجود والقعود للصلاة والاعتكاف والذكر وللإصلاح بين الناس قال النابغة :
بكى حارث الجولان من فقد ربه وحوران منه جاشع متضائل
وقال جرير :
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
وقال الفرزدق يرثي عمر بن عبد العزيز :
الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
أي لا تعجب كيف طلعت في زمن حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة.
والقمر منصوب بواو المعية ونجوم منصوب بكاسفة ، وقرأ بعضهم برفع النجوم والقمر على أنهما فاعل تبكي ، والأول أولى تدبر.
ونقل صاحب الكشاف عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : ما من مؤمن يموت في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض.
«وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» 29 لو أنهم طلبوا الانتظار حين نزول العذاب ولم نمهلهم ، لأنه وقع في وقته المقدر ، وهو لا يتقدم ولا يتأخر «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ» 30 هو قتل أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة والاسترقاق ، ولا هوان يضاهيه ، ولا مهانة تساويه ، وتلك الحقارة عليهم
«مِنْ فِرْعَوْنَ» وقومه وملائه «إِنَّهُ كانَ عالِياً» على ما في أرض مصر وتوابعها أجمع متكبرا عليهم متجبرا يفعل فيهم ما يشاء ، عاتيا «مِنَ الْمُسْرِفِينَ» 31 في أنواع الظلم ، إذ تجاوز حده حتى انه ادعى الربوبية «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» 32 لأنا قدرنا أن يكون منهم أنبياء وأولياء وملوك وأمراء وأناس صالحون لزمانهم «وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ» بعد إنجائهم من الفرق الذي هو الآية الكبرى بحقهم(4/102)
ج 4 ، ص : 103
وإغراق أعدائهم بآن واحد وإنزال المن والسلوى عليهم وإظلالهم بالغمام وتفجير الماء من الصخرة في التيه وغيرها «ما فِيهِ بَلؤُا» اختبار وامتحان «مُبِينٌ» 33 ظاهر لننظر كيف يعملون ، ونظهر لمن بعدهم ذلك ، ونري من عاصرهم إياه ، وإلا فنحن عالمون بما يقع منهم قيل خلقهم ، راجع قصتهم مفصلة في الآية 52 فما بعدها من سورة الشعراء في ج 1 ، قال تعالى بعد أن قص على حبيبه ما جرى لموسى مع قومه «إِنَّ هؤُلاءِ» قومك يا سيد الرسل «لَيَقُولُونَ» 34 لك عند ما تخبرهم بالبعث بعد الموت «إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» 35 بعدها مرة ثانية ويقولون لك لفرط «جهلهم فَأْتُوا بِآبائِنا» الذين ماتوا قبلنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 36 أنا نحيا بعد الموت ، قال تعالى «أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ» ملك اليمن ، قالوا إن المراد به أسعد بن مليك المكنّى بأبي كرب ، وكانت ملوك اليمن تلقب بلفظ تبع ، كما أن ملوك الحبشة تلقب بالنجاشي والروم بقيصر والفرس بكسرى والقبط بفرعون والترك بخاقان والعرب بالخليفة ، وسمي تبعا لكثرة أتباعه بالنسبة إلى غيره في ذلك الزمن عدا قوم الملك حمير لأن الملك كان فيهم ، يقول اللّه تبارك وتعالى يا أكرم الرسل إن قومك المتطاولين عليك ليسوا بأحسن من قوم تبع لا في العمل ، ولا أقوى منهم في الشدة ، ولا أكثر منهم في الأموال والأولاد والعدد والعدد ، فلما ذا يتطاولون عليك ؟ قالوا وكان تبّع سار بقومه وجيوشه نحو المشرق وحيّر الحيّرة وبنى سمرقند وعاد إلى المدينة حيث ترك ابنا له فيها عند ذهابه ، وعلم أن أهلها قتلوه غيلة وصار يقاتلهم لأجله ، وصمم على استئصالهم وتخريب بلدتهم ، وصار أهلها يقاتلونه نهارا ويقرونه ليلا ، فقال إن هؤلاء لكرام ، ثم جاءه حبران عالمان من بني قريظة وقالا له أيها الملك لا تفعل ما صممت عليه وإن أبيت أن تسمع قولنا حيل بينك وبين ما
تريد ، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة ، قال ولم ؟ قالا إن هذه المدينة مهاجر نبيّ يخرج من قريش اسمه محمد ، وسيكون في منزلك الآن قتال بين أصحابه وعدوهم ، قال ومن يقاتله وهو نبي ؟ قالا قومه ، فانكف عن قتالهم وعدل عن استئصالهم وتخريب بلدتهم ، وترك دم ابنه حرمة لما قالوه ، وقفل إلى اليمن وأخذ الحبرين مع نفر(4/103)
ج 4 ، ص : 104
من اليهود معه بغاية الإكرام ، فصادفه بالطريق نفر من هذيل وقالوا له ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة ، قال ما هو ؟ قالوا له مكة وأرادوا بذلك إهلاكه لأن مكة لا يقصدها أحد بسوء إلا أهلكه اللّه كما هو متعارف بينهم ، فاستدعى الحبرين واستشارهما في ذلك ، فقالا له لا تفعل ، لأن هؤلاء لم يريدوا نصحك وإنما أرادوا قتلك لأن هذا البيت لا يناوئه أحد إلا هلك فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله ، فقال أفعل وأخذ النفر من هذيل وقطع أيديهم وسمر أعينهم ثم صلبهم ودخل مكة فنزل الشعب الطامح ونحر فيه ستة آلاف بدنه وكسا البيت بالوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كساه كما أن أول من سمي تبعا أول ملوك اليمن ، وأقام فيه ستة أيام ، وطاف وحلق ، وانصرف ، فلما دنا من اليمن حال من فيها من قومه بينه وبين دخوله ، لأنه ترك دينهم ، فخطب فيهم ودعاهم إلى الإيمان باللّه وحده وهو خير من دينهم ، لأنهم عبدة أوثان ، فطلبوا منه أن يتحاكموا إلى النار التي هي أسفل جبل عندهم ومن شأنها أن تحرق الظالم ولا تضر المظلوم ، فوافقهم على ذلك ، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إليها في دينهم ، وخرج هو والحبران وما معهما من الكتب في أعناقهما ، وقعد الفريقان عند مخرج النار ، فخرجت وغشيتهم ، فأكلت الأوثان وما قربوه لها معها ، والرجال
الذين كانوا يحملون القرابين ، وخرج الحبران يتلوان التوراة ، ونكصت النار حتى رجعت إلى المحل الذي خرجت منه فأعلن تبع إيمانه باللّه وأصر قومه على الكفر ، فذمهم اللّه «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الكافرة وأخبر عن مصيرهم بقوله جل قوله «أَهْلَكْناهُمْ» بكفرهم وعدم انقيادهم للإيمان كما أهلكنا قوم تبع هؤلاء بسبب عنادهم.
قالوا وكان هذان ومن معهم أصل اليهود في اليمن ، وان تبعا آمن بمحمد حسب إخبارهما له عنه قبل مبعثه وولادته ، وكان بينه وبين مبعثه سبعمئة سنة ، ومما نسب لتبع هذا قوله :
وكسونا البيت الذي حرم اللّه حلاء معصيا وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرا وجعلنا لنا به إقليدا
وخرجنا منه نؤم سهيلا قد رفعنا لواءنا معقودا(4/104)
ج 4 ، ص : 105
هذا وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن سهيل بن سعد قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم.
وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت : لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا ، ألا ترى أن اللّه تعالى ذم قومه ولم يذمه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به عيسى بن مريم.
وهذا يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام ، والأول أصح لأن الحبرين لم يذكرا عن عيسى شيئا ، ولعله آمن بما جاء به موسى لأن الحبرين من أتباعه ، والحادثة هذه قبل الميلاد بمئة وثلاثين سنة تقريبا ، أو أنه عاش لمبعث عيسى عليهم السلام ، قالوا وإن الحبرين أخبراه لا يدرك محمدا صلّى اللّه عليه وسلم فأوصى الأوس والخزرج أن يقيموا بالمدينة وأن يؤازروه إذا خرج وهم أحياء ، وأن يوصوا من بعدهم بمؤازرته ، وقال رحمه اللّه أيضا :
حدثت بأن رسول المليك يخرج حقا بأرض الحرم
ولو مدّ دهري إلى دهره كنت وزيرا له وابن عم
قالوا وكتب كتابا بإيمانه وأودعه لديهم على أن يعطيه لحضرة الرسول العربي من يبلغ زمانه منهم.
قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» 38 لأنه إذا لم يكن بعث ولا حساب يترتب عليه الثواب والعقاب ، فيكون خلق الخلق لمجرد الفناء لعبا بل عبثا ، وهذا دليل قاطع على البعث.
ولبحثه صلة في الآية 16 من سورة المؤمنين الآتية ، فراجعه.
«ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» الجد الصحيح القاطع «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 39 ذلك ولهذا قال المؤمنون (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الكون وما فيه (باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الآية 191 من آل عمران في ج 3 ، قال تعالى مهددا لهم ولأمثالهم من الكفرة «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ» بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل والمؤمن والكافر «مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ» 40 قومك فمن قبلهم ومن بعدهم
«يَوْمَ لا يُغْنِي» فيه «مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً» من الأشياء أي لا تنفع القرابة والصداقة والخلّة والسيادة من أي ولي كان «وَلا هُمْ» الموالي والرؤساء «يُنْصَرُونَ» 41 أيضا فلا يقدرون على نصرة أنفسهم ، ولا دفع العذاب عنهم ، (4/105)
ج 4 ، ص : 106
فكيف ينفعون غيرهم «إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ» فلا يخلص من العذاب غير الذين يرحمهم اللّه فإنهم يخلصون ويشفعون لغيرهم أيضا بإذن اللّه لمن يشاء رحمته.
راجع الآية 86 من سورة الزخرف المارة «إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أعدائه «الرَّحِيمُ» 42 بأوليائه.
قال تعالى «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ» 43 مرّ ذكرها في الآية 42 من الصافات فراجعها فهي «طَعامُ الْأَثِيمِ» 44 في جهنم وهي خاصة بكثيري الآثام كبيري الكفر عامة ، وما قيل إنها خاصة في أبي جهل على فرض صحته لا يقيد عمومها وشرابه فيها «كَالْمُهْلِ» در درى الزيت وعكره ووسخه حال حرارته «يَغْلِي فِي الْبُطُونِ» 45 حال نزوله فيها «كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» 46 الماء المتناهي في الحرارة.
أخرج الترمذي وقال حديث صحيح عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه ، أجارنا اللّه ثم يقال لذلك الأثيم بعنف وشدة «خُذُوهُ» جرّوه واسحبوه «فَاعْتِلُوهُ» احملوه وأوقعوه «إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ» 47 وسطها «ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ» 48 الماء الشديد الغليان وإضافة العذاب إلى الحميم إضافة مبالغة أي عذابا هو الحميم ، وسمي عذابا لعظم حرارته ، ثم يقال له على سبيل التبكيت والتحقير «ذُقْ» هذا أحد أنواع العذاب المخصّصة لك «إِنَّكَ» تزعم في الدنيا «أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» 49 عند قومك وتصف نفسك بهاتين الصفتين ، ولا تعلم أيها الكافر أن العزيز من أعزه اللّه ، لا من أعزته الدنيا بحطامها ، والكريم من أكرمه اللّه لا من احترمه الناس لماله أو جاهه أو عشيرته أو رياسته :
مطلب دعاء أبي جهل في الدنيا ومأواه في الآخرة ونعيم الجنة ومعنى الموتة الأولى :
قيل كان أبو جهل يقول : ما بين لابتيها (يريد مكة) أعز وأكرم مني فتقول له خزنة جهنم على طريق التوبيخ والتقريع والسخرية (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).
واعلم أن لفظ الشجرة فيها ثلاث لغات : فتح الشين وكسرها وإبدال الجيم ياء ، ويوجد الآن طائفة من العرب في العراق ينطقون الجيم ياء فيقولون ريل بدل رجل.
ويقال لهذا الأثيم أيضا «إِنَّ هذا» العذاب جزاء «ما كُنْتُمْ بِهِ»(4/106)
ج 4 ، ص : 107
في الدنيا «تَمْتَرُونَ» 50 تشكون بصحته ولا تصدقون من أخبركم به ، هذا وقد علمت أن هذه الآية عامة في جميع الكفار فيدخل فيها أبو جهل وأضرابه دخولا أوليا لأنهم كانوا يقاومون حضرة الرسول بأنواع المقاومات وهو أكرم الخلق وأعزهم على اللّه.
انتهى وصف حال أهل النار حمانا اللّه منها.
وهناك وصف أهل الجنة ، رزقنا اللّه إياها ،
قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ» 51 من كل سوء ، والمقام بفتح الميم المكان وهو من الخاص الذي استعمل بمعنى العام ، وبالضم موضع الإقامةِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ»
52 جارية خلالها لزيادة البهجة وحسن النضارة ، وأهل هذه الجنات «يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ» الحرير الرقيق «وَإِسْتَبْرَقٍ» ما ثخن منه ويسمى ديباج قيل هو أعجمي معرب أو أنه خرج من الأعجمية لاستعماله في العربية قبل نزول القرآن.
ومعنى التعريب جعل الكلام الأعجمي عربيا لتصرفه وإجرائه مجرى الكلمات العربية بتغيره عن منهاجه الأعجمي وتمشيته على أوجه الإعراب ، راجع الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1 ، تقف على جميع الكلمات الموجودة في القرآن المقول فيها إنها أعجمية هي عربية ، «مُتَقابِلِينَ» 53 يعني هؤلاء الأبرار في جلوسهم ، ينظر بعضهم إلى بعض بشوق ومحبة ، وهذا من آداب المجالسة والمخاطبة ، لأن في الصدود وإعطاء الظهر للجليس والمخاطب إهانة وعدم اكتراث بكلامه ، راجع الآية 44 من سورة الصافات المارة والآية 16 من سورة الواقعة في ج 1 ، «كَذلِكَ» كما أكرمناهم بما ذكرنا ، فقد أحببناهم «وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» 54 نقيات بيض واسعات الأعين يحار الرائي من وصفهن «يَدْعُونَ فِيها» يطلبون أهل الجنة «بِكُلِّ فاكِهَةٍ» أرادوها فتحضر لهم حالا «آمِنِينَ 55 من تعب قطفها وانقطاعها وغسلها ، لأن ثمر الجنة يدنو لطالبه ، دائما لا ينقطع ، طاهر زكي لا يتقيد بموسم ، أو بقطر كثمار الدنيا ولا ينقص ، إذ يخلق اللّه بدله حين قطفه ، ومهما أكثروا من أكلها فهم بمأمن من مضرّتها ، بخلاف ثمار الدنيا ، لأن اللّه تعالى جعل في كل قطر زمنا للفواكه والخضراوات بحسب ما يوافق أهله ، والبيئة التي هم فيها ، حتى ان الحكماء الأقدمين حذروا أكلها بغير موسمها ، وقبل نضجها ، ولو علم اللّه فيها خيرا لهم لجعلها دائمة(4/107)
ج 4 ، ص : 108
في كل مكان ، إذ لا يعجزه شيء ، ولجعلها مما يدخر كالزيتون والتين والتمر والزبيب وغيرها ، ولذلك ينبغي أن يتحاشى عن أكلها في غير موسمها وقيل نضجها ، ويكثر منها وقتها لما فيها من النفع للوجود بصورة لا تؤدي إلى التخمة ، قال تعالى «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ» لأن الجنة محل الخلود دائما «إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى » التي فارقوا الدنيا بها ، وإنما ليستثنى الموقة الأولى من موت الجنة مع أنها لا موت فيها البتة ، لأن السعداء جعلنا اللّه منهم إذا ماتوا يصيرون بلطف اللّه تعالى إلى أسباب الجنة لما يرون من نعيم برزخ القبر فيلقون فيه الروح والريحان ، ويرون منازلهم في الجنة عند خروج أرواحهم ، كما مر في الآية 89 من سورة الواقعة فى ج 1 ، فكأن موتهم في الدنيا كان في الجنة لانصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها ، لأن اللّه تعالى قال في سورة الواقعة المذكورة (إِذا بَلَغَتِ) الروح (الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) عند بلوغ الروح الحلقوم لا تقدرون على التكلم ولكنكم (تَنْظُرُونَ) منزلتكم في الجنة أو النار ، وإنما جعل اللّه تعالى هذه الرؤيا في تلك الحالة حتى لا يقبل فيها إيمان ولا توبة لأنها حالة يأس ، وإلا لما مات أحد على الكفر ، راجع الآية 90 من سورة يونس المارة وما ترشدك إليه من الآيات المتعلقة في هذا البحث.
قال تعالى «وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» 56 وقرىء ووقّاهم بالتشديد للتكثير «فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ» أي أن ذلك العطاء بمجرد الفضل من اللّه لأن أعمالهم لا تؤهلهم ذلك ولا بعضه ، بل لا يستحقون بعملهم على اللّه شيئا ، لأنه مهما كان كثيرا لا يقابل بعض نعم اللّه عليهم «ذلِكَ» وقايتهم من النار وإدخالهم الجنة «هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» 57 الذي لا أعظم منه.
قال تعالى ملتفتا لحبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ» القرآن المشار إليه أول السورة «بِلِسانِكَ» يا سيد الرسل «لَعَلَّهُمْ» قومك المشار إليهم آنفا في الآية 22 المصدرة بقوله (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي لعلهم يتفكرون به فيؤمنون حين «يَتَذَكَّرُونَ» 58 به فيتعظون ويرجعون عن غيّهم وطغيانهم وإلا «فَارْتَقِبْ» فيهم نزول العذاب كما «إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ» 59 ما يحل بك من الدوائر بزعمهم ، وستكون عليهم دائرة السوء.
هذا ، ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف ، لأن(4/108)
ج 4 ، ص : 109
غاية ما فيها إخبار اللّه تعالى نبيّه عما يحل بقومه الكافرين وما يناله عباده المؤمنين ، ومن المعلوم أن الاخبار والوعيد والتهديد لا يدخلها النسخ ، راجع بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة.
هذا ، ولا يوجد سورة مختومة في هذه اللفظة غير هذه.
وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
تفسير سورة الجاثية
عدد 15 - 65 - 45
نزلت بمكة بعد سورة الدخان عدا الآية 14 ، فإنها مدنية ، وهي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمانون كلمة ، وألفان ومئة وواحد وتسعون حرفا ، وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «حم» 1 راجع ما قبله تجد معناه «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» القرآن عليك يا سيد الرسل «مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 2 لتبشر به المؤمنين وتنذر به الكافرين الذين يطلبون منك نزول الآيات «إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القدير كافية «لِلْمُؤْمِنِينَ» 3 بها فلا حاجة لإنزال غيرها ، لأنهم إذا أجالوا النظر وأنعموا الفكر فيها تزيدهم هدى ونورا إذا أرادوا الإيمان ، والذين لا يريدونه لا تنفعهم كثرة الآيات لأنهم لا يستدلون بها على موجدها ، فلا تزيدهم إلا عمى وضلالا ، لأن فيهما «وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ» فيهما «مِنْ دابَّةٍ» صغيرة أو كبيرة ناطقة أو عجماء «آياتٌ» أيضا لأن في هذه الدواب المختلفة الجنس والنوع والعقل والمعاش والفعل والتناسل دلائل كثيرة على الصانع المبدع «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 4» أنه الإله الفعال لكل شيء ، أما الذين لا يوقنون فلو ملأت لهم الأرض آيات لا يؤمنون لأنهم في غفلة عن ما يؤدي لفوزهم وخلاصهم «وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» وما يحصل من تعاقبهما من ظلمة ونور ، وزيادة ونقص ، وطول وقصر بصورة منتظمة لا تنخرم حتى يأذن اللّه بخراب هذا الكون ، آيات أيضا عظيمات دالات علي حكمة الحكيم لمن كان له قلب حي «وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ» غيث(4/109)
ج 4 ، ص : 110
لأنه ينشأ عنه ومن هنا للتأكيد والتقوية راجع الآية 13 من سورة المؤمن المارة ويراد به هنا المطر للعلة نفسها هناك لأن أعظم الأرزاق هو الماء ومنه يتغذى ما يكون رزقا لجميع الخلق «فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ» التي هي معدن الأرزاق «بَعْدَ مَوْتِها» يبسها ويبس نباتها ، وفيها الاستدلال على البعث بعد الموت ، لأن الذي أحياها يحيي الموتى «وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ» يمينا وشمالا شرقا وغربا ، وجعلها باردة وحارة ومعتدلة وشديدة كدرة وصافية لينة وعاصفة «آياتٌ» عظيمات أيضا دالات على وجود الإله المغير لها المعبود بالحق وعلى نفي الأوثان العاجزة عن كل شيء «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 5 مراد اللّه في ذلك كله.
اعلم أرشدك اللّه أن في ترتيب هذه الآيات آيات أيضا لمن تدبرها وتفكر فيها ، لأنه إذا نظر هذين الهيكلين الجسيمين علم بالضرورة أنه لا يقدر على صنعها إلا الرب العظيم فآمن به ، وإذا تفكر في خلق نفسه وكيفة تقلبها من حال إلى حال فنظر في أصل خلقه وخلق الحيوانات بالولادة والتولد ومصيره ومصيرها ازداد إيمانا ، وإذا استحد فكرته وراجع فطنته في الحوادث المتجددة ليل نهار وما يقع صباح مساء أيقن بأن لا فاعل مختار لهذه الأشياء إلا الواحد القهار ، وإذا تدبر تصاريف الرياح وتقلبات الدهر واستدل بإحياء الأرض بالمطر بعد اليبس الذي هو بمثابة الموت لها على حياة البشر بعد موته لأن السبب واحد فيهما استحكم إيمانه وكمل يقينه وعقل الحكمة التي أرادها ربه من إيجاد الكون وأخلص للّه ففاز بخير الدنيا والآخرة ، ولهذا ختم اللّه الآية الأولى بالمؤمنين ، والثانية بالموقنين ، والثالثة بالعاقلين ، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث أفلح وفاز فاعقل هذا في الدنيا هداك اللّه لحكمته لتتوصل في الآخرة إلى فسبح جنته «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ» الذي برأ كل شيء وأحسن خلقه وهداه لما فيه هداه ، وقد أوجدها عبرة وعظة لأولي الألباب ليعقلوا معناها ويعرفوا مغزاها ، «نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» الناصع بواسطة أميننا جبريل لتتلوها على قومك علهم يؤمنوا بها وإذا لم يفعلوا فقل لهم «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» 6 أي لا يؤمنون أبدا ، إذ غلب على عقولهم الإفك ، وحجب قلوبهم وسخ الإثم ، وصم آذانهم رين التكذيب ، وعمى أبصارهم(4/110)
ج 4 ، ص : 111
غلو الشرك.
وهذه الآية التي عجب فيها الوليد فذكرها إلى قومه كما أشرنا إليه في الآية 28 من سورة المدثر في ج 1 فراجعها.
واعلم يا سيد الرسل أن من لم يؤمن بما نتلوه عليه من هذه الآيات المدللات له «وَيْلٌ» وهلاك كبيرِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ 7 يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ»
فلا يلتفت إليها ولا يعتبر بها «ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً» يأنف عنها ويتجبر «كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» لشدة عتوه وعناده ، وثم هنا للاستبعاد وعليه قول جعفر بن عليه :
لا يكشف النعماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
«فَبَشِّرْهُ» يا سيد الرسل «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» 8 توبيخا له وهذه البشارة على طريق التهكم والسخرية ، لأن البشارة تكون في الأمر السّار ، فإذا اقترنت بضدّه كان معناها الإنذار وأريد بها التقريع ، قال تعالى «وَإِذا عَلِمَ» بالتخفيف والبناء للفاعل ، وقرأه بعضهم بالتشديد والبناء للمفعول ، أي إذا تيقن هذا المستكبر «مِنْ آياتِنا شَيْئاً» بسماعها منك «اتَّخَذَها هُزُواً» وصار يسخر بها ويقرؤها على أضرابه ليضحكوا منها ، لأنهم لا يفقهون معناها بسبب كثافة صدأ قلوبهم ، وقد صدهم اللّه عنه لخبث طوبتهم وسوء نيتهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» 9 ثم بين نوع إهانته بقوله عزّ قوله «مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ» ومن أمامهم أيضا لأن الوراء الجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام ، ومن كانت جهنم وراءه فهي قدامه حتما لأنه إذا زج فيها صارت وراءه ، لأنها كانت أمامه «وَلا يُغْنِي» يدفع ويمنع «عَنْهُمْ ما كَسَبُوا» شيئا في الدنيا من العمل لقبحه ولا من إخوانهم لأنهم أشرار مثلهم ، ولا من المال لأنه من حرام ، فلم يجمعه من حل ، ولم ينفقه في سبيل اللّه ، ولا من الأهل لأنهم كفرة ، وعلى فرض إيمانهم فلا صلة بين المؤمن والكافر ولا تراحم البتة ، وإذا كان لهم عمل طيب فقد كوفئوا به في الدنيا «وَلا» يغني عنهم أيضا «مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» لأنها إن كانت أصناما فلا تضر ولا تنفع ، وإن كانت الملائكة وعزير والمسيح فإنهم يتبرءون منهم ، وهم لا يشفعون إلا لمن أذن اللّه بالشفاعة له ورضيها كما مرّ غير مرة ، ولبحثها صلة في الآية 28 من سورة(4/111)
ج 4 ، ص : 112
الأنبياء الآتية «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 10 نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث لأنه كان يشتري من أحاديث العجم ويتلوه على الناس ليشغلهم عن سماع القرآن ويحبذ لهم سماعها ، والاستهزاء بالقرآن ، قاتله اللّه الذي وهي عامة في كل من هذا شأنه ونزولها فيه لا يقيدها.
قال تعالى «هذا» الكتاب المنزل عليك يا سيد الرسل «هُدىً» لمن عقله يهتدي به ورشد لمن استرشد به «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» هو عليهم عمى وضلالة «لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ» هو أشد العذاب في الآخرة كما أن الموت أشد عذاب الدنيا ولذلك يطلق عليه لفظ الرجز «أَلِيمٌ» 11 نعت للزجر على قراءة الجر ، وللعذاب على قراءة الرفع ، ثم عدد أفضاله على عبده بقوله عز قوله «اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ» التي تركبونها وتحملون أثقالكم عليها «فِيهِ» في البحر «بِأَمْرِهِ» جل أمره لأنها تجري بالرياح ، وهي لا تهب إلا بأمر اللّه والتي تجري بالمحركات كذلك بأمره ، إذ لو شاء لما تحركت والتي بقوة البشر أيضا بأمره إذ لو أراد لأعجزهم «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» من ربح التجارة وزيارة البلدان والاجتماع بالإخوان واستخراج اللآلئ «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 12 نعمه عند سيرها وبلوغكم مقاصدكم إذا كنتم لا تشكرونه دائما «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ» من الكواكب وغيرها «وَما فِي الْأَرْضِ» من حيوان ونبات ومعادن لتنتفعوا بها «جَمِيعاً مِنْهُ» وحده وأنى لغيره شيء من ذلك لعجزه عن جزء بعض ما هنالك «إِنَّ فِي ذلِكَ» التسخير من حيث لا حول لكم ولا قوة عليه «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 13 في آلائه ومكوناته فيتعظون ويعتبرون ، وهذه الآية المدنية قال تعالى يا أكرم الرسل «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» ولا يتوقعون وقائعه بأعدائه ولا يخافون انتقامه
مع استحقاقهم إياه فالرجاء مجاز عن التوقع كما أن الأيام مجاز عن الحوادث واستعمالها شائع في ذلك «لِيَجْزِيَ قَوْماً» أي المؤمنين وتنوينه للتعظيم ولفظ قوم يدل على المدح «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 14 من العمل الصالح الذي من جملته العفو والصفح عمن يعتدي عليهم.
وسبب نزول هذه الآية على ما حكاه ابن عباس هو أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم نزل بأصحابه في غزوة بني المصطلق على بئر المريسيع ، (4/112)
ج 4 ، ص : 113 فأرسل ابن أبي غلامة ليستسقي فأبطأ عليه ، فلما أتاه قال له ما حبسك ؟ قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستسقي حتى ملأ قرب النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقرب أبي بكر ، فقال ابن أبي لعلامة ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل (سمّن كلبك يأكلك) قاتله اللّه ما أخبثه وكلامه ، ولكن الدنّ ينضح بما فيه ، ويكفي أنه رئيس المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم.
فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه ، فأنزل اللّه هذه الآية.
وما قيل إنها نزلت في عمر رضي اللّه عنه حينما شتمه المشرك من غفار بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به غير سديد ، لأن الآية مدنية بالاتفاق كما علمت ، ولأن المسلمين في مكة عاجزون عن البطش ، والذي لا يقدر ينتصر لنفسه لا يؤمر بالعفو.
وما قاله بعضهم إن هذه الآية منسوخة لا يصح ، لأن المراد بها ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ» ثواب عمله «وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وزر إساءته «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» 15 في الآخرة فيعاملكم بما كنتم تعملون في الدنيا ، ونظير صدر هذه الآية الآية 45 من فصلت المارة «وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ» بين الناس «وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» الحلال ولا طيّب إلا وهو حلال ولا حلال إلا وهو طيب «وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» 16 في زمانهم وعلى من قبلهم عدا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأنهم من أولي العزم للاجماع على تفضيلهم «وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ» يعرفون بها الحلال من الحرام والحق من الباطل والجد من الهزل «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» الذي هو موجب للاتفاق لا الاختلاف ، فكان اختلافهم بعد العلم «بَغْياً بَيْنَهُمْ» حاكوه بينهم حسدا للأنبياء وحبا ببقاء الرياسة ، وهذا تعجب من حالهم لأن العلم يرفع الاختلاف لا يوقعه «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 17 بمحض العناد وإظهار التكبر وليس عن جهل ليعذروا به ، لأن التوراة أنزلت على نبيهم موسى عليه السلام مفصل فيها كل شيء يحتاجونه من أمر الدين والدنيا ، فاختلافهم في تأويلها وعدم قبولهم بعض أحكامها ما هو إلا بغي وتجبر وطغيان ، قال تعالى «ثُمَّ جَعَلْناكَ» يا سيد الرسل «عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ(4/113)
ج 4 ، ص : 114
الْأَمْرِ»
العائد لدينك وآتيناك سنة مستوية ومنهاجا قويما وطريقة مستقيمة «فَاتَّبِعْها» أنت وقومك المؤمنين بك «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» 18 طريقتك
هذه وأخيرتها مما يدعونك إليه من طرق آبائهم المعوجة «إِنَّهُمْ» هؤلاء الكفرة الذين يريدونك على دينهم وسنة آبائهم الضالة لو أطعتهم على فرض المحال واتبعت أهواءهم «لَنْ يُغْنُوا» يمنعوا ويدفعوا «عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» أراد إيقاعه فيك «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» في الدنيا ولا وليّ لهم في الآخرة ولا يتبعهم إلا ظالم مثلهم «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» 19 فيها وأنت خلاصتهم ، فدم على ما أنت عليه من التوجه إلى اللّه والإعراض عن وأعدائه أعدائك ، وهذا الخطاب الموجه إلى حضرة الرسول مراد به غيره من أصحابه الذين معه لأنه معصوم من اتباع الكفرة ، راجع الآية 63 فما بعدها من سورة الزمر المارة ، قال تعالى «هذا» القرآن المنزل عليك يا حبيبي «بَصائِرُ لِلنَّاسِ» في قلوبهم وكما هو نور لأبصارهم وحياة لأرواحهم ، هو معالم لحدودهم وأحكامهم «وَهُدىً» من الضلال لمن اتبعه «وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» 20 به ويصدقون بما فيه
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا»
اكتسبوا بجوارحهم اليد والرجل واللسان والفرج وغيرها ففعلوا فيها «السَّيِّئاتِ»
هي كل ما ساءك فعله فيك من الغير أو خالف أمر دينك أو أغضب غيرك صنعه «أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ»
كلا لا نفعل ولا ينبغي لنا أن نفعل ذلك ، وإن كانوا هم يحكمون بالمساواة فقد «ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
21 وبئس القضاء قضاؤهم ذلك ، إذ لا يستوي الخبيث والطيب ، كما لا تستوي الظلمات والنور ، راجع الآية 104 من سورة المائدة ج 3.
قال بعض كفرة قريش لإن كان ما تقولونه في البعث حقا لنفضلنكم فيه كما فضلناكم في الدنيا بالمال والنشب والسعة والجاه ، فأنزل اللّه هذه الآية يخبرهم فيها بأنه شتان ما بين المؤمن والكافر في الآخرة ، لأن المؤمن مؤمن في حياته ومماته بالدنيا والآخرة ، والكافر كافر في حياته ومماته فيهما ، ومال الدنيا زائل لا محالة فلا قيمة له ولا عبرة بالتفاضل فيها ، أما حال الآخرة الذي هو محل التفاضل والتنافس فهو باق للمؤمنين في نعيم الجنة ، وباق للكافرين في جحيم(4/114)
ج 4 ، ص : 115
النار ، والبون شاسع بين الحالتين فليس من أقعد على بساط الموافقة ، كمن أجلس مع مقام المخالفة ، ولا بد من الفرق وإعلاء المؤمنين وإخزاء الكافرين في يوم لا شفيع فيه ولا معين إلا من رحم اللّه ، وأذن له بالشفاعة.
قال مسروق : قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري ، ولقد رأيته قام ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب اللّه يركع بها ويسجد ويبكي (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ)
الآية ، ولما بلغها الفضيل جعل يرددها ويبكي ويقول ليت شعري من أي الفريقين أنت يا فضيل ؟.
قال تعالى «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» ويعدل فيهما بين خلقه بالحق فينصف المظلوم من الظالم ويظهر التفاوت بين المسيء والمحسن ، فإذا لم يكن كل ذلك في الحياة لأمور اقتضتها حكمته فلا بد من كينونها في الممات أي بعده حتما.
وهذه الآية بمعرض الإنكار على حسبانهم تساوي الفريقين بدليل قوله «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» في دنياها «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 22 في الآخرة فلا يزاد على جزاء الظالم ولا ينقص من مكافآت المحسن.
مطلب تفنيد مذهب القدرية وذم اتباع الهوى وأقوال حكيمة ، والدهر :
قال تعالى «أَ فَرَأَيْتَ» أيها الإنسان الكامل «مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» فصار تبعا لما تهواه نفسه «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» منه بعاقبة أمره «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ» فلم يجعله يسمع الهدى «وَقَلْبِهِ» فلم يدعه يعقله «وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» فلم يتركه يراه فمن هذا شأنه أخبروني «فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» استفهام إنكاري ، أي لا يهديه أحد البتة لأنه لا يجاب إلا بلا «أَ فَلا تَذَكَّرُونَ» 23 أيها الناس فنلاحظون وتقولون لا هادي إلا اللّه ، ولا مضل لمن هداه ، ولا هادي لمن أضله.
قال الواحدي : لم يبق للقدرية مع هذه الآية عذرا وحيلة لأن اللّه تعالى صرح بمنعه إياه عن الهوى حتى أخبر بأنه ختم على جوارحه كلها وعطلها عن النظر إلى طريق الهدى ، وقيل في هذا المعنى :
إذا طلبتك النفس يوما بشهوة وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنمّا هواك عدو والخلاف صديق(4/115)
ج 4 ، ص : 116
لأن أصل الشر كله متابعة الهوى وكل الخير في مخالفته ، وقيل :
نون الهوان من الهوى مسروقة فأسير كل هوى أسير هوان
وقال أبو عمرو موسى بن عمر الأشبيلي الزاهد :
فخالف هواعا واعصها إن من يطع هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في ؟ ؟ ؟ أي مصرع
واعلم أن متابعة الهوى مذمومة قبل الإسلام ، قال عنترة :
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها
وقال الأبوصيري :
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصما ولا حكما فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
وقال غيره :
هي النفس إن تمهل تلازم خساسة وإن تنبعث نحو الفضائل تبتهج
قال ابن عباس : ما ذكر اللّه هوى إلا ذمه.
وقال وهب : إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك.
وقال سهل التستري هواؤك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك ، وجاء في الحديث والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأماني ، وفي حديث آخر : ثلاث مهلكات ، شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه.
فيجب على النبيه النبيل أن يعرض عن هواه فإنه مفارقه ، وإلا فهو نار ثانية عليه يذهب معه إلى جهنم ، قال :
جمع الهواء مع الهوى في مهجتي فتكاملت في أضلعي ناران
فقصرت بالممدود عن نيل المنى ومددت بالمقصور في أكفاني
وهذه نزلت في الحارث بن قيس السهمي ، إذ كان لا يهوى شيئا إلا ركبه.
وحكما عام في كل من اتبع هواه ، وفيها إعلام عن ذم الهوى واتباع الشهوات ما فيها لمن اتبع ذلك ، لأن جواهر الأرواح منها ما هو مشرق علوي نوراني ، فلا يميل إلا لما يرضي خالقه مبدعه ، ومنها ما هو رذيل سفلي ظلماني فلا يميل إلا لما يعجب نفسه ، وإن اللّه تعالى يقابل كلا بما يليق بماهيته وجوهره.
ونظير هذه الآية(4/116)
ج 4 ، ص : 117
الآيتان 43 - 44 من سورة الفرقان ، في ج 1 فراجعهما.
قال تعالى «وَقالُوا» منكرو البعث بعد هذه الآيات البينات على إثباته «ما هِيَ» الحياة «إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها أبدا «نَمُوتُ» أي يموت آباؤنا «وَنَحْيا» نحن بعدهم ونموت نحن ويحيا أبناؤنا بعدنا ، وهكذا أرحام تدفع وأرض تبلع ، أو نحيا نحن ونموت ، لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا ، وعلى هذا قوله تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) أي رافعك إلى السماء الآن ومتوفيك بعد ، راجع الآية 55 من سورة آل عمران ج 3 «وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» في كره ومره واختلاف جديديه.
واعلم أن الدهر اسم لمدة العالم من مبدإه إلى منتهاه ، ويعبر به عن كل مدة طويلة ، بخلاف الزمن ، فإنه يقع على القليل والكثير.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال اللّه عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار.
وفي رواية يؤذيني ابن آدم ، ويقول يا خيبة الدهر ، فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره ، فإذا شئت قبضتهما.
وفي رواية يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار.
وأخرج مسلم لا يسب أحدكم الدهر فإن اللّه هو الدهر.
وأخرج أبو داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم : يقول اللّه عز وجل استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني عبدي وهو لا يدري ، يقول وا دهراه ، وأنا الدهر.
وأخرج البيهقي : لا تسبوا الدهر ، قال اللّه عز وجل أنا الأيام والليالي أجودها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك.
ومعنى ذلك أن اللّه تعالى هو الآتي بالحوادث ، فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على اللّه تعالى عز وجل ، ولهذا عدّ بعض العلماء سب الدهر من الكبائر ، لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وتنزه وهو كفر ، وما أدّى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كبيرة ، وقالت الشافعية مكروه لا غير.
وعندنا نحن الحنفية تفصيل ، فمن سب الدهر وأراد به الزمان كما هو المتعارف لدى العامة فلا كلام في الكراهة ، وإذا أراد رب الزمن وهو اللّه عز وجل ولا أظن أحدا يريد ذلك فلا كلام في الكفر ، راجع الآية 139 من سورة الأنعام المارة.
ومن هذا القبيل إذا نسب فعل الأشياء إلى الكواكب(4/117)
ج 4 ، ص : 118
وغيرها ، فإن أراد أنها بنفسها تؤثر يكون كفرا ، وإذا قال المؤثر هو اللّه وإنما اقتضت قدرته أن يكون إذا كان كذا كان كذا فلا بأس ، وإن أطلق في هاتين المسألتين فمحل تردد لاحتمال الأمرين ، والأولى أن يحمل على ما هو الأحسن في مثل هذا.
وكانوا قبل الإسلام يستدون الإهلاك إلى الدهر إنكارا منهم لقبض الأرواح من قبل ملك الموت بإذن اللّه ، وكذلك يستدون كافة الحوادث إليه لجهلهم أنها بتقدير اللّه تعالى ، وهؤلاء بخلاف الدهرية لأنهم مع اسنادهم الوقائع إلى الدهر لا يقولون بوجوده تعالى ، بل يقولون إن الدهر مستقل بالتأثير ، أما هؤلاء فيعترفون بوجود اللّه.
قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ...)
الآية 9 من سورة الزخرف المارة ، وهي مكررة كثيرا في القرآن «وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» 24 أي لا علم لهم ولا يقين فيما يقولونه ، لأن مصدره الحسبان والميل إلى ما يشتهون من القول من غير موجب ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول من غير حجة أو بينة فاسد باطل ، وإن متابعة الشك والوهم منكر.
واعلم أن بعض العلماء أنكر قراءة أنا الدهر بضم الراء الوارد في حديث أبي داود المار ذكره بداعي لو كان صحيحا لكان من جملة أسمائه تعالى ، ويرويه بفتح الراء ظرفا لأقلب ، أي إني أقلب الليل والنهار الدهر ، ولكن يردّه رواية مسلم (فإن اللّه هو الدهر) لذلك إن الجمهور على ضم الراء ولا يلزم أن يكون من أسمائه تعالى ، لأنه جار على التجوز ولا مانع لأن اللّه تعالى له أسماء كثيرة لا يعلمها غيره وهذه التسعة والتسعون المشهورة هي أسماؤه الحسنى ، راجع الآية 8 من سورة طه في ج 1 تعلم أن أسماءه لا تحصى وأن لها مشتقات كثيرة ، قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ» واضحات لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير لأنها ظاهرة «ما كانَ حُجَّتَهُمْ» بعدم قبولها والأخذ بها «إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا» الذي ماتوا قبلنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 25 أنت وأصحابك يا محمد بأن ربكم اللّه يحيي بعد الموت ، فيا سيد الرسل «قُلِ» لهؤلاء الجهلة «اللَّهُ يُحْيِيكُمْ» من العدم ابتداء من نطفة ضعيفة ميتة «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم من الدنيا «ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ» أنتم ومن قبلكم ومن بعدكم(4/118)
ج 4 ، ص : 119
أحياء كما يقتضيه معنى الجمع «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» الذي مجيئه حق «لا رَيْبَ فِيهِ» لأنه لا بد واقع «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 26 حقيقة قدرته تعالى وتصرفه في ذلك «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ» بدل من يوم في صدر الآية والعامل بهما «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» 27 إذ يصيرون إلى النار.
قال تعالى «وَتَرى » يا سيد الرسل في ذلك اليوم الرهيب «كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً» على ركبها بين يدي اللّه عز وجل تنتظر القضاء بالعدل من الحاكم العدل وإذ ذاك «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» الذي نمقته حفظتها بأعمالها وأقوالها ويقال لها «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 28 في الدنيا عن الخير خيرا منه وعن الشر بمثله.
ثم يقول اللّه تعالى «هذا» الذي أحصاه حفظتنا هو «كِتابُنا» لأنا أمرناهم بتدوينه وهو منطبق على ما كان في علمنا قبلا وهو الآن «يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» الذي وقع منكم بلا زيادة ولا نقص لأنه موافق للحق الذي هو في لوحنا أزلا ، واعلموا أيا الناس «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ» نأمر الملائكة بنسخ وكتابة «ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 29 في الدنيا مما هو مدون عندنا ، لأن الاستنساخ لا يكون إلا عن أصل.
وتدل هاتان الآيتان على أن استحقاق العقوبة لا يكون إلا بعد مجيء الشرع ، على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين إن بعض الواجبات تجب بالعقل.
هذا ومما يؤيد التفسير الذي جرينا عليه ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : إن اللّه تعالى خلق النون وهي الدواة ، وخلق القلم ، فقال اكتب ، قال ما أكتب ؟ قال ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر ، ورزق مقسوم حلال أو حرام ، ثم ألزم كل شيء بيانه ، وذلك دخوله في الدنيا متى ، وخروجه منها كيف ، ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ، ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزانا ، فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فنى الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فيقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا ، فترجع فيجدونه قد مات.
ثم قال ابن عباس : ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) وهل يكون(4/119)
ج 4 ، ص : 120
الاستنساخ إلا من أصل ؟ وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي اللّه عنه أنه سئل عن الآية ، فذكر نحو ذلك ، ثم قال هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب ؟
وقد روى الاستنساخ من اللوح عنه جماعة «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ» و«ذلِكَ» الإدخال «هُوَ الْفَوْزُ» للمؤمنين والظفر العظيم «الْمُبِينُ» 30 الظاهر لهم في الجنة جزاء عملهم
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» فيقال لهم يوم الحساب وظهور الحجة عليهم «أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» في الدنيا من قبل رسلي وتحذركم من هول هذا الموقف «فَاسْتَكْبَرْتُمْ» عن الأخذ بها منهم «وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» 31 معتادين الإجرام حتى صارت ديدنا لكم لا يحتمل انفكاككم عنها «وَ» قد كنتم في الدنيا أيضا «إِذا قِيلَ» لكم «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ» بالبعث «حَقٌّ وَالسَّاعَةُ» هذه التي أنتم فيها الآن حق «لا رَيْبَ فِيها» أيضا «قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ» ولم تلتفتوا إلى أن الذين أخبروكم بها هم رسل اللّه وأنهم يتكلمون عن اللّه وبأمر اللّه وجاوبتموهم بقولكم «إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا» بما تقولونه فلا نعتقده إلا توهما ولا نقول به إلا حدسا كأن الذين يعظونكم بذلك ليسوا بشيء وقد أكدتم تكذيبهم بقولكم «وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» 32 ما تقولونه وبقيتم شاكين بوجود هذه الحياة ومنكرين يوم الجمع هذا لأنه عندكم لا يعقل وإن ما لا يعقل لا يكون ، ولم تعلموا أن أفعال اللّه لا تدرك ، وأنها لا تقابل إلا بالخضوع لها ، فانظروا الآن إلى ما كان منكم في الدنيا.
قال تعالى «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا» في الدنيا وجزاؤه لأن العقوبة تسيء صاحبها وتقبح منه لذلك سميت سيئات ولما رأوها مجسمة أمامهم دهشوا «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 33 من أنواع العقاب الذي كان أخبرهم به رسلهم ، إذ كانوا ينكرون ولا يصدقون ويسخرون بهم عند ما يذكرون لهم ذلك ويخوفونهم به «وَقِيلَ» لهم بعد إدخالهم النار وإحاطة العذاب بهم «الْيَوْمَ نَنْساكُمْ» فنترككم في هذا الشقاء ونجعلكم كالمنسيين بالنسبة لكم وهذا من باب المقابلة أي المتروكين لأن اللّه تعالى لا ينسى شيئا وذلك «كَما نَسِيتُمْ» في الدنيا «لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» في الآخرة ولم تبالوا به ولم تصفوا(4/120)
ج 4 ، ص : 121
لنصح أنبيائكم وإرشادهم لكم بالعودة إليه «وَمَأْواكُمُ» الذي تأوون إليه للاستراحة وعند النوم هو «النَّارُ» لا راحة لكم ولا نوم فيها بل عذاب دائم مستمر «وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» 34 يخلصونكم منها أو يمنعون عذابها عنكم «ذلِكُمْ» الجزاء الشاق والعذاب الذي لا يطاق «بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بنعيمها الزائل وبهجتها المزخرفة وشغلكم حكامها عن الاعتراف بهذا اليوم.
«فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها» أبدا وقرىء بضم ياء يخرجون وفتحها وهو أحسن «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» 35 يسترضون فلا يطلب منهم إرضاء ربهم والإيمان به وبالبعث والنبوة لأنه لا يقبل عذر فيه ولا توبة.
والالتفات من الخطاب إلى الغيبة إيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم ، وأن الخطاب للخزنة الذين نقلوهم من مقام المخاطبة إلى غيابة النار ، والالتفات من أنواع البديع المستحسنة في الكلام.
قال تعالى «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ» 36 إخبار مراد منه الإنشاء أي احمدوا ربكم أيها الناس ومجدوه وعظموه لأنه ربكم ورب كل شيء «وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فكبروه وعزروه وحق للرب أن يعظم ويمجد ويكبر ويحمد «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب في الانتقام من أعدائه البليغ في النصرة لأوليائه «الْحَكِيمُ» 37 في أحكامه وإحكامه.
وقد ختمت هذه السورة بمثل ما بدئت به من الصفتين الجليلتين كما هو شأن كثير من السور ، وتفيد هذه الصفات أن الكمال كله في القدرة والرحمة والحكمة ليس إلا للّه وأن لا متّصف بكمال هذه الصفات غير الإله العظيم الكبير في سمواته وأرضه ، المتصرف بما فيهما ، ويوجد سورتان مختومتان بهذه اللفظة ، الحشر والتغابن ، روى مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : العزّ إزاره والكبرياء رداؤه ، فمن ينازعه عذبه.
وأخرج الرقاق وأبو مسعود عنهما : يقول اللّه عز وجل العزّ إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار.
وهذا مخرج على ما تعتاده العرب في بديع استعارتهم ، وذلك أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثوب ، فيقولون شعاره التقوى ولباسه الزهد ، فضرب اللّه عز وجل بالإزار والرداء مثلا له جل شأنه في(4/121)
ج 4 ، ص : 122
انفراده في صفة الكبرياء والعظمة.
وفي هذا إعلام بأنهما ليسا كسائر الصفات التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازا كالرحمة والكرم وغيرهما ، وشبههما بذلك لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان ، ولأنه لا يشاركه في ردائه وإزاره أحد ، فكذلك اللّه تعالى لا ينبغي أن
يشاركه فيهما أحد ، لأنهما من صفاته اللازمة المختصة به وهذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تفسير سورة الأحقاف
عدد 16 - 66 - 46
نزلت بمكة بعد الجاثية ، عدا الآيات 10 ، 15 ، 35 فإنها نزلت بالمدينة ، وهي خمس وثلاثون آية ، وستمئة وأربع وأربعون كلمة ، وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «حم» 1 تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» 2 تقدم تفسيرها بنظيراتها التي قبلها حرفيا «ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» الذي تقتضيه الحكمة الكونية والتشريعية وهذا الاستثناء مفرغا من أعم الأحوال من فاعل خلقنا أو مفعوله ، أي ما خلقناهما في حال من الأحوال إلا حالا ملابسا بالحق ، وفيه دلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتغاء أفعاله على حكم بالغة عظيمة وانتهائها إلى غايات جليلة بالغة ، وكل ذلك يؤجل إلى قدر مقدر في اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير ، ولا يقدم ولا يؤخر ، يدلك عليه قوله عز قوله «وَأَجَلٍ مُسَمًّى» ينتهي إليه فناؤهما ، وهو معلوم لديه وحده ، لأن علمه مما اختص به نفسه المقدسة.
قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا» به في هذا القرآن من بعث وحساب وغيره «مُعْرِضُونَ» 3 عنه لا يلتفتون إليه والواو للحال أي والحال أنهم في إعراض عريض عنه ، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المعرضين «أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أخبروني عنها وكيف تعبدونها وهي أوثانا جامدة لا حقيقة لها «أَرُونِي» ماهيتها و«ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» حتى تستحق العبادة «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي(4/122)
ج 4 ، ص : 123
السَّماواتِ»
حتى عدلتموها بخالقها كلا «ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا» القرآن جاء فيه ما تقولونه ، وهو ليس فيه شيء من ذلك «أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» وبقية منه يؤثر عن الغير ، ومن هنا سميت الأحاديث أخبارا ، أي أروني مطلق علم من العلوم السالفة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 4 في زعمكم هذا بأنها أهل للعبادة فإذا لم يكن عندكم شيء من ذلك فأنتم إذا ظالمون.
مطلب عدم سماع دعاء الكفرة من قبل أوثانهم وتفتيده وتبرؤ الرسول صلّى اللّه عليه وسلم من علم الغيب وإسلام عبد اللّه بن سلام :
«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ» دعاءه ولو ظل دائبا يدعوها ليل نهار «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» لا تجيبه لأنها جماد لا تبصر ولا تسمع ولا تفهم باللفظ ولا بالإشارة «وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» 5 لأنهم لا يدرون بهم.
هذا إذا كانوا أصناما أو كواكب ، أما إذا كانوا من ذوي العقول فإن كانوا من المقربين المقبولين عند اللّه كعيسى والمسيح وعزير والملائكة فلاشتغالهم عنهم بما هو خير ، أو كونه بمحل ليس من شأنه الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي ، لأن اللّه تعالى يصون سمعهم عن سماع دعائه ، لأن ما لا يرضاه اللّه يؤلمهم سماعه ، وإن كان لا يضره لأنه لم يأمر به ولم يرده ، ويتنزه اللّه تعالى عن مثله ، وإن كان من أعداء اللّه كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون اللّه فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر لو فرض سماعه ، والميت ليس من شأنه السماع ولما يتحقق منه السماع إلا معجزة كسماع أهل القليب لقوله صلّى اللّه عليه وسلم ما أنتم بأسمع منهم وما جاء في السلام على الأموات وأنهم يردون السلام فذلك من قبل أرواحهم الخالية عن أجسادهم ، لأن الأرواح كلها خالدة المنعم منها والمعذب ، وهؤلاء المتخذين للعبادة ليسوا بأولئك ، وإن كان حيا فإن كان بعيدا عنه فالأمر ظاهر بعدم السماع وإن كان قريبا سليم الحاسة فلا فائدة من إجابته ، إذ لا يقدر على إجابة طلبه.
قال تعالى «وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ» العابدون والمعبودون «كانُوا» أي المعبودون «لَهُمْ» لعابديهم «أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ» 6 جاحدين لها منكريها يقولون كما أخبر اللّه عنهم (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) الآية 63 من سورة(4/123)
ج 4 ، ص : 124
القصص في ج 1 ، وهي مكررة في المعنى كثيرا فيخذلون حينذاك ويعلمون أنه قد سقط في أيديهم «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ» الذي أتاهم على لسان رسولهم وهو القرآن «لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» 7 وإنما حكموا عليه بأنه سحر لعجزهم عن الإتيان بمثله ، وعلى الأنبياء بأنهم سخرة لأن الأمور التي تظهر على أيديهم خارقة للعادة «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» من لدن نفسه أي إذا لم يقولوا سحر قالوا اختلقه «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ» فيكون تجاوزا على اللّه «فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» يدفع عني عذابه أو يمنعه من الوصول إلي فكيف افتري عليه لأجلكم وأنتم لا تستطيعون كف عقوبته عني ولكن «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ» من القدح في وحي اللّه والطعن فيّ «كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ» لمن عصاه إذا لم يكن مشركا به «الرَّحِيمُ» 8 بمن أطاعه ورجع إليه.
تشير هذه الآية إلى أن من تاب وأناب لربه فإنه يغفر له ويرحمه ، وهو كذلك إذا شاء «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» حتى تقولوا إني ابتدعت ما جئتكم به (الابتداع أن يأتي الرجل بما لم يكن قبل) ولم تنكرر هذه الكلمة في القرآن ، أي لأني لست أول رسول أرسله اللّه لهداية البشر حتى تعجبوا وتقولوا ما تقولون ، إذ بعث رسل قبلي جاءوا أقوامهم بمثل ما جئتهم به ، فكيف تنكرون نبوتي وتجعلونها بدعة «وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ» فيما يستقبل من الزمان في هذه الدنيا هل أخرج أو أقتل أو أحبس كما فعلت الأقوام السالفة بأنبيائهم ، ولا أعلم هل تصرون على تكذيبكم لي فتهلكون خسفا أو غرقا أو رهبة ، أو تؤمنون فتنالون ما وعدني به ربي إليكم من نعيم الآخرة كغيركم من الأمم المكذبة والمصدقة ؟ لأن هذا كله من الغيب الذي لا يعلمه إلا اللّه لأني بشر مثلكم لا علم لي به إلا أن اللّه تعالى أخبرني بأن المؤمن مصيره في الآخرة الجنة ، والكافر مرجعه النار ، وأمرني أن أخبركم بهذا ، وهو حق لا مناص منه.
وفي هذه الآية ردّ على من ينسب إلى الأولياء علم الغيب من الأمور الكلية والجزئية ، لأن الأنبياء أنفسهم صرّحوا بعدم علمهم الغيب إلا ما يوحيه اللّه إليهم منه ، وما لا يكون للنبي لا يكون للولي قطعا.(4/124)
ج 4 ، ص : 125
قال في بدء الأمالي :
ولم يفضل ولي قط دهرا نبيا أو رسولا بانتحال
وقال النسفي لا يبلغ ولي درجة الأنبياء.
وقال إن نبيا واحدا أفضل من جميع الأولياء فتنبه ، واعلم أن الولي مهما بلغ من علو الشأن والرفعة لا ينال أدنى درجات الأنبياء ، فضلا عن الرسل.
قال تعالى يا أكرم الرسل قل لقومك ما أتبع فيما أقوله لكم سحرا ولا كهانة ولا اختلاقا ولا خرافات «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» من ربي وإني لست بساحر ولا كاهن ولا قصاص «ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 9 لكم شريعة اللّه كما أوحاها إلي لا أبتدع شيئا فيها من نفسي ولا أنقل لكم عن غيره شيئا أبدا ، واعلم أن البدع والبديع من كل شيء المبدأ ، والبدعة تطلق على ما لم يكن زمن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، وتكون حسنة إذا أجمع على حسنها المؤمنون ، وسيئة إذا أجمعوا على قبحها ، ولا عبرة بقول البعض في التحسين والتقبيح.
هذا ، قالوا لما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزّى ما أمرنا وأمر محمد عند اللّه إلا واحدا ، ولو لا أنه ابتدع ما يقوله من ذاته لأخبره الذي بعثه ما يفعل ، وقال الكلبي : لما ضجر أصحاب محمد من أذى المشركين قالوا له حتى متى تكون على هذه الحالة فقال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، وهل أترك في مكة أم أومر بالخروج إلى أرض رفعت لي بالمنام ذات نخيل وشجر.
وما أخرجه أبو داود في ناسخه من أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة الفتح ج 3 (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وأن الأصحاب قالوا له هنيئا لك يا نبي اللّه ، قد علمنا ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل اللّه الآية 48 من الأحزاب ج 3 وهي (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية 5 من سورة الفتح ج 3 ، لا يصح لأن هذه خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ وهي محكمة.
وهذه الآية المدنية الأولى من هذه السورة ، قال تعالى «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ» هذا القرآن الذي أتلوه عليكم منزل «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ» أيها اليهود «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ» في المعنى يعني التوراة والإنجيل(4/125)
ج 4 ، ص : 126
والزبور والصحف السماوية «فَآمَنَ» ذلك الشاهد وهو عبد اللّه بن سلام على أن القرآن من عند اللّه كما آمن بالتوراة بأنها من عنده «وَاسْتَكْبَرْتُمْ» عن الإيمان به أنفة وعدوانا وظلما لأنفسكم وغيركم «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» 10 ويناسب هذه الآية في المعنى الآية المدنية 17 من سورة هود المارّة ، يروى البخاري ومسلم عن سعيد بن العاص قال : ما سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول لحي يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللّه بن سلام ، قال وفيه نزلت هذه الآية.
وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال : بلغ عبد اللّه بن سلام مقدم النبي صلّى اللّه عليه وسلم المدينة ، وهو في أرض يخترق النخيل ، فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، ومن أي ينزع الولد إلى أبيه ، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أخواله ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم أخبرني بهن آنفا جبريل ، أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيارة كبد الحوت ، وأما الشّبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له ، وإذا سبقت كان الشبه لها ، قال أشهد أنك رسول اللّه.
ثم قال يا رسول اللّه إن اليهود قوم بهت ، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد اللّه ابن سلام البيت ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي رجل فيكم عبد اللّه بن سلام ؟ فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أفرأيتم إن أسلم عبد اللّه ، قالوا أعاذه اللّه من ذلك ، زاد في رواية ، فأعاد عليهم ، فقالوا مثل ذلك ، قال فخرج عبد اللّه إليهم ، فقال أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه ، فقالوا شرنا وابن شرنا ، ووقعوا فيه ، زاد في رواية ، فقال عبد اللّه بن سلام هذا الذي كنت أخافه يا رسول اللّه أن يصموني به وأنا براء مما يقولون ، ولكن الشريف يخاف أن يلصق به ما يعيبه ، وبهذا ثبت كذب اليهود وبهتهم.
قالوا وكان اسمه الحصين ، فلما أسلم سماه رسول اللّه عبد اللّه ، وفي كتب اليهود أن الحصين هذا رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلم حينما قدم بصرى وصار يتردد إليه ويعلمه التوراة ، حتى انهم نسبوا تأليف القرآن إليه لعنهم اللّه وأخزاهم ما أبهتهم ، لأن هذا لم يصل(4/126)
ج 4 ، ص : 127
إلى مكة ، ولم ير النبي صلّى اللّه عليه وسلم إلا بعد الهجرة بالمدينة ، فلما رآه وصارت اليهود تقول هذا كذاب ، قال لهم وجه هذا ليس بوجه كذاب ، على أنه لو فرض صحة اجتماعه به في بصرى فإن ذلك الوقت كان عمره صلّى اللّه عليه وسلم اثنتي عشرة سنة ، ولم تحدثه نفسه بنزول كتاب عليه كي يؤلفه له ، ولم يدع النبوة ليركن إليه ويعلمه ، ولم يبق في بصرى زمنا يستوعب تعرفه به فضلا عن تعليمه ، وقد بقي حتى بلغ الأربعين من عمره ، ولم يتكلم بشيء من الوحي ، قاتلهم اللّه على إفكهم وكفرهم ، وما هذا إلا حسد منهم لعبد اللّه على إيمانه ليس إلا وكان من أمره ما كان رضي اللّه عنه ، ولهذا البحث صلة في الآية 47 من سورة النساء في ج 3 ، لأنه رضي اللّه عنه تأخر في إعلان إسلامه لليهود خوفا من الطعن فيه كما يشير إليه قوله (هذا الذي كنت أخافه) بالحديث المار ذكره في معرض العذر عن تأخير إسلامه ، وهناك أقوال بأن الشاهد في هذه الآية موسى عليه السلام شهد على التوراة التي هي مثل القرآن بأنها منزلة من عند اللّه ، كما شهد محمد على القرآن فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم يا معشر قريش عن الإيمان بالقرآن ومحمد ، وأن الآية نزلت في محاججة كانت بين الرسول وقومه ، واستدل صاحب هذا القول بأن السورة مكية ، وعبد اللّه بن سلام أسلم في المدينة ، والأول أولى ، لأن هذه الآية من المستثنيات بمقتضى الأحاديث الصحيحة المتقدمة ، ومنها ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن عوف ابن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة عبد اللّه بن سلام ، وروى ذلك عن محمد ابن سيرين وهو ما عليه جمهور المفسرين وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، وروى ذلك ابن سعيد وابن عساكر عن عكرمة.
قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» منهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم «لَوْ كانَ» ما جاء به محمد «خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» هؤلاء المؤمنون به بادئ الرأي لفقرهم ومهانتهم عندنا يعنون عمارا وصهيبا وابن مسعود وأمثالهم من فقراء المسلمين ، ويسكتون عن أبي بكر وأصحابه الذين آمنوا قبل هؤلاء «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ» هؤلاء الكفرة «فَسَيَقُولُونَ» عنادا وجحودا «هذا» الذي جاء به محمد وآمن به هو وأولئك «إِفْكٌ قَدِيمٌ» 11 كان يقوله مثله من قبله لقومه ليس بقرآن.
قال(4/127)
ج 4 ، ص : 128
تعالى ردا لقولهم كيف يقولون ذلك «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى » أنزلناه عليه كما أنزلنا هذا القرآن على محمد «إِماماً» يقتدي به قومه «وَرَحْمَةً» منا لمن آمن به وصدقه وعمل به وهو شاهد أيضا لما جاء به محمد لأن ما جاء فيه من المعاني مطابقة لما في قرآنه من التوحيد والوعد والوعيد والقصص والأخبار «وَهذا كِتابٌ» أنزلناه عليك يا محمد «مُصَدِّقٌ» لما قبله من الكتب في المعنى وخاصة فيما هو في كتاب موسى لأنه أعم من غيره بالنسبة لسائر الكتب وجعلناه «لِساناً عَرَبِيًّا» حال من فاعل مصدق وهو الضمير العائد للكتاب «لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» منهم بلسانهم كي يفهموه ويعوه «وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ» 12 العاملين به «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» على إيمانهم وجمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم أن يلحقهم ما يكرهونه «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» 13 على ما فاتهم من الدنيا لأن اللّه عوضهم خيرا منها في دار جزائه ولا على ما يناله غيرهم مما يحبونه لأن كلا منهم راض بما أعطاه اللّه ويعتقد أن لا أحد أحسن منه من صنفه ولذلك فلا تحاسد عند أهل الجنة ، راجع الآية 30 من فصلت «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 14 في دنياهم من الإحسان وناهيك بإحسان يكون من الملك الديان.
وهذه الآية المدنية الثانية ، قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً» بأن يحسن إليهما ولا يسيء «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً» حين ثقل عليها «وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» بشدة الطلق حالة الوضع «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ» فطامه عن الرضاع «ثَلاثُونَ شَهْراً» وذلك أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع سنتان ، فإذا وضع لأكثر من ستة نقص من مدة الرضاع مثل ما زاد على مدة أقل الحمل ، فإذا كان الوضع لتسعة مثلا كان الرضاع واحدا وعشرين شهرا وهكذا ، أما من يولد لتمام سنتين على قول أبي حنيفة أو لتمام أربع سنين على قول الشافعي رحمهما اللّه فهو نادر ، وعلى كل يكون رضاعه دون السنتين ، ولهذا البحث صلة في الآية 14 من سورة المؤمنين الآتية ، «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ» جمع لا واحد له من لفظه.(4/128)
ج 4 ، ص : 129
وقال سيبويه واحده شدة ، راجع تفصيل ما فيه في الآية 14 من سورة القصص في ج 1 ، «وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» هي نهاية تمام قوته واستوائه وغاية كمال شبابه وعقله وكماله ، ولهذا جاء في الحديث أن الشيطان يمر يديه على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول له يأبى وجه لا يفلح.
وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جديد عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا : من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار.
وقيل في هذا المعنى :
إذا المرء في الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وإن جرّ أسباب الحياة له العمر
لأنه والعياذ باللّه ينطبع على ما هو عليه فيصعب تبديل خلقه كما يستحيل تغير خلقه ، وفي هذا المعنى أيضا يقول الآخر :
وماذا يبتغي الشعراء مني وقد جاوزت سنّ الأربعين
وقال الآخر :
أبعد شيي أبتغي الأدبا وكنت قبلا فتى مهذبا
إلا من شملته عناية اللّه فخصه بلطف منه بسائق ما قدر له في الأزل ، لأنه قد يسبق عليه كتابه كما جاء في الحديث الصحيح المار ذكره.
«قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» ألهمني ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» بالإيمان والهداية والرشد «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» مني بأن يكون خالصا لوجهك «وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» بأن تكون صالحة مرضية أنتفع بها وتنتفع بي في الدنيا والآخرة «إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 15 قلبا وقالبا «أُولئِكَ» أمثال هذا القائل هم «الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا» في الدنيا من الطاعات ، لأن المباحات وإن كانت حسنة إلا أنها قد تكون لا حسنة ولا قبيحة فلا يثاب عليها ، ولهذا عبّر بالأحسن جل إحسانه القائل «وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» فلا نؤاخذهم عليها وسيعدّون «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» في الآخرة وكان هذا الوعد بالقبول والتجاوز وإدخال الجنة لهؤلاء الشاكرين التائبين «وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» 16 به في الدنيا على لسان رسلهم لا خلف فيه البتة.(4/129)
ج 4 ، ص : 130
مطلب فيما اختص به أبو بكر ورد عائشة على مروان ومعرفة الراهب :
أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهم أنها نزلت في أبى بكر الصديق رضي اللّه عنه ، وقال علي كرم اللّه وجهه إنها نزلت في أبي بكر حيث أسلم أبواه جميعا ، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أنه أسلم أبواه غيره وأوصاه اللّه بهما ، ولزمت هذه الوصية من بعده ، وفي قوله كرم اللّه وجهه (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) دليل على مدنية هذه الآية ، إذ لم تطلق هذه الكلمة على أحد قبل الهجرة.
قال ابن عباس وقد أجاب اللّه دعاءه فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في اللّه منهم بلال ، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه اللّه عليه ووفقه لفعله.
وقد أجاب دعاءه بإسلام أهله أيضا فاجتمع له أبواه أبو قحافة عثمان بن عمرو ، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو ، وابنه عبد الرحمن ، وحفيده أبو عتيق ، وكلهم مسلمون.
ولم يجتمع لأحد من الصحابة مثل هذا ، وقد صحب رضي اللّه عنه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة والنبيابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام ، فنزلوا منزلا فيه سدرة ، فقعد صلّى اللّه عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين ، فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة ؟ فقال محمد بن عبد اللّه ابن عبد المطلب نسبة لجده ليعلمه مقامه وقدره لأن عبد المطلب مشهور في مكة وغيرها ، وكان يلقب بقاضي العرب وخطيب الحرم ليحترمه ، فقال الراهب هذا واللّه نبي ، وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا ، وهو نبي آخر الزمان ، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، فكان لا يفارقه في سفر ولا في حضر ، وبعد أن شرفه اللّه بالنبوة آمن به ، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا ربه بما حكاه اللّه عنه في هذه الآية.
وما قيل إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص لم يثبت ، وهو أهل لأن ينزل به قرآن لأنه من العشرة المبشرين بالجنة ، ومن رءوس المهاجرين الأخيار وأحبهم إلى النبي المختار ، والآية بلفظها عامة يدخل فيها كل من هذا شأنه ويدخل فيها أبو بكر وسعد وأمثالهما من الصحابة دخولا أوليا ، وعلى القول بأنها خاصة بالصديق فيكون لفظ الإنسان بالآية من العام المخصوص ، لأن لفظ الإنسان(4/130)
ج 4 ، ص : 131
لم يأت في القرآن العظيم إلا في سياق الذم ، قال تعالى (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الآية 17 من عبس (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 6 من الإنفطار (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الآية 6 من الإنشقاق (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) الآية 2 من العصر في ج 1 وقال (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) من آخر الأحزاب في ج 3 ، فهذه كلها في معرض الذم ، فتكون الأولى في معرض المدح هنا ، إذ ما عموم إلا وخص منه.
قال تعالى «وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما» تضجر منهما كراهية لهما راجع الآية 23 من الإسراء في ج 1 ، «أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ» هذه الجملة مقول القول أي أأنشر حيّا من قبري بعد بلائي «وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي» فلم يحيى منهم أحد «وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ» عليه لما سمعا كلامه الدال على إنكار البعث ، وعدم الإيمان وصارا يقولان له «وَيْلَكَ» هلاكك من وبال هذا الكلام ، وأصل الويل الدعاء بالثبور والهلاك ، ويقوم مقام الحث على الفعل أو تركه «آمِنْ» باللّه وصدق رسوله واعتقد بالحياة الآخرة بعد الموت ، فقد وعد اللّه به رسله وأخبرونا به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» واقع لا محالة ، وأنه سيدخل المؤمنين الجنة والكافرين به النار البتة «فَيَقُولُ» لهما «ما هذا» الذي تدعوان إليه بأن أصدقه وأقبله «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 17 خرافاتهم الكاذبة الملعقة ، وهذه الآية عامة في كل كافر دعواه والداه إلى الإيمان باللّه ورسوله واليوم الآخر ، فلم يفعل ولم يصغ لقولهما ، وما زعمه مروان في الحديث الذي رواه البخاري عن يوسف بن ماهك قال :
كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له ، فقال له عبد الرحمن بن ابي بكر رضي اللّه عنهما شيئا ، فقال لشرطته خذوه ، فدخل بيت عائشة ، فلم يقدروا عليه ، فقال مروان هذا الذي أنزل اللّه فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) فقالت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها من وراء الحجاب ما أنزل اللّه فينا شيئا من القرآن (تريد مما هو يفيد الذم) إلا ما أنزل اللّه في سورة النور من براءتي.
ومما يؤيد قول عائشة وينفي قول مروان عليه ما يستحق من الملك الديان قوله تعالى «أُولئِكَ» العاقون الكافرون هم «الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ(4/131)
ج 4 ، ص : 132
الْقَوْلُ»
بالعذاب المقدر أزلا «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» 18 الآخرة كما خسروا الدنيا ، وعبد الرحمن رضي اللّه عنه وعن والديه من أفاضل المؤمنين فلا يتصور دخوله في هذه الآية البتة ، وإسلام أبويه قبله لا يقتضي نزول هذه الآية فيه ، لأن إسلامه جب ما قبله فضلا عن أنه من أبطال المؤمنين ، وله مواقف مشهورة يوم اليمامة وغيره ، لهذا فلا يعقل نزول هذه الآية فيه ، بل هي عامة في كل مؤمنين دعيا أولادهما للإيمان ، قال تعالى «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» بحسب برهم وكمال إيمانهم ، وللكافرين الدركات بمقتضى عقوقهم وعصيانهم ، وفيه تغليب الدرجات على الدركات «وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ» يوم القيامة «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 19 فيها فلا يزاد على سيئات المسيء ولا ينقص من حسنات المحسن.
مطلب فى قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ) الدنيا وكيفية إهلاك قوم عاد :
«وَ» اذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ» فيقال لهم على رءوس الأشهاد «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» فلم يبق لكم في الآخرة ما تكافأون عليه لأنكم استوفيتم حظكم في الدنيا «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» الذي فيه الذل والصغار والخزي والهوان «بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» بطرا ، والكبرياء من خصائص الإله فلا يحق لكم أن تتصفوا به بسبب ما خولكم من نعمه من مال وولد ورئاسة بل عليكم أن تشكروا نعمه وتتواضعوا لجلاله ليزيدكم «وَ» يجازيكم أيضا «بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» 20 تخرجون عن طاعته وتتجاوزون حدوده وتقعون في حماه ، وقد وصف اللّه تعالى هذا الصنف بالاستكبار وهو من عمل القلب ، والفسق وهو من عمل الجوارح ، وجعل عذابهم بالذل والهوان بمقابلة ذلك.
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال : دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإذا هو متكىء على رمال حصير قد أثر في جنبه ، فقلت أستأنس يا رسول اللّه ؟ قال نعم ، فجلست فرفعت رأسي في البيت فو اللّه ما رأيت شيئا يرد البصر إلا أهبّة ثلاث ، فقلت أدع اللّه أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس(4/132)
ج 4 ، ص : 133
والروم ولا يعبدون اللّه ، فاستوى جالسا ، ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟
أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ، فقلت استغفر لي يا رسول اللّه.
طلب المغفرة رضي اللّه عنه إذ فهم من كلام صاحبه صلّى اللّه عليه وسلم أن طلبه ذلك مما لا ينبغي أن يقع من مثله وظن أنه أخطأ باقتراحه ذلك ، غفر اللّه له ورضي عنه يخاف من مثل هذا وهو مبشر بالجنة ، فكيف بنا أيها الناس ؟ نسألك اللهم العفو والعافية والرضاء ، ولنذكر نبذة مما كان عليه حضرة الرسول لعلنا نتعظ ونقنع بما عندنا رزقنا اللّه القناعة بالدنيا والشفاعة بالآخرة.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت :
ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
ورويا عنها قالت : كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو (غذاؤنا) الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحم ، أي من قبل الغير.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال :
لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار أو كساء قد ربطوا في أعناقهم ، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين ، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وروى البخاري عن ابراهيم بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال : قتل مصعب بن عمير وهو خير مني ، فكفن في برده إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه ، قال وأراه قال قتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد ما يكفن به إلا برده ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط ، وقد خشيت أن تكون عجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال :
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء ، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير.
وقال جابر بن عبد اللّه : رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي ، فقال ما هذا يا جابر.
فقلت اشتهيت لحما فاشتريته ، فقال أو كلما اشتهيت يا جابر اشتريت أما تخاف هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ.
وجاء رجل إلى عمر فرآه يأكل في قصعة وآخرين يأكلون في قصعة أخرى ، فجلس معه بزعمه أن الذي أمامه أحسن فإذا هي عظام وعصب فقال ما هذا يا أمير المؤمنين ؟ قال فما تظن ، إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايبها إلى آل محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، والذي يليه إلى(4/133)
ج 4 ، ص : 134
المهاجرين والأنصار ، والذي يليه إلى من حضر من المسلمين ، وما بقي لعمر وآل عمر ، على أننا أعلم بصلاء الجداء منكم ، ولكن لا نريد أن يقال لنا غدا (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ.
وعليه فلا يظن أحد أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يصبر على قلة الأكل وأدونه لعدم قدرته على غيره ، كلا كيف وقد خيره اللّه أن يجعل له جبال مكة ذهبا ، ولكن هذا من باب الزهد له صلّى اللّه عليه وسلم ولعمر رضي اللّه عنه ، والآية في كفار قريش لأنهم كانوا مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الآخرة تاركين ما يوصل إليها من خير
ولهذا ذكرهم اللّه بقوله «وَاذْكُرْ» يا محمد لقومك الكافرين «أَخا عادٍ» هودا عليه السلام «إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ» جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء يقال احقوقف الشيء أي أعوج أو كثيب الرمل المعوج ، وقال ابن عباس هو واد بين عمان ومهرة ، فيه ذلك الكثيب المنكسر وإلا فاللغة لا تسمي الوادي حقفا وإنما ذكرهم بهم لأنهم كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة وجاها وقد سلط اللّه عليهم العذاب بكفرهم ليتعظوا بمن قبلهم لئلا يصيبهم ما أصابهم «وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ» جمع نذير بمعنى الرسل «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي قبل نبيهم وبعده قال لهم «أَلَّا تَعْبُدُوا» أحدا ولا شيئا «إِلَّا اللَّهَ» وحده المستحق للعبادة «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن عبدتم غيره «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» 21 في هوله عظيم في عذابه ترتعد له القلوب وتذل فيه الجبابرة وتقشعر له الجلود وتهان فيه الأكاسرة والقياصرة «قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا» تصرفنا بما تموه علينا من الكذب «عَنْ» عبادة «آلِهَتِنا» التي دأبنا عليها وآباؤنا من قبلنا ، كلا لا نقبل منك «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» به من العذاب «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 22 في قولك «قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ» وحده بوقت مجيء العذاب الذي هددتكم به لم يخبرني به «وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» من لدنه لتعلموا أني قمت بواجبي نحركم وأديت ما أمرت به «وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» 23 أهمية عذاب اللّه ولا تلقوا إليه بالا ، فلم يلتفتوا إلى قوله ، قال تعالى «فَلَمَّا رَأَوْهُ» أي العذاب الذي وعدهم به نبيهم وقد بينه اللّه بقوله جل قوله «عارِضاً» في ناحية السماء «مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» قال ابن عباس(4/134)
ج 4 ، ص : 135
أوديتهم بين عمان ومهرة ، وقيل في مهرة في أراضي حضرموت باليمن ، ففرحوا فرحا شديدا ، لأن المطر كان حبس عنهم مدة طويلة ، وكانوا أهل عمل ، إلا أنهم يسيرون إلى المراعي ومواقع القطر في الربيع ، فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم ، وهم من قبيلة إرم «قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» لأن العارض هو السحاب يعرض في ناحية السماء ثم يطبق بآفاقها فيمطر إن شاء اللّه ، قال الأعشى :
يا من يرى عارضا قد بت أرقبه كأنما البرق في حافاته الشعل
وقال الآخر :
يا من رأى عارضا أرقت له بين ذراعي وجبهة الأسد
قال تعالى ردا على زعمهم «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ» من العذاب «رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» 24 لا طاقة لقوى البشر على تحمله ولا تقدر على دفعه ، وهذه الجملة صفة ريح لأنه نكرة والجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال ، وهذه الريح المشئومة «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ» تمر به وتهب عليه «بِإِذْنِ رَبِّها» لأنها مرسلة منه بالعذاب فلا تبقي لما تمر به أثرا ، فأهلكهم اللّه جميعا «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» خالية ، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية ، أو لسيد المخاطبين خاصة ، وقرىء يرى على الغيبة بالمجهول وهي المثبتة بالمصاحف «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الصارم «نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» 25 قالوا إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة ، فدخلوا بيوتهم حين رأوها وأغلقوا أبوابها ، فقلعت الأبواب وصرعتهم ، وأهالت عليهم الرمال سبع ليال وثمانية أيام ، حتى دفنتهم وصار لهم أنين تحت الرمال ، ثم كشفتها عنهم وحملتهم فرمتهم في البحر وتركت بيوتهم خالية ، قالوا وإن هودا عليه السلام خط على نفسه ومن آمن به خطا فصارت تمر بهم لينة باردة معجزة له عليه السلام.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ، وإذا تخيلت السماء (تغميت ، والمخيلة السحاب الذي يظن فيه المطر) تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر ، (4/135)
ج 4 ، ص : 136
فإذا أمطرت السماء سرّي عنه (كشف وأزيل ما كان به من الغم) فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) الآية.
وتمام القصة مبينة في الآية 58 من سورة هود المارة فراجعها وما ترشدك إليه ، قال تعالى «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ» أي قوم عاد «فِيما» في شيء عظيم «إِنْ» نافية بمعنىّ ما أي ما «مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ» يا أهل مكة من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً» يستعملونها فيما خلقت لها من النظر في آلاء اللّه ليفقهوا أمر دينه فصرفوها لغير ما خلقت لها من أمور الدنيا الصرفة «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» يحول دون ذلك العذاب لأنهم استعملوها في معصية اللّه ، فكان وجودها نقمة لا نعمة «إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» التي أظهرها على أيدي أنبيائهم «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 26 أحاط بهم العذاب جزاء سخريتهم ، وفي هذا تهديد لأهل مكة ووعيد كبير لما يجابهون به نبيهم ، «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى » بإهلاك أهلها كديار ثمود وقرى قوم لوط وحجر صالح وقرى عاد باليمن ، وإنما خاطب أهل مكة بهذا لأنهم يرونها بأسفارهم وحلة الشتاء والصيف «وَصَرَّفْنَا» بينا وكررنا «الْآياتِ» الدالة على التوحيد والبعث والأوامر والنواهي «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 27 إلى الإيمان بذلك ، فلم يفعلوا وأصروا على كفرهم «فَلَوْ لا» هلا «نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً» يتقربون بها إلى اللّه ليشفعوا لهم عنده فعبدوها من دونه.
ألا عبدوا اللّه وحده كي ينصرهم ويخلصهم مما حل بهم «بَلْ ضَلُّوا» عن الطريق السوي فلم يتقربوا إليه وتقربوا إلى أوثانهم التي غابت «عَنْهُمْ» عند حلول العذاب بهم فلم ينتفعوا بهم «وَذلِكَ» قولهم إنها تقربهم إلى اللّه وتشفع لهم عنده هو «إِفْكُهُمْ» اختلاقهم الكذب «وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» 28 من البهت على الملائكة وعيسى وعزير من إسناد عبادتهم إليهم ، إذ تبرءوا منهم وأنكروا عبادتهم لهم وعلمهم بهم أيضا ، ولهذا فقد غشيهم العذاب ولم يجدوا من ينقذهم منه ، ولو أنهم تعرفوا إلى اللّه وتقربوا له لنجاهم منه ، ثم شرع جل شرعه(4/136)
ج 4 ، ص : 137
ببيان ما وقع لحبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم مع الجن ليذكره لقومه ، وقد مر أول سورة الجن ما يتعلق برؤيتهم وحضورهم لدى الرسول بصورة مفصلة فراجعها في ج 1.
مطلب تكليف الجن ودخولهم في رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وأولي العزم من الرسل :
قال تعالى «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ» منك كما يستمعه الإنس لأنه صلّى اللّه عليه وسلم مرسل إليهم أيضا كما أوضحناه هناك «فَلَمَّا حَضَرُوهُ» أي مجلسك الذي كنت تتلوه فيه «قالُوا» بعضهم لبعض «أَنْصِتُوا» تأدبا واحتراما لسماعه وليعوا ما يأمر به وينهى عنه ، فأصغوا وبقوا منصتين «فَلَمَّا قُضِيَ» فرغ من القراءة وتفاهموا مع حضرة الرسول وأجابهم لما سألوا عنه «وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» 29 لهم سوء عاقبة الطغيان ومخوفيهم من هول القيامة والوقوف لدى الملك الديان لأنهم بعد أن آمنوا به صلّى اللّه عليه وسلم أمرهم تبليغ قومهم ما سمعوا منه وأن يؤمنوا باللّه ، ولما ذهبوا إليهم «قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى » يفهم من هذا أنهم كانوا يتدينون بالتوراة ولم يذكروا عيسى لأنه عليه السلام كان يعمل بالتوراة عدا ما غيرت منها شريعته بما جاء في الإنجيل المنزل عليه وهي أجل الكتب السماوية وأجمعها بعد القرآن ، ويدل على عملهم بالتوراة قوله تعالى «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية الإنجيل فما قبله ، لأن الذي فيها كله موجود بالقرآن ، ثم وصفوه بوصف أعظم بقولهم «يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» الذي يجب اتباعه من العقائد والأحكام «وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» 30 لا يضل متّبعه ولا يزيغ
«يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه هذا الكتاب الجليل وهو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب الذي أرسله اللّه لإرشاد هذا العالم كله «وَآمِنُوا بِهِ» وصدقوه واعملوا بكتابه.
واعلم أن الإيمان داخل بالإجابة ، وإنما خصوه بالذكر ثانيا لأنه الأصل وهو المقصود من الإجابة ، فيكون من باب ذكر العام وعطف أشرف أنواعه عليه ، فإذا فعلتم «يَغْفِرْ لَكُمْ» اللّه ربه وربنا وربكم ورب الكون أجمع «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» التي اقترفتموها «وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» 31 حق عليكم بسبب كفركم باللّه وتعديكم على الغير.
تفيد هذه الآية الكريمة أن الجن كالإنس منهم المؤمن(4/137)
ج 4 ، ص : 138
ومنهم الكافر ، وأن مؤمنهم معرض للثواب وكافرهم مهيء للعقاب ، وإنما عبر بمن لأن الغفران لا يعم كل الذنوب إذا لم يشأ اللّه ذلك ، لأن منها ما هو حق خالص للّه مبني على المسامحة ، ومنها ما يتعلق بها حق الغير فيتوقف غفرانها على إرضاء أربابها لأنه مبني على المشاححة ، فقد لا تسمح نفسه بعفوها ، فالأولى تكفرها التوبة فقط ، والثانية التوبة وتأدية الحقوق ، والمقاصصة أو العفو ، والتي فيها حق اللّه حق العبد فيلزم لها كلا الشرطين ، راجع الآية 27 من سورة الشورى المارة تعلم تفصيل هذا ، على أن اللّه تعالى إذا أراد خيرا بأمثال هؤلاء فإنه يرضي خصومهم ويدخلهم الجنة جميعا ، قال ابن عباس وابن أبي ليلى إن الجن كالإنس يثابون على الإحسان ويعاقبون على الإساءة ويدخلون الجنة والنار بسبب أعمالهم ، ونراهم في الآخرة من حيث لا يروننا عكس حالتهم في الدنيا كما ذكرناه في الآية 27 من سورة الأعراف في ج 1 ، وهذا أصح الأقوال في الجن يؤيده قوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) الآية 56 من سورة الرحمن في ج 3 ، قال هذا حمزة بن حبيب ، وقال عمر بن عبد العزيز يكونون في رحاب الجنة وربضها أي فنائها ، ثم هددوا قومهم فقالوا لهم «وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ» فإنه يخذله ويأخذه أخذا قويا «فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ» لأنه في قبضة ذلك الإله العظيم الذي لا يفوته فائت ولا يهرب من جزائه هارب سواء دخل في أعماق الأرض أو طار في أقطار السماء أو غاص في أعماق البحور ، ولهذا البحث صلة في الآية 33 من سورة الرحمن في ج 3 فراجعه «وَلَيْسَ لَهُ» لهذا الذي لا يجيب داعي اللّه من «مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ» يمنعون وصول العذاب إليه أو ينصرونه منه «أُولئِكَ» الذين لا يجيبون داعي اللّه الآبون عن الإيمان به «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 32 ظاهر معرضين عن سلوك الطريق القويم.
وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة واضحة على عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم إلى الجن ، وعلى أن الجن هم رسله إلى قومهم كرسل سيدنا عيسى عليه السلام ، كما أشرنا إليه في الآية 28 من سورة سبأ وفيها ما يرشدك إلى الآية 158 من سورة الصافات والآية 128 من سورة الأنعام المارات فيما يتعلق بهذا وغيره فراجعها تجد ما تريده إن شاء اللّه.
أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن الحبر أنه قال : (4/138)
ج 4 ، ص : 139
صرفت الجن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مرتين.
وقد نقلنا في القصة على ما ذكره الخفاجي أن الأحاديث دلت على أن وفادة الجن كانت ستة مرات ، وبذلك يجمع بين الاختلاف الوارد في الروايات بأن كان عددهم سبعة ، وقيل تسعة ، وقيل اثنى عشر ، وقيل ثلاثمائة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم اثنا عشر ألفا ، وعن مجاهد أنهم واحد وأربعون ، وهذا الاختلاف في العدد أيضا يدل على أن لقاءهم بحضرة الرسول كان ست مرات وكل راو روى عددا مما ذكر ، وكما وقع الاختلاف في الوفادة والعدد والمكان وقع الاختلاف في الزمن ، وقدمنا أيضا ما يتعلق فيه أول سورة الجن ، وإلى هنا انتهى ما يتعلق بالجن ، أما تاريخه فقد أخرج أبو نعيم في الدلائل والواقدي عن أبي جعفر قال : قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة أي كان أول اجتماعهم به.
هذا واللّه أعلم.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَوْا» قومك يا محمد «أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ» يعجز ويتعب أو يتحيّر وحاشاه من هذا كله «بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى » مرة ثانية كما خلقهم أول مرة قل يا أكرم الرسل «بَلى » هو قادر على ذلك وهو أهون عليه ، لأن الإبداع وهو اختراع ما لم يكن أعظم من الإعادة لأن لها مثالا وهو على غير مثال «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 33 وإحياء الموتى شيء مقدور للّه ، فينتج إحياء الموتى مقدور للّه ، وذلك أن قوله (عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ) تشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول كما ذكرنا ، ويلزم منها أنه تعالى قادر على إحياء الموتى كما أنشأهم أول مرة.
واعلم أن ما قرأه بعضهم بدل قدير (يقدر) لا يلتفت إليه ولا تجوز هذه القراءة كما مر في الآية 58 من سورة الأنعام ، ولبحث القراءة صلة في الآية 11 من سورة الحج في ج 3.
قال تعالى «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من منكري البعث وغيرهم «عَلَى النَّارِ» يوم القيامة يقال لهم «أَ لَيْسَ هذا» الذي تشاهدونه من الإحياء بعد الموت والعذاب الذي أوعدكم به الرسل في الدنيا «بِالْحَقِّ» والصدق كما أخبروكم به «قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ» تعالى «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» 34 بذلك وتجحدونه.
وهذه الآية الثالثة المدنية كما قال صاحب البحر(4/139)
ج 4 ، ص : 140
عن ابن عباس وقتادة رضي اللّه عنهم وقد التفت بها جل جلاله إلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم يسليه بها عما هاجمه به قومه فقال عز قوله «فَاصْبِرْ» يا أكرم الرسل «كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ» ذوو الثبات والجد والحزم «مِنَ الرُّسُلِ» قبلك وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وهو خاتمهم ، راجع الآية 13 من سورة الشورى المارة والآية 7 من سورة الأحزاب في ج 3 ، وهذا أصح الأقوال في عددهم ، وقال بعض العلماء إن الرسل كلهم أولوا عزم ، لأنهم امتحنوا وصبروا عدا من استثنى اللّه بقوله في حق آدم (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) الآية 115 من سورة طه.
وفي حق يونس بقوله (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) الآية 48 من سورة القلم المارتين في ج 1 ، وقال آخرون هم الثمانية المذكورون في الآيتين 85/ 86 من سورة الأنعام المارة ، وعلله بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الآية 97 منها وقال غيرهم أنهم تسعة : نوح لصبره زمنا طويلا على أمته ، وإبراهيم لصبره على الإلقاء بالنار ، وإسماعيل لصبره وتسليم نفسه للذبح ، ويعقوب على فقد ولده ، ويوسف على البئر والسجن والمرأة ، وأيوب على البلاء العظيم الذي ابتلي به ، وموسى على قومه ، وداود لبكائه على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى على الزهد في الدنيا ، وهذا القول ضعيف لعدم ذكره خاتم الرسل الذي امتحن بأكثر منهم وصبر على أذى قومه مع قدرته عليهم بتقدير اللّه إياه على الانتقام منهم ، والقول الأول هو الصحيح ، وقد نظمهم بعض الأجلة بقوله :
أولو العزم نوح والخليل الممجد وعيسى وموسى والحبيب محمد
أي اصبر يا محمد على دعوة الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك «وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» نزول العذاب الذي وعدناك به ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم وأنهم مهما مكثوا في هذه الدنيا لا يعد شيئا بالنسبة لطول الآخرة «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ» من العذاب وأهوال القيامة «لَمْ يَلْبَثُوا» في الدنيا «إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» لأنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا لما يرون من أهوال القيامة وطولها حتى يظنونه ساعة واحدة.
واعلم يا سيد الرسل أن هذا القرآن الموحى إليك وما فيه من الآيات البينات «بَلاغٌ» كاف من الموعظة وان(4/140)
ج 4 ، ص : 141
فيه العبرة لمن له قلب واع وسمع سامع وبصر ناظر وفكر ثاقب وتدبر واسع ، أما من ليس له شيء من ذلك فهو عات فاسق ، ولهذا يقول اللّه تعالى «فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ» 35 الخارجون عن طاعة اللّه الذين لا يتعظون بالإنذار والوعيد.
ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه اللفظة ولا مثلها في عدد الآي.
قال قوم من القوم ما في الرجاء لرحمة اللّه أقوى من هذه الآية ، أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له العلي العظيم ، لا إله الا اللّه وحده لا شريك له الحليم الكريم ، بسم اللّه الذي لا إله إلا هو الحي الحكيم ، سبحان اللّه رب العرش العظيم ، الحمد للّه رب العالمين ، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا ساعة أو ضحاها ، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون.
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والسلامة من كل إثم ، والغنيمة من كل بر ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار ، اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ، ولا هما إلا فرجته ، ولا دينا إلا قضيته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين وعلى أتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الذاريات
عدد 17 - 67 - 51
نزلت بمكة بعد سورة الأحقاف وهي ستون آية ، وثلاثمئة وستون كلمة ، وألف ومئتان وتسعة وثلاثون حرفا ، لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً» 1 الرياح التي تذر التراب وغيره فتفرقة وتبدده تشبيها بتذرية الهشيم لاجتماع التفرق في كل «فَالْحامِلاتِ وِقْراً» 2 السحب التي تحمل المياه حملا ثقيلا «فَالْجارِياتِ(4/141)
ج 4 ، ص : 142
يُسْراً»
3 الفلك التي تجريها الرياح على الماء بسهولة وتؤده ، كما يشعر به قوله يسرا ، ويراد بها السفن ذات الشراع «فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» 4 الرياح التي تقسم الأمطار وتفرق السحب إلى حيث يشاء اللّه وبالمقدار الذي يعلمه الكائن بأمره ، لا دخل ولا تأثير لها ولا لغيرها بشيء منه.
هذا ، وقد أقسم اللّه تعالى بهذه الأشياء لعظم منافعها وجواب القسم قوله «إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ» حق لا خلف فيه فكل ما أخبركم به الرسول من البعث والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار صدق لا مرية فيه «وَإِنَّ الدِّينَ» الجزاء على الأعمال وغيرها حسنها وسيئها والحساب عليها «لَواقِعٌ» 6 حتما والوعد به منجز حقا ثم أكد قسمه بقسم آخر فقال «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» 7 البناء المتقن الرصين الذي لا تفاوت فيه المستوي الحسن البديع الخلق ، المزيّن بالنجوم البديعة وقيل الطرق ، قال زهير :
مكلل بأصول النجم تنسجه ريح فريق لضاحي مائه حبك
جمع حبكة كطريقة يقال حبك الماء للتكسّر الجاري فيه إذا ضربته الريح ، ويؤيد الأول قوله تعالى في الآية 47 الآتية (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) والآية 5 من سورة والشمس (وَالسَّماءِ وَما بَناها) في ج 1 ، وقوله (أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) الآية 27 من النازعات الآتية وأقسم تعالى بها لحسن خلقها وجواب القسم قوله «إِنَّكُمْ» يا أهل مكة ويا أيها الناس أجمع «لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» 8 فيما أنزلناه على رسولنا فمنكم من يقول ساحر ومنكم من يقول كاهن ومن يقول شاعر ومن يقول أساطير الأولين في حق القرآن وكهانة وسحر أيضا ، ومنكم من يقول افتراه من نفسه وتعلمه من الغير ، ومنهم من يقول لو نشاء لقلنا مثل هذا «يُؤْفَكُ» يصرف «عَنْهُ» عن الإيمان به «مَنْ أُفِكَ» 9 من صرفه اللّه عن خيره وحرمه من هداه ومنعه من رشده بسبب اختلاق هذه الأكاذيب «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ» 10 الكذابون المبهتون
«الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ» غفلة وجهالة وعمى «ساهُونَ» 11 عن التعرض لنفحات نور القرآن لاهون عن التفكر في معناه معرضون عن الإيمان به لشدة انهماكهم في زخارف الدنيا وتوغلهم في شهواتها «يَسْئَلُونَ» سؤال سخرية واستهزاء «أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» 12 الذي تذكره لنا يا محمد ، كأنهم أعماهم اللّه(4/142)
ج 4 ، ص : 143
يريدون أن يريهم إياه عيانا ، فقل لهم يا سيد الرسل يرون اليوم الذي يسألون عنه «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» 13 يحرقون فيها ، يقال فتنت الشيء أحرقته وأزلت خبثه لتطهر خلاصته ، وسيعرفونه حقا يوم تقول لهم خزنة جهنم «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» عذابكم المعد لكم الذي هو نتيجة كفركم بالرسل ومرسلهم والكتب والبعث والحساب والعقاب والجنة والنار ونمرة جحودكم بذلك التي اقتطفتموها بأيديكم الأثيمة ويقال لهم أيضا «هذَا» الإحراق والتعذيب هو «الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» 14 وتسألون عنه في الدنيا «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» في ذلك اليوم «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 15 جارية بينها «آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ» من الكرامة وحسن القبول لأن الأخذ قبول عن قصد «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ» في حالة الدنيا قبل دخولهم الجنة «مُحْسِنِينَ» 16 في أعمالهم ومعاملاتهم مع أنفسهم وغيرهم.
مطلب قيام الليل وتقسيم الأعمال والصدقات والتهجد وآيات اللّه في سمائه وأرضه :
ثم وصف معاملتهم معه جل جلاله بقوله «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» 17 لأنهم يؤثرون عبادة اللّه على النوم فيستغرقون أكثره بالصلاة والذكر «وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» 18 ربهم عن تقصيرهم بالنهار أيضا لأنهم عرفوا أنهم مهما عبدوه لا يؤدون بعض شكره ، على حد قول الشيخ بشير الغزي دفين حلب رحمه اللّه :
لو أن كل الكائنات السنه تثني علي علاه طول الأزمنه
لم تقدر الرحمن حق قدره ولم تؤد موجبات شكره
إلخ ما جاء في أرجوزته في نظم الشمسية في علم المنطق ، وهؤلاء الكرام دعموا إيمانهم بالعمل الصالح الجثماني والمالي أيضا ، يفيده قوله عز قوله «وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ» منها معلوم لديهم يعطونه «لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» 19 الذي ليس عنده شيء ولا يجري عليه شيء من الزكاة المفروضة ومن صدقة الفطر والتطوع ، إذ يجوز فيها انفاق ما زاد على الحاجة كما في الآية 22 من سورة البقرة في ج 3 المنبه عن إنفاق الفضل عن الحاجة ، وهذا الإنفاق رغبة وعن طيب نفس طلبا لما عند اللّه من الثواب ، لأن الأعمال الصالحة ثلاثة : مالي فقط وهو الزكاة ، وجثماني فقط وهو الصلاة والذكر ، ومالي وجثماني وهو الحج.
والمحروم هنا يراد به واللّه أعلم(4/143)
ج 4 ، ص : 144
المتعفف الذي لا يسال بدليل قرنه بالسائل ، ولهذا نبه اللّه عليه ، لأن الناس غالبا لا يعطون إلا من يسأل ولا يكادون يعطون المتعفف لظنهم أنه مكتف ، ولكن اللّه تعالى ذمّ الذين لا يعرفونهم إذ يجب على الأغنياء تفقد أمثالهم لأن التصدق عليهم أفضل منها على غيرهم ، وقد جاء بالخبر : اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم ، قال تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ...
لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) الآية 271 من البقرة في ج 3 فقد جعل جل شأنه الذين لا يتفقدون المتعففين جهلاء ليتقضوا لذلك ويرفعوا عنهم وصمة الجهل وليتعظ الذين يريدون وجه اللّه في صدقاتهم ، وإنما خص الأسحار بالاستغفار لأنها في ثلث الليل الأخير وهو وقت مبارك فيه يطلع اللّه تعالى على عباده وهو وقت غفلة أكثر الناس ، ولهذا فإن العارفين سارعوا إلى التهجد فيه ، لأنهم يعرفون ما فيه ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟.
ولمسلم قال : فيقول أنا الملك أنا الملك ، وذكر الحديثين ، وفيه حتى يضيء الفجر ، وزاد في رواية من يقرضني غير عديم ولا ظلوم ؟ يريد نفسه تقدست وعلت.
فمالكم أيها الناس معرضون عن التعرض لهذه النفحات القدسية والرحمات الرحمونية ، فهلموا إليها اغتنموها ولا تضيعوا أوقاتكم سدى وتهملوا أنفسكم فيفوتكم هذا الخير في هذا الوقت فهو مظنة القبول ، والإجابة إذا صحت النية وخلصت من الأهواء وكانت الرغبة إلى اللّه متوفرة ، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، وقولك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله(4/144)
ج 4 ، ص : 145
إلا أنت لا إله غيرك ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
وروى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : من تعارّ في الليل (يقال تعار الرجل من ذنوبه إذا انتبه وله صوت) فقال لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، الحمد للّه وسبحان اللّه ، واللّه أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، ثم قال اللهم اغفر لي أو قال دعا استجيب له ، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته.
ولهذا جعلت صلاة الليل من السنن المؤكدة لما فيها من الثواب العظيم في الدنيا بتنوير القلب وتطهيره ، وبالآخرة بالفوز في جنات النعيم.
واعلم أن المراد من هذا الحق حق الزكاة المفروضة لأن هذه الآية جاءت بمعرض الإخبار عن أوصاف المتقين فلا يقصد منها الإنشاء فيقال إن السورة مكية والزكاة لم تفرض إلا في المدينة ، وسبق أن ذكرنا غير مرة بأن الزكاة لا على قدر المفروض بالمدينة ، كانت متعارفة قديما قبل الإسلام وبعده ، راجع الآية 7 من سورة فصلت المارة ، وكذلك الصلاة كانت متعارفة إذ لم تخل أمة منهما ، إلا أن القدر والهيئة لم يكونا على ما نفعله الآن ، وان اللّه تعالى لم يبين في كتابه ذلك وإنما أبانه حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم أما الأصل فقد تعبد اللّه به الأمم كافة بواسطة رسله ، قال تعالى «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ» واضحات عظيمات الدلائل على وجود الإله القادر وحكمته البالغة وتدبيره الباهر لما فيها من الجبال والأودية والأنهار والعيون والبحار والمسالك والفجاج والطرق للسائرين فيها ، فمنها السهل والوعر والصعب والرخو والرملة والعذبة والسبخة والمعادن المتنوعة والدواب المنبئة المختلفة في الصورة والشكل واللون والكبر والصغر ، فمنها الطيب والخبيث ، والمفترس والهادئ ، والنفور والألوف ، وفيها أنواع النبات والأشجار المثمرة وغيرها ، المتباينة في الجنس والنوع والفصل والضر والنفع والطعم والرائحة وغير ذلك «لِلْمُوقِنِينَ» 20 باللّه المصدقين بكتبه ورسله واليوم الآخر المستدلين بها على مبدعها ، الآخذين العظات والعبر من كيفياتها وكمياتها وماهيتها.
«وَفِي أَنْفُسِكُمْ» أيها الناس آيات جليلة وعظيمة وعظات كبيرة «أَ فَلا تُبْصِرُونَ» 21 إبصار ناظر مدقق ونظر مبصر محقق يستعين بعين بصره على عين بصيرته فيتعظ بما(4/145)
ج 4 ، ص : 146
انطوى عليه جسمه من البراهين الدالة على الخالق إذ ليس في العالم من شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير ، وذلك مثل انفراده في هذه الهيئة النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة ، والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنايع المختلفة ، واستجماع الكمالات المتنوعة ، واحتياره على سائر الحيوانات بالنطق واعتدال القامة ، وكما أن الإختلاف في الأرض والمياه والحيوان والطير والحوت والحشرات فكذلك هو الإنسان ، فمنه الأسود ومنه الأحمر والأبيض والأصفر وما بين ذلك ، ومنه الاختلاف في المأكل والمشرب والملبس والمنام ، ومنه اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع ، فمنها ما هو من أصل واحد ، ومنها ما هو من أصول متنوعة ، ومنها ما هو موافق للحيوان بسبيل الطعام ومجرى الشراب ومخرجهما ، وقد بيّنا مراتب خلق الإنسان في الآيتين 64/ 67 من سورة المؤمن ، فراجعهما واعتبر وتيقظ.
ويكفي على عظمة الخالق وكمال قدرته خلق أصلك من تراب وأنت من نطفة فعلقة فمضغة فلحم ودم وعظم ، ثم روح وحركة وكلام وسمع وبصر وعقل وشباب وكهولة وشيخوخة وهرم ، وكذلك في الغذاء فمنه موافق لغذاء الحيوان كالحضروات والحبوب واللحم ، ومنها ما هو مباين كالتبن والشوك والحشيش وغيره.
واعلم أن اللّه تعالى جمع في الإنسان ما لم يجمعه في الحيوان ، لأن الحيوان الذي يأكل اللحم لا يأكل النبات والذي يأكل النبات لا يأكل اللحم غالبا ، والإنسان يأكلهما معا ، وجمع فيه ما لم يجمعه في الملائكة ، ولا في الحيوان ، لأن الملك له عقل بلا شهوة ، والحيوان له شهوة بلا عقل ، والإنسان جامع لهما ، فسبحان من أودع في كل خلقه عظات لا تحصى وعبرا لا تستقصى ، وللّه در القائل :
دواؤك منك ولا تشعر وداؤك فيك ولا تبصر
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
مطلب في الرزق وأنواعه وحكاية الأصمعي ، وفي ضيف إبراهيم عليه السلام :
قال تعالى «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» 22 به مقدر عند اللّه تعالى على تعاطي الأسباب ، فقد يكون عفوا وبتسخير الغير ، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية 2/ 3 من سورة الطلاق(4/146)
ج 4 ، ص : 147
في ج 3 ، راجع هذا البحث في تفسيرها وفي كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي تجد ما لا يخطر يبالك.
واعلموا أيها الناس أن ما قدر لكم لا حق بكم لا محالة وإن أعرضتم عنه ، أما غير المقدر فلو طلبتموه بجميع أسباب السعي فلن تدركوه ، فدع أيها العاقل همك واهتمامك فيه :
الذي إليك حاصل لديك والذي لغيرك لم يصل إليك
ومن الرزق ما هو مقسوم ، قال تعالى (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) الآية 32 من سورة الزخرف المارة ، ومنه ما هو مضمون وهو ما به قوام البنية لأن اللّه قدره له عند خلقه ، ويطلق الرزق على المطر لأنه سببه من إطلاق السبب وإرادة المسبب عنه ، ولأنه نفسه رزق ، لأن الماء من أعظم الأرزاق وأنفعها ، راجع الآية 13 من سورة المؤمن والآية 5 من سورة الجاثية المارتين ، وكذلك فإن ما أودعه اللّه فيها من الزّين والكواكب والمطالع والمغارب التي ينشأ عنها اختلاف الفصول من مبادئ الرزق أيضا ، والعلم بسيرها ومنازلها وبروجها وما أودعه اللّه فيها من التأثير لنضج الأثمار والحبوب وتلوينها وطعمها والشفاء من الأمراض والعاهات رزق أيضا ، فكل ما توعدون به أيها الناس في الدنيا والآخرة من خير وشر ونفع وخسر رزق أيضا ، فابتغوا عند اللّه الرزق ، وخذوا من كل شيء أحسنه لتفوزوا وتنجوا.
قال تعالى مقسما بذاته العالية «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ» إن كل ما توعدون به على لسان رسلكم «لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» 23 وهنا جواب القسم الثالث العظيم من لدن حضرة الرب العظيم ، أي فكما كل إنسان ينطق بلسانه ولا يتمكن من النطق بلسان غيره فكذلك يأتيه رزقه الذي قسم وقدر له في الدنيا ولا يقدر أن يأكل رزقه غيره ، وان ما وعده به رسوله في الآخرة من البعث والحساب والعقاب والثواب واقع لا ريب فيه ، كما أنه لا شك لكم في نطقكم ، فلا تظنوا خلافه ، وهذا من قبيل ضرب المثل كقولك (إن هذا الأمر كما ترى وتسمع) أي كما أنك لا تشك أنك ترى وتسمع فلا تشك في هذا الأمر.
قال الأصمعي أقبلت من جامع البصرة ، فطلع علي أعرابي على قعود ، فقال ممن الرجل ؟ فقلت من بني أصمع ، قال من أين أقبلت ؟ قلت من(4/147)
ج 4 ، ص : 148
موقع يتلى فيه كتاب اللّه ، قال أتل على شيئا منه ، فتلوت (وَالذَّارِياتِ) إلى قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) الآية ، قال حسبك ، فقام على قعوده ونحره ووزع لحمه على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى قوسه وسيفه فكسرهما وولى.
وقد عجبنا جميعا من حاله وفعله وإدباره ، ثم بعد سنين حججت مع الرشيد وطفقت أطوف البيت ، وإذا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي ، وإذا قد نحل جسمه واصفر لونه ، فسلم علي واستقرأني السورة ، فقرأتها حتى بلغت الآية ، فصاح وقال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال وهل غير ذلك ؟
قلت بلى ، قال زدني ، فقرأت (فَوَ رَبِّ السَّماءِ) الآية ، فصاح وقال يا سبحان اللّه من الذي أغضب الجليل الجبار حتى خلف ، ألم يصدقوه حتى حلف ؟ وكرر هذه الجملة ثلاثا وخرجت معها نفسه.
رحمه اللّه رحمة واسعة ورزقنا التصديق بآيات اللّه تعالى على ما يريده.
ثم شرع يقص لحبيبه ما وقع لجده ، وهذه القصة ولو أن فيها بعض ما قصه سابقا إلا أن القصص المكررة كل واحدة منها فيها ما لم يكن في غيرها ولنفي بالمقصود ، وهذا من بلاغة القرآن العظيم وفوائد التكرار :
قالوا لمسلم فضل قلت البخاري أولى
قالوا البخاري مكرر قلت المكرر أحلى
فقال تعالى قوله يا سيد الرسل «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» 24 وصفهم بالكرم لأنهم ملائكة كرام عليه أو لأن إبراهيم الكريم أكرمهم أو لأنهم ضيوفه وهو مكرم على اللّه ، ولفظ ضيف يطلق على الواحد والجمع ولذلك جاء وصفه جمعا كالصوم والزور ، قيل كانوا تسعة عاشرهم جبريل عليه السلام ، راجع قصتهم في الآية 69 من سورة هود المارة.
واذكر لقومك يا حبيبي «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً» عليك يا إبراهيم يا خليل الرحمن «قالَ سَلامٌ» ثم سكت وصار يتملأ بهم ويتعجب من حالتهم إذ دخلوا عليه بلا استئذان ، ورأى أن عملهم هذا منكر ، فقال أنتم «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» 25 لأن دخلو لكم قبل أن نأذن لكم وقبل أن تستأذنوا عندنا منكر ، ولم يجر في عرفنا وأنتم غرباء عن هذه البلاد ولا معرفة لنا بكم ، فكيف تجاسرتم على هذا ، أولا تعرفون أن عوائدنا هنا عدم(4/148)
ج 4 ، ص : 149
جواز الدخول إلا برخصة من صاحب البيت ، أنبهم عليه السلام من جهة عدم مراعاتهم العوائد المتعارفة ، ولكنه عذرهم بكونهم غرباء عن بلاده ، ولأنهم سكتوا ولم يردوا عليه بشيء بما استدل به على أنهم عرفوا تقصيرهم ، لأنه لم يشك بهم أنهم غير بشر لمجيئهم بصفة البشر ولم يسألهم عن هويتهم وهم لم يذكروا له شيئا «فَراغَ إِلى أَهْلِهِ» ذهب بانسلال حتى لا يحسوا به أنه ذهب ليحضر لهم قراهم وهكذا عادة الكرام إذا نزل بهم الضيف ينسلون من أمامه ليهيئوا له قراه من حيث لا يشعر ولئلا يمنعوه من ذلك ، فأسرع وذبح وطهى ، كما يدل عليه قوله «فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» 26 مشوي لقوله في الآية 69 من سورة هود المارة (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) والقرآن يفسر بعضه ، فحمل عليه كما يحمل المقيد على المطلق ، راجع الآية 45 من سورة الأنعام المارة «فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ» زيادة في إكرامهم لأنه لم يدعهم إليه بل وضعه أمامهم ، وهذا من آداب الضيافة التي شرحناها في الآية المذكورة من سورة هود المارة ، فرآهم لم يأكلوا «قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ» 27 بلين ولطف كما تدل عليه أداة الطلب الخاصة بالرفق والاحترام ، لأنه أراد تلافي ما بدر منه عند دخولهم ، ولا سيما أنهم لم يجادلوه ، فلم يترك شيئا من آداب الضيافة قولا وفعلا إلا فعله معهم ، ولما رآهم لم يجيبوا دعوته ولم يمدوا أيديهم لأكله وهو من خير ما يقدم للضيف خشي منهم ووجل وساوره الخوف ، لأنه أنبهم ولم يعرفهم وأصروا على عدم الأكل «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» لأن عدم الأكل يدل على سوء الظن ، وهو أمارة على الضغائن ، وهذه عادة معروفة عندهم ولا تزال حتى الآن فصار يدخل ويخرج فلما أحسوا به أنه قلق من عدم أكلهم ووقع في قلبه الرهبة منهم وهم جماعة وهو واحد «قالُوا لا تَخَفْ» وأخبروه بأنهم ملائكة اللّه «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» 28 كثير العلم «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ» لما سمعت قولهم هذا «فِي صَرَّةٍ» صيحة مأخوذة من صرير القلم والباب والهودج والرحل ، أي صارت تولول كعادة النساء إذا سمعن شيئا ، وصرتها هذه هي قولها في آية هود المارة (يا وَيْلَتى ) وقيل الصرة الجماعة المنضمين لبعضهم ، كأنها جاءت مع نسوة ينظرن الملائكة الكرام «فَصَكَّتْ وَجْهَها» عند سماعها تلك البشارة ، (4/149)
ج 4 ، ص : 150
أي ضربت يديها على وجهها تعجبا ، وهذه أيضا من عادتهن عند ما يسمعن ما ينكرنه «وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» 29 لم تلد قط فكيف بعد هرمها وهي مع عقمها عجوز «قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ» وقضى أن تلدي ولدا مع كبرك وعقمك هذا «إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ» فيما يفعل والحكيم لا يصعب عليه ما يريده «الْعَلِيمُ» 30 فيما أنت عليه من العقم والكبر وهرم زوجك أيضا وسائر مخلوقاته ، وختمت آية هود 73 المارة بقوله (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) لأن الحكاية هناك أبسط منها هنا ، فذكروا ما يدفع الاستبعاد بقوله (أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) ولما صدقت أرشدت إلى القيا بشكر اللّه وذكر نعمته بقولهم (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وهنا لم يقولوا (أَ تَعْجَبِينَ) فتبهوها إلى ما يدفع تعجبها بقولهم (الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ومن كان حكيما عليما لا يقال له كيف عمل ولم عمل ، تدبر.
هذا واعلم أنه عليه السلام لما عرفهم ملائكة وهو يعلم أنهم لا يأتون إلا لمهمّة ، خاطبهم بقوله كما حكى اللّه عنه «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ» 31 فما شأنكم بعد هذه البشارة لأنه عرف أن الأمر ليس مقصورا عليها ولا بد من أمر عظيم جاءوا لتنفيذه «قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» 32 متوغلين بالإجرام القبيحة وهم قوم لوط ، قال وما تفعلون بهم قالوا «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ» 33 مرسلة «مُسَوَّمَةً» من سوّمت الماشية إذا أرسلتها في المرعى أو معلّمة بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا بل هي «عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ» 34 بحقوق اللّه المتجاوزين ما سنه لهم نبيّهم ولم يقنعوا بما أبيح لهم ، فجادلهم إبراهيم بذلك كما سيأتي في الآية 33 من العنكبوت الآية ، ولد مر منه في الآية 73 من سورة هود المارة فأعلموه أنه لا مناص من إهلاكهم وتركوه وتوجهوا إلى قرى قوم لوط فلما وصلوها ، قال تعالى «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 35 بلوط عليه السلام قالوا «فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 36 أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن أهل البيت لوط وابنتاه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنهم كانوا ثلاثة عشر واستدل في هذه الآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي ، أي لم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد ، وإلا لم يستقم الكلام ، فإن الإيمان والإسلام(4/150)
ج 4 ، ص : 151
صادق على الأمر الواحد كالناطق والإنسان ، أما على الاتحاد المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا ، وإنما خصهم بالإيمان أولا لأنه أهم من الإسلام إذ لا يكون مؤمن إلا وهو مسلم ، لأن الإسلام أعم من الإيمان ، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه ، وقد يكون مسلما لا مؤمنا ، قال تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الآية 14 من سورة الحجرات ج 3 ، لأن الإسلام مطلق الانقياد بخلاف الإيمان ، تدبر.
وسيأتي تمام هذا البحث في تفسير الآية المذكورة آنفا «وَتَرَكْنا فِيها آيَةً» علامة من آثارهم ظاهرة «لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ» 37 ليستدل بها على تدميرهم وإهلاكهم من يأتي بعدهم ، فيمتنعون عما يوجب إيقاع مثله فيهم ، قال تعالى «وَفِي مُوسى » تركنا في أراضي القبط الذين كذبوه آية أيضا ليعتبر من خلفهم بهم فيرتدعوا عن معاصي اللّه «إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ» ملك مصر «بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 38 برهان ظاهر وحجة قاطعة ودليل ساطع كاليد والعصا والآيات المبينة في الآية 130 من سورة الأعراف في ج 1 ، «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» أعرض الخبيث عنه بجنبه وهو أشد من الإعراض بالوجه وأكثر احتقارا وأعظم أنفة واستكبارا عنه ، أو مع ركنه الذي يتقوى به من ملائه ووزرائه وجنوده ، والأول أولى «وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» 39 فلا نطيعه ولا نركن إليه ، وبعد أن أظهر لهم جميع تلك الآيات وقابلوه بالإصرار على الكفرَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ»
هو وقومهَ هُوَ مُلِيمٌ»
40 حالة إتيانه بما يلام عليه من الكفر والعناد ، راجع تفصيل هذه القصة في الآية 63 من الشعراء في ج 1 ،
قال تعالى «وَفِي عادٍ» تركنا أيضا أثارا وعبرا لما كذبوا نبيهم هودا عليه السلام «إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ» 41 التي لا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا ولا خير فيها ولا بركة إذ هي المستأصلة المهلكة لجميع من أرسلت عليهم دون أن تترك منهم أحدا ، قال تعالى في وصفها «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» 41 القش المكسر البالي المفتت وهو كل يابس دريس من نبات الأرض ، راجع قصتهم في الآية 72 من سورة الأعراف المذكورة وفي الآية 58 من سورة هود المارة ، «وَفِي ثَمُودَ» تركنا(4/151)
ج 4 ، ص : 152
عبرا ومتعظا عند ما كذبوا نبيهم صالحا «إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ» 43 انقضاء الأجل المضروب لنزول العذاب فيكم وهو ثلاثة أيام بعد عقر الناقة «فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ» تكبرا وتجبرا عن طاعته وطاعة رسوله «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» 44 راجع قصتهم في الآية 39 من سورة الأعراف في ج 1 ، «فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ» من عليهم عند مشاهدتهم نزول العذاب ولا من قعود إذ هلك القائم قائما والقاعد قاعدا «وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ» 45 إذ لا دافع لعذاب اللّه ، ولا مانع منه ، ولا رافع له ، ولا قوة لأحد على مقابلته «وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ» هؤلاء الأمم المهلكة أهلكناهم غرقا لأنهم كذبوا نبيهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 46 خارجين عن الطاعة ، راجع قصتهم في الآية 39 من سورة هود المارة.
هذا ، وبعد أن قص اللّه على نبيه أخبار هؤلاء المهلكين بصورة مجملة بعد أن قصها عليه بالسورة المذكورة مفصلة من باب ذكر المجمل بعد المفصل أحد أنواع علم البديع المستحسنة وذكر ما يتعلق بالحشر والنشر ، شرع يذكر له أفعاله العظيمة فيما يتعلق بالتوحيد والوحدانية ويؤدى إليهما مما هو نعمة للإنسان والحيوان ، فقال جل قوله «وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ» بقوة وقدرة خارجة عن طوق المخلوقين وخارقة للعادة ، وما قيل إنه جمع يد تضعيف وليس هنا استعمال المجاز مكان الحقيقة لأن الأيدي معناها الحقيقي القوة ، قال تعالى في وصف أنبيائه (أُولِي الْأَيْدِي) الآية 45 ، وقال تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) الآية 17 من سورة ص ج 1 ، إذ لايراد بها الجارحة البتة ، وبناؤها شيء عظيم خارج عن تصور البشر وإحاطته دال على عظمة منشئه القائل «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» 47 بناءها بحيث تكون الأرض بالنسبة لها كحلقة ملقاة في فلاة ، وهذا من معجزات القرآن لأنه قبل اكتشاف النجوم ذوات الأذناب الطويلة بالآلات الرصدية ما كان أحد يعلم إن الفضاء واسع لا نهاية له مدركة ، حتى انه وسع تلك الكواكب التي تحتاج إلى محيط لا يحده عقل البشر ، والآيات الدالة على أن السماء مبنيّة كثيرة منها ما ذكرناه آنفا في تفسير الآية 7 المارة ، ومنها ما جاء في الآية 32 من سورة البقرة في ج 3 ، وفي الآية 12 من سورة النبأ الآتية وغيرها «وَالْأَرْضَ فَرَشْناها»(4/152)
ج 4 ، ص : 153
بسطناها ومددناها «فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» 48 نحن الإله الكبير العظيم ، وهذه الآية لا تنافي كرويتها ، لأن كل قسم منها بالنسبة لمن هو عليه مفروش ممهد ، وفي قوله تعالى (مَدَدْناها) في الآية 19 من سورة الحجر المارة معجزة أخرى ، إذ لا يعلم أحد في عهد نزول القرآن أنها ذات طول غير اللّه تعالى ، راجع الآية 15 من سورة الحجر المذكورة «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ» صنفين اثنين ذكر وأنثى ، حقيقة ومجازا مادة ومعنى «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» 49 صنع اللّه فالسماء والأرض زوجان ، وكذلك الشمس والقمر ، والليل والنهار ، والبر والبحر ، والسهل والجبل ، والحر والبرد ، والصيف والشتاء ، والخريف والربيع ، والنور والظلمة ، والحلو والحامض ، والمالح والباهت ، والإنس والجن ، والذكر والأنثى من الحيوان والنبات ، والوحش والطير ، والحوت والحشرات ، والإيمان والكفر ، والحق والباطل ، والسعادة والشقاوة وغيرها ، أفلا توجب الذكرى أيها الناس فتستدلوا بها على مبدعها وتؤمنوا به وتصدقوا رسله وكتبه «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» اهربوا من عذابه طلبا لثوابه ومن معصيته إلى طاعته بالإذعان لأوامره ونواهيه والانقياد لما يرضى بكليتكم «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» 50 لما جئتكم به من الحجج القاطعة والأدلة القوية والبراهين الساطعة والأمارات الظاهرة
«وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» تشركونه بعبادته وتسمونه إلها زورا وإفكا ، لأنه لا شريك له ولا وزير ، فاحذروا هذا كل الحذر «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» 51 كرر جل جلاله على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلم الشطر الأخير من هذه الآية عند النهي عن الشرك ، لأن الأولى عند الأمر بالطاعة إعلاما بأن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، والغرض من ذلك زيادة الحث على التوحيد والمبالغة في الفصيحة.
قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما كذبك قومك ووضعوك بما لا يليق ، فإنه «ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا» فيه قومه مثل ما قاله قومك فيك «ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» 52 وهذا من قبيل التسلية له صلّى اللّه عليه وسلم من ربه عز وجل ليوطن نفسه الكريمة على تحمل الأذى والطعن فيه ، أسوة بإخوانه الأنبياء ، ولهذا قال تعالى مقرعا لهم وموبخا(4/153)
ج 4 ، ص : 154
صنيعهم معه بقوله عز قوله «أَ تَواصَوْا بِهِ» أي هل وصى بعضهم بعضا بهذه الألفاظ الدالة على التكذيب والإهانة للرسل حتى تناقلوها جيلا بعد جيل ، كلا «بَلْ هُمْ» أنفسهم «قَوْمٌ طاغُونَ» 53 حملهم بغيهم على ذلك وتشابهت قلوبهم فوقرت وملئت من كراهية الحق فنطقت بتلك الألفاظ كما تكلم بها أسلافهم لا أنهم تواصوا بها ، لأنه إذا توجد التواصي من القوم بعضهم لبعض كقوم نوح عليه السلام إذ طال أمده فيهم فصاروا يوصي بعضهم بعضا بعدم طاعته لأنه ساحر إلخ ، فلا يوجد من الأقوام الماضية لغيرهم ، إذ أن عذاب الاستئصال الذي أوقعه بهم يحول دون ذلك ، لعدم بقاء من ينقل ما وقع منهم ، ولهذا جاء القول علي طريق الاستفهام الإنكاري والتعجب من اتفاقهم على كلمات : ساحر كاهن مجنون مختلق شاعر متعلم وغيرها ، والأشنع من هذا توغلهم كلهم بالطغيان على أنفسهم وغيرهم وخاصة الأنبياء ، ومن كان كذلك لا جرم يصدر منه كل قبيح ، وإذ كان قومك يا سيد الرسل من هذا القبيل «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» واتركهم ولا يهمنك شأنهم «فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» 54 على عدم إيمانهم ، لأنك بلغت وأنذرت وبذلت جهدك في نصحهم ، فما عليك أن لا يؤمنوا ، فحزن صلّى اللّه عليه وسلم عند نزول هذه الآية وظن أصحابه أن الوحي انتهى وأن العذاب قرب أو ان نزوله ، فأنزل بعدها «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» 55 الذين هم في علم اللّه تعالى أنهم يؤمنون ، فيؤمنون وتزيد المؤمنين إيمانا ، فسري عنه صلّى اللّه عليه وسلم وابتهج أصحابه ، وفرحوا بذلك وقرت أعينهم وطابت نفوسهم وقوي أمله صلّى اللّه عليه وسلم ، وصار يبالغ في إرشادهم ونصحهم وتذكيرهم.
قال تعالى «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» 56 ويوحدوني ويعرفوني أني ربهم وخالقهم ومحييهم ومميتهم «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ» يرزقونه أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم أيضا ، لأني أنا الكفيل بأرزاق الخلق كلهم «وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» 57 أسند جل شأنه الإطعام لذاته الكريمة ، والمراد عياله الفقراء ، لأن من أطعمهم لأجله فكأنما أطعمه ، وإلا فهو المنزه عن الطعام والشراب ، وكل ما هو من صفات المخلوقين وحوائجهم.
والآية تبين أن شأنه جل شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأنهم(4/154)
ج 4 ، ص : 155
يملكونهم للاستفادة منهم ، واللّه مالكهم ليعبدوه لأنه خلقهم لعبادته فقط وليعلموا استحقاقه العبادة ويعملوا بما يوصلهم إليه ، وقد صح في حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن اللّه عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ، أما علمت لو أنك عدته لوجدتني عنده ، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ، قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمت أن فلانا استطعمك فلم تطعمه ، أما علمت لو أنك أطعمته لوجدت ذلك عندي ، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقي ، قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه ، أما علمت لو أنك أسقيته لوجدت ذلك عندي.
أخرجه مسلم ، والمعنى أن اللّه تعالى يقول إني خلقت العباد للعبادة ليعلموا أنهم مخلوقون لها ، وأنه تعالى غير محتاج لهم ولا لعبادتهم ولا يريد الاستعانة منهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم لمصالحهم ، لأن اللّه غني عن كل خلقه «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ» لهم جميعا وأن الترازق الذي يجري بينهم لبعضهم بتسخيره وتقديره وجعله الأسباب مرتبة على المسببات ، وإلا فكل يأخذ رزقه الذي قدره له اللّه ، «ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» 58 الشديد الذي لا يلحقه في أفعاله تعب ولا نصب ولا مشقة ، فيوصل أرزاق عباده إليهم ولو لم يطلبوها أو يعملوا لأجلها «فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» من كفار مكة الذين أفنوا عمرهم بغير ما خلقوا له وأشركوا به غيره في الدنيا «ذَنُوباً» حظا وافيا ونصيبا ضافيا من العذاب يوم القيامة «مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ» الكفار من الأمم الماضية الهالكة قبلهم «فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» 59 بإنزاله فليترقبوا وليتربصوا له رويدا فهو نازل بهم لا محالة إن أصروا على ظلمهم وحينئذ يطلبون تأخيره فلا يمهلون لحظة واحدة ، وفي هذه الجملة تهديد عظيم لهؤلاء الكفار لو عقلوه.
واعلم أن استعمال الذنوب بفتح الذال بمعنى الحظ والنصيب شائع في العربية ، قال علقمة بن عبد التيميّ يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شاسا :
وفي كل حي قد ضبطت بنعمة فحق لشاس من نداك ذنوب(4/155)
ج 4 ، ص : 156
فلما سمعه قال نعم وأذنبة وأطلقه من أسره ، وقال الآخر :
لعمرك والمنايا طارقات ولكل بني أب منها ذنوب
وقيد قوله بابن الأب لاستثناء عيسى عليه السلام ، لأنه لم يمت ، على أنه عليه السلام قد يكون له نصيب من المنايا بعد نزوله كما صح في الأخبار ، راجع الآية 58 من سورة الزخرف المارة ، وهو من الأصل الدلو الذي يستسقى به الماء في البئر ويقتسم به الماء ، قال الراجز :
إنا إذا نازلنا غريب له ذنوب ولنا ذنوب
وإذ أبيتم قلنا القليب.
قال تعالى «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 60 به على لسان رسلهم ، وهذا وعيد لهم بالويل والثبور من هول وفظاعة ما يلاقونه في الآخرة من العذاب على ما فعلوه بالدنيا من العصيان والكفر ، وختمت هذه السورة بما ذكر أولها في قوله (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) فقال (فَوَيْلٌ) إلخ ، أي مما يوعدون إذا لم يتوبوا ويرجعوا عمّا هم عليه ، إذ يكون مصيرهم الهلاك الذي ما فوقه هلاك.
هذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الغاشية
عدد 18 - 68 - 88
نزلت بمكة بعد الذاريات ، وهي ست وعشرون آية ، واثنتان وتسعون كلمة ، وثلاثمائة وواحد وثمانون حرفا ، ويوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به وهي سورة الإنسان ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «هَلْ أَتاكَ» يا سيد الرسل «حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» 1 التي تغشى الناس بأهوالها وتغطيهم بفظائع أحوالها ، وفي التقدير بالاستفهام إعلام الناس بأن حضرة الرسول لا يعلم شيئا عنها عند نزول هذه السورة ، وأن ما يعلمه بطريق الوحي الإلهي ، وإيذان بأنه يتلى عليه ما لم يسمعه من أحد ، وإشارة إلى زيادة الاعتناء بما يتنزل عليه لما له من الشأن العظيم(4/156)
ج 4 ، ص : 157
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» أي يوم تقوم القيامة المعبر عنها بالغاشية ، ان وجوه أصحابها «خاشِعَةٌ» 2 ذليلة خاضعة ، وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، وهذه الوجوه التي تشاهد على غاية من الهوان فرءوس أهلها «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» 3 دائبة على العمل في نار جهنم تعبة من مشقة الأعمال وشدة العذاب التي تلاقيه ذلك اليوم جزاء عملها في الدنيا وتوغلها في الترف والرّفاه ، فكما كانت تعمل في الدنيا لغير اللّه فإنها تعمل في الآخرة لقاءه في نار جهنم عملا تكل منه الجبال ، فطورا تجر بالسلاسل والأغلال وتارة تخوض بالنار كما تخوض الإبل في الوحل ، ومرة ترقى صعودا بأعالي جهنم وتهبط منه ، وبذلك كله فإنها «تَصْلى ناراً حامِيَةً» 4 لأنها في سوائها وإذا عطشت فإنها «تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» 5 متناهية في الحرارة ، قال تعالى (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) الآية 16 من سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلم في ج 3 ، وإذا سألت عن طعامهم فيها أيها الإنسان فإنهم «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ» فيها «إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ» 6 هو يابس الشبرق شوك ترعاه الإبل مادام رطبا ، فإذا يبس تحاشته لأنه سم قاتل ، قال أبو ذؤيب :
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وصار ضريعا بان عنه النمائص
وقال ابن غرازة الهذلي يذم سوء مرعى إبله :
وحبسن في هزم الضريع فكلها حدباء دامية اليدين حرود
أي أن طعامهم فيها يشبه هذا النبات الخبيث ، وشرابهم ما علمت ، وليس سواء ، فبينهما كما بين نارنا ونار جهنم.
قال المشركون لما سمعوا هذه الآية إن إبلنا لتسمن على الضريع استهزاء وسخرية ، لأن الإبل لا تأكله أبدا ولا يسمى ضريعا إلا بعد يبسه لأنه مادام أخضر يسمى شبرقا ، فكذبهم اللّه بقوله «لا يُسْمِنُ» الضريع الدابة أبدا «وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» 7 البتة لأنه لا يؤكل حتى يشبع ، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) الآية 27 من الحاقة الآتية ، لأن للنار دركات لكل دركة نوع من العذاب ويكون على قدر الذنب العقاب ، فمنهم طعامهم الزقوم ، ومنهم ذو الغصة ، ومنهم الضريع ، ومنهم الغسلين ، كما سيأتي أجارنا اللّه من ذلك كله ، وهذا ما وصف اللّه به أهل النار ، وهاك(4/157)
ج 4 ، ص : 158
وصف أهل الجنة جعلنا اللّه من أهلها ، قال تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» 8 أهلها ، وهذا أيضا من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، منعمة برضاء اللّه وجنته «لِسَعْيِها» الذي فعلته بالدنيا «راضِيَةٌ» 9 به لما رأت حسن جزائه فى الآخرة لأنه «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» 10 لا يدرك الطرف مداها
«لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» 11 في لهو وباطل بل كل ألسنتها التسبيح والتهليل والتحميد والتسليم «فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» 12 إلى حيث أراد طلبها بمجرد إشارة منه دون تكلف ما لا تحتاج لجر أنابيب ووضع رافعات وصبابات ، وهذا للشرب والنظارة و«فِيها» للجلوس والنوم «سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ» 13 أنشأها اللّه لعباده ، وناهيك بشيء ينشئه اللّه ، فصف من حسنها وماهيتها وعلوها وزخرفها ما شئت فلن تدرك حقيقتها ولن تقدر أن تحيط علما بها لأنها من مصنوعات اللّه ، وسبب ارتفاعها ليشرف من عليها على ما خوّله ربه من الملك الواسع والنعيم الشاسع «وَأَكْوابٌ» طوس مستديرة وأكواز بلا عرى من فضة وذهب كما يشعر بعظمها التنوين «مَوْضُوعَةٌ» 14 بعضها جنب بعض على حواف الأعين الجارية مملوءة مهينة للشرب بقدر ما يشرب الشارب «وَنَمارِقُ» وسائد ، قال زهير :
كهولا وشبانا حسابا وجوههم على سرر مصفوفة ونمارق
يؤيد هذا التفسير قوله تعالى «مَصْفُوفَةٌ» 15 بعضها لبعض للاتكاء عليها ، وهذا أحسن من تأويلها بمطارح ، لأن الصف عادة أكثر استعمالا في الوسائد ، وما جاء في قولهن :
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
لم يرد بها الوسائد لأنها لا يمشى عليها بل يراد منها ما بينه اللّه بقوله «وَزَرابِيُّ» وهي ما نسميها الآن سجّادا وأحسن أنواعه شغل العجم ، أما هذا فهو من إبداع المبدع ، وهو فوق ما نتصوره ، فاسع أن تكون أهلا بأن تمشي وتجلس عليه «مَبْثُوثَةٌ» 16 مبسوطة متفرقة في الغرف والباحات والأبهاء والساحات ومحال النزه وغيرها بحيث أينما أردتها وجدتها بالغرف والجنان والصحارى.(4/158)
ج 4 ، ص : 159
مطلب في الإبل وما ينبغي أن يعتبر به ، والتحاشي عن نقل ما يكذبه العامة :
وبعد أن وصف اللّه النار والجنة وأهلهما التفت إلى عباده حدثا لهم على الاعتبار في بعض مخلوقاته التي هي بين أيديهم ومسخرة لهم ، فقال جل قوله «أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» 7 والإبل جمع لا واحد له من لفظه ومفردها جمل وبعير وناقة وقعود ، ويجمع الجمل على جمال ، والبعير على أباعر وأبعر وبعران ، والقعود على قعدان ، والناقة على نياق ونوق ، وإنما خص الإبل لأنها من أنفس أموال العرب إذ ذاك وحتى الآن عند أهل البادية ، وأعزّها عليهم ، ولها مكانة عندهم حتى انهم يتفاخرون فيها ، ولم يروا قبل أعظم منها للركوب والحمل والأكل ، ولهم فيها منافع كثيرة ، وذلك أنهم أنكروا ما وصفه اللّه من الجنة والنار وأهلهما فذكرهم اللّه بهذا النوع من مخلوقاته العجيبة الصنع المذللة لهم ، مع أنها أقوى منهم ليعلموا أن الذي خلقها قادر على خلق ما وصف في الجنة والنار ليسترشدوا بذلك.
هذا وان الفيل مما يعرفونه أيضا وهو أقوى من الإبل ، إلا أنه لا منافع فيه مثل ما في الإبل ولم يطلعوا عليه كلهم ، ولأنه لا يؤكل ، ولا لبن له ولا صوف ، وليس بلين الجانب كالإبل تقودها الأولاد وتعقلها المرأة ، وتقنى للزينة والتجارة والركوب والدر ، وتحمل الأثقال وفيها خواص لا توجد بغيرها ، كاحتمالها العطش والمشاق في السفر ، وتحمّل وهي باركة ، وترعى من النبات ما لا يرعاه غيرها ، والفيل خلو من هذه الصفات ، وقد اخترع القبان منها بالنظر لسرتها وطول عنقها ، ولها ميزة في خلقها وتركيب أعضائها وتأثرها بالصوت الحسن حتى انها قد تودي بحياتها من شدة طيّها المسافة البعيدة عند سماعها الحداء ، ولها من الشفقة على أولادها ما لم يوجد عند غيرها ، كما أن عندها من الحقد ما يقابل ذلك على من يعتدي عليها عند هيجانها اى الذكور منها ، وقد ذكرنا ما يتعلق في بحثها في الآيتين 138/ 143 من سورة الأنعام المارة فراجعهما.
وإنما ذكّرهم اللّه تعالى ببعض نعمه عليهم ، لأن المراد منه التذكر في دلائل توحيده وبراهين قدرته وإمارات صنعه مما يرون ويعلمون ، أما مخلوقاته الأخرى الموجودة في ذلك الزمن والتي وجدت الآن وما ستوجد بعد فهي وإن كانت أعظم في الاستدلال إلا أن ضرب المثل بما هو موجود(4/159)
ج 4 ، ص : 160
أكثر تأثيرا مما لم يوجد ، فإذا قلت لهم توحيد سفينة عظيمة تمشي بالبخار على البحار وسيارات تقطع مسافة اليوم في ساعة ، وطيارات تطوي الشهرين بيوم ، وهاتف وراد ينقلان الصوت من المغرب إلى المشرق بلحظات لم يصدقوا ، فلهذا اقتصر اللّه تعالى على ما هو معلوم عندهم كلهم.
ومن هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم كلموا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب اللّه ورسوله.
أي إذا ذكرتم لهم أشياء كهذه يخشى أن يكذبوه ، ولو قلتم إن اللّه أخبر بها رسوله يوشك أن يكذبوا وإذا كذبوكم فقد كذبوا الذين نقلتم عنهم فيؤدي إلى الكفر الذي جاء الأنبياء لإزالته.
ومن هذا الحديث المروي عن الدجال بأنه يبلغ خبر خروجه المشرق والمغرب بيوم واحد ، فقد أنكره كثير من العلماء لاستحالة وصول الخبر المذكور بيوم واحد إذ لم يكن عندهم لا سلكي أو راد أو هاتف ، أما الآن فلا تجد من ينكره من هذه الحيثية ، وكذلك حديث : تطبخ المرقة في مكة وتؤكل في المدينة وهي حارة ، وحديث تقارب البلدان وغيرها من المغيبات التي أخبر عنها الرسول المكرم ووقع الشك في صحتها ، ومن هذا قوله تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية 188 من البقرة في ج 3 ، عند سؤالهم عن الأهلّة ، فلو قال لهم ما يذكره الفلكيون والطبيعيون في هذا لم يصدقوه.
قال تعالى «وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ» 18 بلا عمد أو بعمد غير مرثية على كلا التفسيرين في الآية الثانية من سورة الرعد في ج 3 ، والآية 9 من سورة لقمان المارة ، إذ لا يدرك أطرافها أحد ولم يقف على كنهها أحد ولم يطلع على بنائها أحد كما لا ينالها أحد «وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» 19 على الأرض بصورة ثابتة راسخة لا تزول ولا تزال إلا بقدرة الملك المتعال ، إذ جعلها رواسي للأرض لئلا تميد بأهلها ، راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة ، «وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» 20 بسطت ومهدت ليستقر عليها كل شيء ، فانظروا أيها الناس إلى هذه الأشياء ، واعلموا أن من يقدر عليها يقدر على خلق ما وصف في الجنة والنار وما أعده لأهلها ، وأنكم لا تقدرون على خلق ذبابة ولا تخليص ما تسلبه منكم فضلا عن خلق الإبل والسماء والجبال والأرض وما فيها من البدائع والعجائب ، ألا له الخلق والأمر ، راجع الآية 72 من الحج ج 3.(4/160)
ج 4 ، ص : 161
ولما لم ينجع بهم هذا ولم يعتبروا ويتعظوا التفت إلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم وخاطبه بقوله «فَذَكِّرْ» قومك يا سيد الرسل واحرص على إيمانهم ودم على ما أنت عليه «إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ» 21 فقط فلا يمنعك عدم قبولهم لنصحك وإصغائهم لرشدك من إدامة التذكير ، لأنك يا حبيبي «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» 22 لتجبرهم على الإيمان ولا بمسلط لتكرههم عليه ، وإنما عليك البلاغ فقط وقد قمت به ، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له ، لأن غاية ما فيها التهديد والتخويف تمهيدا للذارة والبشرة وترغيبا للتصديق بما جاءهم به ، وإن اللّه تعالى ما أنزل آية السيف وأمر رسوله بالقتال حتى غربل الناس وأوضح لرسوله المؤمن من الكافر وأظهر له من يؤمن طائعا مختارا راغبا ، ومن يؤمن كرها وخوفا.
هذا ، وإن الاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) عنك وأعرض إعراضا كليا «وَكَفَرَ» 23 وأصر على كفره ، متصل في ضمير عليهم ومحله الجر تبعا له ، أي فإنك متسلط على هذا الصنف من الكفرة المدبرين عن الإيمان إدبارا كليا مثل الوليد وأبو جهل وأضرابهما ، ولهذا أمر اللّه الرسول بالجهاد وأباح له قتل أمثال هؤلاء وسبيهم وإجلاءهم وأسرهم ، وقد عاتبه على أخذ الفداء من أمثالهم ، راجع الآية 67 من سورة الأنفال ج 3 ، وقد جعل جزاءهم الدنيوي هذا ، أما العقاب الأخروي «فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» 24 في دركات جهنم ولا أكبر من عذابها ، فيكون في هذه لآية إيعاد لهم في المدارين ، وإشارة بأنه سيسلط عليهم وتظهر كلمته ، وهذا لا ينافي حصر الولاية بذاته تعالى ، لأنه الولي لا غيره وليّ ، وان ذلك يكون بإذنه وأمره وإرادته ، وعليه فيكون المعنى لست يا سيد الرسل على هؤلاء الكفرة الممتنعين من التصديق بك والإيمان بربك بمجبر ولا مكره إلا على من تولى وكفر بأن دام على كفر ، فإنك مسلط عليه.
وما قاله الزمخشري وغيره تبعا له أو من بنات فكره وأولاد ذهنه من أن الاستثناء هنا منقطع وإن المعنى لست بمسئول عنهم لكن من تولّى وكفر منهم فإن اللّه تعالى له الولاية عليه ، فهو بعيد عن المعنى المراد واللّه أعلم ، حتى ان عصام الدين قال فيه إشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعد إلا غير مخرج من متعدد قبله لعدم دخوله فيه(4/161)
ج 4 ، ص : 162
مخالف في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله عليهم ، وليس حكمهم مخالفا له ، تدبر.
«إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ» 25 رجوعهم بعد الموت لنا لا لغيرنا «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» 26 في الموقف ومجازاتهم وناهيك بنا إذا حاسبنا أو عفونا ، وقيل :
حاسبونا فدققوا ثم منّوا فأعتقوا
هكذا عادة المترك بالمماليك يرفقوا
وفي رواية يشفقوا.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، وعلى من تبعهم بإحسان ورضوان من اللّه ومغفرة ورحمة.
تفسير سورة الكهف
عدد 19 - 69 - 18
نزلت بمكة بعد الغاشية ، عدا الآيات 28 ومن 83 إلى 101 فإنهن نزلن بالمدينة ، وهي مئة وعشر آيات ، وألف وخمسمائة وسبع وخمسون كلمة ، وسنة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ» محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب «الْكِتابَ» القرآن العظيم العربي السوي «وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» 1 في مبانيه ولا بمعانيه ، لأن العوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، يقال في رأيه عوج كما يقال في عصاه عوج ، ولكن يقال لما يدرك بالعين بفتح العين ، ولما لا يدرك بكسرها.
ومن هذا القبيل الغين بفتحتين الخديعة في الرأي ، وبفتح وسكون الخديعة في البيع والشراء ، والسكن بالفتح ما سكنت إليه ، وبالسكون أصل الدار ، والغول بالفتح البعد ، وبالضم ما اغتال الإنسان ، واللحن بالفتح الفطنة ، وبالسكون الخطأ بالكلام ، والخمرة بالفتح الريح الطيبة ، وبضم الخاء في اللبن والعجين والنبيذ ، والجد بالفتح الحظ ، وبالكسر الاجتهاد ، راجع الآية 17 من سورة الفرقان في ج 1 والآية 56 من سورة المؤمن المارة تجد ما يتعلق بهذا البحث «قَيِّماً» عدلا مستقيما جيء بهذه تأكيدا لأن(4/162)
ج 4 ، ص : 163
نفي العوج يغني عن الاستقامة ، ولذلك وصفه به إذ رب مستقيم مشهود له في الاستقامة لا يخلو عن أدنى عوج أو عوج في ذاته ورأيه عند تصفحه وتفحصه «لِيُنْذِرَ بَأْساً» عذابا عظيما في الدنيا والآخرة «شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ» للكافرين به «وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ» عند اللّه «أَجْراً حَسَناً» 2 لا أحسن منه وهو الجنة ونعيمها الدائم ، يدل عليه قوله «ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» 3 لا يتحولون عنه «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» 4 من الملائكة وهم قريش ومن حذا حذوهم ، ويدخل في هذه الآية الذين اتخذوا عزيرا والمسيح ولدين له من النصارى واليهود ، تنزه عن ذلك تأسيا بهم ، راجع الآية 30 من سورة التوبة والآية 16 من سورة المائدة في ج 3 ، وبما أن قولهم هذا كله بهت وافتراء محض قال تعالى «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ» أبدا وإنما صدر منهم هذا القول عن جهل مفرط بذات الإله المنزه عن ذلك ، وانتفاء العلم قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ، وقد يكون في نفسه محالا لا يستقيم تعلق العلم به كهذا القول ، لأنه ليس من العلم لاستحالته «وَلا لِآبائِهِمْ» به علم فإنهم قالوه عن جهل أيضا وتلقوه عنهم جهلا دون نظر وتدبر وتفكر «كَبُرَتْ» هذه الكلمة منهم وعظمت «كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» من غير أن تحكم بها عقولهم ولكن لا عقل لمن يقولها ما أكبرها من كلمة «إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» 5 بحتا غير مطابق للواقع ، وبعضهم عرّف الكذب بأنه الخبر الغير مطابق للواقع مع علم قائله أنه غير مطابق للواقع ، ولا وجه لهذه الزيادة في الحد لأن الكثيرين يقولون هذا القول ولا يعلمون كونه باطلا غير مطابق للواقع ، فظهر أن هذه الزيادة باطلة «فَلَعَلَّكَ» يا سيد الرسل «باخِعٌ نَفْسَكَ» مهلكها «عَلى آثارِهِمْ» حين تولوا عنك لما أنذرتهم ودعوتهم للإيمان حزنا
عليهم وتتبع طرفك حسرات عليهم لتباعدهم عنك ، شبهه وإياهم برجل فارق أحبته فصار يساقط الدموع على آثارهم وأطلال ديارهم وجدا عليهم وتلهّفا على فراقهم ، راجع الآية الثانية من سورة الشعراء في ج 1 ، وهنا كأنه يشير إلى ما جاء آخر السورة امارة من قوله (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) وهو وجه المناسبة بمجيئها بعدها ، وقد أبان اللّه تعالى سبب تأسفه(4/163)
ج 4 ، ص : 164
وتأوهه عليهم بقوله «إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ»
الجليل الشأن أي القرآن المعبر عنه بصدر السورة بالكتاب ووصفه بالحديث بالنسبة لما نتلوه نحن لأن تلاوتنا له حادثة وهو قديم منزه عن الحدوث ، راجع بحث خلق القرآن بالمقدمة «أَسَفاً» 6 مفعول لأجله أي أنك قاتل نفسك لأجل التأسف عليهم لعدم إيمانهم ، فلما ذا يكون منك هذا ؟ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس : أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا جهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البحتري ، في نفر من قريش اجتمعوا (على خلاف رسول اللّه ومناوأته) وكان صلّى اللّه عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلافهم إياه وإنكارهم ما جاء به من الهدى فأهمه ذلك وأغمه ، فأنزل اللّه هذه الآية يسليه بها.
وقال بعض المفسّرين إن معنى باخع قاتل والقتل والإهلاك شيء واحد ، قال ابن الأزرق :
لعلك يوما إن فقدت مزارها على بعده يوما لنفسك باخع
أي مهلك.
وقال الفرزدق :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحّته عن يديه المقادر
أي القاتل.
قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ» من الجبال والأودية والبحار والأنهار والنبات والأشجار والمعادن والحيوان «زِينَةً لَها» كما زينا السماء الدنيا بالكواكب المختلفة ليغتر أهلها بها وتأخذ قلوبهم زخارفها وذلك «لِنَبْلُوَهُمْ» نختبرهم ونمتحنهم «أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» 7 فيها وأزهد لما يعطى منها من غيره المنهمك في حبها لنظهر للناس ذلك وليعلموا من يميل إليها بكليته ممن يرغب عنها ، وإلا فاللّه عالم بذلك قبل ذلك «وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها» من الزينة بعد كمالها وتطاول أهلها «صَعِيداً» أرضا ملساء «جُرُزاً» 8 يابسة بعد أن كانت خضراء زاهية ونفعل بأهلها كذلك بأن نسلبهم ما جمعوه منها حتى يأتوننا صفر اليدين خاسرين الدنيا والآخرة ، راجع الآية 94 من سورة الأنعام المارة ، وقد أكدت الجملة بأن واللام إيذانا بتحقيق وقوعه وهو واقع لا محالة في الوقت المقدر لخراب الدنيا ، راجع الآية 25 من سورة يونس المارة.(4/164)
ج 4 ، ص : 165
مطلب قصة أهل الكهف ومن التوكل حمل الزاد والنفقة ، وخطيب أهل الكهف :
قال ابن عباس : إن قريشا اجتمعوا وقالوا إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط ، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا منكم إلى يهود المدينة واسألوهم عنه ، فإنهم أهل كتاب ، فبعثوا جماعة إليهم ، فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي ، وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحدة فهو نبي ، فاسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم فإنه كان لهم حديث عجيب ، وعن رجل بلغ مشرق الشمس ومغربها ما خبره ، وعن الروح (راجع الآية 85 من الإسراء في ج 1) فرجعوا وأخبروا قومهم بذلك ، ثم انهم سألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ» الغار الواسع يكون في الجبل «وَالرَّقِيمِ» اللوح المكتوب عليه أسماؤهم وقصتهم «كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» 9 أتظنّ يا محمد أن شأنهم أعجب من آياتنا التي منها خلق السماء والأرض وما فيهما وعليهما كلا ، بل في خلقنا ما هو أعجب وفي صنعنا ما هو أبدع من ذلك ، وإذ سألوك عنهم يا حبيبي فاذكر لهم ما نوحيه إليك مما هو أوضح مما عند أهل الكتاب وغيرهم وأصح «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ» جمع فتى وهو الطريّ من الشباب والجمع للقلة «إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» هدى ونصرا وأمنا من أعدائنا ورزقا ومغفرة «وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا» الذي نحن عليه من مفارقة الكفرة والركون إلى دينك القويم «رَشَداً» 10 واهتداء للطريق الموصل إليك.
قال تعالى «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» 11 أي أجبنا دعاءهم وهديناهم الدخول في الغار الذي صاروا إليه وألقينا في قلوبهم أن يناموا فيه قناموا حالا مع أن الخائف لا ينام وجعلنا عليهم حجابا ثقيلا بحيث لا تنبههم الأصوات إلى الوقت المقدر ليقظتهم منه كما سيأتي «ثُمَّ بَعَثْناهُمْ» أيقظناهم من نومهم «لِنَعْلَمَ» لا شك أنه تعالى عالم وإنما أراد إعلام الناس بذلك ليعرفوا «أَيُّ الْحِزْبَيْنِ» المختلفين في مدة نومهم «أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً» 12 الأمد المدة التي لها حد والفرق بينه وبين الزمان أن الأسد يقال باعتبار الغاية بخلاف الزمن فإنه عام في المبدأ(4/165)
ج 4 ، ص : 166
والغاية ومثله المدى «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «نَبَأَهُمْ» خبرهم قصصا صحيحا «بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه وهو «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً» 13 بإيمانهم وبصيرة في تصديقهم ومعرفة بإسلامهم «وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» الطاهرة المملوءة بالعقيدة الراسخة بوجود الإله الواحد والبعث والجنة والنار لأنا نورناها بنور البصيرة ، ثم أوقرناها بالصبر ، وقويناها باليقين «إِذْ قامُوا فَقالُوا» لملكهم الجبّار دقيانوس حين أنبهم على عدم عبادة الأوثان وعدم الاعتراف بألوهيتها «رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً» إن دعونا غير إلهنا الحق تبعا إلى هواكم وخوفا من عقابكم فيكون قولنا قولا «شَطَطاً» 14 أشرا كذبا محضا وبهتا ، لأن الشطط هو الغاية في البعد والنهاية في مجاوزة الحد ، وقالوا أيضا «هؤُلاءِ قَوْمُنَا» الذين اتبعوا «اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» وفي هذا تبكيت وتقريع ، لأن الإتيان بالحجّة على صحة عبادة الأوثان محال «لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ» وإذا لم يأتوا فقد ظلموا أنفسهم «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» 15 لا أظلم ممن زعم أن للّه شريكا.
قال تعالى «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ» تركتم قومكم «وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» من الأوثان فرارا من دينهم الذي يريدونكم عليه قسرا أيتها الفئة الصالحة حفظا لدينكم وحرصا عن صدكم عنه ، وذلك أنهم هربوا من أمام الملك لما رأوه يريد الفنك بهم لما سمعه منهم من الطعن في دينه وهجروا أوطانهم وفارقوا قومهم حبا بدينهم وحرصا عليه وقال بعضهم لبعض أثناء الهرب «فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ» وكلهم يعرفه بدليل مجيئه معرفا ، فتراكضوا نحوه ولجأوا إليه وأعمى اللّه جماعة الملك الذين لحقوقهم ليقبضوهم ويحضروهم أمامه ليعذبهم على ما وقع منهم ، إن يروهم ، كيف لا وقد ألهمهم اللّه تعالى قوله «يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» 16 منتفعا ويسرا وسهولة ، ثم اختفوا فيه وألقى اللّه عليهم النوم الثقيل.
وقد ذكر اللّه تعالى ما خصهم به من اللطف والعطف لقوة يقينهم وثبات عزيمتهم فقال «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ» تميل وتعدل «عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ» جانبه(4/166)
ج 4 ، ص : 167
وجهته «وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ» تتركهم وتزورّ عنهم «ذاتَ الشِّمالِ» لجانبه وجهته «وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ» من متسع الغار «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» وعجائبه وبدائعه لأن من كان في ذلك السمت لتصيبه الشمس وهي لا تمسهم إكراما لهم وهم لم يقصدوا ذلك الغار إلا بهداية اللّه «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» وفي هذه الجملة ثناء عليهم لسلوكهم سبل الهداية وعطفا عليهم لتخصيصهم بتلك الكرامة ولطفا بهم لإنقاذهم من الضلالة «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» 17 من دونه البتة «وَتَحْسَبُهُمْ» أيها الناظر إليهم «أَيْقاظاً» لأن أعينهم مفتحة «وَهُمْ رُقُودٌ» نيام ، والواو هنا للحال ، وهذا من جملة ما خصّهم اللّه به ليهابهم منّ يدخل عليهم فيتحاشاهم وينكص خوفا منهم لأنهم جماعة وفي ظل كهف فلا يتجاسر أحد من أن يقربهم.
قال تعالى «وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ» من جانب لآخر بصورة متمادية بدليل تضعيف الفعل لئلا تأكلهم الأرض وزيادة في حرمتهم حفظا لكيانهم وإكراما لشأنهم «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» عتبة باب الكهف ومحل غلقه لو كان له باب يغلق كالحارس لهم من الهوام وغيرها يقلب معهم أيضا مفتوحة عيناه وقد سعد بسعادتهم ويدخل الجنة معهم فلا يوجد فيها من نوعه غيره فهو من المخصوصين كحمار عزير وعصا موسى وناقة صالح وكبش إسماعيل ، ولهذا صار بعض الشيعة يسمون أولادهم كلب علي وسمي ما وراء عتبة الدار وصيدا لأنه يوصد بالعمد ويدقر بها لئلا يفتح.
راجع آخر سورة الهمزة في ج 1 ، «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ» أيها الإنسان الكامل وهم
على حالتهم تلك «لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً» لما ترى عليهم من الهيبة التي ألقاها اللّه عليهم ليبقوا على حالتهم حتى انقضاء الأجل المضروب لقيامهم كما سيأتي «وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» 18 لما ألقى اللّه عليهم من الهيبة ووضعية كلهم ووحشة مكانهم ، قال ابن عباس : غزونا الروم مع معاوية فمررنا بالكهف ، فقال معاوية لو كشف اللّه لنا عنهم لنظرناهم ، فقال ابن عباس منع اللّه ذلك من هو خير منك ، وتلا عليه (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) الآية ، لأن المخاطب بها سيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلم.
قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما أمتناهم بذلك اليوم «بَعَثْناهُمْ» أحييناهم من موتهم(4/167)
ج 4 ، ص : 168
بانقضاء آجالهم المقدرة في علمنا «لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ» عن مدته لاشتباههم بها كما سيأتي في القصة «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ» بعد إفاقتهم «كَمْ لَبِثْتُمْ» في رقدتكم هذه ، لأنهم لم يروا تغييرا ما من أنفسهم إلا ما أنكروه من طول أظفارهم وشعورهم «قالُوا» بعضهم لبعض «لَبِثْنا يَوْماً» كعادة النائم إذ لا يزيد على اليوم غالبا ، ولما نظروا إلى الشمس ، وقد يقي منها بقية ، وكان نومهم غدوة النهار ، ورأوا آثار النوم بأعينهم كأنهم لم يستوفوا معتادهم منه ، فقالوا «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» إلا أنهم في شك من قولهم هذا لما رأوا طول أظفارهم وشعورهم ، بما يدل على أن نومهم أكثر من أن يقدر ، فارتبكوا و«قالُوا» بعضهم لبعض «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ» فوضوا العلم إلى اللّه لئلا يخطئوا في التقدير ، ثم أحسوا بالجوع فقال بعضهم لبعض «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ» الفضة المضروبة المتعامل بها تداولا بين الناس وهو بكسر الراء المال من الدراهم فقط ، وبفتحها المال و ؟ ؟ ؟ والإبل كما في أدب الكاتب لابن قتيبة ، وقيل في المعنى :
أعطينني ورقا لم تعطني ورقا قل لي بلا ورق هل ينفع الورق
وفي رواية الحكم ، والكاغد الذي يكتب عليه بفتح الراء ، ويطلق على الفضة الغير مضروبة أيضا «هذِهِ» إشارة إلى ورقكم.
وفي حملهم هذه النقود عند فرارهم دليل على جواز حمل النفقة وما يصلح للمسافر لئلا يكون عالة على غيره أو يعرض نفسه للهلاك الحسي أو للتسؤّل وهو الهلاك المعنوي ، وهذا رأي المتوكلين على اللّه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : اعقلها وتوكل ، وقال بعض الأجلة : إن توكل الخواص ترك لأسباب بالكلية ، مسندلا بما روي عن خالد بن الوليد أنه شرب السم فلم يصبه شيء ، وأن سعد ابن أبي وقاص وأبا مسلم الخولاني مشيا بالجيوش على متن البحر ، وكذلك البراء الحضرمي خاض بقومه البحر ، وتميم الداري دخل الغار الذي فيه النار ليردّها بأمر عمر رضي اللّه عنهم.
وقال الإمام أحمد وإسحق وغيرهما من الأئمة بجواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبيب لمن قوي يقينه وتوكله ، ودليل الاحتياط مع التوكل فعل موسى عليه السلام وفتاه حينما سارا إلى الحضر إذ حملا معهما حوتا كما سيأتي في الآية 61 الآتية وعمل هؤلاء الأبرار(4/168)
ج 4 ، ص : 169
وحبري تبّع المار ذكره في الآية 37 من الدخان المارة وقول خاتم الرسل المار ذكره أكبر برهان على ذلك ، «إِلَى الْمَدِينَةِ» هي اخنوس ويطلق عليها الآن طرطوس وهي غير طرطوس اللاذقية «فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً» أي الباعة الذي طعامه زكيّ حلال نظيف «فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ» لنأكله «وَلْيَتَلَطَّفْ» في مشيه وحركته ويلين الكلام مع أهل المدينة من باعة الطعام وغيرهم ، ويترفق بمن يكلمه أثناء ذهابه وإيابه وشرائه ومن يعامله أو يسأله ويستر حاله ويكتم شأنه «وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» 19 من أهل المدينة وغيرها ولا بما كان لنا مع ملكها ، ولا عما نحن فيه الآن «إِنَّهُمْ» الكفرة من أهلها «إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» أيها الإخوان ويعرفوا مكانكم ويطلعوا على قصتكم «يَرْجُمُوكُمْ» بالحجارة حتى تموتوا شر موتة وأعيبها «أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ» التي هربنا منها وصرنا إلى ما نحن فيه من أجلها «وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً» إن عدتم إلى الكفر بعد إذ نجاكم اللّه منه «أَبَداً» 20 لا في الدنيا ولا في الآخرة ، إذ يستعبدونكم في الدنيا ويسترقونكم فلا يتيسر لكم الخلاص منهم والرجوع بالتوبة إلى ربكم فتموتمون على ملتهم ، وفي الآخرة تردون إلى عذاب النار.
وقد بالغ خطيبهم رحمه اللّه في تحذيرهم ونصحهم بما لا مزيد عليه ، مما يدل على صدق إيمانه بربه وزهده بدنياه طمعا بآخرته ، وإن إصغاءهم لمرشدهم دليل على أنهم كلهم ذلك الرجل.
قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما أمتناهم لحكمة أحييناهم لحكمة و«أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ» أطلعنا أهل المدينة عليهم لحكمة أيضا و«لِيَعْلَمُوا» أي الذين ينكرون البعث أشباه قومك يا سيد الرسل «أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» بالبعث بعد الموت «وَأَنَّ السَّاعَةَ» المعينة لخراب الكون الدنيوي وظهور الأخروي حق «لا رَيْبَ فِيها» أيضا واذكر لقومك يا حبيبي «إِذْ يَتَنازَعُونَ» أهل المدينة الذين اطلعوا عليهم «بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ» وقت توفاهم اللّه من كيفية إخفائهم في الغار وإظهارهم ، فاتفقوا بعد أن رأوهم رجعوا إلى كهفهم وماتوا فيه ثانيا «فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً» أي سدوا باب الكهف عليهم حتى يحفظوا من تطرق الناس إليهم ، ولا حاجة لأن يعلم الغير مكانهم «رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ»(4/169)
ج 4 ، ص : 170
وعلمه كاف عن علم الناس «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ» أي حكام المدينة الملك وأعوانه الذين أسلموا عند ظهور آيتهم كما سنوضحه بعد في قصتهم «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» 21 وكان كذلك ، ومن هنا استنبط جواز المحافظة على قبور الأنبياء والأولياء بالبناء عليها تخليدا لذكرهم ، تدبر.
ثم إن الخائضين في أمرهم من أهل الكتاب والمسلمين الذين يكونون بعدهم عند ما يزورون قبورهم هذه «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» وهذا قول اليهود «وَيَقُولُونَ» أي النصارى «خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ» وقولهما هذا «رَجْماً بِالْغَيْبِ» من غير علم واستناد «وَيَقُولُونَ» المسلمون «سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء لا أحد منكم يعلم عددهم على الحقيقة وإنما «رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ» منكم و«ما يَعْلَمُهُمْ» من الناس «إِلَّا قَلِيلٌ» من الأولين والآخرين ، وهذا هو الحق من الحق لأن العلم بتفاصيل العوالم والكائنات وما فيهما من الماضي والحال والمستقبل لا يكون إلا اللّه.
مطلب أسماء أهل الكهف وقول في الاستثناء وقول أبو يوسف فيه والملك الصالح في قصة أهل الكهف :
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : أنا من أولئك القليل كانوا سبعة ، وهم :
1 مكسليخا 2 يمليخا 3 مرطونس 4 بيلونس 5 سارينوس 6 ذوقواس 7 كشقيططنوس وهو الراعي وكلبهم قطمير.
وقوله هذا حق ، واللّه أعلم ، لأن اللّه تعالى أردف الجملتين الأوليين وهما (ثَلاثَةٌ) إلخ و(خَمْسَةٌ) إلخ بقوله جل قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ولم يقل بعد جملة (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ) إلخ شيئا وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظن القولين الأولين وأن يكون الثالث هو الصواب واللّه أعلم.
«فَلا تُمارِ فِيهِمْ» لا تجادل يا سيد الرسل بعددهم وشأنهم أحدا «إِلَّا مِراءً ظاهِراً» بلا توغل فيه ولا قطع في حقيقته ، وعليك أن تقف عند حد ما قصصناه عليك من أمرهم ولا تزد عليه شيئا «وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» 22 من أهل الكتابين أي الذين سألهم وقد قريش عنهم ليسألوك عنهم ، ولا ترجع لقول أحد بشأنهم بعد أن أخبرناك عنهم وبينا لك حقيقتهم.(4/170)
ج 4 ، ص : 171
هذا ، ولما سألت قريش حضرة الرسول عنهم كما ذكرنا في الآية الثامنة المارة آنفا قال لهم غدا أخبركم ، لأنه لا يعرف عنهم شيئا ولم يوح إليه بهم قبل سؤالهم ولا وقته ، فأخّر الجواب انتظارا لنزول الوحي عليه لأنه لا ينطق عن هوى ، وبما أنه عليه السلام لم يقل إن شاء اللّه لم يوح إليه في الغد ، ولبث الوحي أياما لئلا يغفل مرة ثانية عن إسناد المشيئة للّه في كل حركاته وسكناته ، ثم أنزل اللّه تعالى أثر قصتهم هذه قوله جل قوله «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ» من الأشياء أبدا «إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً» 23 على الجزم بل لا بد من أن تعلقه بالمشيئة فنقول «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» إذ لا يقع شيء دون مشيئته ، فإذا قلت إني عازم أن أفعل أو أتكلم كذا فقل متصلا إن شاء اللّه ، لأنك لا تدري أتوفق لذلك أم لا ، وهذا نهي تأديب من اللّه لحضرة رسوله وتعليم لأمته كي تفتدي به «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» المشيئة في قول أو فعل وقلها عند تذكرك.
الحكم الشرعي : يمتد الاستثناء عند ابن عباس سنة ، مثلا إذا قال قولا أو حلف فيجوز لديه أن يتبع قوله ذلك على الفعل والقول بالمشيئة إلى سنة.
وقال الحسن إلى أن يتفرقا من المجلس ولا يمتد بأكثر من ذلك ، وجوّز بعض العلماء إلحاقها في الزمن القريب ولم يجوزه الآخرون إلا متصلا بالقول أو الفعل ، وهذا ما عليه العمل الآن ، وقد دسّ بعض الناس إلى الخليفة العباسي بأن أبا يوسف يخالف في حكمه قول جده ابن عباس بقصد أن ينال منه ، فأرسل إليه وسأله قال له نعم ، لأن هذا القائل يريد أن يبايعك اليوم ويعطيك ما شئت من عهد وميثاق ويمين ويقول بعد ذلك إن شاء اللّه فينقضي بغيك ، وقد أردت سد هذا الباب لئلا يتمسك أحد بقول جدك فيكون حجة عليك ، فاستحسن ذلك منه وأقره وجعل عليه العمل ، وهو رحمه اللّه أخذه من هذه الآية إلا أنها مقيدة بالنسيان فلا يجوز تطبيقها بعدمه.
«وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً» 24 من هذا الذي أنا عليه في نبأ أصحاب الكهف وغيرهم من الآيات والحجج الدالة على نبوتي ، وهذا لأن الكامل لا يزال يترقى في الكمالات مهما علت رتبته فيها ، وعليه فلا محل للقول بأن الذي عليه الرسول هو غاية الرشد ولا أقرب مما هو عليه ، لأن الكمالات(4/171)
ج 4 ، ص : 172
لا نهاية لها ، وفي هذا رد أيضا لمن قال إن حضرة الرسول لا يحتاج إلى إنشاء الصلاة عليه لكماله وعلو مرتبته.
قال تعالى «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ» شمسية «وَازْدَادُوا تِسْعاً» 25 بحساب الأشهر القمرية وهذه المدة مدة لبثهم نياما في الكهف وهي كالبيان للمدة المتقدمة ، وجواب السائلين عن مدة لبثهم فإن جادلوك يا سيد الرسل في مدة لبثهم بعد هذا اليمان فلا تلتفت إليهم لأنه محض عناد ولا تمارهم فيه و«قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا» لا أنا ولا أنتم وهو الأجدر والأحسن بك من الأخذ والرد معهم لأنه هو الذي «لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده جلّ علمه «أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ» به وقد حذف بدلالة الأول ، أي ما أسمعه بكل مسموع وأبصره بكل مبصر ويبصر جلّ شأنه ما لا نبصره ويسمع ما لا نسمعه ، لأن قوانا كليلة عاجزة ، وهاتان الكلمتان صيغتا تعجب أي ان ذلك أمر عجيب من شأنه أن يتعجب منه ولا امتناع من صدور التعجب من صفاته تعالى ، أما التعجب منه فممتنع ، راجع الآية 11 من سورة الصافات المارة ، وقل لمن يقول لك إن للكفرة أولياء يشفعون لهم عند اللّه الذي تدعوهم إليه «ما لَهُمْ» أي أهل السموات والأرض كلم «مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ» غير الإله المنفرد في أمره الذي لا يقبل أن يتدخل أحد فيه «وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» 26 من خلقه ، فلئن لا يشرك معه من مصنوعاته شيئا من باب أولى.
هذا آخر ما قصة اللّه تعالى علينا من شأن أهل الكهف ، فيجب الوقوف عنده وإسناد علم ما عداه إليه تعالى بأن يقول المسئول إذا سئل عن أكثر من هذا ، اللّه أعلم بشأنهم ، لأنا لا نعلم إلا ما قصة اللّه علينا فيهم.
هذا ، وإن في قوله تعالى في الآية 9 المارة (أصحاب الكهف والرقيم) ردا لما قاله بعضهم إن أصحاب الكهف هم المعنيون في هذه الآيات ، وأصحاب الرقيم هم الذين ذكرهم حضرة الرسول في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة عن سالم عن ابن عمر أنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فآواهم المبيت إلى غار ، فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار ، فقالوا واللّه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا اللّه بصالح أعمالكم ، فقال رجل منهم(4/172)
ج 4 ، ص : 173
كان لي أبوان شيخان كبيران إلخ.
وهو حديث طويل يراجع في محله ، لأن هؤلاء يطلق عليهم أهل الكهف وأهل الغار ، والمذكورون في الآيات أهل الكهف وأهل الرقيم ، كما سيتبين لك من القصة الآتية إن شاء اللّه التي خلاصتها كما قاله الأخباريون :
إن غالب أهل الإنجيل بعد عيسى عليه السلام عظمت فيهم الأحداث والخطايا وطغت ملوكهم ، فعبدوا الأوثان وأكرهوا قومهم على عبادتهم ، ولما صار الأمر إلى دقيانوس شدد في ذلك كثيرا وأراد هؤلاء الفتية الذين هم من أشراف قومهم على عبادتها فأبوا وصاروا يجادلونه في عدم صلاحيتها للعبادة ، فخاف أن يتبعهم قومه ، فهددهم بالقتل إذا لم يوافقوه على عبادتها ، فأبوا وانصرفوا من أمامه ، فأمر بإحضارهم فهربوا ومروا براعي غنم ، فلما عرف أمرهم ترك غنمه وتبعهم هو وكلبه ، وما زالوا حتى بلغوا الكهف ، فدخلوه واختبارا به وناموا ، وأضل اللّه جنود الملك عنهم كما أضل جنود فرعون عن اللحاق بموسى عليه السلام ، راجع الآية 22 من سورة القصص فما بعدها ج 1 ، وأعمى الناس عن مكانهم طيلة هذه المدة وحفظهم اللّه من البلى بما قصه علينا في كتابه وهو خير حافظا ، كما أعمى اللّه قريشا عن حضرة الرسول حينما تخبأ في الغار الوارد في الآية 40 من سورة التوبة في ج 3 ، راجع تفصيلها في بحث الهجرة آخر هذا الجزء.
ولما لم يقفوا على خبرهم ولم يهتدوا لهم وقد أيسوا منهم بعد أن صرفوا غاية جهدهم ، فأمر الملك أعوانه أن يكتبوا أسماءهم وأنسابهم وتاريخ فقدهم والمكان الذي فقدوا به والسبب الداعي لهربهم على صحيفة من نحاس ففعلوا ، ثم أمر بحفظها في خزانته ليطلع عليها من بعدهم ، وبقي دقيانوس ومن بعده على حالتهم ، ثم بعد زمن عظيم ملك تلك المدينة رجل صالح اسمه بندوسيس فتحزب قومه معه وصار منهم من يدعو إلى الإيمان تبعا للملك ويقر بالبعث والحشر ، ومنهم من أصر على التكذيب وعبادة الأوثان ، ولما رأى الملك ظهور الكفرة على غيرهم حزن ودخل بيته وجعل تحته رمادا ولبس مسحا وصار يتضرع إلى اللّه بأن يظهر له آية تحق الحق وتبطل الباطل ، فألقى اللّه في نفس أولياس من أهل البلد الذي فيه الكهف أن يبني حظيرة لغنمه على باب الكهف ، ونزع ما كان من الحجارة عليه ، فأذن اللّه تعالى لهم باليقظة فقاموا كأنما استيقظوا(4/173)
ج 4 ، ص : 174
من ساعتهم ، فقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم اذهب إلى المدينة متنكرا مترفقا وانظر ماذا يقول الجبار دقيانوس فينا وأتنا بطعام تشتريه من أحد المؤمنين ، وقال مكسليخا اثبتوا يا إخواني على الإيمان وارفضوا الأوثان رفضا باتا ولا تخافوا من أحد أبدا على فرض عثورهم علينا ومطاردتنا ، لأننا ملاقو اللّه ، ثم تكلموا بينهم على مدة لبثهم وكلوا يظنون أنهم ناموا ليلة وقعدوا على عادتهم ، ولما رأوا حالتهم وطول أظفارهم وشعرهم عرفوا أن نومهم كان كثيرا جدا ، فقوضوا أمر علم موتهم إلى اللّه كما ذكر اللّه ، ثم خرج يمليخا من الكهف ورأى الأحجار مبعثرة فلم يلق لها بالا ، وتوجه نحو المدينة حتى إذا دخلها تخيل له أشياء لم يعهدها قبل ، حتى انها غير مدينتهم ، فدنا إلى بياع الطعام فأعطاه قطعة من فضة وقال له أعطني بها طعاما ، فلما تناولها رأى نقشها قبل ثلاثة قرون وأكثر ، فقال له من أين لك هذه لعلك وجدت كنزا من هذا الورق ؟ فلم يعرف ما يقول له ، فاجتمع الناس وصاروا يكلمونه وهو لم يرد عليهم ، فأخذوه إلى مدير المدينة وكان مؤمنا اسمه اريوس واسم صاحبه الذي معه طنطيوس وهو مؤمن أيضا ، وظن يمليخا أنهم أخذوه إلى دقيانوس ، فانقطع قلبه من الخوف وصار يبكي ويقول يا ليت إخوتي معي فنقدم جميعا بين يدي هذا الجبار لأنا تواثقنا على الإيمان وعدم الافتراق أحياء وأمواتا ، فقال له يا فتى أين الكنز ؟ فقال لا كنز عندي هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وو اللّه ما أدري ما شأني وشأنكم وماذا أقول لكم ، فقالا له من أنت ؟ فقال يمليخا من أهل هذه المدينة ، فقالا أنت بمن يعرفك ، فصار ينظر إلى وجوه القوم فلم يعرف أحدا ، فقالا له أنت كذاب ، فاغتاظ من وصمهم له بالكذب ، فلم يرد عليهم ونكس بصره إلى الأرض واختار السكوت إذ لم يعرف ماذا يقول لهم ، فقالا له لا نرسلك ولا نصدق قولك أبدا ، لأن نقش هذا الورق قديم وأنت شاب فكيف تزعم أنه مال أبيك ونقش هذه
البلدة ، ولكن بين لنا الحقيقة لنتركك ، قال أخبروني ما فعل الملك دقيانوس ؟ فقالا لا يوجد على الأرض ملك بهذا الاسم ، إن كان قديما فقد هلك ، فقال إني حيران وإن قلت لكم حقيقتي لا
تصدقوني ، فقالا قل لعلنا نستنبط من كلامك ما نستدل به على خفية الأمر ، فقال نحن فتية(4/174)
ج 4 ، ص : 175
كنا على دين واحد وهو عبادة اللّه وحده ، فأكرهنا الملك دقيانوس على عبادة الأوثان ، فهربنا منه وتبعنا راعي غنم وكلبه ، وقد أوينا إلى الكهف بجبل مخلوس ونمنا فيه ، فلما انتبهنا لم نعلم المدة التي نمنا فيها لما رأينا من هيأتنا ، وقد أرسلني إخوتي لأشتري لهم طعاما والتجسس الأخبار ، وقد ظهر لي تبدل كثير في المدينة وأهلها ، ولما أعطيت قطعة من ورقي لبائع الطعام صار على ما ترون ، وإن لم تصدقوا فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي ، فانطلقا وغالب أهل المدينة معهم ، ولما قربوا من الكهف سمع أصحابه اللغط ، فظنوا أن جنود الملك جاءت لتأخذهم فسلم بعضهم على بعض وقالوا لنذهب إلى الجبار ونرى صاحبنا ، فلما هموا ليخرجوا فإذا المديران ويمليخا وأهل البلد على باب الكهف ، فتقدم يمليخا وقص عليهم الخبر ، فعرفوا أنهم كانوا تياما بأمر اللّه ذلك الزمن الطويل ، وأوقظوا ليكونوا آية للناس على صدق البعث ، ثم رأوا تابوتا من نحاس داخل الكهف مختوما ، وكان رجلان مؤمنان بدروس وروماس يكتمان إيمانهما زمن الملك دقيانوس كتبا أنساب الفتية في لوح من رصاص ووضعاه في التابوت وطرحاه في الكهف ، ففتحوه فإذا فيه :
إن مكسليخا ويمليخا ومخشلينا وطرطوس وكشطونس وبيرونس وديموس وبطيوش وقالوس والكلب قطمير كان هؤلاء فتية هربوا من ملكهم دقيانوس مخافة أن يفتنهم عن دينهم ، فدخلوا الكهف ، فلما أخبر الملك بمكانهم أمر بسده عليهم بالحجارة وإنا كتبنا أسماءهم وشأنهم ليعلم من بعدهم حقيقتهم.
فلما رأوا ذلك عجبوا ودهشوا ، وأرسلوا خبرا إلى ملكهم الصالح بندوسيس أن أقبل ، فإن اللّه أظهر لك آية على البعث ، فجاء ودخل الكهف هو ومديراه وحيوهم بالسجود المعتاد إذ ذاك وتعانقوا معهم وصاروا يسبحون اللّه تعالى ويحمدونه ويمجدونه ، ثم ان الفتية بعد ذلك قالوا للملك ومديريه إنا نستودعكم اللّه وناموا فتوفاهم اللّه تعالى.
ثم إن الملك أمر بأن يصنع تابوت لكل منهم ليوضع فيه وأن يدفنوا في الكهف كل بمحل نومته وأن يعمر مسجد على باب الكهف ، وكان ذلك ، ولما رجعوا تحروا خزانة الملك فوجدوا لوحا مكتوبا فيه أسماؤهم وأنسابهم وشأنهم كما في اللوح الذي وجدوه بالتابوت الكائن معهم في الكهف ، وقد آمن أهل البلد كلهم لظهور هذه الآية العظيمة ، واللّه أعلم.(4/175)
ج 4 ، ص : 176
هذا على القول بأنهم كانوا بعد المسيح ، وهناك قول آخر بأنهم كانوا قبل موسى عليه السلام ، والقرآن لم يبين لنا زمانهم ، لذلك يجب أن نحيل العلم بزمانهم وعددهم إلى العليم الخبير وهو أسلم.
وفي إكرام هؤلاء الفتية دليل على صحة كرامات الأولياء ، وكذلك قصة عرش بلقيس المارة في الآية 39 من سورة النمل وما ذكرناه أول سورة الجن وما ذكر في سورة مريم في الآية 16 فما بعدها من سورتها في ج 1 وآخر سورة الأحقاف المارة وما ذكر في الآية 37 من سورة آل عمران ج 3 عن مريم وزكريا ، والأدلة السمعية والنقلية والعقلية تدل على ثبوتها ، والأخبار متواترة والآثار شاهدة ومؤكدة على وجودها ولا ينكرها إلا فاسق مارق.
قال تعالى «وَاتْلُ» يا أكرم الرسل «ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ» مما أخبرك به عن هذه القصة وغيرها ولا تلتفت إلى الأقاويل فيما يخالف ذلك لأنه محرف مبدل مغير وإن ربك «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» ولا مغيّر لها البتة «وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» 27 حرزا تلجأ إليه فيه منه عند إلمام ملمة.
وملتحد في الأصل المدخل في الأرض ، قال خصيب الضمري :
يا لهف نفسي ولهف غير مجدية عني وما عن قضاء اللّه ملتحدا
ويأتي بمعنى الميل والعدول ، والأنسب هنا ما ذكر أولا.
وهذه الآية المدينة الأولى من هذه السورة.
مطلب أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم بملازمة الفقراء المؤمنين والإعراض عن الكفرة مهما كانوا ، وقصة أصحاب الجنة :
قال تعالى «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ» إلى غيرهم وتتركهم «تُرِيدُ» بمجالسة غيرهم من الأشراف والأغنياء بقصد «زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» فتستبدل محبتهم وهم مؤمنون بسبب فقرهم وميلهم للآخرة بأناس كفرة دنيويين لكونهم أغنياء ورؤساء كلا لا تفعل «وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ» في شهوات الدنيا وملاذها وهو عيينة الآتي ذكره النازلة في حقه هذه الآية ، وأمية ابن خلف الذي يقول في حقه جل قوله «وَكانَ أَمْرُهُ»(4/176)
ج 4 ، ص : 177
في الآخرة «فُرُطاً» 28 هلاكا وخسرانا ، والفرط الظلم والاعتداء ومجاوزة الأمر عن حده وضياع الأمر عن وقته وتعطيل العمر في اللهو والسرف في الشيء الباطل ، نزلت هذه الآية قيل وما بعدها في سيدنا سلمان الفارسي ورفقائه رضي اللّه عنهم ، وذلك حين أتى عيينة بن حصن الفزاري إلى حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم قبل أن يسلم وهو من المؤلفة قلوبهم ، وكان عند حضرة الرسول جماعة من فقراء المسلمين ، فقال له أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس ، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء ، فنحهم عنك ، حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا على حده لأنا لا نرضى أن نجالسهم ، فلم يلتفت لقولهم.
ومن قال إنها نزلت في أمية ابن خلف ، قال إن هذه الآية مكية بالنظر لأن السورة مكية ، والصواب ما جرينا عليه وعليه أكثر المفسرين ، وقد أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان رضي اللّه عنه ، وروى أبو الشيخ عنه ذلك ، وإن حضرة الرسول صار يلتمسهم ويتعاهدهم أكثر من ذي قبل ، حتى قال الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ، ثم قال إلى سلمان وأبي ذر وأمثالهما معكم الحياة والممات.
أما الآية المكية التي نزلت في سيدنا بلال ورفقائه الخمسة التي تضاهي هذه الآية ، فهي الآية 52 من سورة الأنعام المارة كما أشرنا بها عن هذا فراجعها.
ثم التفت إلى حبيبه صلّى اللّه عليه وسلم وخاطبه بقوله «وَقُلِ» يا سيد الرسل لقومك عاملي القلوب عما يراد بهم في الآخرة «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ» أيها الغافلون عن ذكره انتبهوا فإليه الأمر ومنه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ» بهذا القرآن المنزل عليّ من ربي «وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ : وهذه الجملة جارية مجرى التهديد على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 40 من فصّلت المارة ، وإني لست بمعرض عن هؤلاء لأجل إيمانكم ، فإن آمنتم فلكم الجنة ، وإن أصررتم على كفركم وظلمتم أنفسكم فاللّه تعالى يقول «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» السرادق الحجرة التي تحيط بالقسطاط ، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن فقد شبه اللّه تعالى ما يحيط بهم من النار بالسرادق حول الحجرة ، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال(4/177)
ج 4 ، ص : 178
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعون سنة ، أي مساقة عرضه «وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا» من شدة العطش فيها «يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ» يشبه عكر الزيت المذاب الشديد الحرارة «يَشْوِي الْوُجُوهَ» لعظم حرارته عند شربه «بِئْسَ الشَّرابُ» ذلك «وَساءَتْ» النار «مُرْتَفَقاً» 29 منزلا لأهلها ومتكأ ومجتمعا ، وجيء بهذه اللفظة للمشاكلة مع الآية الآتية وإلا ليس لأهل النار ارتفاق ولا منزل يتكأ فيه ولا مجمع محمود ، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى (كَالْمُهْلِ) كعكر الزيت ، فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه ، أي جلدته أعاذنا اللّه تعالى منه وأدخلنا في قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» 30 في دنياه ، وجملة إنا فما بعدها معترضة بين صدر آيتها وصدر قوله تعالى
«أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ» ذلك الثواب عند رب الأرباب «وَحَسُنَتْ» جنة عدن دار الإقامة والخلود «مُرْتَفَقاً» 31 متكأ ومقرا ومجلسا لأهلها ، راجع معنى السندس وما بعده في الآية 53 من سورة الدخان المارة ومعنى الأساور في الآية 53 من سورة الزخرف المارة وجعل بعض القراء والمفسرين هاتين الآيتين 30/ 31 آية واحدة وقال إن جملة (لا نضيع) إلخ معترضة بين صدر الآية وعجزها وهو سديد لو لا وجود كلمة (أولئك) لهذا فهي آيتان مرتبطتان ببعضهما.
قال تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ» يا سيد الرسل «مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً» 32 لتكون جامعة للقوت والفاكهة والخضر والزينة معا «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها» ثمرها من كل ذلك «وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» إشعار بأنها حملت حملها المعتاد ونبت حب الزرع كله فلم تجحد منه الأرض شيئا يؤدي إلى نقص الحاصل «وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً» 33 لإتمام النفع وإكمال الزينة لأن أحسن القصور وألطف البساتين ما يجري فيها الأنهار «وَكانَ لَهُ» لصاحبها «ثَمَرٌ» بالفتح جمع ثمرة وبالضم(4/178)
ج 4 ، ص : 179
الأموال المثمرة على الإطلاق «فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ» حالة مخاطبته له «أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً» 34 أنصارا وحشما ، لأن من كان كذلك كثر أصحابه قال :
الناس أعوان من والته دولته وهم عليه إذا عادته أعوان
والناس عبيد الدرهم والدينار ، قال هذا القول لأخيه المؤمن «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ» أفردها بالذكر لأنها في الأصل واحدة ولكن لما فصل بينها بالنهر صارت اثنتين بحائط واحد «وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» بما قاله وما خطر بباله من القول السيء الذي أخبر اللّه عنه بقوله جل قوله «قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» 35 شك الخبيث في دمارها لطول أمله في الدنيا وغروره بعاقبته ونماديه في غفلته وأكثر الناس الآن هكذا مسجلين في الديوان مسلمين ، ولم يعملوا عمل الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون وذلك بسبب انهماكهم في الدنيا وغرورهم فيها ، ثم تطاول هذا الكافر ولم يكتف بإنكاره وما قاله لأخيه بل تطرق لإنكار البعث أيضا فقال «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» كما يقال ثم بغى وطفى وقال على فرض صحة ما تزعمون أننا نحيا ونرد إلى اللّه فأنا أقسم لكم «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها» من هذه الجنة التي ترونها «مُنْقَلَباً» 36 مرجعا وعاقبة في الآخرة التي تقولون بوجودها كما أعطاني في هذه الدنيا ، ومن هذا القبيل تفوهات بعض السفهة الآن ردهم اللّه للهدى ووفقهم للرشد ووقانا وإياهم من الردى «فَقالَ» أخوه المؤمن «له» لأخيه الكافر وقد محى اللّه كلا منهما صاحبا فقال «لِصاحِبِهِ» لأن الصاحب يطلق على الأخ لغة وعلى غيره فلا منافاة لما ذكر من أنهما أخوان «وَهُوَ يُحاوِرُهُ» يجادله بما مر ذكره مستفهما منه بقوله «أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا» 37 حتى قلت ما قلت ذكره رحمه اللّه بنعمة الخلق والذكورة والتعديل في الخلقة لعله يتذكر نعم اللّه عليه فيرجع عما هو عليه ، ولما لم يرد عليه لما رأى من كلامه له من التأنيب مضى ونفخ إبليس في أنفه ، أعرض عنه أخوه المؤمن وقال له «لكِنَّا» أصلها لكن انا حذفت الهمزة من أنا ونقلت حركتها إلى
نون لكن فتلاقت النونان نون لكن ونون انا(4/179)
ج 4 ، ص : 180
فأدغمتا بعد أن سكنت الثانية فصارت لكنا «هُوَ اللَّهُ رَبِّي» وقرىء لكن أنا على الأصل وهو استدراك لقوله أكفرت ، أي أنت بمقالتك تلك كافر لكن أنا مؤمن «وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» 38 أبدا ، ثم قال على طريق الأمر بالحث والإزعاج وهلا «وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ» بدل مقالتك السيئة تلك «ما شاءَ اللَّهُ» اعترافا بأن ما فيها منه وبأمره ومشيئته «لا قُوَّةَ» على عمارة وإنبات ما فيها وحفظه من الآفات لأحد ما «إِلَّا بِاللَّهِ» بمعونته ولطفه في ذاتك أيها المغرور «إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً» 39 تكبرت على وتعاظمت
«فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ» في الدنيا أو في الآخرة «خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ» ما تدري لعله «يُرْسِلَ عَلَيْها» على جنتك التي أطغتك «حُسْباناً» شهبا وصواعق أو نارا ، قال حسان :
بقية معشر صبّت عليهم شآيب من الحسبان شهب
نازلة «مِنَ السَّماءِ» فيدمرها أو يحرقها «فَتُصْبِحَ صَعِيداً» أرضا غبراء لا شية فيها يدل على أنها كانت جنة ذات أشجار وزروع «زَلَقاً» 40 جرداء ملساء تزلق فيها الأقدام لا ثبات فيها ، وأصل الزلق المشي في الوحل والزّلل في الرجل ، شبه عروها من النبات بعد أن كانت ملتفة بأرض وحلة أو رملة لا شيء فيها مما يستمسك به «أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً» في أعماق الأرض «فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً» 41 لا تناله الأيدي ولا الدلاء فتيبس أشجارها ونباتها.
قال تعالى «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ» من جميع جهات الجنة إذ أرسل عليها نارا فأحرقتها كلها وصاعقة فأحرق نباتها وغار ماؤها «فَأَصْبَحَ» صاحبها ذلك المغرور بها عند مشاهدتها والنظر إليها «يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ» يضرب أحدهما بالأخرى تأسفا ولهقا عليها ، قال عمر ابن أبي ربيعة :
وضربنا الحديث ظهرا لبطن وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
وذلك حزنا وندما «عَلى ما أَنْفَقَ فِيها» من المال والتعب وحرمانه من منافعها وبهجتها «وَهِيَ خاوِيَةٌ» ساقطة مترامية «عَلى عُرُوشِها» أي سقطت جدران الجنة على عروش الكرم ، وهذا كناية عن تدميرها كلها وخلائها(4/180)
ج 4 ، ص : 181
من كل ما كان فيها لأن خوا بمعنى خلا «وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» 42 قال هذا لما سقط في يده وقال يا ليتني سمعت موعظة أخي ، لأنه عرف أن ما أتاه كان بسبب الكفر والطغيان ، لذلك أظهر ندمه حين لات مندم ، وقد خاب أمله من الناس لأنهم كانوا يلتفون حوله بغية ما عنده ، فلما ذهب ذهبوا عنه على حد قوله :
رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب
ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا
يدل على هذا قوله تعالى «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فيحفظون له جنته «وَما كانَ مُنْتَصِراً» 43 هو أيضا لعجزه.
قال تعالى «هُنالِكَ» في ذلك المقام مقام نزول الهلاك وإيقاع الهوان وصبّ العذاب «الْوَلايَةُ» الحقيقية بكسر الواو بمعنى السلطان والملك وبفتحها النصرة والتولي «لِلَّهِ الْحَقِّ» وحده لا يملكها غيره فلا حائل يحول دون تنفيذها ولا مانع يمنع وقوعها «هُوَ خَيْرٌ ثَواباً» لأهل طاعته «وَخَيْرٌ عُقْباً» 44 بضم القاف وسكونها وعلى وزن فعلى شاذا وكلّها بمعنى العاقبة ، ضرب اللّه تعالى هذا المثل بمناسبة الآية المتقدمة النازلة بحق عيينة بن حصن الفزاري وأصحابه المار ذكرهم وفقراء المسلمين سلمان وأصحابه ، وذلك أن رجلين من بني إسرائيل ورثا ثمانية آلاف دينار فاقتسماها بينهما ، فأما أحدهما فتزوج بألف وبنى قصرا بألف وشرى جنة بألف واشترى متاعا وخدما بألف واسمه قطروس ، وأما الآخر واسمه يهوذا فتصدق بها وطلب ثوابها جنة وقصرا وزوجة ومتاعا وخدما في جنته ، فأصابته حاجة فتعرض إلى صاحبه ، فقال له ما فعلت بمالك ؟ فأخبره الخبر ، فقال له وإنك لمن المصدقين بأنك تثاب وتعطى وأنك تبعث ؟ قال نعم ، فقال واللّه لا أعطيك شيئا ما دامت هذه عقيدتك ، فقال واللّه لا أحول عنها أبدا ، وسيغنيني اللّه عنك ويرديك ، فأنزل اللّه هذه الآية بحقهما وهذان هما المشار إليهما في الآية 50 من سورة الصافات المارة لا المشار إليها في سورة نون ج 1 ، تأمل.(4/181)
ج 4 ، ص : 182
مطلب مثل الدنيا وتمثيل الأعمال بمكانها وزمانها ونطقها يوم القيامة كما في السينما :
قال تعالى «وَاضْرِبْ» يا سيد الرسل «لَهُمْ» لقومك على صحة البعث «مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» من كل صنف ونوع وجنس ولون وشكل كان ملتفا بعضه على ببعض متكاثفا زاهيا رابيا تهتز به الأرض ابتهاجا وحسنا «فَأَصْبَحَ» بعد ذلك «هَشِيماً» يابسا مفتتا «تَذْرُوهُ الرِّياحُ» واعلم أن كلمتي تذروه والذاريات لم تكررا في القرآن ، أي تنسفه يمينا وشمالا «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» 45 ضرب اللّه تعالى هذا المثل يشبه به حال الدنيا في نضرتها وزينتها وما يطرأ عليها من الهلاك والفناء بالنبات في الأرض يخضر ويزهو ثم ييبس ويتكسر فتطيره الرياح ثم يحييه اللّه تعالى بالمطر فيعود كما كان كأن لم يطرأ عليه شيء ، وهكذا الخلق ينشأ من الماء أيضا فيكثرون ويتباهون بالأموال والأولاد والرياسة والجاه ثم يموتون ثم يحييهم اللّه تعالى كما كانوا ، ثم يعاملون بمثل أعمالهم ، فيحيا حياة طيبة دائمة من حيّ على بينة ويهلك هلاكا قبيحا دائما من هلك على بينة.
ونظير هذه الآية في المعنى الآية 34 من سورة يونس المارة.
قال تعالى «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتفاخر بها أهلها «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» زينة الحياة الآخرة وهذه «خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً» من زينة الدنيا «وَخَيْرٌ أَمَلًا» 46 ممّا يؤمله الإنسان من جميع خيرات الدنيا لعظيم جزائها عند اللّه ، وهو نائلكم حقا ، لأن وعد اللّه بها صادق ، وأكثر آمال الدنيا كاذبة قد لا ينالها الإنسان ، روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأن أقول سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.
وأخرج مالك في الموطأ أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات ، والحقيقة أنها كل عمل صالح.
قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك «يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» عن مواقعها هذه فتجعلها هباء منثورا ، راجع الآية 107 من سورة طه والآية 4 من سورة الواقعة في ج 1 ، وأمثالها كثير في القرآن «وَتَرَى الْأَرْضَ» بعد ذلك «بارِزَةً»(4/182)
ج 4 ، ص : 183
ظاهرة للعيان لا بناء فيها يسترها ولا شجر يحجبها ولا جبل يغطيها ولا خلق عليها ولا فيها ، راجع الآية 4 من سورة الإنشقاق في ج 1 والآية 2 من سورة الزلزلة في ج 3 ولا أنهار ولا بحار ، وذلك عند النفخة الأولى «وَحَشَرْناهُمْ» الموتى المدفونين فيها أحياء بعد ذلك وسقناهم إلى الموقف فأحضرناهم فيه بعد النفخة الثانية «فَلَمْ نُغادِرْ» نترك في بطن الأرض والماء والحيوان والحوت والهواء «مِنْهُمْ أَحَداً» 47 إلا أحضرناه في أرض المحشرَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا»
للحساب والجزاء كما يستعرض القائد العام جنوده لا يخفى عليه منهم أحد ، أما القائد فقد يخفى عليه آحاد وشتان بين الخالق والمخلوق فيقول لهم اللّه عزّ وجل وعزتي وجلاليَ قَدْ جِئْتُمُونا»
أيها الخلقَ ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ»
في الدنيا وحدانا لا مال ولا ولد ولا نشب ولا رياش عندكمَ لْ زَعَمْتُمْ»
في الدنياَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً»
48 في الآخرة نلاقيكم فيه ونقاضيكم على أعمالكم من صدق وإيمان وكفر وخسران.
ونظير هذه الآية الآية 94 من سورة الأنعام المارة.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بموعظة فقال : أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة غرلا (قلقا) - لأن الغرلة القطعة التي تقطع من جلدة الذكر وهي موضع الختان - كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ، ألا وان أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول يا رب أصحابي ، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح - يريد عيسى عليه السلام - : (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) إلى قوله (العزيز الحكيم) ، قال فيقال لي إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، زاد في رواية فأقول سحقا سحقا.
قال بعض العلماء المراد بهم - واللّه أعلم - هم الذين ارتدوا بعده ومنعوا الزكاة من العرب ، ولكن الحديث عام فيشمل هؤلاء وغيرهم من أمثالهم ، وان من خصّه فيهم استنبط اختصاصه من قوله صلّى اللّه عليه وسلم (أصحابي) إذ لا يسمى صاحبا إلا من شاهد حضرة الرسول أو شاهده الرسول ليدخل الأعمى ومات على ذلك «وَوُضِعَ الْكِتابُ» أل فيه للجنس إذا أريد به أهل اليمين(4/183)
ج 4 ، ص : 184
وأهل الشمال ، وظاهر ما بعده تخصيصه بأهل الشمال فقط ، فتكون أل فيه للعهد أي الكتاب المعهود الذي فيه صحف أعمالهم ، قال صاحب الجوهرة في منظومته :
وواجب أخذ العباد الصحفا كما من القرآن نصا عرفا
وقال بدء الأمالي :
وتعطى الكتب بعضا نحو يمنى وبعضا نحو ظهر أو شمال
والحكم الشرعي : وجوب اعتقاد هذا ، ومن أنكره فهو كافر لإنكاره كلام اللّه دون تأويل أو تفسير ، قدمنا ما يتعلق بهذا في الآيتين 36/ 37 من سورة الإسراء المارة في ج 1 ، وله صلة في الآية 9 فما بعدها من سورة المطففين الآتية ، «فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ» خائفين من سوء أعمالهم «وَيَقُولُونَ» عند مشاهدته «يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ» استفهام تعجب من كونه «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً» من أعمال بني آدم وغيرهم «إِلَّا أَحْصاها» أثبتها ودونها فيه «وَوَجَدُوا» فيه كل «ما عَمِلُوا» في دنياهم «حاضِراً» بحيث يخيل إليهم فعلهم وقولهم كما أوقعوه في الدنيا بتخييل حقيقي وتمثيل واقعي بحيث ينطق كل بما وقع منه ، بخلاف تمثيل أهل الدنيا (سينما) فإنه صوري وما يسمعونه من الكلام ليس من كلام الأشباح المخيلة نفسها بل من الشريط المعروض كالأسطوانات التي تمر عليها الإبرة ، ونظير هذه الآية الآية 21 من آل عمران ج 3 ، فيسمعون كلامهم أنفسهم وكلام من تكلموا معه ويسمعون نطق جوارحهم بما عملت وبأي مكان وزمان يرونه أيضا ويرون جزاءه مهيأ بنسبته «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» 49 بحيث لا ينقص ثوابا ولا يزيد عقابا ولا يعذب أحدا بغير جرم ، ولا يثيب أحدا بغير عمل صالح ، وهذا لا على سبيل الوجوب إذ له جل جلاله إثابة العاصي وعقاب الطائع إذ لا يسأل عما يفعل وإنما يعامل العاصي بمقتضى العدل والطائع بحسب الفضل ، فمن أين لكم أيها الناس بعد هذا تنكرون إعادة خلقكم وتكذبون رسلكم ، وقد ضرب لكم الأمثال الحقيقية عليه وقص عليكم رسله نتيجة ما تؤولون إليه.(4/184)
ج 4 ، ص : 185
مطلب إبليس من الجن لا من الملائكة وانواع ذريته وما جاء فيهم من الأخبار :
قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك بعد قصة أهل الكهف وأصحاب الجنة وحال البعث ومنكريه «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» وهذا السجود للتحية والتكريم لا للعبادة ، لأن سجودها خاص بالمعبود العظيم وحده ، وكان اسمه عليه اللعنة بالسريانية عزازيل ، وبالعربية الحارث ، فلمّا عصى سمي إبليس لأنه أبلس وأيس من رحمة اللّه وغيرت صورته إلى السمرة والزرقة بعد البياض والصفرة والحمرة.
وهذا الخبيث الذي لم يتمثل أمر ربه «كانَ مِنَ الْجِنِّ» وهذا كلام مستأنف كأنه قيل لم لم يسجد مع الملائكة ، فقيل لأن أصله من الجن لا من الملائكة إذ لو كان منهم لما تخلف عن أمر ربه لأنهم لا يعصون اللّه فيما يأمرهم طرفة عين ولا يغفلون عن ذكره ، فثبت أنه من الجن بنص هذه الآية التي لا تقبل التأويل.
واعلم أن قبيلة إبليس انقرضت ولم يبق منها غيره فهو أصل الجن والشياطين ، كما أن آدم أصل البشر ، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال : قاتل اللّه أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة واللّه تعالى يقول كان من الجن.
وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وانه الأصل الجن كما أن آدم أصل البشر فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس من غير تشبيه ، لأن نوحا أبو البشر الثاني بسبب إهلاك من قبله من ذرية آدم ، وإبليس أبو الجن الثاني بسبب انقراض الجن قبله من ذرية أبيهم الجان.
ومن هذا يعلم أن ما قيل إنه من الملائكة لا يستند إلى دليل صحيح ، وهو قيل مخالف لصراحة القرآن ، وإن من قال أنه منهم عده من أقربهم إلى اللّه ، وهذا يقدح في عصمة الملائكة الذين لا خلاف في عصمتهم ، راجع الآية 158 من الصافات المارة وما ترشدك إليه فقيه ما تريده ، ولهذا فإن الاستثناء في هذه الآية منقطع على حد قوله تعالى (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) الآية 58 من الزخرف المارة على العكس في المعنى أي في المستثنى والمستثنى منه ، ومثله في قوله تعالى (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) الآية 63 من سورة مريم في ج 1 ، لأن المستثنى فيها ليس(4/185)
ج 4 ، ص : 186
من جنس المستثنى منه.
أما إطلاق لفظ الجن على الملائكة في قوله تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) الآية 158 من سورة الصافات المارة على قول من قال إن المراد بالجنة فيها الملائكة ، لأن العرب تقول إن الملائكة بنات اللّه ، لأنه مأخوذ من الاجتنان وهو الستر ، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه ، فتدخل الملائكة في هذا اللفظ من هذه الحيثية فقط ، وعليه يجوز إطلاق لفظ الجن على كل الملائكة على هذا المعنى ، وإلا فالجنّ جنس والملك جنس آخر مخالف ، وقد أثبت اللّه في قوله الآتي أنه له ذرية بنص لا يقبل التأويل ولا يحتمله ، وأنت خبير بأن الملائكة لا يتوالدون فلا ذرية لهم ، وأنهم خلقوا من نور اللّه ، والجن من ناره بنص القرآن ، فلا مشابهة بينهم في أصل الخلقة ، تدبر «فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» بعدم الامتثال تكبرا لزعمه أنه أفضل منه ، راجع هذا البحث في الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1 ، «أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ» يا بني آدم «أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي» بعد أن خالف أمري وطرد من رحمتي «وَهُمْ» إبليس وذريته «لَكُمْ عَدُوٌّ» أيها الناس ثابت العداوة مع أبيكم آدم بالنص القطعي ، فإذا كنتم إليه ولذريته ظلمتم أنفسكم بدل أن ترحموها ، واللّه تعالى يقول «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ» المتخذين أعداءهم أولياء «بَدَلًا» 50 من اللّه تعالى ، قيل إن إبليس يوسوس للعبد بترك الصلاة ويوسوس له فيها أيضا ليقطعها عليه ، وله من نوع الذرية خمس :
(1) الأعر يحبب للناس الزنى (2) ووتير يجزّعهم على المصائب (3) ومسوط يلقي في قلوبهم الأراجيف (4) وداسم يأكل ويشرب مع من لم يسم اللّه تعالى (5) وذو بنور الذي يرغب الناس للدخول في الأسواق.
وقد أخرج ما بمعناه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن مجاهد ، وروى مسلم عن عثمان ابن أبي العاص قال : قلت يا رسول اللّه إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليّ ، قال فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذلك شيطان يقال له جثرب فإذا أحسسته فتعوذ باللّه منه واتفل على يسارك ثلاثا ، قال ففعلت ذلك فأذهبه اللّه عني.
وروى مسلم عن جابر قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا ، (4/186)
ج 4 ، ص : 187
ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت.
قال الأعمش أراه قال فيلتزمه أي يضمه إلى صدره تحيذا لفعله ، عليه وعلى ذريته الكافرة اللعنة والغضب.
وروى ابن زيد أن اللّه تعالى قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها ، فليس يولد لآدم ولدا إلا ولد معه شيطان يقرن به ، ولا علينا أن نعلم كيفية توالده ، لأن كثيرا من الأشياء لم يطلع اللّه عليها خلقه ، والقصد وجوب الاعتقاد بحصول الذرية له ، سواء أكان ذلك كالبشر أم كالحيوان أو كالطير أو الحوت أو الحشرات وغيرها.
قال تعالى «ما أَشْهَدْتُهُمْ» أي إبليس وجنوده وذريتهم «خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» أي ما أطلعتهم على ذلك ، لأني خلقتها قبل خلقهم ، فافردوني أيها الناس بالعبادة كما انفردت بالخلق ، وإياكم أن تشركوا في ذلك غيري فتظلموا أنفسكم «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» 51 أعوانا أستعين بهم على خلقهما أو خلق شيء مما فيهما وعليهما فكيف تتخذونهم أولياء من دوني أيها الكفرة «وَ» اذكر يا محمد لقومك حالة أولئك المتخذين شريكا معي «يَوْمَ يَقُولُ» لهم يوم القيامة «نادُوا شُرَكائِيَ» الذين عبدتموهم في الدنيا «الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم شركائي وأنهم يشفعون لكم في الآخرة هذه «فَدَعَوْهُمْ» واستغاثوا بهم هلم انقذونا مما نحن فيه واشفعوا لنا كما وعدتمونا في الدنيا «فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» لأنهم إن كانوا من الملائكة أو عزيز وعيسى وعلي عليهم السلام أو غيرهم من البشر فإنهم يتبرءون منهم ويستعيذون باللّه من عبادتهم ويتضرعون إلى اللّه بالعفو عنهم من هذه النسبة الباطلة ، وإن كانوا من الأصنام فهي حجارة أو خشب أو غيرها من الجماد الذي لا يسمع ولا يتكلم ، ثم يحال بينهم وبين ما يعبدون لقوله تعالى «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ» وبين أوثانهم «مَوْبِقاً» 52 مهلكا ، قال ابن عباس هو واد في النار يجتمعون فيه في جهنم «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا» أيقنوا وتحققوا «أَنَّهُمْ مُواقِعُوها» مدفعون إليها وداخلون فيها وذلك بعد أن أراهم عجز أوثانهم وتبرأ الأولين وإهلاك الآخرين في الموقف بعد الحساب والقضاء «وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» 53 لأنهم بعد أن أوقعوا فيها أحاطت بهم من(4/187)
ج 4 ، ص : 188
كل جانب فلا محيص لهم غير الاحتراق فيها.
قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» ليتعظوا فلم ينجع بهم «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» 54 في الباطل ، وقيل إن هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث ، وقيل في أبي بن خلف ، لأنهما أكثر الكفرة جدالا في القرآن ، والآية عامة فيهما وفي غيرهما ممن عمل ويعمل عملهما إلى يوم القيامة ، وفي كل من يجادل في آيات اللّه بالباطل.
روى البخاري ومسلم عن علي كرم اللّه وجهه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلا ، فقال ألا تصليان ؟ فقلت يا رسول اللّه أنفسنا بيد اللّه ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا (أي لما تريده منا) فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا ، ثم سمعته يقول وهو مول يضرب فخذه بيده (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا).
وهذا الحديث لا يعني أن الآية نزلت في ذلك ، وإنما ذكرها حضرة الرسول بمناسبة ما قاله علي تعجبا من سرعة جوابه وعدم موافقته له على القيام إلى الصلاة ، وفيه إيماء إلى عدم قبول قوله ، ولهذا ضرب فخذه.
قال تعالى «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ» مما هم عليه «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» هلاك الاستئصال «أَوْ» انتظار لأن «يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» 55 عيانا مقابلا لهم يشاهدونه بأعينهم ، وهو جمع قبيل ، وإذ ذاك لم يقبل منهم الإيمان ، لأن الحالة حالة يأس وبأس ، راجع الآية 158 من سورة الأنعام المارة ، أي انهم لا يؤمنون بأحد هذين الشيئين ، وذلك ليس من شأن العاقل ، إذ عليه أن يؤمن بمجرد وضوح الدلائل على الإيمان ، وقرىء قبلا بضم القاف والباء ، وبكسر القاف وفتح الباء ، والمعنى ضروب من أنواع العذاب وبفتحتين مستقبلا ، وهو ما يجوز فيه ثلاث لغات كالعمر والقصر والدهر والولد والرغم والشط والسقط والفتك
والشرب والفم والضر والزعم والوجد والقلب والضب والطب والقطب والحرض.
قال تعالى «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» الأمم بعقاب العاصي وثواب الطائع «وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أنبياءهم «بِالْباطِلِ» مثل قولهم (ما أنتم إلا بشر مثلنا) وقولهم (لو شاء اللّه لقلنا مثل هذا) (ولو شاء اللّه لأنزل ملائكة)(4/188)
ج 4 ، ص : 189
(ولو لا أنزل هذا القرآن على رجل) الآية ، وأشباه هذه الآيات كقولهم ساحر وكاهن وشاعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين واختلاق وافتراء إلى غير ذلك «لِيُدْحِضُوا» يزيلوا ويبطلوا ويمحقوا «بِهِ» بجدالهم هذا «الْحَقَّ» الذي جاءهم من عندنا على أيدي رسلهم «وَاتَّخَذُوا» أولئك الكفرة «آياتِي» التي أنزلتها إليهم بواسطة رسلى «وَما أُنْذِرُوا» به منها وما فيها من التهديد والوعيد والتقريع والتوبيخ والتبكيت «هُزُواً» 56 سخرية بضم الزاي وإسكانها «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» يريد القرآن خاصة بدليل تذكير الضمير فيما يأتي «فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» من الكفر والعصيان ، أي لا أظلم من هذا أبدا «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» أي الذين ذكروا فأعرضوا «أَكِنَّةً» أغطية كثيفة «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يعوه ويفهموه «وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» لئلا يسمعوه ويعقلوه «وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى » الذي تريده لهم يا سيد الرسل «فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» 57 لسابق سقائهم وإحقاق الكلمة عليهم ، لأن هذه الآية خاصة في أقوام منهم علم اللّه تعالى أنهم لا يؤمنون أبدا «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ» على كفرهم ، ولكن من مقتضى رحمته تأخيره ، ولذلك جاء الإضراب بعده بقوله «بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ» لتعذيبهم في الدنيا كما لهم موعد لعذابهم في الآخرة لا خلف فيه «لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» 58 منجى وملجأ قال الأعشى :
وقد أخالس رب الدار غفلته وقد يحاذر مني ثم مائيل
ينجو.
قال تعالى «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا» أعاد الضمير لأهلها ، والمراد بهم هنا الذين يعلمونهم أكثر أهل مكة وهم قوم نوح فما بعده ، لأن القرى لا تهلك إلا بهلاك أهلها ، وإلا فما داموا فيها فهي عامرة بهم ، وكان سبب إهلاكهم الظلم «وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» 59 أجلا فاجأناهم به ، والمراد به هلاك الاستئصال عقابا لهم على ظلمهم لأن غيره يحصل لكل الأمم ، أي وكذلك قومك يا محمد إن لم يؤمنوا فيحل بهم ما حل بهم.(4/189)
ج 4 ، ص : 190
مطلب قصة موسى عليه السلام مع الخضر رضي اللّه عنه :
قال تعالى «وَ» اذكر لقومك هذه القصة العظيمة أيضا «إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ» يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السلام ، وهو ابن أخت موسى كما ذكروا وأكبر أصحابه ، وخليفته في شريعته بعد هرون عليهم السلام ، وهو من عظماء بني إسرائيل وسمي فتى ، وهو هنا بمعنى خادم وعبد لقيامه في خدمته ودوام متابعته له وكثرة تعلمه منه ، وإلا فمعنى الفتى الشاب الطري السجي الكريم ، والفتوة لقب شرف ويأتي بمعنى الحديث في السن ، ولهذا يقال لليل والنهار الفتيان ، والتلميذ عبد حكمي لأستاذه مهما كان شريفا أو حقيرا.
قال شعبة : من كتبت عنه أربعة أحاديث فأنا عبده ، ومن علمني حرفا كنت له عبدا.
ومقول القول «لا أَبْرَحُ» لا أزال أسير «حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» قالوا بحر فارس والروم وملتقاهما مما يلي المشرق ولعل المراد بما يقرب من مجمعهما لأنهما لا يجتمعان إلا في البحر المتوسط وهما شعبتان فيه «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» 60 أداوم على السير زمنا طويلا ، والحقب ثمانون سنة ، وذلك أن اللّه تعالى وعد موسى أن يلقى الخضر هناك ، وموسى هذا هو ابن عمران ، وما قيل إنه ابن ميشا من أولاد يوسف لا صحة له ولا ثقة بالمنقول عنه وهو كعب الأحبار ، لأن اللّه تعالى لم يذكر في كتابه مسمى بهذا الاسم غير صاحب التوراة ، ولو أراد غيره لذكره وعرفه ليتميز عنه ، روى البخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس إن نوفل البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو بني بني إسرائيل ، فقال ابن عباس كذب عدو اللّه ، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال أنا فعتب اللّه عليه ، إذ لم يرد العلم إليه (أي لم يقل اللّه أعلم) فأوحى اللّه سبحانه وتعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال يا رب فكيف لي به ؟
قال فخذ معك حوتا فاجعله في مكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم ، فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق ، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، حتى أتيا الصخرة (بوجد بقرب ملتقى نهر الكلب والبحر الأبيض المتوسط في بيروت صخرة عظيمة(4/190)
ج 4 ، ص : 191
يزعمون أنها هي تلك الصخرة ، وأن المراد بملتقى البحرين نهر الكلب والبحر الأبيض هناك ، وهو قول لم يثبت ، وقد ذكرنا غير مرة بأن أشياء كهذه لا يمكن القطع بها ، وأن كل ما لم يبينه اللّه يجب أن نحيل العلم فيه إليه) وضعا رءوسهما فناما ، فاضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه فسقط في البحر ، وتيقظ يوشع عند ذاك فرآه ، قال تعالى «فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما» أي نسي يوشع أن يخبر موسى بما رآه من أمر الحوت وهو قوله تعالى «فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً» 61 إذ أمسك اللّه عن الحوت جرية الماء وموجه فصار عليه مثل الطاق ، وان موسى لم يسأله عن المكتل الذي فيه الحوت ولهذا نسب اللّه تعالى النسيان إليهما وبقيا يمشيان بقية يومهما وليلتهما «فَلَمَّا جاوَزا» المكان الذي فقدا فيه الحوت وداوما على السير ألقى اللّه على موسى الجوع ليتذكر موعد ربه ، حتى إذا كان الغد من هذا اليوم «قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» 62 وذلك لأنه جاوز المحل الذي أمره اللّه به ، أما قبله فلم يحس بتعب لأنه لا يكلف عبده بما لا قدرة له به ولا طاقة له عليه سواء في العمل أو في العبادة ، راجع الآية الأخيرة من سورة البقرة في ج 3 ، فتيقظ إذ ذاك يوشع و«قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ» قال له موسى بلى ، قال «فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ» أي نسيت أن أقص عليك خبره ، فذكر له شأنه وقال «وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» لك ، قال هذا على سبيل الاعتذار ، ثم قال «وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً»
63 أي أن خروجه من المكتل ودخوله البحر وصيرورة البحر عليه طاقا كالسرب كان عجبا ، قيل كان في أصل الصخرة عين ماء يقال لها عين الحياة لا يصيب شيء من مائها إلا حيّ ، وقد أصاب ذلك الحوت منها شيء ، فتحرك وانسل من المكتل إلى البحر ، مع أنه كان مطبوخا ، ولهذا كان لموسى وفتاه عجبا ، لأنه حوت مطبوخ وقد أكلا منه ، والأعجب منه أيضا ماء البحر مع شدة موجه ، وما يحصل فيه من الجريان يمينا وشمالا بسببه يكون سربا مثل الطاق ويبقى على حاله زمنا ، إلا أنه ليس بأعجب من فلق البحر له عليه السلام ، وإنما لم يتعجب منه لأن اللّه وعده به «قالَ»(4/191)
ج 4 ، ص : 192
موسى لفتاه «ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» من المكان الذي نطلبه «فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» 64 حتى وصلا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجّى بثوب وهو المعني بقوله تعالى «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا» هو الخضر عليه السلام واسمه بليا بن ملكان ، وقالوا إن من عرف اسمه واسم أبيه ومات مسلما دخل الجنة ، نقله الباجوري في حاشيته على شرح ابن قاسم ، ونقل ابن زياد في فتاويه غاية بلوغ المرام عن العلامة أحمد بن زيد الجيش من كتب (علي عليه السلام ولد في 10 رجب سنة 30 من عام الفيل دخل الجنة) واللّه يرزق من يشاء بغير حساب إذا أراد فعل ، ثم وصف ذلك العبد بقوله «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» 65 وهو الإخبار بالمغيبات التي خصه اللّه بها ، قالوا فلم عليه موسى فقال عليه السلام ، وانا بأرضنا السلام ، ثم رد عليه وقال من أنت ؟ قال موسى ، قال موسى بني إسرائيل ، قال نعم ، قال وما شأنك «قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» 66 وقد ثبت عن حضرة الرسول أن هذا هو الخضر عليه السلام ، روى البخاري عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه وسلم إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء (الفروة القطعة من النبات اليابس المجتمع ، وتطلق على وجه الأرض أيضا) قالوا وكنيته أبو العباس وكان من أبناء الملوك الأقدمين الذين تزهدوا وتركوا الدنيا ، قالوا قال يا موسى أما يكفيك التوراة والوحي وتكليم اللّه لك ، قال إن ربي أرسلني إليك ، ثم قال له من أين عرفتني موسى نبي إسرائيل ، قال عرّفني الذي أرسلك إليّ ثم «قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» 67 يا موسى لأني على علم علمنيه ربي لا تعرفه «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» 68 ولا تقدر أن تعرفه لأنك على علم علمكه اللّه لا أعلمه أنا وقد أعمل بخلافه لأنك تنظر إلى ظاهر الأمور وأنا إلى باطنها «قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً» استثنى عليه السلام لعدم وثوقه من نفسه بالصبر ، ثم قال «وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» 69 من الأمور ولا أخالفك في شيء تريده لأني جئتك متعلما
«قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ» يتعلق بصفات الألوهية الذي لا يحل السؤال عنه(4/192)
ج 4 ، ص : 193
لأن ما أفعله مخالف ظاهره لظاهر الشرع ، لأني سأفعله مبدئيا وان أنكرته ، وقرىء تسألنّي بفتح اللام وتشديد النون وثبوت الياء فيه وفيما قبله إجماعا ، بخلاف ياء (نبغ) لأن منهم من حذفها ومنهم من أثبتها وعليه الوقف والقراءة في المصاحف بتخفيف النون وإسكان اللام «حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» 70 فأبينه لك من تلقاء نفسي ، فرضي موسى على هذا الشرط وترافقا «فَانْطَلَقا» يمشيان على ساحل البحر ، فمرت بهما سفينة ، فكلموهما أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول ، فلم ير موسى إلا الخضر عمد إلى لوح من السفينة ، فقلعه ، وذلك قوله تعالى «حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» ثقبها فالتفت إليه موسى وقال له قوم حملونا بغير نول تعمد إلى سفينتهم فتخرقها ، وهو قوله تعالى «قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» 71 كبيرا عظيما يقال امر الأمر إذا كبر ، ومنه قول أبي جهل لعنه اللّه أمر أمر ابن أبي كبشة يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلم وأبو كبشة زوج مرضعته حليمة ، فيكون أباه من الرضاع ، ولم ينسبه لأبيه عبد اللّه استحقارا به حقره اللّه في ناره «قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» 72 وقد وعدتني بالصبر واشترطته عليك وعدم السؤال فلم توف بالشرط «قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي» تحملني وتغشني «مِنْ أَمْرِي عُسْراً» 73 فلا تشدد وتعسر علي متابعتك واعف عن هفوتي وعاملني باليسر والسهولة ، وإنما قال له ذلك لأنه لم ير الماء دخل السفينة من الثقب ، ولم يعارضه أهلها بذلك لأنهم يعرفونه لا يعمل شيئا عبثا ، قالوا وجاء عصفور فوقع على خرق السفينة فنقر في البحر نقرة ، فقال الخضر لموسى ما نقص علمي وعلمك من علم اللّه إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، وإنما اعترض عليه موسى لأن فعله مخالف للظاهر ، ولا يجوز للأنبياء
السكوت على ما يرونه مخالفا لشريعتهم وهم معذورون إذا لم يصبروا لا سيما وأن في عمله ذلك خطر على أهل السفينة الراكبين فيها ومضرة على أصحابها ، وكلا الأمرين غير جائز بل ممنوع شرعا بحسب الظاهر ، ثم خرجا من السفينة وصارا يمشيان على الساحل ، فأبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأمسكه واقتلع رأسه من جئته بيده فمات حالا ، (4/193)
ج 4 ، ص : 194
وهو قوله تعالى «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» 74 منكرا عظيما لا يتلافى وهو بخلاف خرق السفينة إذ يمكن تلافيه ولأنه قد لا يؤدي إلى الهلاك ، وتقرأ نكرا بضم الكاف وسكونها «قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ» أكد إنكاره عليه بأن واللام لقوله «لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» 75 وإنما زاد في جملته هذه (لك) لأنه نقض العهد مرتين ، فلما أحس موسى بانفعال الخضر من اعتراضه عليه ثانيا ، لأن في هذه الجملة تعنيفا له «قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» 76 إذا فارقتني لوضوح العذر ولا لوم عليك البتة «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» بسقط لشدة ميلانه للانهدام «فَأَقامَهُ» أشار إليه بيده فاعتدل «قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» 77 لأنهم لم يضيفونا ولم يطعمونا فلبسوا بأهل لتعمل لهم ذلك عفوا ، قالوا إن هذه القرية (أنطاكية) مدفن الرجل الصالح حبيب النجار من أصحاب عيسى عليه السلام ، قال أبي بن كعب : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم كانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا «قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» لأني لا أقدر على مصاحبتك لعدم صبرك على ما ترى مني وعدم علمك نتيجته ولكن «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» 78 روى البخاري ومسلم عن أبي بن كعب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رحمة اللّه علينا وعلى موسى (وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه) لو لا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامه (حياء وإشفاق من الذم واللوم) فقال (إن سألتك) الآية ،
فلو صبر لرأى العجب.
قال تعالى مبينا ما استنكره السيد موسى بقوله «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» قيل كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وخمسة يعملون بها «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» حتى لا يأخذها أحد منهم «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ» قال
سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقرأ (وكان أمامهم ملك) وليس بشيء «يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» 79 لم تتكرر هذه الكلمة بالقرآن(4/194)
ج 4 ، ص : 195
أي يأخذها مصادرة لاحتياجه إليها في الحرب وإذا رآها معيبة تركها فكان ما فعلته صلاحا لأهلها إذ يمكنهم إصلاح ما أفسدته منها والانتفاع بها.
وفي هذه الآية دليل على أن العامل الذي لا يكفيه عمله يسمى مسكينا ويعطى من الزكاة ، قالوا وكان ذلك كافرا اسمه الجلندى ، وتوجد في العراق عائلة كريمة تدعى بيت الشاوى من رؤساء عشائر العبيد ينتسبون إلى هذا الملك ولهم مكانة في العراق ، وكانت رؤساء العشائر حينما يأتون بغداد يدخلون معرضين رماحهم ويمرون من تحت الطاق العائد لهم إذعانا واحتراما لهم.
مطلب عدم جواز القراءة بما يخالف ما عليه المصاحف والقول في نبوة الخضر وولايته وحياته ومماته :
قال تعالى «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ» وكان ابن عباس يقرأ (وكان كافرا) وليس بشيء ، راجع الآية 6 من الزخرف المارة تعلم أنها تفسير لا قراءة وأن كل ما هو مخالف لرسم المصاحف لا تجوز قراءته «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً» 80 بعقوقه وسوء صنيعه فيحملهما حبه على اتباعه فيكفران «فَأَرَدْنا» بقتله «أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً» صلاحا وتقى «وَأَقْرَبَ رُحْماً» 81 بهما وعطفا عليهما منه ، روى البخاري ومسلم عن عن أبي بن كعب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانه وكفره ، ولذلك فإن أبوي الولد لم يعارضا الخضر عليه السلام بشأن قتله لعلمهما أنه لا يفعل شيئا إلا لحكمة وقد جربوه وهذا أقصى حد في الاعتقاد بالأولياء إذ لا يمكن الأحد أن يحذو حذوه ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، قال تعالى «وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما» روى أبو داود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : كان الكنز ذهبا وفضة - أخرجه الترمذي - «وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً» قالوا اسمه كاشح واسم ولديه أحرم وحريم ، قال محمد بن المنكدر : إن اللّه تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله ، فلا يزالون في حفظ اللّه تعالى ما دام فيهم ، قال سعيد بن المسيب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي(4/195)
ج 4 ، ص : 196
راجع الآية 22 من الطور الآتية تجد هذا البحث ، «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما» إذا كبرا وعقلا ويا أخي موسى إنما أقمت لهم الجدار «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» بهما حتى يبقى الكنز محفوظا لهما ولا يليق بنا أن نترك هذا لعدم قيام أهل البلدة بضيافتنا.
واعلم أن الذي وقع مني كله بأمر اللّه «وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» ولا باختياري ورأبي «ذلِكَ» الذي ذكرته لك «تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» 82 واعترضت به علي ، هذا وفي قول الخضر عليه السلام عند ذكر العيب (أردت) أضافه إلى نفسه على سبيل الأدب مع ربه ، وفي الحقيقة إن ذلك من اللّه لأنه بأمره فعل ما فعل كما قضاه في الأزل عز وجل ، وفي ذكر القتل قال (أردنا) بلفظ الجمع تنبيه على أنه من العارفين بعلمه تعالى ، العاملين بأمره فيما يؤول إليه الأمر ، وأنه لم يقدم على فعل القتل إلا لحكمة عالية بإلهام من ربه ، ولذلك أذعن والداه كما مر آنفا ، وقال ثالثا (فَأَرادَ رَبُّكَ) لأن حفظ الأنبياء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا للّه وحده ، ولذلك أضافه إليه.
هذا ، وقد استدل بعض العلماء بقوله تعالى (ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) إلخ على أن الخضر نبي لأن النبي من لم يفعل بأمره بل بالوحي ، والوحي من شأن الأنبياء ، وأول هذا المستدل قوله تعالى (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا بأنها النبوة لأن لفظ الرحمة أطلقت في مواضع كثيرة على الرحمة والنبوة والرسالة في القرآن العظيم ، وقد أخرج هذا القول ابن ابي حاتم عن ابن عباس ، ولذلك مشى عليه جمهور من العلماء على أنه نبي لا رسول ، وقال القشيري وجماعة أنه ولي وهو الصحيح ، وأجابوا عن قوله تعالى (ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) بأنه إلهام من اللّه والأولياء ملهمون والإلهام من درجات الأنبياء لأنهم أول ما يرون الرؤيا الصالحة الصادقة ، ثم الإلهام ، ثم الوحي بواسطة الملك ، وعن قوله (آتيناه رحمة) إلخ أنه علم الباطن ، وعلى هذا أكثر العارفين وأهل العلم.
وكما اختلفوا في نبوته وولايته اختلفوا في حياته ومماته فقال أكثر العلماء أنه حي واتفقت الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة على حياته وذكروا عنه حكايات كثيرة وأجمعوا على رؤيته والاجتماع به ووجوده في المواقع الشريفة كما ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية(4/196)
ج 4 ، ص : 197
وأبو طالب المكي في كتبه والحكيم الترمذي في نوادره وغيرهم من المحققين الذين لا يتصور اجتماعهم على الكذب لا سيما وفيهم الإمام النووي.
وقال الشيخ عمر بن الصلاح في فتاواه : هو حي عند جماهير العلماء والصالحين ، وقالوا إنه يجتمع بالناس كل سنة بالموسم وانه شرب من عين الحياة وإذ ثبت وجوده بنص القرآن وإجماع المفسرين على أنه هذا العبد الذي أرشد اللّه رسوله موسى إليه هو الخضر ، وقد اكتسب هذا القول درجة التواتر في أقوال الكثيرين فلا يكون عدمه إلا
بدليل على موته ، ولا نص فيه في كتاب أو سنة أو إجماع أو نقل عن بعض الثقات ، وقد وردت أحاديث كثيرة في حياته ضربنا عنها صفحا لعدم وجود ما يقابلها في مماته من صحة السند وثقة الرواة المشهورين من الرجال.
هذا وقد احتج من قال بوفاته دون أن يعين زمانا أو مكانا أو معاصرا له من ملك أو مملوك أو حادثة أو واقعة ما ، بأن البخاري سئل عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان ؟ فقال كيف يكون هذا ، وقد قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد.
وما جاء في صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قبل موته : ما من نفس منفوسة يأتي عليها مئة سنة وهي يومئذ حية.
وما قاله بعض الأئمة عند سؤاله عنه أنه قرأ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) الآية 31 من الأنبياء الآتية ، ولا يخفى على ذي الرّوية أن هذه الأحاديث والآية في معرض العام ، وما من عام إلا وخصص وما يدرينا لعل اللّه خصه من ذلك ، على أن الآية قد يدخل فيها الخضر لأنه لا بد سيموت ، وما قاله ابن تيمية لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى الرسول ويجاهد بين يديه ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم يوم بدر : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، وكانوا ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا ، معروفين بأسمائهم وأنسابهم ، ولم يكن الخضر معهم ، لهذا أصح وأقوى ما جاء في هذا الباب على أنه يجوز أن يكون مخصوصا من عموم ما جاء في ذلك كله كما ذكرنا آنفا ، إذ لا عامّ إلا وخصص ولا مطلق إلا وقيد ، أو أنه كان يعبد اللّه تعالى على الماء أو في الهواء لا على الأرض فلا يشتمله قوله صلّى اللّه عليه وسلم لا تعبد على الأرض ، ولا يبعد أنه جاء إلى الرسول وبايعه وجاهد معه إلا أنه(4/197)
ج 4 ، ص : 198
لم يره أحد كالملائكة ، ولم يخبر الرسول عنه لأمر ما وكم من مؤمن في زمانه صلّى اللّه عليه وسلم موجودا ولم يتيسر له الوصول إليه والجهاد معه ، وهذا أويس القرني من أخيار التابعين لم يتيسر له الوصول إليه والمرافقة له في الجهاد ولا التعليم ، وكذا النجاشي رضي اللّه عنهما ، أما الخبر القائل : لو كان الخضر حيا لرآني ، فقد قال الحافظ إنه موضوع لا أصل له ، ولا مانع من القول إنه كان يأتي الرسول ويتعلم منه خفية ، لأنه غير مأمور بالظهور لحكمة إلهية ، على أن كثيرا من الأصحاب والتابعين رأوه وصافحوه حتى في الجهاد منهم عبد اللّه بن المبارك الشائع الصيت دفين هيت رضي اللّه عنه الذي لا يشك أحد في صدقه.
قال تعالى مبينا القسم الثاني مما سألوه عنه «وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ» اعلم أن ما قالوه بأن اسمه مزربان ابن مرزية بن قيلقوس بن يافث بننوح عليه السلام ، وما قالوا بأنه الإسكندر المشهور غير صحيح ، وان اللّه تعالى لم يسمه الإسكندر وإنما سماه ذا القرنين الذي ملك الدنيا إذ قالوا ملكها مؤمنان هذا وسليمان ، وكافران نمروذ وبختنصر واختلف في نبوته ونبوة لقمان وعزيز على أقوال لم يترجح أحدها على الآخر عند الأكثر خوفا من إدخال من لم يكن نبيا مع الأنبياء أو إخراج من كان نبيا منهم وهو أمر عظيم لم يقدم عليه الكاملون العارفون ، على أنه رجح صاحب بدء الأمالي عدم نبوتهم بقوله :
وذو القرنين لم يعرف نبا كذا لقمان فاحذر عن جدال
راجع الآية 20 من سورة لقمان لماره ، وللبحث صلة في الآية 260 من سورة البقرة في ج 3 نوضحه فيها إن شاء اللّه ، هذا ومن قال بنبوة ذى القرنين استدل بقوله تعالى (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) الآية الآتية بأن خطاب اللّه تعالى لا يكون إلا مع الأنبياء ، وهو غير وجيه ، لأن اللّه تعالى خاطب مريم في آل عمران ، راجع الآية 17 منها في ج 3 وليست نبية بالاتفاق ، راجع الآية 57 من سورة مريم في ج 1 ، وقال في بدء الأمالي :
ولم تكن نبيا قط أنثى ولا عبد وشخص ذو افتعال
ومن قال إنه ملك احتج بقول عمر رضي اللّه عنه حين سمع رجلا يقول لآخر(4/198)
ج 4 ، ص : 199
يا ذا القرنين ، فقال تسميتم بأسماء الأنبياء فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة ، لأن الرسول قال : خير الأسماء ما عبد وحمد ، وان الرسول كان ينهى عن التسمية ببعض الأسماء مثل فلاح ونافع وشبههما ، فساغ لعمر أن ينهى عن ذلك ، وهذا لا حجة فيه ، لاحتمال علم سيدنا عمر بأن أحد الملائكة اسمه ذو القرنين ، فنهى عن ذلك ، ولو فرض أن اسمه وافق أسماء الملائكة فلا يفرض أنه ملك ، والقصد من قول عمر على فرض صحته عدم رغبته بأن يسمى الناس بغير ما حبذه حضرة الرسول.
مطلب من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله والآيات المدنيات :
وأصح الأقوال انه عبد صالح ملكه اللّه تعالى أرضه والبسه الهيبة وأعطاه العلم والحكمة والشجاعة ، وسبب تسميته بذلك طوافه قرني الدنيا شرقها وغربها ، وكما اختلف في تسميته ونبوته اختلف في نسبه ، فمنهم من قال إنه من حمير ومنهم من قال إنه من الفرس ومنهم من قال إنه من الروم ، وأصح الأقوال في نسبه واسمه ومن هو على الحقيقة ما سيأتي في الآية 99 الآتية ، فراجعها ، وقد ذكرنا في المقدمة أن كل قول يصدر بلفظ قالوا دليل على ضعفه وعدم تحققه.
قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ» من حاله وقصته «ذِكْراً» 83 من أنبائه صحيحا لوروده في الذكر الحكيم القرآن الذي لا أصح منه ، ولا يوجد في الكتب القديمة ما هو مفصل مثله لكونه منزلا من اللّه بلفظه ومعناه.
قال تعالى «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» وثبتناه فيها وقدرناه على أهلها ومهدنا له سبلها «وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» يحتاجه لإصلاح الدنيا «سَبَباً» 84 بإرشادنا إليه وهدايتنا لأتباعه «فَأَتْبَعَ سَبَباً» 85 أي سلك طريقا «حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى الغمار مما يلي «مَغْرِبَ الشَّمْسِ» بحيث لا يمكن لأحد إذ ذاك مجاوزة الحد الذي وصل إليه «وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» ذات طين أسود ، أي في مطمح نظره رآها كأنها تغرب في هوة مظلمة كما أن راكب البحر يرى أن الشمس تغيب فيه وتطلع منه ، إذ لم ير الساحل وهي في الحقيقة تغيب وراءه وتطلع أمامه ، لأن الشمس أكبر من الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف مرة وهي في الفلك الرابع فكيف يمكن دخولها في عين من عيون الأرض ، على أن اللّه تعالى(4/199)
ج 4 ، ص : 200
قادر على أكثر من ذلك ، وليس عليه بكثير أن يدخل الجسم الكبير في الأصغر ولا يبعد أن يطوي الأرض لعباده حتى يقطعوا منها ما لا تقطعه الطائرات ولا غيرها ، وان اللّه تعالى لم يخبر أحدا عن حقيقة غروبها في تلك العين ، وإنما أخبر عن وجدان ذى القرنين غروبها فيها ، لأنه ركب البحر متجها إلى الغرب إلى أن بلغ موضعا لم يتمكن معه من السير فيه ، فنظر إلى الشمس عند غروبها فوجدها بنظره كذلك «وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً» 86 أي عند تلك العين في الموضع الذي وقف به سيره «قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ» من لم يسلم منهم «وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً» 87 بأن نأسرهم ونعلمهم الإيمان تدريجيا «قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ» بقي على ظلمه ولم يتب من كفره بل بقي مصرا «فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ» بالقتل الآن «ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ» في الآخرة «فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً» 88 فظيعا متجاوزا الحد «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى » الجنة في الآخرة والعفو عما اقترفه في الدنيا «وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» 89 فنعامله باللين والعطف.
قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» سلك طريقا آخر
حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى العمار مما يلي «مَطْلِعَ الشَّمْسِ» أي منتهى الأرض المعمورة في زمنه التي تطلع عليها الشمس قبل غيرها من جهتها إذ لا يمكن أن يبلغ موضع الطلوع لنفسه «وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» 90 بحيث لا يوجد جبل ولا شجر يظللهم منها ، وان الأرض هناك رخوة جدا لا تحمل البناء ، وإنما فيها أسراب يدخلونها عند طلوعها تظلهم منها ، حتى إذا زالت وبعدت عنهم خرجوا لمعاشهم الذي هيأه اللّه لهم هنالك «كَذلِكَ» حكم فيهم كما حكم بالذين وجدهم عند غروبها ، ولم نتكلم على هؤلاء وأولئك ، كما قيل إن الأولين من قوم صالح ، والآخرين من قوم هود ، إذ لا دليل يعتمد عليه ولا نقل يوثق به ، قال الأصوليون إذا كنت مدعيا فالدليل ، وإذا كنت ناقلا فصحة النقل.
ولا يوجد دليل قاطع ولا نقل صحيح في ذلك ولذلك نكل علمهم إلى اللّه القائل «وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً» 91 به وبما وعده وبمن معه وعدته وآلاته وعدد جنده وبما عمل في ذلك وما فعل وقصد(4/200)
ج 4 ، ص : 201
ونوى وحدثته به نفسه أو خطر بباله.
هذا ولم يقص اللّه تعالى علينا ما وقع بينه وبين أهل المغرب والمشرق غير تلك المكالمة.
قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» 92 سلك طريقا آخر أيضا «حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ» هما جبلان في ناحية الشمال مرتفعان ، قالوا إن الواثق باللّه العباسي بعث من يثق به لمعاينتهما فخرجوا من باب الأبواب وشاهدوه وأخبروه بأنهم رأوه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس ، إلا أنه حتى الآن لم يطلع عليه أحد ، كمدينة إرم التي لم يطلع عليها إلا رجل واحد كما قيل ، راجع الآية 8 من سورة الفجر في ج 1 ، ولا بد أن يحين الوقت للعثور عليهما لا سيما وأن يأجوج ومأجوج من وراء السد ، وخروجهما من أمارات الساعة ، وهم المعنيون بقوله تعالى «وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» 93 إلا بجهد شديد ، لذلك فهم منهم مرادهم بمشقة وبالإشارة وهو ما قصه اللّه تعالى بقوله «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» يقرآن بالهمزة وبغيره ، ولم يأت ذكرهما في القرآن إلا هنا وفي سورة الأنبياء في الآية 66 الآتية «مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» التي هم فيها ، إذ يأكلون عشبهم ويحملون كلاهم ويتعدون عليهم «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً» جعلا وأجرة من أموالنا «عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» 94 يمنعهم من الوصول إلينا لنأمن تجاوزهم على حدودنا ، لأن لهم ما بين الجبلين ، فلما رأى صحة قولهم «قالَ» لا أريد منكم شيئا وإني لم آخذ على إحقاق الحق أجرا ، وإن «ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي» من القوة والغلبة والمال «خَيْرٌ» مما تعطونه لي ، وإن من واجبي أن أصونكم وغيركم من التعدي ، لا سيما وقد دخلتم في حوزتي ، لذلك لا أكلفكم بمال ما ولكن إذا أردتم الاستعجال فيه «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ» من أبدانكم وأشخاصكم «أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً»
99 جدارا منيعا مرتفعا حصينا يحول دون وصولهم إليكم ، قالوا فما هذه القوة التي تريدها منّا والتي تعنيها بقولك من أبداننا ؟ قالَ لهم آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» قطعه وعملة وبنائين وحطبا لأريكم ماذا أفعل ، فأحضروا له ما شاء ، قالوا وقد حفر الأساس ما بين الجبلين حتى بلغ الماء وجعل فيه الصخر وبناه بلبن الحديد ، وجعل بينه الفحم والحطب ، وكان(4/201)
ج 4 ، ص : 202
بطول فرسخ وعرض خمسين ذراعا وبعلو ذروة الجبلين.
قال تعالى «حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ» جانبي الجبلين لأنهما متصادفان ، أي متقابلان ومتقاربان في العلو ، أعطى الحطب النار و«قالَ انْفُخُوا» عليه بالمنافيخ ففعلوا وسبت النار والفحم تدريجا ولم يزالوا كذلك «حَتَّى إِذا جَعَلَهُ» أي البناء «ناراً» بأن صار كله نار «قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» 96 نحاسا مذابا فأتوه به فأفرغه على البناء فتداخل فيه حتى صار كأنه قطعة واحدة ، قال تعالى «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ» يعلموا عليه ولا يتسوروه لارتفاعه وملاسته «وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» 97 لصلابته وسمكه ، وكان الجبلان مما يليهم قائمين بصورة مستقيمة كانهما مشقوقان بمنشار لا يتمكنون من الصعود إلى قمتهما ، قال ذو القرنين لأولئك القوم الذين هم أمام السد بعد أن طرد أولئك المشكو منهم إلى ما وراءه وعمر عليهم ذلك البناء العظيم «قالَ هذا» السد المنيع الذي سويته لكم «رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» بكم تفيكم شر أعدائكم الآن «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي» بخروجهم بعد
«جَعَلَهُ» أي هذا البناء العظيم «دَكَّاءَ» أرضا مستوبة لكم منخفضة من الأرض كأنه لم يكن لأن اللّه لا يعجزه شيء «وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» 98 واقعا لا مرية فيه «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ» يوم تم إنشاء السدّ «يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فيبقون كذلك إلى اليوم الذي يأذن فيه اللّه بخروجهم فيندك إذ ذاك وينفلتون ، فتراهم يسعون في الأرض فسادا ويعبثون في البلاد والعباد ، ولا يزالون كذلك إلى أن يحين الوقت المقدر لتدميرهم فيهلكوا «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» بعد ذلك ، لأن خروجهم من علامات الساعة الكبرى ، فيموت كل الخلق الموجودين على وجه الأرض وفي البحار وغيرها ، وتبقى الحال على هذه مدة أربعين سنة ، أو إلى ما شاء اللّه ، ثم ينفخ النفخة الثانية فيحيون كلهم الأولون والآخرون ويساقون إلى المحشر المعني بقوله تعالى «فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً» 99 للحساب والجزاء.
تدل هذه الآية على أن خروجهم يكون قريبا من قيام الساعة.
قال الأخباريون هم قوم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام ، ومن أولاده الترك والخزر والصقالية ، وأولاد حام الحبشة والزنج والنوبة ، وأولاد سام العرب والروم والعجم ، وان(4/202)
ج 4 ، ص : 203
تفسير الموج المذكور في الآية من قبلهم في البشر أولى من تفسيره فيما بينهم ، لأن سياق ما قبلها وسياق ما بعدها من الآيات يدل على هذا ، تأمل.
واعلم أن كل أمة منهما أربعة آلاف أمة لا يموت الواحد منهم حتى ينظر ألفا من صلبه ، وهم أصناف مختلفة باللون والطول والعرض والشكل ، أقوى من كل حيوان ، يأكلون من يموت منهم ، وإذا خرجوا أكلوا الحيوانات ، وشربوا المياه ، وعاثوا في الأرض ، ثم يهلكون.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده الشريفة تسعين (وذلك أن تجعل رأس السبابة وسط الإبهام وهي من موضوعات الحساب).
وعنه قال في السد يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال بعضهم ارجعوا فستحفرونه غدا ، قال فيعيده اللّه كأشدّ ما كان ، حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد اللّه أن يبعثهم على الناس قال الذي عليه ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء اللّه تعالى ، قال فيرجعون فيجدونه على هيئته حين تركوه ، فيخرقونه ، فيخرجون على الناس ، فيستقون المياه ، ونفر منهم الناس لشدة وحشيتهم ، ولأنهم يأكلون ولا يشبعون ، ويشربون ولا يروون ، لا يخلص منهم إنسان ولا حيوان ولا حوت ، يفسدون كل ما عثروا عليه ، فيختفي الناس منهم ليسلموا من أذاهم ، لأنهم لا يتركون شيئا إلا أكلوه أو أفسدوه ، حتى إنك لترى الأرض عارية من الشجر والنبات.
هذا وقد جاء في بعض القصص أن السدّ هو الموجود الآن المشاهد في ناحية الشمال فيما بين الجبلين في منقطع أراضي الترك ، وهذا لعمري غير صحيح ، لأنه من مجرد كلس واللّه أخبرنا بأن هذا السد من حديد ونحاس ، وما يقال إن الحديد والنحاس تفتنانهما رطوبة الأرض لا جدال فيه ، وإنما الأخذ والرد بالعثور عليه ليس إلا ، وان الذي حدا بهم لهذا القول عدم العثور عليه ، لأنهم على زعمهم أحاطوا بالمعمور كله فلم يجدوه ، على أنهم يعترفون بأنهم لم يكشفوا القطبين الشمالي والجنوبي ، وإذا لم يكشفوهما لا يليق بهم أن يقولوا أحطنا بالأرض أو بالمعمور منها ، إذ قد يكون فيهما أو وراءهما ، ويقول ابن خلدون في مقدمته إن السدّ وسط جبل قوقيا المحيط الكائن في القسم الشرقي من الجزء التاسع في الإقليم السادس ، ولهذا فإن القول(4/203)
ج 4 ، ص : 204
رجما بالغيب في أشياء كهذه ، لا يجدر بالعاقل الخوض فيها ، بل عليه أن يكل علمها إلى اللّه ، ومن يعش ير هذا ، وجاء في رواية : تتحصن الناس في حصونهم فيرمون بسهام إلى السماء ، فترجع مخضبة بالدماء ، فيقولون قهرنا من في الأرض ، وعلونا من في السماء ، فيزدادون قسوة وعتوا ، فيبعث اللّه عليهم نفقا (ذودا يكون في أنوف الإبل) في رقابهم فيهلكون ، فو الذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكرا ، أي يمتلىء أجسادها لحما ، يقال شكرت الدابة إذا امتلأ ضرعها ، أخرجه الترمذي.
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : ليحجنّ البيت ، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج.
يدل هذا الحديث على أن الإسلام يتجدد بعد هلاكهم ، واللّه أعلم.
مطلب أن ذا القرنين ليس اسمه إسكندر وليس بالمقدوني ولا اليوناني ولا الروماني وإنما هو ذو القرنين :
وليعلم أن لفظ إسكندر الذي أطلق على ذي القرنين هذا ليس هو الإسكندر الرومي الذي ملك الفرس والروم والذي يؤرخ الروم بأيامه ، لأن هذا الذي نحن بصدده كان على عهد إبراهيم عليه السلام بعد نمرود وقد عاش ألفا وستمئة سنة قبل إسكندر المقدوني بأكثر من ألفي سنة ، لأن إسكندر المقدوني ولد قبل المسيح بثلاثمائة وست وخمسين سنة ، وولايته قبلها في سنة 236 ، ووفاته سنة 340 ، فيكون عمره 33 سنة ، وكان وزيره أرسطو طاليس الفيلسوف المشهور الذي حارب دارا وأذلّ ملوك الفرس ووطئ أرضهم ، وعمر الإسكندرية وغيرها ، وكان كافرا ، وقد غلط كثير من العلماء والمفسرين فظنوه هو المذكور في القرآن ، وحاشا كلام اللّه أن يشمل هذا الكافر بما ذكر من الثناء ، وليس هو الإسكندر اليوناني الذي ولي الملك بعد أبيه مرزين ، واسمه المرزبان المار ذكره أول الآية 84 وإنما هو غيرهما ، وهو رجل اسمه ذو القرنين فقط ، كما ذكر اللّه ، وهو رجل صالح ، نابه طيب ، وقد قبض اللّه له قرناء صالحين ، فأطاع اللّه وأصلح سيرته ، وقصد الملوك والجبابرة وقهرهم ، ودعا الناس لطاعته على طاعة اللّه تعالى وتوحيده ، قالوا ولما أقبل إلى مكة شرفها اللّه ونزل بالأبطح قالوا له في هذه البلدة خليل(4/204)
ج 4 ، ص : 205
الرحمن ، فدخلها ماشيا وقال ما ينبغي لي أن أدخل بلدة فيها خليل الرحمن وأنا راكب ، حتى جاء إلى إبراهيم عليه السلام وسلم عليه وعانقه ، فهو أول من عانق عند السلام ، وسخر اللّه له السحاب والنور والظلمة فإذا سرى بجيوشه يظله السحاب من فوقه وتحوطه الظلمة ويهديه النور ، وكان على مقدمته الخضر عليه السلام ، فحظي بعين الحياة ، وأخطأها ذو القرنين ، وانقادت له البلاد ، وإن ما قصّ اللّه علينا من أمره كاف من عظمته ، ومات في مدينة شهرزور ودفن فيها ، وقالوا إنه دار في الدنيا مدة خمسمائة سنة ، وقال بعضهم إنه مات في بيت المقدس ، واللّه أعلم.
وقد ذكرنا آنفا في تفسير الآية 9 المارة أن سبب نزول هذه الآيات بذكر ذي القرنين وأصحاب الكهف هو ما ذكره اليهود أن كفار قريش الذين ذهبوا إلى المدينة لهذه الغاية وعند مجيئهم منها أخبروا قومهم ثم سألوا الرسول عنها ، وقد نزلت هذه الآيات بالقصتين المذكورتين ، وآية 85 من الإسراء المارة في ج 1 في السؤال عن الروح دفعة واحدة ، لأن السؤال عنها دفعة واحدة ، ووضعت كل منها في موضعها الآن بأمر من حضرة الرسول ودلالة من الأمين جبريل عليهما السلام بما هو موافق لما عند اللّه في لوحه وعلمه ، كما ذكرناه في المقدمة.
واعلم أن اللّه تعالى لم يذكر في القرآن العظيم اسم الإسكندر حتى يقال إنه اليوناني أو المقدوني أو الرومي ويؤولون الآية عليه ، وإنما سماه ذا القرنين وإن المؤرخين من عند أنفسهم لقبوه بالإسكندر ، ولهذا حصل الالتباس بينه وبين الإسكندر المقدوني أو الرومي أو اليوناني ووقع الخطأ بنسبة ما جاء في القرآن إلى أحدهم ، والصحيح واللّه أعلم أنه ليس بأحد هؤلاء الثلاثة وإنما هو ذو القرنين أبو كرب صعب بن جبل الحميري ، واسم أمه هيلانه ، وكان يتيما في بني حمير كما ذكره الإمام الغزالي رحمه اللّه في كتابه سر العالمين وكشف ما في بني الدارين في ص 3 وهو ثقة فيما ينقل ويكتب ، كيف لا وقد لقب بحجة الإسلام ورضيه الخاص والعام ، يؤيد هذا ما جاء في حاشية بدء الأمالي ص 37 وما ذكره الزيلعي صاحب الكنز بأنه لقي إبراهيم خليل الرحمن وعانقه كما ذكرنا آنفا وقد سئل ابن عباس عن المعانقة فقال أول من عانق إبراهيم خليل الرحمن لما كان بمكة وأقبل إليها ذو القرنين حتى(4/205)
ج 4 ، ص : 206
صار بالأبطح ، قيل له في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن ، فقال ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن ، فنزل ومشى إليه فسلم واعتنقه كمامر آنفا ، فكان هو أول من عانق وعمره يزيد على الألفي سنة ، كما يروى أن قيس ابن ساعدة خطب بسوق عكاظ فقال : يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين ملك الخافقين قد أذل الثقلين وعمر ألفين ، ثم كان كلمحة العين ، ولهذا فإنه ليس بالإسكندر المقدوني ولا الرومي ولا اليوناني ولا اسمه إسكندر البتة ، لأن عمرهم ودينهم وسيرتهم تخالف عمره ودينه وسيرته ، وإنما هو ذو القرنين وكل ما نقله المفسرون بأنه يوناني أو مقدوني أو رومي وأن اسمه مرزبه أو غيره لا نصيب له من الصحة لأنهم تناقلوه بعضهم عن بعض دون أن يعرفوا مصدر الناقل الأول ، وقد تهاونوا فيه ولم يبعثوا عما يؤيده ، هذا واللّه أعلم.
قال تعالى «وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ» أي بعد النفخة الثانية «لِلْكافِرِينَ عَرْضاً» 100 ليشاهدوها عيانا فتنقطع فرائضهم من رؤيتها ، ثم بين هؤلاء الكافرين بقوله جل قوله «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي» فلا يبصرون طرق الهدى والرشد فيها «وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» 101 له من رسلي ويعرضون عنهم لئلا يفقهوه وليعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ) 83 إلى هنا عدها أكثر العلماء من القسم المدني الذين تبعنا أقوالهم ومشينا عليها في تفسيرنا ، هذا والصحيح أنها مكيات ، إلا أنها لم تنزل مع سورتها لما قدمناه هنا وفي الآية 58 من الإسراء في ج 1 ، ولعل السهو بعدّها مدنيات جاء من هذه الجهة ، لأن الصحيح أن لا مدني في هذه السورة إلا الآية 28 المارة لا آية 38 التي ذكرها الغير.
قال تعالى «أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي» الملائكة كما اتخذ اليهود عزيزا والنصارى المسيح «مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ» لهم ، كلا لا سبيل إلى زعمهم هذا فأخبرهم يا سيد الرسل بفساد ظنهم ، وأنهم سيتبرءون منهم يوم القيامة ويكونوا لهم أعداء بسبب كفرهم «إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» 102 هو ما يقدم للضيف عند نزوله وبئس ذلك النزل في ذلك اليوم العصيب ، وإذا كان أول قراهم جهنم والعياذ باللّه فما هو آخره يا ترى ؟ لأنهم إذ ذاك يستغيثون ولا(4/206)
ج 4 ، ص : 207
يغاثون ، لأنهم عن ربهم محجوبون ، ولا أعظم عذابا من هذا كما لا أعظم لأهل الجنة من نعيم رؤية اللّه تعالى ، كما سيأتي في الآية 107.
«قُلْ» لهم يا أكرم الرسل «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ» أيها الكفرة «بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا» 103 في الدنيا والآخرة هم «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» عن طريق الصواب ومحجة السداد وجنحوا إلى ما فيه الهلاك والدمار «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» 104 في عملهم ولا يدرون أنه سبب خسارتهم في الآخرة «أُولئِكَ» الضّال سعيهم الظانون بحسن صنيعهم وهو شيء هم «الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» ولم يصدقوا رسله «وَ» مع نكران «لِقائِهِ» في الآخرة كما أنكروا كلامه في الدنيا «فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» ومحق ثوابها الذي كانوا يأملونه لأنهم ماتوا على كفرهم وقد كافأهم اللّه عليها في الدنيا بما أنعم عليهم فيها ، ولذلك «فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» 105 إذ لا قيمة لهم ولا قدر ولا مكانة ولا حظ لهم عندنا ولا نصيب في الآخرة ، وعدم إقامة وزنهم ازدراء بهم ، وهؤلاء الموصوفون بما ذكرهم الخاسرون في الدنيا والآخرة لا كما يقولون إنهم الفقراء والصعاليك الذين شرفوا بالإيمان ، لأن هؤلاء هم الناجحون الرابحون الناجون.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة ، وقال اقرءوا إن شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ) الآية.
وذلك لأن الوزن للأعمال لا الأجساد «ذلِكَ» إشارة إلى حبوط عمالهم وخمسة قدرهم ، أي الذين ذلك شأنهم «جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» 106 زيادة على كفرهم فلم يكتفوا به حتى ضاعفوه بالسخرية بكلام اللّه وذات رسله وكتبه.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم «كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ.» مكافأة لهم على أعمالهم الطيبة في الدنيا «نُزُلًا» في الآخرة أول قراهم عند ربهم وبعده ما هو أعظم وأعظم إذا كان أوله الجنة ، وهذه بمقابل الآية 102 بحق الكافرين الذين أول قراهم جهنم وآخره بما هو أفظع وأشنع ، وآخر قرى هؤلاء الأبرار رؤية الملك الغفار التي لا تعد جميع الجنان شيئا بالنسبة إليها عند أهل الجنة ، والفردوس بالعربية البستان ، وكذلك(4/207)
ج 4 ، ص : 208
بالرومية والحبشية ، راجع الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1 ، ويطلق على ربوة الجنة «خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» 108 إلى غيرها ، وما قيل إن كلمة الفردوس لم تسمع في كلام العرب إلا من حسان بعد الإسلام لقوله :
وإن ثواب اللّه كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد
لا يصح ، لأن أمية بن الصلت قبل الإسلام سبقه بذلك بقوله :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس ثم القوم والبصل
وقال جرير يمدح خالد بن عبد اللّه القسري :
وإنا لنرجو أن نرافق رفقة يكونون في الفردوس أول وارد
ومن سمع قبل الإسلام من الجاهليين كثير أيضا.
وهذه الكلمة مكررة في القرآن في الآية 11 من سورة المؤمنين الآتية فقط ، أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ، ومنها تفجر أنهار الجنة.
فلو لم تكن العرب تعلم هذه اللفظة لما ذكرهم حضرة الرسول بطلبها ، وتفيد هذه الآية أن الجنات غير الفردوس لإضافتها إليه ، وهو كذلك ، قال أبو حبان إن جنات الفردوس بساتين حول الفردوس ، ولهذا يندفع ما يقال إن الآية تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس ، مع أن درجاتهم متفاوتة ، ولا يعارض الحديث السابق ما رواه أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : إذا صليتم علي فاسألوا اللّه تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد ، وأرجو أن أكون أنا ، إذ لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها فوق بعض ، وتكون الوسيلة هي أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنة ، على أن المراد واللّه أعلم في هذا الحديث علو المكانة لا المكان.
قال تعالى «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي» التي هي في علمه والمقدرة في حكمه «وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» 109 مرارا كثيرة لنفد ولم تنفد كلمات اللّه ، وما قيل إن هذه الآية نزلت بالمدينة عند ما قال اليهود إنا أوتينا علم التوراة ، فكيف تتلو (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الآية 85 من الإسراء(4/208)
ج 4 ، ص : 209
في ج 1 لا صحة له ، وقد أوضحنا هذه في تفسير هذه الآية فراجعها يظهر لك مكّيتها ، والآية المدينة في هذا الصدد هي الآية 27 من سورة لقمان المارة فما بعدها كما بيناه هناك ، ولذلك كانت أبلغ من هذه في المعنى لما فيها من لفظ أبلغ في العدد والكمية ، وهكذا دائما تكون الآية المتأخرة في النزول أبلغ بحكم التدريج تأمل ، أما هذه فمكية ، وقد توهم من قال إنها مدنية لما أنه وقع السؤال عنها والبحث فيها في المدينة ، وما كل ما جرى البحث فيه بالمدينة مدني ، تنبه فقهك اللّه في أمر دينك ودنياك.
«قُلْ» يا سيد الرسل لقومك إني كما تقولون «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» لا ميزة لي عليكم بالبشرية ، ولكن بما خصني اللّه به من النبوة والرسالة ، وما أكرمني به من الوحي الذي «يُوحى إِلَيَّ» من لدنه ، وهذا تعليم له عليه الصلاة والسلام لسلوك طريق التواضع في أقواله وأفعاله ، ولئلا يزمو على أمته بما منحه اللّه به ، وهذا وشبهه ما يشير إليه صلّى اللّه عليه وسلم بقوله : أدّبني ربي فأحسن تأدبي.
«أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» هو ربي وربكم لا شريك له «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ» في الدار الآخرة ، ويقر بأن المصير إليه ، ويعتقد ذلك اعتقادا جازما لا مرية فيه «فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً» في دنياه يعضد به إيمانه لينتفع فيه بآخرته «وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» 110 ولا شيئا أبدا ، بل يخلص له في قوله وعمله وفعله ونيته.
روى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد اللّه البجلي قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سمّع سمع اللّه به ومن يرائي يرائى به.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن اللّه تعالى يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه.
وفي رواية : وأنا منه بريء ، وسبب نزول هذه الآية أن جبذ بن زهير قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إني أعمل العمل للّه فإذا اطلع عليه أحد سرّني ، فقال عليه السلام إن اللّه لا يقبل ما شورك فيه.
وقيل إنه قال له : لك أجران ، أجر في السر وأجر في العلانية.
فالرؤية الأولى محمولة على قصد الرياء والسمعة ، والثانية على قصد الاقتداء به ، فالمقام الأول مقام المبتدئين ، والثاني مقام الكاملين.
روى مسلم عن أبي الدرداء قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم من حفظ عشر آيات من أول الكهف(4/209)
ج 4 ، ص : 210
عصم من فتنة الدجال.
وفي رواية : من آخرها.
فعلى من أراد الحفظ من فتنته - عصمنا اللّه منها بيقين - فليحفظ عشرا من أولها وعشرا من آخرها عملا بالروايتين.
ويوجد سورة أخرى فقط مختومة بما ختمت به هذه السورة وهي الإخلاص في ج 1.
وليعلم أن كلمة الشرك المزجور عنها تكررت في القرآن في مواضع كثيرة لأنها أعظم شيء مكروه عند اللّه ، ولهذا فإن كل شيء داخل تحت المشيئة بالعفو عنه والمغفرة إلا الشرك ، لأنه الكفر الظاهر ، وقد شبه به الرياء إذ ورد الرياء هو الشرك الخفي ، لعظم وزره عند اللّه ، راجع الآية 33 من سورة الأعراف في ج 2 والآيتين 22/ 79 من الإسراء أيضا ، وسنبحث عنه كلما مررنا بما ينم عليه في اللفظ والمعنى كما جعلنا ذلك قبل.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة النحل
عدد 20 - 70 - 16
نزلت بمكة بعد الكهف ، عدا الآيات 126 و127 و128 ، وهي مئة وثمان وعشرون آية ، والفان وثمنمئة وأربعون كلمة ، وسبعة آلاف وسبعمئة وسبعة أحرف.
وتسمى سورة النعم ، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به ، ولا بما ختمت به ، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» بقيام الساعة أي يأتي ، وجاء بلفظ الماضي لأنه محقق الوقوع ، قال الشيخ عبد القاهر :
إن إخبار اللّه تعالى بالتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع ، إذ لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى الماضي المحقق وقوعه «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» أيها الناس فإنه آت لا محالة «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 1 به غيره ، وهذا مما يعد سببا لتلو هذه السورة التي قبلها ، إذ ختمها بذم الشرك ، وبدأ هذه بتقبيحه أيضا ، قال ابن عباس لما نزلت (اقتربت الساعة) المارة في ج 1 قال الكفار إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قربت فأمسكوا عما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن ، فلما رأوا أنه(4/210)
ج 4 ، ص : 211
لا ينزل شيء قالوا ما نرى شيئا ، فنزل قوله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ).
فأشفقوا ، فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل (أتى أمر اللّه) فوثب النبي صلّى اللّه عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنوا أنها أتت حقيقة ، فنزل (فلا تستعجلوه).
ويطعن في هذا عدم نزول سورة الأنبياء أو شيء منها قبل هذه السورة ، تدبر.
واعلم أن هذه الآية لما نزلت على حضرة الرسول قال بعثت أنا والساعة كهاتين ، ويشير بإصبعيه بمدهما ، أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد ، ورويا في السنن مثله بزيادة كفضل إحداهما على الأخرى وضم السبابة والوسطى.
قال تعالى «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ» الوحي سمي روحا لأن فيه حياة القلوب ، أو أن الباء بمعنى مع ، أي ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل عليه السلام ، وهذه الآية تقارب في المعنى الآية 57 من سورة الشورى المارة ، وهذا الإنزال «مِنْ أَمْرِهِ» جل أمره «عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين اصطفاهم لرسالته آمرا لهم «أَنْ أَنْذِرُوا» الناس وأخبروهم «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» 2 لتنالوا رحمتي والعاقبة الحسنة مني أنا ، ذلك الإله العظيم الذي «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 3 به غيره وهو الذي «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» 4 مظهر الخصام له كأنه لم يخلقه مما يعلم أو كأنه خلق نفسه ونسي ما كان عليه من الضعف اغترارا بما صار إليه.
نزلت هذه الآية في أبي بن خلف الجمحي كما نزلت فيه آية (أَ وَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) الآية 77 من سورة يس المارة إلى قوله (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) في ج 1 ، وهي عامة في كل مخاصم للّه وفي آياته.
قال تعالى «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ» أيها الناس «فِيها دِفْ ءٌ» من صوفها ووبرها وشعرها تستدفئون به بما تعملون منها من اللباس والخباء للاستظلال وغيرها «وَمَنافِعُ» من درّها وركوبها ونسلها وتحميلها «وَمِنْها تَأْكُلُونَ» 5 من لحمها وسمنها ولبنها واقطها وجبنها وزبدها وهو مما يعتمد عليه غالبا للتقوت ، أما أكل الطيور والأسماك فيجري مجرى التفكه ، وإنما قدم منفعة اللباس على منفعة الأكل لأنها أكثر وأعظم من منفعة الأكل إذ قد يكون من غيرها من الحيوان(4/211)
ج 4 ، ص : 212
«وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ» يقال للرجل جمال بالتخفيف وبالتشديد على التكثير ، وجميل وللمرأة جميلة وجملاء قال :
فهي جملاء كبدر طالع بذت الخلق جميعا بالجمال
أي أنها زينة وبهاء لصاحبها عدا منافعها «حِينَ تُرِيحُونَ» وقت ما تردونها من المرعى إلى مراجعها «وَحِينَ تَسْرَحُونَ» 6 بها جمال أيضا وقدم الرواح على التسريح لأنها ترجع أجمل مما تغدو فيه تتبختر مشيتها مجتمعة متمتعة من المرعى ملأى بطونها حافلة ضروعها ، ويفرح بها عند رجوعها أكثر منه عند ذهابها لأنها تكون خاوية البطون والضروع متفرقة مسرعة يخاف عليها الوحش والضباع والنهب.
قال تعالى «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ» بدونها «إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» الشق نصف الشيء ، وعليه يكون المعنى لم تبلغوا ذلك البلد الذي تريدونه بغيرها إلا بنقصان نصف قوة أنفسكم «إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» 7 بخلقه إذ سخر لهم هذه الأنعام لاستراحتهم «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ» خلقها لكم أيضا «لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» تتباهون بها كالأنعام إلا أنها لا تؤكل ولا يستفاد من درها ووبرها ، وفيها من المنافع ما لم تكن في تلك عدا الإبل فإنها جامعة للأمرين ، ولذلك عجّبهم اللّه بها ، راجع الآية 17 من الغاشية المارة «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» 8 أيها الناس من أدوات الركوب والحمل كالعجلات والسيارات والطائرات والسفن البخارية والقطارات والغواصات مما علمتم ومما لا تعلمون أيضا أنواعا وأجناسا نخلقها لكم بعد لمنافعكم والمزينة أيضا ، عدا أصناف الحيوانات البرية والبحرية مما تنتفعون به ومالا ، وليس المراد من هذه الآية بيان التحليل والتحريم بل تنبيه العباد على نعمه تعالى عليهم.
مطلب جواز أكل لحوم الخيل وتعداد نعم اللّه على خلقه :
الحكم الشرعي يجوز أكل لحوم الخيل والبغال المتولدة من الخيل ، أما المتولدة من الحمر الأهلية فلا ، وعليه الشافعي وأحمد وكثير من أهل العلم ، وقال مالك وأبو حنيفة ومن نهج نهجهم وهو قول ابن عباس لا يجوز أكل لحوم الخيل ، لأن اللّه تعالى عدّ ما هو للأكل على حدة وما هو للركوب على حدة ، ودليل الأكل(4/212)
ج 4 ، ص : 213
هو ما أخرجه البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي اللّه عنهما قالت :
نحرنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرسا فأكلناه.
وما رويا عن جابر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل ، وأن القرآن في هذه الآيات تكلم عن الركوب والزينة وسكت عن الأكل فدار الأمر بين التحريم والإباحة فوردت السنة بالإباحة لأكل الخيل وتحريم الحمر الأهلية والبغال منها تبعا لها ، لأن الحيوان ينسب إلى أمه ، فأخذنا بالسنّة جمعا بين النصين ، لأن السنّة مبينة لكتاب اللّه تعالى وشارحة له ، فالأخذ بها جائز ، أما ما قيل إنها ناسخة لكتاب اللّه فلا ، راجع بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة وفي الآية 146 من الأنعام المارة ، ولبحثه صلة واسعة تأتي إن شاء اللّه في الآية 106 من البقرة في ج 3.
«وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ» الموصل للإيمان به ، وهذا على غير الوجوب ، إذ لا يجب عليه شيء ولكن بمحض الفضل ، وقصده بيان استقامته بالآيات والبراهين ، فعليكم أيها الناس اتباعها وسلوكها «وَمِنْها جائِرٌ» معوج مائل عن الاستقامة فلا تسلكوها لأنها مسلك أهل الزيغ والبدع والأهواء والطيش «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» 9 إلى الطريق الحق ، ولكنه لم يشأ ذلك لأمر اقتضته حكمته ، ولو كان لما بقي محل لخلق النار ولا معنى للتفاضل «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ» ينبت لكم «شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» 10 أنعامكم ودوابكم وكل ما له حاجة في الرعي ،
وكذلك «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» كالجوز والبرتقال وأنواع المشمش والإجاص والخوخ والكثرى وغيرها ، لأنه تعالى ذكر في كتابه أمهات الأشياء وعبر عن البقية بلفظ الثمرات والفاكهة ، والأب فيما يخص الحيوان من جميع أجناس وأصناف النباتات «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي ذكر من أجناس الحيوان وأصناف الثمار وأنواع النبات «لَآيَةً» عظيمة دالة على قدرة القادر ووحدانيته «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 11 فيها فيعقلون معناها ويفقهون مغزاها «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» في منافعكم أيها الناس «وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ» لمنافعكم أيضا بصرفها كيف يشاء ويختار «إِنَّ فِي ذلِكَ» التسخير الجاري على نظام بديع(4/213)
ج 4 ، ص : 214
لا يتغير على كر الدهور «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 12 فوائد تسخيرها ويستدلون بها على مراده منها «وَما ذَرَأَ» خلق وبرأ «لَكُمْ فِي الْأَرْضِ» من حيوان ونبات ومعادن ومياه «مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» وأشكاله وهيئته وكيفيته وكميته وماهيته وطعمه وريحه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الاختلاف مع اتحاد الأصل في الغالب وكونها كلها من الماء خلقه ومقرتا «لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» 13 فيها فيعتبرون ويتعظون ويعترفون بكمال القدرة للّه تعالى ، وفي هذه الآية دلالة على عقم قول المنجمين إن هذه الكواكب هي نفسها الفعالة المتصرفة في شئون العالم السفلي ، لأنه تعالى يقول مسخرة مذللة مقهورة بأمره لمنافع خلقه ، وقد أسهبنا البحث بهذا في الآيتين 110/ 112 من سورة الصافات المارة فراجعها وما تشير إليها من المواضع ففيها كفاية.
وبعد أن ذكر اللّه تعالى بعض النعم الموجودة في السماء والأرض أتبعها بما هو في الماء فقال «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا» مع أنه مالح ليعلم خلقه أنه قادر على إخراج الضد من الضد «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» كاللؤلؤ والمرجان واليسر وغيرها «وَتَرَى» أيها الإنسان «الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ» جواري في البحر بسرعة مقبلة ومدبرة بشدة مع أن الريح واحدة والمخر الشق لأن السفينة تشق الماء شقا حالة جريها فيه «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الربح في تجارتكم والتنقل للاعتبار والزيارة وحمل الأثقال ولتفكروا كيف تبلغ بكم المواقع التي تقصدونها بسيرها «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 14 هذه النعم وتقوموا بحقها من توحيد اللّه وطاعته وتمجيده وتعظيمه ، لأن الركوب في البحر من أعظم النعم لما فيه من قطع المسافات البعيدة في زمن قصير بالنسبة للسير بالبر ولعدم الاحتياج للحل والترحال والحركة مع الاستراحة والسكون ، وما أحسن ما قيل فيه :
وإنا لفي الدنيا كركب سفينة نظن وقوفا والزمان بنا يسري
واستدل بهذه الآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة ، وإليه ذهب الكثير ، وأخرج عبد الرزاق بن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث :
غاز أو حاج أو معتمر.
وجاء في رواية أخرى : لا يركب البحر إلا غاز أو(4/214)
ج 4 ، ص : 215
حاج أو معتمر ، مصدر بالنهي وممنطق بالحصر.
قال تعالى «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» لأنه تعالى لما خلقها خلقها طائفة عائمة ، فصارت تمور وتتحرك بالهواء ، فأثقلها بالجبال راجع الآية 9 من سورة لقمان والآية 19 من سورة الحجر المارتين والآية 2 من سورة الرعد في ج 3 ، «وَأَنْهاراً» جعل فيها للشرب والسقي وغيرها «وَسُبُلًا» طرقا وفجاجا تسلكونها بأسفاركم في السهل والجبل «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» 15 إلى المكان الذي تريدونه فلا تضلون قصدكم ولا يصعب عليكم بلوغه «وَعَلاماتٍ» جعل فيها أيضا لتستدلون بها على المواقع كالجبال والوديان والروابي والأنهار والأشجار والعيون في تنقلاتكم النهارية «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» 16 في الليل كالثريا وسهيل والجدي وبنات نعش والفرقدين والبلدة والقلادة والنثرة والعبور والميزان ، فإنها ترشدكم على القبلة والشمال والشرق والغرب تهتدون بها إلى قصدكم بمعرفة الجهات الطالعة منها والسائرة إليها.
ولما ذكر اللّه تعالى من عجائب صنعه وغرائب إبداعه وعظيم حكمته مما هو مخلوق له وكل شيء مخلوق له قال على سبيل الإنكار لتاركي عبادته مع هذه النعم التي غمرهم بها «أَ فَمَنْ يَخْلُقُ» أيها الناس مثل هذه المخلوقات العظيمة «كَمَنْ لا يَخْلُقُ» شيئا مثل أوثانكم وتساوون هذا الخلاف الجليل بها مع أنها عاجزة عن حفظ نفسها «أَ فَلا تَذَكَّرُونَ» 17 أن مخلوقاته كلها بما فيها أوثانكم التي لا تخلق ولا ترزق لا تستحق للعبادة ، فكيف تعبدونها وتتركون عبادة الحق القادر على كل شيء.
هذا ، وقد عبر اللّه تعالى عن الأوثان بلفظ من الدالة على من يعقل مع أنها جمادات وينبغي أن يعبر عنها بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل لأنهم لما سموها آلهة أجريت مجرى من يعقل على زعمهم ، فخاطبهم جل جلاله على قدر عقولهم فيها وفي الآية الآتية بعد «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» يا بني آدم لأنها كثيرة منها ظاهرة ومنها خفية ، ومنها ما أنتم متيقظون لها وما أنتم غافلون عنها لا تعرفون قدرها ، لأن المعافى الآمن لا يعرف نعمتهما إلا عند طروء الخوف والمرض ، والسميع البصير لا يعرف نعمتهما إلا عند فقدهما ، وكذلك بقية الأعضاء والمأكولات والمشروبات والملبوسات والمركوبات والأموال والأولاد والنساء والسكن لا يعلم قدرها إلا عند(4/215)
ج 4 ، ص : 216
زوالها ، وقد أنعم اللّه نعما كثيرة لا يحصيها إلا هو «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ» لعباده إذا نسوا نعمه فتيقظوا وتابوا وقاموا بشكرها «رَحِيمٌ» 18 بهم يعفو عما سلف منهم ومن رحمته التجاوز عن قصورهم وتكثير نعمه عليهم وإمهالهم بالعقوبة ليرجعوا إليه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» 19 من أقوالكم وأفعالكم «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وتسمونها آلهة «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً» مما ذكر أبدا «وَهُمْ يُخْلَقُونَ» 20 بصنعكم وبعمل أيديكم التي هي من خلقنا ، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى دلت على أنها لا تخلق شيئا ، وهذه تدل على أنها نفسها مخلوقة ففيها زيادة في المعنى ونادرة أخرى وهي
«أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ» فكيف يكون الميت إلها ، ومن شأن الإله أن يكون حيا يحي ويميت مجيبا لمن دعاه «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» 21 للحساب والجزاء والعقاب وفي هذه الآية دلالة على أن اللّه تعالى يبعثها يوم القيامة بخلاف سائر الجمادات ، والحكمة من بعثها تكذيب عابديها وتبرؤها منهم إذ يجعلها القدير صالحة للكلام إظهارا لبطلان زعمهم فيها من الشفاعة لهم والتقرب إلى اللّه بعبادتهم.
فيا بني آدم «إِلهُكُمْ» الذي يستحق العبادة ويفعل الخير والشر «إِلهٌ واحِدٌ» هو اللّه لا إله غيره الذي تجدونه غدا في الآخرة ينعم الطائع بالجنة ويعذّب العاصي بالنار «فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ» هذا الإله العظيم جاحدة وحدانيته «وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» 22 عن عبادته خاضعون لعبادة الأوثان مائلون لحبها.
مطلب لا جرم ولفظها وإعرابها وقدم لسان العرب وتبلبل الألسن وذم الكبر :
«لا جَرَمَ» قال البصريون إن لا من لا جرم ردّ لكلام سابق مثل قوله تعالى (لا أُقْسِمُ) وهو هنا إنكار قلوبهم التوحيد واستكبارهم عنه ، وجرم فعل ماض بمعنى ثبت وحق ووجب وعلى هذا قوله :
ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وان مع ما في حيّزها فاعلة أي ثبت وحق علم اللّه تعالى بسرهم وعلانيتهم وعدم محبته للمستكبرين المشار إليهم في قوله «أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما(4/216)
ج 4 ، ص : 217
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ»
23 عن عبادته والإنابة لطاعته والانقياد لأمره ، وعليه يكون المعنى أن من حق العالم بالسرّ والعلانية أن لا ينكر وحدانيته ولا يستكبر عن عبادته ، ويجوز أن تكون بمعنى كسب وفاعله يعود على ما قبله والجملة بعدها محلها النصب على أنها مفعولة لها ، وبه قال الزجاج ، وقيل لا عاملة وجرم اسمها باعتباره مصدرا مبنيا على الفتح وخبرها الجملة في أن واسمها وخبرها ، فتكون مثل لا بدّ من التبديد وهو التفريق ، أي لا من بطلان دعوة الجحود والاستكبار عن عبادة اللّه ، لأن بطلانها أمر ظاهر مقطوع به.
قال الفراء هذا هو أصل لا جرم لكنه كثر استعماله فصار بمعنى حقا.
ومن العرب من لفظها مثل لفظ لا بد بضم الجيم وسكون الراء وفتح الميم ، لأن فعل وفعل اخوان كرشد ورشد وعدم وعدم ذكره الكشاف ، وهذه اللفظة تؤيد القول باسميتها ، وقال الخليل إن جرم مع لا مركب تركيب خمسة عشر وبعد تركيبها صار معناها معنى فعل ، وعليه فإن ان وما بعدها يعدها في تأويل مصدر فاعل لها ، وقالوا إن لا جرم يعني عن القسم ، تقول لا جرم لآتينك ، وعليه تكون الجملة بعدها جواب القسم.
وفي عموم هذه الآية يدخل كل متكبر سواء عن عبادة ائمه أو على خلقه.
روى مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر ، فقال رجل يا رسول اللّه إن الرجل يحبّ أن يكون نوبه حسنا ونعله حسنا ؟ قال إن اللّه جميل يحب الجمال.
أي ان هذا من النظافة وهي مطلوبة وليست من الكبر المذموم ، والكبر بطر الحق أي جعل الحق باطلا وغمط الناس حقهم أي احتقارهم فلم توهم شيئا وغمص بمعنى غمط ، لأن كلّا بمعنى انتقص وازدرى ، والتكبر والكبر والاستكبار ألفاظ متقاربة يجوز استعمال بعضها مقام بعض مع فرق بالمعنى ، والمفهوم من عدم الحب البغض ، لأن من لا يحبه اللّه يبغضه.
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ» المتكبرين «ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» على نبيكم «قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 24 كما قالوا في الآية 5 من سورة الفرقان في ج 1 ، وإنما قالوا وفاهوا بهذا «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» لم ينقص منها شيء لأن ثواب ما فعلوه من صلة رحم وإقراء ضيف وغيره وما أصابهم من(4/217)
ج 4 ، ص : 218
البلاء في الدنيا كافأهم اللّه عليه فيها من الرزق والأولاد والعافية وغيرها ، فلا يكفر اللّه بها شيئا من أوزارهم لإعطائه لهم بدلها بالدنيا فتبقى أعمالهم السيئة ثابتة عليهم تامة «وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ» أي ويحملون مع أوزارهم بعض أوزار أتباعهم ، لأن الرؤساء عليهم وزرهم وشيء من أوزار أتباعهم.
أخرج مسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا.
«بِغَيْرِ عِلْمٍ» أي يضلونهم من حيث لا يعلمون أن طريقهم الذي يدعون إليه ضلالة ، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على من له لب «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» 25 أي بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم السابقة بأنبيائها كما مكر قومك بك يا سيد الرسل ، وقد قص اللّه عليه مكر قوم إبراهيم وهود وصالح بأنبيائهم وهم عرب مثل قومك ، وبهذا يبطل قول من قال إن أصل لسان الناس السريانية ، وان تبلبل الألسن كان بعد نمرود ، فإذا كان لهذا القول صحة فيكون قبل عاد وثمود وقبل صالح وهود ، لأن قومهما كانوا عربا ، ولأن أهل اليمن كانوا عربا ، لأن جرهم منهم ، وكان قبلهم طسم وجديس يتكلمون بالعربية بما يدل عن أن لسان العرب كان قديما ، لأن اللّه أرسل هودا وصالحا وهما من ذرية نوح عليه السلام قبل إبراهيم وهما عربيان ، ولم يرسل للعرب من ذرية إبراهيم غيرهما وشعيب عربي أيضا وأرسل إليهم إسماعيل عليه السلام قبله وقد تعلم العربية من جرهم ، ومن ذريته محمد صلى اللّه عليهم وسلم أجمعين.
ومما يدل على قدم لسان العرب قوله تعالى (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) الآية 31 من الأحزاب في ج 3 ، وهذه الآية عامة في كل ما كر كايد مبطل يحاول إلحاق الضرر بالغير.
قال تعالى «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ» أي جاء أمره باستئصال واقتلاع أساطين بنيانهم وأصوله ، لأن القواعد أس البناء «فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ» جاء الظرف تأكيدا لأن الخرور لا يكون إلا من فوق ، والأحسن أن يقال يحتمل أنهم عند سقوطه لم يكونوا تحته ، فلما قال من فوقهم(4/218)
ج 4 ، ص : 219
علم يقينا أنهم تحته فخر عليهم فأهلكوا جميعا «وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 26 وهم في مأمن منه معتمدون على قوة بنيانهم.
قال المفسرون المراد بهذا نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل المارّ ذكره في الآية 34 من سورة القصص في ج 1 بطول خمسة آلاف ذراع ارتفاعا بالهواء ، وعرض ثلاثة آلاف ذراع ، فأهب اللّه تعالى عليه الريح فسقط عليهم وهلكوا ، واقتدى به أخوه فرعون إذ أمر وزيره هامان ببناء صرح له راجع الآية 36 من سورة المؤمن المارة ، قالوا وقد تبلبلت الألسن من الفزع فتكلم الناس بثلاث وسبعين لغة ، وعاش بعد ذلك مدة ثم أهلكه اللّه ببعوضة على ما هو المشهور نقلا عن ابن عباس ومقاتل وكعب ، «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ» فلا يقتصر على عذابهم الدنيوي هذا بل يذلّهم في الآخرة ويهبننهم أيضا «وَيَقُولُ» لهم بمعرض التوبيخ «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ» تخاصمون المؤمنين على قراءة فتح النون ، وعلى كسرها يكون المعنى تخاصمون الحضرة الإلهية «فِيهِمْ» في الدنيا ، والمشاقة وجود كل من الخصمين في شق أي طرف غير شق صاحبه ، والمعنى هاتوهم ليدفعوا عنكم العذاب كما كنتم تزعمون ، فيكتون ويخرسون «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» أي أنبياؤهم وصلحاؤهم الذين كانوا معهم في الدنيا يدعونهم إلى الإيمان وكانوا يعرضون عنهم ، ومقول القول «إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» 27 وهذا شماتة بهم وزيادة في هوانهم ثم بين هؤلاء الكافرين بقوله «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ» استسلموا وأخبتوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والاستهزاء ، وقالوا معتذرين «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» في الدنيا ، جحدوا كفرهم وخبثهم من شدة الخوف وعظم الهول
ولما رأوه من الإهانة ، فقال لهم الذين أوتوا العلم «بَلى » كنتم تعملون الأسواء كلها في دنياكم فلا تنكروا «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 28 فيحق عليهم القول وتقول لهم الملائكة «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» 29 عن اتباع الرسل والإيمان بهم جهنم.
وذكر الأبواب في الآية دليل على تفاوت منازل أهل النار في العذاب ، وذكر الخلود لزيادة همهم وغمهم وحزنهم بقطع أملهم(4/219)
ج 4 ، ص : 220
من الخلاص «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» بعد إنهاء حال الكفرة ، وقد أفردوا بالذّكر ليطلعوا على حال الكافرين ومصيرهم فيفرحوا ويتم سرورهم بثمرة أعمالهم التي كان الكفرة يضحكون منها وتقر أعينهم بانتقام اللّه تعالى لهم منهم فيدخلون الجنة وقد أمنوا على أنفسهم وعرفوا حال أعدائهم «ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» على رسلكم «قالُوا خَيْراً» نصب على تقدير أنزل فاطبق الجواب على السؤال لأن القول لا ينصب المفرد ورفع أساطير بالآية الأولى 24 على تقدير حذف المبتدأ المقدر وهو هو وأساطير خبره ، ولأنهم عدلوا بالجواب عن السؤال ولم يعتقدوا كونه منزلا ، فلم يستحسن الوقف على أساطير لعدم تمام الكلام واستحسن الوقف في هذه الآية على (خيرا) لتمام الكلام ، ولهذا حسن الابتداء بقوله «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ» لهم من الدنيا لقوله تعالى «وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» 30 في الآخرة التي هي
«جَنَّاتُ عَدْنٍ» لهم «يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لتمام النعمة وبهجة النظر «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ» فيها من كل ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» 31 في الآخرة الدائمة وهؤلاء المتقون هم «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ» طاهرين ، وهذا بمقابلة (ظالمي أنفسهم) في بيان فريق أهل النار في الآية الأولى «يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» وبمقابلة قول ملائكة العذاب للكافرين (أدخلوا أبواب جهنم) تقول ملائكة الرحمة «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 32 في دنياكم.
واعلم أن ما جاء في هذه الآية وفي قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها) الآية 73 من سورة الزخرف المارة ونظيرتها الآية 43 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 19 من سورة الطور والآية 24 من سورة الحاقة الآتيتين يدل على أن الجنة تكون للشخص بمقابل عمله الحسن.
مطلب التوفيق بين الآيات والحديث بسبب الأعمال وفي آيات الصفات :
وهذه الآيات لا تتنافى مع قوله صلّى اللّه عليه وسلم : لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ، قالوا ولا أنت يا رسول اللّه ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه بفضله ورحمته ، لأن معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال ، أما التوفيق للإخلاص فيها وقبولها(4/220)
ج 4 ، ص : 221
فيكون برحمة اللّه وفضله ليس إلا ، وعليه فيصح أن يقال لم ندخل الجنة بمجرد العمل ، وهذا هو مراده صلّى اللّه عليه وسلم وهو على حد قول العبد لسيده تفضلتم علي يا سيدي بما لم أكن أهله ، فيقول له السيد بل بحسن خدمتك وأدبك.
ويصح أن يقال تدخل الجنة بسبب الأعمال برحمة اللّه وفضله ومنّه ، لا بالوجوب كما قال بعضهم ، لأن اللّه لا يجب عليه شيء لأن الكون وما فيه ملكه وتحت سلطانه وله أن يفعل فيه ما يشاء ، فلو عذب الطائع وأناب العاصي أيعارضه أحد ؟ كلا لا يسأل عما يفعل ، قال صاحب الزبد في عدم جواز نسبة الظلم إليه تعالى :
وله أن يؤلم الأطفالا ووصفه بالظالم استحالا
لأن الظلم تصرف فى حق الغير فيما لا يحل ، واللّه جل شأنه متصرف في ملكه لأن الكل تحت قبضته ، فلو أن أحدا هدم داره أو أحرق متاعه هل لأحد معارضته وهل عليه عقاب ما ؟ كلا البتة ، فإذا كنا نحن العبيد لنا التصرف المطلق فيما ملكناه اللّه لأن ملكنا له مجاز ، فكيف يعترض أحد على المالك الحقيقي إذا تصرف في ملكه.
راجع الآية 28 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 73 من سورة الزخرف المارة ولهذا البحث صلة في الآية 19 من سورة الطور والآية 24 من سورة الحاقة الآتيتين فراجعه تجد ما يسرك إن شاء اللّه القائلَ لْ يَنْظُرُونَ»
هؤلاء الجاحدون نبوتك يا سيد الرسل المنكرون وحينا إليكِ لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ»
بقبض أرواحهمَ وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ»
بعذابهم الدنيوي ، وهذه الآية من آيات الصفات التي أشرنا إليها غير مرة بأن مذهب السلف الصالح إبقاؤها على ظاهرها ومذهب الخلف وبعض المتكلمين ، على تأويلها بما يناسبها ، راجع الآية 67 من سورة الزمر المارة وما ترشدك إليهَ ذلِكَ»
مثل فعل هؤلاءَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»
من الكفر والتكذيبَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ»
بتعذيبهم من أجلهَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
33 بما عملوا من الخبائث «فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا» في دنياهم «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 34 على الرسل وما جاءوهم به من عندنا جزاء كسبهم هذا بما لا تطيقه أجسامهم «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا(4/221)
ج 4 ، ص : 222
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ»
وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء ، ولو قالوه اعتقادا جازما لأصابوا المرمى ، ويؤذن قولهم أن لا فائدة من بعثة الرسل ، لأن المشيئة اللّه ، لو أراد لم يحرم شيئا ولم نعبد شيئا ، وهذا أيضا اعتراض منهم على اللّه جار مجرى العلة في أحكام اللّه تعالى ، وهو باطل لأنه لا يجوز أن يقال لم فعل اللّه كذا ، ولم لم يفعل كذا ، لأن أفعال اللّه لا تقلل ، وكان في حكمة اللّه تعالى وسنته إرسال الرسل ليأمروا عباده بعبادته ، وينهوهم عن الإشراك به والتعدي على الغير ، وإن الهداية والإضلال أمرهما في الحقيقة إليه ، وهذه سنته في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه.
ولما كانت سنته بإرسال الرسل إلى الكافرين قديمة لا محدثة ولا طارئة ولم يبتدعها ببعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلم فيهم كان قولهم (لو شاء اللّه) إلخ جهلا ، لاعتقادهم أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثتهم وهو أيضا اعتقاد باطل.
قال تعالى «كَذلِكَ» مثل فعلهم هذا «فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» إذ كذبوا الرسل وأحلوا ما حرم اللّه وحرموا ما أحله «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 35 هذا استفهام تقريري ، أي ليس عليهم إلا التبليغ القولي وليس عليهم قسرهم على الإيمان وجبرهم على الهداية وإجبارهم على الرشد ، راجع الآية 149 من سورة الأنعام المارة «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا» كما بعثناك في أهل مكة وأمرنا كلا من الرسل أن يقولوا لقومهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» مبالغة في الطغيان والطاغية ويطلق على كل من عبد من دون اللّه حاشا الملائكة وعزيز وعيسى وعلي عليهم السلام وغيرهم من الصالحين لعدم علمهم ورضاهم «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ» فتاب وأناب واتبع طريقهم الموصل إليه ففاز برضائه «وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» فلم ينتفعوا بهدى رسولهم لسابق ثقائهم في علم اللّه وإرادته إضلالهم لسوء طويتهم فهلكوا وخابوا وخسروا الدنيا والآخرة ، وهذه الآية كافية للدلالة على أن اللّه تعالى هو الهادي والمضل دون اعتراض ، إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا» أيها الناس «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» 36 حيث بقيت مساكنهم خاوية بسبب العذاب الذي حل(4/222)
ج 4 ، ص : 223
بهم ، وفيها تنبيه على أنكم يا أهل مكة إذا أصررتم على الكفر يكون مصيركم مثلهم ، قال تعالى «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ» يا سيد الرسل وتجتهد كل الاجتهاد لا يغير ما هو مدون في أزلنا أبدا «فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ» أبدا ولو أطبق الخلق على إضلال من هداه لن يقدروا أيضا «وَما لَهُمْ» الضالين «مِنْ ناصِرِينَ» 37 يمنعونهم من عذاب اللّه المقدر لهم ولا يقدر أحد أن يهديهم أيضا ، «وَأَقْسَمُوا» هؤلاء الكفرة الضالون «بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» قال ابن الجوزي أتى رجل مسلم يتقاضى دينه من كافر ، فقال فيما قال والذي أرجوه بعد الموت ، فقال الكافر أترجو وتزعم هذا واللّه لا يبعث من يموت.
فنزلت هذه الآية ردا عليه وتكذيبا له ، وهو قوله «بَلى » يبعث من يموت «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» منجزا على طريق عدم جواز الخلف على اللّه إن اللّه لا يخلف الميعاد ومن أصدق من اللّه قيلا «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 38 كيفية
ذلك ، لأنهم يقولون إن هذه البنية إذا بليت وتفرقت أجزاؤها امتنع عودها بعينها ، لأن الشيء إذا عدم فقد فني ولم تبق له ذات ولا حقيقة ، ولم يعلموا أن اللّه تعالى الذي بدأ خلقهم قادر على إعادتهم كما كانوا عليه ، وهو أهون عليه لأن خلقهم من لا شيء على غير مثال والصعوبة إنما تكون في الابتداع لا في التقليد ، فهذه السيارات والطائرات والراد والكهرباء وغيرها بعد أن اخترعت هان على العاملين عملها وكان العقل لا يصدق وجودها لو لم يشاهدها ، فالفضل فيها للمبتدع لا للمقلد.
واعلم أن الحكمة في إعادة الخلق أحياء في الآخرة «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ» اللّه الذي خلقهم أول مرة «الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ» في الدنيا حقيقة وعيانا «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ» 39 في إنكارهم البعث وتكذيبهم ما أخبرهم به الرسل من وجود الحساب والعقاب والجنة والنار ويتحقق أن اللّه تعالى إذا أراد شيئا كان لا محالة بدليل قوله «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» 40 حالا بين الكاف والنون ، أي يوجد عند وجود هذين الحرفين بل بينهما.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول اللّه تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له(4/223)
ج 4 ، ص : 224
ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
واعلموا أيها الناس أن خلقكم وبعثكم عندنا كشيء واحد لا يصعب علي شيء من ذلك والإيجاد والإعدام عندنا سواء لا يتخلف شيء عن أمرنا طرفة عين ، فانظروا أيها الناس واعلموا أن لا كلمة على الخلاق فيما يخلق ويفني.
قال تعالى «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» في الدنيا «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» عظيمة وحسنى جليلة ونعما جسمية «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» في الإحسان إليهم وأعظم أجرا إذا صبروا على ما أصابهم في الدنيا «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 41 ما أعد اللّه لهم في الآخرة على صبرهم لزادوا في اجتهادهم على العبادة وفي صبرهم على أذى الكافرين وغيرهم.
نزلت هذه الآية في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذين هاجروا إلى الحبشة بسبب أذى المشركين إليهم ، وفيها دليل على أن الهجرة إذا لم تكن خالصة لوجه اللّه للتمكن من القيام بأوامره وعبادته كما ينبغي كانت كالانتقال من بلد لآخر للتجارة أو الزيارة لا مزيّة لها ولا شرف فيها ولا ثواب ، يدل على هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى إلخ.
ثم وصفهم اللّه بقوله «الَّذِينَ صَبَرُوا» على ظلم المشركين وأذاهم في سبيل اللّه «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 42 في أمورهم كلها.
واعلم أن الصبر والتوكل مبدأ السلوك إلى اللّه تعالى ومنتهاه ، لأن الصبر قهر النفس وحبسها على أعمال البر واحتمال الأذى من الخلق وعلى الشهوات المباحات وعلى المصائب وعن المحرمات والتوكل انقطاع عن الخلق ، فبهذا المنتهى والأول المبتدأ.
مطلب التعويض الثاني بالهجرة وعدم الأخذ بالحديث إذا عارض القرآن :
وهذه الآية الثانية التي يعرض اللّه تعالى بها لرسوله بالهجرة ، والأولى 20 من سورة المؤمن المارة.
قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا» يا أهل مكة إن لم ترشدكم عقولكم إلى التصديق بهذا الذي قصصناه عليكم «أَهْلَ الذِّكْرِ» الذين أنزل عليهم قبلكم من اليهود والنصارى ، (4/224)
ج 4 ، ص : 225
وقولوا لهم هل أرسل اللّه نبيا إلا رجلا فيما سبق من الأمم إلى الأمم «إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 43 أمرهم اللّه أن يسألوا أهل الكتابين لأنهم يعتقدون ذلك لعلمهم بما أنزل اللّه في كتبهم من هذا.
نزلت هذه الآية في كفار مكة القائلين اللّه أعظم وأجل أن يرسل رجلا إلى الناس ولو أراد لأرسل ملكا.
فرد اللّه عليهم زعمهم واستشهد على بطلانه بأهل الكتابين لأنهم لا يعلمون «بِالْبَيِّناتِ» المعجزات «وَالزُّبُرِ» الكتب المنزلة مثلهم ، أي اسألوهم عن هذا كما سألتموهم قبلا عن حقيقة محمد وكلفوكم أن تسألوه عن الروح وأصحاب الكهف وذى القرنين ، وقد أجابكم كما ذكروه لكم ومع هذا كله لم تصدقوا نذرعا بقولكم كيف يكون بشرا رسولا ، عتوا وعنادا لا غير.
قال تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ» القرآن وسمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه للعاقل يذكره بأمر دينه ودنياه ، وإنما أنزلناه عليك يا سيد الرسل «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» 44 فيه فيؤمنون ، والمراد من التبيين في هذه الآية بيان ما أجمل في القرآن من المتشابه ، أما الحكم منه فهو مبين مفسّر لا يحتاج إلى التبيين ، وقد استدل بعضهم في هذه الآية على أنه متى تعارض الحديث مع القرآن وجب الأخذ بالحديث ، لأن الرسول هو المبين للقرآن بنص هذه الآية وبنص قوله (ما ينطق عن الهوى) لأن القرآن مجمل والحديث مبين له ، والمبين مقدم على المجمل ، ولأن المنزل عليه لا يتكلم في نفسه بل بوحي من ربه.
وهذا الاستدلال بغير محله ، لأن القرآن منه محكم ومنه متشابه ، فالمحكم مبين لا يحتاج إلى البيان ويجب الأخذ بظاهره دون حاجة إلى تأويل أو تفسير أو قياس أو استحسان ، سواء أخالف الحديث أم لا ، لأن الحديث الذي نراه مخالفا لبعض القرآن لا يعمل به ، ولعله موضوع لمعنى لا نعرفه ، أو أنه مكذوب على حضرة الرسول ، والمتشابه هو المجمل فيطلب بيانه من الحديث وأهل العلم.
قال تعالى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) لا يتبدل حكمها ولا يتغير معناها من بدء الكون إلى آخره (وأخر متشابهات) إلى أن قال (لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم) وهم الأنبياء فمن دونهم ممن هو على آثارهم في العلم والعمل ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 7 من آل عمران في ج 3(4/225)
ج 4 ، ص : 226
بصورة مسهبة إن شاء اللّه.
واعلم أن القائل بهذا قائل بأن الحديث ينسخ القرآن وهو قول لا وجه له ، كيف وقد قال تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) الآية 66 من سورة يونس المارة ، والنسخ بالسنية تبديل فكيف يجوز أن يقال به فضلا عن أن جهابذة الأصوليين لم يعترفوا به ، وما قيل بجوازه فهو قيل ضعيف مستنده حديث الترمذي وغيره (لا وصية لوارث) بأنه نسخ آية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) الآية 186 من سورة البقرة ج 3 ، مع أن هذه الآية مخصصة بآية المواريث الآتية في سورة النساء كما سيأتي بحثها إن شاء اللّه ، وقد ألمعنا إلى بطلانه في المقدمة في بحث النسخ ، وسيأتي توضيحه في الآية 106 من سورة البقرة ج 3 عند قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) إلخ ، واعلم أنه لا يجوز بوجه من الوجوه أن يؤخذ بالحديث إذا عارض ظاهر القرآن ، وهو دليل على عدم صحته ، لأنه لا يتصور أن بصدر من حضرة الرسول قول يخالف ظاهر كلام اللّه ، كيف وهو الذي لا ينطق عن هوى وعليه أنزل القرآن وهو دليله وحجته وبرهانه.
قال تعالى «أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا» المنكرات «السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفها بمن قبلهم «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 45 كما أهلك من قبلهم فجأة حال غفلتهم من نزول العذاب «أَوْ يَأْخُذَهُمْ» على غرة «فِي تَقَلُّبِهِمْ» في الأرض عند أسفارهم بها ذاهبين أو آئبين «فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» 46 اللّه ولا فائتيه ولا قادرين على الهرب منه «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» بأن يريهم إهلاك أناس أمامهم فيخافوا من وقوعه بهم أو يحدثه بهم تدريجا فيعذبهم فيهلكوا بين الخوف والعذاب أول بأول بصورة تدريجية حتى يقضى على آخرهم
«فَإِنَّ رَبَّكُمْ» أيها الناس القادر على تسليط أنواع العذاب والهلاك عليكم «لَرَؤُفٌ» كثير الشفقة عليكم «رَحِيمٌ» 47 بكم لا يعجل عقوبتكم بل يمهلكم لترجعوا إليه وتتوبوا مما أذنبتم به إليه.
وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما تنفطر منه القلوب وترتعد منه الفرائض.
والمكر المشار إليه هو أن قريشا لما عجزت عن صد دعوة الرسول صارت تحيك الدسائس لتخلص منه ، وصاروا يعقدون الاجتماعات في دار الندوة ويتذاكرون(4/226)
ج 4 ، ص : 227
في كيفية إهلاكه أو إخراجه من بين أظهرهم ، فأنزل اللّه هذه الآية بوعدهم بها بإنزال أصناف العذاب والهلاك إذا هم فعلوا به شيئا ، وهذا من مقدمات الأسباب الداعية إلى هجرته صلّى اللّه عليه وسلم التي قرب أوان إذن اللّه تعالى له بها.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ» المراد بهذه الرؤية البصرية لا القلبية ، ولذلك وصلت بإلى إذ يراد منها الاعتبار ولا يكون إلا بنفس الجارحة التي يمكن معها النظر إلى نفس الشيء ليتأمل بأحواله ويتفكر فيه فيعتبر ويتعظ «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ» يقال للظل بالعشي فيء من فاء إذا رجع ، وفي الصباح ظل لأنه مما نسخته الشمس والفيء ينسخها.
قال حميد بن ثور في هذا :
أبى اللّه إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العفاة تروق
فلا الظل في برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق
وأراد بالسرحة امرأة على طريق الكناية ، أي تنشر ظلاله انتشارا «عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ» 48 صاغرون ذليلون ، قال ذو الرمة :
فلم يتق إلا داخر في مخيس ومنحجر في غير أرضك في حجر
المخيس السجن «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» 49 عن السجود لعظمته بل يتواضعون ويخشعون ويخضعون لهيبة جلاله «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» 50.
مطلب من أنواع السجود للّه وتطاول العرب لاتخاذ الملائكة آلهة :
وهذه الآية شاملة لنوعي السجود ، لأنه سجود طاعة وعبادة كسجود الملائكة والآدميين وسجود انقياد وخضوع كسجود الضلال والدواب ، وجاء بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل تغليبا لأنه أكثر مما يعقل كتغليب المذكر على المؤنث وجمعها جمع من يعقل ، لأنه وصفها بصفته ، لأن السجود من شأن من يعقل ، وهذه السجدة من عزائم السجود وقد بينا ما يتعلق فيه في الآية 37/ 38 من سورة فصلت المارة فراجعه ترشد لما تريده فيه.
«وَقالَ اللَّهُ» تعالى يا ابن آدم إني نهيتكم كما نهيت(4/227)
ج 4 ، ص : 228
آباءكم من قبل على لسان رسلي أن «لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ» الإله الذي يعبد في السماء والأرض هو «إِلهٌ واحِدٌ» فرد صمد لا رب غيره ولا إله سواه ولا يستحق العبادة إلا إياه ، وإنما قال واحد لأن الاسم الحامل معنى الإفراد ، والتثنية دال على شيئين الجنسية والعدد المخصوص ، فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منها هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ، ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن ، وقيل لك إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية ، وإذا أريدت الدلالة على الجنسية فلا حاجة للتاكيد كما تقول واحد اثنين ، ولهذا البحث صلة في الآية 23 من سورة الأنبياء الآتية عند قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية إن شاء اللّه ، «فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» 51 لا ترهبوا غيري أبدا ، وقد جاء بالالتفات من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ من الترهيب ، والرهب خوف مع حزن واضطراب ، قال تعالى «وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً» ثابتا دائما واجبا لازما ، قال أبو الأسود الدؤلي :
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال أمية بن الصلت :
وله الدين واصبا وله الملا ك وحمد له على كل حال
ثم خاطب خلقه على طريق الاستفهام بقوله جل قوله «أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ» 52 أيها الناس بعد أن عرفتم ما قصصناه عليكم من كمال عزّته وكبير قدرته وعظيم سلطانه وجليل عفوه «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» لا من غيره فيجب عليكم شكر نعمه «ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ» 53 تضجّون بالدعاء وتصيحون بالاستغاثة ليكشفه عنكم ، والجوأر رفع الصوت بالاستغاثة قال الأعشى :
يداوم من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا «ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» 54 لأنهم يضيفونه إلى أسباب أخر ولا يعلمون أنه هو مسبب الأسباب فإذا كان الضر(4/228)
ج 4 ، ص : 229
من القحط وأنعم اللّه عليهم بالغيث أضافوه إلى الكواكب وإذا كان مرضا أضافوا الشفاء إلى العقاقير ، وإذا كان ريحا أو ولدا أضافوه إلى كسبهم ، وما ذلك إلا «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من تلك النعم بدل أن يشكروها ويحمدوا المنعم بها عليهم «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» 55 عاقبة كفركم وجحدكم ، وفي العدول من الغيبة إلى الخطاب على قراءة الفعلين بالتاء زيادة في التهديد والوعيد وقرأهما بعض القراء بالياء.
ثم شرع جل شأنه يعدّد مساوئهم فقال «وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ» لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها من أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تحمي ولا تشفع «نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ» من الأنعام راجع الآية 138 من سورة الأنعام المارة تجدها مفصلة هناك ، ثم أقسم بذاته الكريمة فقال «تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ» أيها الكفرة «عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» 56 في الدنيا من هذه الأشياء القبيحة وغيرها ، وهذا السؤال يكون حتما يوم القيامة عن عدها آلهة ، وتخصيص بعض نعمه إليها وتخظيظها بنصيب منها تشبيها لها بالآلهة «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ» وهم يكرهوهن لأنفسهم وذلك أن فرقا منهم كخزاعة وكناية يزعمون أن الملائكة بنات اللّه «سُبْحانَهُ» وتنزه وتعالى عن ذلك «وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» 57 من الذكور ، أي كيف ينسبون النوع المحبوب إليهم والمكروه إلى ربهم «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا» من الكآبة والحياء من الناس كأنه جاء بشيء منكر فاحش «وَهُوَ كَظِيمٌ» 58 ممتلىء غضبا وحنقا وحزنا على ما حل به من الغم وعلى زوجته أيضا كما أشرنا إليه في الآية 17 من لزخرف المارة «يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ» يتغيب عنهم ويستتر منهم «مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ» لئلا يرونه فيعيّرونه ثم يتفكر ماذا يصنع بها «أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ» بأن يتركه حيا فيربيه على هوان لنفسه ومذلة لها كأن ذلك المولود من زنى وقد ذكر الضمير باعتبار عوده إلى ما بشر به «أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» فيدفئه حيا فيئده حتى يموت تحته ويتخلص من عاره وشناره.
قال تعالى ذامّا صنيعهم هذا بقوله «أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» 59 في هذه القسمة وهذا الحياء وهذه السنة وهذا الإباء وهذا الوأد ، راجع الآية 8 من سورة التكوير في ج 1 فيما يتعلق بهذا.(4/229)
ج 4 ، ص : 230
قال تعالى «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ» كراهية الإناث ووأدهن خشية العار أو الفقر «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى » نزاهته عن ذلك وتعاليه وغناه عن العالمين أجمع ، وهذه الجملة لم تكرر في القرآن إلا في الآية 27 من سورة الروم الآتية «وَهُوَ الْعَزِيزُ» المتمتع في كبريائه الغالب ، الغير محتاج لأحد من خلقه «الْحَكِيمُ» 60 في إمهال عباده المتطاولين عليه لأمر يعلمه لأنه لا يؤاخذهم على ما يبدر منهم من الظلم والتعدي حالا بل بمهلهم ليتوبوا ويرجعوا عن غيهم
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ» مثل هذا وأشباهه «ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» بل لدمّر كل من على الأرض حالا «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» لإيمان من يؤمن منهم وإصرار من بصر «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» 61 عنه لحظة ، وهذه الآية ونظيرتها في المعنى الآية 45 من سورة فاطر في ج 1 عامة في كل ظالم مخصوصتين في قوله (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) الآية 35 من سورة فاطر المذكورة ، لأن في جنس الناس يدخل الأنبياء والصالحون ومن لا يطلق عليهم اسم الظلم ، فاتقوا اللّه أيها الظلمة فلا تحملوا أوزاركم وأوزار غيركم بظلمكم ، فقد يهلك بظلمكم وشؤمكم خلق كثير لا دخل لهم في أعمالكم ، وقد فعل اللّه تعالى ذلك في قوم نوح عليه السلام عدا من كان في السفينة وأدخل الدواب التي لا تعقل بالهلاك عقوبة لكم ، لأن أكثرها مخلوقة لمنافعكم وأنتم تظلمون أنفسكم وتتجاوزون حقوق اللّه وتتعدون حدوده.
واعلم أن البلاء قد يعم ، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية 15 من سورة الأنفال في ج 3 ، قال أبو هريرة : إن الحيارى لتهلك في وكرها بظلم الظالم.
وقال ابن مسعود : إن الجعل لتعذب في جحرها بذنب ابن آدم.
واعلموا أن اللّه لو يؤاخذكم بما يقع منكم لا نقطع نسلكم ولم يبق على وجه الأرض أحد ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
«وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» لأنفسهم ، وهذا بمقابلة قوله (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) في الآية المارة 57 «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ» مع ذلك إذ يتمنون «أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى » العاقبة الحسنة عند اللّه وهي الجنة في الآخرة وهو كذب محض(4/230)
ج 4 ، ص : 231
وافتراء على اللّه ، وهذا ردّ لقول الخبيث منهم (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) الآية 50 من سورة فصّلت المارة والآية 36 من سورة الكهف أيضا.
قال تعالى «لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ» في الآخرة لا شيء لهم غيرها «وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» 62 معجلون إليها ، والفرط التقدم إلى الماء قبل القوم ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض ، لأنه صلّى اللّه عليه وسلم يقف على حوضه الكوثر يوم القيامة ويرد عليه المؤمنون به.
قال تعالى «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» رسلا كما أرسلناك إلى هذه الأمة «فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» كما زين لقومك أعمالهم القبيحة بالفاء الوسوسة إليهم وقبولها منهم وإلا ففي الحقيقة إن المزين هو اللّه تعالى ، راجع الآية 39 من سورة الحجر المارة والآية 35 المارة من هذه السورة ، والذين يتبعون ما يزين لهم الشيطان رغبة به «فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ» في الدنيا التي هم فيها لأن اليوم المعروف معروف في زمان الحال كالآن وصدر بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها ، ويسمى مثل هذا حكاية الحال الماضية ، وهو استعارة من الحضور الخارجي إلى الحضور الذمني ، والمراد به مدة الدنيا ، لأنها كلها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة ، وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 63 في الآخرة لكفرهم باللّه واتخاذهم أولياء من دونه.
قال تعالى «وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» يا محمد «إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» من البعث وغيره لا لعة أخرى وهذا معنى الاستثناء المفرغ أي ما أنزلناه إلا لهذه الغاية ، وهذه الآية قريبة في المعنى من الآية 39 المارة قبلها ، ولقوله تعالى في الآية 44 المارة أيضا وتشمل كل شيء اختلفوا فيه من أمر الدين والدنيا ، لأنه داخل ضمنها «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 64 به فينتفعون بهديه ورشده أما غير المؤمنين فلن ينتفعوا به وهو عليهم عمى ، راجع الآية 44 من سورة فصلت المارة «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» جدبها ويبسها لأنه موت بحقها «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة «لَآيَةً» دالة على البعث للإنسان بعد موته بالنسبة «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» 65 آيات اللّه سماع قبول فيعونها ويتدبرونها ويعقلون ما فيها ، لأن(4/231)
ج 4 ، ص : 232
سماع الأذان وحده لا يكفي للانتفاع بالمسموع ، بل لا بدّ من اقترانه بالقبول وإلا عدّ كسماع الموتى ، ولهذا قال تعالى بحق الذين يسمعون ولا يعون (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية 22 من سورة فاطر في ج 1.
مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها :
هذا وبعد أن عدد اللّه تعالى مساوئهم وذكر الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وضرب المثل لصحة البعث طفق يعدد نعمه على خلقه فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ» المار ذكرها بصدر هذه السورة «لَعِبْرَةً» كبيرة وعظة عظيمة إذا تفكر بها ، ثم بين هذه العبرة بقوله «نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» ذكر الضمير وهو مؤنث لأن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع ، فكان ضميره ضمير الواحد المذكر بحسب اللفظ وبحسب المعنى جمع ، فيكون ضميره ضمير الجمع وهو مؤنث ، ولهذا المعنى ذكره هنا وأنثه في سورة المؤمنين في الآية 23 في نظير هذه الآية ، والأنعام اسم جمع وكل ما كان كذلك يجوز فيه التذكير والتأنيث والجمع والإفراد من حيث اللفظ والمعنى ، كالخيل والإبل والغنم وغيرها من أسماء الأجناس التي لا واحد لها من لفظها ، قال الشاعر :
تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي
وقال الكسائي إنما يفرد ويذكر على تقدير المذكور وذلك كقوله :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
وهذا شائع وفي القرآن سائغ ، قال تعالى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الآيتين 54/ 55 من سورة المدثر في ج 1 ، وقال تعالى (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) الآية 38 من الأنعام المارة ، وإنما يكون هذا في التأنيث المجازي تدبر.
«مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» الفرث في الكرش ما دام فيها ، نخرج «لَبَناً خالِصاً» من شوائب الكدورة ، ومن مصل الفرث والدم جاريا بسهولة هنيئا مريئا ، بدلالة قوله «سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» 66 لا غصّة فيه ولا يحتاج للمضغ ولا يثقل على المعدة ولا يحتاج للشرب بعده ، وهو غذاء وماء يكفي الكبير والصغير ، ذلك تدبير الحكيم(4/232)
ج 4 ، ص : 233
القدير الذي هو بكل شيء خبير.
أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما شرب أحد لبنا فشرق ، إن اللّه تعالى يقول (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) وهو كذلك ، فإذا وقع الشرق فيه فاعلم أن اللبن مشوب بماء ، لأن كلام الرسول لا ينخرم أبدا.
وقرىء سيغا بالتخفيف والتشديد ، وهي قراءة جائزة لأن اللفظ يحتملها بلا زيادة ولا نقص لما ذكرنا أن التشديد والتخفيف والمد والإشباع لا يعد نقصا ولا زيادة.
هذا ، واعلم أن الحيوان إذا تناول غذاءه ينزل إلى معدته إن كان إنسانا ، وإلى كرشه إن كان حيوانا ، وإلى أمعائه إن كان من غيرهما فيحصل في الغذاء الهضم الأول ، فيجذب بقدرة اللّه تعالى الصافي إلى الكبد ، والكثيف إلى الأمعاء ، ثم يحصل الهضم الثاني في الذي انجذب إلى الكبد ، فيصير دما مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية ، فتجذب بحكمة الحكيم الصفراء إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والمائية إلى الكلى ، ومنها إلى المثانة ، ويذهب الدم في العروق ، وهي الأوردة الثابتة في الكبد ، فيحصل الهضم الثالث ، فيصب الدم من تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض ، فينقلب بقدرة القادر ذلك الدم لبنا صافيا فيه.
هذا مصير الصافي من الغذاء ، ولا يستبعد أحد كيفية الانجذاب المذكور ، لأن القوة الجاذبة من أمر اللّه ، والذي وضعها في الحديد يضعها في غيره ، والنظر قوة جاذبية الاستفراغ وقس عليها.
وأما الكثيف الذي نزل إلى الأمعاء فيخرج فضلات ، فسبحان اللطيف بخلقه ، لأنه لو خرج الغذاء كله أو بقي كله لهلك الحيوان ، ولكن اللّه تعالى يبقي ما يقيم به الوجود من الغذاء للإنسان والحيوان ، ويخرج ما بضره ، فله الحمد والشكر ، ولهذه الحكمة ورد أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول عند خروجه من الخلاء غفر انك ثلاثا ، الحمد للّه الذي أذهب عني الأذى وعافاني.
وكان نوح عليه السلام يقول الحمد للّه الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ منفعته وأذهب عني أذاه.
واللّه أعلم.
هذا ولا يقال إن الحالة المارة موجودة في الذكر من الحيوان فلم لا يحصل منه اللبن ، لأن أفعال اللّه لا تعلل ، ولعل اللّه تعالى يصرفه لجهة أخرى في الذكر تزيد في قوته ، لأن البشر ليس في طوقه الاطلاع على مكونات اللّه تعالى ، وكيفية(4/233)
ج 4 ، ص : 234
تراكيب مخلوقاته ، ونتائج ما ركبت لأجله ، لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به ، فأوجبت أن يكون مزاج الرجل حارا يابسا ، والأنثى باردا رطبا ، لأن التولد داخل في بدنها فاختصت بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد والاتساع ، وإن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لقلب الدم لبنا ، لأجل غذائه كما كانت في الرحم ، حتى انك إذا بالغت بحلب الدابة خرج لك بالحليب حمرة تثبت لك أنه كان دما ، ولم ينضج منه إلا ما خرج قبل المبالغة في الحلب ، ولا يوجد في الرجل شيء من ذلك لعدم الحاجة إليه :
حكم حارت البرية فيها وحقيق بأنها تحتار
أما من يقول كيف ينقلب الدم لبنا ، فنقول له الذي قلب النطفة البيضاء دما في الرحم قلب الدم الأحمر لبنا أبيض في الضرع ، وهذه النطفة مكونة من الدم ، ولهذا فإن من يكثر الجماع قد ينزل دما.
هذا ، وإذا تدبرت بدائع صنع الإله في هذا وغيره وعجائب مكوناته اضطررت للاعتراف بكمال قدرته ، وتمام حكمته ، وتناهي رحمته بعباده ، وغاية رأفته بهم ، قسرا ، فسبحانه من إله عظيم أوحى إلى حبيبه «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ» لكم عبرة عظيمة وعظة كبيرة أيها الناس «تَتَّخِذُونَ مِنْهُ» من عصير التمر والعنب ثمر النخيل والكرم «سَكَراً» مشروبا يتفكه به كما قال أبو عبيدة ، وخمرا بلغة العرب ، وقال ابن عباس مطعوما يتفكه به ، قال الأخطل :
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا مجرى فيهم المزاء والسكر
والمزاء نوع من الأشربة المسكرة.
قيل إنه نقيع التمر والزبيب إذ طبخا وذهب تلثاهما ، وما لا يسكر من الأنبذة ، لأن اللّه تعالى قد امتنّ على عباده في هذه الآية به ، ولا يقع الامتنان منه إلا بمحلل.
وقال ابن عباس : هو الخلّ بلغة الحبشة ، واستدل على جواز شرب ما دون السكر من النبيذ صاحب ذلك القيل بهذا التأويل ، وعضد استدلاله بما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : قال حرم اللّه الخمر بعينها القليل منها والكثير.
والسكر بضم السين من كل شراب ، أخرجه الدار قطني.(4/234)
ج 4 ، ص : 235
وإلى حل شرب النبيذ إلى ما دون الإسكار ، وذهب إبراهيم النخعي وأبو جعفر والطحاوي وسفيان الثوري ، وأجازه أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف إذا لم يسكر ، أما الخمرة فقليلها وكثيرها حرام ، أسكرت أو لم تسكر.
قال تعالى «وَرِزْقاً حَسَناً» كالتمر والزبيب والعنب والدبس والأشربة المتخذة منهما التي تشرب آنيّا والخل أيضا.
مطلب في السكر ما هو وما يخرج من النحل من العسل وأقسام الوحي :
هذا وفي وصفه تعالى الرزق الحاصل منهما بالحسن يفيد أن السكر غير حسن ، وأن التمييز بين السكر وبين الرزق الحسن في الذكر ، عدّه ، أي السكر غير حسن ، وذلك يدل على التحريم الذي سينزله بعد في القسم المدني ، ولهذا عرض على قبح تناوله لعدم وصفه بالحسن ورمز إلى أن السكر وإن كان مباحا إذ ذاك فهو مما يحسن اجتنابه ، وهذه أول آية نزلت في الخمر على القول بأن المراد بالسكر الخمر ، ولهذا فلا وجه للقول بأن هذه الآية منسوخة ، لأنها ذكرت في معرض تعداد نعم اللّه على عباده ، وكان نزولها بزمن مباح فيه شربها ، لأن التحريم طرأ بصورة تدريجية ، فضلا عن أن السكر يحتمل معاني كثيرة كما مر آنفا ، والنسخ يقتضي أن يكون صريحا لشيء صريح لا يحتمل التأويل والتفسير ، بخلاف ما هنا ، وقد ألمعنا في المقدمة بأن هذه الآية أول آية أنزلت في الخمر مطلقا ، ولم ينزل غيرها في مكة ، وان الآيات الثلاث في البقرة والنساء والمائدة نزلن في المدينة ، وسنوضح هذا البحث في الآيات 220 و43 و94 من السور المذكورة على طريق اللف والنشر المرتب فراجعها «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من النعم «لَآيَةً» باهرة «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 67 أن لهذه الأشياء خالقا مدبرا ومبدعا حكيما.
قال تعالى «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» 68 من شجر الكرم ويسقفونه ويبنون من غيره بيوتا للنحل لتقذف فيها العسل رزقا للخلق «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» ومن أوراقها وأشجارها وتطلق الثمرة على الشجرة «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ» الذي ألهمك أن تسلكها وتدخلي فيها لإخراج العسل «ذُلُلًا» مسخرة منقادة لأربابها عند إرادتهم نقلها من(4/235)
ج 4 ، ص : 236
محل لآخر لتمام الانتفاع بها «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» أبيض وأحمر وأصفر وما بينها بحسب السن والفعل والمرعى ، فالذي تأكله من ذلك يحيله اللّه تعالى في بطونها عملا ، وفي بطون القرّ حريرا ، وفي الغير قذرا ، فتفكروا رحمكم اللّه من غذاء واحد مطعوم وملبوس وسماد ، وكذلك شجر الفواكه تسقى بماء واحد وأرض واحدة وتعطي أنمارا مختلفة حلوا وحامضا ومزا وغير ذلك.
راجع الآية 4 من سورة الرعد في ج 3 ، وفي اختلاف ألوانها عبرة أيضا والمؤثر واحد جلت قدرته ، وقد جعل «فِيهِ» أي الشراب الخارج من بطون النحل «شِفاءٌ لِلنَّاسِ» ال فيه للجنس فيصدق على الواحد والمتعدد لأنه شفاء لبعض الأمراض ، وقد يضر بعضها وحده ، أما إذا مزج بأجزاء أخر ففيه نفع لأكثر الأمراض «إِنَّ فِي ذلِكَ» العسل الخارج من النحل وهو يأكل ما يأكل غيره من الطيور والحيوان «لَآيَةً» عظيمة وعبرة جليلة «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 69 في عجيب صنع المبدع الأعظم.
والمراد بالوحي هنا التسخير ، لأن الوحي أصله الإشارة السريعة ، فيكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض ، ويكون بصوت مجرد ، فما كان من هذا النوع للأنبياء فهو وحي ، وما كان للأولياء فهو إلهام ، وما كان للطير والحيوان والجماد فهو تسخير ، راجع الآية 51 من سورة الشورى المارة تعلم أقسام الوحي وقد أسهبنا بحثه في المقدمة فراجعها.
ومن بدايع الصنع الذي ألهمه اللّه إلى النحل بناء بيوتها على شكن مسدس من أضلاع متساوية ، لا خلل فيها ولا زيادة ولا نقص ، والأعظم من ذلك أنها تبدأ بنائه من طرفه لا من وسطه ، وهذا مما يعجز عنه البشر غالبا ، ومن عجائب القدرة أن لها أميرا نافذ الحكم على أفرادها وهو أكبرها جثة ويسمى يعسوب ، ولها على باب كل خليّة بواب لا يمكن غيرها من الدخول ، وقد ألهمها اللّه تعالى الخروج إلى المرعى والرجوع إلى محلها أينما كان لا تضله أبدا ، وحتى الآن لم يعرف بوجه حقيقي خروج العسل من فمها أو من دبرها ، والآية صالحة لكلا الأمرين ، لأن اللّه تعالى قال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) فالذي يخرج من الفم أو من الدبر يصدق عليه أنه خارج من البطن ، فسبحانه جل كلامه أن يتطرق إليه الخلل كيف وهو تنزيل من حكيم حميد صانه من(4/236)
ج 4 ، ص : 237
طرق الباطل عليه.
واعلم أن النحل على نوعين أهلي يأوي إلى البيوت لا يستوحش من الناس ، ووحشي يأوي للجبال والكهوف والأشجار.
قال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور.
وفي رواية عنه : عليكم بالشفاءين القرآن والعسل.
راجع الآية 82 من سورة الإسراء في ج 1 لتقف على آيات الشفاء كان ابن عمر رضي اللّه عنهما كلما خرجت به قرحة لطخها بالعسل ، وتلا هذه الآية.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه ، فقال رسول اللّه اسقه عسلا ، فسقاه ثم جاء فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال له ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة فقال اسقه عسلا ، فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال رسول اللّه : صدق اللّه وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرىء.
وما قاله بعض الملحدين اعتراضا على هذا الحديث من أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به إسهال ، فهو ناشيء عن جهله وحمقه وقلة عقله وعقيدته ، لأن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخمة والهيضة وغيرهما ، وقد أجمع الأطباء على أن علاج مثلهما يترك إلى الطبيعة أولا ، فإن احتاجت إلى معين أعطي شربة تعينه على تنظيف أمعائه ، فيحتمل أن ذلك الشخص من هذا القبيل ، فكان أمره صلّى اللّه عليه وسلم له بشرب العسل السهل جاريا على قاعدة الطب والأطباء يخبرون على ذلك ، وفيه دليل على حذقه صلّى اللّه عليه وسلم بالطب دون تعليم من أحد ، وفضلا عن هذا فلا يبعد أن حضرة الرسول علم بتعليم اللّه إياه أن شفاء ذلك الرجل يكون بالعسل فكان شفاؤه به على رغم أنف كل معترض ، وهو مما جرّب أيضا ، إلا أن من لا يعنقد به لا ينفعه جزاء وفاقا.
قال تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ» يا ابن آدم وجعل للبثكم في الدنيا أجلا لا تتعدونه «ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ» بحلوله أطفالا وصبيانا وشبابا وكهولا وشيوخا ، يحسب آجالكم المقدرة عنده ، فمنكم من يحتفظ بكمال عقله ورشده إلى وفاته مهما بلغ من العمر «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» الهرم والخوف إذ ينقص منهم القوى ويفسد الحواس ويضعف العقل فيكون حالهم من هذه الحيثية كحال الطفولة ، ومن هنا تصور الردّ إلى أرذل العمر وقد بينه اللّه تعالى بقوله «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» أي(4/237)
ج 4 ، ص : 238
يصير كالصبي الذي لا عقل له بسبب نسيانه ما علمه قبلا فيصير بعد العلم جاهلا والقوة ضعيفا والسمن نحيفا ليربكم اللّه قدرته في أنفسكم ، فلا مجال لتأويل آخر لمعنى الأرذل ، ولا تتقيد هذه الآية والحالة التي يصير إليها الإنسان بسن أو شخص.
ونظير هذه الآية الآية 68 من سورة يس في ج 1 وهي (ومن نعمره ننكه في الخلق) أخرج بن مردويه عن علي كرم اللّه وجهه أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة ، وهو يختلف باختلاف الأمزجة والأمكنة ، فربّ معمر لم تنقص قواه وغير معمر فسدت جوارحه ، والتقيد بالسن مبني على الغالب.
روى البخاري ومسلم عن أنس قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات.
قال :
لا طيب للنفس ما دامت منغّصة لذاته بادكار الشيب والهرم
وهذا يعم المؤمن والكافر ولا وجه لتخصيصه بالكافر ، لأن ظاهر الآية أو الحديث ينافي ذلك التخصيص لمجيئها على الإطلاق ، وقد أوردنا في قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) الآية من سورة والتين المارة في ج 1 أن الصالح قد لا يخرف ، وليس كل صالح نراه هو صالح في الحقيقة ، فكم صالح قد يبتليه اللّه تعالى بأمراض مزمنة لزيادة درجاته في الجنة ، وما جاء عن عكرمة أن من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ليس على إطلاقه لأنا شاهدنا علماء وقراء فلجوا وخرفوا ، ورأينا على العكس من يعمر ويموت بكمال عقله بل وقواه وجوارحه ، وإن شيخنا الشيخ حسين الأزهري مفتي الفرات ومدرسها عاش 127 سنة ولم يفقد من قواه شيئا وخاصة ذاكرته ، تغمده اللّه برحمته التي يختص بها من يشاء ولم نر أورع منه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ» بكل شيء قبل خلقه وما يؤول إليه بعد خلقه وبعد موته «قَدِيرٌ» 70 على تبديل الخلق من حال إلى حال
«وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ» فوسعه علي أناس وضيقه على آخرين ، وكما فضلوا بالرزق فضلوا بالخلق والخلق والعقل والصحة والحسن والعلم والصوت والمعرفة وغير ذلك فهم منقادون إلى ما قدر لهم في الأزل متفاوتون في كثير من الأشياء بمقتضى الحكمة الإلهية ، ولكن «فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ» معطيه ومضيفيه «عَلى ما مَلَكَتْ(4/238)
ج 4 ، ص : 239
أَيْمانُهُمْ»
من الإماء والعبيد لأنهم لا يرضون أن يتساووا معهم فيه طلبا للتفاضل الذي هو غريزة في البشير «فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ» من حيث المعيشة لا من حيث الملكية ، لأنها خاصة بالأسياد ، فإذا كان البشر لا يرضي التساوي مع بعضه ، فكيف أنتم يا أهل مكة تساوى أصنامكم مع اللّه ، والملائكة معه في العبادة وهم عباده ، وكيف يرضى اللّه أن تجعلوا عبيده وخلقه شركاء معه «أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» 71 أولئك الكفرة يأكلون رزقه ويعبدون غيره وينكرون نعمه «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ» أيها الناس «مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» من جنسكم ونوعكم والخطاب يشمل آدم فمن دونه ومن خصصه بآدم نظر إلى أن اللّه خلق زوجته منه ، إلا أن جمع الأنفس والأزواج يأباه ، واستدل بعضهم في هذه الآية على عدم جواز نكاح الجن ، ولفظ الآية يدل على الجنس ، إذ لا يحصل الإنس بغيره ، قال تعالى (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) الآية 21 من الروم الآتية ، وقال تعالى (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) الآية 188 من البقرة في ج 3 ، فيبعد أن يكون من غير جنسه لأن الإنس فيها بعد قضاء الحاجة غير متصور ، «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً» الحافد لغة المسرع في الخدمة المسارع إلى الطاعة ، ومنه قول القانت (وإليك نعى ونحفد) في دعاء القنوت لدى السادة الحنفية ، وشرعا على ولد الولد ، وإنما خص الحفدة لأنهم قد يكونون أحب إليهم من أولادهم ، قال :
ابن ابننا من ابننا نحب الابن تشر الحفيد لب
أخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم على ما قيل أزواج البنات ، ويقال لهم أصهار ، وأنشدوا لذلك :
ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس عليّ أبية عيوني لأصهار اللئام تدور
والأول أولى لأنه الذائع المشهور المتعارف ، «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» مما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات وحسن وزها من اللباس والسكن «أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ» أولئك الكفرة فيقولون إن للّه شريكا وأنه لا يبعث(4/239)
ج 4 ، ص : 240
من يموت «وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ» التي من جملتها الإيمان به ، لأنه من أعظم النعم ، وكل نعمة دونه «هُمْ يَكْفُرُونَ» 72 استفهام تعجب من حالهم القبيح «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً» أي لا يملك شيئا من الرزق البتة «وَلا يَسْتَطِيعُونَ» 73 على شيء أصلا من أسباب الرزق وغيره ، لأنها جماد محتاجة لمن يتعاهدها «فَلا تَضْرِبُوا» أيها الكفار «لِلَّهِ الْأَمْثالَ» بأن تجعلوا له شريكا تعبدونه على عدّه واعتباره شريكا للّه مماثلا له ، وهذه الآية على حد قوله تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) الآية 32 من البقرة في ج 3 ، «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ» بأنه لا مثيل له ولا شريك «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 74 ذلك ولا تعرفون كنه ذاته فلهذا تجاسرتم على ضرب المثل له بما لا يليق بجلاله ولا يناسب عظمة كماله «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ» عاجزا عن كل شيء لا مكاتبا ولا مأذونا ، وإنما خصه اللّه بالمملوكية لا شتراكه هو والحر بالعبودية فميز بينهما في هذا الوصف ، والمراد بالشيء هنا النفقة مما رزق ، وهذا من المبهم ، وهو من بديع الكلام «وَمَنْ» أي رجلا سيدا «رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً» وهو حر قادر على جميع أنواع التصرف بماله وبنفسه وبواسطة غيره «فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ» أي الرزق على الغير «سِرًّا وَجَهْراً» لا يعارضه معارض «هَلْ يَسْتَوُونَ» الأحرار السادة والعبيد المملوكون ؟ كلا لا يستوون ، ولم يقل يستوبان لإرادة الجمع ، ولما نهاهم اللّه عن ضرب الأمثال لقلة علمهم بها ضرب لنفسه مثلا فقال مثلكم في إشراككم الأوثان باللّه الرحمن ، كمثل من سوى بين العبد العاجز المملوك والحر السيد القوي الكريم ، فكما لا يستويان وكذلك لا يستوي الكافر والمؤمن ، مع أنهما في الصورة البشرية سواء ، وإن كان
لا يجوز التسوية بين هؤلاء عندكم فكيف تسوون بين الخالق الرزاق وبين الأوثان العاجزة عن كل شيء ، مع أنه لا يجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال «الْحَمْدُ لِلَّهِ» المستحق الحمد وحده لا أوثانكم «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 75 أن الحمد يختصّ باللّه ويظنون جهلا أن منه لأوثانهم «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ» أخرس ولادة ، (4/240)
ج 4 ، ص : 241
إذ ليس كل أبكم أخرس ولا كل أخرس أبكم «لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ» لعجزه عن كل شيء ، والمراد بالشيء هنا الأمر بالعدل والاستقامة كما يدل عليه عجز الآيات ، وهذا من المبهم «وَهُوَ كَلٌّ» ثقيل «عَلى مَوْلاهُ» سيده الذي يعوله لأنه «أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ» فلا ينجح ولا يفلح ، لأنه لا يفهم ولا يفهم ، أخبروني أيها العقلاء «هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْل ِ»
ذو الرأي والرشد يعلم مرادهم ويحثهم على سلوك الطريق السوي «وَهُوَ» في ذاته ينفع العام والخاص و«عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 76 في أقواله وأفعاله وأحواله لا يوجهه لأمر إلا وقد أنهاه بحنكة وحكمة دون أن تزوده بالوصية ، وفي مثله يقال أرسل حكيما ولا توصه ، فهل يستويان هذا وذاك ؟ كلا ، وهذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لنفسه المقدسة ولما يقيض به على عباده من النعم وللأصنام التي هي جماد لا تنطق ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع مع ثقلها على عابديها لاحتياجها للخدمة والحفظ من التعدي «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده خاص به علم ما يقع ممن فيهما لا يعلمه أحد من خلقه ويعلم زمن انتهائهما ، لا علم لأحد بذلك غيره ، «وَما أَمْرُ السَّاعَةِ» التي يقوم بها الناس من قبورهم ويساقون فيها إلى المحشر «إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ» قدر انفتاح الجفن أو طبقه «أَوْ هُوَ أَقْرَبُ» من ذلك لأن التمثيل بلمح البصر بالنسبة للبشر إذ لا يرون أقل منه حتى يمثوا به ، أما عند اللّه فهو أقل لأن لمح البصر يحتاج إلى حركة ، والحركة لا بدّ أن تأخذ شيئا من الزمن ، وأمر اللّه لا يحتاج لذلك ، لأنه إذا قال لشيء كن كان بين الكاف والنون ، تأمل كيفية إحضار عرش بلقيس في الآية 40 من سورة النمل في ج 1 ، و(أو) هنا مثلها في قوله تعالى (أَوْ يَزِيدُونَ) في الآية 147 من الصافات المارة جريا على
عادة الناس ، ولذلك قال (كلمح بالبصر) ولو كان يوجد لفظ يدل على أدنى من ذلك متعارف بينهم للسرعة لقاله ، ومثل هذا مثل (أف) الواردة في الآية 23 من الإسراء في ج 1 ، فلو كان يوجد لفظ متعارف يدل على أدنى منه في مراتب الضجر لذكره «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 77 في كل ما يتصور وهو قادر على إقامة الساعة حالا ، ثم صرب مثلا على قدرته فقال(4/241)
ج 4 ، ص : 242
«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» البتة لأنكم تولدون على حالة أقل من البهائم إدراكا لا تعرفون معه الحجر من الثمر ، والقرّ من الحر ، والنفع من الضر «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لتعقلوا بها بصورة تدريجية «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 78 اللّه الذي منحكم تلك القوى وقدركم فيها على إزالة الجهل الذي ولدتم عليه وقد ركبها فيكم لتستعملوها لما خلقت له أداء لشكرها ، وتشكروا المنعم بها عليكم ، لا أن تضعوها بغير موضعها وتقابلوها بالكفر ، قال تعالى «أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ» الفضاء الواسع ما بينها وبين الأرض ، وقد يراد به الهواء وجوف السماء ، قالوا إن الطير مهما ارتفع لا يتجاوز اثني عشر ميلا ، إذ ينقطع الهواء فإذا تجاوزت هذا القدر لا تستطيع العوم ولا الوقوف ، وقد تموت بسبب انقطاع الهواء «ما يُمْسِكُهُنَّ» شيء عند قبض أجنحتهن من الوقوع «إِلَّا اللَّهُ» لأنه في حالة نشر أجنحتهن ، يقال إن الهواء يمسكها مع أنه قد لا يوجد هواء ، لان الجو كالأرض مختلف أحواله فكما يوجد في الأرض أودية يوجد في الجو خبن لا هواء فيه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإمساك بدون واسطة «لَآياتٍ» بالغات تدل على كمال القدرة الإلهية «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 79 بها وإنما خصّ المؤمنين لأنهم أهل الاعتبار والانتفاع بآيات اللّه وإسنادها لذاته المقدسة «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» المبنية بالحجر والمدر والخشب وغيره «سَكَناً» تقرون فيه «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً» ومن أشعارها وأوبارها وصوفها خيما وأقبية وأخبية عند ما تريدون التنقل من المرعى والنزهة «تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ» رحيلكم إلى البوادي لرعي أنعامكم «وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ» أيضا في منازلكم إذ لا يهمكم حملها ولا يثقل
عليكم نصبها ونقصها «وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها» جعل لكم أيضا «أَثاثاً» من فرش ، ولباس ، وغرائز لحفظ الألبسة والحبوب ، وبسط وزرابي وغيرها مما تحتاجونه لبيوتكم وأنفسكم «وَمَتاعاً» وأشياء أخرى ، لأن الأثاث يطلق على جميع حوائج البيت ، والمتاع يطلق على ما ينتفع به ويتمتع فيه في البيت خاصة ، ومن قال إن المتاع والأثاث شيء واحد فقد جهل هذا الفرق ، (4/242)
ج 4 ، ص : 243
واللّه أعلم بما يقول ، فلو كانا بمعنى واحد لما أفردهما أي ان اللّه تعالى جعل لكم ذلك لنتمتعوا به «إِلى حِينٍ» 80 مدة مقدرة من الزمن
«وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ» من الأشجار والزروع والمغر والوديان والكهوف «ظِلالًا» تستظلون بها من الحر والقر والمطر والخوف «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً» تسكنون بها ، إذ جعل فيها مداخل وأسرابا لكم ولأنعامكم وحيوانانكم تتقون بها من الثلج والبرد والهواء الشديد بما يكفي للفقير الذي لا بيت له يلتجأ إليه ، أما الغني فعنده الخيام والقساطيط بما يغنيه عن ذلك «وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ» ثيابا وأكسية وقمصانا من القطن والحرير والصوف والوبر لكل بحسبه «تَقِيكُمُ الْحَرَّ» والبرد ، واكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لدلالته عليه ، وإن ما يقي الحر يقي البرد وقدمه بالذكر لأنه الغالب عندهم «وَ» جعل لكم «سَرابِيلَ» أخرى دروعا وجواشن جمع جوشن وهو الصدر في الحديد أو النحاس يلبسه المجاهد على صدره «تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ» هلاككم في الحرب فتمنع وصول قواطع السلاح إلى أجسادكم «كَذلِكَ» مثل ما أتم عليكم نعمة التي بها قواكم «يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» في أمور دينكم ودنياكم حالا ومستقبلا «لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» 81 للّه وتؤمنون به وتخلصون العبادة إليه وتذرون ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرسل بعد تعداد هذه النعم العظيمة المسبغة عليكم ، وقد بلغتهم وأمرتهم ونهيتهم ونصحتهم وقمت بما أمرت به ، فلا تبعة عليك «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 82 الظاهر فمن أطاعك فثواب طاعته لنفسه ، من عصاك فعقاب عصيانه عليها إذ لم تؤمر بقسرهم بعد.
وبعد أن عدد اللّه تعالى هذه النعم العظيمة وأظهر لخلقه عدم تأثرهم مما ذكرهم به قال «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ» التي غمرهم بها بأنها منه «ثُمَّ يُنْكِرُونَها» قولا وفعلا لأنهم ينسبون كسبها لفعلهم وفعل آبائهم الذين ورثوها عنهم «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» 83 بها فلا يستعجلونها لطلب رضائه ولا يعترفون بها أنها منه إلا من لم يبلغ حد التكليف أو من لم تبلغه الدعوة ، أو بلغته ولم يفعلها لنقص في عقله فليس عليه شيء ، أما من يعرفها أنها من اللّه وينكرها عنادا فذلك هو الكافر.
وبعد ان ذمتهم اللّه تعالى(4/243)
ج 4 ، ص : 244
على عدم تقديرهم تلك النعم ، شرع يخوفهم عاقبة أمرهم بذكر أحوال القيامة فقال «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً» نبيا يشهد لهم وعليهم بما عملوا في دنياهم «ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» بإدلاء الحجج هناك والمجادلة والعذر كما كانوا في الدنيا «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» 84 لأن العتاب يطلب لإزالة الوجدة التي في نفس الخصم ليسترضيه ، فعدم طلبه ذلك دليل على بقاء غضبه ، ولا يمكن استرضاء الرب إلا بالتوبة ، ولات هناك توبة ، ولو كانت لما بقي للنار من حاجة ، لأنهم عند ما يساقون للعذاب ويرون أن في التوبة خلاصا يتوبون كلهم «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ» وأدخلوا فيه فلا محل لقبول العذر والاسترضاء «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ» بسبب ذلك «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» 85 لأجله بل يناغتهم ويحيط بهم.
فيا سيد الرسل اذكر لقومك هذا ليتذكروا ويتدبروا من الآن «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ» في الدنيا يوم القيامة في الموقف «قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ» فاسألهم يا رب وخذهم كما أوقعونا في العذاب وانتقم لنا منهم لإغرارهم إيانا بالدنيا بأنهم يشفعون لنا في هذا اليوم ، ولما أسمع اللّه كلام العابدين إلى معبوديهم الذين اشاروا إليهم من الأصنام وغيرها «فَأَلْقَوْا» أجابوهم بصنف حالا دون رؤية وتأمل فرموا وطرحوا «إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ» نبذوه نبذا وهو جملة «إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» 86 بذلك لأنكم لم تعبدونا ولم تشركونا مع اللّه بالعبادة ولم نتعهد لكم بالشفاعة ، ولا يقال إنها جماد لا تنطق لأن اللّه الذي بعثها وأعادها في الآخرة خلق فيها قوة النطق لتكذيب عابديها وترد عليهم «وَأَلْقَوْا» العابدون لما سمعوا منها ذلك «إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ» يوم كذبتهم أوثانهم وتبرأت منهم «السَّلَمَ» الاستسلام لحكم اللّه تعالى إذ أيسوا مما كانوا يرجونه «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» 87 في الدنيا من أنها تشفع لهم ، لأن الأوثان بعد أن ردت عليهم بما ذكر اللّه ولوا عنهم وغابوا لئلا يروهم مرة ثانية كراهية لهم ونفورا منهم «الَّذِينَ كَفَرُوا» بأنفسهم «وَصَدُّوا» غيرهم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فمنعوهم عن الإيمان به «زِدْناهُمْ» بسبب صدهم غيرهم «عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ» الذي استحقوه «بِما كانُوا(4/244)
ج 4 ، ص : 245
يُفْسِدُونَ»
88 غيرهم مرّ ما فيها في الآية 25 المارة فراجعها «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم السابقة «شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» لأن كل نبي
يبعث بلسان قومه ومن قبيلته غدا لوط عليه السلام فإنه ليس منهم ولكن لما تزوج منهم وقطن معهم عد منهم أو أنه من باب التغليب «وَجِئْنا بِكَ» يا أكرم الرسل «شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» أمتك من قريش وغيرهم بما كان منهم وجاءت هذه الآية بمعنى التكرار للآية 84 المارة قبلها والتأكيد للآية 36 المارة أيضا تشديدا للتهديد وزيادة في الوعيد ليذكر قومه فيها وينبههم للتيقظ لعاقبتها «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» من الحدود والأحكام والحلال والحرام والقصص والأخبار «وَهُدىً» من الضلال «وَرَحْمَةً» للناس المخبتين لأوامره ونواهيه وحرمانا للكفرة المفرطين به المهملين ما فيه «وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» 89 خاصة بالجنة «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» بين الناس وإليهم «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى » بما يمكن من الصلة إليهم بحسب الطاقة ، قال عليه الصلاة والسلام بلوا أرحامكم ولو بالسلام «وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» التطاول على الناس ظلما «يَعِظُكُمْ» ربكم أيها الناس بما ينفعكم فى الدنيا والآخرة ، فعظوا أنفسكم به وغيركم بالحسنى «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» 90 بها فتحصدون ثمرها.
مطلب أجمع آية في القرآن وما قاله ابن عباس لمن سب عليا وما قاله العباس رضي اللّه عنهم وفي العهود :
وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر ، ولذلك اعتاد الخطباء قراءتها على المنابر يوم الجملة لأنها عظة جامعة للمأثورات والمنهيّات ، قالوا إن أول من قرأها على المنبر الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه ، وهو الذي منع سبب سيدنا علي كرم اللّه وجهه على المنبر الذي اعتاده من قبله من ملوك الأمويين عليهم ما يستحقونه من اللّه إذا كان وقع منهم ذلك ، فيكون رضي اللّه عنه قد أبدل الشر بالخير كما أبدل حضرة الرسول الكفر بالإيمان ، قال عبد اللّه بن عباس : مررت بقوم يسبون عليا وكان معي العباس فقال لي خذني إليهم فلما أوقفته عليهم ، قال لهم أيكم السابّ للّه ؟ قالوا لا أحد ، قال أيكم الساب لرسول اللّه ؟ قالوا لا أحد ، قال أيكم الساب(4/245)
ج 4 ، ص : 246
لعلي ؟ قالوا أما هذا فقد وقع ، فقال إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : من سب عليا فقد سبّني ، ومن سبني فقد سبّ اللّه تعالى ، ومن سب اللّه فقد كفر.
ثم تركهم وأدبرنا ، فقال لي كيف رأيتهم حينما سمعوا ما قلت ؟ فقلت له يا أبت :
نظروا إليك بأعين محمرة نظر الذليل إلى العزيز القاهر
فقال زدني يا بني ، فقلت :
زرق الوجوه مصفرة ألوانهم نظر التيوس إلى شفار الجازر
فقال زدني ، فقلت :
أحياؤهم تنعى على أمواتهم ومسبة أمواتهم للغابر
فقال لا فض اللّه فاك يا بني.
الحكم الشرعي : اختلف العلماء رحمهم اللّه في حكم من سب الصحابي على أقوال أصحها أنه يفسق ، والحديث على فرض صحته جار مجرى التهديد.
قال بعض أهل العلم : لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لكفت في كونه تبيانا لكل شيء.
وقال أهل المعاني ما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
وقال بعض أهل العلم إن اللّه تعالى جمع في هذه الآية ثلاثا من المأمورات وثلاثا من المنهيات : ذكر العدل وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال ، وقابله بالفحشاء وهي أقبح شيء من الأقوال والأفعال ، وذكر الإحسان وهو أن تعفوا عمن ظلمك ، وتحسن لمن أساء إليك ، وتصل من قطعك وأرحامك والفقراء والمساكين ، وقابله بالمنكر وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك ، وتسيء لغيرك ، وذكر إيتاء القربى وهو التودد إليهم والشفقة والإنفاق عليهم ، وقابله بالبغي وهو التكبر عليهم وظلمهم حقوقهم وقطيعتهم ، راجع الآية 32 من الأعراف والآية 36 من الإسراء في ج 1 تجد ما يتعلق بهذا مستوفيا.
روى عكرمة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له يا ابن أخي أعد علي ، فأعادها فقال له الوليد واللّه إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر.
وأخرج البارودي وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال : بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فأراد أن يأتيه ، فأتى قومه(4/246)
ج 4 ، ص : 247
فانتدب رجلين ، فأتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال نحن رسل أكثم يسألك من أنت وما جئت به ؟ فقال أنا محمد بن عبد اللّه عبد اللّه ورسوله ، ثم تلا عليهم هذه الآية ، قالوا ردد علينا هذا القول ، فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوها ، فأتيا أكثم ، فأخبراه ، فلما سمع الآية قال إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهي عن مذامها ، فكونوا في هذا الأمر رأسا ، ولا تكونوا فيه أذنابا ، عرض عليهم بكلامه هذا طلبا لأن يكونوا أول أتباعه لئلا يسبقهم أحد فيتقدم عليهم لدى محمد صلّى اللّه عليه وسلم ودينه.
وأخرج الطبراني وأحمد والبخاري في الأدب عن ابن عباس أن هذه الآية صارت سببا لاستقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبّته للنبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره ، فقال أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع ، أي بموضعها هذا من هذه السورة.
وهذا يؤذن بأن نزولها كان متأخرا عنها ، وهذا مغزى ما ذكرناه في المقدمة ، وفي الآية 100 من سورة الكهف المارة.
قال تعالى «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» أحدا باسم اللّه تعالى ، لأنه من آكد الحقوق ، وقدمنا ما يتعلق بالعهود في الآية 34 من سورة الإسراء فراجعها.
الحكم الشرعي : وجوب الوفاء به إذا كان فيه صلاحا ، وإلا فلا ، قال صلّى اللّه عليه وسلم :
من خلف يمينا ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
لأن العهد يمين وكفارته كفارة يمين وهذا من العام المخصص بالسنة ، قالوا إن هذه الآية نزلت في الذين بايعوا حضرة الرسول في الموسم قبل الهجرة ، وسيأتي بيانها إن شاء اللّه في الآية 10 من سورة الممتحنة والفتح في ج 3 ، وبعد أن أمر اللّه تعالى بإيفاء العهد نهى عن النكث فيه فقال «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها» باسم اللّه تعالى فتحنثوا ، وكيف يليق بكم ذلك «وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا» على الوفاء به وهو الشهيد على كل شيء «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» 91 من الوفاء والبر والنقض والحنث ، ثم ضرب اللّه مثلا لنقض العهد فقال «وَلا تَكُونُوا» أيها المعاهدون المؤكدون عهودكم بالأيمان «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ» في إبرامه وإحكامه وجملة (من بعد قوة) معترضة بين ما قبلها(4/247)
ج 4 ، ص : 248
وقوله تعالى «أَنْكاثاً» طاقات الخبوط المنقوضة بعد الغزل أو القتل «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا» دغلا وخيانة وخديعة بأن تظهروا الوفاء وتبطنوا النقض ، وهذا هو معنى الدخل ، لأنه الذي يدخل بالشيء على طريق الإفساد بسبب «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى » أكثر عددا وأوفر مالا «مِنْ أُمَّةٍ» أخرى وذلك أن الناس في الجاهلية كانوا يحالفون الخلفاء ، فإذا وجدوا قوما أقوياء أكثر منهم وأعز نقضوا عهدهم معهم وحالفوا الأكثر عددا والأعز مكانة ، فذم اللّه تعالى صنيعهم هذا وقال «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» أي الوفاء بالعهد ويختبركم لينظر أتتمسكون بعهدكم وما وكدتموه بالإيمان من بيعة الرسول أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم فتنقضونه كما كان يفعله من قبلكم «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» 92 في الدنيا فيثيب المحق ويعاقب المبطل «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وقطع مادة الاختلاف «وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 93 من خير أو شر ثم كرر ما بمعنى الآية الأولى تأكيدا وتهديدا وإعلاما بعظم نقض العهد فقال «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» أيها الناس الحذر الحذر من هذا «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها» تزلق أقدامكم عن محجة الإسلام والإيمان بعد أن ثبتها اللّه فيهما بتوفيقكم إليهما وتعرضوا أنفسكم لما تكرهون «وَتَذُوقُوا السُّوءَ» في الدنيا بذم الناس «بِما صَدَدْتُمْ» غيركم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» لأن من نقض العهد فقد علّم غيره نقضه فكأنه صده عن الوفاء به «وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 94 في الآخرة جزاء عملكم ذلك ، ثم أكد ثالثا فقال «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ» الذي عاهدتم به رسوله عليه ، لأنه هو المقصود في هذا الكون كلّه المطلوب بأن
تنقاد له الخلق أجمع ويوقى له بما يريده منهم ، لأن هذه المعاهدة هي التي سببت الهجرة إلى المدينة إذ جعلت لهم أصحابا فيها ، فكذلك أكد اللّه تعالى عليها هذه التأكيدات لإيجاب الإيفاء بها ، وهكذا كل عهد لعموم لفظ الآية ، وإياكم أيها الناس أن تأخذوا لقاء نقضه «ثَمَناً» ثم وصف هذا الثمن بكونه «قَلِيلًا» لأنه مهما كثر فهو قليل بنسبة نقض العهد الذي لا يقابله ثمن لما يترتب عليه من(4/248)
ج 4 ، ص : 249
الخزي والعار في الدنيا والعذاب والعقاب في الآخرة ، وبالنسبة لما يترتب على الوفاء به من المدح في الدنيا والثواب في الآخرة «إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ» من الأجر العظيم على الوفاء بالعهد «هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» مما تتعجلون أخذه من حطام الدنيا على نقضه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 95 ماهية العوضين وعاقبتهما في الدارين ، واعلموا أيها الناس أن «ما عِنْدَكُمْ» من متاع الدنيا جميعه «يَنْفَدُ» يفنى فيها لا تأخذون معكم منه شيئا للآخرة إلا وباله «وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» لكم ثوابه لا يقنى ويصحبكم في الآخرة ، لأن من أخذ مالا على نقض العهد فقد فضل ما عنده البالي الذي يحمل ورزه في الآخرة على ما عند اللّه الباقي أجره المضاعف خيره في الدار الدائمة.
روى أبو موسى الأشعري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال :
من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا» على ضراء العهد والبر بأيمانهم والمحافظة على وعودهم «أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» 96 في الدنيا فنعطيهم بمقابلة الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الأحسن منها «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» في دنياه من وفاء العهد وغيره «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ» لأن من لا إيمان له لا ثواب له في الآخرة ، لأن اللّه تعالى يكافئه على عمله الصالح في دنياه حتى يلقى اللّه وليس له عنده شيء من الخير : فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ، بعيش رغيد وجاء مديد ومال ولد وصحة وقناعة وأمن مماة حياته مع زوجة صالحة وإخوان صالحين حتى يلقى اللّه راضيا مرضيا «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» 97 وهذا وعد حق من اللّه الحق ، واللّه لا يخلف وعده.
واعلم أن هذه الآيات وإن كانت نزلت في الذين عاهدوا حضرة الرسول أوّل معاهدة عاهدها الناس له فهي عامة في كل عهد حق فيه صلاح ، لأن نزولها في الجماعة الذين عاهدوا حضرة الرسول في الموسم في 8 محرم الحرام سنة 52 من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة لا يخصصها أو يقيدها بها ، بل هي عامة ، راجع الآية 113 من آل عمران في ج 3 تجد تفصيل هذه المعاهدة إن شاء اللّه ، وإنما أخرناها عن موقعها هنا لما رأينا أن ذكرها هناك أكثر مناسبة ، ومن اللّه التوفيق.(4/249)
ج 4 ، ص : 250
ثم التفت جل جلاله إلى حبيبه فخاطبه بقوله «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ» أيها الإنسان الكامل «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» 98 وهذا الخطاب شامل لجميع الأمة ، وقدمنا في المقدمة ما يتعلق بالاستعاذة فراجعها ففيه كفاية «إِنَّهُ» الشيطان «لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ» ولا قدرة «عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» لضعف كيده وقوة يقينهم «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 99 بدفع وساوسه والتغلب عليه «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ» ويتخذونه وليا من دون اللّه ويركنون لدسائسه «وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ» بإغوائه ووساوسه وإغرائه «مُشْرِكُونَ» 100 باللّه غيره ولما قال المشركون إن محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ما هو إلا مفتر يتقول من تلقاء نفسه ، وذلك حينما يسمعون آية لين بعد آية شدة ، وهذا هو المراد واللّه أعلم بهذا التبديل المزعوم من قبلهم مثل ذكر العفو بعد القصاص ، وكظم الغيظ بعد الأمر بالمقابلة ، والفطر بالسفر بعد الأمر بالصيام وهكذا ، ومنه تبديل الكعبة عن بيت المقدس في التوجه بالصلاة أنزل اللّه
«وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ» لحكمة نراها ، وهذا معنى قوله «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ» وهذه جملة اعتراضية فيها توبيخ للكفرة وتنبيه على فساد رأيهم جاءت بين صدر هذه الآية وبين قوله تعالى «قالُوا» كفار قريش يا محمد «إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» بما تسنده لربك وإنك تقول اختلافا من نفسك ، قال تعالى ردا عليهم «بَلْ» هو من عندنا ليس من قبل محمد و«أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 101 فائدة هذا التبديل وما يترتب عليه من المصالح ، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في المقدمة ، وله صلة ستأتي في الآية 107 من سورة البقرة ج 3 إن شاء اللّه.
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة المعترضين علينا رجما بالغيب المتهمين جنابك بالافتراء إن ما نتلوه عليكم «نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام وأضيف إلى القدس أي الطهر كإضافة حاتم الجود وطلحة الخير إضافة بيانية ، أي الروح المقدس «مِنْ رَبِّكَ» نزل به عليك «بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ» به «الَّذِينَ آمَنُوا» على إيمانهم فيزدادوا يقينا به «وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» 102 وفي هذه الجملة تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغير المسلمين ، واعلم أن من قال بعدم(4/250)
ج 4 ، ص : 251
وجود النسخ في القرآن كأبي مسلم الأصفهاني وغيره ممن ذكرناه في بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة قال إن هذا التبديل المشار إليه في هذه الآية هو لبعض الأحكام المبينة في التوراة وغيرها من الكتب القديمة ، وهو من سنة اللّه القائل على لسان رسوله عيسى بن مريم (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الآية 51 من آل عمران الآتية في ج 3 والآية 44 من سورة الزخرف المارة.
ومن قال بالنسخ قال هو كتبديل استقبال القبلة بالكعبة وما يضاهي ذلك.
قال تعالى «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ» فيما بينهم «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» نزلت هذه الآية عند ما قال المشركون بعضهم لبعض إن محمدا يتعلم ما يتلوه علينا من القصص والأخبار من آدمي مثله ، وليس هو كما يزعم أنه من عند اللّه ، واختلفوا في الذي يتعلم منه ، فمنهم من قال إنه عايش غلام حويطب ، ومنهم من قال جبر غلام رومي لعامر الحضرمي ، ومنهم من قال إنه بسار ، ومنهم من قال إنه سلمان الفارسي أو عداس غلام عتبة بن ربيعة ، أو بلعام غلام أيضا ، لأنهم كلهم يقرءون ، سبب هذه النسبة أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا آذاه المشركون قعد لأحدهم يسمع منه شيئا من القرآن ليستميلهم إلى الإيمان ، لأنهم أهل كتاب يعرفون ما جاء في كتبهم مما هو موافق لما جاء في القرآن ، وذلك ترويجا للنفس وتسلية لما أهمه من أمر قومه وما يتهمونه به ، فكذبهم اللّه تعالى بقوله «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ» يميلون عليه ويشيرون «إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ» والأعجمي وإن سكن في البادية والحاضرة العربية يعجز أن يتكلم بفصاحة العرب ، فضلا عن بلاغة القرآن الذي عجز عن مباراته فصحاء العرب الذين ينزل بلغتهم ، وهؤلاء العبيد ليسوا بعرب ولا فصحاء فيستحيل عليهم التكلم بالعربية الفصيحة «وَهذا» القرآن الذي نتلوه عليك يا سيد الرسل هو «لِسانُ» واضح فصيح بليغ «عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» 103 يستحيل على جميع الناس النطق بمثله وإذا استحال عليهم النطق به فمن باب أولى أن يستحيل عليهم تعليمه أو الإتيان بمثله فثبت بهذا البرهان أن الذي جاء به محمد هو وحي إلهي ليس من نفسه ولا من تعليم الغير.
وقال بعض العلماء المراد باللسان هو القرآن نفسه لأنه يطلق على القصيدة والكلمة ، قال الشاعر : لسان السوء تهديه إلينا.(4/251)
ج 4 ، ص : 252
أي كلام السوء وليس بشيء لمخالفته الظاهر.
واعلم يا محمد أن هؤلاء المتقوّلين ضلّال لا يؤمنون بآيات اللّه و«إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ» لفهمها بالدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 104 في الآخرة ، ثم أشار إليهم بأن محمدا لا يفتري الكذب بقوله «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ» الكفرة «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله «وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ» 105 ومحمد براء ومعصوم مما يتهمونه به.
مطلب في الكفر تضية ، والكذب والأخذ بالرخصة تارة وبالعزيمة أخرى ، والتعويض للهجرة ثالثا.
واعلم أن الكذب من الكبائر لأنه إيجاد ما لم يوجد ، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد اللّه بن جرار قال : قلت يا رسول اللّه المؤمن يزني ؟ قال قد يكون ذلك ، قلت المؤمن يسرق ؟ قال قد يكون ذلك ، قلت المؤمن بكذب ؟ قال لا ، قال تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي) إلخ.
«مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» مختارا طائعا وجب قتله في الدنيا وفي الآخرة هو خالد في جهنم «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ» على كلمة الكفر من شخص يتحقق إيقاع الضرر منه فأجرى كلمه الكفر على لسانه تقية كما تجوز موالاة الكفرة تقية على ما يأتي في الآية 39 من آل عمران في ج 3 ، لأن التوسل لخلاص النفس بلفظ الكفر ظاهرا «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» فلا وزر عليه لأنها رخصة من اللّه تعالى أعتق بها نفسه ، وقد تفضل اللّه تعالى على عباده بها واللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، فإذا قبلها وأخذ بها فلا بأس عليه ، وإذا لم يقبلها ولم يأخذ بها وأبى أن يكفر وقتل من أجل إيمانه فقد أخذ بالعزيمة ولا وزر عليه بل يثاب ، لأن الأفضل في مثل هذا أن يؤخذ بالعزيمة لا بالرخصة ، لاحتمال عدم القتل ، لأن بلالا وصهيبا وخبابا وسالما أوذوا بالضرب والحرق بالنار وألبسوا أدراع الحديد ووضعوا بحر الشمس في تلك البلاد الحارة ، وقد وضعت عليهم الأحجار الحارة لإجبارهم على الكفر ، فصبروا ولم يكفروا بلسانهم ، ثم تركوا ولم يقتلوا وفازوا بخير الدارين ، أما من أكره على شرب الخمر أو أكل لحم الميتة أو الخنزير ومما هو دون المكفرات كالربى والقمار(4/252)
ج 4 ، ص : 253
فليس له أن يأخذ بالعزيمة بل يجب عليه الأخذ بالرخصة ، وإذا قتل ولم يأخذ بالرخصة فهو آثم ، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك.
«وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» والعياذ باللّه بعد أن كفر بلسانه وطابت نفسه به وبقي عليه «فَعَلَيْهِمْ» أي الكافرين وجمع الضمير باعتبار معنى من «غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ» في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 106 في الآخرة «ذلِكَ» الغضب والعذاب «بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا» وزخارفها وآثروها «عَلَى الْآخِرَةِ» وكفروا بطوعهم واختيارهم «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» 107 ولا يوفقهم للرشد والإيمان «أُولئِكَ» الذين استحبوا الكفر على الإيمان هم «الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» فلم يجعلهم ينتفعون بها لأنهم صرفوها إلى غير ما خلقت لها «وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» 108 عن اللّه وعما يراد بهم المتوغلون في الغفلة الكاملة ، لأن الغفلة عن تدبير العواقب هي غاية في الغفلة ونهاية في اللهو «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» 109 حقا لأنهم ضيعوا رءوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما يفضي للخلود بالنار وللّه در القائل :
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير ما وجب
هذا ولما أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية وعذبوهم ليرجعوا عن الإيمان باللّه فأبي ياسر وسمية فقتلوهما وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام لمرضاة اللّه ، رحمهما اللّه رحمه واسعة ، ووافقهم عمار على ما شاءوا من كلمات الكفر بلسانه بعد أن شاهد قتل أبويه فأخبر محمد صلّى اللّه عليه وسلم بذلك فقال كلا إن عمارا ممتلىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فجاء وهو يبكي ، فقال ما وراءك ؟ قال شرّ ، نلت منك يا رسول اللّه أي أنه تكلم فيه مثل ما أراد الكفرة منه بسبب تعذيبه بعد قتل أبويه ، قال كيف وجدت قلبك ؟ قال مطمئنا بالإيمان ، فجعل يمسح عينيه وقال إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، فنزلت هذه الآيات.
وهي عامة في كل من هذا شأنه ، لأن نزولها فيمن ذكر لا يقيدها ، وإن المكره على الكفر ليس بكافر ، وقد استثنى المكره بالآية إذ ظهر منه ما شابه ما يظهر من الكافر طوعا.
قال تعالى «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا» فرارا بدينهم إلى ديار غير ديارهم(4/253)
ج 4 ، ص : 254
«مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا» عذبوا وأوذوا من أجل إيمانهم باللّه «ثُمَّ جاهَدُوا» أنفسهم على التثبت بإيمانهم «وَصَبَرُوا» على ما نالهم من أذى المشركين ومر الغربة وذلّها «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها» أي الفتنة التي ألجأتهم إلى الكلام بما ينافي الإسلام تقية ، خشية القتل «لَغَفُورٌ» لهم على ما صدر منهم بالنظر لما وقر في قلوبهم «رَحِيمٌ» 110 بهم لا يؤاخذهم على ما وقع منهم حالة الإكراه ، وهذه الآية نزلت في عياش بن ربيعة أخي أبى جهل من الرضاع وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد اللّه بن أسيد الثقفي ، حينما عذبهم المشركون على إيمانهم ، فأعطوهم من الكلام القبيح ما أرادوا ليسلموا من شرهم ، ثم أعلنوا إيمانهم وهاجروا من مكة ، وبعد عودتهم من الهجرة بعد نزول آية السيف في المدينة جاهدوا مع المؤمنين أعداءهم الكفرة ، وبما أن الجهاد متأخر عن زمن هجرتهم عبّر اللّه تعالى عنه بثم المفيدة للتراخي ، وهؤلاء الذوات محميون بحماية اللّه تعالى بدليل قوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ) إلخ ، ومن كان اللّه له فلا يبالي من شيء ، لأنه وليه وناصره ، وهذه الآية الثالثة التي يعرض اللّه تعالى بها لنبيه في الهجرة ليتريض إليها ويمرن نفسه عليها.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في عبد اللّه بن أبي سرح الذي ارتد بعد إسلامه كما أشرنا إليه في الآية 193 من الأنعام المارة ، وأنه عند فتح مكة شرفها اللّه استجار بعثمان لأنه أخوه لأمه وقبل إسلامه ، فقيل ضعيف ، لا يكاد يصح ، إلا إذا كانت الآية مدنية ، والقول بمدنيتها أضعف من القول في نزولها فيه ، لأن هذه السورة مكية ولم يستثنى منها إلا الآيات الثلاث الأخيرات على قول الجمهور ، لهذا فلا يلتفت إلى غير ما ذكرناه.
قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرسل «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها» وتدافع وتخاصم عنها ، ونفس الشيء عينه وذاته ، فالنفس الأولى جملة الإنسان ، والثانية عينه وذاته ، فكأنه قيل كل إنسان يجادل عن ذاته لا عن غيره مهما كان قريبا له وحبيبا ، لأن انشغاله بنفسه في ذلك الوقت العصيب ينسيه قريبه وحبيبه لعظم ما يشاهد ويلاقي من الهول ، فيقول الكافر أضلنا كبراؤنا وأطعنا ساداتنا ما كنا مشركين وما حرمنا ولا حللنا من شيء فيتشبثون بكل ما يمكنهم من طرق الدفاع(4/254)
ج 4 ، ص : 255
ليتخلصوا مما حل بهم ، ولات حين خلاص ، وهذه الآية لا تنافي الآية 84 المارة وهي (ثم لا يؤذن للذين كفروا) إلخ ، لأن يوم القيامة يوم طويل شديد الهول تختلف فيه أحوال الناس فترى الكفرة مرة لا يؤذن لهم بالكلام ، وأخرى يبكون وتارة يجادلون ، وطورا يحاورون شركاءهم وأوثانهم «وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها لا يغير عقابها كلام ولا جدال «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 111 شيئا بل يجازون على الخير بأحسن منه وعلى الشر بمثله.
مطلب في ضرب المثل وبيان القوية وعظيم فضل اللّه على عباده :
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً» واسعا كافيا يبسر وسهولة «مِنْ كُلِّ مَكانٍ» كقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ) الآية 56 من سورة القصص المارة في ج 1 ، بدعوة ابراهيم عليه السلام الواردة بالآية 156 من البقرة في ج 3 ، لأن المراد بالقرية مكة «فَكَفَرَتْ» أهاليها وسكانها «بِأَنْعُمِ اللَّهِ» المترادفة عليها ولم تشكرها وتقدرها «فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ» الإذاقة جارية عند أهل المعاني مجرى الحقيقة لشيوعها فيما يمس الناس من البلايا والشدائد ، فيقولون ذاق فلان الضر وأذاقه العذاب ، يشبهون ما يدرك الإنسان من أثر الضرر بما يدركه من طعم المرّ قال :
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
وشبهوا اللباس به لاشتماله على الملابس ، ولما كان الواقع عبارة عما يغشى الإنسان فكأنه قال فأذاقهم ما غشيهم من «الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» جزاء «بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» 112 لم يقل صنعت لأن المراد أهل القرية كما ذكرنا.
واعلم أن المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوّره بصورة أوضح منه وهنا بين المشبّه وهو القرية ، ولم يذكر المشبّه به لوضوحه عند المخاطبين ولأن ذكر المشبه به غير لازم ، لأنه إما أن يراد بها قرية محققة أو مقدرة وحذفه في علم البلاغة في مثل هذا جائز ، وذلك أن أهل مكة كانوا في أمن وطمأنينة وخصب عيش ، قال تعالى (أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الآية 60 من سورة العنكبوت الآتية والمراد من(4/255)
ج 4 ، ص : 256
قولهم مطمئنة عدم احتياج أهلها للانتقال فقد تدل على ملاك الأمر ، إذ قال العقلاء :
(ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية) وبعد الإنعام عليهم بهذه الثلاثة أنعم اللّه عليهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فكفروا به وكذبوه وآذوه وأرادوا قتله ، فأمره اللّه تعالى بالهجرة عنهم وسلط عليهم بعد هجرته البلاء والشدة والجوع والخوف بسبب تكذيبهم له وإرادة إخراجهم إياه من بلده حينما حاكوا المكر فيه ، كماه سيأتي تفصيله في الآية الأخيرة من سورة المطففين في بحث الهجرة.
وما قاله الحسن من أن هذه الآية مدنية وأن المراد بالقرية هي المدينة تحذيرا لأهلها مما أصاب أهل مكة قول مخالف لجمهور العلماء والمفسرين يؤيده قوله تعالى «وَلَقَدْ جاءَهُمْ» أي أهل مكة «رَسُولٌ مِنْهُمْ» يعرفون مكانته قبل النبوة «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» في الدنيا بالجوع والقتل والأسر والخوف والجلاء «وَهُمْ ظالِمُونَ» 113 أنفسهم وغيرهم بالكفر.
قال تعالى «فَكُلُوا» أيها الناس «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً» وذروا ما تفترون من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغيرها راجع الآية 130 من سورة المائدة في ج 3 في تفسيرها ، «وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ» عليكم «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» 114 تخصونه وحده بالعبادة «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» لأنها كلها تضر بأبدانكم وتختطف صحتكم وتوقعكم في الأمراض القتالة ، وقد اكتشف الأطباء في عصرنا هذا وجود دودة قتالة في الخنزير سموها (ترنجيويس) وأجمعوا على أنها لا تموت بالطبخ بل تنتقل لآكل لحمه وتعيش في المعدة وتميت آكلها ، ولذا منعوا أكله قبل المعاينة ، حتى ان الأمير كيين هجروه بتاتا كما يقال ، إلا أنهم قد هجروا الخمر قبلا ثم عادوا إليه ، وفضلا عن هذا ، فإن أكله يورث الجذام ويقلل الغيرة ، ومنه يعلم أن اللّه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا وصيانة وجودنا وعقلنا من الخلل «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» وفي الآية 4 من سورة المائدة الآتية (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وهي بمعناها «فَمَنِ اضْطُرَّ» لأكل شيء من ذلك «غَيْرَ باغٍ» على الناس «وَلا عادٍ» على نفسه «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 115 بهؤلاء المضطرين وسنأتي على تفسير هذه الآية بصورة مفصلة واضحة وبيان مضار هذه(4/256)
ج 4 ، ص : 257
المحرمات مع بيان الحكم الشرعي فيها في الآية المذكورة من سورة المائدة ج 3 إن شاء اللّه ، وقدمنا بعض ما يتعلق فيها في الآية 145 من سورة الأنعام المارة فراجعها «وَلا تَقُولُوا» أيها الناس «لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» من تلقاء أنفسكم لأن التحليل والتحريم من خصائص اللّه تعالى ، وذلك أنهم كانوا يحللون ويحرمون برأيهم وينسبونه إلى اللّه تعالى ، كما تقدم في الآية 138 من سورة الأنعام المارة.
يدل على هذا قوله جل قوله «لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» 116 بل يخيبون ويخسرون ، وان متاعهم في هذه الدنيا وما هم عليه «مَتاعٌ قَلِيلٌ» لأن الدنيا مهما طال أمدها فهي قليلة ، ولا تطمئن النفس الزكية إليها لتوقع المصائب والفتن والشحناء بين أهلها عداوة وبغضاء من أجل حطامها الزائل ، وأشد ما يكون إذا وقع بين الأقارب ، وفلما ترى المتصافين فيها للّه ، قال :
والمرء يخشى من أبيه وأمه ويخونه فيها أخوه وحاره
فإذا كان أقرب وأحب الناس إلى الرجل فيها يخافهم ويخشهم فتبا لهم من دار وسحقا لها من إقامة ، هذا ما يلاقونه في الدنيا ، وأما في الآخرة فيقول اللّه تعالى «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 117 لا تطيقه قواهم «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» هو ما تقدم في الآية 146 من الأنعام المارة ، «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 118 بتحريم أشياء على أنفسهم لم يحرمها اللّه كلحوم الإبل وغيرها ، قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) الآية 160 من النساء في ج 3 ، «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ» كلمة جامعة لكل قبح «بِجَهالَةٍ» غير متدبرين عاقبته ولا معاندين اللّه فيه عصيانا عليه ، وإنما بسبب غلبة شهوتهم الناشئة عن الجهل قال :
وما كانت ذنوبي عن عناد ولكن بالشقا حكم القضاء
«ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الذي عملوه من السوء وندموا وتابوا توبة نصوحا ، يدل عليه قوله تعالى «وَأَصْلَحُوا» أنفسهم واستقامت أحوالهم «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها» أي التوبة «لَغَفُورٌ» لما سبق منهم «رَحِيمٌ» 119(4/257)
ج 4 ، ص : 258
بهم تشير هذه الآية إلى عظيم فضل اللّه ، وجليل رحمته ، وكبر كرمه ، وسعة مغفرته ، وكثرة لطفه على عباده وعطفه عليهم إذ تكفل لمن هذا شأنه بالعفو ، ومن كان اللّه كفيله فهو تاج رابح ، وتقدم ما يتعلق بعظيم فضل اللّه وعفوه في الآية 160 من الأنعام المارة ، وفيها ما يرشدك إلى المواقع المتعلق بها هذا البحث فراجعها.
ونظير هذه الآية الآية 17 من سورة النساء في ج 3 ، «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» لاجتماع صفات الكمال والخير فيه وتلبسه بالأخلاق الحميدة ، وهذه الصفات قد لا توجد في شخص واحد ولهذا سماه اللّه أمة :
وليس على اللّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
ولأنه كان وحده مؤمنا باللّه والناس كلهم كافرون ، ومن هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل يبعثه اللّه أمة وحده.
لمفارقته الجاهلية وما كانت عليه من عبادة الأوثان وهي جارية مجرى كلام العرب.
يقولون فلان رحمة وفلان نسّابة ، إذا كان متناهيا في المعنى الموصوف به «قانِتاً» خاضعا مطيعا «لِلَّهِ» وحده «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين إلى دين الإسلام ، وهو أول من اختتن وضحى وأقام مناسك الحج «وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 120 قط لأنه من صفره نشأ على التوحيد فكان مؤمنا باللّه مخلصا له وكان في جميع أحواله
«شاكِراً لِأَنْعُمِهِ» كلها التي منها توفيقه للإيمان ونصرته على عدوه بالحجة الدامغة وانجاؤه من النار ، ولهذه الخصال الكريمة «اجْتَباهُ» ربه للنبوة وشرفه بالرسالة واصطفاه للخلة «وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 221 في أقواله وأفعاله ووفقه لدين الإسلام وطريقه القويم «وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن جعلنا ذكره فيها دائما مثمرا حسنا عند كل ملة وأمة ، فلا تجد قوما إلا ويعرفوه بفضله ويذكرونه بالخير ، هكذا كان عليه الصلاة والسلام في الدنيا «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» 122 للقاء اللّه ولأعلى مقامات الجنة «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل في هذا القرآن الكريم «أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 123 لأن ملته ودينه هو الحق وكل محق يدين بدينه ، وقيل في هذا :
كل يدين بدين الحق لو فطنوا وليس دين لغير الحق مشروع(4/258)
ج 4 ، ص : 259
ولا تكرار في هذه الآية ، لأن الأولى تتضمن أنها سجيته عليه السلام ، وهذه يأمر اللّه بها حبيبه محمدا بأن يسلك طريقة جده إبراهيم ، وفيها ردّ صريح على العرب وغيرهم الحاضرين والسالفين القائلين إنه كان مشركا ، لأنها جاءت نافية عنه مادة الشرك منذ نشأته كما أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا كما زعم اليهود والنصارى ، راجع الآية 67 من آل عمران ج 3 ، ولذلك كان صلّى اللّه عليه وسلم يتعبد على شريعته ويتدين بدينه الذي ألهمه اللّه إياه إلى أن كمل اللّه له شريعته الناسخة لكل الشرائع والموافقة لكل عنصر وعصر إلى آخر الدوران ليقتدي بها وبأمر أمته باتباعها ، قال تعالى «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ» فرض ووجب احترامه وعدم العمل به كسائر الأيام «عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» مع نبيهم وهم اليهود لأن موسى عليه السلام أمرهم بتعظيم يوم الجمعه وأن يتفرغوا في كل أسبوع يوما للعبادة فيه ، فأبوا إلا السبت محتجين بأنه اليوم الذي فرغ اللّه به من الخلق ، وهذا الاختلاف لم يقل به بعضهم دون بعض منهم من أراده ، ومنهم من أباه ، كلا ، بل أنهم كلهم اتفقوا عليه خلافا لنبيهم الذي وافقهم على رغبتهم ، لأن الخلاف كان بينهم وبينه ، وكذلك عيسى عليه السلام أمرهم بتعظيم يوم الجمعة فأبوا إلا الأحد محتجين بأنه اليوم الذي بدأ فيه الخلق ، وهذا الاختلاف من سعادة أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، إذ تفضل اللّه عليها به فقبلته ولم تختلف على نبيها فيه.
مطلب يوم الجمعة والآيات المدنيات وكيفية الإرشاد والنصح والمجادلة وما يتعلق فيهما :
وسبب تعظيمه أن اللّه تعالى خلق آدم فيه ، وتاب عليه فيه.
وأطاف سفينة نوح فيه ، وأرساها فيه ، وقيل دعوة يونس فيه ، ونجاه فيه ، وإجابة دعوة زكريا فيه ، وكان تمام الخلق فيه ، ولأن الفرح والسرور إنما يكونان عند التمام والكمال فلأن يكون التعظيم له أولى من يوم البدء والفراغ : روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : نحن الآخرون أي (في الوجود والزمن) السابقون (في الفضل ودخول الجنة) يوم القيامة بيد أنهم (غير أن الذين) أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه وأوتيناه من بعدهم فهذا (إشارة إلى يوم الجمعة) يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه (على نبيهم فلم يقبلوه) فهدانا اللّه تعالى له(4/259)
ج 4 ، ص : 260
فهم لنا تبع فغد لليهود وبعد غد للنصارى.
ومن قال إن الاختلاف وقع بينهم أوّل فقال جعل بمعنى وبال ، أو قال إن في الكلام حذفا وهو كلمة وبال ، أي إنما وبال السبت ، أو إنما جعل وبال السبت ولعنته التي مسخوا فيها قردة وخنازير على المختلفين فيه ، وتقدمت قصة النسخ في الآية 164 من الأعراف في ج 1 ، وقال بعضهم إنما فرض عليهم السبت ، ولما بعث عيسى نسخ بالأحد ، كما أن شريعته عدلت بعض أحكام التوراة ، ثم نسخ الأحد بالجمعة ، لأن شريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ناسخة لكل الشرائع ، فكان أفضل الأيام الجمعة ، وأفضل الرسل محمد صلى اللّه عليه وسلم.
«وَإِنَّ رَبَّكَ» يا خاتم الرسل «لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» وبين غيرهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 124 من السبت وغيره كتحريم الإبل وحل الخنزير وقليل الخمر والزواج بالمحرمات وغير ذلك مما ابتدعوه ، ولم ينزل اللّه به برهانا ، قال تعالى يا سيد الرسل «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ» من بعثت إليهم قاطبة «بِالْحِكْمَةِ» بالحجة المزيلة للشك المزيحة للشبهة بالتؤدة واللين والرفق وإيراد الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة والحجج القاطعة لتأييد دعوتك «وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» الرقيقة اللطيفة بخطاب مقنع للخصم مقرون بالعبر المؤثرة والعظة النافعة والأمثلة الظاهرة بقصد نصحهم وطلب خيرهم وإرادة ميلهم إلى كلامك وجنوحهم إلى رشدك وهديك.
وهذه طريقة ثانية لأصول الدعوة إلى اللّه لأن الحكمة المعرفة بمراتب الأفعال ، والموعظة الحسنة مزج الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة والشدة باللين.
والطريقة الثانية هي المبينة بقوله جل قوله «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» من غيرها بأن تناظر معانديهم بالطريقة الحسنة التي هي أحسن طرق المجادلة ، وتبدي لهم لين العريكة وخفض الجانب والرفق بالمخاطبة ، بلا غلظة ولا فظاظة ولا تعنيف ، وتأتي لهم بكل ما يوقظ القلب ويجلو العقل وتنبسط له النفس وينشرح له الفؤاد ، بوجه مطلق ملئه البشاشة ، كي يكون إرشادك أوقع في قلوبهم ، وهديك أنفع في نفوسهم ، وكلامك أنفع لصلاحهم ، ودلالتك أميل لقلوبهم.
واعلم أن هذه الصفات التي يجب أن يتحلى بها العلماء والمتصدرون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها من سمات من ورثوا عنه العلم الذي هو صفوة خلق اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ويجب أن(4/260)
ج 4 ، ص : 261
تكون طريقتهم في النصح والهدى على نحو ما ذكرنا مع تحمل الأذى وثقل الثقلاء وعناد المعاندين وشقاق العتاة ، وإذا ابتلوا بالمناظرة أن يكون سبيلهم فيها منبثقا عن هذه الأحوال الثلاثة ، وذلك بأن يناظروا الطبقة الراقية بالأصل الأول ، وغيرهم من أصحاب الفطرة السليمة بالثاني ، والمعاندين المتشدقين بالثالث ، لينفعوا وينتفعوا ، وإذا لم يستعملوا هذه الطرق التي علمها اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلم وأمره جلّ أمره بسلوكها وقابلوا الناس بالفظاظة وبالشدة والغلظة والعنف والأنفة والتكبر والتجهيل شامخين بما آتاهم اللّه من فضله ، فيوشك أن يضلوا ويضلوا ويكون عملهم وبالا عليهم في الدنيا والآخرة ، لأن المعتبر في دعوة الخلق إلى الخالق استعمال الصناعات الثلاث المذكورة التي هي البرهان والخطابة والجدل من بين الصناعات الخمس المبينة في علم المنطق ، وسهل القول المذكور في علم البيان وفصيح اللفظ المشار إليه في علم البديع ليتيسر له ما يريده من النفع التام لما يرضي الملك العلام ، وهذا هو الطريق النافع لقبول الإرشاد ، لأن الآية تشعر إلى الاقتصار عليها «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» الذين لا تؤثر فيهم الدعوة بطرقها الثلاث لسابق شفائهم «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» 125 الذين ينتفعون بدعوتك ، إلا أن التبليغ للفريقين من واجب الرسل حتى لا تبقى حجة لمعتذر وهو من بعدهم من واجب العلماء ، لأنهم ورثة الأنبياء ، وهذه الآيات المدنيات الثلاث من هذه السورة كما قاله المفسرون بدليل ما أخرجه النحاس عن طريق مجاهد عن الخبر أنها أي هذه السورة نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من أحد ، ولهذا عدت مدينة كما عدت الآية 54 من الزخرف المارة مكية مع أنها نزلت في بيت المقدس ليلة الإسراء ، لأن العبرة أن جميع ما نزل قبل
الهجرة يسمى مكيا وكل ما نزل بعدها يعد مدنيا كما أشرنا إليه في المقدمة في بحث المكي والمدني.
قال تعالى «وَإِنْ عاقَبْتُمْ» أحدا أيها الناس على فعل يستوجب العقوبة «فَعاقِبُوا» المسيء «بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ» منه أي كما فعل بكم افعلوا به بلا زيادة ولا نقص إن شئتم «وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ» على الإساءة وعفوتم عن المسيء «لَهُوَ» الصبر والصفح «خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» 126 عليه من المتشفي بالقصاص(4/261)
ج 4 ، ص : 262
عند اللّه تعالى الذي يعظم الأجر للصابر ، وعند الناس لما يطرونه من الثناء عليه في وجهه والمدح بغيابه بخلاف التقاصص ، إذ لا يقال للمقتص إلا أنه أخذ حقه ولم يعف ولم يصفح ولم يقبل الرجاء بالعفو.
هذا ولما مثل المشركون بقتلى أحد بقروا بطن حمزة بن عبد المطلب رضي اللّه عنه وجدعوا انفه وقطعوا مذاكيره وأذانه وأخذت هند بنت عتبة أم معاوية قطعة من كبده ومضغتها لتأكلها تشفيا به فلم تقدر أن تسيغها فأخرجتها وأرسلتها ، فتأثر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رأى ذلك وقال رحمك اللّه رحمة واسعة ما كنت إلا فعالا للخيرات وصولا للرحم ، ثم قال واللّه لئن أظفرني اللّه بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك فأنزل اللّه هذه الآية ، فقال صلى اللّه عليه وسلم بل أصبر وأحتسب ، وكفر عن يمينه.
وإنما قلت تأثر صلى اللّه عليه وسلم لأنه بشر يعتريه ما يعتري البشر ، وقد بكى على ابنه إبراهيم واغتاظ لابن بتمه ، ورأى مرة النساء يبكين في جنازة وقد انتهرهن عمر رضي اللّه عنه فقال
عليه السلام دعهن يا عمر فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب.
هذا وسمى الفعل الأول عقوبة للمزاوجة في الكلام ، يعني إن أساء إليكم أحد فقابلوه بإساءته مثلا بمثل ، راجع الآية 39 فما بعدها من سورة الشورى المارة تجد ما يتعلق في هذا البحث مستوفيا.
وقد أمر اللّه تعالى برعاية العدل والإنصاف في استيفاء الحقوق في القصاص ، لأن الزيادة ظلم تأباه شريعة اللّه العادل.
وما قيل إن هذه الآية منسوحة قول لا يلتفت إليه بل هي محكمة لأنها واردة في تعليم حسن الآداب وكمال الأخلاق والنصفة في استيفاء الحقوق وترك التعدي النهى عنه.
ومثل هذه الأمور لا يدخلها النسخ أبدا.
قال تعالى يا خاتم الرسل اعمل بهذا «وَاصْبِرْ» على ما أصابك من أذى قومك «وَما صَبْرُكَ» على ما يؤذيك ويحزنك «إِلَّا بِاللَّهِ» بتوفيقه ومعونته لك «وَلا تَحْزَنْ» على ما وقع على عمك فإن له فيها درجات في الجنة عند اللّه ، وكذلك قومك لا تحزن «عَلَيْهِمْ» بسبب ما فعلوه فيه وعدم رعايتك وعن إعراضهم عنك ولا على قتلى أحد كلهم ، فإنهم أفضوا إلى رحمة ربهم وعطفه ولا يضرهم ما مثله المشركون بهم لأنه مما يزيد في أجرهم «وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ» هو الشدة التي يتكمش لها الوجه ويكفهر وينقبض فيها الصدر ويضيق بسبب ما وقع(4/262)
ج 4 ، ص : 263
من الغم والحزن فيه وقرىء بفتح الضاد وكسرها «مِمَّا يَمْكُرُونَ» 127 بك ويكيدون لك من الدسائس ويحيكونه لك من المصائد ، فإنهم لن يصلوا إليك ، وإني حافظك منهم ، وناصرك عليهم.
وفي هذه الآية رمز إلى استتباع أمته له في ذلك كله ، لأن كل أمة تقتدي بإمامها وقد خوطب ابن عباس من قبل أحد معزّيه في هذا البيت :
اصبر نكن بك صابرين وإنما صبر الرعية عند صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده واللّه خير منك للعباس
هذا على إنه يصح أن يقال فيه :
سأصبر حتى يعلم الناس أنني صبرت على شيء أمر من الصّبر
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا» السيئات واجتنبوا التعدي في القصاص وغيره وراقبوا ربهم في كل أمورهم مع خالقهم وخلقه «وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» 128 لأنفسهم ولغيرهم العافين عن الناس الكاظمين الغيظ ومن كان اللّه معه فهو آمن في الدنيا والآخرة ، قال بعض الكمل : كمال الطريق الموصل إلى اللّه صدق مع الحق ، وخلق مع الخلق ، وكمال الإنسان ان يعرف الحق لذاته والخير ليعمل به ، فإذا أردت أيها الإنسان العاقل أن يكون اللّه معك بالعون والفضل والرحمة فكن مع المتقين الصادقين المحسنين ومنهم ، فهؤلاء الذين أمرنا اللّه بمخالطتهم ، قال تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) الآية 152 من سورة التوبة في ج 3 ، وقال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الآية 2 من العلاق في ج 3 ، وقال تعالى (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الآية 92 من يوسف المارة.
واعلم أن ترك الإساءة من الإحسان بل إحسان وزيادة ، قيل ترك الإساءة إحسان وإجمال.
هذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا ، والحمد للّه رب العالمين.(4/263)
ج 4 ، ص : 264
تفسير سورة نوح
عدد 21 - 71 - 77
نزلت بمكة بعد سورة النحل ، وهي ثمان وعشرون آية ، ومثلها في الآي سورة التحريم فقط ، ومئتان وأربع وعشرون كلمة ، وتسعة وتسعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» وقلنا له «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 1 وهو الغرق العام في الدنيا والعذاب الفظيع في الآخرة وهو أخزى وآلم من عذاب الدنيا ، وتقدم نسب سيدنا نوح مع قصته وقومه في الآية 37 من سورة هود المارة ، «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ» من اللّه «نَذِيرٌ مُبِينٌ» 2 لا أخفي عليكم شيئا مما أرسلني به إليكم وأول ما آمركم به هو «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ» 3 فيما أرشدكم إليه فإن فعلتم ما أنصح به إليكم «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» السابقة التي بينكم وبينه ، أما الحقوق التي بينكم فعليكم أن تؤدوها لمستحقيها ، لأن الإيمان لا يسقطها ، إلا أن تسامحوا بينكم ، وإلا فتعاقبوا عليها وتؤاخذوا بها ، ولهذا المغزى قال تعالى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعضها ولم يقل ذنوبكم ، لما فيه من الشمول بحقوق الناس ، على أنه إذا شاء فإنه يرضي خصومكم ويتوب عليكم «وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لم يطلع أحدا عليه ومن رحمته بكم أن أمهلكم ولم يجعل عقوبتكم كي ترجعوا إليه قبل حلوله «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ» أبدا عن وقته ، لأن العذاب والموت لهما أجلان عند اللّه لا ينزلهما بعباده إلا بانقضائهما «لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 4 حقيقة ما أقوله لكم وعاقبته لسارعتم لما آمركم به ولقبلتموه نوا ، ولكنكم لستم من أهل العلم لتفقهوا نفع ما جئتكم به ، ولا يقال كيف يقول يؤخركم ، ثم قال إذا جاء لا يؤخر ، لأن اللّه تعالى قضى في سابق علمه أن قوم نوح إذا آمنوا يعمرون ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكوا قبل ذلك ، فقال لهم رسولهم آمنوا يؤخركم إلى وقت سماه لكم تنتهون إليه ، وهو الأطول ، ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت الأقل(4/264)
ج 4 ، ص : 265
لأنه بني على سبب وهو معلق على وجوده ، وذلك مبرم ، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية الثانية من سورة الأنعام المارة فراجعه.
ولا شك أنهم لو أطاعوه لعمرهم اللّه كما عمر أهل السفينة الذي يشير إليه قوله (يؤخركم) ولكنهم لمّا أصروا على كفرهم عجل لهم العذاب «قالَ» نوح عليه السلام على طريق الاعتذار والتقدم بأنه قام بواجبه لحضرة ربه أمام قومه بعد أن رأى نفرتهم عن الإيمان وعدم قبولهم النصح ، صار يشكوهم إلى ربه «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً» 5 دائما مستمرا دائبا في دعوتهم إليك «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» 6 مني وإدبارا عني ونفارا من الإيمان بك «وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ» منذ أمرتني حتى الآن «لِتَغْفِرَ لَهُمْ» ذنوبهم في المدة التي أمهلتهم بها «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ» لئلا يسمعوا دعوتي وتذكيري بك «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» لئلا يروني «وَأَصَرُّوا» على كفرهم «وَاسْتَكْبَرُوا» عن الإيمان وأنفوا من الطاعة «اسْتِكْباراً» 7 تعاظما وتطاولا علي وهوانا بي واستخفافا بما جئتهم به من لدنك ، حتى انهم كرهوا رؤيتي «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً» 8 بأعلى صوتي في محافلهم وطرقهم ومجتمعاتهم وحدانا وجماعة «ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ» بدعوتي هذه على ملأ منهم «وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» 8 فيما بيني وبينهم إذ لم أترك طريقا من طرق الإرشاد والنصح إلا سلكته معهم ودعوتهم به «فَقُلْتُ» في تلك الحالات كلها «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» من كفركم ومن ظلم بعضكم «إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» 10 عظيم المغفرة كبير العفو لا يؤاخذ على ما سبق ، لأن الإيمان به يجبّ ما قبله فإن أجبتم فإنه بمحض كرمه وفيض جوده
«يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» 11 كثيرا يزيل ما حلّ بكم من الجدب ، ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وذلك أنه حبس عنهم الغيث وأعقم أرحام نسائهم مدة أربعين سنة لعدم إجابتهم دعوة نبيهم ، ولهذا قال لهم ذلك بإلهام من اللّه تعالى وثقة به أن يفعل لهم ما يقوله ، والمراد بالسماء السحاب أو المطر ، قال الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال لهم أيضا «وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ(4/265)
ج 4 ، ص : 266
وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً»
12 فيها بأن يعطيكم من الخيرات أكثر مما كنتم عليه قبلا ، وقال لهم هذا ليحركهم على الإيمان ويرغبهم بما يحدث عنه ، لأنهم كانوا يحبون الأموال والأولاد فأتاهم من حيث تميل إليه نفوسهم وطبعهم ، روي عن الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن البصري (واعلم أنه كلما أطلق لفظ الحسن فقط فالمراد به هذا) فشكا إليه الجدب ، فقال استغفر اللّه ، وشكا إليه آخر الفقر ، فقال استغفر اللّه ، وشكا إليه آخر قلة النسل فقال استغفر اللّه ، وشكا له آخر قلة ربيع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له الربيع أتاك رجال يشكون أمورا متباينة فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فيكون دواء واحد لعلل مختلفة ، فقال ما قلت من نفسي إنما اعتبرت قول اللّه عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه استغفروا ربكم) الآية.
ولما رآهم عليه السلام لا يلتفتون إليه ولا يصغون لهديه هددهم بما حكاه اللّه عنه بقوله «ما لَكُمْ» يا قوم أي شيء جرى لكم وما شأنكم ولم «لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» 13 فلا تعتقدون عظمته ولا تقدرون هيبته ؟ والوقار معنى السكون والحلم ، وجاء هنا بمعنى العظمة والجبروت ، لأنه يتسبب عنها في الأغلب ، وعليه يكون المعنى لما ذا لا تأملون للّه تعظيما موجبا للإيمان به والطاعة إليه ، ومن قال إن رجا بمعنى خاف واستدل بقول الهذلي : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ، غير سديد ، لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة والقول به يوجب ترجيح رواية الآحاد على التواتر ، وهو غير جائز لإمكان التوسع بالألفاظ وجعل المثبت منفيا وبالعكس ، وهذه الطريقة لا تسلك في الألفاظ القرآنية قطعا.
مطلب أطوار الإنسان رباني عبدة الأوثان وعذاب القبر :
قال تعالى «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» 14 من حيث الجنسية كالطير في الضعف والاحتياج عند خروجه من البيضة فلا أضعف ولا أخرج للمداراة منه ، وفي الصفة في كمال الخلق ، فمنكم العالم والجاهل ، والجليل والحقير ، والغني والفقير ، والكريم والبخيل ، والسهل والصعب ، والمريض والصحيح ، وفي الكيفية في الصور من تمام الخلقة وناقصها ، وحسن الخلق وسيئه ، وحسن الخلق وقبحه ، والدميم والقبيح ، وفي ابتداء خلقكم أيضا طورا بعد طور ، وتارة بعد تارة ، وكرة بعد كرة بصورة(4/266)
ج 4 ، ص : 267
تدريجية ، من النطفة إلى علقة ، إلى مضغة ، إلى لحم وعظام ، إلى قوام بديع ، وبعد تمام خلقكم جعلكم أصنافا مختلفين أيضا في اللون والشكل واللغة والطبع ، راجع الآيتين 64/ 67 من سورة المؤمن المارة ، والأطوار هي الأحوال المختلفة قال :
فإن أفاق فقد طارت عمايته والمرء يخلق طورا بعد أطوار
وفي نقصانه أيضا ضعف في القوى والجوارح إلى أضعف تدريجا إلى حالة الهرم والخرف ، فسبحان المبدئ المعيد الفعال لما يريد القائل «أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» 15 بعضها فوق بعض «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً» يضيء ليلا «وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» 16 تضيء نهارا ، وإنما سمى الأول نورا والآخر سراجا ، لأن نور القمر منعكس عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد عنها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها ونور الشمس ، لا بطريق الانعكاس من كوكب آخر ، واللّه أعلم ، راجع الآية 9 من سورة القيامة في ج 1 وما ترشدك إليه تجد ما يتعلق بالكسوف والخسوف.
«وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» 17 بدأ خلق أصلكم آدم عليه السلام من الأرض والناس كلهم من صلبه ولم يأت المصدر من لفظ الفعل ليكون المعنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا كما هو مشاهد لكم ، لأن الإنبات من لفظ الفعل من صفات للّه تعالى وصفاته غير محسوسه لنا ، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب إلا بإخبار اللّه تعالى ، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة اللّه تعالى «ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» 18 بديعا للحشر والحساب ، أي يحييكم بعد إماتتكم بصورة لا يعرفها البشر ، لأن الإحياء والإماتة من خصائصه جل شأنه ، ثم طفق يعدد عليهم بعض نعمه فقال «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً» 19 لتمكنوا من التقلب فيها كيفما شئتم ، وهذه الآية أيضا لا تنافي كروية الأرض لأنها مبسوطة بالنسبة لما نراه منها ، وقد تكون بخلافه ، وبسبب عظمها لا تظهر كرويتها للناظرين إلا بأدلة ، ثم بين علّة البسط فقال «لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا» طرقا «فِجاجاً» 20 واسعة وضيقة ومختلفة ، والطرق تكون في السهل والجبل ، والفجاج في الجبل فقط ، وبعد أن ذكرهم بذلك كله وعدد عليهم نعم ربه وخوفهم عقابه ، علم بإعلام اللّه إياه عدم إيمانهم ، راجع(4/267)
ج 4 ، ص : 268
الاية 36 من سورة هود المارة
«قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا» سفلتهم وفقراءهم «مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» 21 في الآخرة يعني رؤساءهم وأغنياءهم لأن مالهم وولدهم وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما بسبب الكفر صارا سببا للخسارة في الآخرة ، وقرىء وولده بضم الواو لغة بالولد بفتحها ويجوز أن يكون جمعا كالفلك فيصدق على الواحد والمتعدّد ، ثم شرع يعدد سيئاتهم فقال «وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً» 22 مبالغة كبير يقرأ بالتخفيف والتشديد ، وذلك لأنهم صدّوا الناس عن اتباعه بشتى الوسائل وسلطوا عليه السفهاء والعيد «وَقالُوا» رؤساؤهم وقادتهم لأتباعهم وسوقتهم وفقرائهم وسفلتهم «لا تَذَرُنَّ» لا تتركوا «آلِهَتَكُمْ» وداوموا على عبادتها ، ثم أكدوا النهي وصرحوا بأسمائها فقالوا «وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً» 23 كما يقول لكم نوح ، فهذه هي آهتكم فتمكوا بها ولا تنظروا إلى ما يقوله لكم ، أفردوا هذه الأصنام الخمسة بالذكر مع أنها داخلة في آلهتهم ، لأنها عندهم أعظمها ، قالوا كانت ودّ بصورة رجل ، وسواع بصورة أنثى ، ويغوث بصورة أسد ، ويعوق بصورة فرس ، ونسر بصورة نسر ، وكان لكل منها خدم وحشم وجماعة يعظمونها ويرجونها ويخافونها ، ومنهم انتقلت عبادة الأوثان لما بعدهم من الخلق.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : صارت هذه الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب تعبد ، أما ود فكانت لكلب دومة الجندل ، وسواع فكانت لهذيل ، ويغوث لمراد ، ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، ويعوق لهمدان ، ونسر لحمير لآل ذي الكلاع ، وهذه غير اللات التي كانت تعبدها ثقيف ، والعزّى لسليم ، وغطفان وجشم ومناة لخزاعة بقديد ، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة ، ولذلك سمت العرب أنفسها بعبد يغوث وعبد ودّ وعبد العزّى وغير ذلك (وكبّارا) لغة أهل اليمن ، قال قائلهم :
والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضّاء
وقال الآخر :
بيضاء تصطاد القلوب وتسمّي بالحسن قلب المسلم القرّاء(4/268)
ج 4 ، ص : 269
بتشديد الضاء في الأول والراء في الثاني ، قال نوح عليه السلام «وَقَدْ أَضَلُّوا» كبراؤهم «كَثِيراً» من الناس «وَلا تَزِدِ» هذه الأصنام «الظَّالِمِينَ» أنفسهم بعبادتها «إِلَّا ضَلالًا» 24 فوق ضلالهم «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» العظيمة «أُغْرِقُوا» بسببها «فَأُدْخِلُوا ناراً» عقب إغراقهم بلا فاصلة بدليل العطف بالفاء ، وهذه الآية تدل على عذاب القبر قبل البعث ويبعد حمله على عذاب الآخرة لإبطال دلالة الفاء ، ولوجوب تفسير ادخلوا بفعل الاستقبال الصرف إلى سيدخلون وهو خلاف الظاهر ، وتدل أيضا على أن من مات غرقا أو حرقا أو أكلته السباع أو الطير أو الحوت مثلا ، أصابه ما أصاب المقبور من عذاب القبر ، قال الضحاك :
كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من آخر ، وأنشد ابن الأنباري :
الخلق مجتمع طورا ومفترق والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت فاللّه يجمع بين الماء والنار
«فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» 25 يخلصونهم من الغرق لا من قادتهم ولا من أوثانهم ، وفي الآية تعريض بتفنيد زعمهم بأن آلهتهم تنصرهم وتهكم في اعتقادهم بها وتوبيخ لهم لأن أصنامهم وزعماءهم أغرقوا معهم.
وقدمنا ما يتعلق بعذاب القبر في الآية 46 من سورة المؤمن وله صلة في الآية 27 من سورة إبراهيم الآتية.
وبعد أن عدد مساوئهم وتحقق إياسه منهم وقد توغر صدره عليه السلام طيلة عشرة قرون تقريبا وهو يدعوهم إلى الإيمان باللّه وترك لأوثان ولم يصغوا له وأصروا على تكذيبهم له وازدادت إهانتهم له ، دعا عليهم كما ذكر اللّه «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» 26 يدور عليها أو يسكن فيها ، وهذه الكلمة لا تستعمل إلا بالنفي العام ولم تكرر في القرآن ، يقال ما بالدار ديار أو ديّور ، أي ما بها أحد ، وأصله ديوارا اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في مثلها.
وإشراك غير قومه بالدعاء يثبت عموم بعثته عليه السلام من حيث آخرها كما أشرنا إليه في الآية 73 من سورة يونس المارة ، واستدل بعضهم في هذه الآية على عموم الطوفان ، على أن لفظ الأرض يطلق على قطعة منها ، قال تعالى (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) الآية 103(4/269)
ج 4 ، ص : 270
من سورة الإسراء ج 1 ، إذ المراد بها أرض مصر فقط ، وقال تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) الآية 71 منها ، والمراد بها مكة ، لأنه لا قدرة لهم على غيرها ، كما أن سلطان مصر لا حكم له على غيرها لقوله تعالى (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الآية 25 من القصص في ج 1 أيضا ، إذ لو كان لسلطان مصر سلطان على أرض مدين التي فيها شعيب لما قال هذا الكلام لموسى وفي هذه الآية دليل أيضا على أن البلاء يعم لأن اللّه تعالى أغرق معهم أطفالهم وحيواناتهم ، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية 25 من الأنفال في ج 3 ، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 44 من سورة يونس فراجعه.
ثم بين السبب في طلب إهلاكهم جميعا بقوله «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ» يا سيدي على ما هم عليه من الكفر «يُضِلُّوا عِبادَكَ» بسوقهم إلى الضلال ، قال ابن عباس :
كان الرجل منهم يأخذ ابنه إلى نوح عليه السلام ويحدره من اتباعه ويقول له إن أبي حذرني اتباعه وها أبي أحذرك منه فاحذره ، فأوص ولدك من بعدك بعدم اتباعه ، ولهذا قال عليه السلام «وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» 27 عريقا في الكفر ، إذ تلقاه عن أبيه كما تلقاه أبوه عن جده ، ولشدة إصراره عليه بوصي به ولده من بعده.
ثم انه عليه السلام لما رأى دعوته هذه قد أجيبت بإلهام من اللّه تعالى له وظن أن ذلك ناشىء من عدم قيامه بالدعوة الإلهية كما ينبغي من إدمان الصبر وتحمل الأذى استغفر ربه عز وجل وقال «رَبِّ اغْفِرْ لِي» ما وقع مني من التقصير في خدمتك ودعوة عبادك واستعجالي عليهم بالدعاء ، وهذا على الاحتمال وهضما للنفس ، وإلا فهو عليه السلام مبرا من التقصير وحاشاه أن يوصف بالاستعجال بعد صبره عليهم ألف سنة تقريبا ، ولكن الأنبياء يخافون ربهم بقدر قربهم منه ، والعبد كلما قرب من ربه عظمت هيبته في صدره وازداد خوفا منه وبدأ بطلب المغفرة لنفسه أولا ، لأنها أولى بالتقديم ، وهكذا كان محمدا صلى اللّه عليه وسلم يبدأ بنفسه بالدعاء ثم يثني بالمتصلين به لأنهم أحق من غيرهم ، فقال «وَلِوالِدَيَّ» أبيه لمك بن متوشلح وأمه شمناء بنت انوش ، قالوا وكان بينه وبين آدم عليه السلام عشرة آباء كلهم مؤمنون ، ثم عمم بدعائه فقال «وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً» قيد بالمؤمن(4/270)
ج 4 ، ص : 271
لإخراج الكافر لأنهم من جملة من دخلوا بيته «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» عامة فتشتمل دعوته هذه كل مؤمن ومؤمنة من آدم إلى آخر الدوران «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» 28 هلاكا ودمارا وخرابا ، فاستجاب اللّه تعالى دعاءه فأغرقهم جميعا على الصورة المارة في قصته في سورة هود المذكورة ، أما وقد أجاب اللّه دعاءه بإهلاك قومه ومن على أرضه في زمنه ، فهو أكرم من أن لا يجيب دعاءه بالمغفرة له وللمؤمنين قبله وبعده بمنه وكرمه وعسى أن تكون ممن شملته دعوته بالمغفرة لعموم لفظها بلطفه وعطفه ومنّه.
ولا توجد سورة مختومة بما ختمت به ، ولم تكرر في القرآن أيضا ، ومثل ما بدئت به مر في سورة القدر في ج 1.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، آمين.
تفسير سورة ابراهيم
عدد 22 - 72 - 14
نزلت بمكة بعد سورة نوح ، عدا الآيتين 28/ 29 فإنهما نزلنا في المدينة ، وهي اثنتان وخمسون آية ، وثمنمئة وإحدى وستون كلمة ، وثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا ، ومثلها في عدد الآي الحافة ونون.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الر» تقدم ما فيه أول سورة يونس لمارة ، هذا القرآن العظيم المدون في أنزلنا «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «لِتُخْرِجَ النَّاسَ» بهديه وإرشاده «مِنَ الظُّلُماتِ» الكفر والطغيان والجهالة «إِلَى النُّورِ» الإيمان والطاعة والعلم ، تشير هذه الآية إلى أن طرق الإضلال كثيرة ، لأنه جمع لفظ الظلمات الداخل فيه جميع أنواعها ، وأفرد لفظ النور لأن طريق الإيمان واحد ، وهكذا في جميع ما ورد في كتاب اللّه تعالى يكون النور مفردا والظلمات جمعا ، وإنما شبه الكفر بالظلمات لأنها نهاية ما يتحيّر فيها الرجل من طرق الهدى ، وشبه الإيمان بالنور لأنه غاية ما ينجلي به طريق الهداية ، وهذا الإخراج «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» وأمره وتوفيقه وتسهيله وتيسيره «إِلى صِراطِ(4/271)
ج 4 ، ص : 272
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»
1 الذي أمر عباده بسلوكه ويجوز في اللفظ العظيم الآتي الجر على أنه صفة لما قبله والرفع على الابتداء «اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا «وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ» به التاركين عبادته «مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» 2 في الآخرة لا تطيقه أجسامهم ، ووصف الكافرين بأنهم «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ» وآثروها عليها طوعا واختيارا ورضاء «وَيَصُدُّونَ» الناس مع ذلك «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فيمنعونهم من سلوكها «وَيَبْغُونَها» الطريق الموصلة إلى اللّه المؤدية لدينه القويم المسببة لدخول الجنة «عِوَجاً» ميلا وزيغا حائدين عن القصد السوي ، راجع الآية الأولى من سورة الكهف المارة «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم كانوا «فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» 3 عن الصواب ناء عن الحق في هذه الدنيا ويوم القيامة في أشد العذاب إذا لم يتوبوا ويرجعوا ، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ» يتكلم بلغتهم ، وقرىء بلسن على الجمع ، ثم بين العلة في ذلك بقوله «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ما يفعلون ويذرون فيفهمهم ويفهموا عنه ، ولا يفهم من هذه الآية كون محمدا عربيا وقد أرسل للعرب خاصة لأنه لا يعرف لغة الآخرين ممن على وجه الأرض ، لأن اللّه تعالى آذنه بإرسال رسل من قبله إلى الأطراف يترجمون لهم بألسنتهم ما يتعلق بالإيمان والإسلام ، لأن القرآن العظيم أثبت عموم رسالته بالآية 158 من الأعراف المارة في ج 1 ، لأن لفظ الناس يدخل فيه العربي والأعجمي ، فضلا عن الناس كلهم تبعا للعرب ، لأن القرآن جاء بلغتهم ليجتمعوا عليه والاجتماع خير من التفرقة ، وجاء في تفسير أبو السعود والرازي أن اللّه تعالى أنزل الكتب كلها عربية ثم ترجمها السيد جبريل على الأنبياء بلغة أقوامهم ليفهموها.
هذا وإذا كان الكتاب واحدا بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وحدوده وأحكامه.
وقد ألمعنا إلى عموم الرسالة في الآية 28 من سورة سبأ المارة فراجعها وما ترشدك إليه.
وبعد بيان الرسول للمرسل إليهم ذلك «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ» ممن آثر الضلالة على الهدى «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ممن فضّل الهدى على الضلال تبعا لما هو مخلوق(4/272)
ج 4 ، ص : 273
له أزلا «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أمره الذي لا يكون في ملكه إلا ما يريد «الْحَكِيمُ» فيمن يضل ويهدي بحسب معدنه وجبلته «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا» التسع المار ذكرها في الآية 129 من الأعراف في ج 1 ، وقلنا له «أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ» بني إسرائيل من بين القبط وأنقذهم «مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» مر تفسيرها آنفا «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» التي أوقعها على الأمم السابقة بعد ما ابتلاهم بنعمه وأظهروا للناس كفرها ، والمراد من الأيام هنا الوقائع لأن العرب يعبرون عن الحوادث بأيام فيقولون يوم الفجار وذي قار ويوم قضّه وغيرها ، قال عمرو بن كلثوم :
وأيام لنا غور طوال عصينا الملك فيها ان ندينا
ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 14 من سورة الجاثية المارة ، «إِنَّ فِي ذلِكَ» التذكير بالوقائع الكائنة على الأمم السالفة «لَآياتٍ» عبر وعظات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» على البلاء وعلى الجور والأذى «شَكُورٍ» 5 لنعم اللّه وعطائه وهما صفة خيرة الخلق من المؤمنين لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» أي اذكر يا خاتم الرسل ما قاله أخوك موسى لبني إسرائيل إذ يعدد نعمه عليهم لتقصها على قومك ومقول القول «اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» عذا بعد أن خلصهم من رق الفراعنة الملمع إليه في الآية 127 من الأعراف فما بعدها في ج 1 ، وبعد أن أراهم آيات ربهم في إغراق عدوهم ونجاتهم بآن واحد والآيات التي بعدها كالمن والسلوى والإظلال بالغمام وتفجير الماء وقد كانوا فرعون وآله «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» يبغونكم باشده وأشنعه «وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» يسترقونهم ويستخدمونهم «وَفِي ذلِكُمْ» الحال الذي أجروه معكم «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» 6 لا أعظم منه ، لأن قتل الذكور وإبقاء النسوة للاسترقاق غاية في الذل ونهاية في العار ، وقيل في المعنى :
ومن أعظم الرزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا
وهذه الواو التي في ويذبحون يسميها القراء الواو الكبيرة ، إذ مر قبلها في(4/273)
ج 4 ، ص : 274
الآية 141 من سورة الأعراف ج 1 ويأتي بعدها في الآية 29 من البقرة في ج 3 بلا واو «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ» أعلم ووعد وأوعد «لَئِنْ شَكَرْتُمْ» نعمه التي من جملتها خلاصكم من رق القبط والغرق «لَأَزِيدَنَّكُمْ» نعما فأجعل منكم ملوكا وأنبياء راجع الآية 23 من المائدة في ج 3 ، «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ» تلك النعم وجحدتموها «إِنَّ عَذابِي» لمن يكفرها «لَشَدِيدٌ» 7 أشد من عذاب استرقاق القبط وإماتة الرجال وإبقاء النساء منكم «وَقالَ مُوسى » لبني إسرائيل «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» فضره يعود عليكم وعليهم في الدنيا والآخرة واللّه لا يعبا بكم «فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ» عن جميع خلقه لا حاجة له في شكرهم «حَمِيدٌ» 8 بذاته وإن لم يحمده خلقه ثم ذكرهم بمن قبلهم فقال «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» كقوم إبراهيم وموسى وشعيب وغيرهم «لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ» لعدم إحاطة علم البشر بهم لكثرتهم ولأن اللّه لم يبينهم لنا ، قال تعالى (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ) الآية 79 من الفرقان المارة في ج 1 ونظيرتها الآية 79 من سورة المؤمن المارة ، ولهذا قال ابن مسعود كذب النسّابون الذين يدعون معرفة الأنساب إلى آدم ، واللّه تعالى نفى معرفة العلم بذلك عن عباده ، وجاء عنه صلى اللّه عليه وسلم فيمن ينتسب لآدم عليه السلام وفيمن ينتسب من عدنان إلى إسماعيل عليه السلام كذب النسّابون ، لأن اللّه تعالى لم يبين القرون ما بين النّبيين.
مطلب النهي عن الانتساب لما بعد عدنان ومحاورة الكفرة وسؤال الملكين في القبر :
وهذه الآية التي نحن بصددها كافية لسد باب الانتساب إلى ما بعد عدنان لأن الذي لا يعلمه إلا اللّه يعجز عنه البشر ، لذلك يجب علينا أن نحجم عن الانتساب إلى ما بعد عدنان ، ولهذا البحث صلة في الآية 111 من سورة المؤمنين الآتية.
قال تعالى «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» على صدقهم وما جاؤهم به من عند ربهم «فَرَدُّوا» أي الكفرة من أولئك الأمم «أَيْدِيَهُمْ» أوصلوها وأخذوها(4/274)
ج 4 ، ص : 275
«فِي أَفْواهِهِمْ» أي الرسل لئلا يتكلموا بما أرسلوا به ، أو إلى أفواه أنفسهم إشارة لعدم رغبتهم بما يقولون لهم ، وهذا كناية عن إسكاتهم تكذيبا لهم ، وكثيرا ما يقع هذا بين المخاطبين الآن من أهل القرى والبوادي ، إذا لم يرد المخاطب أن يسمع كلام المخاطب فإنه يشير إليه بيده ويضعها على فم نفسه كأنه يقول له ردّ قولك إلى فيك ولا تنطق بما تريد لأني لا أصدقه ، وقد يقوم إليه ويضع يده على فيه إذا كان لا يهابه ، يدل على هذا المعنى قوله تعالى «وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» فلا حاجة لبيان «وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ» من الإيمان والتوحيد والبعث «مُرِيبٍ» 9 موقع في التهمة إن لم نجزم جحود ما جئتم به ، والريبة قلق وعدم طمأنينة بالأمر ، لذلك فلا نميل لأمر نحن في شك منه.
وقيل إنهم أخذوا أيديهم فعضوها بأفواههم تعجبا أو غيظا ، وهذا لا يوافق النظم ويأباه السياق «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي» وجود «اللَّهِ شَكٌّ» استفهام إنكاري ، أي أتنكرون وجود الإله «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وخالق ما فيهما وبينهما الذي «يَدْعُوكُمْ» للإيمان به والتصديق برسله «لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» إذا أجبتم دعوته وصدقتم رسله ، والمراد من لفظ من هنا وفي مثلها غفران الذنوب التي هي حق اللّه فقط ، أما حقوق العباد فلا تغفر إلا بإسقاطها من قبل أهلها أو بمشيئه اللّه القادر على إرضاء خصومهم ، راجع الآية الثانية من سورة نوح المارة «وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا يقدم ولا يؤخر ولا يبدل ، وانه قدّر لكم آجالا تبلغونها إن أنتم آمنتم وصدقتم وآجالا دونها إن أصررتم على كفركم عقوبة لكم ، راجع الآية 12 من سورة نوح المارة «قالُوا» لرسلهم «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» ولستم بآلهة ولا ملائكة حتى نتبعكم أ«تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» من الآلهة «فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 10 يميّزكم عنا ويثبت أن آلهتنا باطلة وأنكم على الحق
«قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» لسنا بآلهة ولا ملائكة كما ذكرتم «وَلكِنَّ اللَّهَ» الذي خلق ورزق وأحيا وأمات الذي منّ عليكم بالعقل والسمع والبصر والأمن والعافية والولد والجاه والرياسة «يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ»(4/275)
ج 4 ، ص : 276
برسالته إلى إرشاد خلقه لدينه رحمة بهم ، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير «وَما كانَ لَنا» بصفتنا رسل اللّه «أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ» قوة وبرهان ومعجزة نقسركم بها على اتباعنا والإيمان بنا «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» لأنا عاجزون مثلكم ، ولو لا ما خصنا اللّه به من الوحي لما فضلناكم بشيء ، ولو لا أن يرسلنا إليكم لما دعوناكم إلى شيء «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» 11 أمثالنا على أن يقدرنا لمجابهة عنادكم وعدائكم «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» نحن معاشر الأنبياء ، يراجع نظير هذه الآية في المعنى الآية 22 من سورة يس في ج 1 ، «وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا» التي نسلكها في أمور ديننا الموصل لرضاء اللّه.
واعلموا أيها الناس أننا عبيد اللّه ورسله إليكم وقد أمرنا بإنذاركم وإقلاعكم عما أنتم عليه من الكفر وما علينا إلا نصحكم وسنثابر عليه ولو لم تصغوا إلينا «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» به من التكذيب والإهانة والاستخفاف ، لأنه في سبيل تنفيذنا أمر اللّه بدعوتكم إلى دينه القويم المؤدي إلى جنات النعيم لا إلى شيء يعود علينا بالنفع المادي ونستمد المعونة منه على ما نريده من إرشادكم «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» 12 أمثالنا فيما هم سائرون فيه.
واعلم أن التوكل في الآية الأولى بقصد إحداثه وفي هذه بقصد التثبت عليه ، فلا يعد تكرارا «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ» لما رأوهم مثابرين على دعوتهم إلى دينهم دين اللّه الواحد وأنهم أقسموا على الصبر فيما يلاقونه من أذى في سبيل دعوتهم «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا» بلادنا وقرانا «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» كما كنتم قبل ادعائكم النبوة والرسالة ، وذلك أنهم كانوا قبل لم يأمروهم بتركها ولم يخالفوهم في شيء مما هم عليه ، وإلا فهم نشأوا على التوحيد من حين فصالهم كسائر الأنبياء ، وكانوا قبل أمرهم بالدعوة كأنهم منهم «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» 13 الذين كذبوكم وأمروكم بالعودة إلى دينهم.
ونظير هذه الآية الآية 88 من سورة الأعراف المارة في ج 1 ، «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ» التي يريدون إخراجكم منها «مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ» الوعيد بإهلاكهم والوعد بإحلالكم محلّهم حق ثابت «لِمَنْ خافَ مَقامِي» الوقوف بين يدي في الآخرة «وَخافَ وَعِيدِ» 14 بالعذاب(4/276)
ج 4 ، ص : 277
«وَاسْتَفْتَحُوا» استنصروا أي طلبوا النصر من اللّه على أعدائهم لما رأوا إصرارهم على الكفر وعلى أذاهم ، وقد جرت عادة اللّه تعالى بنصرة أوليائه عند الضيق بمقتضى عهده المار ذكره في الآية 172 من الصافات والآية 110 من سورة يوسف المارتين فنصروا حالا «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» 15 لا يميل إلى الحق لتعاظمه في نفسه وخسر ، وهذه الآية على حد قوله تعالى (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) الآية 19 من الأنفال والآية 88 من سورة التوبة في ج 3 ، وقال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية 110 من سورة يوسف المارة وجزاء هذا المخالف لرسوله «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ» يعذب فيها في الآخرة لأنه قادم عليها غير العذاب الذي حل به في الدنيا وقال (من ورائه) لأنها تكون بعد موته لا مناص له منها فهو واردها حتما ، قال :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء اللّه للمرء مذهب
وتأتي وراء بمعنى قدام على أنها من الأضداد والمشتركات اللفظية أو المعنوية ، فتكون بمعنى القدام والخلف وعلى هذا قوله :
أليس ورائي ان تراخت منيتي لزوم العصا تحفى عليها الأصابع
وقوله :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقوم تميم والغلاة ورائيا
وقول الآخر :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
«وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ» 16 عطف بيان لأن الماء مبهم ففسره بالصديد وهو القيح الذي يسيل من جلود المعذبين فيها «يَتَجَرَّعُهُ» يتكلف بلعه مرة أخرى لشدة العطش واستيلاء الحرارة «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» بسهولة بل يغص به لنتنه وكراهيته فيشربه بعد اللّتيا والتي على كره وقسر «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ» من أطراف جسده حتى من شعره وظفره «وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» إذ لا موت فيها «وَمِنْ وَرائِهِ» أي شراب الصديد «عَذابٌ غَلِيظٌ» 17 أشد وأزهق للنفس مما كان فيه من أمامه وخلفه ، قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ(4/277)
ج 4 ، ص : 278
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ»
المثل يستعار للصفة التي فيها غرابة راجع الآية 112 من سورة النحل المارة ، وبيّن ذلك المثل بقوله عز قوله «أَعْمالُهُمْ» التي عملوها في الدنيا من إقراء ضيف أو إغاثة ملهوف أو صلة رحم أو عتق رقبة أو فك الأسير أو غيرها «كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» فطيّرته ولم تبق له أثرا ، هكذا يمثله اللّه لهم يوم القيامة لتزداد حسرتهم فتراهم «لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ» منها من الثواب لأنها وقعت منهم حال الكفر إذ يشترط لثواب الأعمال أن تكون مع الإيمان باللّه وعدم الشرك به «ذلِكَ» حرمانهم من ثواب أعمالهم الطيبة «هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» 18 عن طريق الصواب والخسران الكبير عن حسن المآب ، وشبه هذه الآية ، الآية 29 من سورة النور في ج 3 ، قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لأمر عظيم لا عبثا ولا باطلا «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أيها الناس من بينهما فيخسف بكم الأرض أو يطيركم بالهواء فيجعلكم هباء «وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» 19 غيركم أطوع منكم إليه وأكثر عبادة «وَما ذلِكَ» إذهابكم والإتيان بغيركم «عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» 20 لا ممتنع ولا متعذر لأن القادر لا يصعب عليه شيء فالذي خلق السموات والأرض لا شك قادر على إبادتهما ومن فيهما وإيجاد غيرهم ، وهذه الآية مكررة في سورة فاطر ج 1 ، والأنعام المارة والنساء ج 3 ، وغيرها ولكن لمناسبة أخرى.
قال تعالى «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» من قبورهم بعد النفخة الثانية وسيقوا إلى المحشر وبعد إجراء الحساب ومقابلة العابدين لمعبوديهم من البشر وغيره وعند إجراء المحاورة بينهم «فَقالَ الضُّعَفاءُ» العابدون والأتباع الذين غلبوا على أمرهم في الدنيا لما رأو العذاب «لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» عليهم في الدنيا من الرؤساء والأغنياء الذين ساقوهم لعبادة غير اللّه «إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً» في الدنيا مسيرين في خدمتكم وأمركم «فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا» اليوم فتكفونا وتدفعوا عنا وتمنعونا «مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ» فترفعونه عنا كما كنتم تعدونا بذلك في الدنيا «قالُوا» لهم لا لأنه «لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ» إلى الإيمان الذي كنا نؤمر به ولا نسمعه ، ولكن ضللنا فأضللناكم «سَواءٌ عَلَيْنا» نحن وأنتم في(4/278)
ج 4 ، ص : 279
في العذاب سواسية «أَ جَزِعْنا» منه «أَمْ صَبَرْنا» عليه «ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ» 21 عنه فلا نجاء ولا مهرب ولا محيد ولا مخلص ، من خاص إذا عدل لجهة الفرار ، راجع الآية 10 من سورة القيامة المارة في ج 1 ، ثم ان الفريقين ألقوا اللوم على الشيطان فاستحضره الحق جل وعلا وذكر لنا ما جابههم به وهو «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ» بين الناس وعرف كل مصيره وصار أهل الجنة للجنة يحمدون اللّه تعالى على ما صاروا إليه بسبب اتباعهم أوامر ربهم وأهل النار للنار يلومون إبليس ويوبخونه على إغرائه لهم في الدنيا ، فيقول لهم «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ» الناجز فلم تصدقوه «وَوَعَدْتُكُمْ» خداعا بكم وإغواء لكم وعدا كذبا «فَأَخْلَفْتُكُمْ» لأنه لا حقيقة له ولا قدرة لي على إنجازه «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» أقهركم به على اتباعي «إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ» دعوة عادية بما أوقعته في قلوبكم من الوسوسة لا بسيفي ولا برمحي ولا بأية معجزة «فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» طوعا ورغبة واختيارا عفوا من أنفسكم وتبعا لشهواتكم الخسيسة التي منبتكم بها قولا.
والأماني كالآمال لا وثوق بها ولا بوقوعها «فَلا تَلُومُونِي» الآن على ما كنتم به راضين قبلا «وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» على عدم إصغائكم لدعوة الرسل المؤيدة بالبراهين والآيات وعدم اتعاظكم بمعجزاتهم وركونكم لنصحهم وإرشادهم الحق ، فاقطعوا أملكم «ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ» ولا مغيثكم ومنقذكم من العذاب الآن وإن ما وعدتكم به في الدنيا كله زور وبهت لا صحة لشيء منه وإني عاجز الآن عن كل شيء مثلكم «وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ» مما أنا فيه من العذاب «إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ» في عبادة اللّه حال الدنيا إذ لا يعبد غيره إلا ظالم «إِنَّ الظَّالِمِينَ» أمثالنا في الدنيا «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 22 في الآخرة وها قد وقعنا به.
هذا آخر قول المغوي للغوات فاعتبروا يا أولي الأبصار واتعظوا يا أولي الألباب من الآن قبل أن يحلّ بكم ما قصه اللّه علينا ، وقد تكررت بين العابدين والمعبودين المحاورة في القرآن كثيرا لمناسبات ، ومعان أخرى لا تغني عن بعضها ، راجع سورة سبأ المارة وفاطر والأعراف في ج 1 والبقرة والأنفال في ج 3 وغيرها ، قال تعالى(4/279)
ج 4 ، ص : 280
«وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» 23 فيما بينهم أنفسهم ، وبينهم وبين الملائكة ، وبينهم وبين ربهم «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا» وصفه بكونه «كَلِمَةً طَيِّبَةً» هي كلمة الإيمان «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» هي النخلة «أَصْلُها ثابِتٌ» في الأرض «وَفَرْعُها» أغصانها المتفرعة من رأسها صاعدة «فِي السَّماءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَها» ثمرها «كُلَّ حِينٍ» ووقت وقته اللّه تعالى لنضجه والثمر ما يدخر ليؤكل إبان نضجه وغيره في كل زمان «بِإِذْنِ رَبِّها» وتيسيره وتكوينه «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» اعتبارا وعظة «لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» 25 المعاني المضروبة من أجلها فيتعظوا بها.
زوى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم لا يتحات ورقها وتؤتي أكلها كل حين.
قال ، قال ابن عمر فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم ، فلما لم يقولا شيئا قال صلى اللّه عليه وسلم هي النخلة ، قال فلما قمنا قلت لعمر يا أبتاه واللّه لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة ، فقال ما منعك أن تتكلم ؟ فقلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم وأقول شيئا ، فقال عمر لأن تكون قلتها أحبّ إلي من كذا كذا.
قال تعالى «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ» هي كلمة الكفر إذ لا أخبث منها أبدا «كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ» هي الحنظل على أصح ما جاء فيها إذا لا أخبث منها عندنا في الدنيا أما في الآخرة فالزقوم والضريع والغسلين أجارنا اللّه منها «اجْتُثَّتْ» استؤصلت وقطعت ورفعت جئّتها المفروشة «مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ» لأنها «ما لَها مِنْ قَرارٍ» 26 ثابت فيها ولا فرع صاعد في السماء ، لأن كل شجرة عادة بقدر ما تتغلغل في الأرض ترتفع في السماء ، وهذا هو الذي يثبتها ويقيها من تأثير الهواء وغيره «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» وهو كلمة التوحيد الحاصل أجرها «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» للذين يتمسكون بها لا يزيغون عن الحق فيمن زاغ ممن سلف كأصحاب الأخدود المتقدم ذكرهم في الآية 4 من سورة البروج في ج 1 ، ومن رسخ كسلمان ورفقائه المتقدم ذكرهم(4/280)
ج 4 ، ص : 281
وكعمار ورفقائه المار ذكرهم في الآيتين 109/ 110 من سورة النحل وفي الآية 24 من سورة الكهف المارتين ، الثابتين على الإيمان مع تعذيبهم من أجله وأمثال هؤلاء كما أن اللّه تعالى ثبتهم في الدنيا «وَفِي الْآخِرَةِ» يثبتهم أيضا وفي أول برزخ من برازخها وهو القبر ، وعند سؤال الملكين ، وفي المحشر والحساب إلى مواقف القيامة ، حتى يدخلهم الجنة التي وعدها لهم.
روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : إن العبد إذا وضع في تبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد ، فأما المؤمن فيقول اشهد أنه عبد اللّه ورسوله ، فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك اللّه به مقعدا في الجنة ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم فيراهما جميعا ، قال قتادة ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ، ثم يرجع إلى حديث أنس قال :
وأما المنافق وفي رواية وأما الكافر فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه ، فيقال : لا دريت ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه من الثقلين ، لفظ البخاري ، ولمسلم بمعناه زاد في رواية : أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون.
وأخرج أبو زيد عن أنس والنسائي عن أبي هريرة ما بمعناه ، وأخرج الترمذي عن البراء بن عازب ، وأبو داود عن عثمان بن عفان بزيادة في ذلك.
الحكم الشرعي : سؤال الملكين في القبر لكل إنسان وإنسانة حق ثابت واجب الاعتقاد به ، وهو معتقد أهل السنة والجماعة بالإتفاق ، قال في بدء الأمالي :
وفي الأجداث عن توحيد ربي سيبلى كل شخص بالسؤال
ومثله في الجوهرة ، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا فاسق زنديق ، راجع ما يتعلق فيه في الآية 26 من سورة المؤمن المارة وله صلة في الآية 53 من سورة الروم الآتية ، «وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» فيزلهم في ذلك كله ويحرمهم مما أعده للمؤمنين «وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» 27 من الهداية والإضلال فيمن يريده وفاقا لما في أزله لا اعتراض عليه فيما يفعل وهو لا يسأل ، وهذا أول الآيتين المدنيتين.
قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً» جحودا بدلا من الاعتراف(4/281)
ج 4 ، ص : 282
بها والقيام بشكرها «وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ» الذين تابعوهم على ذلك وسببوا لهم ولأنفسهم «دارَ الْبَوارِ» 28 الهلاك والدمار ، روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ) إلخ قال هم كفّار قريش.
وفي رواية كفار مكة أنعم اللّه عليهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبالقرآن المنزل عليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور فاختاروا الكفر على الإيمان ، ولهذا أحلّوا قومهم دار البوار «جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» 29 هي لهم على اختيارهم ذلك.
أخرج البخاري في ناسخه عن الحبر أن هذه السورة مكيّة إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما (ألم تر) إلخ نزلتا في قتلى بدر من المشركين ، والآية عامة لفظا ومعنى ، وما خصه بعض المفسرين بكفار قريش بأن اللّه تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم بإيلاف الرحلتين وجعلهم قوام بيته فأبدلوا هذه النعمة كفرا به وجحودا بربوبيته ، أو أنه من عليهم بالقرآن العظيم فكفروا به وهو لا نعمة تضاهيه ولا خير يوازيه ، أو أنهم من عليهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم الذي هو أكبر نعمة وأجل منة وأعظم منحة فلم يؤمنوا به وبدلوه بالكفر لا يخصصها ، وكذلك لا يقيدها الحديث الذي أخرجه الحاكم وصححه وابن جرير والطبراني وغيرهم من طرق ، عن علي كرم اللّه وجهه ، أنه قال في هؤلاء المبدلين هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة بقطع اللّه دابرهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
لأن هذا القول صدر منه بعد نزولها في زمن خلافته كما يدل عليه لفظه ، وكذلك ما أخرجه البخاري في تاريخه وابن المنذر وغيرهما عن عمر رضي اللّه عنه في هذا المعنى ، ويدل على عمومها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم ، لأن هذه الحادثة وقعت زمن عمر فلا علاقة لها بسبب نزولها ، بل تشمل كل من بدّل النعمة كفرا ، وهذا هو الأولى والأوفق ، قال تعالى «وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشباها يعبدونها من دونه «لِيُضِلُّوا» أنفسهم وغيرهم «عَنْ سَبِيلِهِ» الحق الذي لا مئيل له ولا شبيه «قُلْ» لأمثال هؤلاء يا سيد الرسل «تَمَتَّعُوا» في هذه الدنيا بشهواتكم الخبيثة أياما قليلة «فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» 30 في الآخرة وبئس المصير النار ،
ويا أكرم الرسل(4/282)
ج 4 ، ص : 283
«قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم «وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ» ما تيسر منه وتسمح به نفوسهم مما خولناهم من النعم في وجوه البر والخير «سِرًّا وَعَلانِيَةً» وليبادروا فيه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ» عليهم وقد نكّره لهول ما يقع فيه يوم «لا بَيْعٌ فِيهِ» ليبتاع المقصر ويتلافى تقصيره ولا فداء فيه ليفتدي نفسه ، يوم لا دية فيه ، ولا خلاص من العذاب ، وعدم إمكان شراء النفس مما حق عليها بخلاف الدنيا الممكن فيها ذلك «وَلا خِلالٌ» 31 جمع خلة إذ لا ينفع الصاحب صاحبه ، ولا قريب قريبه ، يوم تنقطع فيه المودة والقرابة :
مطلب في الخلة ونفعها وضرها وعدم إحصاء نعم اللّه على عباده ، وظلم الإنسان نفسه :
هذا وقد نفى اللّه تعالى في هذه الآية وآية البقرة عدد 256 في ج 3 نفع الخلة ، ويراد بها الحاصلة بميل الطبيعة ورعونة النفس ، وأثبتها في الآية 66 من الزخرف المارة ، لأن المراد بها الخلة الحاصلة بمحبة اللّه وطاعته ، لأنه أثبتها للمتقين وجعل الأولى محض عداء بين المتخالدين لغير اللّه وعلى سخطه ، إذ تكون بلاء خالصا عليهم يوم القيامة ، راجع تفسيرها فقيه بحث نفيس جامع مانع نعلم منه أن كل صحبة لغير اللّه تكون محنة يوم القيامة ، قال هرم بن جبان : ما أقبل عبد بقلبه إلى اللّه عز وجل إلا أقبل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم.
وقال كعب : مكتوب في التوراة لا صحبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤهما من اللّه عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ، وتصديق ذلك في القرآن قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) الآية 99 من سورة مريم في ج 1 فراجعها أيضا ففيها ما تقرّ به الأعين «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» أيها الناس ولدوابكم «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» فتحملكم وأثقالكم إلى مقاصدكم بأقل زمن وأقل كلفة من البر «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ» 32 تجرونها حيث شئتم للشفة والسقي والنّضارة وغيرها «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ» مستمرين على عادتهما من الطلوع والغياب بصورة مطّردة وحالة(4/283)
ج 4 ، ص : 284
دائمة لمنافعكم أيضا ، إذ أودع اللّه فيهما ما أودع من التأثيرات من نضج الثمار وطعمها ولونها وإخراج النبات وأشياء أخرى مما علمه البشر وما لم يعلمه بعد «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» 33 لتنتفعوا بكل منهما ، راجع الآية 12 من الإسراء في ج 1 تقف على فوائدها التي اطلع عليها البشر ، ولهما فوائد أخرى تعلم فيما بعد ، لأن الدنيا لم تكمل بعد ، لأنها.
لا تخرب إلا بعد كمالها ، راجع الآية 44 من سورة يونس المارة «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» وما لم تسألوه لأنكم لا تعرفون كل النعم التي أنعمها عليكم إلا بعد حدوثها ، ومن أين لنا أن نعرف الكثرى والموز والبرتقال والخوخ وغيرها قبل أن نراها ، وحتى الآن يوجد ثمار لا نعرفها «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» لأنها كثيرة جدا فلا تطيقوا عدها إجمالا فضلا عن التفصيل «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» 34 أنعم اللّه ظلام لنفسه ولغيره ، وبعد أن ذكر اللّه تعالى أحوال الكافرين بنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لها لما فيها من تفضيلهم وتكريمهم على الخلق كافة ، وبين لهم أن الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام لمن ثابو عليها ، حثا للمؤمنين على المداومة عليها ، وتقريعا للكافرين والعصاة المخلّين بهما ، ختم الآية بقوله (ظلوم كفار) يريد أن جنس الإنسان مجبول على هاتين الخصلتين ، على أن الآية 18 من سورة النحل المارة ختمت بقوله (إن اللّه لغفور رحيم) ليتعظ هذا الظلوم الكفار بهذه النعم ويرتدع عن غيه ويجنح إلى مغفرة ربه ويتوب من كفره.
فانظروا رعاكم اللّه أيجوز عصيان هذا الإله الخالق لهذه الأشياء ومذللها لكم وجاعل منافعها العظيمة لتأمين راحتكم والتوسع عليكم ، فاحمدوا هذا الرب الذي يمهل من عصاه وكفر نعمه ليتوب إليه ويرجع عن غيه رحمة به ، ويثيب من أطاعه كرامة له وفضلا ليزيد في طاعته ، فبعد هذا كله أيجوز عصيانه ؟ كلا ثم كلا.
وهذه الآية عامة أيضا لأن المراد بالإنسان جنسه لا خصوص أبي جهل وأضرابه كما ذكر بعض المفسرين ، على أنه وأمثاله داخلون في معناها دخولا أوليا «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» أي اذكر يا محمد لقومك قول جدك الكريم «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» صيّره وما حوله من الخوف إلى الأمن ، وآية البقرة 147 في ج 3 (اللهم اجعل هذا بلدا آمنا)(4/284)
ج 4 ، ص : 285
أي اجعل مكة شرفها اللّه من جملة البلاد الآمنة التي يأمن أهلها فيها على أنفسهم وأموالهم «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» 35 أدخل نفسه عليه السلام مع أنه معصوم من عبادتها لزيادة التثبت وإظهار عجزه لربه وإعلاما بأنه لا يقدر أحد علي حفظ نفسه إلا يحفظ اللّه تعالى ، وفيه تعليم للغير بالتبرّي من الاعتماد على النفس ، وقد أجاب اللّه دعاءه لبنيه من صلبه إذ ثبت أن أحدا منهم لم يعبد صنما ما ، وكذلك أولادهم الموجودون في زمانهم.
واعلم أن عجز هذه الآية يفيد أن من
لم يتبعه على دينه فليس منه ، وهو كذلك ، ولكن ينفي ما يرد عليه من أن أهل مكة من نسل إسماعيل عليه السلام ابنه قد عبدوا الأوثان وهذا مردود ، لأنهم ليسوا في زمن إسماعيل ولا أولاد إسماعيل أيضا ، فلا محل لهذا الإيراد ، ولا يرد أيضا ما جاء في الحديث الصحيح (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة) لأن المراد بالأمن الذي طلبه إبراهيم أمن أهلها وقد كان ، قال تعالى (أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الآية 68 من سورة العنكبوت الآتية أي وهم آمنون ، على أنه لو أريد بالأمن عدم خرابها لا يتجه أيضا ، لأن اللّه تعالى قد حفظها من كل من أراد خرابها ، أبرهة فمن قبله وحتى الآن محفوظة بحفظ اللّه ، وستبقى كذلك بإذن اللّه إلى الوقت المقدر لخرابها ، إذ لا يبقى لها أهل ولا من يقول اللّه ، وهو من علامات الساعة ، فلا تنافي بين الحديث والآية على هذا المعنى أيضا ، والأول أولى وأوجه «رَبِّ إِنَّهُنَّ» الأصنام «أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» وهو يعلم أن المضل في الحقيقة هو اللّه كما ذكرناه في الآية 112 من الأنعام المارة ، لأن هذه الأصنام وإبليس وشياطين الإنس والجن لا تقدر أن تضل من هداه اللّه ، قال تعالى (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الآية 17 من سورة الكهف ، ولا سيما الأصنام لأنها جماد لا تعقل حتى تضل غيرها ، إلا أنه لما حصل الإضلال بعبادتها أضيف إليها كما أضيف الغرور والفتنة إلى الدنيا ، والنزغ والإغواء والتزيين إلى الشيطان ، راجع الآية 39 من سورة الحجر المارة وما ترشدك إليه تقف على ما تريده من هذا البحث مفصلا ، ثم خصّص عليه السلام دعاءه العام في صدر هذه الآية بقوله «فَمَنْ تَبِعَنِي(4/285)
ج 4 ، ص : 286
فَإِنَّهُ مِنِّي»
على ديني وعقيدتي «وَمَنْ عَصانِي» فيها «فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 36 به تقدر على هدايته إذا شئت ، وليس في هذه الآية جواز الدعاء للكافرين بالمغفرة والرحمة ، لأنها جارية مجرى الخبر ، أي أن الكافر إذا تاب وأناب فإنك غفور لأمثاله ، رحيم بهم ، أو أنها على حد استغفاره لأبيه قبل أن يعلمه اللّه عدم غفران الشرك ، لعلمه أنه قادر على أن ينقله من الكفر إلى الإيمان ، وعلى هذا قول عيسى بن مريم عليه السلام في الآية 118 من المائدة في ج 3 (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) إلا أن عيسى ختم كلامه بما لا يدل على المغفرة والرحمة ، لأن لفظ العزيز يدل على العظمة والغلبة ، ولفظ الحكيم يدل على أن ما يفعله اللّه موافق للواقع ، لأن الحكمة تعذيب العاصي وتكريم الطائع ، فبين حتام الآيتين بون شاسع في المعنى ، وإن استغفار إبراهيم لأبيه وقع منه بعد أن وعده بالإيمان به ، راجع الآية 114 من سورة التوبة في ج 3 ، لهذا فإن من استدل بهذه الآية على جواز مغفرة الشرك فقد مال ، إذ لا دليل له لمخالفته صراحة قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية 48 من النساء في ج 3 ، وهي مكررة فيها راجع الآية 8 من الشعراء في ج 1 فيما يتعلق في هذا البحث ، ومنها تعلم أن عدم غفران الشرك قديم لا خاص بأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي» يريد إسماعيل عليه السلام «بِوادٍ» بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل جياد ويسمى وادي مكة «غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» لأنه رمال لا تنبت «عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» التعرض له ولما فيه والتهاون به «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ» أي لم أسكنهم فيه إلا ليعبدوك ويوحدوك لأن القصد إظهار ركون الإسكان مع فقدان لوازمه لمحض التقرب والالتجاء إلى جواره ، لأنه بلقع خال من كل ما تقتضيه الحياة ، ولهذا قال جل قوله «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» تميل حنانا وشوقا إليه ورغبة فيه «وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» الموجودة في بلادك الأخرى بأن سخّر لهم الناس بجلبها إليهم من بلادهم ، وقد أجاب اللّه دعاءه ، فترى في مكة جميع أصناف اللباس والمأكول والمشروب بكثرة كما قال تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ) الآية 57 من سورة(4/286)
ج 4 ، ص : 287
القصص في ج 1 ، «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» 37 نعمك ويقولون إن الإتيان بها من جملة آياتك ونعمك عليهم ، قال سعيد بن جبير : لو قال اللّه أفئدة الناس لحجت النصارى واليهود والمجوس ، ولكنه قال من الناس يريد المسلمين فقط ، لأنه سبق في علمه حرماتهم من زيارته لقوله جل قوله (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) الآية
25 من التوبة في ج 3 ، «رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ» في كل أمورنا وأحوالنا وأفعالنا ونيّاتنا ، لا تفاوت عندك بين السر والعلانية ، قال تعالى «وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» 38 تصديقا لقولهم ذلك ، وقد جمع الضمير لأن الدعاء منه ومن ابنه إسماعيل بدليل ما جاء في الآية 138 من البقرة في ج 3 ، وهو قوله تعالى حكاية عنهم كما هنا (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) وفي تكرير هذا النداء دلالة على أن كثرة التضرع إلى اللّه تعالى واللجوء إليه وحصر القصد فيه مطلوب.
ثم قال إبراهيم وحده «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» 39 إشارة إلى قوله قبلا (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) الآية 100 من سورة الصافات المارة ، فأجاب اللّه دعاءه فوهب له إسماعيل من هاجر وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وإسحق من سارة وهو ابن مئة وسبع عشرة سنة ، قال تعالى على لسان خليله أيضا «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» اجعل من يقيمها ، وذلك أنه علم بإعلام اللّه إياه أن أناسا يكونون من ذريته لا يقيمونها «رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» 40 بإثبات الياء ودونها ، وقد أجاب اللّه دعاءه إذ جعل النسوة في ذريته وهم أهل الصلاة
«رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ» إذا تابا وأنابا وأسلما لك ، وهذا قبل أن يتبين له أنهما من أصحاب الجحيم ، ولأنهما وعداه أن يؤمنا به وبربه.
أما استغفاره لنفسه مع علمه أنه معصوم من الذنب فهو بقصد الالتجاء إلى ربه والاتكال عليه ، ولما يظن أن ما قاله في جملة (بل فعله كبيرهم) في الآية 63 من الأنبياء الآتية ، والآية 89 من سورة الصافّات المارة وهي (إني سقيم) وقوله للجبار عن زوجته هذه أختي يريد بالخلقة والدين - تستوجب الاستغفار ، لأنه من الأبرار ، وإن حسنات(4/287)
ج 4 ، ص : 288
الأبرار سيئات المقرّبين «وَلِلْمُؤْمِنِينَ» جميعهم اغفر يا رب ، وهذا تعميم بعد تخصيص لأنه داخل فيهم دخولا أوليا ، وفي هذه الآية بشارة عظيمة لجميع المؤمنين لأن اللّه تعالى أكرم من أن يردّ دعاء خليله ، وستظهر ثمرة هذا الغفران «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» 41 أسند القيام إليه مجازا على حدّ قوله (واسأل القرية) أي أهل الحساب ، لأن القيام منهم وهذا مما لا يخالف الظاهر ، لأن من المعلوم أن القرية لا تسأل والحساب لا يقوم ، لأنه معنى ، والقيام للأجسام لا للمعاني ، قال تعالى «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ» حاشا ، بل هو مطلع عليهم ومحص أعمالهم ، ولكنه تعالى «إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ» للتقاصّ منهم «لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ» 42 لجهة العلو لما يرون من الهول الذي يدهشهم ويحيرهم ، وشخوصها بقاؤها مفتوحة لا تطرف حال كونهم «مُهْطِعِينَ» مسرعين بمشيهم إلى جهة الداعي مهرولين وراءه ، لا يعرفون ما هو مصيرهم كالنعم حين يسوقها الجزار إلى المذبح ، بخلاف حال الدنيا فإن من يشخص منهم بصره يقف مبهوتا لا يقدر على الحركة ، وأهل الآخرة على العكس ، فإنهم يمشون مسرعين ، وهذا من جملة عجائب أحوال أهل ذلك اليوم «مُقْنِعِي» رافعي «رُؤُسِهِمْ» إلى السماء ، وهذا أيضا على خلاف عادة أهل الدنيا ، لأن من يتوقع منهم شيئا يخافه يطرق رأسه إلى الأرض «لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ» للنظر على أنفسهم بل يبقى شاخصا من شدة الفزع ، وسبب رفعها إلى السماء توقع نزول شيء منها عليهم ، إذ ينزل العرش الإلهي محمولا على الملائكة ويوضع في الموقف لفصل القضاء بين الناس ، وأما الذين يعتريهم الخوف فيكونون هم «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» 43 أي قلوبهم خالية فارغة لا تفكر بشيء ، ولا تعقل شيئا ، أجارنا اللّه من هول ذلك اليوم.
والفؤاد هو الجؤجؤ ، قال زهير :
كأن الرحل منها فوق صعل من الظلمات جؤجؤه هواء
يريد قلبه.
وقول حسان :
ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوّف نخب هواء(4/288)
ج 4 ، ص : 289
مطلب في الغفلة والقلب والشكوى وفتح لام كي وكسرها والقراءة الواردة فيها وعدم صحة الحكايتين في هذه الآية :
واعلم أن الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور ، وسهو يعتريه من قلة التحفظ والتيقظ وهو في حق اللّه تعالى محال ، والمقصود منها عدم معاملة الظالم معاملة الغافل ، بل ينتقم منه للمظلوم ويعامله معاملة الرقيب الحفيظ الحسيب العالم بجزئيات ما وقع منه فضلا عن كلياتها ، ففي الآية تهديد للظالم وتعزية للمظلوم.
والمراد من توجيه الخطاب لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مع أنه يعلم أن ربه ليس بغافل ولا يتصور منه الغفلة فيما يتعلق بربه التثبت على ما كان عليه ، كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية 135 من سورة النساء في ج 3 ، أي اثبتوا على الإيمان الذي أنتم عليه ، وقد يراد به خطاب أمته الغير عارفين بصفات اللّه ، ويكون على حد قوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الآية 87 من سورة النمل المارة في ج 1 (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الآية 89 منها أيضا ، ولا يخفى أن حضرة الرسول عالم بذلك ، وظهور الحال على ما قيل يغني عن السؤال ، وقيل في هذا المعنى مما هو منسوب للشيخ عمر السهروردي دفين بغداد قدّس سره ونور ضريحه :
ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني عليل ومن أشكو إليه عليل
ويمنعني الشكوى إلى اللّه أنه عليم بما أشكوه قبل أقول
وسنأتي على بحث إسكان إسماعيل في مكة في الآية المذكورة من سورة البقرة إن شاء اللّه «وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ» ويحيط بهم «فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم إذ ذاك «رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا فيها مدة قليلة «نُجِبْ دَعْوَتَكَ» التي أمرت بها «وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» الذين أرسلتهم فأجابهم ربهم «أَ وَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ» حينما كنتم في الدنيا وقلتم فيما بينكم فيها «ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ» 44 من مصيركم الذي دفنتم فيه إذا متم أي تبقون ميتين وأنكرتم النشور والحساب «وَسَكَنْتُمْ» فيها «فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» من الكفرة(4/289)
ج 4 ، ص : 290
أمثالكم «وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ» من الإهلاك والتدمير بسبب إنكارهم البعث «وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» 45 بأفعالهم وبما فعل بهم لتتعظوا وترجعوا عن غيكم ، فأبيتم ولم ينجع بكم إرسال الرسل ولا نصحهم وإرشادهم «وَقَدْ مَكَرُوا» الذين سكنوا مساكن الظالمين «مَكْرَهُمْ» مثل الظالمين المذكورين «وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ» ثابت بعلمه الأزلي قبل إحداثه منهم وقبل خلقهم «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» 46 إن هنا وصلية أي وإن كان مكرهم في غاية الشدة ونهاية المتابة ، فإنه مبطله في الدنيا ومجازيهم عليه في الآخرة.
وتكون إن هنا بمعنى ما ، أي ما كان مكرهم لإزالة الجبال ، لأن اللام فيه مفتوحة وهي لام كي ، ولذلك صارت اللام الأخيرة مفتوحة لنصبها بها ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، واللام في لتزول لام التأكيد ، أي مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال في الثبوت.
وقرأ بعضهم بفتح اللام الأولى وضم الثانية على الفاعلية ، وتكون فيها إن مخففة من الثقيلة ايضا ، واللام للتوكيد.
وقرىء بفتح اللامين على لغة من فتح لام كي وهي شاذة.
هذا ، وما حكي عن علي كرم اللّه وجهه بأن هذه الآية نزلت في النمروذ لأنه اتخذ أربعة أنسر وشدّ عليهن تابوتا وطرن به إلى السماء ليرى إله إبراهيم عليه السلام ، وجعل لحما في خشبات بأعلى التابوت لتراها النسور فتطير إليه لتأكله فتحمل التابوت بسبب ذلك وترتفع به نحو العلو ، وبهذه الصورة تمكن من الطيران مع صاحب له ، وصار كلما ارتفع سأل صاحبه فيخبره أن السماء كهيأتها والأرض كذلك ، ولا زال حتى خبره أن الأرض صارت عبارة عن ظلمة ، وصارت الريح بينه وبين الارتفاع ، والسماء كهيئتها لم يحس بقرب ما منها ، قالوا ونودي أيها الطاغي إلى أين تريد ، ثم صار يرمي بقوسه إلى السماء حتى افتتن ورجعت النبل ملطخة بالدم ، فلما رأى ذلك قال كفيت رب السماء ، فحول الخشبات التي عليها اللحم ونكسها لجهة الأرض ، فهبطت النسور لتناوله ، ولا زالت تهبط به حتى وصل الأرض بسلامة.
قالوا فسمعت الجبال خفيق التابوت والنسور فظنت حدوث أمر في السماء ، ففزعت وخافت وكادت تزول عن أماكنها من شدة الهلع فهو حكاية مستبعدة ، لا يكاد يصدقها العقل ولا يسلم لها(4/290)
ج 4 ، ص : 291
الضمير ، ولو قيل إنها نقلت عن ابن جبير والسدّي ومجاهد وأبي عبيدة وغيرهم ، كما لا يرتاح الوجدان بتسليم نقلها عن علي كرم اللّه وجهه ، ولا مناسبة بينها وبين هذه الآية ، وما هو بالخبر الذي يعتمد عليه ، وقال بعضهم إن الفاعل لهذا هو بختنصر.
وكذلك ما قيل إن امرأة اتهمها زوجها وكلفها أن تحلف على جبل مشهور لديهم أن من حلف عليه كاذبا مات ، وأنها بعد أن اتفقت مع صاحبها بأن ينتظرها بمكان على الطريق وأفقت زوجها على الحلف وذهبت معه ، حتى إذا وصلت إلى المحل الذي فيه صاحبها رمت نفسها وأظهرت سوءتها له ، فأركها زوجها وذلك الرجل حتى إذا وصلت إلى الجبل حلفت بأنه لم يمسها أحد إلا زوجها وذلك الرجل ، مكرا منها ، ونزلت من الجبل سالمة ، لأن كلمة مسّها أرادت بها الفعل وأظهرت لزوجها أنه اللمس بسبب إركابه لها واطلاعه على سوءتها حين رمت نفسها ، قالوا ومنذ ذلك اليوم اندك الجبل بسبب مكرها الذي مكرته على زوجها الذي لا يعلم ما دبرت له ، قالوا وإن المرأة من عدنان ، فهذه وأمثالها قصص لا عبرة بها ، ولا وثوق بصحتها ، لهذا فإن الأخذ بها لا يجوز ، والأجدر حمل الآية على ما ذكرناه في تفسيرها بصورة عامة يندمج فيها كل كافر ما كر مجترئ على مناوأة اللّه تعالى ومبارزته ، فتكون
الآية من قبيل قوله تعالى (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) الآية 90 من سورة مريم في ج 1.
قال تعالى «فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ» بإعلاء كلمتهم ونصرتهم وإهلاك عدوهم «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب مكر الماكرين «ذُو انتِقامٍ» 47 عظيم من أعدائه المكذبين لأوليائه ، واذكر يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» المعهودة ذات الجبال والوديان والبحار والأشجار.
والعيون والنبات حتى تظنها أيها الرائي لها غير أرضك التي تعرفها ونشأت عليها في الدنيا لخلوها من جميع ذلك ، كما قال تعالى (قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) الآية 107 من سورة طه في ج 1 «وَالسَّماواتُ» ذات الكواكب والشموس والأقمار المعهودة التي عشت تحت ظلها تبدل أيضا بما يبدعه اللّه تعالى حتى لا تشك بأنها غير السموات الأولى لخلوها مما كان فيها من الثريا والميزان والمجرة وغيرها ، (4/291)
ج 4 ، ص : 292
روي عن سهل بن سعد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة (هو الطلمه أي الرغيف الثخين العظيم الذي يعملونه فيخبزونه على الملّة وكانت العرب قديما تعمله ، ويوجد الآن من عشائر الجبور في الجزيرة آل محمد آمين يعملونه ، وان الرغيف منه يكفي الجماعة ويضعون عليه السمن والسكر ، ومنه ما يكفي الأربعين وأكثر بارك اللّه في الكرام) يوم القيامة يتكفأها الجبار بيده ، (أي يميلها من يد إلى يد كالرقاقة) كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة.
- أخرجاه في الصحيحين - .
وروي عن عائشة قالت : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) إلخ فأين يكون الناس يومئذ يا رسول اللّه ؟
فقال على الصراط - أخرجه مسلم - .
ولا تنافي بين هذه الآية وآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) من سورة الزلزلة في ج 1 لإمكان الجمع بينهما ، وهو أن الأرض تتبدل صفتها مع بقاء ذاتها ، فيضع اللّه تعالى بها قوة النطق ، فتحدث بإذنه تعالى بكل ما وقع عليها ، ثم تبدل ذاتها بغيرها ، وما ذلك على اللّه بعزيز ، وأنشد بالمعنى :
اما الديار فإنها كديارهم وأرى نساء الحي غير نسائها
ومن هذا القبيل قوله :
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعلم
«وَبَرَزُوا» الموتى من قبورهم متوجهين «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» 48 ليتمثلوا أمامه بالموقف للحساب «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ» بعضهم ببعض «فِي الْأَصْفادِ» 49 القيود والسلاسل والأغلال «سَرابِيلُهُمْ» لباسهم «مِنْ قَطِرانٍ» هو ما تدهن به الإبل الجربة مستخرج من شجر مخصوص بإشعال النار تحت وسطه ، فيسيل من طرفيه ، وأكثر ما يكون شمالي حلب بمنطقة الا كبس وغيرها.
وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن إلا في سورة ص الآية 38 في ج 1 ، وكلمة سرابيل كذلك لم تكرر إلا في سورة النحل المارة في الآية 80 ، والقطران يشبه الزفت ورائحته كالنفط ، وقد يستخرج من شجر الأبهل والعرعر والتوت أيضا ، وقد حذرهم اللّه تعالى مما يعرفون مبالغة في الاشتعال ، وإلا فعنده أشياء لمبالغة(4/292)
ج 4 ، ص : 293
الاحتراق أعظم وأعظم من هذه لا نعرفها أجارنا اللّه منها.
وإذا نظرتم أيها الناس إلى هذه المتفجرات التي أحدثت في الحروب واستعملت لإهلاك الناس فدمرت الحرث النسل وهي من عمل البشر فما بالكم بما هو من خلق اللّه الذي أتقن كل شيء ؟
علموا أن هؤلاء الكفرة بعد أن يلبسوا ثياب القطران يزجّون في جهنم «وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» 50 خص الوجه لأنه أعزّ موضع في ظاهر البدن كالقلب في عنه ، ولذلك قال تعالى في سورة الهمزة في ج 1 (تطلع على الأفئدة) وإلا تعلو الرأس برماح كثيرة ، وكل ما ذكره اللّه تعالى إنما هو على قدر ما يعقله سر ، وإلّا أفظع وأعظم ، وإنما ذكرها كالمثل بالنسبة لما تعرفه كما مثل بالمشكاة ، وأين المشكاة من نوره المقدس ، وكذلك ما ذكره لنا من وصف ؟ ؟ ونعيمها فهو لا يقاس بما عندنا
«لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» الدنيا لا يظلمها وينقصها «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» 51 يحاسب الخلق كلهم ، واحد محاسبة رجل واحد بالنسبة لنا ، وإلا فهو أقل من ذلك «هذا» ؟ ؟ لما ذكر من قوله فلا تحسبنّ إلى هنا «بَلاغٌ» إخطار وإنذار من اللّه ؟ ؟ إلى خلقه ليتعظوا به ويتدبروا عاقبة أمرهم فيقلعوا عما هم عليه مما لا يرضاه اللّه يزيدوا مما يرضاه ، وهو كاف للتذكير وللتحذير والتيقظ «لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» بعدهم ومن معهم فيخوفوهم ويهددوهم «وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ» الإله المعبود ، القادر على ذلك كله المحيي الميت هو «إِلهٌ واحِدٌ» لا شريك له ولا شبيه مثيل ولا ند ولا ضد ولا معاون ولا وزير ، المنفرد بالأمر بلا ممانع ولا الأرض «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» 52 الصحيحة والعقول السليمة في هذا ؟ ؟ الإلهي الذي هو عبر وعظات وذكرى ما وراءها وراء ليعظوا بها ويتعظوا ، يرشدوا ويرشدوا.
واعلم أن هذه الجملة لم تختم بها غير هذه السورة ، بما يدل أنها أكبر عظة لمن يتذكر.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه واتباعه أن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.(4/293)
ج 4 ، ص : 294
تفسير سورة الأنبياء
عدد 23 و73 - 21
نزلت بمكة بعد سورة إبراهيم.
وهي مئة واثنتا عشرة آية ، وألف وثمنمئة وثمانية وستون كلمة ، وأربعة آلاف وثمنمئة وتسعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» على ما عملوه في الدنيا ، لأن القرب إما زماني ، وإما مكاني ، وكونه مكانيا يتعذر هنا.
فلزم أن يكون زمانيّا ، ولا يقال إنه مرّ عليه ما يقرب من أربعة عشر قرنا ولم يأت لأن يوما عند ربك كألف سنة مما نعدّه ، والمراد أن وقت الحساب صار قريبا ، ولذلك عبر بالماضي لتحقق وقوعه وقربه وقلة ما بقي بالنسبة لما مضى ، لأن كل آت قريب.
والبعيد ما وقع ومضى.
وقيل في المعنى :
فلا زال ما تهواه أقرب من غد ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ومناسبة هذه السورة لما قبلها ظاهرة ، إذ ما بعد الإنذار بالجزاء إلا الوقوع.
وقد أخبر اللّه تعالى بقربه ليتيقظ المسيء ويتعظ ، ويكثر المحسن ويستزيد من إحسانه ، وليكون كل منهما بحالة أدعى للتأهب ، وليتنبه الغافل من رقدته ، ويتذكر الناس أجمع ويسرعوا بالإقلاع عن المعاصي والإقدام على الطاعات ، ولكن مع الأسف لا يتذكرون «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» 1 عن الاستعداد لما يراد بهم في ذلك اليوم ، لا هون عنه ، غارقون في بحر النسيان ، وتراهم يا سيد الرسل «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» إنزاله أي ما يحدث اللّه تعالى من تنزيل القرآن شيئا فشيئا ، ليذكرهم به تدريجا ، ويعظهم أولا فأولا ليتشوقوا إليه ويعره ويعقلوه «إِلَّا اسْتَمَعُوهُ» منك «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» 2 فيسخرون به ويستهزئون عند سماعه «لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» عنه ساهية أفئدتهم عن معناه كأنه لم ينزل لخيرهم «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى» فيما بينهم بالباطل عند سماعه.
وأعلم أن الضمير في أسروا صرف دال على الجمع فقط لأن فاعله «الَّذِينَ» وصلته جملة «ظَلَمُوا» ومن هنا صحت لغة أكلوني البراغيث ، ثم بين هذه النّجوى التي بالغوا في إخفائها بينهم بقوله جل قوله «هَلْ هذا» الذي يدعي رسالة اللّه ويأمركم(4/294)
ج 4 ، ص : 295
باتباعه وإبطال دين آبائكم «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أيها الناس ليس بملك ولا إله وإنما بسحركم بما أوتي من بلاغة في المعنى وفصاحة في القول «أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ» بمطلق ادعائه الرسالة وتقبلون قوله بمجرد أن قال لكم إن الذي أتلوه عليكم من اللّه «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» 3 بأم أعينكم أنه بشر مثلكم وتعقلون ببصائركم أن ما يأتيكم به سحر ، قل يا أكمل الرسل لهؤلاء الكفرة الذين يحوكون لك الدسائس فيما بينهم ، ويظنون أنا لا نطلعك على حقيقة أمرهم ، والقراءة التي عليها المصاحف «قالَ» لهم جوابا لما تناجوا به «رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ» قليله وكثيره ، وخفيه وظاهره ، من كل ما وقع أو يقع «فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» فكيف تناجون فيّ ولا يطلعني على نجواكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لكل ما يقع في أرضه وسمائه مهما رق ودق «الْعَلِيمُ» 3 به سره وجهره وما تضمرونه إليّ في أي مكان وزمان كان لا يخفى عليه شيء.
مطلب وصف الكفرة كلام اللّه والنزل عليه ومعنى اللهو وكلمة لا يفترون :
واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء الكفرة لم يكتفوا بقولهم لك ساحر والقرآن سحر «بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أباطيل رآها في نومه ، ثم انتقلوا إلى ما هو أفظع فقالوا «بَلِ افْتَراهُ» اختلقه من نفسه ، ثم أضربوا فقالوا «بَلْ هُوَ شاعِرٌ» وذلك أن الكفرة تضاربت آراؤهم وتنافت أقوالهم إذ اختلفوا في وصف محمد وما يتلوه عليهم على ثمانية أقوال : 1 - منهم من قال إن ما يأتي به من أساطير الأولين وهو ناقل لها ، 2 - ومنهم من قال يتعلم من الغير ويتلوه عليكم ، 3 - ومنهم من قال القرآن كهانة ومحمد كاهن ، 4 - ومنهم من قال إنه سحر وهو ساحر 5 - ومنهم من قال إنه شعر وهو شاعر ، 6 - ومنهم من قال إنه نثر مسجع وهو ألفه ، 7 - ومنهم من قال اختلقه من نفسه وهو مختلق مبتدع ، 8 - ومنهم من قال أباطيل نوم يراعا وينسبها إلى اللّه.
قاتلهم اللّه وعذبهم في أصناف ناره وحرمهم من أنواع جنته ، وقد كذبوا كلهم فيما تقولوه ولمّا عرفوا أنهم لم يصيبوا الهدف تحدوه فقالوا «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ» من لدن ربه تدل على صحة دعواه «كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» 5 بالآيات مثل موسى وعيسى ومن قبلها ، ومن هنا يفهم أن ما قاله بعضهم إن المراد(4/295)
ج 4 ، ص : 296
بالذكر المحدث في الآية الثانية المارة هو قول الرسول.
قول لا قيمة له ولا يستند إلى قول بل المراد ما ذكرناه في تفسيرها لا غير واللّه أعلم.
قال تعالى رادا عليهم قولهم ومجيبا عن نبيه صلّى اللّه عليه وسلم «ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» من الأمم السالفة الذين اقترحوا الآيات على أنبيائهم لأنهم كذبوا بها بعد نزولها فأهلكناهم «أَ فَهُمْ» قومك هؤلاء العريقون في الكفر إذا أنزلنا عليهم آية «يُؤْمِنُونَ» 6 كلا لا يؤمنون ولو آتيناهم كل آية ، وهذا من إطلاق الكل وإرادة الجزء لأن منهم من آمن ومنهم من أصر فالمخبر عنهم بعدم الإيمان هم المصرّون على كفرهم وقال تعالى في معرض الرد عليهم أيضا «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» مثلك فكيف يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» جمع الضمير للتعظيم وسببه افتضاء المقام لتعظيمه أمام قومه ، أي اسأل يا محمد علماء أهل الكتابين الذين سألهم قومك بماذا يختبرونك وقالوا لهم سلوه عن أهل الكهف وذي القرنين والروح ، كما تقدم في الآية 9 من سورة الكهف المارة ، فقل لمثل هؤلاء هل أرسل اللّه للأولين ملائكة كما يزعمون فإنهم يجيبونك حتما بأن اللّه لم يرسل إلى البشر إلا بشرا مثلهم «إِنْ كُنْتُمْ» يا رسولنا «لا تَعْلَمُونَ» 7 ذلك راجع نظيره هذه الآية الآية 47 من سورة النحل المارة بزيادة لفظ من فقط «وَما جَعَلْناهُمْ» أي الرسل قبلك يا حبيبي «جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ» حتى يقولوا (ما لهذا الرسول يأكل الطعام) الآيتين 8/ 20 من الفرقان في ج 1 ، وجاءت هذه الآية بمعرض الرد لهذا القول لأنهم لا زالوا يترنمون بهذه الأباطيل وينكرون ما تنلوه عليهم بقولهم المجرد إذ لا حجة لهم ولا برهان على إبطاله لذلك تراهم يتمسكون بهذه الأقاويل الفارغة ويكررونها «وَما كانُوا خالِدِينَ» 8 في الدنيا بل يموتون كغيرهم وما أنت إلا مثلهم تموت أيضا فلا محل لا نتقادك بذلك «ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ» بنصرهم وإهلاك أعدائهم في الدنيا أما الأنبياء إخوانك «فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ» من أتباعهم الصادقين «وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ» 9 بالمعاصي والتعدي على الغير هلاك استئصال ، قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً» عظيما جليلا يا معشر قريش على أشرف رجل منكم وهذا سفر خطير «فِيهِ(4/296)
ج 4 ، ص : 297
ذِكْرُكُمْ»
شرفكم بين الأمم وشرعكم الشامل لهم ودينكم الذي تدينون فيه فهو أكبر النعم عليكم إذ جاء بلسانكم فلكم فيه الفخر على غيركم «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» 10 هذه النعم العظيمة وتعضوا عليها بالنواجذ وتعملوا بكتابكم هذا فتحلّوا حلاله وتحرموا حرامه
«وَكَمْ قَصَمْنا» قصفنا والقصم الكسر مع تفريق الأجزاء وإذهاب التئامها ، والمعنى أنا عجلنا عقوبتهم لاشتداد غضبنا عليهم ولم نمهلهم لشدة إصرارهم ، وقد جرت سنتنا أن لا نمهل ظالما «مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» مصرة بل دككناها بما فيها وما عليها «وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» 11 فأسكناهم فيها بدلهم فتبعوا أثرهم بالفسق والطغيان قال :
ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى وعرّج على الباقي وسائله لم بقي
قال تعالى «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا» عذابنا وشاهدوه بحاسة بصرهم بعد أن أنذرناهم وحذرناهم «إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» 12 ، هربا من القرية كي لا يصل إليهم العذاب الذي رأوه أظلهم فقيل لهم «لا تَرْكُضُوا» يا قوم فليس بنافع جري إذا جاء القضاء بالعذاب وقد مر في الآية 13 من سورة ص في ج 1 أن الركض ضرب الأرض بالرجل أي بعقبها وجاء هنا بمعنى الجري على اللغة الدارجة لأن القرآن العظيم جاء فيه من كافة اللغات مما هو أحسنها «وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» من التنعم بالعيش والترف في اللباس والترفه في السكنى «وَمَساكِنِكُمْ» التي زخرفتموها في الدنيا أي تقول لهم الملائكة ذلك على طريق الاستهزاء والسخرية بهم «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» 13 من قبل الغير عما جرى بكم من العذاب وعن السبب الذي أوقعكم فيه فتجزون به ، قيل نزلت هذه في أهل (حصوه) قرية باليمن كان أهلها عربا حينما قتلوا نبيهم بعد أن كذبوه فسلط اللّه عليهم بختنصر فقتلهم وسباهم فصاروا يهربون منهم فأدركوهم وقد أخذتهم السيوف ونادى مناد من جو السماء بالثارات الأنبياء ، ولما لم يروا بدا اعترفوا و«قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» 14 بتكذيب الرسل وقتلهم ولكن لم ينفعهم الندم بعد نزول العذاب «فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ» أي قولهم يا ويلنا وهم يقتلون ويذبحون متوالية «حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً» كالزرع المحصود(4/297)
ج 4 ، ص : 298
«خامِدِينَ» 15 لا حراك بهم ، وفي هذه الآية تحذير لأهل مكة وتخويف عظيم وتهديد شديد بأنهم إذا لم يرجعوا عن غيهم يكون مصيرهم مثل مصيرهم ، قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما» وما فيهما من العجائب والبدائع «لاعِبِينَ» 16 لأن اللعب يروق ساعة أوله ولا ثبات له وإنما خلقناهما لفوائد كثيرة همها الاستطلاع على قدرتنا والتبصّر في باهر حكمتنا وأرسلنا الأنبياء ليكفروا الخلق فيها وإلا لما كان من حاجة لإرسالهم لو كان خلقها لمجرد اللهو ، ثم نزّه ذاته المقدسة فقال «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً» نلهو به من امرأة أو ولد أو خدم أو جنات أو أموال وأنعام «لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا» في الجنة من الحور والولدان لا من عندكم ولكنا لم نتخذ «إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» 17 ما تنفوهون به وهذا ممتنع علينا لغنانا عنه واحتياج الكل إلينا ، فالولد والزوجة لا يكونان إلا عند الأب والزوج لا يكونان عند غيره ، وقال بعض المفسرين ان (إن) هنا نافيه أي (ما كنا فاعلين) وعليه يكون الوقف على (لدنا) لا على (فاعلين) والأول أي اعتبار إن شرطية محذوفة الجواب الدال عليه ما قبلها وهو (لا تخذناه) أولى بسبك العبارة والثاني أبلغ في النفي فقط تأمل ، وفي هذه الآية رد وتقريع على من ينسب له تعالى الصاحبة والولد تبرأت ذاته المقدسة عنهما ، ولذلك بقول بعض النصارى إن مريم صاحبة للّه وعيسى ابنه ، واليهود يقولون إن عزيزا ابنه ، والعرب تقول الملائكة بناته ، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا أي لكنا لنا ممن يفعل ذلك لاستحالته في حقنا ، وإنما نفى اللهو جل جلاله عنه لأنه نقص وهو مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب منه وهذا ليس من قبيل الوجوب عليه بل القول بالوجوب عنه وهو واجب علينا ، ومن أنكر أن اللعب نقص كالكذب فقد كابر ، ولا داعي لمن قال إن اللهو يراد به الجماع ويكنّى عنه به وعن المرأة واستشهد
بقول امرئ القيس :
الا زعمت بسباسة القوم أنني كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
إذ لا حاجة لقلب الحقيقة إلى المجاز دون صارف.
ثم أضرب جلّ اضرابه فقال «بَلْ نَقْذِفُ» نرمي ونطرح «بِالْحَقِّ» القرآن والإيمان به «عَلَى الْباطِلِ»(4/298)
ج 4 ، ص : 299
الكفر والشرك «فَيَدْمَغُهُ» يمحقه ويدمره «فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» مضمحل مدحوض ذاهب لا أثر له ، وقال بعض المفسرين المراد بالحق هنا الجد وبالباطل اللهو لأن الآية هذه مسوقة لما قبلها ، وهو وجيه لو لا الإضراب الموجود لأنه ينافي كونها مسوقة لما قبلها بل يفيد الانتقال عنها لمعنى آخر لأن الاضراب لا يأتي إلا لمغزى غير مغزى ما قبله وهو ما ذكرناه واللّه أعلم «وَلَكُمُ الْوَيْلُ» أيها الكفرة والهلاك «مِمَّا تَصِفُونَ» 18 الحضرة الإلهية مما لا يليق بها ، قال تعالى «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ» من الملائكة إنما خصهم بالذكر مع أنهم داخلون في معنى من اعتناء بهم ، لأنهم لا شغل لهم إلا التقديس والتنزيه لحضرته الكريمة يدل عليه قوله «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ» 19 لا يعيون ولا يكلّون «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» بلا انقطاع «لا يَفْتُرُونَ» 20 عن تعظيمه وتكبيره وتسبيحه لأنه جار منهم مجرى التنفس من بني آدم فلا يلحقهم فيه سامة ولا تعب بل يتلذذون به ولا يمنعهم عن التكلم بغيره كما لا يمنع ابن آدم النفس عن الكلام فلا يرد عليه قول القائل إن من الملائكة من هو مشغول بتبليغ الرسل ومنهم من هو موكل بلعن الكفرة ومنهم من هو مشغول بتقليب الرياح وغير ذلك.
مطلب برهان التمانع ومعنى فساد السموات والأرض وما يتعلق بهما :
قال تعالى يا أكمل الرسل قل لهؤلاء الذين يزبتون لخلقي عبادة غيري أتتخذوا إلها من السماء كلا إذ لا إله غيري «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ» من أحجارها وأخشابها ومعادنها لأن الأصنام تعمل منها أو من بعضها ولا إله فيها ولمن فيها غيري وهل ما اتخذوه «هُمْ» أي الآلهة المتخذة من صنع أيديهم «يُنْشِرُونَ» 21 يحيون الموتى مثلي ، كلا لا يقدرون على ذلك ولا يستحق العبادة إلا من يقدر على الإحياء والإماتة والإيجاد من العدم إلى الوجود ولا قادر على هذا غيري فأنا المستحق للعبادة وحدي ، وأنت يا سيد الرسل قل لهم «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» أي السموات والأرض وإذا فسدتا فسد من فيهما وما بينهما ، لأن كل أمر يصدر عن اثنين لم يجر على انتظام بل يفضي إلى المحال ، فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا(4/299)
ج 4 ، ص : 300
لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد أن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات ، ولو كان كذلك لكان كل منهما قادرا على إماتة زيد مثلا وإحيائه فإذا أراد أحدهما إماتته وأراد الآخر إحياءه أي إبقاءه حيا فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال أيضا لأن المانع من وجود مراد كل منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس ، فلو امتنعا معا لوجدا معا وذلك محال أيضا ، أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك أيضا محال لأمرين : الأول لو كان كل واحد منهما قادرا على مالا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بد وأن يستويا بالقدرة ، فإذا استويا فيها استحال أن يكون مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الآخر النّافي له وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح ، الثاني إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده كان قادرا والذي لم يقع مراده يكون عاجزا والعجز نقص والنقص يستحيل وجوده مع الإله.
ولو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور واحد من قادرين اثنين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه ، فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا فيلزم استغناؤه عنهما واحتياجه لهما معا وذلك محال ، وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد.
قال تعالى (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية 91 من المؤمنين الآتية ، وهذه وحدها كافية للاستدلال على عدم وجود إله غير اللّه الواحد لمن كان له قلب حي أو ألقى السمع الواعي ، وسيأتي تمام البحث في هذه عند تفسير هذه الآية ، قال الإمام فخر الدين الرازي : القول بوجود إلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور بواحد منهما ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعا.
أو تقول لو قدرنا وجود إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا ، فإن اتفقا على الشيء الواحد فيكون مقدورا لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال ، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقعا أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال ، فثبت أن الفساد(4/300)
ج 4 ، ص : 301
لازم على كل التقديرات.
وأعلم رعاك اللّه ووفقك لهداه وأرشدك لمرماك إنك إذا وقفت على حقيقة هذه الدلائل عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات ، والكائنات دليل على وحدانية اللّه تعالى عقلا ، ولهذا وجبت معرفة اللّه تعالى بالعقل فضلا عن النقل ، فكل من وهيه اللّه عقلا كاملا ولم يعترف بوجوب وجود الإله الواحد فهو كافر ، ولهذا أول بعض المفسرين قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية 15 من الإسراء في ج 1 ، بأن الرسول هنا معناه العقل ولكنا فئدنا هذا القول في تفسير هذه الآية فراجعها ، وذلك لأن الدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن والسنة غنية عن البيان لأن القرآن كله طافح بها وأقوال المصطفى صائحة فيها ، ومن قال إن معنى هذه الآية التي اشتهرت ببرهان التمانع لو كان في السماء والأرض آهة كما يقول عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير شيء مما في هذا العالم فيلزم فساده غفل عن قوله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) الآية المتقدمة لا الآتية بأنها مسوقة للزجر عن عبادة الأوثان وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك.
وبعد هذا الزجر أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا واحدا ، تنبه ، ولهذا نزه نفسه المقدسة بقوله «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» 22 من الشرك والولد والصاحبة والمثيل وغيرها «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ» في كونه لأنه متفرد فيه «وَهُمْ يُسْئَلُونَ» 23 ما عداه من جميع الكائنات عما يقع منهم وهذا مما لا ريب فيه لأنا نرى بعض ملوك الأرض لا تسأل عما تفعل لأنهم نصوا في دستورهم المطبق على رعاياهم (ذات السلطان مقدسة وغير مسئولة) فكيف بملك الملوك حقيقة في الدنيا والآخرة لا مجارا ولا في الدنيا فقط.
قال تعالى «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» استفهام إنكاري وتوبيخ للمشركين لأنه لمّا أبطل كون آلهة غيره بما مر أنكر عليهم اتخاذهم آلهة غيره فقال (أم اتخذوا) إلخ ، وكلفهم الحجة على زعمهم فقال يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على وجود إله غير اللّه وإذا كنتم تحتجون بالكتب القديمة فهو كذب لأن «هذا» القرآن المنزل عليّ فيه «ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ» من أصحابي(4/301)
ج 4 ، ص : 302
الموجودين في هذه الدنيا «وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» من الأمم السالفة ومعاني ما أنزل على إخواني الأنبياء من الكتب والصحف موجودة فيه أيضا ، لأنه يحتوي على جميع الكتب السماوية المتعلقة بالتوحيد ولا يوجد فيه ما تزعمون ، وها هي ذي الكتب الأخرى التوراة والإنجيل والزبور أنظروها هل تجدون فيها شيئا مما يدل على أن اللّه اتخذ ولدا أو صاحبة أو كان معه إله آخر ؟ كلا لا تجدون شيئا من ذلك البتة «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ» المنزل عليك من عندنا «فَهُمْ» لعدم معرفتهم وجهلهم «مُعْرِضُونَ» 24 عن النظر والاستدلال فيما لهم وعليهم.
قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» 25 وحدي وهذا تقرير لما سبق من آي التوحيد لأن هذه الآية تشير إلى أن اللّه تعالى أخذ العهد على الأنبياء ولرسل كافة بأنه لا إله في الكون غيره وأن يعبده من فيه وحده ، فكل ما يقال بخلاف هذا كذب محض وبهت مفترى ، ثم طفق يندّد بصنيعهم الفاسد فقال «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً» أول من قال هذا من العرب خزاعة ثم قلدهم غيرهم «سُبْحانَهُ» تبرأ عن ذلك «بَلْ» هم الملائكة الذين يزعمونهم بنات اللّه «عِبادٌ مُكْرَمُونَ» 26 عنده لاستغراقهم بعبادته وأدبهم معه «لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ» فيستقدمون به عليه بل يتبعونه ويقنفون أثر كلامه الجليل «وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» 27 لا يخالفونه قيد شعرة ولا أقل منها قولا ولا عملا «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» من الأفعال والأقوال التي وقعت منهم أو لم تقع في الحال أو التي ستقع بعد لا يخفى عليه شيء من أمر غيرهم «وَلا يَشْفَعُونَ» لأحد كما يزعم من عبدهم وكذلك بقية الملائكة وجميع الرسل والأنبياء والأولياء «إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى » اللّه الشفاعة له ورضي عنه وأذن لهم أن يشفعوا لمن يشاء ، راجع الآية 55 من البقرة في ج 3 والآية الثانية من سورة يونس المارة والآية 23 من سورة سبأ المارة وما تدلك عليه «وَهُمْ» كغيرهم من العباد العارفين مقام الألوهية الحقة كذلك تراهم «مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» 28 وجلون دائما لا يأمنون على أنفسهم منه لأن من قرب من الملك وعرف عظمته وبطشه صار أكثر الناس خوفا منه ، وجاء في(4/302)
ج 4 ، ص : 303
الخبر : الناس هلكى إلا العالمون ، والعالمون هلكى إلا العاملون ، والعاملون هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون هلكى إلا العارفون ، والعارفون على خطر عظيم.
ثم شرع يهددهم ، يا ويل من أغضب الجبار القائل «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ» أي الملائكة والأنبياء والأولياء وغيرهم فضلا عن الرعاع والجماد فأي كان من مخلوقاته جزؤ فقال «إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ» وناهيك بها من جزاء شديد «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الفظيع «نَجْزِي الظَّالِمِينَ» 29 الذين وضعوا مقام الإلهية بغير موضعها.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً» شيئا واحدا ملتصقتين ببعضهما «فَفَتَقْناهُما» عن بعضهما وخللنا الهواء بينهما فجعلنا هيكلا علويا على حدة وهيكلا سفليا ، والمراد من السموات طائفتها ولهذا ثني الضمير ولم يجمع ومثل هذا قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية 42 من سورة فاطر في ج 1 ، وعليه قول الأسود بن يعفر :
إن المنية والحتوف كلاهما دون المحارم يرقبان سواري
وقد أفرد الخبر وهو رتقا لأنه مصدر وأصل الرتق الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة ، ومنه الرتقاء من كانت ملتحمة محل الجماع ، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في سورة فاطر المذكورة وله صلة في الآية 66 من سورة الحج في ج 3 فراجعهما ، «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» من حيوان ونبات إذ يدخل في معنى شيء النبات والشجر لأن الماء سبب حياتهما وحياة كل شيء ، وقال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) الآية 45 من سورة النور في ج 3 ، فيدخل في معنى دابة الإنسان لأن لفظ دابة موضوع لكل ما دب على وجه الأرض ، وخرج هذا مخرج الأغلب لأن آدم وحواء وعيسى والملائكة والجن لم يخلقوا من الماء كما ذكرنا ذلك عند ذكر كل منهم «أَ فَلا يُؤْمِنُونَ» 30 هؤلاء الكفار بألوهية من يفعل ذلك ، وهذه الآية من معجزات القرآن العظيم لأنه لم يكن في مكة ولا في العالم زمن نزول القرآن من يعرف أن الموجودات كانت كتلة واحدة ، ثم فتقت فتكونت منها السموات ثم الأرض ثم المخلوقات ، ولا من يعلم أن أصل كل الموجودات الماء ولم يعرف أحد شيئا من هذا إلا بالعصور الأخيرة ، راجع الآية 7 من سورة(4/303)
ج 4 ، ص : 304
هود المارة.
قال تعالى «وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ» لأنها كانت تتحرك بالهواء كالسفينة في الماء ، فأثقلها اللّه تعالى بالجبال الثوابت ، وفيها إشارة إلى ما يعبّر عنه الجغرافيون بالقشرة الباردة ، لأن الرواسي هي الصخور الجامدة في أديم الأرض ، راجع الآية 22 من سورة الحجر المارة «وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً» طرقا واسعة بين الجبال «سُبُلًا» تفسير للفجاج أي طرق سهلة «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» 31 بها إلى مقاصدهم من البلاد والقرى والبوادي إذا سلكوها ، والفرق بين هذه الآية وقوله تعالى (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) الآية 20 من سورة نوح المارة ، أن هذه للإعلام بأنه جعل فيها طرفا واسعة ، وتلك لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الحالة والصفة ، فهو بيان لما أنهم «وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً» من البلى والسقوط والتغير على مدى الدهر المقدر لها ، قال تعالى (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الآية 65 من سورة الحج في ج 3 ، والآية 42 من سورة فاطر في ج 1 ، «وَهُمْ» الكفار «عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» 32 لا يتفكرون بما فيها من الشموس والأقمار والكواكب والنجوم وحركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها وترتيبها العجيب الدال على الحكمة الباهرة والنظام البديع المنبئ عن كمال القدرة القاهرة.
مطلب في الأفلاك وما يتعلق بها ، وبحث في الشماتة ، وما قيل في وزن الأعمال والإخبار بالغيب :
قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» للضياء ونضج الأثمار ومنافع أخرى كثيرة ألمعنا إليها في الآية 15 من سورة يونس المارة «كُلٌّ» من هؤلاء «فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» 23 يجرون في الهواء بصورة بديعة لا يعتريها الزيغ ، راجع الآية 40 من سورة يس في ج 1 والآية 15 من سورة الحجر المارة.
على أن العالم الألماني أنشتين اليهودي صاحب النظرية النسبية التي تقوم على معاكسة جميع الافتراضات القديمة في الفلك والحساب يقول : إن كل الحقائق التي أقرها العلم حتى الآن ما هي إلا بالنسبة لفرضيات افترضوها مما خيل لهم أنها حقائق وليست كذلك ، وان الأرض يوشك(4/304)
ج 4 ، ص : 305
أن لا تكون كروية ولا دائرة حول الشمس ، خلافا لما أقره الأكثر على القول بكرويتها ، وقال ابن كثير من علماء الإسلام وهو لا ينافي القرآن كما بينا في السورة المارة الذكر ، أما القول بدورانها حول الشمس فهو بعيد عن رأي المحققين ، وهو يخالف صراحة القرآن لفظا ، واللّه أعلم بالواقع ، وما ندري لعل الزمن يظهر مفكرين آخرين يؤيدون نظرية هذا اليهودي ، واللّه تعالى يقول (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الآية 76 من سورة يوسف المارة.
هذا ، والفلك هو مدار النجوم الذي يضمها ، وهو عرفا كل شيء مستدير ، وجمعه أفلاك ، والأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة ولا تقبل الخرق والالتئام ولا النموّ ولا الذبول ، ولا يعرف كنه أفلاك اللّه إلا هو أعلمنا بوجودها كما لا يعلم مدى خرابها غيره ، وكما أعلمنا بخرابها في قوله جلّ قوله (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) وفي قوله (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وقوله (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) وآيات أخرى كثيرة تدل على ذلك.
قال تعالى «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» في الدنيا «أَ فَإِنْ مِتَّ» يا سيد الرسل «فَهُمُ الْخالِدُونَ» 34 بعدك ؟ كلا ، فإنهم ميتون لا يبقى منهم أحد ، نزلت هذه الآية حين قال المشركون إنا نتربص بمحمد ريب المنون ، فنشمت بموته ، فنغى اللّه تعالى الشماتة عنه في هذه الآية القاضية بعدم تخليد أحد في هذه الدنيا ، قال ذو الإصبع العدواني :
إذا ما الدهر جرّ على أناس كلا كله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشّامتون كما لقينا
على أنه لا شماتة في الموت ، لأنه محتوم على كل أحد ، وتكون بغيره من المصائب ، وإن كانت مقدرة لأنها على أناس دون آخرين ، قال الشافعي رضي اللّه عنه :
تمنّى أناس أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل الذي يبغي خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها وكأن قد
وإنما قالوا الموت لا شماتة فيه لأنه لا علاقة للعبد فيه ، حتى ان المقتول يموت بأجله ، وإنما الشماتة التي تقع على الغير بفعل الغير ، ومن قال :
من عاش بعد عدوه يوما فقد بلغ المنى(4/305)
ج 4 ، ص : 306
بالنظر لظاهر الأمر ، لأن فيه غياب عدوه عن نظره ، فمن هذه الجهة يصدق قوله هذا ، ومن قال إن هذه الآية تنفي حياة عيسى والخضر وإدريس والياس وغيرهم ، وتثبت موتهم فقد أخطأ ، لأن عيسى حي بنص القرآن والأحاديث الصحيحة ، والخضر بالأحاديث والتواتر ، وأنهما لا بد أن يموتا ، راجع الآية 61 من سورة الزخرف في ج 2 وما ترشدك إليه ، والآية 57 من سورة مريم المارة في ج 1 تغىء عن رفع إدريس ، ووردت أخبار وآثار بحق الياس ، راجع الآية 132 المارة من سورة الصافات والآية 85 الآتية ، على أنه لا بد من موت الكل بقوله تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» والذوق مقدمات الموت وآلامه لأنه به ينقطع ذلك ، ويفيد سور الكلية العامة موت كل نفس ، إلا أنه مخصوص بقوله تعالى (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) الآية 116 من المائدة في ج 3 ، لأن اللّه تعالى حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت ، فكما أنه تعالى لا يشبه شيئا من خلقه فكذلك نفسه الكريمة لا تشبه نفوس خلقه ، وبعضهم جعل الخصوص أيضا في الجمادات ، لأن لها نفوسا لا تموت ، هذا والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه ، وهذا يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية أنها لا تموت ، بل تموت أيضا وتدخل في عموم هذه الآية إذا كان لما قالوه من صحة «وَنَبْلُوكُمْ» نختبركم أيها الناس «بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» ابتلاء فهو مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه ، أي لننظر كيف شكركم على ما تحبون وصبركم فيما تكرهون «وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» 35
فنجازيكم بحسبها «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» يا سيد الرسل «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً» كأبي جهل وجماعته من رءوس الكفر ، لأنهم كانوا إذا مرّوا به صلّى اللّه عليه وسلم يضحكون ويقولون هذا نبي بني عبد مناف ويقول بعضهم لبعض «أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ» أي يذمها ، والذكر يطلق على المدح والذم «وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» 36 أي كيف يستهزئون بك إذ تستهزء بأصنامهم وهم أحق أن يستهزىء بهم ، لأنك تعبد الخالق وهم يعبدون ما يخلقون ، ونزلت فيهم هذه الآية.
قال تعالى «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» العجلة طلب الشيء قبل(4/306)
ج 4 ، ص : 307
أوانه ، وهو من مقتضيات الشهوة ، فلذلك صارت مذمومة حتى قيل العجلة من الشيطان ، والقاعدة الشرعية : من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ، قال القائل :
لا تعجلن لأمر أنت طالبه فقلما يدرك المطلوب ذو العجل
فذو التأني مصيب في مقاصده وذو التعجل لا يخلو من الزلل
فالإنسان لقلة صبره وفرط استعجاله جعل كأنه مخلوق من العجلة ، لأنه يكثر منها ، والعرب تقول لكثير الكرم خلق من الكرم «سَأُرِيكُمْ آياتِي» التي تطلبونها أيها الناس «فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» 37 نزولها وذلك أنهم كانوا يقولون لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم هات ما توعدنا به من العذاب أدع ربك فلينزله علينا ، فأجابهم اللّه بأنه لا بد من إنزاله بكم ، ولكن لم يحن بعد أجله القدر له «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 38 في قولكم يا محمد ويكررون هذه المقالة له على طريق السّخرية والاستهزاء بوعده ، وهذا هو الاستعجال المذموم الذي أوعدهم اللّه سوء عاقبته ، راجع الآية 48 من سورة يونس المارة.
قال تعالى «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» ما هو ذلك العذاب هو «حِينَ» يحل بهم «لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» 39 إذا حل بهم فلا يقدرون على ردّ شيء منه ولا تأخيره ، وجواب لو محذوف تقديره لما كانوا طلبوا ولا استهزأوا ولعلموا أن جهلهم هو الذي أوقعهم في ذلك العذاب وحدا بهم إلى تلك المهالك.
قال تعالى «بَلْ تَأْتِيهِمْ» الساعة المقدر فيها نزوله أو الموت «بَغْتَةً» على حين غرة فجأة «فَتَبْهَتُهُمْ» ويهولهم أمرها وتراهم حين تأتيهم حائرين «فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها» عنهم ولا الصبر عليها «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» 40 يمهلون ليتوبوا ويعتذروا كما أنهم لا ينصرون من قبل أحد.
قال تعالى مسليا لحبيبه «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» كما استهزأ بك قومك «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 41 من نزول العذاب فلم يحسوا إلا وقد نزل وأحاط بهم وكذلك قومك يا محمد إذا يقوا مصرين على تكذيبهم وسخريتهم يحيق بهم مثلهم ، راجع نظيرة هذه الآية(4/307)
ج 4 ، ص : 308
الآية 134 من سورة الأنعام المارة لمناسبة غير هذه المناسبة «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك «مَنْ يَكْلَؤُكُمْ» يحرسكم إذا نمتم «بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ» إذا انصرفتم فيه لمعاشكم «مِنَ الرَّحْمنِ» إذا أراد إبقاع عذابه بكم فيهما ، وفي التعريض لعذاب الرحمن دون غيره من الأسماء المقدسة والصفات الطاهرة تنبيه على أنه لا حفيظ لهم غيره بمقتضى رحمته وتلقين للجواب ليقولوا رحمتك تحرسنا ، ونظير هذه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 7 من سورة الانفطار الآتية ليقول كرمك يا رب فإذا وفقوا يقولون هنا وهناك ولكن أنى لهم التوفيق وقد فات وقته إذ يقول اللّه «بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» 42 فلا يخطر يبالهم لسابق شقائهم ، فيا أكمل الرسل قل لمن يجادلك فيهم «أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا» إذا أردنا بهم شرا ؟ كلا ، آلهتهم التي يزعمونها «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ» فهم عن نصر غيرها عجز «وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» 43 بالنصر والتأييد ليخلفوا وإذا كانوا كذلك فلا محيص لهم من العذاب قال تعالى «بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ» الكفرة «وَآباءَهُمْ» متعناهم أيضا في الدنيا فاغتروا بها ولهوا بنعيمها «حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» وهم في صحة وأمن وسعة فقست قلوبهم وظنوا أنهم خالدون فيها لا يغلبون عليها لفرط جهلهم أخذوا على غفلة «أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ» التي هي تحت تصرف الكفار فنسلط عليها المؤمنين و«نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها» فنسلبها منهم ونضمها للمؤمنين وهذا من الإخبار بالغيب ، لأنه تقدير لما سيجريه اللّه تعالى لرسوله من النصر والفتوح في غزواته ومن بعده لأصحابه إذ تدخل عساكرهم أراضي المشركين عنوة أو صلحا غالبة ظافرة فنضمها إلى المسلمين فتكون في حوزتهم فإذا فعل بهم هذا «أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ» 44 أم نحن ؟
كلا بل هم المغلوبون ، والغلبة للّه ولرسوله وللمؤمنين ، راجع الآية 8 من سورة المنافقين في ج 3 ، وهذا الاستفهام إنكاري جوابه النفي ، وكيف لا يكونون غالبين وهم حزب اللّه الذي لا زال غالبا من قبل للرسل وأتباعهم ، فلأن يكون الغلب لخاتم الرسل وأتباعه من باب أولى.
ولهذا البحث صلة في الآية 44 من سورة الرعد الآتية ج 3 ، وقد مرّ له بحث في(4/308)
ج 4 ، ص : 309
الآية 8 من سورة المؤمن والآية 75 من الصافات فراجعها.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن النقص الواقع بطرفي الأرض من جهة قطبيها الشمالي والجنوبي ، وهو أيضا من الإخبار بالغيب ، إذ لم يكن أحد في عهد نزول القرآن يعلم ذلك ، صدق اللّه العظيم (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام المارة ، قيل كان ابن الجوزي يدرس في جامع دمشق في هذه الآية فقال له رجل هل في القرآن ما يدل على أن فأرة حملت عصا بذنبها وتريد أن تدخل جحرها معها ؟
قال نعم في قوله تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً ...
وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) الآية 25 من سورة النحل المارة ، رحمه اللّه ما أدق فكره ، راجع الآية المذكورة في سورة الأنعام المارة ، والآية 23 في سورة الشورى المارتين «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» المنزل عليّ من ربي لا بما تتفوّهون به من السحر والشعر والكهانة وغيرها من الأمور الثمانية المارة من الآية 5 من هذه السورة «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ» 45 يخوفون ولكنهم بمعزل عن السماع ولأنهم لا يسمعون مطلقا ، وإنما قال بالوحي ليعلمهم أن إنذاره مقتصر على الإخبار الإلهي لا باقتراح الآيات لأنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية ، ولأن الإيمان برهاني لا عياني.
قال تعالى «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ» شيء قليل وطرف يسير كأدنى شيء «مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» 46 لأقروا على أنفسهم بالظلم حالا فكيف إذا أصابهم معظم العذاب أو صب عليهم كله يا ويل من لم يرجع إلى اللّه قبل أن لا يقبل منه الرجوع قال تعالى «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» فنزن بها أعمال الخلق فمن أحاطت حسناته بسيئاته فقد فاز ونجى ومن حاقت سيئاته بحسناته فقد خاب وخسر وإذ ذاك يظهر للكافرين قوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) الآية 107 من سورة الكهف المارة ، إذ لا أعمال لهم صالحة ، وقرىء القصط بالصاد لأنه قد يحل محل السين كما أن السين نحل محله في الصراط راجع تفسيره في سورة الفاتحة في ج 1 ، واللام هنا في يوم القيامة بمعنى في ، وعليه قول مسكين الدارمي :
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبّع(4/309)
ج 4 ، ص : 310
«فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» بذلك الوزن لأن اللّه تعالى وصفها بالعدل على ما يعرفون أن منها ما يكون في الدنيا مستقيما ومنها ما لا يكون فبين اللّه تعالى لهم أن موازين الآخرة على العدل والاستقامة فلا يتصور فيها النقص والزيادة اللذان هما من دواعي الظلم «وَإِنْ» وصلية «كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» لا يظلمه وهذا مبالغة في القلة بحسب عرفنا لأنا لا نرى أقل منها وإلا فاللّه تعالى يجازي ويثيب على أقل منها مما لا يدركه الطرف ولا يوزن «أَتَيْنا بِها» إلى فاعلها ليعلم أنا واقفون على كل حركاته وسكناته ، وإنا نحاسبه عليها مهما كانت «وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» 47 عادين محصين ومتقنين أعمالكم عالمين بها حافظيها عليكم فنعفوا عمن نشاء ونعاقب من نشاء إذا شئنا على الفتيل والنقير والقطمير ، قال الشبلي وقد رؤي بالمنام بعد مرته رحمه اللّه ما فعل اللّه بك فقال :
حاسبونا فدقفوا ثم منوا فأعتقوا
هكذا عادة الملوك بالمماليك يرفقوا
وفي رواية يشفقوا ، وتشير هذه الآية إلى أن الحساب بعد وضع الموازين ، أخرج الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق ، فينشر له تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول أتنكر من هذه شيئا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟
فيقول لا يا رب ، فيقول ذالك عذر ؟ فيقول لا يا رب ، فيقول اللّه تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول احضر وزنك ، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت (خفت) تلك السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم اللّه شيء.
هذا لأنه قالها بإخلاص وعقيدة راسخة فخبأها اللّه له ، وفي هذا الحديث دلالة على أن صحائف الأعمال نفسها توزن ، لا أن الأعمال تنجسد ثم توزن ، واللّه أعلم بحقيقة الحال لأن أفعال الآخرة فوق العقل لا يعرفها إلا من يشاهدها ، لهذا يجب الاعتقاد والتسليم للمخبر بها.
قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ»(4/310)
ج 4 ، ص : 311
التوراة الفاصلة بين الحق والباطل الفارقة بين الهدى والضلال «وَضِياءً» نورا يعرف به طريق الرشد من الغي «وَذِكْراً» يتذكر به ما يحتاجه بنو إسرائيل من أمور دينهم ودنياهم وعظة يتعظون بها وعبرة «لِلْمُتَّقِينَ» 48 الذين يعتبرون بما فيها ويعملون.
ثم وصف هؤلاء المتقين الذين يعملون بالفرقان الموصوف بالأوصاف المذكورة بقوله «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يرونه فيعبدونه في خلواتهم إذا غابوا عن أعين الناس ويمتنعون من مخالفته خوفا من أن يراهم لعلمهم أنه مطلع على سرّهم وجهرهم ، لأن من عبد اللّه وعلم أنه يراه أحسن عبادته وخشع فيها وخضع لربه «وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» 49 خائفون من هولها قبل أن يروها لأنهم آمنوا بها على الغيب تصديقا لرسلهم وكتابهم «وَهذا» القرآن «ذِكْرٌ مُبارَكٌ» عظيم الخير كثير البركات جامع لمنافع الدنيا والآخرة «أَنْزَلْناهُ» عليك يا سيد الرسل كما أنزلنا الكتب على من قبلك عيسى وموسى فمن قبلهم «أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» 50 يا أهل مكة إنزاله على نبيكم وشمول بركته لكم وخيره فيكم ، وهل أنتم جاحدون صحبته ، وهذا استفهام على طريق الإنكار والتقريع يضاهي ما جاء في الآية 175 من سورة الأنعام المارة.
قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ» موسى وهارون «وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ» 51 بأنه أهل لما آتيناه لما هو عليه من الكمال والإخلاص لنا ، قالوا لما ألقي في النار قال له جبريل عليهما السلام سل ربك ينقذك منها ، قال له علمه بحالي يغني عن سؤالي ، وقال ألك حاجة ؟ قال أما إليك فلا.
فهذا كاف على إخلاصه لربه ، فاذكر يا محمد لقومك شأنه هذا مع قومه وأهله «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» 52 أراد عليه السلام ما هذه الأصنام ، ولكنه تحقيرا لها وتقريعا لهم بعبادتها ، عبر عنها بالتماثيل وهي الصور المصنوعة المشبهة بالمخلوقين من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها ، أي ما بالكم مقبلون عليها ملازمون لها منهمكون في عبادتها «قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» 53 فعبدناها تقليدا لهم «قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 54 بالعكوف عليها لا يخفى على عاقل وان استنادكم للتقليد(4/311)
ج 4 ، ص : 312
عبارة عن هوى متبع وشيطان مطاع وإعجاب بما تصنعون «قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ» أي الصدق لمقابلة قولهم «أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ» 55 الهازئين في قولك لأنا لم نسمع هذا إلا منك «قالَ» يا قوم إن هذه لا تصلح للعبادة وليست برب ينفع ويضر ويحيي ويميت «بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» 56 وجازم بقولي لكم بأنها ليست بآلهة لأنها من عملكم واللّه خلقكم وما تعملون ولست بهازل ولا من شأني اللعب وأريد لكم ما أريد لنفسي «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ» التي تخوفوني بها ولأفعلن بها فعلا يكيدكم «بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» 57 من هنا إلى عيدكم ، وذلك أن أباه كلفه ، وقيل الملك أراده أن يذهب مع قومه إلى العيد ، فسار معه ثم ألقى نفسه بأثناء سيره معهم لشدة تفكره وتأثره من صنيعهم على الأرض وقال إني سقيم ، راجع قصته في الآية 89 من سورة الصافات والآية 78 من سورة الأنعام المارتين ، فتركه أبوه ومضى إلى عبده فرجع إبراهيم إلى بيت الآلهة فوجدها في بهو عظيم ، وبمستقبل بابه صنم كبير إلى جنبه أصغر منه ، وهكذا بقية الأصنام ، ورأى بين أيديهم طعاما وضعوه لتحل عليه بركتها ، فيأكلوه بعد رجوعهم من مراسم العيد والتبرك بالأصنام ، فقال لهم على طريق السخرية ألا تأكلون ؟ فلم يردوا عليه فقال لهم استهزاء بهم ما لكم لا تنطقون ؟ فلم يردوا عليه ، فطفق يكسرها حتى أتى على آخرها ، ووضع الفأس في عنق كبيرهم الذي لم يتعرض إليه كما حكى اللّه عنه «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً» قطعا كبيرة وصغيرة ، من الجذ الذي هو القطع ، قال الشاعر :
بنو المهلب جذ اللّه دابرهم أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف
«إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ» لعابديها لم يتعرض له ، وهذا أولى من عود الضمير لنفس الأصنام ، إذ لو كان لها كما مشى عليه بعض المفسرين لقال كبيرها ويؤيده أيضا قوله «لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» 58 فيسألونه عمن كسرها لأنه بقي صحيحا وآلة التكسير في عنقه ، قالوا كانت اثنتين وسبعين صنما منها من ذهب ومنها من فضة ومن نحاس وصفر وحديد وخشب وحجر وطين ، فلما رجعوا من عيدهم ودخلوا على البهو رأوا ما هالهم «قالُوا» صائحين بلسان واحد «مَنْ فَعَلَ هذا(4/312)
ج 4 ، ص : 313
بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ»
59 في جرأته هذه المؤدية لإهلاكه «قالُوا» الذين سمعوا صياحهم وسمعوا قبل قسم إبراهيم على كيدها «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ» بسوء ويعيبهم ويسخر بهم «يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» 60
فأوصلوا الخبر إلى النمروذ وملائه فأجمع رأيهم على جلبه واستنطاقه أولا ولهذا «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» 61 على اعترافه بذلك لئلا يقول الناس إنه أخذ بغير ذنب وقتل بغير بينة ، فأتوا به ثم له «قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» 62 ولما ذا «قالَ» ما فعلت شيئا وقصد غير تكسيرها وما عملت شيئا يسخط اللّه فيها «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» ففهموا من كلامه هذا أن الذي كسرها هو الصنم الكبير المشار إليه من قبل إبراهيم ، وقد وقف بعضهم على (بل فعله) ، ثم ابتدأ فقرأ (كبيرهم هذا) إلخ يريد بذلك عود الضمير على إبراهيم تخلصا من الكذب ، ووقف بعضهم على هذا ، وأراد أي هذا قولي فاسألوهم إلخ لأجل التخلص من الكذب أيضا ، والحال أن الكذب للمصلحة جائز من النبي وغيره إذا كان هناك محذور كما هنا ، فلا حاجة للوقفين اللذين لم يردهما إبراهيم نفسه ، أي إنما كسرها كبيرهم بسبب غضبه عليكم ، لأنكم تعبدون الصغار معه وتساوونها به وهو أكبر منها ، فكرهن ليستقل بعبادتكم.
قالوا ما بينتك على هذا ؟
قال لا بينة لي سوى وجود آلة التكسير لديه كما شاهدتموها ، فإن لم تصدقوني «فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» 63 أراد بهذا إقامة الحجة عليهم لأنها إذا قدرت على النطق قدرت على الفعل ، وإلا فيظهر لهم عجزها.
قال تعالى «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ» لما سمعوا قوله وتفكروا به فلم يكن لهم بد إلا الاعتراف بعجزها «فَقالُوا» أولا لبعضهم «إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» 64 بعبادتكم ما لا يتكلم ، لأن من لم يدفع عن رأسه الفأس كيف يدفع عن عابديه البأس ، وقد أجرى اللّه الحق على لسانهم أثناء المذاكرة فيما بينهم على غياب من إبراهيم بدليل ما حكى تعالى عنهم (فرجعوا إلى أنفسهم) وقد لحقهم الشقاء المبعد عن الحق المهوي بهم إلى الباطل المشار إليه بقوله تعالى «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ» أي ردّوا إلى تعصبهم وآرائهم الفاسدة عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليمهم(4/313)
ج 4 ، ص : 314
أنفسهم فقالوا له «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» 65 فكيف تكلفنا سؤالهم فلما رأى الحجة اتجهت عليهم «قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ» إن عبدتموه «شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ» 66 إن تركتم عبادتها «أُفٍّ» راجع معناه في الآية 23 من الإسراء في ج 1 «لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» 67 أنها لا تستحق العبادة فتتركونها ، ثم طفق يندد بهم وبآلهتهم ويذمها ويحقرها ويسفههم ، ولما جابههم بذلك وعرفوا أنه هو الفاعل حكموا عليه بما ذكره اللّه بقوله «قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» 68 به شيئا يرفع العار عنكم وعن آلهتكم ، لأنه طعن فيكم ووصم آلهتكم جهرا ولم يحترم أحدا ولم يقلع عما هو عليه ولم يعتذر ، قالوا فقبضوه وحبسوه في حظيرة في قرية كوني ، وأمر النمروذ الناس بجمع الحطب مدة ستة أشهر ، حتى صار المرضى وذو العاهات والحاجات ينذرون جمع الحطب لإحراقه إذا أجيبت دعواتهم ، قاتلهم اللّه ما أحمقهم ، ثم أوقدوا ما جمعوه مدة سبعة أيام حتى صارت الطير في جو السماء تحترق من وهجها ، فأخرجوا إبراهيم ليلقوه فيها ، فلم يقدروا أن يتقربوا منها ولم يعلموا كيفية إلقائه بوسطها ليتم لهم ما قرروه ، قالوا فخرج إبليس على صورة رجل منهم فعلمهم عمل المنجنيق (آلة قاذفة) فعملوه ووضعوه فيه مقيدا مغلولا ورموه في تلك المقذفة من محل عال مشرف على وسط النار ، فتداركه الذي ألهمه ما عمل وأنطقه بما قال جلت قدرته بقوله «يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» 69 فكانت كذلك لأنها لا تحرق إلا بخلق اللّه الإحراق فيها «وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ» 70 في سعيهم وعدم حصول مرادهم
«وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» 71 أرض الشام والقدس.
مطلب إلقاء إبراهيم في النار وماذا قال لربه وملائكته وفي مدح الشام :
قالوا لما وضع إبراهيم بالمقذف ليرمى في النار صاحت ملائكة الأرض والسماء ، ربنا ائذن لنا في نصرته فليس في الأرض أحد يعبدك غيره ، فقال إنه خليلي وأنا إلهه فإن استغاثكم فأغيثوه ، قالوا فجاء خازن المياه وقال له إن أردت أخمدت(4/314)
ج 4 ، ص : 315
النار ، وأتاه خازن الهواء فقال له إن أردت طيّرت النار ، فقال لا حاجة لي إليكم ، حسبي اللّه ونعم الوكيل ، وقالوا إنه قال حين ألقي بالنار : لا إله إلا أنت لك الحمد ولك الملك لا شريك لك.
فاستقبله جبريل فقال له يا إبراهيم ألك حاجة ؟
قال أما إليك فلا ، قال اسأل ربك ، قال حسبي من سؤالي علمه بحالي.
روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قال :
قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي بالنار ، وقالها محمد صلّى اللّه عليه وسلم حين قال لهم الناس (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الآية 173 من آل عمران في ج 3.
قالوا وصار كل شيء يسعى ليطفي النار على إبراهيم إلا الوزغ فإنه كان ينفخها ، وروى البخاري ومسلم عن أم شريك قالت : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ.
زاد البخاري قال : وكان ينفخ على إبراهيم.
قال ابن عباس : لو لم يقل اللّه تعالى سلاما لمات إبراهيم من بردها.
وجاء في الآثار أنه لم تبق نار في الأرض ذلك اليوم إلا أطفئت ، ولو لم يقل على إبراهيم لبقيت باردة أبدا ، ولم ينتفع بها أحد ، قالوا وبقي إبراهيم فيها سبعة أيام ولم يحترق إلا وثاقه ، لأنه من أعدائه وفي حرقه خلاصه من التكتيف فكان لمنفعته ، وإلا لم يحرق تبعا للباسه.
قالوا وأتبع اللّه له فيها عين ماء عذب ، وأنبت على حافتها الورد الأحمر والنرجس ، وبعث اللّه ملكا يظلل عليه ويؤنسه ، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إباه ، وبطنفسة فأجلسه عليها ، وصار يؤانسه أيضا ، قالوا وأشرف نمروذ من الصرح على إبراهيم فرآه جالسا في روضة وسط النار ، فناداه كبير إلهك الذي بلغت قدرته هذا يا إبراهيم أتستطيع أن تخرج ؟ قال نعم ، قال تخشى إن قمت أن تضرك ؟ قال لا ، قال إذن فاخرج فإنك آمن وإنا لا نجابهك بشيء بعد أن رأينا فعل إلهك معك ، قالوا فخرج ، ولما وصل إليه قال من الذي كان معك ؟ قال ملك يؤانسني ، قال إني مقرب إلى ربك أربعة آلاف بقرة ، قال لا يقبلها منك إلا أن تكون على ديني ، قال لا أستطيع ترك ملكي ولكن سأذبحها لصنيعه بك ، فذبحها وترك إبراهيم وشأنه ، قالوا واستجاب لإبراهيم رجلان من قومه حين رأى لطف اللّه فيه ، ثم آمنت به سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم ، وتبعه لوط ابن أخيه ، وكان لها أخ ثالث يسمى ناخورا(4/315)
ج 4 ، ص : 316
وثلاثتهم أولاد تارخ وهو آزر ، فخرجوا من كوني في أرض العراق ، وفروا إلى حران بدينهم ، ومنها نزل هاران في أرض الجزيرة ، ومكث فيها ، ثم ذهبوا إلى مصر ثم إلى الشام ، وأول ما نزل هاران أرض على سبيل الإقامة أرض بئر السبع من فلسطين ، ونزل لوط بالمؤتفكة تبعد عن بئر السبع ثمانية عشر فرسخا فبعثه اللّه نبيا إلى أهلها وما حولها.
أما النمروذ فقد أصر على الكفر فأرسل اللّه بعرضة فدخلت في منخره إلى دماغه فأهلكته ، وفي إهلاكه بهذه الحشرة الصغيرة تقريع لمن يدعي العظمة تجاه ربه عز وجل لأن هذا تعاظم حتى ادعى الإلهية فأهلكه اللّه بأحقر شيء من خلقه ، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وسبب تسمية أرض الشام مباركة لأن أكثر الأنبياء خرجوا منها وبعثوا لأهلها ودفنوا فيها.
روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لكعب ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقبره الشريف ؟ فقال كعب إني وجدت في كتاب اللّه المنزل يا أمير المؤمنين ان الشام كنز اللّه في أرضه ، وبها كنزه من عباده.
وأخرج أبو داود عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ستكون هجرة بعد هجرة (أراد بالهجرة الثانية إلى الشام إذ يرغب بالمقام فيها) فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم.
وأخرج الترمذي عن زيد ابن ثبت قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم طوبى لأهل الشام ، فقلت وما ذاك يا رسول اللّه ؟ قال لأن الملائكة باسطة أجنحتها عليها.
وأخرج أيضا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول اللّه أين تأمرني ؟ قال هاهنا ، ونحى بيده نحو الشام ، وقدمنا في الآية 136 من سورة الأعراف ما يتعلق بهذا فراجعه.
قال تعالى «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً» فرق طلبه لأنه قال (رب هب لي من الصالحين) فأعطاه إسحق وأعطى إسحق يعقوب زياده ، والنافلة ولد الولد.
وهذا بعد أن أعطاه إسماعيل من الجارية هاجر زوجته ، وبعد أن وضعه وأمه في مكة المكرمة ، وإن ابنه إسحق من زوجته سارة.
وقد بينا التاريخ بينهما في الآية 99 من سورة إبراهيم المارة وهو ثماني عشرة سنة «وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» 72 أنبياء كاملين لاثقين لرسالتنا وإرشاد عبادنا «وَجَعَلْناهُمْ(4/316)
ج 4 ، ص : 317
أَئِمَّةً»
قادة «يَهْدُونَ» الناس إلى ديننا «بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ» من كل معروف وعمل صالح وفعل طيب «وَإِقامَ الصَّلاةِ» المحافظة عليها بأوقاتها المعينة لها والمداومة على فعلها «وَإِيتاءَ الزَّكاةِ» لمستحقيها من الفقراء والمساكين وهي أفضل العبادات المالية ، كما أن الصلاة أفضل العبادات البدنية ، ومنه يعلم أن هذين الفرضين قديمان لم تخل أمة منهما «وَكانُوا» إبراهيم وابنه إسحق وحفيده يعقوب «لَنا عابِدِينَ» 73 لم يعبدوا غيرنا منذ نشأوا «وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً» بين الناس على طريق النبوة بمقتضى شريعته لا على سبيل الملكية ، لأنها لم تجمع إلا لداود عليه السلام فمن بعده كما سيأتي في الآية 251 من سورة البقرة ج 3 «وَعِلْماً» به وفقها بأنواعه «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ» إتيان الذكران والضراط في المجالس والطرقات وقذف المارة بالحصى والتصفير والتصفيق وعقد أيديهم وراءهم تقليدا لفعل إبليس عند طرده من الجنة ، والتباهي بعوراتهم من حيث كبرها وصغرها وغيرها من الفواحش «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ» 74 خارجين عن حدود اللّه متجاوزين عليها «وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا» كسائر أنبيائنا «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» 75 للدين والدنيا وتقدمت القصة مفصلة في الآية 39 من سورة هود المارة «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ» إبراهيم ولوط «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» دعوته «فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» 76 الذي لحقه من تكذيب قومه وإهانتهم له ومن الغرق الذي أهلك به قومه «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» فلم يصلوا إليه بسوء قط «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ» منهمكين بالشرور «فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» 77 لعلمنا أنهم لم يؤمنوا ، وتقدمت قصة إهلاكهم في الآية 144 فما
بعدها من سورة هود أيضا ، «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» الذي انطلقت فيه الأغنام فأهلكته وهو معنى قوله «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ» لبلاد دخلت فيه فأفسدته كله «وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» 78.(4/317)
ج 4 ، ص : 318
مطلب أن الجمع ما فوق الاثنين ، وأحكام داود وسليمان ، والبساط وسيره وما يتعلق بذلك :
في هذا الجمع دليل المناطقة القائلين أقل الجمع اثنان وعليه اللغات الأجنبية كلها إذ ليس عندهم تثنية بين الجمع والمفرد وعليه قوله تعالى (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية 11 من سورة النساء في ج 3 ، والمراد أخوان ، وقرىء لحكمهما قراءة شاذة ، وقيل إن الحكم كما يضاف إلى الحاكم يضاف إلى المتحاكمين فيكون معهما جمعا ، تأمل وراجع الآية 116 من الصافات المارة.
وخلاصة هذه القصة :
قالوا دخل على داود عليه السلام رجلان ، قال أحدهما إن غنم هذا قد دخلت في زرعي ليلا فلم تبق منه شيئا ، واعترف الآخر بذلك ، فحكم عليه السلام بالغنم كلها لرب الزرع ، فلما خرجا قال لهما سليمان : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه بالحكم ، فقال غير هذا أوفق وأرفق ، فعادا فأخبرا داود ، فدعاه وقال له بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أولى بهما وأحسن ، قال له ادفع لصاحب الحرث ، الغنم فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها ، وأمر صاحبها يزرع لصاحب الحرث مثل حرثه حتى إذا صار كهيئة يوم أكل دفع إلى صاحبه واستعاد صاحب الغنم غنمه ، وبهذه الصورة يرتفع الضرر عن الطرفين ، ويعود كل لماله كما كان ، فقال داود عليه السلام الأمر هو ما قضبت وحكم به ، وكان عمر سليمان إذ ذاك إحدى عشرة سنة ، ومن ذلك اليوم يقال : الرجوع إلى الحق فضيلة ، والاعتراف بالخطأ خير من التمادي في الباطل ، والخطأ في البراءة خير من الخطأ بالحكم.
والحكم الشرعي في هذا هو أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير نهارا فلا ضمان على ربّها لأن أصحاب الزرع مكلفون يحفظ زرعهم نهارا من المواشي التي تسرح فيه ، وإن كان ليلا فعليه الضمان لأن أهل المواشي مكلفون يحفظها ليلا في مراحها لئلا تتسرب إلى مال الغير فتتلفه حال غفلة أهله ، يدل على هذا ما رواه حرام بن سعيد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا (بستانا) لرجل من الأنصار فأفسدت فيه ، فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل - أخرجه أبو داود مرسلا - وما روى الشيخان من قوله صلّى اللّه عليه وسلم : جرح(4/318)
ج 4 ، ص : 319
العجماء جبار ولم يقيده بليل ولا نهار ، وقد أخذ أبو حنيفة بهذا ولم يقض بالضمان أصلا ، وأخذ الشافعي بالحديث المشار إليه على التفصيل الذي فيه ، وكان حكم داود عليه السلام وابنه بالاجتهاد ، ولأنه لو كان بالنص لما جاز لسليمان الاعتراض عليه ، ولا لداود الرجوع عنه ، وان اللّه تعالى حمد هذا لصوابه ، وأثنى على الآخر باجتهاده.
قال الحسن : لو لا هذه الآيات لهلك الحكام.
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا حكم الحاكم باجتهاده فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.
وهناك من قال إن حكمهما كان بالنص ، إلا أن الآخر نسخ الأول وفيه ما فيه فضلا عن أنه يوجب عدم جواز الاجتهاد للأنبياء ، لأن سليمان لم يتنبأ بعد لينزل عليه شرع ، يدل عليه قوله تعالى «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» أي قضية الحكم بطريق الإلهام ، وإنما ركن داود لحكم سليمان ، لأنه رآه موافقا وأرفق من حكمه بحق الطرفين ، ولأنه علم حذاقته قبل هذه ، وذلك على ما قالوا إن امرأة تبتّلت واستغرقت أوقاتها بالعبادة ، وكان لها جاريتان جميلتان ، قالت إحداهما للأخرى قد طال علينا البلاء ، لأن هذه لا تريد الرجال ، وإننا بشر فلو فضحناها لرجمت وخلصنا منها ، فصرنا إلى الرجال من بعدها ، فأخذنا ماء أبيض ونضحتاه على سوءتها وهي تصلي ، وخرجنا إلى داود عليه السلام فقالتا له إنها قد بغت ، وكان حد الزنى عنده الرجم ، فرفعت إلى داود والماء لأبيض في ثيابها ، فسألها فأنكرت ، وسألها عن الماء ، فقالت لا أدري لعله ماء أبيض أو شيء مفتعل ، فأراد رجمها ، فقال سليمان ائتوني بنار ، فإنه إن كان ماء أبيض اجتمع ، وإن كان ماء الرجل تفرق ، فأتي بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الحد ، وهذا من ذكانه عليه السلام وحدة فطنته.
ولهذا البحث صلة بعد الآية الآتية.
قال تعالى «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ» يسبحن أيضا ويسرن معه حيث سار وهذا هو تسخيرها «وَكُنَّا فاعِلِينَ» 79 أمثال هذه المعجزات لأنبيائنا ومن شأننا أن نفعل أكثر من ذلك فليس ببدع منا وإن كان بديعا وعجيبا عندكم أيها الناس «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ» دروع من حديد بدليل قوله «لِتُحْصِنَكُمْ(4/319)
ج 4 ، ص : 320
مِنْ بَأْسِكُمْ»
من أن ينالكم سلاح عدوكم في الحرب «فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» 80 يا آل داود ، وهذا استفهام بمعنى الأمر ، أي أديموا الشكر للّه على ذلك.
واللبوس لغة كل ما يلبس ، قال ابن السكّيت :
البس لكل حالة لبوسها اما نعيمها واما بوسها
«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ» سخرناها «عاصِفَةً» شديدة الهبوب ولا يرد هنا ما جاء في قوله (رخاء) في الآية 37 من سورة ص في ج والآية 12 من سورة سبأ المارة لم يذكر فيها الأمران بل ذكر مدة سيرها حين تحمل البساط على الريح اللينة.
أما العاصفة فتقطع أكثر مما ذكر هناك ، وبما أن اللّه تعالى سخرها له فتكون على رأيه إن شاء رخاء لينة وإن شاء شديدة عاصفة تقطع السنة بساعة وأقل.
راجع كيفية جلب عرش بلقيس في الآية 38 من سورة النمل في ج 1 ، فالريح بالنسبة لسيدنا سليمان كالفرس إن شاء أطلقها فغارت وإن شاء أمسكها فسارت ، فإذا أراد أن تشتد اشتدت وإذا أراد أن تلين لانت ، يدل عليه قوله تعالى «تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» بالأشجار والأنهار والثمار واعتدال الهواء فضلا عن أنها مهبط الأنبياء ومثواهم «وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ» 81 لأن هذه الأشياء وغيرها تجري بمقتضى حكمتنا وتدبيرنا «وَمِنَ الشَّياطِينِ» سخرنا له «مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ» في البحار لاستخراج الدراري «وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ» الغوص ، من البناء الرفيع ، والتصوير الجميل ، وعمل القدور والجفان العظيمة ، والقوارير والصابون وغيرها مما عرف ذلك الزمن وما لم يعرف ، «وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» 82 فلا يزيغون عن أمره ولا يفسدون في الأرض ولا يبدلون ما أمروا به فلا يخالفونه بشيء ما.
قالوا نسجت الشياطين لسليمان بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ ، وكان يوضع له منبر من ذهب وسطه فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة ، يقعد عليها الأنبياء والعلماء وحولهم الوجهاء والأمراء ، وحولهم عامة الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظلّهم الطير بأجنحتها ، وترفع الصبا البساط مسيرة شهر صباحا ومثلها مساء ، وذلك بمدة ساعة أو ساعة ونصف على الاختلاف في تقدير الفرسخ ، لأن الغدو من(4/320)
ج 4 ، ص : 321
مطلع الفجر إلى طلوع الشمس ، والرواح مثله من اصفرار الشمس إلى غروبها راجع الآية 12 من سورة سبأ المارة.
قالوا وكان يسير في الريح الليّنة إلى العراق فيقيل ببلخ وتخلّل بلاد الترك وجاوزها إلى الصين ، ثم إلى قرب مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى إلى السند وجاورها إلى مكران وكرمان في أرض فارس ، وغدا منها فقال في بكسكى ، ثم راح إلى الشام ، وكان مستقره تدمر ، وفي ذلك قال النّابغة :
ألا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاصددها عن النفد
وجيّش الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
قالوا وسبب إعطائه البساط هو غضبه على الخيل التي ألهته عن الصلاة وعقره لها عقوبة لنفسه بحرمانها منها وعقوبة لها لتسببها لفوات صلاة العصر ، وكان في شريعته جواز عقوبة المتسبب ، فأبدله اللّه تعالى خيرا منها وهو البساط ، قالوا وكان عليه السلام يحب الغزو فلا يمر بناحية إلا غزاها ، وأذل أهلها وملكها ، وكان يمر ببساطه وعظمته على المزرعة فما يحركها ولا يثير ترابها ولا يؤذي طائرا ، راجع الآية 15 فما بعدها من سورة النمل في ج 1 ، والآية 10 فما بعدها من سورة سبأ المارة ، وفي هذا وذاك يبيّن أن وجود الجن وإعمارهم الأرض ثابت بالنص فلا يجوز إنكار وجودهم بوجه من الوجوه ، لأنه كفر صريح لمخالفته القرآن ، وعدم رؤيتنا لهم في الدنيا يقابله عدم رؤيتهم لنا في الآخرة ، راجع الآية 27 من الأعراف في ج 2 وبقية قصة عظمة ملك سليمان مفصلة هناك ، وفي أحكام سليمان عليه السلام ما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك.
فتحا كما إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان فاخبرتاه ، فقال ائتوني بسكين أسقه بينكما ، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك اللّه هو ابنها ، فقضى به للصغرى ، وهذا مما يدل على أن حكمه بالاجتهاد لا بالنص بالقصتين المذكورتين.
ونقلوا عنه قصصا أخرى لم نثبتها لعدم التثبت من صحتها ، وهناك قصة رابعة نقلها صاحب الإبريز وهي أن امرأة شهد عليها رجلان بأنها مكنت الكلب من وطئها فحكم برجمها ، وأن سليمان عليه السلام استشهد(4/321)
ج 4 ، ص : 322
الرجلين على الانفراد فاختلف شهادتهما قدرا عنها الحد ، ومن ذلك اليوم استحب استشهاد الشهود مفردين وهو الصواب.
ومن هنا يعلم أن تمكين الكلاب من النساء قديم ، لم تبتدعه بعض عواهر زماننا ، وأن آية التبرّج الآتية من سورة الأحزاب 32 في ج 3 تشير إلى أن كل ما أحدثه أهل هذا القرن من الخلاعة قديم أيضا ، وهذا من معجزات (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 18 من سورة الأنعام المارة ، وليعلم أن أحكام داود عليه السلام في هذه القصص الأربع على فرض صحة الثلاث ، لأن الأولى ذكرها اللّه تعالى فلا قول فيها وكلها موافقة لظاهر الشرع وأحكام سليمان كذلك ، وإنما جوزها بحكمه ، لأن قضية الحرث صارت كالصلح بينهما لرضائهما بحكمه فيها ، وقضية الزنى قبيل ظهور كذب الشهادة إذ يقتضي الحكم بمثلها ، أما قضية الولد فإنما قضى بها داود للكبيرة لعدم وجود بينة لدى الصغيرة ، وكان الولد بيد الكبيرة فحكم باعتبارها ذات اليد والصغيرة خارجة والحكم الشرعي أن البينة على الخارج والقول لذي اليد كما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ، وكان عمل سليمان من قبيل الاختبار ، لأنه لما رأى الكبيرة وافقت على قسمه شقين عرف أن لا شفقة لها عليه ، فلو كان ابنها لما رضيت بموته ، ولو أن الصغيرة وافقت على قسمه لما حكم لها به ولأبقاه لدى الكبيرة باعتبار يدها عليه ، ولهذا حكم به للصغيرة حكم موافق للواقع مصدره الحذق والفطنة والاجتهاد ، تأمل.
قال تعالى «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا رب «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» 83 والضر كلمة جامعة لأنواع الشر أنظر رعاك اللّه ما أبدع هذا الدعاء إذ ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغايتها ، ولم يصرح بمطلوبه عليه السلام أدبا مع ربه وحياء منه وإيذانا بأن ربه عالم بمراده من دعائه ، ولا شك أن الأنبياء موفقون ، قال تعالى «فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ» الذين فقدهم «وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» 84 ليتأسوا به ويعبروا مثله فيثابوا كثوابه ويعتبروا بطلبه ويتفكروا بعطاء اللّه له زيادة عما خطر بباله.(4/322)
ج 4 ، ص : 323
مطلب قصة أيوب عليه السلام ومن تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام :
ونظير هذه الآية الآية 42 من سورة ص في ج 1 وخلاصة هذه القصة قالوا إن أيوب ابن اموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم وامه من ولد لوط بن هاران الأصغر أخي ابراهيم عليه السلام.
وكان تنبأ وبسطت له الدنيا في أرض البلقاء ، من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها ، وكان عنده من أصناف النعم والعبيد ما لم يكن لأحد في عصره ، وأعطاه اللّه مع هذا أهلا وأولادا ذكورا ونساء ، وكان برا تقيا لربه رحيما بالمساكين والأيتام والأرامل ، مكرما للضيفان مبلغا أبناء السبيل بلادهم وهذا مما يوافق شريعتنا راجع الآية 60 من سورة التوبة في ج 3 ومن هنا وجب على الأغنياء إعطاء أبناء السبيل من الزكاة ما يوصلهم إلى بلادهم ولو كانوا أغنياء فيها وعلى الحكومة أيضا أن تعطيهم من بيت المال ما يؤمن وصولهم ، وكان شاكرا لأنعم اللّه مؤديا حقوقه وقد آمن به ثلاثة فقط وكان لهم مال أيضا فحده إبليس على ذلك وصار يخاطب ربه فيقول يا رب لو ابتليت أيوب بنزع ما أعطيته لخرج عن طاعتك ، فقال إني قد سلطتك على ماله قالوا وكان إبليس لا يحجب عليه شيء في السموات ، ولكنه بعد رفع عيسى عليه السلام حجب من أربع منها وفي مبعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم حجب عن الكل إلا في استراق السمع ، وكان يسمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب ، ولذلك حسده فجمع خيله ورجله ونفخوا على الإبل فأحرقوها ورعاتها ، فذهب وقال يا أيوب أتت نار فأحرقت إبلك ورعاتها ، فقال إنها مال اللّه أعارنيها ثم نزعها مني وله الحمد ، عريانا خرجت من بطن أمي وأحشر إلى اللّه كذلك ، ثم أكثر عليه من الكلام حتى قال له يقول الناس لو كان إلهك يقدر لمنع ذلك ، فلم يرد عليه ، فرجع خاسئا ثم فعل بالغنم ورعاتها كذلك ، وجاء إليه فقال ما قال أولا ورد عليه كما رد عليه أيضا فرجع خائبا ثم فعل بالزرع والأشجار كذلك ، وأخبره فكان ما كان أولا وهكذا حتى لم يبق عنده شيء من المال ولم يره
تأثر من شيء أصلا ، فقال إبليس يا رب ان أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال ، فهل أنت مسلطني على ولده ؟ فقال قد سلطتك ، فانقض عدو اللّه حتى أتى ولده جميعا وهم في قصرهم فزلزله فيهم ، فتلفوا عن آخرهم ، ثم ذهب إلى أيوب(4/323)
ج 4 ، ص : 324
عليه السلام بصورة معلمهم ، لأنه كان عليه اللعنة كلما فعل شيئا يذهب إلى أيوب بصفة الرجل الذي يناسب ذلك الفعل ، ففي تلف الإبل والغنم ذهب بصورة راعيها ، وفي تلف الأشجار والزروع والثمار بصورة ساقيها ، وهكذا ، فقال يا أيوب وهو يبكي ليحرك حزنه لو رأيت كيف نكسوا على رءوسهم وسالت دماؤهم وتقطعت أمعاؤهم لتقطع قلبك ألما عليهم ، فقال من هم ؟ قال كل أولادك وأخبره خبرهم ، وقال قد شقت بطونهم وكسرت رءوسهم وتناثرت أدمغتهم ، وكذا وكذا ، ولم يزل يصفهم ويقول له بتحرق وتأسف إلى أن رأى التأثر بدا بوجهه عليه السلام طفق يصف له مزاياهم ويعظم فظاعة ما حل بهم حتى رق قلبه عليه السلام ، فاغتنم إبليس لعنه اللّه هذه الفرصة وذهب يعرض لربه جزعه ، فتنبه أيوب واستغفر ربه حالا وصعدت توبته قبل أن يبثّ إبليس ما عنده ، فخسىء إبليس وذل ، ولما رأى ذلك قال يا رب إنما هان عليه المال والولد ما متعته بنفسه فإنك تعبد له ما فقده من مال وولد ونشب فهل أنت مسلطني على جسده ، فسلطه اللّه على جسده عدا لسانه وقلبه وعقله ، فانقض زاعما أنه فاز ببغيته ، فأتى إليه مسرعا ونفخ في منخريه فاعتراه مرض في جميع جسده ما بين العظم والجلد استدام معه سبع سنين وبضعة أشهر وهو صابر لا يشكو ، وتفرقت عنه الناس ، وجاء أصحابه المؤمنون وأشاروا عليه بأن يدعو ربه بكشف ضره فأعرض عنهم وأنبهم على ما رأى من ضجرهم ، وقال إن اللّه تعالى عافانا سنين كثيرة ومتعنا بكل نعمه الحاضرة ، أفلا نصبر على بلائه بمقدار معافاته على الأقل وأطال عليهم الكلام بخطبة بليغة مؤثرة حتى انفضوا عنه ، ولم يبق ممن يراجعه
إلا زوجته رحمة بنت افرائيم بن يوسف عليه السلام ، وصارت تأتيه بطعامه وشرابه ، فلما رأى اللعين خيبة سعيه ومداومة أيوب على ذكر اللّه تعالى وحمده وشكره صرخ صرخة فاجتمعت إليه الشياطين من كل جانب وقالوا له ما دهاك قال أعياني هذا الرجل ، وحكى لهم قصته معه ، فقالوا له هل أتيته من المكان الذي جئت به آدم حين أخرجته من الجنة ؟ قال أصبتم ، فذهب إلى زوجته وقال لها أين بعلك ذلك الذي كنت ترين ، أين أولادك الذين كنت تباهين ، أين مالك الذي كنت تفاخرين ؟ قد ذهب عنك كل ذلك وتباعدت عنكم أصدقاؤكم(4/324)
ج 4 ، ص : 325
وأنفسكم الناس ، فانظري لحالك أين جمالك ، أين زخارفك ، أين قصورك أين أين ؟
فلم يزل يعدد لها ويذكرها عزها الذي كانت فيه حتى صاحت صيحة أظهرت فيها جزعها وضجرها ، وقالت له ما العمل ؟ قال خذي هذه السخلة وقولي لزوجك يذبحها لي وهو يبرأ مما فيه وتخلصين من هذا الحال ويعود إليك جمالك وعزك وما ذهب منك ، فاستمالها الملعون بذلك وأذعنت لقوله ظانة أنه ناصح لها وأنه يرجع لها ما ذكر ، فأخذت السخلة منه وذكرت لأيوب ما وقع لها وكلفته أن يذبحها لإبليس لأنه هو الذي نفخ فيك فأصابك ما أصابك ، قال لها ويلك أغراك عدو اللّه أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والجمال والعز والصحة ، أليست هي من اللّه ؟ قالت نعم ، قال كم متعنا به ، قالت ثمانون سنة ، فقال لها كم لك في البلاء ، قالت سبع سنين وأشهر ، قال لها ويلك ما أنصفت ربك ، ألا صبرت على البلاء ثمانين كما كنت في الرخاء والنعم ، واللّه لئن شفاني اللّه لأجلدنك مئة جلدة ، تأمريني أذبح لعدو اللّه اذهبي ، طعامك وشرابك عليّ حرام ، فذهبت تبكي ، وبقي أيوب صابرا ما شاء اللّه أن يصبر بلا زاد ولا ماء ولا صديق ولا أحد ، فخرّ ساجدا للّه تعالى ، وقال (ربّ إني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وبين عليه السلام في دعائه هذا افتقاره إلى ربه فقط إذ لم يقل ارحمني ، وإن أكثر أسئلة الأنبياء ربهم على سبيل التعريض لا على طريق الطلب ، لأن حياءهم منه يحول دون طلبهم ، قال المتنبي في هذا المعنى :
وفي النفس حاجات وفيك فطالة سكوتي بيان عندها وخطاب
وذلك أن الأنبياء عليهم السلام تحققوا أن كل شيء كان أو يكون مسبوق بالإرادة ، والإرادة مسبوقة بالعلم ، والعلم تابع المعلوم فيتعلق به على ما هو عليه ، في ثبوته غير المجهول مما يقتضيه استعداده الأزلي ، ثم بعد أن خلق الخلق على حسب ذلك كلفهم استخراج سرّ ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي ، ولذلك أرسل الرسل إليهم مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي فيهم فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بيّنة ، ولئلا يكون للناس على اللّه حجة ، فلا يتوجه عليه اعتراض بخلق الكافر ، وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر(4/325)
ج 4 ، ص : 326
بكفره ، إذ أنه من توابع استعداده في ثبوته غير المجهول ، ويشير إلى هذا قوله تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ) الآية 102 من سورة هود المارة ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم : من وجد خيرا فليحمد اللّه ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وقد أشار الشافعي رحمة اللّه إلى بعض هذا في قوله :
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن
هذا وبما أن الأنبياء واقفون على هذا وقد أرشدوا الخلق إليه ، فإذا دعوا لأنفسهم أو على أعدائهم كان من قبيل التعريض لا التصريح ، لأنهم عالمون أن الكائن كائن في الأزل ، وإن ما لم يكن لا يكون أبدا سواء دعوا أو لم يدعوا ، سعوا أو لم يسعوا ، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام : علمه بحالي يغني عن سؤالي ، راجع الآية 71 المارة ، قالوا ولما صعدت دعوته هذه التي هي من إلهام اللّه وكان قضاء اللّه الأرلي معلقا على وجودها منه وقد صادقت الزمن المقدر لإنقاذ أيوب مما هو فيه ، بعد أن بلغ غايته وطمى نهايته ، ناداه مناد من السماء أن ارفع رأسك قد استجيب لك ، فاركض الأرض برجلك ، فرفسها فنبعت عين ماء فاغتسل منها فشفي مما كان فيه ، وعاد عليه جماله أحسن مما كان ، وقام صحيحا ورأى أن اللّه تعالى قد أعطاه مالا وولدا كأحسن ما كان أولا ، ومشى وقعد على مكان مشرف ، فعنّ لزوجته أن تراه حرصا عليه ، فجاءت فلم تر أحدا ، فصارت تبكي ، فناداها من فوق ما يبكيك يا أمة اللّه ؟ قالت بعلي ، قال وهل تعرفينه ؟ قالت لا يخفى على أحد وانه في حال صحته أشبه بك ، فقال أنا هو ، تأمريني أذبح لإبليس ، ها إني دعوت اللّه فردّ علي ما ترين ، ثم أمره اللّه أن يأخذ قبضة من النبات فيها مئة عود فضربها بها تحلة يمينه كما تقدم في الآية 44 من سورة ص المارة في ج 1 ، ففعل ، فرد عليها شبابها.
هذا ، وما قيل إن أيوب عليه السلام حال مرضه دوّد وألقي على الزبل وغير ذلك من الترهات التي عنها تتحاشى ساحة الأنبياء ، فهو كذب لا نصيب له من الصحة ، لأن الأنبياء معصومون من العاهات المنفّرة ، وإن الذي أصابه هو ما بين الجلد والعظم بحيث لم يظهر عليه ما ينفر الناس عنه ، وما قيل من ان النفرة بسبب سلب ما كان عنده من النعم فقد يكون بالنسبة للناس.
وما قيل(4/326)
ج 4 ، ص : 327
أيضا إن زوجته باعت شعرها وحلف عليها ذلك اليمين هو محض كذب وافتراء وإنما حلف عليها للسبب المار ذكره وهو تكليفه ذبح السخلة لإبليس ، وما نقلناه في هذه القصة هو أصح ما ورد فيها ولو لم نعتمد على صحتها ، إذ لا اعتماد إلا على ما يأتي في كتاب اللّه وسنة رسوله.
روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بينما أيوب يغتسل عريانا خرّ عليه جواد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه ، فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال بلى يا رب ولكن لا غنى عن بركتك.
هذا واختلف في معنى (وآتيناه أهله) إلخ ، فقيل إن اللّه تعالى أحيى له أهله وأولاده بأعيانهم وزاده مثلهم ، وقيل إنه آتاه أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة ، وقيل إن اللّه آتاه مثل أهله وماله وولده وأنعامه وبيوته ومثلها ثانيا واللّه أعلم.
والآية تحتمل المعنيين واللّه قادر على كل شيء.
قال تعالى «وَإِسْماعِيلَ» بن إبراهيم الذي استسلم لربه وانقاد لأمر أبيه ليذبحه تنفيذا لإرادة اللّه ، راجع قصته في الآية 117 من الصافات المارة.
أما قصة وضعه في مكة وأمه فستأتي في الآية 123 من سورة البقرة في ج 3 ، إن شاء اللّه «وَإِدْرِيسَ» ابن أخوخ ، وقد مرت قصته في الآية 57 من سورة مريم في ج ، وفيها كيفية رفعه إلى السماء «وَذَا الْكِفْلِ» الحظ والنصيب واسمه الياس وهو أحد الأنبياء الخمس الذين تسموا باسمين بالقرآن العظيم ، هذا وإسرائيل ويعقوب ، وعيسى والمسيح ، ويونس وذو النون ، ومحمد وأحمد ، عليهم الصلاة والسلام ، وهو ابن ياسين بن فنحاص ابن العيران بن هرون أخي موسى بن عمران عليهم الصلاة والسلام ، راجع الآية 143 من سورة البقرة ج 3 بشأن ذى الكفل والآيات من 124 إلى 132 من سورة الصافات المارة.
قالوا إنه لما كبر اليسع قال إني استخلف رجلا على الناس ليعمل عليهم في حياتي على أن يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي ولا يغضب ، فقال إلياس أنا فرده أولا ، ثم قال مثلها في اليوم الثاني فلم يتعهد بهذه الشروط غيره ، فاستخلفه ووفى بعهده ولقبه بذي الكفل لأنه وفى ما تكفل به.
وما قيل ليس بنبي ينفيه قوله تعالى «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» 85 على ما ابتليناهم به راجع قصته مفصلة في الآيات المذكورة أعلاه من سورة الصافات المارة «وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا(4/327)
ج 4 ، ص : 328
إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ»
86 أي إسماعيل وإدريس وذا الكفل.
وقد ذكر اللّه تعالى هؤلاء الأنبياء الممتحنين بأنواع البلاء بسياق قصة أيوب عليهم الصلاة والسلام لأنهم صبروا على ما امتحنوا به كما ذكر في قصصهم.
قال تعالى «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» من قومه لأجل ربه واسمه يونس واسم الحوت الذي ابتلعه نون فسمي ذا النون وصاحب الحوت «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» بفتح أول نقدر وتخفيفه وقرىء بضم أوله وتشديده من التقدير وعلى الأول من القدر وهو التضييق وهي القراءة المشهورة أي ظن أنا لا نضيق عليه بلزوم الإقامة مع قومه ، ولذلك تركهم وذهب ، راجع قصته في الآية 123 من الصافات المارة أيضا ، «فَنادى فِي الظُّلُماتِ» ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت «أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» 87 بمفارقتي قومي دون أمرك ، فلا تؤاخذني يا رب على ما وقع مني ، ولم يقل نجني أو خلّصني أو غير ذلك لما مر آنفا من أن الأنبياء يفوضون أمرهم لربهم «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» لأن قوله هذا تعريض لدعائنا وتنويه بالالتجاء إلينا «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ» الذي لحقه في بطن الحوت «وَكَذلِكَ» مثل هذه الإجابة «نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» 88 بنا مما يهمهم ، ولا يوجد في هذه الآية بما يتمسك به من قال بوقوع الذنب من الأنبياء بعد رسالتهم ، لأنه عليه السلام لم يذهب مغاضبا من ربه كما قاله بعضهم ، حاشاه ، وإنما ذهب مغاضبا من قومه لأجل ربه ، وإن ظنّه بعدم التضييق عليه لوثوقه بربه ، ولأنه لم يظن أنه أذنب معه بترك قومه ، بل كان يظن أنه مخير بين الإقامة معهم والخروج من بينهم عند عدم قبولهم دعوته ، لذلك فإن فعله هذا لا يستوجب الذنب لو كان من سائر البشر ، أو أن ظنه أن اللّه لم يقدر عليه شيئا ، وهذا على القراءة بالتشديد أي لن نقدر عليه عقوبته ، لتركه قومه ، والمعنيان متقاربان ، إلا أن القراءة بالتخفيف وتفسيرها على ما ذكرنا تبعا لغيرنا أولى وأنسب بالمقام ، لأن نقدر بمعنى نضيق شائع ، ومثله في القرآن كثير ، قال تعالى (اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ
يَقْدِرُ) الآية 43 من سورة الروم الآتية ، وجاء في الآية 7 من سورة الطارق في ج 3 (ومن قدر عليه رزقه) وفي الآية 11(4/328)
ج 4 ، ص : 329
من سورة الفجر في ج
1 (فقدر عليه رزقه) وغيرها كثير وكلها بمعنى التضييق ، وعليه فلم يبق حجة لمن يقول إن نقدر لا تأتي إلا بمعنى القدرة ، لأنا إذا جرينا على هذا المعنى فلا يجوز نسبته إلى آحاد الناس ، فكيف إلى نبي اللّه ؟ وقد تردد في هذه معاوية بن أبي سفيان فسأل عنها ابن عباس رضي اللّه عنهما فقال له إنها من القدر لا من القدرة.
وفيها قراءات أخرى ومعان بنسبتها ضربنا عنها صفحا لأنا ذكرنا أصح ما فيها ، واللّه أعلم.
أما ما حكى عنه بقوله (إني كنت من الظالمين) يريد نفسه لعدم انتظاره أمر ربه قومه وفي أمر بقائه أو خروجه عنهم لا لشيء آخر ، على أن ابن عباس قال إن هذه الحادثة كانت قبل النبوة والرسالة مستدلا بقوله تعالى بعد ذكر خروجه من بطن الحوت (وأرسلنا إلى مائة ألف أو يزيدون) الآية 145 من الصافات المارة ، مما يدل على أنه قبل النبوة والرسالة وصححه الخازن.
ومن قال إنه بعد النبوة وهو ما ذهبت إليه في تفسيري هذا استدل بقوله تعالى (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)
الآيتين 139/ 140 من الصافات أيضا ، فالجواب عنه ما تقدم ، إذ تفيد هذه الآية صراحة أنه مرسل إليهم قبل هروبه بالفلك ، والاستدلال بها أقوى من الاستدلال بتلك ، لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا ، تأمل.
قوله تعالى «وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا في ندائه «رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً» بلا ولد يرثني «وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» 89 لي إن لم ترزقني وارثا ، وإن رزقني فأنت خير الوارثين له ، لأنك ترت الأرض ومن عليها والسماء وما فيها ، وأنت الذي لا وارث في الحقيقة غيرك لمن تحت الأرض وما عليها ، ومن في السماء وما فوقها «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» بأن جعلناها صالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عجوزا عقيما ، فولدته كأنها حدثة «إِنَّهُمْ كانُوا» أولئك الأنبياء «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» إلى مخلوقاتنا طلبا لخيرنا «وَيَدْعُونَنا رَغَباً» بنا ورهبا «وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» 90 مخبتين لعظمتنا ، خاضعين لهيبتا ، فعلى العاقل أن يستديم الخوف حالة الصحة ، والرجاء حالة المرض ، إذ يقول صلّى اللّه عليه وسلم لرجل دخل عليه وهو في حالة النزع : كيف تجدك ؟ قال أخاف(4/329)
ج 4 ، ص : 330
ذنوبي وأرجو رحمة ربي ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ما اجتمعا في عبد في هذا الموطن إلا أعطاه ما رجا وآمنه مما يخاف.
ومعنى الآية رغبا بذات اللّه ورجاء عفوه ، وطمعا برحمته وخوفا من عذابه ، ولهذا يقول اللّه تعالى لتحليهم بتلك الصفات الأربع العظيمة :
نجيناهم من السوء وأجبنا دعاءهم ونصرناهم على أعدائهم.
واذكر يا سيد الرسل لقومك أيضا بسياق ذكر هؤلاء الصالحين من الرجال المرأة الطاهرة الكاملة الصالحة البتول ، وهو معنى
«وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» من التزوج بالحلال السيدة مريم بنت عمران «فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا» المراد من الروح هنا معناه المعروف والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف ، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء لعيسى عليه السلام الذي قدر اللّه تكوينه في بطنها ، وليس هناك نفخ حقيقة ، ولهذا صح أن يقال نفخنا فيها ، لأن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه ، فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها أي مريم ، كما قاله بعض المفسرين ، وليس هذا بمراد ، وهو كما يقول الزّمار نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته ، وقدمنا القصة ومعنى النفخ في الآية 24 من سورة مريم في ج 1 ، وأوضحنا هناك معنى الروح أيضا فراجعه ، ولبحثه صلة في الآية الأخيرة من سورة التحريم في ج 3 فراجعه ، «وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ» 91 على كمال قدرتنا إذ خلفناه من غير أب ، ولم يقل آيتين كما في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) الآية 12 من سورة الإسراء في ج 1 ، لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة ، وهي ولادتها إياه من غير فحل ، أي وجعلنا شأنها وأمرها آية.
أخبر اللّه تعالى في هذه الآيات وأمثالها من القرآن العظيم وهو أصدق المخبرين بأن مريم عليها السلام محصنة من الحلال ، والتي تحصن نفسها من الحلال لا يتصور أن لا تحصنه من الحرام ، قاتل اللّه اللئام الذين يفترون عليها ويبهتونها ، تنزهت وتبرأت عما يقول الظالمون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون «إِنَّ هذِهِ» ملة الإسلام وأمة الإيمان «أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وملة واحدة وهي ملة جميع الأنبياء ودينهم ، لا دين غيره اختاره اللّه لكم أيها الناس لتمسكوا به وتعبدوا اللّه وحده وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ ، لأن جميع الكتب نازلة في شأنها ، والأنبياء كلهم مبعوثون للدعوة(4/330)
ج 4 ، ص : 331
إليها ومتفقون عليها.
قال تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 «وَأَنَا رَبُّكُمْ» واحد لا إله غيري «فَاعْبُدُونِ» 92 وحدي لا تشركوا بي أحدا ولا شيئا ، وهذا الخطاب للناس كافة لا يختص به واحد دون آخر.
قال تعالى «وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» أي البعداء عن الحق الذين لم يجيبوا الدعوة جعلوا الدين الواحد قطعا ووزعوه بينهم كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد ، فاختلفوا فيه وصاروا أحزابا.
وسياق الكلام يفهم على أن المعنى وتقطعتم ، إلا أن الالتفات من الخطاب إلى الغيبة أوجب ذلك ، وفي تخصيص لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة بهم وإيذان بأنه يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط ، لأنه رب كل مربوب ، وهو المقيض على عباده جوده ولطفه.
ثم انه توعدهم على ذلك التفريق الذي ابتدعوه بقوله «كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» 93 لا يفلت منهم أحد ولا مرجع له غيري ، وإذ ذاك أجازي كلّا بما يستحقه «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ» في دنياه «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» قيد العمل بالإيمان ، لأن الكافر لا ينفعه عمله الطيب في الآخرة لمكافأته عليه في الدنيا «فَلا كُفْرانَ» حرمان وبطلان ولا جحود «لِسَعْيِهِ» الذي سعاه في الدنيا كيف «وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ» 94 فلا يضيع له شيئا من عمله الحسن ولو مثقال ذرة بل نعطيه أضعافها من أحسن ما يستحقه طبقا لقوله تعالى (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الآية 97 من سورة النحل المارة «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ» ممتنع على أهل قرية «أَهْلَكْناها» بحسب واقتضاء حكمنا وقضائنا الأزلي لغاية طغيانهم ونهاية بغيهم وتجبرهم «أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» 95 من الكفر إلى الإيمان البتة.
والجملة في تأويل مصدر خبر وحرام أي رجوعهم إلينا وتوبتهم حرام.
ولا هنا مثلها في قوله تعالى (أَلَّا تَسْجُدَ) الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1 ، وهذا على قراءة فتح همزة أنهم وهو الأفصح ، وعلى كسرها يكون معناها التعليل ، والمعنيان متقاربان.
وقيل إن حراما بمعنى واجب ، وعليه قول الخنساء :
وان حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوة إلا بكيت على صخر
وقد مشى بعض المفسرين في قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(4/331)
ج 4 ، ص : 332
الآية 151 من سورة الأنعام المارة ، أي ما أوجب ، لأن ترك الشرك واجب ، وعلى هذا قال الحسن ومجاهد لا يرجعون أي لا يتوبون عن الشرك ، وقال قتادة ومقاتل لا يرجعون إلى الدنيا ، وقال غيرهم لا يرجعون إلى الجزاء ، إلا أنه على هذا المعنى الأخير يكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث ، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد ، وأنه يجرى على ذلك يوم القيامة ، وفيه ما فيه ، والأول أولى ، واللّه أعلم ، فليحرر.
قال تعالى «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» أي سدهما المشار إليه في الآية 99 من سورة الكهف المارة «وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» 96 سراعا والحدب كل ما ارتفع ونشر في الأرض روى مسلم عن حذيفة بن أسيد العفاري قال : اطلع النبي صلّى اللّه عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر ، قال ما تذكرون ؟ قالوا تذكر الساعة ، قال إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات ، فذكر الدخان ، والدجال ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى بن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاث خسوف ، خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم.
وفي رواية ودابة الأرض ، فتكون مع ذكرها عشرا.
قال تعالى «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ» لقيام الساعة «فَإِذا» الفاء للمفاجأة واقعة في جواب إذا «هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا» فلا تكاد تطرف من هول ما ترى في ذلك اليوم ، يقولون بلسان واحد «يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا» اليوم لم نقدره في الدنيا على هذه الحالة الفظيعة ، ثم انتقلوا عن هذا القول فقالوا «بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» 97 أنفسنا لعدم اصغائنا إلى الذين خوفونا منه ولم نطع الرسل برفض الكفر وإلزام التوحيد ، ثم يقال لهم «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ» وقود «جَهَنَّمَ» وأصل الحصب الرمي والوقود يرمى بالنار رميا بل يقذف قذفا في جهنم إهانة لهم ، ولهذا عبر عنه بالحصب «أَنْتُمْ لَها» أيها الكفرة «وارِدُونَ» 98 ورود دخول ، راجع الآية 98 من سورة هود المارة «لَوْ كانَ هؤُلاءِ» الأوثان كما زعم عابدوها «آلِهَةً» تعبد وتشفع لهم مما حل بهم «ما وَرَدُوها» الآن ولما دخلوا فيها وعذبوا في جهنم بسبب عبادتها ، (4/332)
ج 4 ، ص : 333
ولمّا كانت ليست بآلهة ولا تستحق العبادة يقول اللّه تعالى «وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» 99 العابدون والمعبودون «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ» هو خروج النفس بشدة حتى يظهر له صوت عال من ألم العذاب «وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» 100 شيئا مما يقال لهم لانشغالهم بأنفسهم.
مطلب إخساء عبد اللّه بن الزبعرى وجماعته ، ومن كان كافرا في أصل الخلقة :
ولما نزلت هذه الآيات الثلاث دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المسجد وصناديد قريش في الخطيم ، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فعرض له النفر من قريش منهم النضر بن الحارث ، فكلمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه هذه الآيات الثلاث ، وقام فأقبل عبد اللّه الزبعرى السهمي ، فأخبره الوليد بن المغيرة بما قاله حضرة الرسول ، فقال ابن الزبعرى أما واللّه لو وجدته لخصمته ، فدعوا رسول اللّه فقال له ابن الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون الآيات ؟ قال نعم ، قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى المسيح ، وبنو مليح الملائكة ، أهؤلاء في النار ؟
قالوا فضحكت قريش وارتفعت أصواتهم وفرحوا على زعمهم أنه حجّ محمدا ، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين ، قال تعالى في حق عيسى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية 117 من المائدة في ج 3 ، وقال بحق الملائكة (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) الآية 41 من سورة سبأ المارة ، وقال تعالى في حق عزير (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآية 259 من البقرة في ج 3 ، بعد أن ضرب اللّه به المثل ، ثم التفت صلّى اللّه عليه وسلم إلى ابن الزبعرى وقال بل هم يعبدون الشيطان لا هؤلاء ، ثم قال له ما أجهلك بلغة قومك ، وذلك أن ما وضعت لما لا يعقل ، فيكون ما ذكر غير داخل في الآية ، لأنها لم تأت بلفظ من الموضوعة لمن يعقل ليصح الاحتجاج بها ، لأنها جاءت لحمل الآية على حقيقتها ورفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام المتأخر عن الخطاب كما قاله بعض المفسرين ، وبما أن ما صريحة هنا بأنها لغير العقلاء فلم يتجه خلط ابن الزبعرى ، وهذا بعد أن قال له ذلك حضرة الرسول نكس رأسه ، وخسىء هو ومن معه ، وتفقئوا خجلا وحياء بعضهم من بعض ،
ثم أنزل اللّه بعدها «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى » كعيسى وعزير(4/333)
ج 4 ، ص : 334
وإخوانهم من الأنبياء والملائكة وأصنافهم وكل صالح محسن مطيع من المؤمنين ممن سبقت لهم السعادة «أُولئِكَ» الأفاضل الأكارم «عَنْها» أي جهنم «مُبْعَدُونَ» 191 لا يردونها ورود دخول أبدا.
وهذه الآية عامة يدخل فيها كل من قدر اللّه له دخول الجنة وهؤلاء المحسنون «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» صوت لهيبها «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ» من نعيم الجنة وكرامة ربهم «خالِدُونَ» 102 في جنة ربهم المقدرة لهم «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» في هول الموقف ودخول النار «وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» على أبواب الجنة يحيونهم ويقولون لهم «هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» 103 في الدنيا ، وما قيل إنه بعد ذلك ذهب أبو جهل وجماعة من قريش إلى أبي طالب وكلفوه منع ابن أخيه من التعرض لآلنهتهم على الصورة المارة في الآية 107 من سورة الأنعام المارة ، وعلى الصورة التي ذكرناها في الآية 26 من السورة نفسها لا يصح ، لأن أباطالب توفي قبل هاتين الحادثتين بكثير كما أشرنا إليه في الآيتين المذكورتين ، وأن هذه متأخرة عن وفاة أبي طالب ، لذلك فإنه قيل لا قائل له ، واذكر لقومك يا سيد الرسل «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» مثل طي الصحف والطي ضد النشر وهو تكويرها ولفها ومحو رسومها بعد أن كانت مبسوطة منشورة بحيث لا يبقى لها اسم ولا رسم ، لأن طي الشيء كناية عن نسيانه وإعدامه وعدم تذكره بالمرة.
وقال بعض المفسرين إن السجل اسم ملك موكل بالصحف ، فإذا مات الإنسان دفع كتابه إليه فطواه ورفعه ، والأول أولى ، لأن السجل هو مجموع الصحائف التي تسجل فيها الأعمال ، ومنه أخذ أهل الدنيا تسميتهم ما يدون به وقائع الأحوال الدنيوية سجلا في المحاكم وغيرها «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» بعد الموت مثل ما خلقناه أولا على هيئته ، وقد وعدنا الرسل بذلك «وَعْداً» حقا ثابتا لا يبدل ولا يغير وهو لازم «عَلَيْنا» بأن من خلقناه في الأزل كافرا نعيده بعد الموت كافرا ، ومن خلقناه مؤمنا نعيده يوم الحشر مؤمنا ، وهذا واجب علينا إنجازه على طريق الوفاء بالوعد «إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» 104 لما نعد به لا نخلفه البتة ، وهذه الآية والآية 30 من سورة الأعراف في ج 1 تؤيدان ما مشينا(4/334)
ج 4 ، ص : 335
عليه من تفسيرهما بأن الذي خلق يوم خلق الذر كافرا يموت كافرا ويحشر كافرا ولو عمل ما عمل من الخير كإبليس ، والذي خلق مؤمنا يموت ويحشر مؤمنا ، ولو فعل ما فعل من الشر ، كسحرة فرعون ، والحديث الصحيح الذي ذكرناه في الآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 ، يؤيد هذا بزيادة فيما يبدو للناس ، كما هو في صحيح البخاري ، وعليه فلا عبرة فيما يقع للعبد في متوسط عمره من أفعال الخير والشر ، وإنما العبرة بالخاتمة نسأل اللّه حسنها.
قال تعالى «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ» المنزل على داود عليه السلام «مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» أي التوراة لنزوله بعدها ، وقيل الذكر اللوح أو أم الكتاب أو غير ذلك ، والأول أولى «أَنَّ الْأَرْضَ» أل فيها للعهد والمعهود من أرض الدنيا الأرض المقدسة «يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» 105 لعمارتها وحفظها بإعلاء شأن دين اللّه وإقامة العدل بين الناس ، قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية 56 من سورة النور في ج 3 ، وهناك أقوال أخر بأن المراد بالصالحين الصالحون بعمارتها الدنيوية ، وعليه فيراد بالأرض الأرض كلها قال تعالى (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الآية 127 من سورة الأعراف في ج 1 ولفظ العباد لا يختص بالمؤمنين وأقوال أخر بأنها أرض الجنة ، قال تعالى (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) الآية 74 من سورة الزمر المارة وأولاها أوسطها واللّه أعلم ، وقد جاء في الزبور الموجود الآن عند النصارى وغيرهم في المزمور 37 والآية 2 ما نصه : اسكن الأرض وارع الأمانة.
وفي الآية 11 أما الورعاء فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة.
وفي الآية 24 لأن المباركين يرثون الأرض ، والملعونين يقطعون.
وفي الآية 27 صدّ عن الشر وافعل الخير واسكن إلى الأبد.
وفي الآية 29 الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد.
وفي الآية 34 انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض إلى انقراض الأشرار.
هذا أيها الناس كتابنا ينطق بالحق عما في كتب الأنبياء السالفين ، مصدقا لما جاء فيه كما أخبرنا اللّه على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، فاعتبروا رحمكم اللّه في هذه العبرة العظيمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد «إِنَّ(4/335)
ج 4 ، ص : 336
فِي هذا»
المتلو عليكم أيها الناس ، «لَبَلاغاً» اخطارا كافيا وانذارا شافيا ووعظا وافيا ، «لِقَوْمٍ عابِدِينَ» 106 اللّه وحده مخلصين له العمل الموصل إلى البغية والمؤدي إلى المطلوب ولا بعد هذا البلاغ والبلاغ المار ذكره آخر سورة إبراهيم المارة بلاغ لمن يعتبر ويتذكر «وَما أَرْسَلْناكَ» يا خاتم الرسل «إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» 107 اجمع ، لأن هذه الآية عامة لمن آمن به واتبعه ومن لم يؤمن به لأنه أتى من عند نفسه فضيّع نصيبه من هذه الرحمة ، وإنما كان إرساله صلّى اللّه عليه وسلم رحمة لأنه حينما بعث كان الناس في كفر وجهالة ، وكان أهل الكتاب في حيرة لما وقع من الاختلاف بينهم في أمر دينهم وكتبهم ، ولم يكن لطالب الحق من سبيل ، فدعاهم صلّى اللّه عليه وسلم كلهم إلى الهدى وبين لهم طريق الصواب وشرع لهم الأحكام ، ووضح لهم الحلال من الحرام ، وأظهر حقائق ما اختلفوا فيه ، ورفع اللّه عن العباد المسخ والخسف وعذاب الاستئصال الذي كان يقع على الأمم السابقة ، ببركته صلّى اللّه عليه وسلم القائل إنما بعثت رحمة مهداة ، ففاز من فاز برشده ، وخسر من خاب بغيّه ، لأنه صلّى اللّه عليه وسلم مرسل إلى الخلق كافة إنهم وجنّهم وملائكتهم ، بنص هذه الآية والآية 28 من سورة سبأ المارة والآية 158 من سورة الأعراف في ج 1 ، لدخولهم في عموم لفظيّ الناس والعالمين وهو كذلك أما كونه رحمة للأنس والجن فظاهرا لأنه هداهم إلى الحق وأنفذهم من الكفر وشرفهم بالإيمان وسبب لهم دخول الجنان ، وأما الملائكة فرحمة لهم لأنهم وقفوا بواسطته على علوم جمة وأسرار عظيمة مما أودع اللّه في كتابه الذي فيه ما كان وسيكون عبارة وإشارة ، وأي سعادة أفضل من التحلي بمزية العلم وقد أظهر من فضلهم على لسانه الشريف ما أظهره وأمنهم مما ابتلى به هاروت وماروت ، وأيد هذا صاحب الشفاء بأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إلى السيد جبريل عليه
السلام هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ قال نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء اللّه تعالى علي في القرآن.
وقال ابن القيم في كتابه مفتاح السعادة لو لا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معشية ولا قوام لمملكة ، ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض ، وكل خير في العالم من آثار النبوة ، وكل شر وقع في العالم أو سيقع بسبب(4/336)
ج 4 ، ص : 337
إخفاء آثار النبوة ودرسها ، فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه.
ولهذا فإذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها انشقت سماؤه وانتثرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها ، فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة ، وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه صلّى اللّه عليه وسلم أكمل النبيين ، وما جاء به أجمل مما جاءوا به عليهم السلام وإن لم يكن في الأصول اختلاف.
ووجه كونه صلّى اللّه عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين أجمع أسودهم وأحمرهم عربهم وعجمهم هو أنه أكرمهم على اللّه ، وأحبهم إليه ، وأنفعهم لعباده وأتقاهم ، وأرضاهم إليه ، وأسخاهم فيما لديه ، وأوفرهم نصيبا عنده وأكثرهم مروءة بخلقه وغيرة على دينه وكونه خاتم الرسل.
وما قبل إن العالمين خاص بالمؤمنين غير وجيه لعدم وجود ما يخصصه بهم ، بل إنه عام مطلق ، وقد بعث صلّى اللّه عليه وسلم رحمة لكل فرد من أفراده إنسهم وجنهم وملائكهم ، إلا أن الرحمة متفاوتة فتكون لكل بحسبه بمقتضى أعماله ، كما أن العذاب والعقاب يكون كذلك.
هذا وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول اللّه أدع على المشركين ، قال إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة.
قال تعالى «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إنما أداة حصر ، والحصر قصر الحكم على شيء ، أو قصر
الشيء على حكم ، وعليه يكون المعنى أن الإله إله واحد لا غير البتة ، وهو الذي أوحى إلي ما تلوته عليكم «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» 108 منقادون إلى توحيد اللّه.
وهذا استفهام بمعنى الأمر ، مثله في قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) الآية 91 من المائدة في ج 3 أي هلا تنتهون عن شرب الخمر واللعب بالميسر وكل ما نهى اللّه عنه ؟
والمعنى هنا هلا أسلمتم بعد ما أوضحنا إليكم الدلائل ، فأسلموا تسلموا خير لكم ، ولهذا يقول اللّه «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا محمد ولم يذعنوا لك «فَقُلْ آذَنْتُكُمْ» أعلمتكم وأنذرتكم أيها الناس ما أمرني به ربي.
وكلمة آذن تتضمن الإنذار والتحذير من الحرب ، ولا سيما قد تقدمه الإنذاران المشار إليهما آنفا ، وهذه كلها من مقدمات الهجرة التي آن أوانها والتي ستكون سببا للحروب معهم وغيرهم كما يدل عليه قوله تعالى «عَلى سَواءٍ» أي لم أخص أحدا منكم بذلك الإعلام المسبوق(4/337)
ج 4 ، ص : 338
بالإنذارين ، وإنما أعمكم جميعا لأنكم في المعاداة سواء.
على وجه نستوي فيه نحن وأنتم بالإعلام والإخطار ، وهذه طريقة الأنبياء قبلي إذ كانوا يخوفونهم وينذرونهم عذاب اللّه ، لا يخصون بإنذارهم أحدا ، وهانذا أنصحكم فتأهبوا لما يراد بكم «وَإِنْ أَدْرِي» وما أعلم يا قوم «أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ» 109 به من العذاب الذي تجازون به على أعمالكم القبيحة ، لأن اللّه لم يطلعني عليه ولا على وقت وقوعه ، فأنا وأنتم بعدم العلم به سواء ، ولكنه كائن لا محالة «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ» 110 لا يعزب عنه شيء فكل ما تكنّونه لي من الحقد والإحن وما تطعنون بي وبديني معلوم عند اللّه ، ولا بد أن ينتقم لي منكم إن لم تتوبوا وترجعوا عن غيكم في الدنيا أو في الآخرة ، وإني لأرجو أن ينتقم منكم فيهما إن بقيتم مصرين
«وَإِنْ أَدْرِي» وما أدري «لَعَلَّهُ» أي تأخير العذاب عنكم «فِتْنَةٌ لَكُمْ» امتحان واختبار يختبركم به اللّه لتعلموا أنتم وليعلم بعضكم بعضا أن الحجة عليكم ، وإلا فإن اللّه تعالى عالم بما هو واقع منكم قبل وقوعه ، وما أدري هل هذا الإمهال استدراج تغترون به «وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» 111 معلوم عنده تتمتعون به أياما قليلة ، ثم يريكم سوء صنيعكم قبيح عملكم وخبث فعلكم «قالَ» وقرىء قل يا أكمل الرسل «رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ» بيني وبينهم واللّه تعالى يحكم بالحق بين جميع خلقه على السواء ، ومعنى هذا الطلب ظهور الرغبة من الطالب وإعلام المطلوب أنه لا يريد غير الحق من ربه ، لتطمئن نفسه بأن إلهه لا يحب إلا طلب الحق ، ولكن طلب الرسول هذا يفيد الاستعجال ، بنزول العذاب بقومه لما رأى من تضاعف عنادهم وتكاثر عتوهم وتوالي أذيتهم له ولقومه وتطاولهم على دينه وكنابه وإن اللّه تعالى قد أقر عينه فيهم ، إذ عذبهم في واقعة بدر ، وقهرهم في فتح مكة في الدنيا ، ولعذاب الآخرة المخبوء لهم أشد وأدهى ، كما أنه أقر عينه بمن آمن منهم ، لأن إيمانهم أحب إليه من كل شيء «وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ» به «عَلى ما تَصِفُونَ» 112 به حضرته المقدسة من الشرك وتصمونه من التكذيب وتوقعونه بنبيه وأصحابه من الأذى والإهانة ولا عون لرسوله عليكم غيره ، أضاف صلّى اللّه عليه وسلم لفظ الرب لنفسه وحده ، لأنه في معرض الدعاء(4/338)
ج 4 ، ص : 339
والدعاء من وظائفه الخاصة.
وأضافه ثانيا له ولأصحابه لأنه في معرض طلب العون والغوث والرحمة ، وهي من الوظائف العامة به وبهم ، وقرىء (يصفون) بالياء أيضا ، وفي ذكر صفوة الخلق وما يتعلق به بختام هذه السورة بهذه الجملة التي لا توجد سورة مختومة بها طيب تضوع منه المسك ، كما أن ما بدئت به من أحوال القيامة هول تنفطر له الأجساد ، وما بينهما آيات وعظات عظيمة وعبر وأخبار فخيمة ما وراءها وراء.
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب ، فأكرم عامر مثواه ، وكلم فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فجاءه الرجل فقال إني استقطعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه ، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك ، فقال عامر لا حاجة لي في قطعتك ، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا : اقترب للناس حسابهم إلخ.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة المؤمنين
عدد 24 - 74 و23
نزلت بمكة بعد سورة الأنبياء ، وهي مئة وثماني عشرة آية ، وثمنمئة وأربعون كلمة ، وأربعة آلاف وثمنمئة حرف وحرفان ، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به ، ولا مختومة بما ختمت به من الجمل ، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» 1 فازوا وظفروا بمطلوبهم وخلصوا ونجوا مما يرهبون ، وهؤلاء المفلحون هم «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» 2 للّه خاضعون لهيبته خائفون منه متذللون إليه طلبا لقبولها منهم.
مطلب الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها والزكاة ولزوم أدائها والأمانة والعهد والحكم الشرعي فيهما :
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها قالت : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة ، فقال اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد.(4/339)
ج 4 ، ص : 340
وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي ذر رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : لا يزال اللّه مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت ، فإذا التفت انصرف عنه.
ولهذا أجمعت الفقهاء على أن وقوع ثلاث حركات متوالية من المصلي تبطل صلاته.
وقد حذر حضرة الرسول من العبث في الصلاة ، فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم! فاشتد قوله في ذلك ، حتى قال لينتهينّ عن ذلك أو لتخطفنّ أبصارهم.
واعلم أن الخشوع هو جمع الهمة والإعراض عن سوى اللّه والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر ، لأن من لا يتدبر القراءة لا يعرف معناها ، ومن لم يعرف معناها لا يخشع لها ، ومن لا يخشع لها فكأنه لم يقرأ.
وأعلم أن المصلي إذا عرف نفسه أنه واقف بين يدي اللّه العظيم بالغ في الخشوع والخضوع والخوف ، فقد ذكر البغوي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.
وأخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي اللّه عنها قالت : رآني أبو بكر أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت أنصرف من صلاتي ، ثم قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميّل تميل اليهود ، فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة.
ومن الخشوع عدم كفّ الثوب والتمطي والتثاؤب والتغطية للفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقليب ما يسجد عليه ، ومهما أمكن أن لا يخطر في قلبه غير ما هو فيه ، وان يتعلق بالآخرة ، لأن الخشوع محله القلب ويظهر عدمه بحركات الجوارح وهو من السنن المؤكدة في الصلاة.
وقال بعض العلماء بوجوبه وفرضيته.
قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ» هو كل كلام ساقط من هزل وشتم وكذب وما لا يعتد به من الكلام ، والذي يصدر عن غير رويّة وفكر باطلا أو غير باطل.
راجع ما بيناه في هذه في الآية 72 من سورة الفرقان ج 1 وفي الآية 67 من سورة الأنعام المارة ، وله صلة في الآية 11 من سورة النور في ج 3 ، «مُعْرِضُونَ» 3 في عامة أوقاتهم وفي الصلاة خاصة ليحصل لهم فيها الفعل والترك الشاقّين على النفس(4/340)
ج 4 ، ص : 341
اللذين هما قاعدتا التكليف وبناؤه «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» 4 مداومون عليها محافظون على أوقاتها وأدائها ، ولا محل للقول بأن الزكاة لم تفرض بعد ، لأن السورة مكية وقد فرضت في المدينة ، وإن القصد هنا هو تزكية النفس من الأفعال المشينة لها وأنها على حد قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) الآية من سورة الأعلى في ج 1 ، وقوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) الآية من سورة والشمس المارة في ج 1 أيضا لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ، ولا ينبغي العدول عن ظاهره وعن تفسير بعضه لبعض ما أمكن ، وان معنى هذه الآيات على هذا هو فعل ما تزكى به النفس من المناقب واجتناب ما يشينها من المثالب كلها ليستوجبوا تزكية اللّه تعالى لهم وتطهيرهم من الذنوب والنقائص والعيوب ، لأن المراد وصفهم بالزكاة المطلقة التي هي عبادة مالية ، وقد ذكرنا غير مرة عند ذكر لفظ الزكاة أي القصد منها ما كان متعارفا عندهم إنفاته قبل الإسلام غير الزكاة المفروضة على هذه الأمة ، لأن العرب كانت تزكي زكاة تلقتها عن أوائلهم ، قال أمية بن الصلت :
المطعمون الطعام في السنة الأز مة والفاعلون المزكوات
ولم يرد عليه أحد ، فلو لم تكن معروفة عندهم لردوا عليه لأنهم لا يسكتون إذا سمعوا غير الواقع ، وتفسير ما نحن فيه بمعنى الآيتين المذكورتين آنفا بعيد ، لأنهما ليستا مما نحن فيه ، ولأن اقتران وصفهم بالصلاة التي هي عبادة بدنية ينادى على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة التي هي عبادة مالية ، وعليه يكون المعنى الفاعلون لأدائها لمستحقيها بأوقاتها عن طيب نفس طلبا لثوابها ، وعلى هذا فلا يقال أيضا إن حضرة الرسول وأصحابه طيلة وجودهم في مكة لم يزكوا مع توالي نزول الآيات التي هي من هذا القبيل عليهم ، بل كانوا يزكون ، لأن الرسول كان فيما لم يؤمر به يجري فيه على طريقة إبراهيم عليه السلام وشريعته ، وهل يمكن أن يقال لا زكاة في شريعة من الشرائع ؟ كلا ، ولكنهم كانوا يتصدقون بما يتيسر لهم من جهدهم ، لأن أكثرهم فقراء معدمون ، ولذلك لم يشتهر عنهم فعل الزكاة في مكة.
هذا ، ولفظ الزكاة يصرف على إنفاق المال حقيقة ، وصرفها لغير هذا المعنى مجاز ، ولا يعدل عن الحقيقة إلا إذا تعذرت ، وهي غير متعذرة هنا.
قال تعالى «وَالَّذِينَ(4/341)
ج 4 ، ص : 342
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ»
5 عن كل ما حرم اللّه قاصرون على ما أحله لهم والفرج مطلق الشق بين الشيئين ، ثم أطلق على سوءتي الرجل والمرأة ، وحفظهما التعفف عن الحرام ، ثم استثنى جل شأنه فقال «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» من الجواري والإماء ملكا حقيقيا ، لأنه من الحلال.
وهذه الآية خاصة بالرجال بحسب الظاهر ، لأن النساء لا يسوّغ لهن ذلك ، فلا يجوز أن يستمتعن بما ملكت أيمانهن من العبيد والإماء بالإجماع.
أخرج عبد الرزاق عن قتادة قال :
تسرّت امرأة غلاما ، فذكرت لعمر رضي اللّه عنه ، فسألها ما حملك على هذا ؟
فقالت كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين ، فاستشار عمر رضي اللّه عنه أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقالوا تأولت كتاب اللّه على غير تأويله (أي لا حدّ عليها لأن التأويل يدرا الحد ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات) فقال رضي اللّه عنه لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدا.
أي أنه جعل عقابها ذلك ودرأ عنها الحدّ وأمر العبد أن لا يقربها.
واعلم أن المرأة إذا كانت متزوجة بعبد فملكته وأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار.
وقال النخعي والشعبي وعيد ابن عبد اللّه بن عقبة : يبقيان على نكاحهما.
والمراد بما ملكت أيمانهم السريات الأناثي فقط ، إذ أجمعوا على عدم حل وطء المملوك الذكر ، وإنما عبر عنهن بما دون من إما لعدم اختصاص ما لغير العقلاء لأنهم على الغالب فيهم ، أو لأنهن مثل السلع يبعن ويشترين لعدم الاكتراث بهن أو لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن أجرين مجرى غير العقلاء ، هذا إذا كن من الروم والجركس ونحوهم ، أما إذا كن من الزنج والحبش وشبههم فإنهن من نوع البهائم وما نوع البهائم عنهن ببعيد - إلا إذا زكّتهن الهداية - فلا غرو إذا عبر عنهن بما «فَإِنَّهُمْ» إذا لم يحفظوا فروجهم عن إمائهم وجواريهم الإناث «غَيْرُ مَلُومِينَ» 6 على جماعهم هذا الصنف من الإماء والجواري للإذن فيه ، لأن كل ما أذن فيه لا يلام فاعله عليه «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ» ولم يقتصر على أزواجه وسراريه وتعدى إلى غير ذلك والعياذ باللّه «فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» 7 المبالغون في العدوان المتجاوزون حدود اللّه ، لأن هذه الآية دالة على تحريم ما عدا ذلك من الاستمناء باليد وبالدبر من الصنفين وإتيان الحيوانات وكل ما لم يأذن به الشرع.(4/342)
ج 4 ، ص : 343
واعلم أن من قال إن هذه الآية ناسخة لآية المتعة المزعومة في الآية 24 من سورة النساء لا ثقة بقوله ، لأن هذه مكية متقدمة عليها بالنزول ، وتلك الآية مدنية متأخرة عنها ، والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا.
وكذلك القول في الآية 10 من سورة المعارج الآتية لا تكون ناسخة لها للعلة ذاتها والسبب نفسه.
وعلى من يدعي العلم ويقول بالنسخ أنيتثبت من معرفة أحواله وقواعده ثم يقول ، لا انه رجما بالغيب بادىء الرأي ، فيعرض نفسه للقدح والوصم بجرأته على كتاب اللّه المنزه عن كل ثلب.
ولنا بحث في المتعة نبديه إن شاء اللّه في تفسير آية النساء المذكورة أعلاه فراجعه.
قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» 8 محافظون لما ائتمنوا عليه من مال وغيره مراعين به حق اللّه مؤدين له لأربابه حال طلبهم كما استلموه منهم ، إذ لا يجوز لهم التصرف بالأمانة ، وموفون بما عاهدوا اللّه عليه قبل وبعهدهم لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، ولما عقدوا ويعقدوا بينهم من العهود للمؤمنين وغيرهم مهما كان دينهم ، لأن الوفاء بالعهد واجب لأي كان ، راجع الآية 34 من سورة الإسراء ج 1 والآية 91 فما بعدها من سورة النحل المارة ، وأصل الرعي حفظ الحيوان ، ثم استعير للحفظ مطلقا.
والأمانة منها ما يكون بين العبد وربه كالوضوء والصلاة والصوم وغسل الجنابة وغيرها مما أوجبه اللّه تعالى على عباده مثل البر باليمين ، وما يتعلق بالأقوال التي تحرم بها النساء والإماء ويعتق بها الجواري والعبيد لأنه مؤتمن في ذلك فيما بينه وبين ربه ، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) الآية 37 من الأنفال في ج 3 ، وقال عليه الصلاة والسلام أعظم الناس خيانة من لم يتم صلاته.
وجاء عن ابن مسعود : أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة.
ومنها ما يكون بين الناس أنفسهم كالودائع والعقود والضائع والأسرار فيجب المحافظة عليها والوفاء بها ، إذ لا فرق بين من يفشي سرا ائتمن عليه ، وبين من يختلس مالا استودعه.
الحكم الشرعي :
وجوب حفظ الأمانة بالمحل الذي يحفظ به ماله من جنسها ، وإذا لم يفعل وطرأ عليها طارئ فإنه يعد مقصرا شرعا ويضمنها إذا سرقت أو تلفت ، ويصدق بردّها بقوله دون حاجة لإقامة حجة ، وإن أقامها براءة لذمته جاز ، وليس للمودع تكليف(4/343)
ج 4 ، ص : 344
الوديع بينة على الردّ لأنه استلمها بلا بينة ، ولأن المقصود منه الأمانة ، إذ لا ينبغي لصاحب المال أن يودع ماله إلا عند من اشتهر بالأمانة والديانة وحصلت له الثقة به ، فإذا أودعها عند من ليس من أهلها وأنكرها عليه فلا يلومن إلا نفسه ، لأنه هو الجاني عليها ، وليس للوديع أن يودعها عند غيره بغير إذن المودع أو تفويضه ، فإن فعل ضمن أيضا.
قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» 9 بأن يؤدوها بأوقاتها بطهر كامل ويتموا أركانها وشروطها بوجه أكمل ، ولا يعد هذا تكرارا لأنه تعالى وصف أولا الصلاة بالخشوع وأخيرا بالمحافظة ، والمحافظة غير الخشوع ، ولأنها أعظم أركان الدين خصت بمزيد الاعتناء فذكرت مرتين.
الحكم الشرعي : في تاركها كلا الحبس والتفسيق ، وعمدا تهاونا وجحودا لفرضيتها الكفر والقتل حدا ، ولا عذر في تركها ما قدر العبد أن يؤديها ولو بالإيماء ، ويكفي في ذلك لعن تاركها من قبل حضرة الرسول ونفي الأمانة عنه ، ومن لم يحافظ على أركانها وشروطها كان كمن لم يقمها ولم يحافظ عليها ، قال عليه الصلاة والسلام إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت حفظك اللّه كما حافظت علي وشفعت لصاحبها ، وإذا أضاعها (أي لم يقم بشروطها) قالت أضاعك اللّه كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها.
أي يوم القيامة إذ تمثل العبادات والأعمال وتجسم «أُولئِكَ» الذي هذه صفاتهم وهذا شأنهم «هُمُ الْوارِثُونَ» 10 الأخلاق الحميدة والأفعال المجيدة في الدنيا
وهم «الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ» أعلى مراتب الجنة «هُمْ فِيها خالِدُونَ» 11 أبدا ، أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن في الجنة مئة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ، ومن فوقها يكون العرش ، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس.
وأخرج أيضا عن عمر بن الخطاب قال :
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل ، فأنزل اللّه عليه يوما فمكث ساعة ثم سرّي عنه ، فقرأ (قد أفلح المؤمنون) إلى عشر آيات من أولها وقال من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة.
ثم استقبل القبلة(4/344)
ج 4 ، ص : 345
ورفع يديه وقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، اللهم أرضنا وارض عنا.
مطلب مراتب الخلق ، وتعداد نعم اللّه على خلقه :
قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» آدم عليه السلام بدليل قوله «مِنْ سُلالَةٍ» أي خلاصة «مِنْ طِينٍ» 12 معجون من أنواع تراب الأرض ، ولذلك ترى أولاده الأبيض والأحمر والأسود والأصفر وما بينهما ، والمؤمن والمنافق والكافر والمرائي والمداهن وما بينهما «ثُمَّ جَعَلْناهُ» أي الإنسان «نُطْفَةً» ماء قليلا نحو النقطة من مائي الرجل والمرأة والمراد نسل آدم ، لأنه المخلوق من النطفة لا آدم نفسه «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» 13 حصين وهو الرحم لا يتسرب إليه غيرها «ثُمَّ خَلَقْنَا» وسط ذلك الرحم المحرز المصون بتلك «النُّطْفَةَ» فصيرناها «عَلَقَةً» قطعة دم جامد «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ» المذكورة وصيرناها في مقرها «مُضْغَةً» قطعة لحم صغيرة «فَخَلَقْنَا» تلك «الْمُضْغَةَ» نفسها بأن أحلناها «عِظاماً» وعروقا داخل مقرها المذكور «فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً» سترناها به ، ولذلك قال كسونا لأن اللحم كالكسوة للعظم والعرق ، إذ تتداخل به وتمتد لربط المفاصل بصورة محكمة من فعل الحكيم القدير «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» بسبب نفخ الروح فيه وصيرورته حيوانا سميعا بصيرا ناطقا بعد أن كان جمادا ، فهو مباين لحالته الأولى ، ولذلك قال تعالى (خَلْقاً آخَرَ) وفي العطف بثم المفيدة للتراخي إعلام بأن ما بين كل حالة وأخرى احتياج إلى الزمن ، وهو كذلك لما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات : يكتب رزقه وأجله وشقي أم سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح ، فو اللّه الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة (فيما يبدو للناس) حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن
أحدكم ليعمل بعمل أهل النار (فيما يبدو للناس)(4/345)
ج 4 ، ص : 346
حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
واعلم أن جملة فيما يبدو للناس لم تكن في هذا الحديث ، وإنما هي في حديث آخر رواه البخاري ، ولذلك جعلناها بين قوسين ، ورويا عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال وكل اللّه بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة ، أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد اللّه تعالى أن يقضي خلقها ، قال يا رب أذكرا أم أنثى أسقي أم سعيد ، في الرزق ، في الأجل ، فيكتب له ذلك في بطن أمه قال تعالى «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» 14 المبدعين المصورين المقتدرين الموجدين ، وقد ذكرنا مراتب الخلق في الآية 64 من سورة المؤمن والآية 14 من سورة الأحقاف المارتين فراجعهما.
«ثُمَّ إِنَّكُمْ» أيها الناس «بَعْدَ ذلِكَ» الخلق وخروجكم من الرحم واستيفاء آجالكم في الدنيا «لَمَيِّتُونَ» 15 ومفارقون هذه الأرض التي نشأتم عليها فتدفنون فيها أو فيما فيها «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بعد انقضاء أجلكم في البرزخ كما هو مقدر أزلا «تُبْعَثُونَ» 16 أحياء كما كنتم في الدنيا فتساقون إلى الوقف وتحشرون فيه فتحاسبون وتجازون على ما عملتموه الخير بأحسن منه والشر بمثله ، فعلى العاقل أن يتهيأ للموت لأن أمرا لا تدري متى يغشاك يجب أن تستعد له قبل أن يفاجئك قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ» سموات سميت طرائق لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» 17 لاهين ولا ساهين عن أقوالهم وأفعالهم ، بل كنا ولا نزال متيقظين لحفظ أعمالهم ونحصيها عليهم كما نحفظهم في حياتهم حتى يبلغوا أجلهم وما قدر إليهم في الدنيا ويستوفونه كاملا.
قال تعالى «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ» لحاجة البشر وزروعهم وأنعامهم ومنافعهم «فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ» وجعلناه ينابيع عيونا وأنهارا متنوعة ، ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 22 من الزمر المارة «وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» 18 كقدرتنا على إنزاله وإسلاكه في الأرض والإعادة أهون من الابتداء لأنه إبداع على غير مثال سابق والإعادة إرجاع الشيء لأصله وهو سهل على كل مبدع «فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها(4/346)
ج 4 ، ص : 347
فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ»
19 شتاء وصيفا رطبا ويابسا «وَشَجَرَةً» أنشأناها لكم أيضا «تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ» جبل بفلسطين ملتف بالأشجار وكل ما هو كذلك يسمى سينا «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» الزيت لأن ثمرها الزيتون والدهن يعصر منه فكأنها نبتت به «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» 20 أدام يصبغ الخبز بصفاره الصافي البديع ، قالوا
إن أول شجرة ثبتت في الأرض بعد الطوفان هي الزيتون ، وقالوا إنها تعيش ثلاثة آلاف سنة ، ويدل على هذا تأخر إعطائها الثمر ، والزيتون الموجود الآن بقضاء الزوية يسمّونه الروماني ، ويقولون إنهم تلقوه عن أجدادهم الذين لا يعرفون تاريخ زرعه ، وإذا أنعم الإنسان النظر فيه يصدق عقلا بأنه من زرع الرومان الذين كانوا في تلك المنطقة لما يرى من كبر أشجاره وتعميرها ، ومن موقعه وأرضه واللّه أعلم.
قال تعالى بعد أن عدد هذه الصفات العشر التي ينبغي أن يتحلّى بها الإنسان وبيّن أحوال خلقه ومآلهم وعودهم إلى خالقهم وأفهمهم بأنه كما كان أصل الإنسان من الماء فكذلك الأشجار أصلها من الماء ، وبين ما أودعه في السموات والأرض من منافع إليه ، ذكر ما خلقه أيضا لأجله فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها» إذ نخرج لكم منها لبنا خالصا ، راجع الآية 66 من سورة النحل المارة وقد بين فيها سبب تذكير الضمير هناك وتأنيثه هنا «وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ» جليلة من ثماد ودثار وظلال ولباس وزينة ورياش «وَمِنْها تَأْكُلُونَ» 21 وتشربون أيضا ، وقد حذف الشرب لدلالة الأكل عليهَ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ»
32 برا وبحرا ، وتقدم أيضا في الآية 6 من سورة النحل ما يتعلق بهذا فراجعه ، كما بينّا ما يتعلق بالسماوات في الآية 45 من سورة الذاريات المارة ، وسيأتي لها بحث في الآية 12 من سورة النبأ الآتية والآية 25 من سورة النازعات والآية 5 من سورة والشمس الآتيتين وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ» 13 عقابه ، تأكلون رزقه وتعبدون غيره «فَقالَ الْمَلَأُ» أشراف قومه لأن أكثر ما يصيب الضعفاء(4/347)
ج 4 ، ص : 348
بذنوب الأكابر لأنهم القادة والسادة وإليهم الأمر والنهي طلبا لما عندهم من المال والجاه ، ثم فسر الملأ بقوله «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا» نوح وقومه الذين يدعونكم إلى عبادة ربهم «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» بدعوته لتكون الرياسة له عليكم وتكونوا أتباعا له «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ» أن يرسل أحدا لدعوة خلقة إلى عبادته كما يزعم نوح «لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» يدعونهم إليه لا بشرا مثلنا «ما سَمِعْنا بِهذا» الذي يدعو إليه نوح «فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» 24 ولم ينقل لنا عنهم أحد شيئا من هذا «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ» فلا تسمعوا قوله أيها الناس اتركوه وشأنه «فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» 25 موته أو إلى أن يتبين لكم حاله عند صحوه من جنونه فإذا أصر على قوله قتلناه ، فلما سمع هذا منهم ويس من إيمانهم دعا ربه بإهلاكهم ، فأهلكهم كما قدمنا في القصة الواردة في الآية 26 من سورة نوح المارة.
وفيها ما يرشدك إلى توضيحها في الآية 35 من سورة هود ، وقال تعالى حاكيا عن نبيه بما معناه بالآية 37 من سورة الفرقان في ج 1 «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ 26 فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا» على مرأى منا «وَوَحْيِنا» بكيفية صنع السفينة «فَإِذا جاءَ أَمْرُنا» بعذاب قومك غرقا «وَفارَ التَّنُّورُ» تقدم بيانه ومكانه وكيفية الغرق ومدته ومكان السفينة ومرساها في الآية المذكورة في سورة هود فما بعدها «فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ» من أصناف الحيوان «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ» ومن آمن بك احملهم معك «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ» فلا تحمله معك وهم زوجته واعلة وابنه كنعان كما مر أيضا هناك «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» من قومك «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» 27 جميعا حيث حق القول عليهم مر تفسير مثلها في الآية 37 من سورة هود أيضا «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 28 أنفسهم بكفرهم وعصيانهم «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» 29 لأنا ضيوفك فهيئ لنا مكانا ، من خيراتك ، وكثر لنا نسلنا(4/348)
ج 4 ، ص : 349
فيه نكثر من عبادتك ، وإنما وصفه بالأخيرية لأن المضيف يكرم أضيافه ويحتاط بأمرهم ، ولكن لا يقدر أن يكلأهم في سائر أحوالهم ويدفع عنهم المكاره في تقلّباتهم مثل الإله القادر على ذلك وغيره «إِنَّ فِي ذلِكَ» إنجاء نوح ومن معه وإغراق قومه وابنه وزوجته «لَآياتٍ» عظيمات دالات على كمال القدرة وموجبات العظة والعبرة «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» 30 الناس ومختبريهم وممتحنيهم بإرسال الرسل لتنظر هل يسمعون لهم او يعرضون عنهم ، وهذا بالنسبة للخلق ، وأما الخالق فهو عالم بذلك قبل كونه.
وإن هنا مخففة من الثقيلة ، واللام فيها بعدها اللام الفارقة بين النافية والمخففة ، وما قيل إنها نافية فليس بشيء ، لأن النافية لا يليها اللام والجملة حالية
«
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ» 31 هم قوم عاد «فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ» هود عليه السلام فقال لهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ» 32 اللّه ولا تخافون أن يهلككم كما أهلك قوم نوح قبلكم «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ» وحضورهم لدينا بالموقف العظيم وجحدوا الحساب والعقاب «وَأَتْرَفْناهُمْ» نعّمناهم ووسعنا عليهم «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وبلغناهم آجالهم وما قدر لهم فيها ، ومقول القول «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ» 33 منه حذف من الثاني بدلالة الأول يريدون أن الرسل لا تكون من البشر بل من الملائكة كما قال من قبلهم إذ تشابهت قلوبهم ، فكل ما نطق به الأوائل تدرج إلى الأواخر فتكلموا به ، ولهذا قالوا الكفر ملّة واحدة ، أي من حيث الأصول ، وقال أيضا بعضهم لبعض «وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» 34 مكانتكم وسطوتكم ، وهذا هو المانع الحقيقي لهم ولغيرهم من الإيمان باللّه ورسله ، أعماهم اللّه أنفوا من الانقياد إلى من هو مثلهم في الأصل وقد شرفه اللّه بالرسالة وعبدوا أعجز منهم لأجل الدنيا ، ولو اهتدوا بهدى أنبيائهم لربحوا الدنيا والآخرة ، لأن الأنبياء لا يريدون الرياسة التي هي من شأنهم ، ولم يقصدوا بدعوتهم التفوق عليهم ،
وقال أيضا بعضهم لبعض غافلين عن كيفية إيجادهم «أَ يَعِدُكُمْ» هذا الرسول(4/349)
ج 4 ، ص : 350
«أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» 35 من قبوركم أحياء كما كنتم في الدنيا «هَيْهاتَ هَيْهاتَ» أي بعد بعدا بعيدا «لِما تُوعَدُونَ» 36 من البعث بعد الموت وإكسابكم حياة ثانية ، خذلهم اللّه نسوا خلقهم من العدم على طريقة الإبداع وجحدوا إعادتهم لحالتهم الأولى وقالوا عتوا وعنادا «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها أبدا «نَمُوتُ وَنَحْيا» أي أيعقل أن نموت ثم نحيا ؟ كلا لا صحة لهذا ، والمعنى على ما ذكره المفسرون نحيا ونموت على أن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا ، للعلم بأن الإحياء أولا ثم الإماتة ، وأرى أن الأول أولى لقولهم «وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» 37 بعد موتنا أبدا «إِنْ هُوَ» وقالوا أيضا ما هذا الذي يدعوكم إلى هذه الدعوة المبتدعة «إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بقوله بوجود حياة أخرى «وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» 38 بمصدقين اختلاقه وافتراءه ولا نسمع لقوله ، ولما أيس منهم دعى عليهم «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» 39 فأجاب اللّه دعاءه «قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» 40 على تكذيبهم لك «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ» من السيد جبريل عليه السلام فتصدعت لهولها قلوبهم فأهلكوا جميعا ، قال الشاعر :
صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان
قال تعالى «فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً» بتخفيف الثاء أي يابسين كالأوراق والعيدان التي يجرفها السيل وبالتشديد أيضا ، قال امرئ القيس :
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة من السيل والغثّاء فلكة مغزل
والمجيمر جبل من جبال بني أسد «فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 41 أي هلاكا ، من المصادر المنصوبة بأفعال لا ينطق بها ولا تكتب ولا يستعمل إظهارها.
«ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ» 42 أيضا وأرسلنا إليهم رسلا فكذبوهم ، وهذه كالتسلية لحضرة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم لئلا يضيق صدره من تكذيب قومه ليتأسى بمن قبله وقبلهم ، وكل من هذه القرون أهلكت بأجلها المعين لها في علم اللّه المقدر على تكذيبهم لرسلهم أيضا ، لقوله تعالى «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها» المقدر(4/350)
ج 4 ، ص : 351
لإهلاكها «وَما يَسْتَأْخِرُونَ» 43 عنه لحظة واحدة «ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا» واحدا بعد واحد متتابعين غير متواصلين إذ جعلنا بين كل رسول وآخر فترة ، بأن كان إرسال كل رسول متأخرا عن إنشاء قرن مخصوص به كما يدل عليه قوله «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً» بالإهلاك «وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» لمن بعدهم يتسامرون بشأنهم «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» 44 باللّه ولا يصدقون رسله «ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ» 45 واضح بقوة وحجة وبرهان عظيم
«إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا» عليهما وأنقوا منهما وتعاظموا «وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» 46 بزعمهم على غيرهم وذى سلطان أكبر من غيرهم «فَقالُوا» على طريق الاستفهام الإنكاري «أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» 47 أي كيف يكون ذلك وهل يتبع الأعلى الأدنى منه ؟ كلا ، وهذه الجملة حالية ، وكان عندهم أن كل من دان لملك فهو عابد له ، وعند العرب كذلك «فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ» 48 غرقا ، وتقدمت قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم ، وكيفية دعوتهم وإهلاكهم في الآية 59 فما بعدها من سورة الأعراف ج 1 فراجعها ، «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ» أي قومه «يَهْتَدُونَ» 49 فمنم من هدى اللّه ومنهم من حقت عليه الضلالة «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» دالة على قدرتنا لأنا أوجدناه من غير أب ، ولم يقل آيتين للسبب الذي أشرنا إليه في الآية 91 من سورة الأنبياء المارة ، ولما عرب هو وأمه إلى مصر خشية تسلط أعدائه عليه حفظناهما منهم «وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ» مكان مرتفع في مصر قرب النيل.
مطلب هجرة مريم بعيسى عليهما السلام إلى مصر ، وأن الذي أمر اللّه به الأنبياء أمر به المؤمنين ، وأن أصول الدين متساوية :
وذلك أنه عليه السلام بعد أن أتت به أمه من بيت لحم محل ولادته إلى قريتها الناصرة وأظهر اللّه له المعجزات ، كان الجبار هيدروس أمر بقتل الأطفال الذين ولدوا في بيت لحم ، لما أخبر أن منهم من يصير سببا لخراب ملكه ، كما فعل قبله(4/351)
ج 4 ، ص : 352
النمروذ وفرعون ، وعلمت أمه أنه يريد قتله انتدبت الرجل الصالح يوسف النجار وهربها إلى مصر.
وليس المراد بهذه الربوة بيت لحم إذ لا ماء جار فيها كما أشرنا إليه في الآية 24 من سورة مريم في ج 1 ، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى (وَآوَيْناهُما) إلخ يعني لمصر ، لأنها خزائن الأرض كلها وسلطانها سلطان الأرضين كلها ، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام (اجعلني على خزائن الأرض) الآية 55 من سورته المارة ، ففعل فأغات الناس بمصر وخزائنها.
ولم يذكر اللّه تعالى مدينة بعينها بمدح إلا مكة ومصر ، وهذا هو الصحيح ، واللّه أعلم.
إذ ليس المراد هنا محل الولادة ، بل محل الهجرة ، لأن اللّه تعالى أخبر في هذه الآية بأنه هو وأمه ، وأنها لما ذهبت به إلى بيت لحم لم يكن مولودا حتى ينوه به وبقي في مصر حتى بلغ أشده أتى به وأمه إلى الأرض المقدسة ليبث دعوته في قريته الناصرة وما حولها.
قالوا إن قرية الناصرة وصخرة بيت المقدس أقرب مواقع الأرض المقدسة من السماء بثمانيةعشر ميلا ، ومن هذه القربة اشتق اسم النصارى «ذاتِ قَرارٍ» من الأرض «وَمَعِينٍ» 50 ماء جار هو نهر النيل ، ومن ظن أن هذه الآية تدل على محل الولادة لا على محل الهجرة ، فسر (السرى) في سورة مريم بجدول ماء من حيث لا جدول ماء هناك كما ذكرناه فيها ، وإنما هذا المعين في المحل الذي آواهما إليه كما أشرنا إليه أعلاه.
هذا ولما أنهى ما قصه اللّه على رسوله من أخبار بعض الأنبياء وأممهم ، شرع يخاطبه ضمن الرسل كافة بأن يداوم على ما هو عليه بقوله «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً» لأنفسكم وأممكم والناس أجمعين ، وهم لا شك يعملون ذلك كله ، وإنما المراد أمرهم بالدوام على ما هم عليه ، وعدم الالتفات لتكذيب أقوامهم ومخالفتهم لهم «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» 51 ويجوز أن يراد بهذا الخطاب أقوامهم أيضا لما فيه من معنى التحذير ، على أن الخطاب للرسل خطاب لأقوامهم.
روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) الآية ، وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل(4/352)
ج 4 ، ص : 353
يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ بصره إلى السماء ، يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب ؟.
وذلك لأن أكل الخلال من شروط الاستجابة التي لا بد منها ، كما سيأتي في الآية 186 من سورة البقرة في ج 3 ، فكيف إذا كان كلّه حراما أيستجاب له ؟ كلا ثم كلا.
إلا أن يشاء اللّه القائل «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» تقدم مثلها في الآية 92 من سورة الأنبياء المارة ، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية 13 من سورة الشورى المارة ، وقال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الآية 163 من سورة النساء في ج 3 ، فيفهم من هذا ومما قدمناه في آية الأنبياء ، أن الشرائع كلها من حيث أصول الإيمان كالاعتراف بالوحدانية للّه وإرسال الرسل والمعاد واحدة لا فرق بينها أصلا ، وهو كذلك ، لأن الاختلاف الحاصل عبارة عما يتعلق في هذه الأصول مما هو رحمة وتخفيف للأمة بما يوافق العصور وأهلها ، وفي الفروع المتعلقة بأنواع العبادات المالية والبدنية والمشتركة ، قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة في ج 3 ، ومن هنا أخذت قاعدة : تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان ، ومنها قاعدة تعديل القوانين الموقتة بما يوافق المصلحة للدولة والأمة ، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 13 من سورة الشورى فراجعها.
«وَأَنَا رَبُّكُمْ» الإله الواحد الذي لا رب غيره «فَاتَّقُونِ» 52 لا تخالفوا أمري وأمر النبي المرسل إليكم من قبلي إذ يبلغكم كلامي الذي هو من حيث الأس واحد أيضا ، «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً» قطعا مختلفة وأديانا متفرقة وصار «كُلُّ حِزْبٍ» منهم «بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» 53 لزعمهم أن ما هم عليه هو الحق ، وما سواء باطل ، لأنهم لم يتفقوا على ما أمروا به من قبل الرسل مما هو متعلق بأمر الدين ، فتفرقوا وتعادوا من أجل هذا التحزب ، وهكذا مصير كل أمة تتحزّب وتتفرق ، ولهذا أمر الرسول بجمع الكلمة ، وقال : الجماعة رحمة والفرقة عذاب ، راجع الآية 30 من سورة المؤمن المارة ، لأن الدين في الأصل كله واحد كما أن الرب واحد ، وما يأتيهم من قبل الرسل واحد ، لأنه من الرب(4/353)
ج 4 ، ص : 354
الواحد ، وهذه الآية تشعر بذمّهم لأنهم آمنوا ببعض ما في كتبهم وكفروا ببعض ، فسببوا تشتيت الكلمة وانحاز كل منهم إلى جهة ترمي بخلاف ما عليه الحزب الآخر.
وتؤذن هذه الآيات بأن قوم محمد صلّى اللّه عليه وسلم تقولوا فيه الأقاويل ، واختلفوا فيما بينهم بشأنه وشأن كنابه وربه عز وجل ، فاتبعوا الباطل وعملوا عن الحق الذي جاءهم به.
وإذا كان هذا شأنهم يا حبيبي «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ» غفلتهم وجهلهم وعماهم «حَتَّى حِينٍ» 54 انقضاء الأجل المضروب لهم «أَ يَحْسَبُونَ» المؤمنون من قومك «أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ» نمنح به هؤلاء الكفرة «مِنْ مالٍ وَبَنِينَ» 55 في هذه الدنيا هو خير لهم ؟ كلا ، قال تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) الآية 55 من سورة التوبة ج 3 ، وإذا كان هذا شأنهم فاعلم يا سيد المرسلين أنا نحن إله الكل وإنّا كنا ولا زلنا
«نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» لا لرضانا عنهم بل لنستدرجهم بها ولينهمكوا في معاصيهم ونزداد سخطا عليهم (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) الآية 178 من آل عمران في ج 3 «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» 56 أن ذلك لشرهم لأنهم أشباه البهائم يصرفون وجودهم لشهواتهم ولا يتأملون فيما ينفعهم ويضرهم ، والاستدراك في قوله أيحسبون أي لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتدبروا عاقبة أمرهم ويعملوا ما ندر لهم من الخير ، هل هو استدراج أو مسارعة في الخير ؟ وهذه الآية على حدّ قوله تعالى (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) الآية المكررة في سورة التوبة من ج 3 ، وهي حجة على القائلين أن اللّه تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح للعبد ، لأنها تصرح أن هذا العمل الذي أراده اللّه لهؤلاء ليس بأصلح لهم في دينهم ؟
وقد ألمعنا لهذه الآية في الآية 19 من سورة الأنعام المارة ، وفيها ما يرشدك لمراجعة المواضع المفصل بها هذا البحث فراجعها ، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» 57 خائفون وجلون «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» 58 إيمانا تاما محصنا لا يجادلون فيها ولا يشكون ولا يحصل لهم ريب أو مرية في شيء منها «وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ» 59 به أحدا ولا شيئا «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ» يفعلون «ما آتَوْا» من الأعمال «وَقُلُوبُهُمْ(4/354)
ج 4 ، ص : 355
وَجِلَةٌ»
خائفة من اللّه أن يعذبهم عليها لأنهم موقنون «أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» 60 وأنه يجازيهم على أفعالهم فتبقى قلوبهم مشغولة بخوف اللّه من تلك الأفعال التي علموا أنها غير مرضية ، وشكهم في عدم قبول أعمالهم الصالحة وشوبها بالرياء ، وخوفهم هذا ندم وتوبة ، فلا يبعد أن يتجاوز عنهم ولا يعاقبهم عليها بمنه وفضله «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات الحسنة لا المتقدمون الموسومون بضدها هم «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» الأعمال الصالحة التي تعود عليهم بالخير من ربهم «وَهُمْ لَها سابِقُونَ» 61 لأنها توصلهم إلى الجنة مقر أهل الخير ، ولهذا فإنهم مبادرون لها «وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» لأن الدّين الذي كلفتم به لا حرج به عليكم ، وإنما تعملون منه ما تستطيعون فمن لم يكن ذا مال لا يكلف بالصدقة والحج ، والعاجز لا يكلف بالجهاد والصوم ، ومن لا يقدر على القيام في الصلاة فيصلي قاعدا أو مضطجعا ، ومن كان في سفر فله أن يفطر في الصوم ويقصر في الصلاة وأركان الدين ، عبارة عن هذه لا غير ، وكلها لا حرج فيها ، أما أصل الدين وهو كلمة الشهادة والاعتراف بالرسل والمعاد فلا عسر فيها على أحد البتة ، لأنها عبارة عن النطق باللسان والإيقان في القلب ، وإذا عجز عن النطق اكتفى بالإيقان القلبي ، والإشارة من الأخرس كافية ، وقد شرع اللّه تعالى الرخص لعباده فيما يأتون ويذرون ، راجع الآية 105 من سورة النحل المارة «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ» بينا فيه الأعمال الصالحة الخالصة من المشوبة والقادر من العاجز والمكلّف من غيره بيانا كافيا شافيا ، فلا حجة لكم أيها الناس بعده ، وعندنا كتاب مثبت فيه ما يقع منكم من المناقب والمثالب ، وسينال ما فيه من ثواب وعقاب «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 62 شيئا فلا يزاد في عمل عامل ولا ينقص منه ، ولا يعاقب العاجز فيما يسبقه به القادر من الأعمال الحسنة.
قال تعالى «بَلْ قُلُوبُهُمْ» هؤلاء الكفرة «فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا» الكتاب المنزل إليك يا سيد الرسل غافلون عما تتلوه عليهم من أحكامه جاهلون معناه عمون عن مغزاه ، فهم عن كتاب أعمالهم أغفل وأجهل وأعمه «وَلَهُمْ أَعْمالٌ» أخر خبيثة غير ما ذكرناه «مِنْ دُونِ ذلِكَ» الذي ذكر(4/355)
ج 4 ، ص : 356
وأسفل منه وهي فنون كفرهم ومعاصيهم العظيمة كطعنهم بالقرآن والنبوة وإنكارهم البعث والسخرية بنا بجعلهم لنا شريكا وولدا وصاحبة ، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفر والشك وان ذلك إشارة إلى هذا المذكور ، والمعنى أن لهم أعمالا دون الكفر.
وأخرج ابن جرير عن قتادة إن ذلك كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنين من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون ، أي أهذا وما وصفوا به مما وقع في حيّز الصلاة فما بعدها ، وهذا غاية في الذم «هُمْ لَها عامِلُونَ» 63 معتادون عليها لا يتركونها لسابق شقائهم ، وهم لا يزالون على أحوالهم القبيحة لا يتذكرون عاقبة أمرهم «حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ» المترفون والرؤساء والأغنياء والقادة «يَجْأَرُونَ» 64 يستغيثون ويضجّون جزعا ، فإذا ذاك يحسون بما يراد بهم ويقال لهم «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ» ولا تجزعوا وتضجروا فإنه لا ينفعكم ، لأنكم لم تعملوا خيرا لتجدوا من ينصركم لأجله «إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» 65 لعدم تقديمكم لنا عملا يوجب نصرتكم ، ولم تطلبوا النّصر منا في الدنيا لنغيثكم ونرحمكم في هذه الدار ، وإذ لم تفعلوا فاطلبوها من أوثانكم الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم
«قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» من قبل رسلي أنه لا إله غيري فاعبدوني واسمعوا قول رسلي ، فأبيتم وأرادت رسلنا تقديمكم إلينا بالأعمال الصالحة «فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ» 66 ترجعون القهقرى لا تلتفتون إليهم ولا إلى ما جاءوكم به ، والنكوص المشي إلا الوراء وهي أقبح مشية ، إذ لا يرى ما ورائه ، الذي هو أمامه ، والمعنى أنكم كنتم تتأخرون عن قبول الإيمان حال كونكم «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ» متعظمين بالبيت الحرام ، لأنكم سكانه وأهله ، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن سكان بيت اللّه وجيرانه وأهل حرمه ، لا يظهر علينا أحد ، ولا نخاف من أحد ، ولو كانوا لم يستكبروا وأطاعوا وأذعنوا لمن أرسلنا إليهم لما خافوا ، ولكنهم استكبروا وكفروا فلم ينفعهم البيت ، لأنه قد يشفع لمن آمن بربه وصدق رسله.
هذا وعود الضمير إلى غير مذكور جائز إذا كان مشهورا متعارفا راجع (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله تعالى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الآية 32 من(4/356)
ج 4 ، ص : 357
سورة ص ج 1 فإن الضمير يعود في الأول للقرآن ، وفي الثاني للشمس لمعلوميتهما مع عدم سبق ذكرهما استغناء بالمشهور المتعارف دون حاجة للتبينة إليهما.
وقيل إن الضمير في هذه الآية يعود إلى القرآن المشتمل على الآيات الوارد ذكرها في قوله (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أول الآية 66 المارة ، والأول أظهر ، وهو مروي عن ابن عباس.
وان افتخارهم بالبيت وترنمهم بأنهم خدامه وقوامه ، وأنهم الآمنون به من الناس ، والناس يخافون من غيرهم أشهر من أن يذكر.
وقال بعض المفسرين بعود الضمير لحضرة الرسول وليس بشيء ، لأنهم لا يعترفون به ، فكيف يعتزون به ويستكبرون ، ولو كان مرادا هو أو القرآن لقالوا عنه لا به واللّه أعلم.
ولأنهم نافرون من اللّه ورسوله وكل منهم يمضي نهاره وليله «سامِراً» لأنهم كانوا طيلة أوقاتهم يسمرون بالطعن في آيات اللّه ورسوله ويتحازرون عليها أهي سحر أم شعر أم كهانة إلى غير ذلك.
والسمر يطلق على حديث الليل فقط ، ولفظ سامر جاء حالا ثانية بعد مستكبرين «تَهْجُرُونَ» 67 الأيمان بها وبمن جاءكم بها من هجر إذا هذر وتكلم بما لا يعلم ، أو ترك وأعرض ، أو من أهجر إذا أفحش بالقول ، وخير الثلاث الوسط ، لأنه أكثر مناسبة بالمعنى.
مطلب توبيخ الكفرة على الطعن بحضرة الرسول مع علمهم بكماله وشرفه وخطبة أبي طالب :
قال تعالى «أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ» الذي ذكر في تلك الآيات ويستدلوا بها على صدق الذي جاءهم بها ؟ والاستفهام لإنكار الواقع واستقباحه ، أي فعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر لأنهم لم يتدبروا معاني تلك الآيات المنزلة لخيرهم ، ولم يعلموا ما فيها من الإعجاز حتى يؤمنوا بأنها الحق من ربهم.
«أَمْ» منقطعة بمعنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى توبيخ آخر ، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع ، أي بل «جاءَهُمْ» من الآيات «ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» 68 ولذلك استبعدوها وأنكروها فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال ، مع أن إرسال الرسل وإنزال الآيات على البشر سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر ، وان ما جاءهم به محمد من جنس ما جاء به الأنبياء قبله لأممهم.
ثم انتقل إلى توبيخ(4/357)
ج 4 ، ص : 358
ثالث والاستفهام فيه لإنكار الوقوع أيضا فقال «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ» وهو معروف عندهم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق ووفور العقل وشرف النسب وعزة الحسب والوفاء بالوعد والعهد والصدق وغيرها من الآداب الحسنة «فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» 69 أي أيقدرون أن ينكروه مع وضوحه عندهم ومعلوميته بالأخلاق الفاضلة.
وفي هذه الآية دليل قاطع على أنهم يعرفون محمد صلّى اللّه عليه وسلم بأنه على غاية من الكمال ونهاية من الوقار ، ولو لا ذلك لأنكروا على أبي طالب خطبته التي قرأها يوم عقد نكاحه على خديجة رضي اللّه عنها بحضور رؤساء قريش ، إذ قال فيها : الحمد للّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل وضئضىء معد ، وعنصر مضر ، وجعلنا خدمة بيته ، وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم ان ابن أخي محمد بن عبد اللّه لا يوازن يرجل إلا رجح به ، فإن كان في المال قلّة فإن المال ظل زائل وأمر حائل ، ومحمد من قد عرفتم قرابته ، وقال وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل إلخ.
ولم ينكر أحد منهم شيئا من ذلك إلا بعد ادعائه الرسالة ، حسدا وبغيا وخوفا على الرياسة التي لهم شيء منها.
قال تعالى «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ» أي ليس الأمر كما يقولون إن ما جاءهم به عبارة عن سحر وكهانة وغيرهما ، وإنما «جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» الذي لا محيد عنه وهو التوحيد للإله ودين الإسلام ودين إبراهيم عليه السلام الذي تضمنته تلك الآيات الدالة على صدقه وأمانته ، وقد اشتهر عندهم بالأمين «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» 70 لأن جبلّتهم مطبوعة على الكذب ، وطبيعتهم مجبولة على الزيغ ، وإنما قال أكثرهم لأن منهم من يعرف أحقية ذلك كله ، وإنما لم يعترف به حذرا من تعيير قومه لا كراهة به ، وعليه فيكون أقلهم تاركا للإيمان أنفة واستكبارا عنه وخوفا من توبيخ قومه ، وأن يقولوا له صبوت أي تركت دين آبائك ، وانك احتجت لطعام محمد وغير ذلك مما مر في الآية 14 من سورة فصلت المارة ، كراهة لحضرته المقدسة تبعا لأهوائهم «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» فيما يعتقدون من الشرك وغيره «لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» وهذه الآية قريبة في المعنى لقوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية 22 من(4/358)
ج 4 ، ص : 359
سورة الأنبياء المارة «وَمَنْ فِيهِنَّ» لفسد أيضا ، وقد خص العقلاء لأن غيرهم تبع لهم ، وهذا أيضا انتقال التوبيخ خامس.
قال تعالى «بَلْ» لم نتّبع أهواءهم ولكن «أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ» قرآنهم على يد رسولهم ، وقد أضافه إليهم لأنه منزل لهم «فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ» المختص بهم «مُعْرِضُونَ» 71 وهو فخرهم وشرفهم ، قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) الآية 44 من الزخرف المارة ، وفيها معنى الاستفهام ، أي المعرضون عن ذكرهم الذي آتيناه إباهم وهو مجدهم وعزهم ، كيف يكون ذلك منهم بل يجب أن يتمسكوا به ويعضوا عليه بالنواجذ ، لا أن يعرضوا عنه ، وهذا انتقال سابع لتوبيخ آخر.
قال تعالى «أَمْ» متعلق بقوله (أم يقولون به جنّة) أي يزعمون أنك يا محمد «تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً» أجرا وجعلا على أداء الرسالة بمقابل نصحك لهم وإرشادهم إلى الحق ولذلك لا يؤمنون بك ، كلا لا نطلب منهم شيئا على أداء وحي ربك «فَخَراجُ رَبِّكَ» يا محمد أي رزقه «خَيْرٌ» لك من الدنيا ، وثوابه في الآخرة أخير مما يتصورونه لسعته ودوامه وعدم وجود المنّة فيه.
والخراج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غير ذلك ، وهو في الأصل ضريبة الأراضي المعطاة إلى الدول ، ففيه إشعار بالكثرة واللزوم بالنسبة إليه تعالى ، ولذلك عبّر اللّه به عنه ، وقرىء خرجا وهما في المعنى سواء «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» 72 لك في الدنيا والآخرة «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ» يا سيد الرسل بلا مقابل «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 73 بوصلهم إلى الجنة دائمة النعيم «وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» وينكرون البعث والحساب والعقاب والثواب ، كقومك وأمثالهم لا يميلون إلى دعوتك السامية المستقيمة لأنهم «عَنِ الصِّراطِ» المؤدي الدين الحق المنتهي لرضاء اللّه القائد لجنانه «لَناكِبُونَ» 74 عادلون عنه مائلون إلى الاعوجاج «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا» لتمادوا لأن اللجاج التناهي في الخصومة والتمادي في العناد أي لبقوا «فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» 75 لم ينزعوا عنه ولم يتركوه ، والعمه عمى القلب والتردد في الأمر والحيرة في الهوى ، كمن يضل عن الطريق لا يدري أين يتوجه ، فلا رأي له ولا دراية.(4/359)
ج 4 ، ص : 360
مطلب إصابة قريش بالقحط ثلاث مرات ، واعترافهم بقدرة اللّه وإصرارهم على عبادة غيره ، ومتعلقات برهان التمانع :
قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ» قريشا قوم محمد «بِالْعَذابِ» القحط ليرجعوا إلى اللّه وهو أشد عذاب الدنيا «فَمَا اسْتَكانُوا» ما خضعوا ولا لجأوا «لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ» 76 إليه ليكشفه عنهم بل أصروا على كفرهم.
وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يصلي في مكة في الحرم الشريف فألقى عليه بعض المشركين سلى جزور ، فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف.
فأصابهم القحط ، فقال أبو سفيان تزعم يا محمد أنك بعثت رحمة للعالمين ، فقال بلى ، فقال أنشدك اللّه والرحم ، فإن قومك أكلت القد والعظام وأنهكهم الضر ، فادع اللّه أن يكشف عنهم ، فدعا فأنزل اللّه هذه الآية استشهادا على عدم خضوعهم وعلى دوامهم على حالتهم لقوله تعالى (وَما يَتَضَرَّعُونَ) وهذا القحط غير القحط الذي وقع بمكة بعد الهجرة كما ذكره السيد برهان الدين الحلبي في سيرته ، وهذا غير الجوع الذي أصابهم بسبب منع ثمامة بن أثال الحنفي الميرة عنهم حينما جاءت به سرية محمد بن مسلمة التي بعثها صلّى اللّه عليه وسلم إلى بني بكر بن كلاب ، فأسلم بعد أن امتنع ثلاثة أيام ، ثم خرج معتمرا فلما قدم بطن مكة لبّى ، وهو أول من دخلها ملبيا.
ومن هنا قال الحنفي :
ومنا الذي لبّى بمكّة معلنا برغم أبى سفيان بالأشهر الحرم
فأخذته قريش وأتبوه على تغيير دينه ، فقال لهم اتبعت خير دين ، دين محمد الأمين صلّى اللّه عليه وسلم.
ثم قال واللّه لا يصلكم حبة من اليمامة حتى يأذن رسول اللّه ، ثم منع الميرة عن أهل مكة.
فكتبت قريش إلى رسول اللّه وهو في المدينة تستغيث به مما أصابها من الجوع ، فأذن لثمامة أن يمتاروا ، وهذه الحادثة قبل الفتح ، وعلى هذا يكون القحط أصاب قريشا ثلاث مرات واللّه أعلم.
قال تعالى «حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ» فيما يستقبل من الزمن وهو إنزال السيف فيهم وأمر الرسول بقتالهم وقسرهم وإجلائهم «إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» 77 آيسون خائبون متحيّرون.
وفي هذه الآية دلالة على قرب الهجرة وفتح الباب(4/360)
ج 4 ، ص : 361
الذي سيكون بعدها ، إذ أشار اللّه عنها ثلاث مرات ، وسيأتي الإذن بها في ذكرها رابعا كما ستعلمه بعد.
قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا ولكنكم «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» 78 اللّه على نعمه ولم تصرفوها لما خلقت لها ولم تقدروها حق قدرها ولم تؤدوا شكرها لخالقها ، وإذ نفى عنهم قليل الشكر ، فالكثير منتف من باب أولى.
ولفظ ما يدل على أنهم يشكرون شكرا لا يذكر لقلته «وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ» خلقكم وبثكم «فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» 79 يوم القيامة للحساب والجزاء «وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ» لا لغيره «اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» في الزيادة والنقص ، والظلمة والضياء ، والحر والقر ، ونعمة الاستراحة في الأول وطلب العمل في الثاني «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» 80 صنائع اللّه ومنافعه التي أسداها إليكم فتستدلوا بها على عظمته ، وتشكروه حق شكره ، وتؤمنوا باللّه ورسوله «بَلْ قالُوا» وهذا انتقال ثمن ، أي قال هؤلاء الكفرة مع توالي نعمنا عليهم «مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ» 81 وهو أي قول الأقدمين «قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» 82 بعد ذلك ، استفهام إنكار وتعجب معرضين عن التفكر والتدبر جانحين عن الاتعاظ والاعتبار قائلين كيف يكون هذا ؟ وإنما «لَقَدْ وُعِدْنا» بالحياة بعد الموت «نَحْنُ» من قبلك يا محمد «وَآباؤُنا» من قبل وعدوا من قبل أمثالك «هذا» الوعد نفسه «مِنْ قَبْلُ» أن توعدنا أنت ، وإذ لم نقف له على حقيقة فنقول لك «إِنْ هذا» الوعد ما هو بالوعد الحق وما هو «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 83 وخرافاتهم الواهية لا غير ، ومن هنا يقال في ضرب المثل حديث خرافة.
ونظير هذه الآية الآية 67 من سورة النمل في ج 1.
وخرافة هذا قيل إنه استهوته الجن سنين فلما تركته صار يحدث قومه بما رأى من عجائبهم بما لا تصدقه عقولهم ، ولهذا صاروا كلما سمعوا شيئا لا يعقلونه يقولون حديث خرافة.
هذا وبالنظر لظاهر الآية قد يفهم أنه جاء لآبائهم رسل وردوا عليهم بما ردوا به على محمد مع أنه لم يأتهم رسول ما بعد إسماعيل الذي لم يره آباؤهم ، وإنما قالوا ما قالوا بالنسبة لما سمعوه من أخبار الأمم الماضية المكررة(4/361)
ج 4 ، ص : 362
سيرهم لديهم ، لأن شأنهم في الأخذ والرّد شأنهم.
قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل على طريق الاستفهام لقومك «لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها» من الخلائق والنبات والمعادن والمياه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 84 وتدعون العلم ؟ فإنهم لا شك «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ» لهم بعد إقرارهم هذا «أَ فَلا تَذَكَّرُونَ» 85 أنكم من جملة من عليها ، وإنكم مملوكون للّه ، وأنه قادر على إبادتها كما خلقها ، فتعلمون أنه قادر على إعادتكم بعد موتكم فتتعظون وتؤمنون
«قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» 86 فإنهم مضطرون وملجئون بأن «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» مربوبة ومملوكة «قُلْ» لهم بعد اعترافهم «أَ فَلا تَتَّقُونَ» 87 خالقها أن يسلط عليكم من فيها من الملائكة وما فيها من الصواعق والبرق والبرد ، فيهلككم دفعة واحدة ، لعبادتكم غيره ، أفلا تستدلون بأن من يقدر على خلق ذلك يقدر على إعادة الأموات أحياء «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك على طريق التعجيز ثالثا «مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» في السموات والأرض من نام وغيره «وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» يؤمن كل أحد من خوفه ولا يقدر أحد أن يؤمن من أخافه ولا يخيف من آمنه ، وهو يغيث من استجار به ، ويكشف ضره إن شاء «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 88 أحدا يقدر على مثل هذا ، فاذكروه لنا أيها الناس ، وانهم حتما «سَيَقُولُونَ» ان هذه الخصوصية «لِلَّهِ» وحده فقط «قُلْ» لهم إذا كنتم تعترفون بذلك كله «فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» 89 وتخدعون وكيف تنصرفون عن الحق إلى الباطل ، وما ذلك إلا لأنكم لا تنتفعون بحواسكم إذ لا تحسنون استعمالها والوقوف على ما تدل عليه ، ولا تعلمون إلا مظاهر الأشياء.
وقرىء في الآيتين الأخيرتين (اللّه) بلا حرف الجر وهي قراءة على الظاهر ، وباللام على المعني ، وكلاهما جائز ، فلو قيل لك من صاحب هذه الدار فقلت زيد كان جوابا عن لفظ السؤال ، ولو قلت لزيد كان على المعنى ، لأن معنى من صاحب هذه الدار لمن هي فيصح المعنى ، وقد أنشد الزجاج على الأول :
وقال السائلون لمن حضرتم فقال المخبرون لهم وزير
وأنشد صاحب المطالع للثاني : (4/362)
ج 4 ، ص : 363
إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قلت لخالد
وتشير هذه الآيات الثلاث لتقريعهم وتوبيخهم على عبادة غير اللّه المالك لهذه الأشياء المتصرف بها القادر على كل شيء ، وتنبيه على أن الفاعل لتلك قادر على إحيائهم بعد موتهم ، وأن إنكارهم وجحودهم ما هو إلا محض عناد وعتو بعد اعترافهم بأن اللّه تعالى الخالق المالك للسموات والأرض ومن فيهما وعليهما وتحتها وفوقهما.
قال تعالى «بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ» هذا إضراب عن قولهم أن الإخبار بإيجاد البعث من أساطير الأولين ، أي إننا يا سيد الرسل لم نأتهم بما فاهوا به ، وإنما أتيناهم بالصدق وأخبرناهم بما أخبرناهم بالحق «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» 90 في جحودهم ونسبة الولد والصاحبة والشريك ، ولهذا أكد فريتهم هذه بقوله «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ» فكيف ينسبون إليه الملائكة بأنها بناته كما نسب اليهود والنصارى بنوة عزيز والمسيح إليه من تلقاء أنفسهم أيضا ، تعالى عن ذلك ، ثم أكد الجهة الأخرى بقوله «وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ» آخر قط فهو المتفرد بتدبير ملكه المبرأ عن المعين ، فكيف ينسبون له الشريك ؟ وقد قال إنما هو إله واحد ، وقال وأمتكم واحدة ، ونهى عن التفرق في الدين ، ونهى عن الاختلاف فيما جاءت به الرسل ، لأن طريقتهم واحدة ، وأصل الدين الذي أمروا باتباعه واحد ، والمرسل والشارع الحقيقي هو الواحد واحد ، راجع الآية 52 المارة والآية 59 من سورة الأنعام المارة وما ترشدك إليه والآية 59 من سورة الأنبياء المارة أيضا ، ثم علل ذلك بقوله جل قوله «إِذاً» لو كان كما يزعمون من وجود الشريك «لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ» ليختص به منفردا عن الآخر ولا يشركه فيه ، ولا يرضى الانقياد لغيره ، ولامتاز ملك كل منهما عن الآخر ومنعه من الاستيلاء عليه «وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» في الخلق والقدرة والعظمة وغالبه عليها ليكون أكبر منه ولبسط سلطانه عليه كما يفعل ملوك الدنيا ، وإذ لم ير شيئا من ذلك ولا أثر للتمايز والتغالب والتعاظم في الملك مما يقع لملوك الدنيا.
فاعلموا أيها الناس أنما هو إله واحد بيده ملكوت كل شيء في السماء والأرض ، راجع الآية 22 من الأنبياء المارة في برهان التمانع ، ثم نزّه ذاته الطاهرة عن تقولاتهم هذه كلها بقوله(4/363)
ج 4 ، ص : 364
«سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» 91 الحضرة الإلهية المقدسة مما هو من شأن البشر.
وهذه الآية في معرض الجواب لمن حاجّ حضرة الرسول من المشركين ، فلا محل للقول بأن (إذا) لا تدخل إلا على كلام مشتمل على الجواب والجزاء ، لأن قوله لذهب وقع جزاء وجوابا ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل ، لأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة ، وإنما حذف لدلالة قوله (وما كان معه من إله) تأمل.
ثم وصف اللّه نفسه المقدسة عن تفوهاتهم بقوله «عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 92 وتبرأ عما لا يليق به ، ويا خاتم الرسل «قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي» في حياتي الدنيا «ما يُوعَدُونَ» 93 به من العذاب الذي ستنزله عليهم يا «رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 94 منهم فتعذبني بعذابهم ، أي إذا أردت أن توقع بهم عذابك فنجني من بينهم كما نجيت أنبياءك ومن آمن بهم من بين أقوامهم الكافرين ، وهذا إظهار للعبودية ، لأن النبي له أن يسأل ربه ما علم أنه يفعله ويستغيث به مما علم أنه لا يفعله تواضعا ، قال تعالى مجيبا لنبيّه «وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ» 95 وهو جواب أيضا على إنكارهم موعد نزول العذاب وضحكم منه
ولكن يا سيد الرسل «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» بالخصلة التي هي أرفق وأوفق ، وذلك بأن تصبر على أذاهم وتعرض عن معاداتهم وتصفح عن طلب تعذيبهم الآن ، ومفعول ادفع «السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» 96 به ألوهيتنا وينعتون نبوّتنا ، وهذه الآية ليست منسوخة بآية السيف الآتية بعد كما قاله بعض المفسرين ، لأن المداراة مطلوبة في مثل هذا ، ومحثوث عليها في كل الأحوال ، ما لم تثلم بالدين ، لا سيما إذا كان هناك أمل مرتقب بقبولهم النصح ورجوعهم عن الغي ، أي اجعل يا محمد جواب إساءتهم لك إحسانا ، ولا يهمنّك شأنهم.
ولما أن أشار اللّه تعالى لنبيه بأن يقابل إساءتهم بالإحسان وهو بمثابة النهي عن مقابلة السيئة بالسيئة ، أتبعه بما يقوي لبّه ، وزيادة على ذلك الالتجاء إليه بقوله عزّ قوله «وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ» 97 نزعاتهم ووساوسهم ، لأنهم يحثون الناس على السيئات والهمز الدفع والتحريك كالهز والأز ، ومنه مهماز الرائض ، أي أن الشيطان يهمز(4/364)
ج 4 ، ص : 365
الناس على فعل الشر كما تهمز الراضة الدواب حثالها على الشيء.
وقيل أيضا يا سيد الرسل «وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ» 98 أمرا من أموري كي لا تساق نفسي إلا إلى الخير كما خلقت له ، وهذا إخبار من اللّه بأن يكف عن قومه ويصبر على أذاهم ويديم لهم النصح حتى حين الوقت المقدر لإيمان من يؤمن وإصرار من يصر.
ثم أخبره بما يكون مصيرهم فقال «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» 99 إلى الدنيا وقد جمع الضمير لما هو شائع لدى العرب أن يخاطبوا الواحد بلفظ الجمع تعظيما وتبجيلا كيف والمخاطب هو رب المخاطبين.
وعلى هذا قوله :
ألا فارحموني يا آل محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وقول الآخر :
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
النقاخ الماء البارد ، والبرد النوم.
ثم علل طلبه بقوله «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» الفرصة بالدنيا وضيعتها فأعدني يا رب إلى المحل الذي تركته في الدنيا لأتدارك ما فات مني ، وهيهات ، قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى ان رجع ليعمل بطاعة اللّه ، فرحم اللّه امرأ عمل في دنياه ما يتمناه الكافر إذا نزل به العذاب.
قال تعالى «كَلَّا» لا سبيل لك للرجوع.
وكلا أداة زجر وردع ، راجع بحثها مفصلا في الآية 14 من سورة الشعراء في ج 1 ، وهذه الكلمة التي يطلب فيها الرجعة «إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها» لا محالة ، وكل كافر سيقولها في ذلك الوقت بسبب استيلاء الحسرة والندم على أمثالهم ، ولكنهم لا يجابون ، لأن الوقت ليس بوقت إجابة ، ولو أجابهم لما بقي للنار نصيب من أحد ، لأن كل أهلها يقولها ، وكيف يرجعون إلى الدنيا «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» حاجز حائل بينهم وبين الرجوع ، باق مستقر «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» 100 من قبورهم ، وليس معنى الغاية أنهم يرجعون إلى الدنيا بعد البعث ، وإنما هو إقناط كلي للعلم أنه لا رجعة بعد الموت إلى الدنيا ، وإنما مصيرهم بعده إلى الآخرة «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ» تقدم ما فيه في الآية 67 من سورة الزمر المارة.(4/365)
ج 4 ، ص : 366
مطلب في التقاطع وعدم الالتفات إلى الأقارب والأحباب والمحبة النافعة وغيرها :
«فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ» بل فيه يفر المرء من أخيه وابنه وأبيه وصاحبته ، ولا ينفع فية أحد أحدا إلا من يؤهله اللّه للشفاعة فإنه يشفع لمن يشاء «وَلا يَتَساءَلُونَ» 101 سؤال تواصل وتوادد وتحابب وتخالل كما كانوا في الدنيا لأن كلّا مشغول بنفسه.
وقد يقع سؤال عتاب وخصام ومجادلة بين العابدين والمعبودين والشيطان وأتباعه واخوان السوء ، راجع الآية 67 من سورة الزمر والآية 21 من سورة إبراهيم والآية 47 من سورة الزخرف في هذا البحث.
وهذه النفخة هي النفخة الثانية التي يقع بعدها البعث والنشور والحساب بدليل سياق الآية نفسها والآيات بعدها.
قال ابن مسعود إنها النفخة الثانية ، قال يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين ، ثم ينادي مناد هذا فلان بن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه ، فيفرح المؤمن أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه ، ثم قرأ (فلا أنساب بينهم) الآية.
وقال ابن عباس في رواية أخرى إنها النفخة الثانية (فلا أنساب بينهم) الآية ، أي لا يتفاخرون يومئذ بالأنساب كما كانوا يتفاخرون في الدنيا بها ولا يتساءلون سؤال تواصل أو سؤال تعرف ، كقول الإنسان للآخر من أنت ؟ ومن أي قبيلة أو قرية ؟ راجع الآية 66 من سورة الزخرف والآية 31 من سورة إبراهيم المارتين.
وحكم هذه الآية عام ، وقيل خاص بالكفرة بدليل سياق الآية.
وما أخرجه البزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي.
وأخرج جماعة نحوه عن مسور بن مخرمة مرفوعا.
وأخرج نحوه ابن عساكر عن ابن عمر مرفوعا.
وهو خبر مقبول لا يرده إلا من في قلبه شائبة ، ونسبه بالنسبة للمؤمنين فقط.
وإذا كان المراد نفي الالتفات إلى الأنساب بعد النفخة الثانية فتكون للعموم ، لأن كلا فيها مشغول بنفسه ، أما بعدها فخاصة بالكفرة لأن المؤمنين يشفع بعضهم لبعض كما مر ، أما آية الصافات 27 المارة وهي قوله تعالى (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فلا ترد على هذه ، لأن ذلك السؤال(4/366)
ج 4 ، ص : 367
سؤال محاججة وجدال كما مر ، وقد أرشدناك إلى المواقع الموجود فيها هذا البحث فراجعها.
واعلم أن يوم القيامة طويل وله أحوال مختلفة ومواطن متباينة بعضها مع بعض ، يشتد فيه الخوف والفزع فيشتغلون بها عن السؤال ، وفي بعضها يتخاصمون ، وفي بعضها يسكتون.
وقد ألمعنا إلى ذلك هناك أيضا بصورة مفصلة فراجعها.
قال تعالى «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» في ذلك اليوم «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 102 الفائزون الناجحون فيه «وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» وغبنوا فيه فهم «فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ» 103 لا خروج لهم منها «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ» 104 بادية أسنانهم كاشرون لتقلص شفاههم من الإحراق عابسون والعياذ باللّه ، وعند ما يستغيثون يقال لهم «أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» على لسان رسلي في الدنيا يحذرونكم فيها من هول هذا اليوم «فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» 105 ولم تلتفتوا إليها ولا إلى الرسل ولم تصغوا لإرشادهم ونصحهم ،
فاعترفوا واعتذروا بما ذكره اللّه بقوله «قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا» بسبب أعمالنا السيئة «وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» 106 في الدنيا مجانبين الحق معرضين عن الهدى ، غير ملتفتين إلى الرسل «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها» من جهنم «فَإِنْ عُدْنا» إلى ما كنا عليه من الضلال بعد الآن «فَإِنَّا ظالِمُونَ» 107 أنفسنا مستحقون هذا العذاب ، فيجيبهم الربّ جل جلاله بقوله العظيم الزاجر «قالَ اخْسَؤُا فِيها» أيها الكفرة وابعدوا عن هذا القول كما تقول للكلب إذا تبعك أو نبح عليك اخسأ ، والمعنى اسكتوا وابقوا فيها أذلاء مهانين لا سبيل لكم إلى الخروج ، فانزجروا عن هذه المقالة «وَلا تُكَلِّمُونِ» 108 بعدها في رفع العذاب ، لأنكم مخلدون فيه ، وهذا آخر كلام أهل النار إذ انقطع رجاؤهم.
روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن أهل جهنم يدعون مالكا خازن جهنم أربعين يوما (يا مالك ليقض علينا ربك) فلا يجيبهم ، ثم يقول بعد تلك المدة وهم ينتظرون جوابه (إنكم ما كثون) فيها كما في الآية 77 من سورة الزخرف المارة ، ثم ينادون ربهم يقولون بنفس الآية ، فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ، ثم يردّ عليهم (اخسؤا فيها) الآية ، فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة ان كان إلا الزفير(4/367)
ج 4 ، ص : 368
والشهيق.
أخرجه الترمذي بمعناه عن أبي داود ، وذكره البغوي بغير سند.
قال تعالى ناعيا على هؤلاء الكفرة بعض ما كانوا يعملونه في الدنيا وهو «إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ» أمامكم في الدنيا «رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ 109 فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا» على مقالتهم هذه واستهزأتم بهم «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» بتشاغلكم بالهزء بهم فتركتموني ولم تذكروني ولم تنتبهوا وتتيقظوا وتهابوا عذابي وتخافوا عقابي في مثل هذا اليوم «وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ» 110 استهزاء بهم ، نزلت هذه الآية في كفار قريش الذين كانوا يسخرون بفقراء المؤمنين الموصوفين في هذه الآية.
قال تعالى «إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا» على أذاكم وإهانتكم لهم في الدنيا «أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» 111 اليوم برضائي وجنتي ، ثم التفت جل شأنه يخاطب الكفرة بعد اجتماعهم في الموقف «قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ» أحياء في الدنيا وأمواتا في البرزخ الذي دفنتم فيه «عَدَدَ سِنِينَ» 112 كم هنا منعوتة بلبثتم وعدد تمييز «قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» وهذا بالنظر لطول يوم القيامة وعظم هوله وشدة فزعه وإلا فلبثهم في الدنيا أعواما كثيرة وفي البرزخ أكثر وأكثر ، ثم انهم لما رأوا قولهم هذا غير موافق للواقع قالوا لا نعلم «فَسْئَلِ الْعادِّينَ» 113 الحفظة الموكلين بنا وإنما عرفوهم عادين لمدتهم لما تبين لهم من الصحف التي نشروها بإحصاء أعمالهم فقالوا هؤلاء الذين جمعوا أقوالنا وأفعالنا يعرفون مدة لبثنا «قالَ» تعالى قوله «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» في الدنيا والبرزخ في جنب ما ستلبثونه اليوم «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 114 قدره أو تعلمون عاقبة أمركم لما اغتررتم في الدنيا لأنها لا تعد كمية ولا كيفية بجنب الأخرى ، ثم طفق يوبخهم فقال «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً» لعبا أو باطلا ولهوا «وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» 115 بل تكونون هباء سبهللا ، كلا ، بل خلقناكم لحكمة وليكون مصيركم إلينا.
روى البغوي بسنده عن الحسن قال : إن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه (أ فحسبتم) الآية إلى آخر السورة ، فبرىء فقال صلّى اللّه عليه وسلم بماذا رقيته في أذنه ، فأخبره فقال صلّى اللّه عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أن رجلا(4/368)
ج 4 ، ص : 369
موقنا قرأها على جبل لزال.
ثم نزه نفسه المنزهة عما وصفه به المشركون فقال «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» 116 وصفه بالكريم ، لأن الرحمات تنزل على عباده من قبله وهو أعظم مخلوقات اللّه تعالى ، راجع الآية 7 من سورة يونس المارة «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» ولا حجة ولا دليل ، وإنما هو اختلاق من نفسه ، وهذا الكافر الذي يقول هذه المقالة القبيحة «فَإِنَّما حِسابُهُ» عليها وجزاؤه يكون في الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» 117 بها بل يخيبون ويشقون ويخسئون «وَقُلْ» يا سيد الرسل «رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» 118 لأن من أدركته رحمتك أغنته عن رحمة من سواك ورحمة الغير لا تغني عن رحمتك.
واعلم أنه تعالى بعد أن بين أنه هو الملك الحق وأن لا رب غيره أردفه ببيان أن من ادعى ربا غيره فقد افترى باطلا ، ثم أتبعه بأن من جرؤ على ذلك الذي لا بينة له عليه فجزاؤه العقاب الأليم ، إذ قال (إنما حسابه عند ربه) إلخ وناهيك به محاسب.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي عن أبي بكر رضي اللّه عنه قال : يا رسول اللّه علمني دعاء أدعوه في صلاتي ، قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
هذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة السجدة
عدد 25 و75 - 32
نزلت بمكة بعد سورة المؤمنين عدا الآيات ص 16 إلى 20 فإنهن نزلن بالمدينة.
وهي ثلاثون آية ، وثلاثمائة وثمانون كلمة ، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا ، وتسمى سورة المضاجع ، ومثلها في عدد الآي سورة تبارك وسورة الفجر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الم» 1 تقدم ما فيه واللّه أعلم بما فيه ، راجع أول سورة لقمان المارة ، وعلى أنه اسم للسورة يكون(4/369)
ج 4 ، ص : 370 مبتدأ خبره قوله تعالى «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» 2 لجميع العالمين المدركين «أَمْ» استفهام إنكار ، ويفيد الانتقال من كونه منزلا من اللّه بلا شك ولا شبهة إلى ما يتفوه فيه الكفرة مما حكى اللّه عنهم بقوله عز قوله «يَقُولُونَ افْتَراهُ» محمد من تلقاء نفسه واختلقه كلا «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل لا يقدر أحد أن يبتدع مثله وقد أنزلنا عليك «لِتُنْذِرَ» به «قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» هم قومك إذ لم ينذروا من قبل أحد بعد إسماعيل عليه السلام الذي اندرست شريعته وتفادم عهده ولم يترك لهم كتابا يرجعون إليه من بعده ، راجع الآية 44 من سورة سبا المارة وأول سورة يس في ج 1 ، «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» 3 به.
مطلب في أهل الفترة من هم ، ونسبة أيام الآخرة لأيام الدنيا.
قال ابن عباس هذا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، ولا حجة في هذه الآية على عدم عموم رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم أو أنها قاصرة على العرب لعدم وجود حجة القصر ، والآيات في التعميم كثيرة ، إلا أنه لما كانت الأمم غير العرب تتهافت عليها الرسل واحدا بعد واحد - كما مر في الآية 44 من سورة المؤمنين المارة - دون العرب ، قال تعالى (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) الآية ، ولأنهم أمّيّون ولا كتاب لديهم يقتدون بما فيه من أمور دينهم ، بخلاف اليهود والنصارى فإنهما بعد انقطاع الرسل عنهم ملزمون باتباع شرائع من قبلهم ورسلهم الذين كانوا يدعونهم بمقتضاها ، إذ أن دعوتهم منحصرة بهم ، وقد جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام (إني حقا أرسلت إلى بني إسرائيل) وفي نسخة (إلى خراف إسرائيل) فثبت من هذا أن العرب لم تدعهم إلى اللّه رسل بني إسرائيل ، ولما كان كل نبي تنقطع أحكام نبوته بعد موته إلا محمدا صلّى اللّه عليه وسلم لأنه خاتم النبيين والمرسلين ورسالته عامة إلى الخلق كافة ، وكانت ذرية كل نبي ملزمة باتباع شريعته ، كان على قريش أن تلتزم شريعة إسماعيل عليه السلام كما كان أوائلهم متمسكين بها ، إلا أنه فشت فيهم عبادة الأوثان التي أحدثها عمرو الخزاعي وعكفوا عليها إلا ما ندر منهم كزيد بن عمرو بن نوفل العدوي والد سعيد أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وقد عاصر النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وقالوا إنه آمن به(4/370)
ج 4 ، ص : 371
قبل بعثته وقد مات إبان بناء الكعبة عام 25 من ولادته صلّى اللّه عليه وسلم الواقعة عام الفيل سنة 570 من ولادة عيسى عليه السلام ، وكان يعيب على قريش ذبحهم لغير اللّه ، وقس بن ساعدة الإيادي كان مؤمنا باللّه وعاصر حضرة الرسول أيضا ، وتوفي أوائل البعثة الشريفة ، وخالد ابن سنان العيسي كذلك كان مؤمنا.
وما قيل إنهم رحمهم اللّه كانوا أنبياء لا صحة له البتة ، أما ورقة بن نوفل فقيل إنه تنصر.
هذا ، ولا تعارض بين هذه الآية وآية فاطر 24 وهي (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) كما أوضحناه في تفسيرها ، فراجعها يتبين لك أنه خلا أول العرب أي سلف نذير فيهم وهو إسماعيل عليه السلام ، إلا أنه لم يرسل إليهم رسول بعده وبقوا طيلة هذه المدة العظيمة مهملين دون رسول ولا كتاب ، بيد أن الأمم الأخرى تتابعت عليهم الرسل.
وقال بعض المفسرين إن (ما) هنا في هذه الآية اسم موصول ، وعليه يكون المعنى لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك ، يريد بهذا النذير إسماعيل ، وهو ليس بشيء ، لأن أكثرهم لا يعرفون أنه كان هناك نبي أم لا ، وما جرينا عليه بأن (ما) نافية أنسب بالمقام وأولى بالمعنى وأقوى حجة وبرهانا.
هذا وإذا علمت نفي مجيء رسول إليهم تعلم أنهم لم يؤاخذوا على عدم القيام بالشرائع ، لأنها لا تدرك إلا من قبل الرسول ولكنهم يؤاخذون بعدم معرفة اللّه وتوحيده ، لأن العقل السليم قد يوصل إلى ذلك من غير واسطة الرسل ، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 15 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعها.
أما ما يتعلق في عموم رسالته فقدمناه أيضا في الآية 28 من سورة سبأ المارة.
قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» هو المستحق للعبادة وحده ، راجع الآية 116 من سورة المؤمنين المارة وما ترشدك إليه تقف على معنى العرش وعظمته.
واعلموا أيها الناس أنكم «ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ» يلي أموركم وينصركم غيره «وَلا شَفِيعٍ» دون أمره ورضاه فزعمكم بشفاعة الأصنام باطلة «أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ» 4 بمواعظ اللّه وتتعظون بعبره وهو الذي «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» في الدنيا على وجه الحكمة والإتقان فينزله «مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» مدة دوامها «ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ» ذلك الأمر كله ليحكم فيه وقت(4/371)
ج 4 ، ص : 372
فصل القضاء بين الناس في الآخرة ، قال تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) الآية 4 من سورة المعارج الآتية.
واعلم أن هذه المسافة ما بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام.
قال ابن عباس لعبد اللّه بن فيروز حين سأله عن هذه الأيام : أيام سماها اللّه لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب اللّه ما لا أعلم.
وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية المذكورة إن شاء اللّه فراجعه «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ» بالنسبة لتقدير أيامكم أيها الناس «أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» 5 الآن وذلك أن مسافة ما بين الأرض وسماء الدنيا على ما جاءت به الآثار خمسمائة سنة ، فيكون صعوده ونزوله ألف سنة ، بحيث لو كانت هذه المسافة موجودة وسار عليها ابن آدم فلا يقطعها إلا بألف سنة.
هذا إذا كان العروج لسماء الدنيا فقط ، أما إذا كان لمحل صدور الأمر فهو أكثر بكثير كما سيأتي في الآية 4 المذكورة آنفا ، «ذلِكَ» الإله العظيم الذي صنع ما ذكر هو «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» أي ما غاب عن هذا الكون في الآخرة وما عاينوه في الدنيا «الْعَزِيزُ» الغالب أمره كل شيء «الرَّحِيمُ» بأهل طاعته «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» في الدارين «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ» آدم عليه السلام «مِنْ طِينٍ» 7 وقرأ بعضهم وبدى ، وعليه قول ابن رواحه :
باسم الإله وبه بدينا ولو عبدنا غيره شقينا
«ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ» نطفة سيّالة من الإنسان مكونة «مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» 8 حقين ضعيف قليل «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» أي جعل فيه الشيء الذي اختص به تعالى ولذلك أضافه لنفسه المقدسة تشريفا له وإظهارا بأنه مخلوق كريم على ربه وإعلاما بأن له شأنا بنسبته إلى الحضرة الإلهية يؤيد هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه خلق آدم على صورته ، وفي رواية على صورة الرحمن.
وهذه الرواية الأخيرة لم تبق مجالا للتأويل والتفسير ، أما الأول فقد قال بعضهم إن الضمير يعود إلى آدم أي على صورته نفسه التي هو عليها وليس بشيء والنفخ على حقيقته ، وقدمنا ما يتعلق فيه في الآية 8 من سورة المؤمنين والآية 66 من سورة النحل المارتين ، وفيهما ما يرشدك إلى غيرها مما هو مشبع فيه بحثه.
واعلم(4/372)
ج 4 ، ص : 373
أن المباشر لهذا النفخ الملك الموكل بذلك ، والروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان الماء في العود وماء الورد بالورد والنار بالفحم ، وقد أقام العلامة ابن الجوزي على هذا مئة دليل تشهد لها ظواهر الأخبار ، ولذلك اخترته على غيره من أقوال كثيرة للفلاسفة وغيرهم ، وقد أوضحت ما يتعلق به في الآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعه.
ثم ذكر جل ذكره ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» 9 اللّه على هذه النعم والحواس العظيمة والجوارح الكريمة التي هي من أبلغ قدرة اللّه تعالى في الإنسان وأكبرها نفعا له ، وقدم السمع لأن الإنسان بسمع أولا ثم ينظر إلى القائل ليعرفه ثم يتفكر بقلبه فيفهم معناه ، ولا خلاف في أن السمع أفضل من البصر لإمكان التفاهم مع الأعمى دون الأصم «وَقالُوا» الكفرة منكر والبعث «أَ إِذا ضَلَلْنا» غيّبنا وصرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض ووضعنا فيها فلم يبق ما نتميز به عنها بأن تغلغلنا «فِي الْأَرْضِ» حتى كنا من ترابها ، قال النابغة يرثي النعمان :
وآب مضلوه بعين جليّة وغودر بالجولان حزم ونائل
«أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» بعد ذلك استفهام إنكار وتعجب مما يقول لهم حضرة الرسول انكم تحيون بعد موتكم هذا وتحاسبون على أعمالكم ، قال تعالى لا ترد عليهم يا حبيبي فتقول لهم نعم إنكم تخلقون ثانيا ، لأنهم ينكرون أكثر من ذلك «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» 10 جاحدون ، وهذا انتقال من بيان كفرهم بالبعث إلى ما هو أشد وأفظع وهو جحود مقابلة ربهم بالحساب والجزاء لأنهم لو صدقوا بالحياة الثانية لم يصدقوا بأنهم يعذبون ويثابون على ما وقع منهم من خير وشر ولم يصدقوا أن هناك نارا للكافر وجنة للمؤمن ، لأنهم ينكرون الحشر الذي هو أول مقدمات لقاء اللّه وهذه تضاهي الآية 33 من الأنعام المارة ،
«قُلْ» لهم يا سيد الرسل بل قد «يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» لقبض أرواحكم في الدنيا «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ» بعد موتكم «تُرْجَعُونَ» 11 في الآخرة لا محالة ، وهذه رد لقولهم إنا لا نلاقي اللّه ولا نعود إليه وهو أبلغ(4/373)
ج 4 ، ص : 374
من إنكارهم البعث ، ولو لا تحقق الرجعة إلى اللّه واليقين بإثابة المحسن وعقاب المسيء لما رأيت من يفعل الخير أبدا ولتوغل الناس في الشر ، لأن العامل يعمل رجاء الأجر وخوفا من العقاب.
أما العبادة فهي مستحقة للّه تعالى ، ولو لم يثب عليها ويخلق الجنة لفاعلها والنار لجاحدها لكان جديرا بأن يعبد ويوحد وينزه ويمجّد لذاته المقدسة ، إذ ينبغي أن تكون العبادة خالصة للّه استحقاقا لربوبيته.
قال تعالى «وَلَوْ تَرى » يا محمد في الموقف العظيم يوم الجزاء «إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ» حياء وندما على تفريطهم «عِنْدَ رَبِّهِمْ» يقولون يا «رَبَّنا أَبْصَرْنا» بأم أعيننا ما كنا نكذب به من الحياة بعد الموت «وَسَمِعْنا» الآن تصديق ما أخبرتنا به رسلك «فَارْجِعْنا» إلى الدنيا «نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» 12 الآن بكل ما أتتنا به الأنبياء ، فيجيبهم أن لا مجال لإجابة هذا الطلب كما مر ، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما هالك مرآه من أحوال الكافرين وما يحل بهم من أنواع العذاب.
قال تعالى «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» بأن وفّقناها في الدنيا للإيمان بما أردناه «وَلكِنْ» لم نشأ ذلك إذ «حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» 13 تأكيدا لعدم استثناء أحد من العصاة.
ونظير هذه الآية الآية 119 من سورة هود المارة ، ثم يقال لهم «فَذُوقُوا» العذاب الأليم «بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الذي جحدتموه في الدنيا «إِنَّا نَسِيناكُمْ» لا نلتفت إليكم أبدا فنجعلكم كالمنسيين وهو عبارة عن تركهم في العذاب لأن النسيان محال على اللّه فهو من باب المشاكلة على حد قوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها) على قول بعض المفسرين.
ويقال لهم أيضا «وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» الدائم الذي لا نهاية له «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 14 من المعاصي وذلك بعد أن يطرحوا في النار تنفيذا لعهد اللّه ، لأن أمثالهم لا يؤمنون لسابق شقائهم «إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها» وتليت عليهم «خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» في سجودهم ونزهوه عما يقول الكفرة «وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» 15 عن الإيمان بها وتصديق من أنزلت عليه ولا يأنفون من وضع جباههم على الأرض بل ولا من تمريغ وجوههم(4/374)
ج 4 ، ص : 375
في التراب إذلالا لأنفسهم واحتراما لخالقهم وخشوعا لهيبته وخضوعا لجلاله وتعظيما لربوبيته لسابق سعادتهم.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال :
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحد مكانا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار.
وقدمنا في الآية 50 من سورة النحل ما يتعلق بالسجود فراجعه.
مطلب الآيات المدنيات ، وقيام الليل ، والحديث الجامع ، وأحاديث لها صلة بهذا البحث :
قال تعالى «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» الفرش وما بمعناها من كل ما يضطجع عليه «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً» من عقابه «وَطَمَعاً» في ثوابه «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» 16 من فضول أموالهم على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل أداء لشكر ما أولاهم به من النعم وشفقة على عيال اللّه الذين أنعم عليهم بها من فضله وكرمه.
وهذا أول الآيات التي نزلت في الانتظار للصلاة بعد الصلاة.
وقال أنس : نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع حتى نصلي العشاء مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
وأخرج مسلم من حديث عثمان بن عفان : من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوها ولو حبوا.
والآية واردة في صلاة الليل بعد النوم ، لأن سياقها يدل على ذلك ، ولا تسمى صلاة الليل تهجدا إلا بعد النوم ، وهي كناية عن اشتغالهم بالعبادة وتركهم النوم المستفاد من قوله (تتجافى) أي تتباعد جنوبهم عن النوم.
ثم طفق جل شأنه يبين لعباده الذين هذا شأنهم ما لهم عنده من الثواب العظيم في الآخرة الذي يتنافس به المتنافسون بقوله جل قوله «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ» وهم أولئك الكرام الذين مرت خصلتهم الحسنة التي يمجدها لهم ربهم.
والتنوين في(4/375)
ج 4 ، ص : 376
كلمة نفس يشعر بأنه لا يعلم أحد غيره من نبي مرسل أو ملك مقرب ما حىء لهؤلاء الكرام عنده في الآخرة جزاء تركهم النوم وانصبابهم لطاعة اللّه «مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» أي شيء عظيم تطيب به أنفسهم وتنشرح به صدورهم «جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 17» في دنياهم.
روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : يقول اللّه تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، اقرؤوا إن شئتم (فلا تعلم نفس) الآية.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمت قدماه ، فقلت لم تصنع هذا يا رسول اللّه وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا ؟ وهذا الحديث لم تسمعه عائشة عند نزول هذه الآيات ، إذ كان عمرها دون الست سنين عند نزولها ، لأنه كان قبل الهجرة بسنة تقريبا وهي تزوجت برسول اللّه بعد الهجرة في السنة الثانية منها ، وكان عمرها تسع سنين ، وهذا الحديث روته بعد ذلك وجيء به هنا للمناسبة ، وهكذا كثير من الأحاديث تذكر بمناسبة الآيات مع أنها قد تكون سمعت من حضرة الرسول قبل نزولها وقد يكون بعده.
وروى البخاري عن الهيثم بن سنان أنه سمع أبا هريرة في قصة يذكر فيها النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذلك ابن راوحة قال شعرا :
وفينا رسول اللّه يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات ما إذا قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه قال : كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في سفرة فأصبحت يوما قريبا منه ، فقلت يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار ، قال سألت عن عظيم ، وإنه ليسير عمن يسره اللّه عليه ، تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنّة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم قرأ (تتجافى جنوبهم) حتى بلغ(4/376)
ج 4 ، ص : 377
(جزاء بما كانوا يعملون) ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟
قلت بلى يا رسول اللّه ، قال رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد.
ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت بلى يا رسول اللّه ، فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا ، فقلت يا رسول اللّه وإنا لمؤاخذون بما يتكلم ؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ؟.
وأخرج الترمذي عن أبي أمامه الباهلي عن رسول صلّى اللّه عليه وسلم قال : عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وقربة إلى ربكم ، وتكفير للسيئات ، ومنهاة عن الآثام ، ومطردة الداء عن الجسد.
وعن ابن مسعود قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عجب ربنا من رجلين ، رجل ثار عن أوطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته ، فيقول اللّه عز وجل لملائكته أنظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي ، ورجل غزا في سبيل اللّه وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه ، فيقول اللّه تعالى أنظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي حتى أهريق دمه - أخرجه الترمذي - هذا ، واعلم أن الهيثم المار ذكره في الحديث الأول ليس له في الصحيحين عن أبي هريرة غير ذلك الحديث.
قال تعالى «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» 18 عند اللّه أبدا ، وهذا استفهام إنكاري ، أي لا يستوي المؤمن الموصوف بتلك الأوصاف الفاضلة مع الفاسق قط ، بل بينهما بون شاسع.
قالوا نزلت هذه الآية في سيدنا علي كرم اللّه وجهه حينما قال له الوليد بن عقبة بن أبي معيط أسكت فإنك صبيّ وأنا شيخ أبسط منك لسانا وأحدّ سنانا وأشجع جنانا وأملأ حشوا في الكتيبة ، فقال له أسكت فإنك فاسق.
وظاهر الآية العموم في كل مؤمن وفاسق لأنها واردة بمعرض ضرب المثل ولفظ التنكير يؤيد هذا المعنى الأخير ، «أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم «فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى » في أخراهم ، وهي نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء «نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 19 من الخير فإذا كان هذا نزلهم فما بالك بما يكرمهم اللّه به بعد ، وهو المعطي العظيم الكريم ؟ ، (4/377)
ج 4 ، ص : 378
راجع معنى النزل في الآية 710 من سورة الكهف المارة «وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا» وأما هنا واردة بمعرض التقسيم موضحة ما للفريقين بالآية قبلها ، أي وهذه الطائفة «فَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة فتراهم والعياذ باللّه «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها» لأنهم خالدون فيها ، كما أن الطائفة الأولى خالدون في الجنة «وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» 20 في الدنيا ، وهذا آخر الآيات المدنيات ، ولا يوجد في القرآن آية بتأييد الكافرين في النار إلا في موضعين هذه والآية 33 من سورة الجن في ج 1 هذا في القسم المكي وفي القسم المدني أيضا في موضعين في الآية 169 من سورة النساء وفي الآية 65 من سورة الأحزاب ج 3.
قال تعالى «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى » في هذه الدنيا كالقحط والأسر والجلاء والخذلان والقتل وسائر المصائب فيها ، وفسر أبو عبيدة العذاب الأدنى هذا بعذاب القبر وحكي أيضا عن مجاهد ولكن آخر الآية ينفيه ويصرفه لما ذكرناه ، «دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ» الذي يوقعه فيكم يوم القيامة وهو الخلود بالنار «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 21 عن غيهم وبغيهم ، أي لعل من سلم من تلك الآفات يرجع إلى الإيمان ، أما من أصيب فمات فلا يدخل في هذا الترجي فلو كان المراد بالعذاب الأدنى عذاب القبر لما وجد تلاقيه بالرجوع ليرجى لهم إذ لا رجوع بعده إلى الدنيا «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» الدالة على أنه واحد وعلى صحة وقوع البعث والجزاء «ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها» فلم يتدبرها وأصر على شركه ، وثم هنا لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وعليه قول جعفر بن علية الخارجي :
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
أي أن هذا لا أظلم منه فهو أظلم من كل ظالم إذ لا أكبر منه جرما «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» أمثاله المتوغلين في الإجرام «مُنْتَقِمُونَ» 22 منهم بالعذاب الأكبر لأنهم لم يتعظوا بما لا قوه من عذاب الدنيا «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة «فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ» إليه ولا تشك في إلقاء مثل ذلك الكتاب وجنسه إليك من قبلنا فكما ألقينا إلى موسى وعيسى وداود الكتب(4/378)
ج 4 ، ص : 379
ألقينا إليك هذا القرآن أيضا ، وإيتاء ذلك الجنس باعتبار إيتاء التوراة وإلقاء باعتبار إلقاء القرآن ، ونظير هذه الآية قوله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الآية 14 من سورة الإسراء ج 1 ، وقال بعض المفسرين : إن ضمير (لقائه) يعود إلى موسى على ما جرينا عليه أولا وهو أظهر ، ولكن الأكثر على الثاني أي بعوده إلى محمد كما ذكرناه ، ولهذا أثبتنا الوجهين.
وقال بعضهم ونسبه لابن عباس لا تشك من لقاء موسى ليلة المعراج بعود الضمير إلى موسى نفسه ، واستدل صاحب هذا القول بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى رجلا مربوعا مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر ، ورأيت مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهنّ اللّه إياه ، فلا تكن في مرية من لقائه.
وروى مسلم عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره.
وهذان الحديثان لا شك فيهما ، إلا أن الأخذ فيهما يوجب عود الضمير إلى غير مذكور وهو لا يجوز إلا في المتعارف المشهور من المقام والسياق ، وهنا ليس كذلك ، وعليه فإن عوده إلى الكتاب أنسب وأقرب ، يؤيده قوله تعالى «وَجَعَلْناهُ» ذلك الكتاب الذي طلبنا عدم الشك منك في لقائه لأخيك موسى «هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» 23 كما جعلنا كتابك هدى للخلق كافه «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ» أي بني إسرائيل «أَئِمَّةً» أنبياء يقتدى بهم «يَهْدُونَ» الناس «بِأَمْرِنا» إياهم بذلك فيدعونهم إلى ما فيها من دين اللّه وشريعته «لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا» أولئك الأئمة «بِآياتِنا يُوقِنُونَ» 24 أنها من عند اللّه إيقانا لا مرية فيه ، ويا خاتم الرسل «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ» بين الأنبياء وأممهم وبين المؤمنين والكافرين وبين الظالمين والمظلومين «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 25 في الدنيا بالأمور الدينية والدنيوية ، وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» وقرىء بالنون أي يبين أو نبين والفاعل على كلا الحالين يعود إلى اللّه «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ»(4/379)
ج 4 ، ص : 380
الخالية وهم الآن «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» عند ذهابهم وإيابهم في أسفارهم ولم يعتبروا ويتعظوا «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إهلاك الأمم السالفة وجعل أمتك يمرحون في منازلهم «لَآياتٍ» كافيات للاتعاظ «أَ فَلا يَسْمَعُونَ» 26 هذه الآيات وما جرى على أسلافهم فينتبهون من غفلتهم وينتهون عن كفرهم.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ» اليابسة ذات النبات اليابس المجروز المأكول ، والجرز هو القطع أي الأرض المقطوع عنها الماء أو المقطوع نباتها لعدمه.
واعلم أنه لا يقال للأرض السبخة التي لا تنبت جرز لأن اللّه تعالى قال «فَنُخْرِجُ بِهِ» أي الماء الذي سقناه إليها «زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ» من عشه وتبنه «وَأَنْفُسُهُمْ» من حبه وثمره «أَ فَلا يُبْصِرُونَ» 27 ذلك فيستدلون به على كمال قدرة اللّه وإحيائهم بعد موتهم كما تحيا الأرض بعد موتها ، أفلا يعتبرون بذلك ؟ والأرض السبخة لا تنبت بالطبع ولو أنزل إليها الماء إلا بعد حين بأن تتغير عما هي عليه ، وإنما قدّم الأنعام على البشر لأن أول الزرع يصلح لها ، ولأنه غذاؤها ، والبشر قد يكتفي بغيره.
هذا وبعد أن ذكر الرسالة والتوحيد أتبعها بذكر الحشر فقال «وَيَقُولُونَ» مع ذلك كله كأن لم ينزل عليهم شيء ولم يحذرهم أحد أبدا مستفهمين استفهام استهزاء وسخرية «مَتى هذَا الْفَتْحُ» الحكم والقضاء الذي توعدنا به يا محمد أنت وأصحابك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 28 بقولكم ووعدكم ، والفتح بلغة القرآن الفصل والحكم ، قال تعالى (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) الآية 89 من الأعراف ج 1 ، راجع الآية 15 من سورة إبراهيم المارة ، والعرب تسمي القاضي فاتحا ، فأنزل اللّه تعالى جوابا لهم «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الهازئين الساخرين إذا جاء «يَوْمَ الْفَتْحِ» القضاء بين الناس يود الذين كفروا أن يؤمنوا ولكن «لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ» لفوات وقته ولو آمنوا لا يقبل منهم «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» 29 ليعتذروا إذ يأتيهم بغتة على حين غفلة في وقت لا توبة ولا إمهال فيه «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» يا حبيبي «وَانْتَظِرْ» موعد نصرك عليهم وإهلاكهم كما «إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» 30 نزول حوادث الزمن فيك وليسوا بمبصرين ذلك.
هذا وما قيل إن هذه الآية(4/380)
ج 4 ، ص : 381
منسوخة قيل لا وجه له ، لأنها ختمت بما يدل على التهديد والوعيد وبدئت بما يدل على الإعراض في مناظرتهم ، فلا يتعين فيها النسخ.
وما قيل إن يوم الفتح هو يوم بدر أو يوم فتح مكة لا يتجه أيضا ، لأن الإيمان فيهما مقبول والإمهال موجود ، وقد نفى اللّه هذين فيه ، فتعين أنه يوم القيامة يوم الجزاء الذي لا يقبل فيه شيء من ذلك ولا غيره.
ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة (ألم تنزيل الكتاب) و(هل أتى على الإنسان).
وأخرج الترمذي عن جابر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ (ألم تنزيل الكتاب) و(تبارك الذي بيده الملك).
وأخرج الترمذي عن طاوس قال : تفضلان عن كل سورة في القرآن سبعين حسنة.
وأخرج بن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من قرأ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) و(الم تَنْزِيلُ) السجدة بين المغرب والعشاء الأخيرة ، فكأنما قام ليلة القدر.
وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال : ما على الأرض رجل يقرأ الم السجدة وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلا كتب له مثل أجر ليلة القدر.
وجاء فيما أخرجه أبو عبيد وغيره أنها تأتي يوم القيامة لها جناحان تدافع عن قارئها ، وتقول لا سبيل عليه.
والأخبار بفضلها كثيرة ، وكذلك في فضل تبارك.
واللّه أعلم وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الطور
عدد 26 - 76 - 52
نزلت بمكة بعد سورة السجدة ، وهي تسع وأربعون آية ، وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة ، وألف وخمسمائة حرفا.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «وَالطُّورِ» 1 طور سيناء الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى عليه السلام ، ويطلق لغة على كل جبل بانفراده ، (4/381)
ج 4 ، ص : 382
أما إذا وصف فيتقيد بكل جبل ملتفة عليه الأشجار ، وإنما أقسم اللّه به دون غيره لعظم ما وقع عليه منه جل شأنه لسيدنا موسى «وَكِتابٍ مَسْطُورٍ» 2 هو التوراة واللّه أعلم بدلالة السياق والسباق ، يؤيده قوله جل قوله «فِي رَقٍّ» وهو الأديم الذي يكتب عليه بفتح الراء وكسرها من الرقة ضد الصفاقة أي الوقاحة ، ثم انه تجوز فيه عما يكتب فيه الكتّاب من ألواح وغيرها أو من الرقة وهي اللطافة ، «مَنْشُورٍ» 3 مبسوط مفتوح ، وقيل هو عبارة عن صحائف الأعمال استدلالا بقوله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الآية 14 من سورة الإسراء ج 1 ، وقيل هو القرآن ، والأول أولى وأنسب بالمعنى بمناسبة ذكر الطور ، ولأن الكتاب الذي أنزل على موسى أنزل ألواحا مكتوبة مفتوحة ، قال تعالى (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) الآية 150 من الأعراف في ج 1 ، ولأن القرآن لم ينزل على محمد مكتوبا تدبر.
«وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ» الكائن في السماء السابعة ، وسمي معمورا لكثرة زوّاره من الملائكة يعمرونه بالتسبيح والتهليل والتقديس ، وجاء في حديث المعراج من إفراد مسلم عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رأى البيت المعمور في السماء السابعة ، قال فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ويسمى الفراغ حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وهو واقع فوقها بحيث لو سقط من قلبه حجر لسقط عليها ، وهو تحت العرش كما روي عن علي كرم اللّه وجهه.
وقال بعض المفسرين إنه الكعبة وعمارته بالحجاج ، والأول أولى لذكره صراحة بالحديثين الصحيحين ، وشهرته في هذا الاسم دون الكعبة ، وقال آخر إنه المسجد الأقصى المعمور بالأنبياء ، وهو أضعف مما قبله ، لأن هناك ثلاثة بيوت مقدسة :
البيت المعمور ، وبيت العزة في سماء الدنيا الذي أنزل إليه القرآن جملة دفعة واحدة ، والبيت الحرام بالأرض.
وكل منها مشهور لا يغلب أحدها على الآخر.
أما المسجد الأقصى فلم يطلق عليه لفظ بيت ، لأن اللّه سماه المسجد الأقصى ، وأطلق عليه لفظ القدس ، وقد سمى اللّه الكعبة البيت الحرام «وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ» 5 السماء العالية أو العرش ، لأنه سقف الجنة كما ذكره ابن عباس رضي اللّه عنهما ، يؤيده الحديث المار ذكره في تفسير الآية 18 من سورة المؤمنين المارة.
«وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ» 6 الموقد المحمى.(4/382)
ج 4 ، ص : 383
مطلب من معجزات القرآن الإخبار عن طبقات الأرض ، وعن النسبة المسماة ميكروب :
جاء في الحديث الشريف عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا يركب رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا وان تحت البحر نارا وتحت النار بحرا.
وورد أن البحر طباق جهنم.
هذا وقد يظن من لا خبرة له في طبقات الأرض أنه لا يوجد بحر متوقد ، مع أنه ثبت أخيرا أن جوف الكرة الأرضية فيه بحر يغلي كالمرجل ، ومن انجرته تحصل الزلازل ، ومن شظايا معادنه تحصل البراكين.
وهذا من معجزات القرآن العظيم وإخباره بالغيب ، إذ لا يوجد إيّان نزوله من يعلم ذلك.
ولعل هذا يظن أيضا أن الميكروب المكتشف أخيرا لم يشر اللّه تعالى إليه ، كلا بل هو موجود ، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) الآية 10 من سورة الأحزاب ج 3 ، وجاء في الخبر : اتقوا الغبار فإن فيه النسمة.
وهل النسمة إلا الحشرة الصغيرة التي يسمونها ميكروبا ، وهي من الجنود التي لم تر ، المشار إليها في كتاب اللّه ، وقد يكون في التراب ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه.
ولهذا ينبغي لمن يأكل الفواكه والخضراوات أن يغسلها جيدا حتى لا يبقى فيها تراب ما ، لأنه لا يخلو عن النسمة أي الميكروب ، وعليه فلا يظن أحد استحالة جنود لم ترها العيون ، لأن الجراثيم الصغيرة التي لا ترى إلى بالمكبرات هي من جنود اللّه الفتاكة ، وان اللّه تعالى يسوقها مع الرياح ويسلطها على من يشاء من خلقه ، وخاصة الطاعون والهواء الأصفر والهيضة المسماة (كوليرا) والهيجان الذي يقتل فيه أقوى جبار في ساعة واحدة ، أليس النمروذ أهلك ببعوضة وهو على ما كان عليه من الجبروت ، ألا فلا يظن أحدا أن القرآن أغفل شيئا ، كيف واللّه تعالى يقول (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام المارة ، إلا أنه محتاج لفكر ثاقب وعقل كبير ووعي بالغ وقلب واع ودراسة طويلة ، قال القائل :
ومن طلب العلوم بغير درس سيدر كها إذا شاب الغراب(4/383)
ج 4 ، ص : 384
وقال الآخر :
ألا لا تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن مجموعها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وإرشاد أستاذ وطول زمان
هذا وقد أقسم اللّه في هذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته وجواب القسم «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ» 7 بالمشركين والعاصين في الدنيا والآخرة على بعض وفي الآخرة على آخرين ، على أن العصاة قد يعذبهم فيهما أو في أحدهما ، وقد يعفو عنهم ، ولا يسأل مما يفعل ، وإذا وقع عذابه على أحد «ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» 8 يدفعه عنه أو يمنعه منه وعلامة وقوعه أول أيام الآخرة «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً» 9 تضطرب وتدور بشدة كدوران الرحى ، ولكن بسرعة لا تدرك «وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» 10 حثيثا فتزول عن أماكنها وتكون هباء منثورا ، لأنها خلقت رواسي للأرض كي لا تتكفا بأهلها تكفؤ السفينة ولا تتحرك ، وذلك لأجل عمارة الأرض أما وقد آذن اللّه بخرابها فلم يبق لها من حاجة ، ليتم قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية 48 من سورة إبراهيم المارة ، قال جبير ابن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في أسارى بدر - أي بعد نزول هذه الآية بسنين كما ألمعنا إليه في الآية 17 من سورة السجدة المارة - فدفعت له وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد ، فسمعته يقرأ (والطور) إلى قوله (إن عذاب ربّك لواقع ، ماله من دافع) فكأنما صدع قلبي حين سمعت ، (ولم يكن أسلم يومئذ) فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب.
وهذا كقول عبد اللّه بن سلام حين سمع قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) الآية 47 من سورة النساء ج 3 ، قال واللّه يا رسول اللّه ما كدت لأن أرجع فأومن قبل أن يطمس اللّه وجهي إلخ ، فأسلم وحسن إسلامه كما سيأتي في تفسير هذه الآية.
قال تعالى «فَوَيْلٌ» هلاك وعذاب شديد وهوان وبلاء كبير «يَوْمَئِذٍ» يوم وقوعه «لِلْمُكَذِّبِينَ» 11 باللّه ورسوله وكتابه واليوم الآخر «الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ» 12 لاهون(4/384)
ج 4 ، ص : 385
مما يراد بهم في الدنيا وما هم قادمون إليه في الآخرة مشغولون بما لا يعنيهم «يَوْمَ يُدَعُّونَ» يدفعون بعنف «إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» 13 دفعا عظيما وتقول لهم الملائكة «هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» 14 الذين أخبروكم بها وتقولون لما يتلى عليكم من آيات اللّه لسحر وكهانة ، أنظروا «أَ فَسِحْرٌ هذا» المتلو عليكم كما زعتم «أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» 15 ، أنه حق اليقين اليوم كما كنتم في الدنيا ، لأن السحر لا يدوم ، وهذا دائم مستمر.
وبعد أن يعترفوا يقال لهم «اصْلَوْها» احترقوا في نار جهنم فمسّوا شدة حرها «فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا» على حد قوله تعالى (أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) الآية 21 من سورة إبراهيم المارة ، فإن صبركم وعدمه «سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 16 لا محيص لكم عنه ، قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» للكفر والتكذيب في الدنيا يكونوا في الآخرة «فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ» 17 متنعمين فيها «بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ» من الخيرات «وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» 18 جزاء إيمانهم وتصديقهم ، وتقول الملائكة لهم في ذلك اليوم «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً» لا تخمة فيه ولا سقم «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 19 في الدنيا راجع الآية» 32 من سورة النحل المارة ، وللبحث صلة في الآية 24 من الحاقة الآية ، وتراهم أيها الرائي «مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ» موصولة بعضها ببعض «وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» 20 يتنقمون بهن زيادة على ذلك
«وَالَّذِينَ آمَنُوا» آتيناهم ذلك كله «وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ» أي الكبار منهم بإيمانهم أنفسهم والصغار بإيمان آبائهم «أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» في الجنة تكرمة لهم لتقربهم أعينهم ويجمع لهم السرور كما كانوا في الدنيا يحبون الاجتماع بهم.
الحكم الشرعي :
إن الولد الصغير يحكم بإيمانه إذا مات قبل بلوغه تبعا لأحد أبويه ، لأنه يتبع أحسن الأبوين في الدين وأخسّهما في النجاسة ، ويتبع أمه في الرق إلا أن تعنق فتكون حرة ، قال :
يتبع الفرع في انتساب أباه والامّ في الرق والحربة
والزكاة الأخف والدين الأعلى والذي اشتد في جزاء ودية(4/385)
ج 4 ، ص : 386
وأخس الأصلين رجيا وذبحا ونكاحا والأكل والأضحية
قال تعالى «وَما أَلَتْناهُمْ» أنقصناهم «مِنْ» ثواب «عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ» في عمله «رَهِينٌ» 21 فنفس المؤمن مرهونة بعملها وتكافى بحسبه وأحسن ، ونفس الكافر مرهونة بعملها وتجازى بحسبه فقط وما ربك بظلام ، فلا يرهن أحد بعمل أحد.
قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) الآية 164 من الأنعام المارة وفي سورة النجم ج 1 مثلها ، وذكرنا فيها أن سعي للغير ينفع ، وهو من خصائص هذه الأمة كما منفصله في الآية 42 من سورة الرعد في ج 3 إن شاء اللّه.
قال تعالى «وَأَمْدَدْناهُمْ» زدناهم وأعطيناهم وأصل المدّ الجر ويجيء غالبا بمعنى الإمداد للشيء المحبوب ، والمد للمكروه ، الإمداد تأخير الأجل والإغاثة وتعزيز الجنود بجماعة أخرى ، قال تعالى (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) الآية 10 من سورة الأنفال ج 3 ، أي زدناهم بعد تقديم ما يؤكل من الغذاء «بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» 22 للتلذذ من غير طلب واقتراح إكراما لهم «يَتَنازَعُونَ» يتجازبون ويتعاطون فيناول بعضهم بعضا «فِيها كَأْساً» زجاجة مملوءة بالشراب اللذيذ «لا لَغْوٌ» باطل ولا مالا يغي «فِيها» أي لا يتكلم شاربها بمكروه أثناء شربها كعادة أهل الدنيا عند شرابهم النجس المذهب للعقل ، فإنهم يخلطون أثناء شربهم ويهرفون بما لا يعرفون ، لأنها لا تذهب عقولهم فيحافظون على الآداب والأخلاق «وَلا تَأْثِيمٌ» 23 فلا يقع منهم خلال شربها أو بعده ما يوجب الإثم بخلاف أهل الدنيا ، فإنهم قد يتسابون ويقع منهم ما يؤثمون به ، ويفعلون فعل اللئام ، أما أهل الجنة فلا يقع منهم عند شربهم وبعده إلا ما يفعله الكرام من اللطف والعطف والمحبة «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ» بتلك الكأس «غِلْمانٌ لَهُمْ» مملوكون بتمليك رب العالمين لا يشاركون أحدا في خدمتهم «كَأَنَّهُمْ» في حسنهم وجمالهم «لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ» 24 في صدفة لم تمسه الأيدي باق على صفائه «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» 25 بينهم ، ثم بين تعالى تساءلهم فقال «قالُوا» بعضهم لبعض أثناء تذاكرهم «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا» في دار الدنيا «مُشْفِقِينَ» 26 خائفين من عذاب اللّه(4/386)
ج 4 ، ص : 387
لا ستقلالنا أعمالنا الصالحة «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» في الآخرة وأكرمنا في الجنة «وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» 27 الريح الشديدة الحرارة التي تدخل في مسام الإنسان وقيل إنها أحد أسماء جهنم ، وقالوا «إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ» أن نحضر الآخرة «نَدْعُوهُ» ونعبده ولم نؤده حق عبادته «إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» 28 بعباده يحسن إليهم ويعطيهم أكثر مما يستحقون بمنه وفضله.
وبعد أن بين ما يقع بين أهل الجنة ترغيبا للمؤمنين التفت إلى حبيبه وقال «فَذَكِّرْ» قومك يا محمد في هذا القرآن علهم يرجعون إلى ربهم فينعم عليهم بما ذكر بعضه للمؤمنين به ، ولا تلتفت لما يقولونه فيك «فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» التي أنعمها عليك من النبوة والرسالة والكتاب «بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» 29 كما يزعمون وينقولون ، فأنت رسول اللّه حقا وأمينه على وحيه صدقا «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» 30 حوادث الدهر فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء ،
كلا فلست ذلك و«قُلْ» لهم يا سيد الرسل «تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» 31 المنتظرين أمر اللّه فيكم.
واعلم أن المنون يطلق على الدهر وعلى الموت قال :
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت خليلها
هذا على الأول ، وعلى قول الثاني قول ذؤيب :
أمن المنون وريبه يتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال تعالى «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ» أي عقولهم إذ يظنون أنهم عقلاء والمثل السائر (كل بعقله راض أما بماله لا) والحال ليس لهم عقول سليمة ، إذ لو كان لهم عقول سليمة لما أمرتهم «بِهذا» القول المتناقض من ساحر إلى شاعر إلى كاهن إلى غير ذلك «أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» 32 باغون خلوجون عن الاعتدال ، قيل لعمرو بن العاص ما بال قومك لم يؤمنوا وقد نعتهم اللّه تعالى بالعقل ؟ فقال تلك عقول كادها اللّه تعالى إذ لم يصحبها التوفيق ، فلهذا لم ينتفعوا بها.
على أن هذه الآية لم تدل على رجاحة عقولهم ، لأنها واردة مورد الاستهزاء ، بل تدل على عكس ذلك ، لأن اللّه أزرى بعقولهم ، إذ لم يميزوا بين الحق والباطل والصدق(4/387)
ج 4 ، ص : 388
والكذب والهدى والضلال ، ويجوز أن يراد بأحلامهم أكابرهم ورؤساؤهم ، لأن أحلام بمعنى أجسام ، كلفظ أعلام فإنها تطلق على الجبل وعلى الرجل ، قال ابن الفارض رحمه اللّه :
نشرت في موكب العشاق أعلامي وكان قبلي بلي بالحبّ أعلامي
وهم لفلة عقولهم سماهم أجساما تهكيبا بهم «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ» اختلقه وهي كلمة لا تستعمل إلا في الكذب ، كلا ، لم يختلقة وهو الصادق المأمون «بَلْ لا يُؤْمِنُونَ» 33 في هذا القرآن المنزل عليك أنفة وتجبرا.
مطلب الحجج العشر وعذاب القبر وبحث في قيام الليل والإخبار بالغيب وما يقال عند القيام من المجلس :
فإذا كان لقولهم من صحة «فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ» في حسن النظم ورشاقة اللفظ ولطافة البيان والأحكام والحدود والإخبار بالمغيبات وقصص الأمم السابقة «إِنْ كانُوا صادِقِينَ» 34 بأنك اختلقته أو أنه شعر أو كهانة ، لأنهم عرب مثلك يدعون الفصاحة والبلاغة ، والتنكير يفيد التقليل أي ليأتوا بمطلق حديث يشابهه ، وقد خسئوا لا يستيعون ولو اجتمعوا وتعاونوا وقد لزمتهم الحجة ، راجع الآية 13 من سورة هود المارة ، قل يا محمد «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ» أراد بشيء هنا الخلق ، إذ ربما يتوهم به أنه يدل على أنه لا يخلق شيء إلا من شيء ، والمعنى أوجدوا بلا خالق ، فإن قالوا لا ، وقعت عليهم الحجة ، وإن قالوا نعم فقل لا يجوز أن يوجد خلق بلا خالق ، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضروريات الاسم «أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» 35 لأنفسهم أم اللّه خلقهم ، فإن قالوا نحن فقول باطل ، لأن من لا وجود له كيف يخلق ، وعلى فرض المحال فكلفهم أن يخلقوا ذبابة أو يخلّصوا منها ما تسلبهم ، فإذا عجزوا ولا شك أنهم عاجزون فقد لزمتهم الحجة بأنهم مخلوقون للّه ، وعليهم أن يؤمنوا بخالقهم.
وهذا إلزام ثان.
قال تعالى «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» كلا ، بل خلقها الخالق لهم ، ولئن سألتهم ليقولن خلقها اللّه حتما «بَلْ لا يُوقِنُونَ» 36 إيقانا حقيقيا بأنه خلقها ، ولو أيقنوا لا لاعترفوا ، ولكنهم يجحدون عنادا بسبب إعراضهم عن آيات اللّه(4/388)
ج 4 ، ص : 389
وعدم تدبرهم معانيها ، وهذه حجة ثالثة لزمتهم فافحمتهم.
قال تعالى «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ» من الرزق والمطر والعافية فيمنعونه عن أناس ويفيضونه على آخرين كما يفعل اللّه «أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» 37 على شيء من ذلك فيقدرون أن يفعلوا ما يشاءون فيغتون هذا ، ويفقرون هذا ، ويمرضون هذا ، ويشفون هذا ، كلا ما عندهم شيء من ذلك البتة ، وليس لهم سلطة على شيء منه أصلا وفسر بعضهم الخزائن بالنبوة وآخرون بالعلم ، والمسيطرين بالأرباب القهارين والجبارين المتسلطين ، وهو كما ترى ، وهذا إلزام رابع ألقمهم الحجر.
قال تعالى «أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ» مرقي إلى السماء «يَسْتَمِعُونَ فِيهِ» كلام اللّه ، وفيه هنا بمعنى عليه ، لأن حروف الجر يخلف بعضها بعضا ، لأن السلّم يستمع عليه لا فيه ، أي هل أنهم يرقون فيسترقون السمع خبر السماء فيعلمون أن محمدا يموت قبلهم ، وأنهم يظفرون بالعافية فيتمسكون بما هم عليه ، فإن كان لزعمهم هذا من أصل «فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ» الذي سمع ذلك ونقله إليهم «بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 38 يدل على صحة سماعه ، وإذ لم يأتوا ولن يأتوا فادعاؤهم كاذب ، وتربصهم هواء ، وهذا إلزام خامس داحض تربصهم به ومحسئهم.
قال تعالى «أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ» 39 وهذا إنكار عليهم لاختيارهم الأحسن لأنفسهم ، وجعلهم ما يكرهون لربهم ، أي من ابن عرفوا ذلك فهم كاذبون من جهتين من هذه ومن إعزائهم الملائكة للّه بأنهم بناته ، تعالى عن ذلك ، قال تعالى (أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ) الآية 20 من سورة لزخرف المارة ، أي كلا ، لم يشهدوا خلقهم ، فلزمتهم الحجة السادسة «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً» على إرشادك ونصحك لهم «فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» 40 لا يقدرون على تأديته لك ، كلا لا شيء من ذلك ، وإذا كنت لا تطلب منهم شيئا على تعليمهم فيكون عدم اتباعهم لك لخيرهم أمرا مذموما (والغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه) ، ولذلك يزهدون باتباعه ، وهذه الحجة السابغة التي أخرستهم.
«أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ» اللوح المحفوظ الذي فيه ما غاب عن الخلق علمه «فَهُمْ يَكْتُبُونَ» 41 منه ما فيه حتى يقولوا لا نبعث ولا نعذّب ولا نحاسب ، كلا ليس عندهم ذلك وهذه حجة ثامنة داحضة لأقوالهم لا بعث ولا حساب ولا عقاب «أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً»(4/389)
ج 4 ، ص : 390
برسولنا فيجتمعون في ندوتهم ويتدابرون ما يمكرون به ليتخلصوا منه ، وقد أرسل رحمة إليهم مع أنهم لا يقدرون على شيء لأنا نحول دونه ونمنعهم منه ونقول «فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ» 42 الذين يعود عليهم مكرهم ، وهذا من الإخبار بالغيب ، لأن مذاكرتهم بشأن المكر به في دار الندوة وقعت بعد نزول هذه الآيات قبل الهجرة ، وقد أخبره اللّه تعالى بما حاكوه بينهم فيها بوقته كما سيأتي ، ولذلك ترك داره وذهب إلى الغار وأمر عليا أن ينام مكانه فيها ، وهذه حجة تاسعة قامعة ما يريدون به ، قال تعالى «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ» يعتمدون عليه في الشدائد ، كلا لا إله إلا اللّه لهم ولغيرهم «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» 43 به من أوثان لا تضر ولا تنفع ، تنزهت ذاته المقدسة وتبرأت عن ذلك ، وهذه تتمة الحجج العشر الواضحات ، أفحمهم اللّه تعالى بها على لسان رسوله فلو كانوا موفقين لأذعنوا إليها واهتدوا بها ولا نوا ، ولكن من سبق في علم اللّه شقاؤه فلن يرى الهدى ، بل يزد قاوة وعتوا ، وفضلا عن أن كلا من هذه الحجج الدامغة كافية للردع ففي كل منها توبيخ وتبكيت وتقريع ، ولكن لا تغني النذر والآيات لمن ختم اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهم لا يهتدون أبدا.
قال تعالى «وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا» لشدة عنادهم وقوة عتوهم ، هذا «سَحابٌ مَرْكُومٌ» 44 بعضه على بعض ، وهذا جواب لقولهم (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) الآية 92 من سورة الإسراء في ج 1 ، وإذا تبين لك يا سيد الرسل حالهم هذا «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ» 45 يمرتون قصفا على حين غفلة لأنهم لا بد لهم من الموت ولو بقوا إلى النفخة الأولى التي يصعق فيها كل حي على الأرض وفي السماء عدا من استثنى اللّه وذلك يوم الموت حتف الأنف والموت بالصعق «يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» من اللّه تعالى «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» 46 من قبل شركائهم ولا غيرهم.
قال تعالى «وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ» قبل صعقهم سينالهم في الدنيا كالقحط والأسر والجلاء والقتل ، وهذه الآية أيضا من الإخبار بالغيب إذ وقع بعض ذلك في بعضهم وكله في كلهم وأشده يوم بدر فما بعده ، وكان بينه وبين نزول هذه(4/390)
ج 4 ، ص : 391
الآية سنتان ، وقال بعض المفسرين أن دون هنا بمعنى وراء ، وعليه يراد بالعذاب عذاب القبر ، لأنه يكون وراء الموت وهو خلاف الظاهر ، وتقدم ما فيه في الآية 25 من سورة نوح عليه السلام المارة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 47 أنا سنزل فيهم عذابا قبل موتهم ولا بعده ، وفي هذه الآية إشارة إلى أن فيهم من يتوقع ذلك بالفراسة ، ومنهم من يعتقد صدقه فيتحقق ما يوعدهم به ، ومنهم من يسمع ما وقع للأنبياء السابقين مع أممهم ، فيعترفون أن محمدا رسول اللّه حقا ، وأن ما يخبر به لا شك واقع ، ولكنهم عنادا يصرون على الكفر وعتوا يكذبون.
قال تعالى «وَاصْبِرْ» يا حبيبي «لِحُكْمِ رَبِّكَ» وأمهلهم على ما تراه من المشقة إلى الوقت المقدر لإعلاء كلمتك عليهم «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» ومرأى منا لا تخفى علينا حركاتك وسكناتك ، وإنا نكلؤك مما يراد بك ، فلا نمكنهم أن يصلوا إليك بسوء أو يوصلوا إليك ما تكره ، ومن كان بنظر الحي الذي لا يموت لا يخاف أحدا أبدا ، وصلّ يا أكمل الرسل «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» 48 من مقامك ومجلسك وللصلاة ، أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلا كان كفارة لما بينهما.
وأخرج أبو داود والنسائي عن عاصم بن حميد قال : سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قيام الليل ؟ فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، كان إذا قام كبّر عشرا ، وسبح عشرا ، وعلل عشرا ، واستغفر عشرا ، وقال اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني ، وكان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك.
قال تعالى «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أيضا في صلاتي المغرب والعشاء وصلاة التهجد «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» 49 بعد وقت السحر إذ فيه تدبر النجوم أي يغيب ضوءها بنور الفجر عن الأبصار فقط ، لأنها لا تغيب أصلا ، وإنما تخفى على أناس وتظهر لآخرين ، وفي القول في غيابها تجوز باعتبار المكان والقطر ، وباعتبار ما نرى.
روى البخاري(4/391)
ج 4 ، ص : 392
ومسلم عن جبير بن مطعم قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور.
هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في القرآن العظيم.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الملك
عدد 27 - 77 - 65
نزلت بمكة بعد سورة الطور ، وهي ثلاثون آية ، وثلاثمائة وثلاث عشرة كلمة ، وألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، ونظائرها في الآي الفجر والسجدة فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «تَبارَكَ» تقدم ما فيه أول الفرقان في ج 1 فراجعه ، «الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» يتصرف فيه وبما فيه ، يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 1 بالغ القدرة في كل ممكن ، وهل يوجد شيء غير ممكن على اللّه تعالى إلا إخراج خلقه عن ملكه ، وذلك رحمة بهم لأنه قادر على تبديلهم بغيرهم كما أنه قادر على تبديل السموات والأرض ، قال تعالى (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 67 من الواقعة في ج 1 ، وقال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية 48 من سورة إبراهيم المارة وأمثالها كثير في القرآن ، ولما كان لا يكون ذلك إلا بإعدامهم وقد قدر لهم أجلا في هذه الدنيا لا بد بالغوه فلا يمكن إخراجهم من ملكه.
مطلب في إمكان القدرة وفوائد الكواكب :
قال بعض المفسرين إن قدرته تعالى مقيدة لأنه لا يقدر على ذاته المقدسة ولا على جعل صاحبة له أو ولد أو شريك تعالى عن ذلك ، وهذا وإن كان كذلك لأن هذه ليست من الممكنات ، وإن القول يتقييد القدرة بهذه الأسباب مما يعبس ويكفهرّ لها الوجوه ويقشعر لها البدن وترتعد لها الفرائص وينكمش لها القلب ، (4/392)
ج 4 ، ص : 393
لهذا فالأحسن الصفح عن هكذا إيرادات والاكتفاء بظاهر اللفظ ، ولهذا قال الإمام الرباني ما قال كما أثبتناه في الآية 42 من سورة النجم في ج 1 ، فتدبره أرشدك اللّه لهداك وأبعدك عما فيه رداك.
واعلم أن هذه الآية من آيات الصفات التي مر ذكرها ، راجع الآية 158 من الأنعام المارة ففيها كفاية ، وقد ذكرنا جواز إطلاق اليد عليه تعالى اتباعا لما جاء في ظاهر القرآن إذ ألزمنا أنفسنا في هذا التفسير المبارك السير فيه على ظاهره ما وجدنا لذلك سبيلا ، وقد جاءت أحاديث قدسية بذلك أيضا وهي مفسرة لكتاب اللّه ، ومن عرف أن اللّه عز وجل منزه عن المثل والشبهيّة عرف أن يده ومجيئه وقبضته وإتيانه المشار إليه في القرآن لا تشابه شيئا من مسمياتها في البشر تدبر ، قال في بدء الأمالي :
تسمى اللّه شيئا لا كالاشيا وذاتا عن جهات الست خالي
وقال القائل :
ما كل زهر ينبت الأرض طيب ولا كل مصقول الحديد يماني
هذا ، وليحذر العاقل أن يتصرف بآيات الصفات حسبما يسبح بفكره أو تحدثه نفسه ، ففيه مزالق مهلكة ، كما أن عليه الكف مما يتصوره في إمكان القدرة الآنفة الذكر لأن منشأها من وساوس الشيطان ومسيرها الحيرة والوقوع بما لا يليق أن يوصف به الرب الجليل وليتعوذ من ذلك باللّه ومن الذي يسأل عن مثل هذه الأسئلة ، وليقل لا إله إلا اللّه العظيم للفرد الصمد الجبار القهار القادر على كل شيء الرحيم بعباده اللطيف بهم العطوف عليهم ، وليراجع تفسير الآية 27 من سورة الشورى المارة ليقف على رأفة ربه به.
«الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ» في الدنيا لأن الأشياء كانت ابتداء في حكم الموتى كالتراب والنطفة والبيضة ، ثم طرأت عليها الحياة ، وفي الآخرة الموت عند نهاية الأجل في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام البرزخ ، والحياة عند البعث في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا ، أو المراد بالموت في الدنيا والحياة في الآخرة وهو أولى واللّه أعلم ، «لِيَبْلُوَكُمْ» يختبركم ويمتحنكم أيها الناس ليظهر لخلقه «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» له وأخلصه وأصونه لشريعته وأحبه لخلقه «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب لمن عصاه القادر على من ناوأه(4/393)
ج 4 ، ص : 394
«الْغَفُورُ» 2 لمن تاب إليه وأناب «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» بعضها فوق بعض «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» اختلاف أو اعوجاج أو عدم تناسب «فَارْجِعِ الْبَصَرَ» أيها الإنسان وكرر النظر فيها ودوره مرة بعد أخرى وتأمل فيها «هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ» 3 أو شقوق أو صدوع في شيء منها «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ» أو عشرا أو أكثر إذ يراد به التكثير لا العدد كما تقول لبيك وسعديك ، وعليه قوله :
لو عد قبر وقبر كان أكرمهم بيتا وأبعدهم عن منزل الدام
فإنك منها كررت البصر فيه «يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً» ذليلا صاغرا مبعدا لم يتوفق الرؤية ما يهواه «وَهُوَ حَسِيرٌ» 4 كليل معمي منقطع عن إدراك مطوبه محروم من رؤية مراده «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» كواكب متنوعة كالمصابيح الكهربائية بالنسبة لنظرنا وإلا فهي فوق ذلك بكثير ، وهذه أول فائدة من فوائدها ، والثانية «وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» الذين يسترقون السمع ، وليس المراد أنهم يرمون نفس المصابيح لمنافاته معنى الزينة بل المراد أنهم يرمون بشعلة نارية منها كالقبس الذي يؤخذ من النار وهي باقية على حالها ، قال تعالى (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) الآية 10 من الصافات المارة فراجعها ، ومن المعلوم أن الشهاب ما يؤخذ من النار لا نفسها.
والفائدة الثالثة الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر.
والرابعة ما يحصل بها من نضوج الأثمار وألوانها وطعمها.
والخامسة اختلاف الأنواء والمواسم الحاصلين بسيرها ، وفوائد كثيرة ألمعنا إليها في الآية 62 من سورة الإسراء في ج 1 ، والآية 16 من سورة الحجر المارة فراجعها.
واعلم أن هذا عذابهم في الدنيا «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ» 5 في الآخرة وهو النار المتأججة المتوقدة يحرق فيها كل كافر متمرد من الشياطين «وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ» من الإنس والجن «عَذابُ جَهَنَّمَ» بصلونها «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» 6 مصير الكفرة من الفريقين الذين «إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها» لكل من السعير وجهنم وسائر طبقات النار الخاصتين بهذين الصفتين ومن ماثلهم «شَهِيقاً» هو أول نهيق الحمار «وَهِيَ تَفُورُ» 7 بهم فوران الماء بالجب(4/394)
ج 4 ، ص : 395
القليل ، أرأيت كيف ترفعه وتخفضه الفورة فهم كذلك فيها «تَكادُ تَمَيَّزُ» تنقطع وتنفصل أعضاؤهم وأمعاؤهم بعضها عن بعض «مِنَ» شدة «الْغَيْظِ» عليهم والحنق من شدة الفوران لو لا قوله تعالى (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) الآية 55 من سورة النساء في ج 3 ، وقد شبه اشتعال النار بكفرة الإنس والجن في قوة تأثيرها فيهم وإيصالها الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه ، فاستعير اسم الغيظ لذلك الاستعمال استعارة تصريحية ، واللّه يعلم كيف يصوغ الألفاظ إلى المعاني وكيف يجعلها في قوالب لائقة لمعاني بالغة «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ» جماعة كثيرة جدا أكثر من فوج أهل الدنيا كما أن الآخرة أكبر منها «سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها» أي سأل خزنة جهنم ذلك الفوج ، وقد بين اللّه تعالى صفة هذا السؤال بقوله عز قوله «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» 8 يخوفكم عذاب هذه النار ؟
فأجابوا معترفين «قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ» أكدوا جوابهم بقد المفيدة للتحقيق لشدة تحسرهم على ما فلتهم من السعادة وكثرة تأثرهم على ما لحقهم من الشقاء «فَكَذَّبْنا» ما ذكره لنا ولم نلتفت إلى رشده ونصحه «وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ» مما تقول ونسبناه للسحر والكهانة والكذب والافتراء و(من) هنا يسمونها الزائدة على أن القران لا زائد فيه وهي هنا كأمثالها تأتي للتأكيد ويشترط أن يتقدمها النفي وأن تكون الكلمة الداخلة عليها نكرة كما هنا تدبر ، وقلنا المرسل «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» 9 وخطأ عظيم لأنكم أتيتمونا بما لا نعلمه ولم نسمعه في آبائنا «وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ» كلام الرسل «أَوْ نَعْقِلُ» ما وعظونا به «ما كُنَّا» الآن «فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» 10 تفيد هذه الآية أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وهو كذلك لأنهما حجتان ملزمتان للعبد عند ربه
«فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ» الذي جعلهم في جملة أصحاب جهنم «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» 11 وطردا عن رحمة اللّه تعالى وكرامته ، وكلمة سحقا لم تكرر في القرآن أي سحقهم اللّه سحقا ، قال الشاعر :
بجول بأطراف البلاد مغربا وتسحقه ريح الصبا كل مسحق(4/395)
ج 4 ، ص : 396
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يروه ولم يشاهدوا عذابه وآمنوا بما أخبرهم رسله «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم عنده جزاء إيمانهم به وبما جاء في كتابه وذكرته رسله من غير معاينة «وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» 12 على ذلك وعلى أعمالهم الصالحة التي دعموا بها إيمانهم.
وبعد أن ذكر جل ذكره ما للفريقين في الآخرة التفت إلى المشركين الذين كانوا ينالون من حضرة الرسول فأنزل فيهم قوله العظيم «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ» أيها الكفرة في حق الرسول «أَوِ اجْهَرُوا بِهِ» فهو على حد سواء عند اللّه «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» 13 ودخائلها وما خبىء فيها مما حدث أو سيحدث ، ثم أكد قوله بقوله «أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» الخلق ما يقوله خلقه ، وهذا استفهام إنكاري ونفي لعدم إحاطة علمه تعالى الواقع من قبل خلقه ، أي ألا يعلم ذلك من أوجد جميع الموجودات بحكمته التي هم من جملتها ؟ بلى يعلم بكل ما يقع في ملكه «وَهُوَ» أي ذلك البليغ علمه هو «اللَّطِيفُ» العالم بدقائق الأشياء «الْخَبِيرُ» 14 بحقائقها.
ثم طفق يعدد نعمه على عباده بقوله عز قوله «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا» بحيث سهلها وجعلها صالحة لا يمتنع المشي عليها بأن يسّر وعرها وحزنها وغليظها وأوديتها وجبالها «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها» في جوانبها وفجاجها لبرزق والنزهة والزيارة «وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» المخلوق لكم فيها أيها الناس في هذه الدنيا «وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» 15 في الآخرة من القبور إلى المحشر.
ثم طفق يخوف الكفرة بقوله عز قوله «أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ» خاطبهم جل خط به بحسب اعتقادهم لأنهم من المشبهة أو من أشباههم إذ يعتقدون أنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه ، تعالى اللّه عن المكان «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ» كما خسفها بقارون وغيره «فَإِذا هِيَ تَمُورُ» 16 تضطرب من شدة حركتها من أثر الخسف المسائل «أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» ريحا شديدة قاصفة ذات حجارة يرجمكم فيها كما فعل بقوم لوط وغيرهم «فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ» 17 إذا عاينتم العذاب وإذا علمتم أن لا أمان لكم من أحد فلما ذا تتمادون على الكفر «وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قبل قومك يا محمد(4/396)
ج 4 ، ص : 397
وهم الأمم السابقة أنبياءهم «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» 18 عليهم بإنزال العذاب على غاية من الهول والفظاعة ، أي هل وجدوا إنذاري الذي أنذروا به على لسان رسلي في الأمر والنهي ونكيري على منكري البعث والجزاء حقا أم لا ؟ بل وجدوه حقا ، وقرىء بالياء فيهما وبحذفها اكتفاء بالكسرة.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ» أجنحتها باسطتها في الهواء في جو السماء «وَيَقْبِضْنَ» أجنحتها إذا ضربن بها جنوبهن «ما يُمْسِكُهُنَّ» حالتي البسط والقبض من الوقوع في الأرض «إِلَّا الرَّحْمنُ» الذي شملت رحمته كل شيء «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» 19 يعلم كيف خلق وكيف دبر خلقه ، راجع الآية 79 من سورة النحل المارة ، وهذه الآية والتي بعدها تنبيه على قدرة اللّه تعالى على الخسف وإرسال الخاصب الذي خوفهم به في الآيتين المتقدمتين «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ» إن أراد بكم إيقاع العذاب ؟ الجواب لا أحد «إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» 20 مما ينفخ الشيطان في صدورهم ويمنيّهم بأن لا عذاب ولا عقاب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب
«أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ» اللّه «رِزْقَهُ» عليكم ؟ كلا ، لا أحد أبدا ، وتراهم عند الإمساك يتركون أوثانهم ويرجعون إلى ربهم «بَلْ لَجُّوا» ضجوا وتمادوا بالغي والعناد فلم يتأثروا ولم يرتدعوا بل صاحوا وظلوا «فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» 21 في نبو عن الحق وشراد وتباعد عنه.
قال تعالى «أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى » له وأولى «أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 22 وهذا مثل ضربه اللّه للكافر والمؤمن الذي كان مطاطئا رأسه في الضلالة والجهالة ، والمؤمن الرافع رأسه في الهدى والرشد «قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» 23 اللّه على هذه الجوارح التي لولاها لكنتم مثل البهائم وقد ضيعتم نعمتها بصرفها لغير ما خلقت لها فحرمتم من الثواب المقدر لذلك «قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ» خلقكم وبثكم فيها في الدنيا لتفكروا بآلاء اللّه «وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» 24 في الآخرة لتحاسبوا وتكافؤا على أعمالكم الخير بأحسن منه والشر بمثله ، وتراهم يا سيد الرسل معرضين عن كل ذلك «وَيَقُولُونَ»(4/397)
ج 4 ، ص : 398
لك «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به وتهددنا فيه أنت وأصحابك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 25 أن هناك حياة أخرى نحاسب فيها على أعمالنا ونثاب أو نعاقب.
مطلب تبرؤ الرسول عن علم الغيب وأمر الرسول بسؤال الكفرة :
«قُلْ» لهم يا سيد الرسل «إِنَّمَا الْعِلْمُ» بوقته ونوعه «عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 26 فقط لا أعلم ما هو ومتى يأتيكم ، وما علي إلا أن أبلغكم ما أتلقاه من ربي وأخوفكم نزوله ، لأنه من الغيب ولا يعلمه إلا اللّه «فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً» قريبا منهم في الدنيا أو في الآخرة ، وقد جاء بالماضي مع أنه مستقبل لتحقق وقوعه «سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» وعلتها الكآبة وغشيتها الفترة وعمّتها الغبرة حين رؤيته «وَقِيلَ» لهم من قبل ملائكة الموت في الدنيا وفي الآخرة من قبل الخزنة الموكلين بالعذاب أو من قبل الملائكة الموكلين بتدبير الأرض أو الملائكة الموكلين بإنزال العذاب من السماء على أهل الأرض «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ» من قبل في الدنيا «تَدَّعُونَ» 27 وقوعه وتطلبون نزوله وتتمنون قربه وتسألون تعجيله وهو الذي كنتم تدعون كذبه وتكذبون من أنذركم به «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة «أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ» من المؤمنين «أَوْ رَحِمَنا» بتأخير آجالنا لأننا ننتظر إحدى الحسنيين البقاء مع النصر عليكم والظفر بكم أو الموت ودخول الجنة ، لأن اللّه يأخذ بيد المؤمنين ويجيرهم «فَمَنْ «يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» 28 لا تطيقه أجسامهم ولا بد لهم منه إذا ماتوا على كفرهم ، والمراد بالكافرين المخاطبون في هذه الآية ، أي ماذا تصنعون إذا حل بكم عذاب اللّه ومن هو الذي يجيركم منه وأنتم على كفركم ، ويدخل في هذه الآية كل من هو على شاكلتهم «قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ» الذي أدعوكم إليه أيها الناس هو اللّه ربنا الذي «آمَنَّا بِهِ» نحن «وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا» في كل أمورنا فهو مجيرنا من كل سوء لإيماننا به وأنتم لا مجير لكم البتة لإصراركم على الكفر وتفويض أمركم إلى أوثانكم «فَسَتَعْلَمُونَ» غدا «مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 29 نحن
أم أنتم وهل يشفع لنا ربنا أم تشفع لكم أوثانكم ، وهذه الآية جارية مجرى التهديد ، ثم ذكرهم ببعض نعمه على طريق الاحتجاج بقوله عز قوله «قُلْ» لهم(4/398)
ج 4 ، ص : 399
يا خاتم الرسل «أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً» ذاهبا في الأرض غائرا فيها لوصفه بالمصدر كعدل وعادل وهو سبب حياتكم لأنكم تشربون منه «فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» 30 جار على وجه الأرض أو راكد فيها تناله أيديكم ودلائكم ، فسيقولون لك حتما اللّه يأتينا به ، فقل لهم إذا لم تشركون فيه من لا يقدر على شيء ؟ فتلزمهم الحجة.
قالوا تليت هذه الآية عند محمد بن زكريا المتطبب وهو ملحد فقال يأتي به المعول والفأس ، فأذهب اللّه ماء عينه في تلك الليلة أعاذنا اللّه من الغرور وحفظنا من الاتكال على أنفسنا وزادنا بصيرة في مكوناته.
ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة ، وتسمى سورة المجادلة لأنها تجادل عن قارئها ملائكة العذاب ، والمنجية لا دخار ثوابها عند اللّه ، والمانعة لأنها تمنع من يواظب على قراءتها العذاب في الآخرة وتنجيه من عذاب القبر ، والواقية لأنها تقيه مجادلة الملكين ومن العذاب الأخروي.
أخرج الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن في القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك.
وإنما قال تبارك لأن سورة السجدة وسورة الفجر المارتين كل منهما ثلاثون آية لعدم الالتباس.
وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم خباء على قبر وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها ، فأتى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأخبره فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر.
وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ عن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال بلى ، قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر.
واعلم أن هذه الأحاديث وشبهها من قبيل الإخبار بالغيب مما أطلع اللّه تعالى رسوله على بعض أحوال القيامة وأنه يكون حال من يقرأها أو السور الأخرى الواردة فيها من هذا القبيل كما أخبر وإلا فدفع العذاب والحساب ودخول الجنة أو النار يكون في القيامة لا في الدنيا ، راجع آخر سورة الواقعة في ج 1 وآخر السجدة(4/399)
ج 4 ، ص : 400
المارة فيما يتعلق بهذا.
واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الحاقة
عدد 28 و78 - 69
نزلت بمكة بعد سورة الملك ، وهي اثنتان وخمسون آية ، ومئتان وست وخمسون كلمة ، وألف وأربعة وثلاثون حرفا ، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به ، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها ، ومثلها في عدد الآي سورة القلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الْحَاقَّةُ» 1 «مَا الْحَاقَّةُ» 2 استفهام جار على التفخيم عن عظيم شأنها والتهويل عما يكون فيها «وَما أَدْراكَ» أيها السائل عنها «مَا الْحَاقَّةُ» 3 فإنك لا تعلمها إلا إذا عاينتها ، لأن فيها من الشدائد والأهوال ما لا يبلغه دراية أحد ، ولا يصل لكنهها الفكر ، فمهما صورتها وكيفها مثلتها فهي أكبر وأعظم من ذلك.
وإنما سميت القيامة حاقّة لأنها ثابتة الوقوع وتحق على القوم فتقع فيهم «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» 4 القيامة وسميت بها لأنها تقرع الناس فتدهشهم وتفرع القلوب فتفلجها ، ولها أسماء كثيرة بيناها في محالها فيما مضى ، وسنبين أيضا فيما يأتي.
قال تعالى «فَأَمَّا ثَمُودُ» قوم صالح «فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» 5 الصيحة الشديدة المجاوزة للحد في القوة بسبب طعيانهم وبغيهم على عقر الناقة التي أظهرها اللّه معجزة لنبيهم على طلبهم ، «وَأَمَّا عادٌ» قوم هود «فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ» شديدة الصوت باردة تحرق بقوة بردها الزرع والضرع «عاتِيَةٍ» 6 عظيمة العصف قد عتت عليهم فلم يقدروا أن يقوا أنفسهم منها بعزم ولا حزم ولا حيلة ، وإن اللّه المنتقم الجبار القهار «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ» أي العتاة المذكورين بمقتضى قضائه الأزلي «سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» قاطعات متتابعات لم تفتر خلالها حتى حسمتهم على آخرهم.
وفي قوله تعالى سخرها رد لمن قال إن تلك الريح كانت باتصال الكواكب.
وردع لبعض المفسرين القائلين إنها عتت على الملائكة ، وهذه الأيام الثمانية تسمى العجوز(4/400)
ج 4 ، ص : 401
لأنها كانت في عجز الشتاء ، ولا يزال بردها يكرر في كل سنة ، أو لأن عجوزا من قوم عاد دخلت سر بها لتقي نفسها منها فاتبعتها الريح فأهلكتها «فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ» لمن يراهم «أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» 7 أجوافها ساقطة بالية ، شبههم بجذوع النخيل الساقطة ليس لها رءوس لما قالوا إن الريح كانت تدخل من أفواههم فتخرج من أدبارهم حتى صاروا كأعجاز النخل البالية «فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» 8 أيها الرائي إذا كان إهلاكهم على هذه الصورة ؟ كلا ، قالوا إنها أهلكتهم جميعهم في سبعة أيام وفي الثامن القت جثتهم في البحر ، فلم يبق لهم أثر فهذه كيفية تدميرهم أيها السائل عنهم ، راجع قصتهم في الآية 50 فما بعدها من سورة هود المارة ، ولهذا فإن عادا الأولى لا ينسب إليها أحد أن اللّه تعالى أخبر أن لا باقية لها ، وما جاء في بحث الخراج العشر بلفظ عادي الأرض فهو منسوب إليهم إذ بقيت ديارهم مهجورة ، قال تعالى (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية 58 من سورة القصص المارة.
قال تعالى «وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ» من الأمم الكافرة بعد عاد وثمود «وَالْمُؤْتَفِكاتُ» قرى قوم لوط وهي خمسة صبعه وصعوه وعمرة ودوما وسدوم ، وهي أعظم قراهم ، قلبها اللّه تعالى بأهلها فهن المنقلبات بالخسف ، والأمم الذين ائتفكوا بذنوبهم أي «بِالْخاطِئَةِ» 9 وهي الفعلة ذات الخطأ الكبير «فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ» أولئك الأقوام «فَأَخَذَهُمْ» اللّه الذي أرسله رحمة بهم فكذبوه فصار بغيهم عليهم نقمة وصارت أخذتهم «أَخْذَةً رابِيَةً» 10 نامية زائدة بالشدة على عقوبات غيرهم من الكفار بالنسبة لزيادة بغيهم.
قال تعالى «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ» على قوم نوح بسبب تماديهم على الكفر «حَمَلْناكُمْ» أيها الناس أي حملنا أصلكم نوحا ومن معه وأنتم ذريتهم «فِي الْجارِيَةِ» 21 السفينة ، وقد أضيف الحمل إليهم لأنهم كانوا في أصلاب المحمولين فيها ، فكل هذا البشر من أولاد نوح عليه السلام ولهذا سمي أبا البشر الثاني «لِنَجْعَلَها»
تلك الفعلة التي أغرقنا فيها من على وجه الأرض وأنجينا آباءكم المؤمنين «لَكُمْ»
أيها الناس «تَذْكِرَةً»
تذكرون بها «وَتَعِيَها»
من بعدكم «أُذُنٌ واعِيَةٌ»
12 عافلة حافظة تذكر ما جاء من عند اللّه فتعتبر به وتعظ غيرها فرب مبلّغ أوعى من سامع.(4/401)
ج 4 ، ص : 402
مطلب في اهوال القيامة ، وإعطاء الكتب ، وحال أهلها :
هذا ، وبعد أن صدّر اللّه تعالى هذه السورة بذكر القيامة وتفخيمها وأخبار وقصص بعض الأمم السالفة وأحوالها وكيفية إهلاكها وذكر نعمة إنجاء المؤمنين ، شرع يبين أحوال القيامة وما يكون فيها من أولها إلى آخرها على سبيل الإجمال فقال عز قوله «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ» 13 لا تثنّى في وقتها وإلا فهي نفختان معلومتان لكل منهما زمن معلوم ، وإنما قال واحدة لعدم التثنية «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» فيها من أماكنها بعد أن مات في تلك النفخة الأولى من عليها أجمع «فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» 14 بأن ضرب الجبال في الأرض بيد القدرة البالغة ، فصارت كثيبا مهيلا وهباء منثورا «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» 15 قامت القيامة ونشر من في الأرض «وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» 16 رخوة مشققة مفطرة بعد ما كانت قوية محكمة لا فطور فيها «وَالْمَلَكُ» أعم من الملائكة «عَلى أَرْجائِها» جوانب السماء وأطرافها لأنها مسكنهم ، فإذا كورت لجأوا إلى جوانبها وحوافّها ، ثم يموتون أيضا لدخولهم في عموم قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية 35 من سورة الأنبياء وهي مكررة في البقرة وغيرها «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ» فوق رءوسهم من فوق الملائكة الذين هم على أكتاف السموات «يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» 17 أملاك عظام وهم من المستثنين من الموت كما مر في الآية 68 من سورة الزمر المارة ، «يَوْمَئِذٍ» يوم إذ كان ذلك كلّه ونفخت النفخة الثانية وقام الناس وغيرهم من مدافنهم أحياء «تُعْرَضُونَ» أيها الخلائق على خالقكم ليحاسبكم ويجازبكم «لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» 18 عليه من كل ما وقع منكم سرا أو جهرا ، عمدا أو خطأ ، بقصد أو غير قصد.
ثم تعطى الكتب بالأعمال «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» فيغلب عليه الفرح وينادى بأعلى صوته على رءوس الأشهاد «فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» 19 خذوه فانظروه واقرءوه ، وذلك لأنه بلغ غاية السرور فأراد أن يطلع عليه معارفه وغيرهم ليعلموا أنه كان في الدنيا على الحق ، كما أن من ينجح بالفحص يعلن بالمذياع أو غيره نجاحه ويري شهادته لمن يراه فرحا بها(4/402)
ج 4 ، ص : 403
مع أنها قد لا توصله لشيء ولو أوصلته فإنه وما توصله إليه فان ، فكيف بتلك الشهادة الباقية المخلدة الموصلة إلى دار النعيم التي لمثلها يعمل العاملون وبها يتنافس المتنافسون ؟ ويقول لهم أيضا «إِنِّي ظَنَنْتُ» تيفنت في الدنيا «أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» في الآخرة لأنه كان يعتقد ما جاء به الرسل من البعث والحساب والثواب والعقاب وكان حسن الظن باللّه واللّه عند ظن عبده به
«فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» 21 لأمنه مما كان يخافه وقد أعطي أمنينه «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» 22 مرتفعة مكانا ومكانة «قُطُوفُها» ثمارها التي تقطف منها للأكل «دانِيَةٌ» 23 للمتناول قائما وقاعدا ومضطجعا لا تحيجه لحركه أو آلة ولا لأمر بل بمجرد ما تخطر بباله تصير أمامه وتقول لهم الملائكة «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ» لهذا اليوم «فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» 24 الماضية من أيام الدنيا ، وهذه الآية السادسة التي تدل على أن العمل دخل في دخول الجنة كما ذكرنا في مثلها في الآية 72 من سورة الزخرف والآية 32 من سورة النحل المارتين والآية 43 من سورة الأعراف في ج 1 «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ» بصوت منخفض ملؤه الحزن والأسى والأسف والحرقة والندم والتأوه لسوء ما يرى وخيبة ما يلقى «يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ 25 وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ» 26 كما كنت في الدنيا ، وإذا كان من يسقط بالفحص قد يؤدي به الحال إلى الانتحار لشدة استيائه ويتوارى عن الناس خجلا ، فلا لوم على من يسقط في الآخرة أن يقول ما قال ويقول «يا لَيْتَها» الموتة الأولى «كانَتِ الْقاضِيَةَ» 27 عليه القاطعة لهذه الحياة المشئومة يا ويلتا ويا حسرتا «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ» 28 شيئا مما أنابه من العذاب ، وقد «هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» 29 الذي كنت أحتمي به في الدنيا من قوة وسلطة وحجة وعقل وبقيت ذليلا حقيرا ،
فيقول اللّه تعالى لخزنة جهنم «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ 30 ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ» 31 أحرقوه بها «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً» بذراع يعلمه اللّه وليس مما نعرف من الذراع ويقال لهم «فَاسْلُكُوهُ» 32 بأن تلف على جسده مرات حتى تستغرقه ، فيكون كأنه أدخل فيها ، لأن معنى السلك الإدخال ، قال تعالى (أَنْزَلَ مِنَ(4/403)
ج 4 ، ص : 404
السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)
الآية 22 من سورة الزمر المارة أو أنها تسلك فيه بأن تدخل من حلقه وتخرج من دبره كما يسلك الخيط بالإبرة ، وسبب هذا الإرهاق هو «إِنَّهُ» ذلك الخبيث في حالة الدنيا «كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ» 33 «وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» 34 فلا يحث نفسه ولا أهله ولا غيره على التصدق غلبه في الدنيا ، فعلى المستطيع أن يتصدق ويحث أهله وغيره على التصدق قبل حلول هذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا جاه ولا رياسة قال بعضهم : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلا نخلع النصف الثاني بالإطعام لئلا يقال لي غدا «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ» 35 صديق أو قريب ليشفع له أو ينفعه «وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» 36 غسالة قروح أهل النار أو ما يسيل من صديدهم «لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» 37 كنيرو الخطايا.
وبعد أن أنهى ما يتعلق بأحوال أهل النعمة والنقمة ، أقسم على صحة كتابه وصدق رسوله مبرئا لهما من طعن الكفرة وأضرابهم ، وهدد من يفتري عليه ويكذّب رسله بقوله جلّ قوله «فَلا أُقْسِمُ» ان الأمر واضح لا يحتاج للقسم ، وعليه تكون لا نافية ، وقدمنا ما فيها في أول سورة القيامة ج 1 فراجعها ، «بِما تُبْصِرُونَ» 38 مما في الأرض والسماء «وَما لا تُبْصِرُونَ» 39 من مخلوقات الدنيا والآخرة «إِنَّهُ» أي القرآن العظيم في معانيه ، الجليل في مراميه «لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» 40 هو رسولكم يا أهل مكة ومن حولها ، وقد أضاف القول له مع أنه تعالى هو المتكلم به لأنه هو الذي يتلوه عليهم ويبلغهم إياه ، وما قيل إن المراد بالرسول هنا هو جبريل عليه السلام ينفيه
قوله تعالى «وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ» 41 «وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» 42 لأنهم لم يصموا جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة بل وصموا محمدا بن عبد اللّه بن عبد المطلب بهما ، وهو المبرأ عنهما ووصموا الحضرة الإلهية الجليلة ، راجع الآية 34 من سورة الأنعام المارة ، ثم أكد ذلك القول الذي نسبه لحضرته بقوله «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» 43 لم يختلقه محمد كما تقولون ولم يتعلمه من أحد وليس من أساطير الأولين بل هو وحي من اللّه منزل عليه.
واعلموا أيها الناس أن هذا هو الواقع «وَلَوْ تَقَوَّلَ» محمد أو(4/404)
ج 4 ، ص : 405
افترى أو اختلق من نفسه شيئا ونسبه إلينا وبهت «عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ» 44 كما يقوله الكفار على فرض المحال وحاشا ساحته أن يفعل شيئا من ذلك أو يخطر بباله لأنه مشغول بنا ، ما فيه شيء من دنياكم ، فلا ينطق إلا عنّا ولا يتكلم إلا منّا ، إذ هو معصوم من كل باطل بعصمتنا ، ولو وقع منه شيء ما يخالف إرادتنا «لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ» 45 وأهلكناه كما تفعل الملوك بمن يكذب عليها ، وذلك بأن يؤخذ بيده وتضرب عنقه صبرا ، وهذا على نوعين إذا كان أربد إيقاع القتل من قفاء وهو أهون لئلا يشاهد الفعل أخذه السياف بشماله ، وإذا أريد إيقاع القتل بوجهه وهو صعب عليه أخذه السياف عن يمينه وضرب عنقه ، وهذا التفسير هو المناسب للمقام.
وفسّر بعضهم اليمين بالقوة والقدرة ، أي لسلبناه القوة ، وعليه قول الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
وهو كما ترى «ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» 46 هو نياط القلب وهو عرق غليظ تصادفه شفرة الذابح فإذا قطع مات الإنسان ، وهذا التصوير للإهلاك على أفظع صورة لما فيه من الإذلال والإهانة ، وعند ذلك «فَما مِنْكُمْ» أيها الناس «مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» 47 بيننا وبينه لتمنعونا عن إجراء ذلك فيه إذ لا قدرة لكم ، والمعنى أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم لا يكذب علينا قط لأنه يعلم كيف نفعل بمن يفتري علينا ، ويعلم أننا لا تمكن أحدا أن يبهت علينا «وَإِنَّهُ» ذلك القرآن المصون «لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» 48 من عقاب اللّه وعظة وعبرة لهم لأنهم المنتفعون به «وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ» 49 به كثيرين لا يصغون لسماعه ولا يميلون لاتباعه «وَإِنَّهُ» ذلك القرآن المجيد الذي كذبتم به «لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ» 50 يوم القيامة لأنهم حين يرون ما صار إليه المؤمنون من الثواب والكرامة يندمون على تكذيبهم ، ولات حين مندم
«وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» 51 الذي لا شك فيه ولا شبهة بأنه منزل من لدنا عين اليقين ومحض اليقين.
فيا سيد الرسل لا تلتفت إلى تكذيبهم ، ولا تتأثر مما يصمونك به ، ولا تترك دعوتهم ، وكلما فرغت من تبليغ ما يتلى عليك «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» 52 وداوم على التسبيح(4/405)
ج 4 ، ص : 406
شكرا لما أولاك من النعم وتأهيلك لتلقي وحي ربك الكريم.
قال بعض الصوفية أعلى مراتب العلم حق اليقين كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه ، ودونه عين اليقين كعلمه بالموت عند معاينة ملائكته ، ودونه علم اليقين كعلمه بالموت في سائر أوقاته ، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 95 من سورة الواقعة والآية 203 من سورة الأعراف في ج 1.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
تفسير سورة المعارج
عدد 29 و79 و70
نزلت بمكة بعد الحاقة ، وهي أربع وأربعون آية ، ومئتان وأربع وعشرون كلمة ، وتسعمئة وتسعة وعشرون حرفا.
وتسمى سورة المواقع.
ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» 1 لما خوف حضرة الرسول قومه بعذاب اللّه وعظمه أمامهم إذا هم لم يؤمنوا ويكفوا عما يصمونه به من الشعر والكهانة المشار إليهما في السورة المارة ، ولهذه المناسبة قد نزلت هذه بعدها ، لأن ما بين كل سورة وأخرى لا بد من وجود مناسبة.
مطلب اليوم مقداره خمسين ألف سنة ما هو وما هي :
قال بعضهم لبعض ما هو العذاب الذي يهددنا به ولمن يكون يا ترى ، وهل يمكن الاتقاء منه أم لا ؟ فأنزل اللّه هذه السورة معلنا أنه «لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ» 2 إذا وقع لأنه «مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» 3 المصاعد والمراقي التي تصعد عليها الملائكة إلى السماء ، فلو كان من غيره لأمكن أن يكون له دافع ، أما هو فلا ، كيف وهو الذي «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ» جبريل عليه السلام وخصه بالذكر مع أنه داخل مع الملائكة لشرفه وفضله عليهم أجمع «إِلَيْهِ» جل شأنه على تلك المعارج «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» 4 من سني الدنيا بحيث لو صعد غير الملك من منتهى أسفل الأرض إلى غاية علو تلقي أمر اللّه تعالى لما وصل(4/406)
ج 4 ، ص : 407
إلا بتلك المدة ، أما الملك فإنه يقطعها بيوم زماني بإقدار اللّه تعالى إياه ، قالوا وتحديد هذه المسافة هو أن ثخن الأرض الواحدة خمسمائة عام ، وبين كل أرضين مثلها ، وبين الأرض العليا والسماء كذلك ، وثخن كل سماء وما بينهما كذلك ، وما بين السماء العليا ومقعر الكرسي كذلك ، فيكون المجموع أربعة عشر ألف سنة ، ومن مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة أحد عشر ألف سنة ، فبلغت مدة العروج خمسة وعشرين ألف سنة ، ومثلها في النزول ، فيكون خمسين ألف سنة ، ومما يدل على أن المراد صعود وهبوط ما قدمناه في الآية 5 من سورة السجدة المارة ، وقيل إن المواطن في القيامة خمسون موطنا ، وكل موطن ألف سنة من سني الدنيا ، قال تعالى (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الآية 47 من سورة الحج في ج 3 ، وهذه مظهر من مظاهر (النون) في قوله تعالى (كُنْ فَيَكُونُ) فإنه بحروف الجمل خمسون ، فهذه المواطن كلها بالنسبة إلى اللّه تعالى لحظة واحدة أقل من لفظكم أيها الناس بحرف النون ، وهذا التقدير بالنسبة إلينا ، لأن يوم الآخرة لا نهاية له ، ولا يقدر بزمان ، إذ لا شمس ولا قمر ، وللصوفية فيه أقوال كثيرة وتفصيلات بديعة ضربنا عنها صفحا لطولها وكثرتها ، لأن كلّا منهم رضي اللّه عنهم ذكر مما أودعه اللّه في قلبه المخلّى عن غيره المحلّى به ، وبين ما أفاض اللّه عليه فيه اكتفاء بما أخرجه الإمام أحمد وابن شعبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنهم قال : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ما أطول هذا اليوم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من مكتوبة يصليها في الدنيا.
وما روي عن عبد اللّه بن عمر يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك ويهون حتى يكون كيوم من أيامكم هذه.
فيفهم منه أن طول المدة تكون على الكافرين المعذبين لشدة ما يلاقونه وهول ما يعانون ، ولا بدع بأن يكون طويلا على أناس قصيرا على آخرين ، قال الشاعر في هذا المعنى :
من قصر الليل إذا زرتني أشكو وتشكين من الطول(4/407)
ج 4 ، ص : 408
وقال آخر :
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
الألف فيه للإطلاق والروى ، وإلا فهو مفرد يعود على الليل ، وقول الآخر في هذا أيضا :
ويوم كظل الرمح قصّر طوله دم الزقّ عنا واصطفاق المزاهر
قال تعالى «فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا» 5 لا جزع فيه ، راجع الآية 83 من سورة يوسف المارة «إِنَّهُمْ» كفرة قومك «يَرَوْنَهُ» أي العذاب الذي أو عدتهم به «بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» 6 7 لأنه آتيهم حتما وكل آت قريب لا سيما وأن إنزاله بيدنا لا يمنعنا من صبه عليهم مانع ، وليعلموا أن علامته نزول العذاب الأكبر الذي لا بد من وقوعه ، لأن عذاب الدنيا قد يكون وقد لا يكون لأسباب نعلمها ، أما عذاب الآخرة فيكون «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» 8 مثل عكر الزيت أو الفضة المذابة «وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» 9 الصوف المصبوغ ألوانا كثيرة لأن الجبال ذات ألوان منها الأحمر والأسود والأصفر والأبيض ، فتكون هباء منثورا كالصوف المندوف إذا طيرته الرياح ، إنما شبهها بالصوف لأنها إذا لبست بعضها ببعض بأن خلطت وسيرت أشبهته بألوانه المذكورة وما بينها «وَلا يَسْئَلُ» حينذاك «حَمِيمٌ حَمِيماً» 10 عن حاله وما حل به ، لا لأنهم لا يرى بعضهم بعضا ، ولكن لشدة الهول ، إذ يشتغل كل بنفسه ، ولهذا
قال تعالى «يُبَصَّرُونَهُمْ» يشاهدونهم ويعرفونهم ، ولكن لا يتكلمون معهم ، ولشدة الفزع «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ» 11 زوجته التي لا يمكن أن يفتدي بها في الدنيا إلا أن يطلقها ، أما في الآخرة فإنها تهون عليه وينسى الغيرة والمروءة «وَأَخِيهِ» 12 أيضا لو قدر أن يفدي نفسه به لفداها «وَفَصِيلَتِهِ» عشيرته «الَّتِي تُؤْوِيهِ» 13 بالدنيا مما يخاف ويأوي إليها عند الشدائد لو أمكن لفداها كلها بنفسه ، بل «وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» لو كان في ملكه وأمكنه قبول الفداء بهم «ثُمَّ يُنْجِيهِ» 14 من عذاب اللّه لفعل ، ولكن لا ينجيه شيء(4/408)
ج 4 ، ص : 409
أبدا إلا رحمة اللّه وهي بعيدة منه ، راجع الآية 34 من سورة عبس في ج 1 ، قال تعالى «كَلَّا» لا ينجيه أحد أصلا «إِنَّها» المخصصة لعذاب المجرم هي «لَظى » 15 أحد طبقات جهنم المعدة لمن يثبت عليه الجرم العظيم في الموقف بعد الحساب ويحكم عليه بفصل القضاء بأن يعذب فيها ، ولا يسمى مجرما إلا بعد ذلك ، وهكذا في الدنيا يكون مدعى عليه بمجرد الدعوى عليه ، وعند وجود امارة على اقترافه الجرم يسمى ظنينا ، وعند تواتر الأدلة يسمى متهما ، وعند الثبوت يسمى مجرما ، ثم محكوما.
ومن أوصاف هذه النار أنها «نَزَّاعَةً لِلشَّوى » 16 أطراف الجسد كاليدين والرجلين بمجرد طرحهم فيها ، والنزع الجذب بقوة ، أي أنها مفرقة لأعضاء الإنسان «تَدْعُوا» إليها كل «مَنْ أَدْبَرَ» عن الإيمان «وَتَوَلَّى» 17 عن الحق «وَجَمَعَ» مالا من غير حله «فَأَوْعى » 18 خزنه في الأوعية ولم ينفقه في وجوه البر ولم يؤد حق اللّه منه لعياله.
وقال بعضهم معنى أوعى تعذّب يقول الأعرابي : وهاك اللّه أي عذّبك.
ومن ورع عبد اللّه بن حكيم أنه كان لا يربط كيسه ، فقيل له في ذلك فقال سمعت اللّه يقول جمع فأوعى ، ومتى ما ربطته فقد أوعيته.
«إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» 19 جنسا وجبلة طبع على الهلع الذي فسره اللّه بقوله
«إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» 20 21 وإذا أعطي المال لم ينفق ، وإذا أصابه الفقر لم يصبر ، ثم استثنى اللّه عز وجل من ذلك الجنس نوعا مخصوصا بقوله «إِلَّا الْمُصَلِّينَ» 22 وهذا استثناء اجمع من الواحد الذي فيه معنى الجمع كالإنسان ، ثم وصف المصلين بقوله «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» 23 مواظبون على إقامتها «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ» 24 عندهم فرضوه على أنفسهم بحسب ما تجود به أنفسهم وأريحيتهم وخصصوه «لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» 25 المتعفف عن السؤال الذي يظن به عدم الحاجة «وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» 26 يوم القضاء والجزاء «وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» 27 خائفون وجلون «إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» 28 فلا يقدر أحد مهما كان على درجة عالية في الإخلاص أن يقطع بأمنه من عذاب اللّه ، إذ لا يخلو من التقصير بحقه ، والأعمال الصالحة مهما كثرت(4/409)
ج 4 ، ص : 410
لا توازي نعمة جارحة واحدة من الإنسان «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» 29 صائنون لها عن كل ما حرم اللّه «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ» يشمل الرجال والنساء والعبيد والإماء «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» خاص بالذكور فقط ، إذ لا يحل للنساء إلا الاستفادة من خدمتهم فقط «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» 30 بذلك وإن كثروا من الزوجات والإماء ضمن حدود الشرع
«فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ» من الزوجات والإماء للرجال ومن الأزواج فقط للنساء «فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» 31 المتجاوزن ما أحلّ اللّه لهم إلى ما حرم عليهم ، وقد فصلنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 6 من سورة المؤمنين المارة ، وذكرنا أيضا بأنها ليست بناسخة لآية المتعة المزعومة الواردة في سورة النساء ج 3 فراجعها ، «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» 32 محافظون لا يخونون الأمانة ولا ينقضون العهد ولا يخلفون الوعد ولا يغدرون ولا ينكثون ، راجع الآية 8 من سورة المؤمنين المارة والآية 34 من الإسراء في ج 1 ، «وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ» 33 بها أمام الحكام لإظهار الحقوق بلا ميل ولا ترجيح بين القوي والضعيف والوضيع والشريف ، راجع الآية 32 من سورة الفرقان ج 1 ، وله صلة في الآية 283 من سورة البقرة ج 3 ، «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» 34 على أوقاتها وشروطها وأركانها على أكمل وجه ، راجع الآية 8 من سورة المؤمنين المارة ، ولها صلة في الآية 238 من البقرة في ج 3 أيضا ، «أُولئِكَ» الجامعون لهذه الصفات الكريمة «فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ» 35 عند ربهم ، ويؤذن وصف المصلّين بما ذكر أن الصلاة وحدها ما لم تكن تلك الصفات منضمة إليها لا تكفي للخلاص من اللّه ولا تؤهل صاحبها دخول الجنة بانفرادها ، وهو كذلك واللّه أعلم «فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا» أي شيء جرى لهم ما بالهم «قِبَلَكَ» يا سيد الرسل «مُهْطِعِينَ» 36 مادي أعناقهم نحوك وهم مديمو النظر إليك متطلعون لحهتك «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» 37 جماعات وفرقا محلّقين بأطرافك ، يستهزئون بك وبما أنزل عليك ، نزلت هذه الآية في جماعة من قريش كانوا يحيطون بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم ويسمعون كلامه ولا يتأثرون منه ، ويقولون إن دخل أصحاب محمد الجنة التي يذكرها ويصفها بقوله لندخلنها
قبلهم ، (4/410)
ج 4 ، ص : 411
فرد اللّه عليهم بقوله «أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ» 38 مثل أصحابك «كَلَّا» يا سيد الرسل لا يدخلونها أبدا ماداموا على كفرهم ، لأن أمثالهم ليسوا من أهل الجنة ، إذ لا يدخلها إلا الطاهرون من الشرك والكفر «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» 39 من نطفة قذرة ، وهذه الجملة جارية مجرى المثل تعريضا عما يستقبح ذكره ، لأن النطفة من مصب يتحاشى عن التصريح به ، ولذلك أبهمه تعالى وتنزه.
وهذا من آداب القرآن العظيم الواجب على الناس التأدب بآدابه ، وأن يجتنبوا التصريح في كل ما من شأنه كتمه بل يومئون إليه إيماء ويعرضون تعريضا ، والمعنى أن هؤلاء الكفار يدعون الشرف والفضل على أصحاب محمد ، وهم وإن كانوا جميعا خلقوا من أصل واحد وشيء واحد كما ذكروا ، إلا أن البشر يتفاضل بالأعمال والمعارف ، والجنة لا تكون إلا للصالحين من البشر المخلصين ، لا للأكابر والأغنياء وأهل الأنساب غير المتصفين بالصلاح.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن بشر بن جحاش قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم - وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه - فقال يقول اللّه عز وجل : يا ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق ، وآن أوان الصدقة.
«فَلا» ليس الأمر كذلك «أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» مشرق كل يوم من السنة ومغربها «إِنَّا لَقادِرُونَ» 40 على إهلاكهم جميعا بلحظة واحدة و«عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ» فتخلق خلقا أحسن منهم طاعة وتصديقا كما أهلكنا القرون الأولى واستبدلنا بهم غيرهم وهو أهون علينا «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» 41 ولا عاجزين عن ذلك ولا مغلوبين عليه ولا يفوتنا أحد بذلك «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل «يَخُوضُوا» في أباطيلهم «وَيَلْعَبُوا» في لهوهم «حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 42 وهو «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» القبور «سِراعاً» لإجابة الداعي يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية «كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ» شيء منصوب كالعلم والراية وشبهها «يُوفِضُونَ» 43 يستبقون إليه أيهم يصله قبل كما كانوا يتسابقون إلى أصنامهم في الدنيا ولكنهم(4/411)
ج 4 ، ص : 412
«خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» لما لحقهم من الخوف والفزع والهوان خاضعين «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» وتعشاهم مذلّة وحقار بخلاف حالتهم في الدنيا ، إذ كانوا ضاحكين بهيجين لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم حسابه «ذلِكَ» اليوم الموصوف بما ذكر الذي ظهر لهم عيانا واعترفوا به «الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» 44 به على لسان رسلهم في الدنيا والذي كانوا يكذبون به.
وقد ختمت هذه السورة بمثل ما ختمت به سورة الذاريات فقط.
هذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
تفسير سورة النبأ
عدد 30 - 80 - 78
نزلت بمكة بعد سورة المعارج وهي أربعون آية ، ومئة وثلاث وسبعون كلمة ، وتسعمئة وسبعون حرفا ، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به ، ولا بما ختمت به ، ومثلها في عدد الآي سورة القيامة ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «عَمَّ» عن أي شيء «يَتَساءَلُونَ» 1 أهل مكة وأصلها (عن) الجارة و(ما) الاستفهامية أدغمت في بعضها وقد أعيد الضمير إلى الكفار مع عدم سبق ذكر لهم استغناء بحضورهم حسا ، وقد ذكرنا غير مرة جواز عود الضمير إلى غير مذكور إذا كان مشهورا متعارفا أو معلوما بالقرينة كما هنا ، وذلك أن حضرة الرسول دعاهم إلى التوحيد وحذرهم عاقبة الكفر والشرك وهول الآخرة ، فصاروا يتساءلون بينهم عن يوم الآخرة الذي عظمه لهم أهو واقع أم لا ، وما هو ذلك اليوم المهول ، فأنزل اللّه تعالى هذه السورة وبين تساؤلهم «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» 2 الخبر الجليل «الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» 3 بشأنه وماهيته ، مع أنهم لم يعدّدوا له شيئا لهذا بدأهم بأداة الردع والزجر بقوله «كَلَّا» لا حاجة للاختلاف فيه والسؤال عنه ، لأنهم لم يصدقوا به ، ثم هددهم بقوله «سَيَعْلَمُونَ» 4 ذلك حقا ويرونه بأم أعينهم بما فيه من أهوال وعذاب وكرر الزجر ، فقال «ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ» 5 كنه ما يتساءلون عنه وكيفيته.
وأعلم أن اللّه تعالى بدأ هذه السورة بما يضاهي السورة قبلها ويناسب آخرها ، ولهذا(4/412)
ج 4 ، ص : 413
ذكرهم بشيء من عجائب قدرته وبدائع صنعه على طريق الاستفهام التقريري ليستدلوا به على ذلك فقال «أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً» 6 لتستقروا عليها أيها الناس وتنتفعوا بها «وَالْجِبالَ أَوْتاداً» 7 لها ورواسي لئلا تميد بكم فتقلق راحتكم «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» 8 ذكرا وأنثى لتأنسوا بينكم «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» 9 لاستكمال راحتكم «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» 10 لستركم عن الأنظار بظلمة إذا أردتم هربا أو استخفاء لما لا يجوز الاطلاع عليه حفظا لكرامتكم ، وهذا من المجاز إذ شبه الليل بالغطاء بجامع الستر في كل
«وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» 11 لتبتغوا فيه من فضل ربكم «وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً» 12 محكمات قويات لا تتأثر على مدى الدهور والأعوام لمنافعكم.
وأعلم أن هذه الآية والآيات المبينة في الآية 17 من سورة المؤمنين المارة تدل دلالة صريحة لا تحتمل التأويل على أن السماء بناء ، وأنها سبع واحدة فوق الأخرى ، ألا فليتنبه الجاحدون «وَجَعَلْنا» في الرابعة من هذه السبع «سِراجاً وَهَّاجاً» 13 وقّادا إذ جعل جل شأنه في الشمس حرارة ونورا ، والوهج جامع لهما لإنضاج أثماركم وزروعكم «وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ» الرياح التي تعصر السحاب فتمطره «ماءً ثَجَّاجاً» 14 درّارا بقوة صبّابا «لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا» لكم «وَنَباتاً» 15 لأنعامكم «وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» 16 ملتفة بعضها على بعض لكثافة أشجارها لتتنزهوا فيها وتفكهوا بأثمارها فانظروا هل تنكرون شيئا من هذه وهل يقدر عليها أو على شيء منها ابتداء إلا اللّه ، ومن يقدر على ابتدائه ألا يقدر على إعادته بعد إتلافه ؟ بلى وهو على كل شيء قدير ، والقادر على هذا ألا يقدر على إحياء الموتى ؟ بلى ، إذ بدأ خلقهم ابتداعا على غير مثال ، فإحياؤهم على ما كانوا عليه أهون عليه وله المثل الأعلى ، ولهذا قال تعالى مؤكدا لهم ذلك «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ» الذي تسألون عنه «كانَ مِيقاتاً» 17 لما وعدناكم به من إثابة المحسن وعقاب المسيء جزاء لكل عمل بما يناسبه ، وسيكون هذا اليوم الذي يقع فيه الحساب والثواب والعقاب «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» النفخة الأخيرة «فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» 18 زمرا وجماعات لا بالواحد والاثنين ، ثائرين من مدافنكم ومحل وجودكم «وَفُتِحَتِ السَّماءُ»(4/413)
ج 4 ، ص : 414
في ذلك اليوم «فَكانَتْ أَبْواباً» 19 وطرقا ومخارج وفجاجا بخلاف حالتها اليوم «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» 20 في عين الناظر إذ تقلع من مقارها فتكون هباء منثورا
«إِنَّ جَهَنَّمَ» التي أعددناها للكافرين بنا «كانَتْ مِرْصاداً» 21 للناس وممرا لهم فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار ، وإذ ذاك ترصد من هو من أهلها فتصيده وتوقعه فيها وتترك من هو من أهل الجنة فيعبرها ، فهي كالمكان الذي يرصد الراصد فيه لعدوه ، وقد شبهها اللّه بذلك بجامع الانتظار في كل ، لأن الراصد ينتظر الصيد أو العدو ليقتله ، وجهنم تنتظر أهلها لتحرقهم ، وذلك أن الصراط مضروب على متن جهنم ، وقد جعل اللّه فيه رصدا لكل من بمر به ، فإذا كان من أهل الجنة تركه وشأنه حتى يصل إليها ، وإن كان من أهل النار أمسك به فألقاه فيها ، ولهذا قال تعالى «لِلطَّاغِينَ مَآباً» 22 مثوّى يرجعون إليها رجوع إقامة لا يخرجون منها أبدا لقوله تعالى «لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» 23 سنين كثيرة ، والحقب ثمانون سنة كلما نقد حقب تلاه الآخر ، فلا تتناهى وإن كثرت بل يبقون فيها دائما لقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الآية 20 من سورة السجدة المارة ، فراجعها تعلم الآيات الدالة على تخليد الكفرة ، وأنه ليس لهم مدة مخصوصة «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً» نوما والعرب تسمي النوم بردا وهو لغة هذبل لأنه يبرّد سورة العطش ، قال الشاعر :
فلو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
راجع الآية 99 من سورة المؤمنين المارة تعلم ذلك «وَلا شَراباً» 24 لتخفيف حرارة ما هم فيه ، قال ابن عباس هو الشراب البارد ، وأنشد عليه :
أمانيّ من سعدى حسان كأنما سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
هذا وما قاله مقاتل من أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى فيما يأتي (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قول عاطل لا ينبغي أن يصدر من مثل مقاتل ولعله مدسوس عليه «إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً» 25 الحميم الصفر المذاب والماء الشديد الغليان ، والغسّاق السائل من صديد أهل جهنم وقال ابن عباس وأبو العاليه : الغساق هو الزمهرير الممزّق لشدة برده أحشاء شاربه ، والاستثناء منقطع لأنه من غير جنس الشراب(4/414)
ج 4 ، ص : 415
النافع ، وهذا الجزاء الذي يجازون به «جَزاءً وِفاقاً» 26 لأعمالهم ، وإنما ينالون هذا الجزاء القاصي الذي لا أعظم منه لأنهم يشركون وينكرون البعث أيضا ولا ذنب أعظم من هذين ، ولهذا أشار اللّه عنه بقوله «إِنَّهُمْ كانُوا» في دنياهم «لا يَرْجُونَ حِساباً» 27 على أعمالهم القبيحة «وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» 28 مصدر كذب بلغة اليمن وبلغة غيرهم التكذيب ، وبغير التشديد التكثير على أن هذه الأمور الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد لم تختلف فيها أمة كتابية قطعا ، ومن أنكرها فليس من أهل الكتاب بل هو كافر لأن جميع الرسل بلغت أممها فيها ، واعلم أن القرآن العظيم لا يتصدى لذكر أحدها إلا وأتبعها بذكر الآخرين ، قال تعالى «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» 29 أثبتناه في اللوح المحفوظ فلا سبيل لإنكاره لأنها مدونة فيه وعند الحفظة كما مر في الآية 23 من سورة الإسراء ج 1 ، وعند ما يستغيثون مما يعاينون من الآلام يقال لهم «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» 30 وهذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار ، أجارنا اللّه منها.
ثم طفق يذكر ما للمتقين عنده فقال «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً» 31 ونجاة من العذاب والهوان والخوف بما أسلفوه من تصديقهم الرسل واعترافهم بالتوحيد والبعث وتفرعاتها ، لهذا فإن لهم جزاء أعمالهم هذه «حَدائِقَ وَأَعْناباً» 32 خص الأعناب مع أنها داخلة في الحدائق إشعارا بتفضيلها على غيرها ، لأنها من المدّخرة المغذية ويؤذن بذلك التنكير «وَكَواعِبَ أَتْراباً» 33 لهم أيضا في الجنة ، أي جواري مستويات في السن ، ويقال للبنت كاعب إذا ظهر ثديها وارتفع ارتفاع الكعب ، وهذا في إطلاق الجزء على الكل «وَكَأْساً دِهاقاً» 34 مملوءة مترعة «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً» 35 فلا يكذب بعضهم بعضا ولا يكذب بعضهم على بعض كما هو الحال في شربة خمر الدنيا ، والكذاب يأتي بمعنى الكذب وقد يخفف وعليه قول الأعشى :
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه
وهو شائع بمعنى التكذيب ، راجع الآية 23 من سورة الطور المارة تجد معنى اللغو وما يتعلق به.
واعلم أن أهل الجنة جعلنا اللّه منهم يعطون ذلك العطاء(4/415)
ج 4 ، ص : 416
«جَزاءً مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل على أعمالهم الصالحة فضلا منه «عَطاءً حِساباً» 36 كثيرا كافيا مصدر حسب أقيم مقام الوصف لعطاء ثم أبدل من لفظ ربك «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ» بالكسر صفة للرّب الذي هو بدل من ربك ، وإذا قرىء رب السموات بالرفع يقرأ أيضا بالرفع على أنه خبر له باعتباره مبتدأ والكل جائز «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» 37 بطلب الشفاعة وغيرها ، بل هو إذا شاء يأذن بها «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ» صفّا «وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا» والروح هو جبريل عليه السلام ويطلق على نوع من الملائكة مشرقين مقربين وعلى ملك ما خلق اللّه تعالى بعد العرش أعظم منه وعلى خلق آخر ، واللّه أعلم بمراده به ، ولهذا فإن اليهود سألت الرسول بواسطة قريش عنه ، حتى إذا قال هذا قالوا غيره كما أشرنا إليه في الآية 85 من الإسراء في ج 1 ، وقد أفحمهم بقوله (قل الروح من أمر ربي) فهو صادق على الكل ، راجع الآية 8 من سورة الكهف المارة.
وأعلم أن هؤلاء الملائكة الكرام على ما هم عليه من الإجلال والتعظيم «لا يَتَكَلَّمُونَ» حال اصطفافهم وغيره إجلالا وتعظيما لهيبة ذي الجلال والعظمة «إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» بالكلام منهم ، وكذلك الأنبياء فمن دونهم «وَقالَ صَواباً» 38 في دنياه وعمل بما قال «ذلِكَ» الواضح فيه أحوال أهل النار وأهل الجنة هو «الْيَوْمُ الْحَقُّ» يوم النبأ العظيم الذي يتساءل عنه الكفرة «فَمَنْ شاءَ» أن يأمن من هوله ويفوز بنعيمه «اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً» 39 يأوي إليه منه فلك طرق طاعته وتقرب بإيمانه وتصديقهِ نَّا أَنْذَرْناكُمْ»
أيها الكفّارَذاباً»
مهولا فظيعا وستجدونهَ رِيباً»
ما بينكم وبينه إلا الموت وهو أقرب شيء لكم إذ يأتيكم على غرة ثم تبعثون إلى ربكمَ وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ»
محضرا من خير أو شر مثبتا في صحيفته ومشاهدا بأم عينه ، راجع الآية 30 من سورة آل عمران ج 3 تجد تفصيل هذاَ يَقُولُ الْكافِرُ»
بعد الحساب ومشاهدة العذاب ا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً»
40 لم أخلق في الدنيا ولم أو هذه الأهوال.
ولا يقال هنا وضع الظاهر موضع المضمر ، لأن المرء عام والكافر خاص ، قال عبد اللّه بن عمر : إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ الأديم وحشر الدواب(4/416)
ج 4 ، ص : 417
والبهائم والوحوش وغيرها ، ثم يحصل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء ، فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها ليتخلص من العذاب المعدّ له ، وما هو بنافعه ، ويتمنى أن يعود للدنيا ليعمل صالحا ولا يجاب ، ويتمنى أن يتوب ويعترف بما كذب بالدنيا ولا يرد عليه ، فتلزمه الحسرة وخاصة عند ما يشاهد فوز المؤمنين وما صاروا إليه من النعيم ، ثم يقع اللوم بينهم وبين رؤسائهم وأوثانهم ولا تنفعهم المحاججة والمخاصمة ، فيزجون في جهنم أفواجا أفواجا وهم يتصايحون ولا محيص لهم عنها ، ويستغيثون ولا مجيب ولا سميع إلا الإخساء والإذلال.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وأتباعه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة النازعات
عدد 31 - 71 - 79
وتسمى سورة الطامة والساهرة.
نزلت بمكة بعد سورة النبأ ، وهي ست وأربعون آية ، ومئة وسبع وتسعون كلمة ، وسبعمئة وثلاثة وخمسون حرما ، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به ، ولا مختومة بما ختمت به ، ولا مثلها في عدد الآي ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى : «وَالنَّازِعاتِ» الملائكة التي تنزع أرواح الكفرة نزعا شديدا بعنف وإهانة وقسوة كما تجر الشوكة من الصوف زيادة في تعذيبهم «غَرْقاً» 1 هو نزع من للنزع مبالغ فيه والإعراق في النزع التوغل فيه إلى بلوغ أقصى درجاته ، وهو مفعول لاسم الفاعل قبله ، أو مصدر من معناه كجلست قعودا ، وقمت وقوفا ، وشرط المفعول موجود هنا وهو اتفاق المصدر مع عامله لأنه بمعنى ما قبله ، إلّا أنه ليس من لفظه ، يقال أغرق النازع في القوس إذا اجتذبه وبلغ غاية المدّ فيه حتى انتهى إلى النصل ، «وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً» 2 الملائكة التي تشط أرواح المؤمنين فتسلتها سلّا كما تسحب الشعرة من الحليب والدلو من الماء بلين ولطف إكراما وتعظيما لشأنهم «وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» 3 الملائكة(4/417)
ج 4 ، ص : 418
التي تسبح في مضيّهم تنفيذ أوامر ربهم مسرعين متسابقين في الهواء والفضاء كما تسبح الحيتان بالماء «فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» 4 لقبض أرواح المؤمنين وإيصالها إلى الجنة بالاحترام والتكريم ، واستخراج أرواح الكافرين وزجها في النار امتثالا لأمر ربهم وتعظيما لجلاله.
هذا ويوجد لهذه الآية معان كثيرة غير ما ذكرنا لا حاجة لإثباتها اكتفاء بما نقلناه «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» 5 من أمور العباد مما يعود لدينهم ودنياهم كما رسمه اللّه لهم ، والوقف على كلمة أمرا لازم ، لأن وصله بما بعده يصيّر كلمة «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ» 6 بسبب نفخ الملك بالصور النفخة الأولى إذ يضطرب لها كل شيء ويموت فيها جميع الخلق عدا من استثنى اللّه.
ظرفا (للمدبرات) مع أنه قد انقضى التدبير ، تدبر «تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» 7 النفخة الثانية فيحيا بها كل شيء مات من أول الدنيا لآخرها من قبل النفخة الأولى وفيها وما بعدها.
وقد أقسم اللّه تعالى في هؤلاء الملائكة الكرام تبجيلا لشأنهم ، وله أن يقسم بمن وما شاء من خلقه ، أو لكثرة منافعهم بالنسبة لنا.
وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن بعد الموت أيها الناس ، وهو جواب لمنكري البعث من الكفار.
وأعلم أن الخلائق تنقسم في ذلك اليوم المهول قسمين وقد بينهما بقوله جل قوله «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» 8 خائفة قلقة وجلة «أَبْصارُها خاشِعَةٌ» 9 ذليلة حقيرة خاضعة «يَقُولُونَ» أصحاب هذه القلوب والأبصار في الدنيا إذا قيل لهم أنكم مبعوثون بعد الموت «أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ» 10 أي الحالة الأولى كما كنا أول مرة أحياء إنكارا وتكذيبا وسخرية ، يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله :
أحافرة على صلع وشيب معاذ اللّه من سفه وعار
ثم حكى اللّه أقوالهم في الدنيا بقوله عز قوله «أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» 11 زيادة في الإنكار والجحود والاستهزاء واستعظاما ، أي كيف نردّ للحياة بعد أن آل أمرنا إلى ذلك «قالُوا» مستكبرين أمر إعادتهم «تِلْكَ إِذاً» إن صحت الرجعة فهي «كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» 12 نغين فيها لتكذيبنا إياها.
قال تعالى «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ» 13 نفخة لا تكرار فيها للإماتة وواحدة للإحياء(4/418)
ج 4 ، ص : 419
«فَإِذا هُمْ» منكرو البعث مجموعون «بِالسَّاهِرَةِ» 14 على وجه الأرض ظاهرين للعيان لا يسترهم شيء ، وسميت ساهرة لأن نوم الحيوان وسهره عليها ، قال أمية ابن الصلت :
وفيها لحم ساهرة وبحر وما فاهوا به أبدا مقيم
وقال في الكشاف هي الأرض البيضاء المستوية الملساء لأن السراب يجري فيها أخذا من قولهم عين ساهرة أي جارية بالماء ، قال الأشعث بن قيس :
وساهرة يضحى السراب مجللا لإقطارها قد جبتها متلثما
قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى » 15 مع قومه كيف كان يتحمل مشاقهم ، أما يجدر بك يا سيد الرسل أن تكون مثله فتحمل أذى قومك وإهانتهم ، ذكّره اللّه تعالى به تسلية له ، ثم شرع يذكر بعض ما خوله إياه وما لقي من المرسل إليهم فقال اذكر لقومك شيئا عنه «إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» 16 اسم لواد عند الطور وقال له «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى » 17 على قومه وتجاوز حدودنا «فَقُلْ» له «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» 18 بحذف إحدى التاءين أي تتزكى من كفرك وسوء صنيعك إلى قومك «وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى » 19 عقابه جعل الخشية غاية للهداية ، لأنها ملاك الأمر ، ولأن من خشي اللّه يؤمل فيه كل خير ، ومن أمن منه اجترأ على كل شر ، ومن هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة : من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
أي استراح من وعثاء السفر في دنياه.
فهنيئا لمن يبلغ منزله في الآخرة على رضى من ربه فيستريح الراحة الدائمة.
وفي هذا الاستفهام ما لا يخفى من اللطف في الدعوة والاستنزال عن العتو ، وإنما قدم التزكية على الهداية لأنها تخلية وهي مقدمة على التحلية ، وهذه الآية على حد قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) الآية 45 من سورة طه في ج 1.
قال تعالى «فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى » 20 وهي العصا يوم فضحت سحر السحرة وأجبرتهم على الإيمان باللّه وبموسى
«فَكَذَّبَ» بها فرعون وملؤه لغاية فسقهم في العناد ولم يؤمنوا كما أرينا قومك آية انشقاق القمر فكذبوها ورموك بالسحر «وَعَصى » 21(4/419)
ج 4 ، ص : 420
ربه وموسى كما عصى قومك ربهم وكذبوك ، أي داوموا على عصيانهم ولم تؤثر بهم الآية العظيمة «ثُمَّ أَدْبَرَ» عنه وعن الإيمان به وذهب «يَسْعى » 22 للإفساد في الأرض مثل قومك «فَحَشَرَ» جمع جنوده وقومه «فَنادى فَقالَ» 23 فرعون في قومه بلا خجل ولا حياء «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى » 24 والأصنام كلها أرباب لكم من دوني وكذلك الكواكب وأنا رب الجميع ، قاتله اللّه ، وهذا معنى العلو الذي أراده أمام قومه لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ، كما تقدم في القصة المارة في الآية 103 من سورة الأعراف ج 1 وغيرها «فَأَخَذَهُ اللَّهُ» على الصورة المبينة في الآية 63 من الشعراء في ج 1 ، وهذا الأخذ العظيم كان «نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى » 25 أي عاقبتهما بأن أغرقه اللّه وقومه في الدنيا وأحرقهم في الآخرة ، وفعلته الأولى هي تكذيبه موسى وإصراره على الكفر ، والثانية قوله (ما علمت لكم من إله غيري) وقوله (أنا ربكم الأعلى) فأذاقه اللّه عذاب الدنيا بالإغراق وسيذيقه عذاب الآخرة بالإحراق على الصورة المبينة في الآية 98 من سورة هود المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي فعل بفرعون وقومه «لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى » 26 اللّه ويتقيه ومن لا ، فلو أتيته بملء الدنا عظات وعبرا فلا تؤثر فيه لأن القلوب إذا قست كانت أشد من الحجارة ، كما سيأتي في الآية 75 من البقرة في ج 3 ، وذلك لأن فرعون وقومه أرادوا بكل قواهم أن يدبروا أمرا ليتخلصوا من موسى فلم يقدروا فأهلكهم اللّه ، وإن قومك يا محمد يريدون باجتماعاتهم ومذاكراتهم التخلص منك ولن يقدروا ، وإذا أصروا فيكون مصيرهم مثل مصير قوم فرعون ، وقل لهم يا سيد الرسل «أَ أَنْتُمْ» أيها الكفار المصرون على الإنكار «أَشَدُّ خَلْقاً» إذا أردنا إحياءكم بعد الموت «أَمِ السَّماءُ بَناها» 27 على ما ترون وقد «رَفَعَ سَمْكَها» سقفها إلى سمت العلو بغير عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية
10 من سورة لقمان «فَسَوَّاها» 28 جعلها مستوية لا شقوق فيها ولا فطور ولا تضلع فيها ، راجع الآية 12 من سورة النبأ المارة «وَأَغْطَشَ لَيْلَها» أظلمه «وَأَخْرَجَ ضُحاها» 29 أبرز نهارها وعبر بالضحى عن النهار لأنه أكمل أجزائه في النور والضوء ، وأضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يجريان فيها ، ولأن الليل(4/420)
ج 4 ، ص : 421
ظلمتها والنهار سراجها «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ» بعد خلق السماء وما فيها «دَحاها» 30 بسطها ومدها ، قال أمية بن الصلت :
دحوت البلاد فسويتها وأنت على طيها قادر
وله من أمثال هذا كثير ومنه قوله :
وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطّانها حتى التنادي
ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم : آمن شعر أمية وكفر قلبه.
وقد ذكرنا في سورة السجدة المارة بأن لا تنافي بين هذه الآية الدالة على خلق الأرض قبل السماء لأنها تشير إلى أن اللّه تعالى خلق الأرض أولا بلا دحو ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض كما هو موضح هناك فراجعه.
ومن جملة دحوها أن «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها» إذ فجرها بالعيون والأنهار.
مطلب المياه كلها من الأرض وذم الهوى وانقسام الخلق إلى قسمين والسؤال عن الساعة :
تدل هذه الآية المارة على أن جميع المياه من الأرض يؤيدها الآية 44 من سورة هود المارة ، وتفهم أن ما ينزل من المطر هو ما يتبخر من الأرض أي من مياهها ورطوبتها وما يلتقمه السحاب من الأنهار والأبحر.
وكانت العرب تعرف هذا لما ورد عنهم :
شربن بماء البحر ثم ترفعت منى لجج خضر لهن أجيج
«وَمَرْعاها» 31 نباتها مما يرعاه الحيوان ويأكله الإنسان ، ومن جملة دحوها أيضا «وَالْجِبالَ أَرْساها» 32 أثبتها في الأرض وثقلها فيها لئلا تتحرك فتخلّ بمنفعة البشر ، قال زيد بن عمرو بن نفيل :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا
فانظروا أيها الكفرة هل خلق هذه الأشياء الجسيمة أعظم وأصعب أم إعادتكم بعد الموت ، وليس عند اللّه صعب وأصعب ، ولا هين وأهون ، كما سيأتي في الآية 27 من سورة الروم الآتية ، لأن إيجاد الأشياء كلها وإعدامها مستو عنده إذ تكون بين الكاف والنون.
وإذا علمتم هذا فاعلموا أيضا أن هذه الأشياء كلها مما عدده هنا(4/421)
ج 4 ، ص : 422
وما لم يعدد خلقها «مَتاعاً لَكُمْ» أيها الناس تتمتعون بها في حياتكم «وَلِأَنْعامِكُمْ» 33 متاعا أيضا لأنها خلقت لمنافعكم.
ولما ذكر اللّه تعالى لمعة من بدء الخلق المشعرة عن توحيده بعد ذكر النبوة ، أعقبها بذكر المعاد ، لأنه أحد الأصول الثلاثة التي لا ينفك ذكر بعضها عن الآخر ، كما أشرنا إليه في الآية 28 من سورة النبأ المارة ، فقال جل قوله «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى » 34 والداهية العظمى وهي القيامة التي تطم كل شيء لشدة هولها وكل شيء دونها «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» فيها «ما سَعى » 35 في دنياه وكسبه من خير أو شر لا ينسى منه شيئا «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى » 36 فلا تخفى على أحد وهناك ينقسم الخلق إلى قسمين «فَأَمَّا مَنْ طَغى » 37 على الناس في دنياه وبغى على حقوقهم «وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا» 38 على الآخرة ، وهذا هو القسم الأول المشار إليه في الآية 7 المارة «فَإِنَّ الْجَحِيمَ» المذكورة ، وأظهرت بدل اضمارها لسبق ذكرها تهويلا لشأنها وتخويفا لأهلها.
واعلم أيها القارئ أنه لا يأتي الاسم الظاهر مقام المضمر إلا لأمر ذي بال كما هنا ، ومثله في القرآن كثير «هِيَ الْمَأْوى » 39 لهم لا ملجأ لهم غيرها.
ثم ذكر القسم الثاني بقوله عز قوله «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ» بين يديه في موقف تلك الطامة وعلم أنه محاسب على ما يأتي ويذر في دنياه «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى » 40 فزجرها وكفّها عن الشهوات المحرمة خوفا من اللّه تعالى
«فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى » 41 لهم يمرحون فيها كيفما شاءوا وأرادوا ، وهذه الآيات الثلاث بمقابل الآيات الثلاث قبلها.
واعلم أن الخوف مقدم على العلم ، قال اللّه تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 38 من سورة فاطر في ج 1 ، ولما كان الخوف من اللّه سببا لدفع الهوى وهو علّة فيه ، قدّمه عليه ، فمن أعرض عن هوى نفسه وخالقها في مقامه هذا وعرف أنه يعاقب على الإقدام عليها ويثاب عن الإعراض عنها باعتقاد جازم كان مصيره الجنة عند ربه الذي خافه وترك شهوته من أجله ، و(من) في الآيتين عامة في كل من يتصف بهما.
والهوى مطلق الميل إلى الشهوات فهو يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية ، وفي الأخرى إلى الهاوية ، فالسعيد من ضبط نفسه بالصبر(4/422)
ج 4 ، ص : 423
ووطنها على مخالفته ، ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها الفانية ، ولم يغتر بزخارفها وزينتها البالية ، علما بوخامة عاقبتها ، قال بعض الحكماء : إذا أردت الصواب فانظر هواك وخالفه.
وقال الفضيل : أفضل الأعمال مخالفة الهوى.
قال أبو عمران اليرتلي :
فخالف هواها واعصها إن من يطع هوى نفسه تنزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في مصرع أي مصرع
وقال الأبوصيري :
فاصرف هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يصم أو يصم
وراعها وهي في الأعمال سائمة وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كم حسنت لذة للمرء قاتلة من حيث لم يدر أن السم في الدمم
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإنّ هما محضاك النصح فاتهم
هذا والسالم من موافقة هواه قليل ، اللهم اجعلنا من القليل.
قال : سهل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين ، فطوبى لمن سلم منه.
وقال عليه الصلاة والسلام ثلاث مهلكات : هوى مطاع ، وشحّ متبع ، وإعجاب المرء في نفسه.
واعلم أن من اتبع هواه في واحدة جرته إلى وحدات ، ومن المعلوم عدم إدراك كل ما يتمناه الإنسان مهما بلغ في الحياة ، وعليه فالترك بالكلية أولى وأحسن قال :
ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال الآخر :
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا لعينك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وقال غيره :
جمع الهواء مع الهوى في مهجتي فتكاملت في أضلعي ناران
فقصرت بالممدود عن نيل المنى ومددت في المقصور في أكفاني
فالعاقل من يتباعد عن قليله فإنه يجره لكثيره ، وهو لا يهدي إلا إلى الشر ، وليس لمن تبعه عاقبة غير الهلاك ، ويكفي في ذمه أنه ينشأ من شهوة النفس الخبيثة وطاعة الشيطان اللعين ، قال ابن عباس : إن هذه الآيات نزلت في أبي عزير بن عمير(4/423)
ج 4 ، ص : 424
وأخيه مصعب ، كان الأول طاغيا مؤثرا الدنيا على الآخرة ، والثاني خائفا مقام ربه ناهيا نفسه عن هواها.
وقد وقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق عنه الناس حتى نفدت المشاقص أي السهام في جوفه رضي اللّه عنه ، فلما رآه صلّى اللّه عليه وسلم متشطحا في دمه قال عند اللّه احتسبك ، وقال لأصحابه لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب.
ولما أسر أخوه أبو عزيز لم يشدد وثاقه إكراما له ، وأخبر بذلك قال ما هو لي بأخ شدوا أسيركم ، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا.
وعنه أيضا أنها نزلت في مصعب المذكور المعفور له المرضي عنه وفي أبي جهل المغضوب عليه المنفور منه ، وقيل في النضر وابنه.
والآيات عامات كما ذكرنا فيدخل فيها هؤلاء وغيرهم ، إذ لا يوجد ما يقيدها بأحد ، وذكرنا غير مرة أن نزول الآية لا يقصر معناها فيمن نزلت عليه أو فيه بل تعمه وغيره إذا لم يوجد مخصص.
قال تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها» 42 متى قيامها وإتيانها يا سيد الرسل لأنهم لا يعلمون «فِيمَ أَنْتَ» في أي شيء أنت تنطلع إليها أتريد أن تعلم وقتها ، كلا ، فإنك وجميع الخلق بعيد «مِنْ ذِكْراها» 43 وبيان وقتها لأنك لست بالمبين زمنها لهم ولا بالعارف وقت قيامها ، فقل لهم أنا لا أعلم عنها شيئا أبدا وقل «إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» 44 منتهى علمها عند اللّه فما هذا السؤال عنها وأنت من علاماتها لأنك خاتم الرسل ، فوجودك دلالة على قربها ، فليستعدوا لها «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» 45 ولهذا بعثت لا لبيان وقتها.
واعلم أن هؤلاء الكفرة الملحّين بالسؤال عنها «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا» في دنياهم وقبورهم «إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» 46 أي بقدر زمن ضحى من يومها ، لأن العشي لا ضحى له ، وإنما الضحى لليوم ، أي كان ما مرّ عليهم في حياتهم وبرزخهم بقدر هذا الجزء بالنسبة لأهوال ذلك اليوم وطوله.
أخرج البزاز وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم - وصححه - عن عائشة قالت : ما زال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل اللّه تعالى عليه (فيم أنت من ذكراها) فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها.
وأخرج النسائي عن طارق بن شهاب قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت (فيم أنت من ذكراها)(4/424)
ج 4 ، ص : 425
فكفّ عنها وأنت خبير بأن السيدة عائشه رضى اللّه عنها حين نزول هذه الآية لم تكن أهلا لتحمل الحديث وليس لها علم بأن الرسول يسأل عن الساعة أو لا يسأل وبعد أن تزوجت به صارت ملازمة له في أكثر أوقاته حتى حال نزول الوحي ، وكان يكثر من ذكر الساعة بحضورها صباح مساء ليل نهار ، فتسمع الآيات التي نزلت بالساعة منه وتحفظها ، وصار الناس ينقلون عنها ما تذكره لهم مما نزل في الساعة وغيرها قبل زواجها وبعده ، وتجاوب من يسألها عن أقوال حضرة الرسول ، ويدونون ما يأخذونه عنها ، وعليه فلا محل للقول بأن هكذا أحاديث تكلم حضرة الرسول بها حال صغرها ولا يجوز الأخذ بها لأنها فكانت على الوجه الذي ذكرناه ، وهي الصادقة فيما تقول وتذكر ، ولا يتصور أن تقول شيئا من نفسها وتسنده لحضرة الرسول ، بل كل ما جاء عنها وأسندته إلى حضرة الرسول قد سمعته منه ونقلته كما سمعته سواء أكانت تلك الأحاديث قبل اقترانها بحضرة الرسول أو بعده ، فلا يشك بصحتها ، وهي الأمينة بنت الصديق ، وتعلم عقوبة من يسند لحضرة الرسول ما لم يقله.
هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيرا ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الانفطار
عدد 32 - 82
نزلت بمكة بعد سورة النازعات ، وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة ، وثلاثمائة وعشرون حرفا.
وتسمى سورة المنفطرة وانفطرت.
ومثلها في عدد الآي سورة الأعلى ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، ويوجد سور مبدوءة بما بدنت به ، ألمعنا إليها قبل ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت بها من اللفظة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى : «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» 1 انشقت ، قال ابن عبّاس : ما كنت أعرف معنى فاطر حتى اختلف اعرابي مع آخر في بئر فقال أنا فطرته ، أي شققته وحفرته «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» 2 تساقطت من مواقعها «وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» 3 على بعضها وزالت البرازخ من(4/425)
ج 4 ، ص : 426
بينها فاختلطت «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» 4 بعث من فيها وقيل أصلها بعثت وأثيرت فهي منحوتة مثل سبحل وحمدل وحوقل ودمعز وصلعم إلى غير ذلك مما جاء في باب النحت ، وما قاله أبو حيان بأن الراء ليست من أحرف الزيادة فلا تدخل في باب النحت فهو سهو منه لأن النحت غير التركيب ، وعليه يكون المعنى نبشت وأخرج أهلها ، وجواب إذا «عَلِمَتْ نَفْسٌ» برة كانت أو فاجرة «ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» 5 في الدنيا من عمل فإنها تعلمه حينذاك صالحا أو سيئا إذ تنشر الصحف بعد البعث في المحشر فيقف كل على عمله ، ثم يقال لأهل تلك النفوس بعد أن يستقر بهم الحال في الموقف «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» 6 حتى تنكر هذا اليوم العظيم بالدنيا وتسوف بالتوبة ولا ترجع إلى ربك الذي رباك ولا تسلك طريق هداك وإلى متى :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وإلى متى تترك الحق وتتمادى في الباطل ، وتعرض عن الرحمن ، وتلازم الأوثان ، أي شيء خدعك حتى ضيعت ربك مع ترالي نعمه عليك ، أغرك جهلك ، أم غشك حمقك ، أو أزاغك شيطانك عن طاعة الإله الواحد ، الذي لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد ؟ وهذه الآية عامة في كل كافر ، وما قيل إنها نزلت في كلدة بن خلف إذ ضرب حضرة الرسول ولم يعاقبه عليها لم يثبت ، ولم يوجد ما يعضده.
واعلم أن التعرض في هذه الآية لكرمه دون قهره وانتقامه وبقية صفاته المانعة من الاغترار إيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره حسبما يغويه شيطانه ويقول له افعل ما تشاء فإن ربك كريم كما تفضل عليك بالدنيا يتفضل عليك بالآخرة ، كقول بعض شياطين الإنس هداهم اللّه :
تكثّر ما استطعت من الخطايا ستلقى في غد ربا غفورا
تعضّ ندامة كفيك مما تركت مخافة الذنب السرورا
وقول أبي نواس :
خلياني والمعاصي واتركا ذكر القصاص
وعلى اللّه وإن أسرفت في الذنب خلاصي(4/426)
ج 4 ، ص : 427
وهذا قياس عقيم مشتق من قياس إبليس المار في الآية 12 من سورة الأعراف المارة في ج 1 ، وأماني باطلة توجب الإقبال على الذنوب والإعراض عن الثواب ، وإذا كان يعتقد يقينا بأن اللّه غفور رحيم ويقدم على معصيته فلم لا يقول اللّه رزاق كريم ويترك العمل ؟ ولكن اعتقاده ذلك باطل من تسويل إبليس.
هذا وقد ألمعنا قبل إلى أن هذه الآية من باب تلقين الحجة للعبد حتى يقول غرني كرمك يا رب تفطينا للجواب الذي لقنه وتعريضا لألطافه عليه كالتعريض بذكر الرحمن في بعض الآيات دون غيره من الصفات ، وقد يكون هذا لمن يريد اللّه رحمته من المؤمنين العاصين ولهم أعمال صالحة ، لا للكافرين والمشركين ، وقد وصف جل شأنه بقوله «الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ» 7 وجعلك متناسب الخلق ماشيا على قدميك آكلا بيدك «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» 8 من الصور التي اقتضتها مشيئته من الحسن والكمال والشبه بأبويك أو أحدهما أو غيرهما من جنسك في الطول والقصر والبياض والحمار «كَلَّا» لا تغتروا بكرم اللّه فتعبدوا غيره أو تشركوا به شيئا أو تجعلوه ذريعة لارتكاب المعاصي ولا تغفلوا عمن أنشأكم من العدم إلى الوجود وغمركم بنعمه «بَلْ تُكَذِّبُونَ» باعتقادكم هذا «بِالدِّينِ» 9 الذي جاءكم به رسولكم ، دين أبيكم إبراهيم ، دين الاعتقاد بالإله الواحد والرسل والبعث والجزاء عقابا وثوابا ، وكيف تكذبون به «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» 10 مراقبين يدونون كل ما يقع منكم
«كِراماً كاتِبِينَ» 11 لأقوالكم وأفعالكم وإثباتها في صحفكم المحفوظة لديهم بأمرنا «يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» 12 بسركم وجهركم لا يخفى عليه شيء من أحوالكم.
مطلب في الحفظة الكرام وعددهم ، وبحث في الشفاعة وسلمان بن عبد اللّه :
كان الفضيل رحمه اللّه إذا قرأ هذه الآية قال ما أشدها على الغافلين.
وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء ، وإعلام بأنه عند اللّه من جلائل الأمور ، إذ استعمل عليه هؤلاء الكرام عنده الذين لا يعصونه طرفة عين.
وهؤلاء غير الحفظة المذكورين في الآية 13 من سورة الرعد الآتية في ج 3 لأن مع كل إنسان عددا من الملائكة ، روي عن عثمان أنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كم من ملك على الإنسان(4/427)
ج 4 ، ص : 428
فذكر عليه الصلاة والسلام عشرين ملكا.
قال المهدوي في الفيصل إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك.
وأخرج البزار عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه ينهاكم عن التعري ، فاستحيوا من ملائكة اللّه تعالى الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات : الغائط والجنابة والغسل.
ولا يمنع هذا من كتبها ما يصدر عنه فيها ويجعل لها امارة على الاعتقاد القلبي ونحوه ، ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان مؤمنا ، ويلعنانه إن كان كافرا إلى يوم القيامة.
راجع الآية 18 من سورة ق في ج 1 ، وله صلة في سورة الرعد ج 3 عند قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ ...
يَحْفَظُونَهُ) الآية.
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» 13 بالغ وسرور جليل في ذلك اليوم «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» 14 عظيم فظيع خارج عن عقل أهل الدنيا معرفته أجارتا اللّه منه ، والمراد بالفجار هنا الكفرة المتوغلين في الكفر لا العصاة إذ تطلق كلمة فجر على الكاذب والزاني والكافر «يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ» 15 حينما يدانون بأعمالهم القبيحة بعد الحساب يوم القيامة «وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» 16 بل محضرون ومطروحون فيها لا يفارقونها طرفة عين ، فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار ، وهذه كقوله تعالى (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) وقوله تعالى (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الآيتين 48 من سورة الحجر المارة و167 من البقرة في ج 3 ، ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» 17 أيها الإنسان الغافل «ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» 18 استفهام تعجب جوابه هو يوم ترتعد فيه الفرائص وتشقق لهوله القلوب ، وإن ما فية لا تجابهه قوى البشر ، وهذا الخطاب عام إلى كل من يتأتى منه الدّراية ، وفي التكرير زيادة التفخيم والتعجب.
وما قيل إن الخطاب خاص بالكافر أو خاص بحضرة الرسول لم يثبت فيه شيء ، وإن بين هذين القولين وبين الآية المفسرة من البعد ما لا يخفى.
ثم وصف ذلك ببعض صفاته فقال «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً» فيه من المنافع مؤمنة كانت أو كافرة ، وتخصيصها بالكافرة على قول بعض المفسرين لا مبرر له أيضا ، (4/428)
ج 4 ، ص : 429
لأن النفس المؤمنة بما فيها نفوس الأنبياء فمن دونهم لا تملك شيئا فيه إلا بتمليك اللّه تعالى إياها.
راجع الآية 28 من سورة الأنبياء المارة ، «وَالْأَمْرُ» يكون كله «يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم كما في غيره «لِلَّهِ» 19 وحده اللهم عاملنا فيه بما أنت أهله بلطفك وأنت المنفرد فيه ، فلا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك.
قال ابن عباس كل ما في القرآن (ما أدرك) فقد أدراه وكل ما فيه (وما يدريك) فقد طوى عنه.
وقال سليمان بن عبد الملك وهو من خير ملوك بني أمية بعد عمر ابن عبد العزيز لأنه افتتح خلافته بعمارة البيت المقدس والجامع الأموي بدمشق ، إذ كان والده بدأ بهما وتوفي قبل إكمالهما ، كما أن داود عليه السلام بدأ بعمارة الأول وتوفي قبل إكماله ، فأكمله ابنه سليمان صلوات اللّه عليهما وسلامه ، وختمها باستخلاف عمر بن عبد العزيز الذي كان في أعماله وأقواله يعد من الخلفاء الراشدين ، لأبي حازم المزني : ليت شعري مالنا عند اللّه ؟ قال يا أمير المؤمنين اعرض عملك على كتاب اللّه تعالى فتعلم مالك عنده ، قال أين أجد ذلك في كتابه جل شأنه ؟ قال عند قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ) الآية المارة ، قال وأين رحمة اللّه إذا ، قال هي قريب من المحسنين ، قال صدقت.
وليس في هذه الآية ما يدل على نفي الشفاعة كما زعمه بعضهم ، لأن كونها لا تكون إلا بأمر اللّه دليل على وجودها ، ولو أنها يراد بها النفي لما قيدها بالأمر ولم يقيدها به إلا لأنه يريد وجودها ، وتفويض من ارتضاه لها من أنبيائه وأوليائه ، وحاشاه من منعها ، كيف وهو أرحم الراحمين ، وقد أمر عباده بأن يشفع بعضهم لبعض وما كان أمر الرسول قط إلا من أمر اللّه لأنه لا ينطق عن هوى ، راجع الآية 255 من البقرة في ج 3 ، والآية 14 من من النساء في ج 3 في بحث الشفاعة.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الانشقاق
عدد 33 - 83 و84
نزلت بمكة بعد سورة الانفطار ، وهي خمس وعشرون آية ، ومئة وسبع كلمات ، وأربعمائة وثلاثون حرفا ، وتسمى سورة انشقت.
لا يوجد مثلها في عدد الآي ، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.(4/429)
ج 4 ، ص : 430
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى : «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ 1 وَأَذِنَتْ» سمعت وأجابت وأذعنت وخضعت «لِرَبِّها» في ذلك الانشقاق ، وهو مثل انفطرت في السورة المارة من حيث المعنى.
وأعلم أن انشقاق السماء وإن ثبت في هذه الآية نصا إلا أن موضعه وكيفيته غير معلومة على القطع ، وقد عثرنا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم اللّه وجهه أنها تنشق من المجرّة ، وقد جاء بالآثار أن المجرة باب السماء ، وقال بعضهم إنها وسط السماء ، وقال أهل الهيئة إنها نجوم صغار متقاربة بعضها من بعض ، وقولهم هذا لا ينافي كونها باب السماء ووسطه ، وان مصعد الملائكة ومهبطهم منها واللّه أعلم.
وما قيل إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم حين أرسل معاذا إلى اليمن وقال له إنهم سائلوك عن المجرة فقل لهم إنها لعاب حية تحت العرش لا يصح ، وليس هو من متعلقات الدين حتى يوصيه به.
وأذن بمعنى سمع وارد في كلام العرب ، قال قغيد :
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقال الآخر :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
أي سمعوا وصاروا كلهم آذانا وسماعها انقيادها لأمر اللّه بما يراد منها.
«وَحُقَّتْ» 2 أي وحق لها إطاعة ربها ، وليس لها أن تأباه أو تمتنع عنه لأنها مخلوقة له ، ولا على المخلوق إلا إطاعة خالقه «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» 3 بسطت وسوّيت باندكاك جبالها وبنائها في أوديتها وبحورها «وَأَلْقَتْ ما فِيها» من الأموات المكفوتين بها «وَتَخَلَّتْ» 4 عن كل ما فيها «وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» 5 وحق لها أن تنقاد لأمره في ذلك كله لأنه هو الذي صنعها وأودع مكوناته فيها.
أخرج أبو القاسم الجيلي في الديباج عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنا أول من تنشق عنه الأرض ، فأجلس جالسا في قبري ، وان الأرض تحرك بي ، فقلت لها مالك ؟ فقالت إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت ، إذ لا شيء فيّ وذلك قوله تعالى (وَأَلْقَتْ) الآية.
ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى لما يتعلق بالسماء ، وهذه(4/430)
ج 4 ، ص : 431
بالأرض ، وتكرير إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة ، وجواب إذا محذوف تقديره وقع من الهول ما تقصر عنه عبارة الفقهاء الفصحاء ويكل عنه لسان العلماء البلغاء.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» المراد به الجنس فيدخل فيه كل إنسان «إِنَّكَ كادِحٌ» جاهد وساع مدافع في عملك وسائر فيه «إِلى رَبِّكَ كَدْحاً» عظيما ، الكدح عمل الإنسان جهده في الخير والشر وهو مفعول لكادح «فَمُلاقِيهِ» 6 أي مواجه ربك يوم الجزاء فتقف أمامه فيجازيك على عملك الخير بأحسن منه والشر بمثله «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» 7 في ذلك اليوم الذي وعدكم به الرسل «فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» 8 وينال الثواب المترتب عليه «وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ» المعدين له في الجنة من أهل الجنة ومن المؤمنين المتصلين به أهل الدنيا «مَسْرُوراً» 9 بما أوتي من الخير والكرامة وهذا الكتاب الذي يأخذه يفرح به ، راجع الآية 19 فما بعدها من سورة الحاقة ، وحق له أن يسر لأنها مؤديه إلى جنة ربه ورضاه ، فمن ينجح بأعلى شهادة بالدنيا عبارة عن أنها تخوله مزاولة الطب والمحاماة أو الهندسة والزراعة أو السياسة أو القضاء من مناصب الدنيا الفانية وفي نهايتها التعب والعناء ، تراه يطير فرحا ، فكيف بمن يفوز بالدار الباقية وما فيها من حور وولدان ومآكل ومشارب وملابس وسرور لا يفنى ، وشتان بين المسرورين كما بين الدنيا والآخرة «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» 10 إهانة له وكراهية لرؤيته وبعضا لإمساكه
«فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» 11 يصيح يا ويلاه يا هلاكاه ، وهذا أشد حسرة وأكثر تأثرا وأعظم حزنا ممن يسقط في آخر دورة من أدوار تعليمه إذ يرجى له أن يمهل ليكمل أو يؤذن له بما دون ذلك ، وأما هذا فيلاقي العذاب الأليم ويخلد في الجحيم ولا يجاب دعاؤه ولا يسمع نداؤه «وَيَصْلى سَعِيراً» 12 نارا تأجج يحرق فيها لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة طيبة «إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ» بدار الدنيا «مَسْرُوراً» 13 باتباع هواه وركوب شهوته والعكوف على ملاذه «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» 14 يرجع إلى ربه ولن يحيى بعد موته وليس كما ظن «بَلى » إنه يعود إلى ربه ويبعث من قبره ويحاسب على فعله «إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» 15 من يوم خلقه إلى يوم حشره إلى(4/431)
ج 4 ، ص : 432
ما بعد ذلك ، والبصير لا يخفى عليه شيء ، وهو مبالغة من باصر ، وهو من يدرك الأمور المحسوسة والمعقولة يبصره وبصيرته ، ولما كان اللّه تعالى عالما بأحواله كلها فلا يجوز في حكمته إهماله ، بل لا بد من إثابته على صالح عمله ومعاقبته على سيئه.
روى البخاري ومسلم عن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه ، وان النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال من حوسب عذّب ، قالت فقلت أو ليس يقول اللّه عز وجل (يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قالت فقال ذلك العرض ، ولكن من نوقش الحساب عذّب.
قال تعالى «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ» 16 الحمرة التي تبقى بالأفق بعد غروب الشمس وتظهر قبل طلوعها بعد البياض «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» 17 جمع وضمّ ما كان منتشرا في النهار من الناس والدواب والهوام والحيتان والطير ، لأن ما كان طوره الانتشار في النهار ، قد يجتمع في الليل ، وبالعكس فإن ما كان منضما بالنهار قد ينتشر بالليل ، ويقال طعام موسوق أي مجموع ومستوسقة مجتمعة ، قال الشاعر :
إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لم يجدن سائقا
ويأتي وسق بمعنى عمل أي وما عمل فيه وعليه قوله :
فيوما ترانا صالحين وتارة تقوم بنا كالواسق المتلبّب
وما جاء بأن يحور بمعنى يرجع قوله :
وما المرء إلا كالشهاب ووضوءه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
والشفق مأخوذ من الرقة يقال شيء شفق أي لا يتماسك لوقته ، ومنه أشفق عليه خاف عليه ورق له ، والشفقة من الإشفاق والشفق ، قال الشاعر :
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
والوسق في العرف ستون صاعا أو حمل بعير ، وهذا مما يدل على أن الصاع المستعمل الآن في بعض البلاد غيره قبلا ، لأن ستين منه الآن لا يحملها جملان ، راجع الآية 141 من سورة الأنعام المارة تعلم تفصيل هذا ، ويأتي وسق بمعنى طرد أي وما أطرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها ، ومن ضوء النهار ، ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس ، فإذا سرقت طردت معا ، (4/432)
ج 4 ، ص : 433
ولا حاجة هنا لتقدير لفظ (رب) أي أقسم برب الشفق كما قاله بعض المفسرين ، لأن اللّه تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه جمادا كان أو ناميا ، وحكم لا في هذا القسم حكمها في (لا أقسم بيوم القيامة) المارة في ج 1 فراجعها.
قال تعالى «وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» 18 ثمّ نوره وجمع وكملت استدارته فصار بدرا «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» 19 أي لتداولنّ أيها الناس في حياتكم ومماتكم حالا بعد حال مماثلة ومطابقة وموافقة لأحتها في الشدة والهول ، قال الأعرج بن جابس :
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقي طبق منه إلى طبق
وقد تأتي عن التي معناها المجاوزة بمعنى بعد كما في قولهم : سادرك كابرا عن كابر ، أي بعد كابر ، وعليه قوله :
ما زلت أقطع منها منهلا عن منهل حتى أنخت بباب عبد الواحد
لأن المجاوزة والبعد متقاربان ، واللام في لتركبن واقعة في جواب القسم ، وجاء لفظ الطبق بمعنى عشرين عاما أخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها ، أي قبلها.
وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه ، وعلى هذا المعنى ما جاء في القاموس من جملة معاني الطبق ، ويأتي بمعنى القرآن ، قال العباس بن عبد المطلب يمدح حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم :
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاء بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق
وعليه يكون المعنى لتركبن سنن من قبلكم قرنا بعد قرن ، إلا أن هذين المعنيين الآخرين خلاف الظاهر ، والمعول على الأول ، وهو ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ، وما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم وأحوالهم شبرا بعد شبر وذراعا بعد ذراع حتى لو دخلوا جحرضب لتبعتموهم.
قلنا يا رسول اللّه اليهود والنصارى ؟
قال فمن ؟ أي فمن دونهم أو من قبلهم أو هم أنفسهم ، وهو حديث صحيح ولكن لا يراد أنه جاء مفسرا لهذه الآية ، تدبر ومن خصّ هذا الخطاب لسيد المخاطبين(4/433)
ج 4 ، ص : 434
فقط من المفسرين أراد لتركبن سماء بعد سماء إذ يطلق على السماء طبق أيضا ، لكون الواحدة فوق الأخرى ، قال تعالى (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) الآية 3 من سورة الملك المارة ، وقد أوله بما يشير إلى المعراج ، على أن المعراج وقع قبل هذا بأكثر من سنتين ، وذكرنا آنفا بما يشعر إلى التعميم ، وهو المناسب بسياق التنزيل وسباق الآي.
قال تعالى «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» 20 بك يا سيد الرسل أي شيء جرى لهم ، وما منع هؤلاء الكفرة عن الإيمان بك وقد آتيناهم من دواعيه ما يسمعون ويبصرون ويعون إن كان لهم سمع وبصر وعقل ينتفعون بها ، وما آتيناهم هذه الجوارح والحواس إلا ليستدلوا بها على وحدانيتنا ويصدقوا رسلنا
«وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ» الذي أنزلناه عليك لصلاحهم ورشدهم ، فمابالهم «لا يَسْجُدُونَ» 21 لنا ولا يخضعون لقدرتنا ولا يخشون هيبتنا ؟ ثم انتقل من عدم سجودهم إلى تكذيبهم فقال «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ» 22 بك وبكتابك «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» 23 في صدورهم ويجمعون فيها من التكذيب والبغض لك والحقد عليك ، والإيعاء هو جعل الشيء في وعاء وعليه قوله :
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وأريد به هنا الإضمار وهو ما يضمرونه لحضرة الرسول من العداء.
وما قيل إن المراد بهم المنافقون لا يصح وإنما هم قريش الذين كانوا يحيكون لحضرة الرسول المكايد ، والسورة هذه كلها مكية إجماعا ، ومكة لا يوجد فيها منافقون إذ ذاك ، لأن النفاق وقع بعد الهجرة في المدينة ، حتى ان لفظته لم تعرف إذ ذاك.
قال تعالى تهكما بهم «فَبَشِّرْهُمْ» يا سيد الرسل على سبيل التبكيت والتقريع «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» 24 لا تطيقه قواهم ويظهر على بشرتهم سوءه «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» هذا استثناء منقطع من ضمير بشرهم المنصوب ، فتكون البشارة في ذلك العذاب الفظيع خاصة بالمكذبين ، أما المؤمنون العاملون صالحا ف «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» 25 منقوص ولا مقطوع.
وهذه الجملة تدحض قول من قال إن الاستثناء متصل على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل صالحا من آمن وعمل بعد منهم أي أولئك الكفرة ، لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم(4/434)
ج 4 ، ص : 435
بل المؤمنين عامة ، والسجدة في هذه السورة من عزائم السجود ، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة ، روى البخاري ومسلم عن رافع قال :
صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد ، فقلت ما هذه ؟
قال سجدت بها خلف أبي القاسم صلّى اللّه عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.
ولمسلم عنه قال : سجدنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في (اقرأ باسم ربك) و(إذا السماء انشقت) وهذه السجدة آخر السجدات الواردة في القسم المكي وهي اثنتا عشرة سجدة وبقي في القسم المدني سجدة الرعد والحج فقط تتمة الأربع عشرة سجدة ، ومن قال بالسجدة آخر الحج أبلغها خمس عشرة.
وقدمنا ما يتعلق بالسجود في الآية 15 من سورة السجدة المارة ، وفيها ما يرشدك لغيرها من المواقع فراجعها ففيها كفاية.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الروم
عدد 34 - 84 - 30
نزلت بمكة بعد الانشقاق عدا الآية 17 فإنها نزلت بالمدينة ، وهي ستون آية وثمنمئة وتسع عشرة كلمة ، وثلاث آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا.
ومثلها في عدد الآي سورة الذاريات المارة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الم» تقدم ما فيه أول الأعراف ج 1 وما بعدها مما بدئت به من السور فراجعها ففيها كفاية «غُلِبَتِ الرُّومُ» 2 قبيلة روم بن يونان بن علجان بن يافث بن نوح عليه السلام «فِي أَدْنَى الْأَرْضِ» أرض العرب ، لأن أل فيها للعهد والمعهود في الخطاب أرض العرب ، لأن أرض الروم التي وقع فيها الغلب قريبة منها ولأنهم هم المخاطبون في هذا القرآن.
وقد تواقفت الروم مع الفرس ، وكانت الفرس متوافقة مع المشركين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فغلبت فارس الروم وقهرتها «وَهُمْ» الروم المغلوبون «مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ» هذا «سَيَغْلِبُونَ» 3 الفرس.
ولا وقف هنا بل يقرأ متصلا بما بعده إذ لا يحسن الوقف عليه.
وسيكون غلب الروم للفرس «فِي بِضْعِ سِنِينَ» 4(4/435)
ج 4 ، ص : 436
آتية ما بين الثلاث والتسع «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ» هذا الغلب «وَمِنْ بَعْدُ».
وقد حذف المضاف هنا ونوى معناه ، ولذلك بني الظرفان على الضمّ أي من قبل الغلب ومن بعده يكون الأمر للّه وحده كما هو في سائر الأوقات ، إذ لا يكون شيء إلا بقضائه وقدره وإرادته «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» يقرأ متصلا «بِنَصْرِ اللَّهِ» الروم على الفرس ، لأنهم أهل كتاب ، كما يفرح المشركون بنصر الفرس لأنهم مشركون مثلهم «يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 5 وأعلم يا أكمل الرسل أن هذا الوعد بنصر الروم على الفرس «وَعْدَ اللَّهِ» حق واقع لا مرية فيه أبدا «لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» البتة ، كيف وهو الآمر بالوفاء به ، وقوله الحق ، وبيده الأمر «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 6 ذلك لفرط جهلم بشئون اللّه عز وجل وعدم تذكرهم بما يجب عليهم وما يستحيل على اللّه.
وفي لفظ أكثرهم دليل على أن الأقل يعلمون ذلك.
واعلم أن الكفرة «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» أي أن علمهم مقصور على ما يتعلق بمعاشهم وصنايعهم ومنافعهم ومضارهم وشهواتهم ، ولا يعلمون لما ذا خلقوا ولا يتفكرون بحالهم ومصيرهم ومرجع ما خلق لهم ، ولما ذا خلق ، لأن هذا كله من أمور الآخرة.
ويأتي ظاهر بمعنى زائل قال الهذلي :
وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
مطلب قد يكون العاقل أبله في بعض الأمور ، وغلب الروم الفرس :
وعليه يكون المعنى يعلمون ما هو زائل فان ، ولا يعلمون ما هو دائم باق والفاعل يعود على اكثر ، ومن هذا القسم أن مخترع القوة الجاذبية حيث كانت قطئة تشغله بذهابها وإيابها من فتح الباب لها وغلقه ، ففتح لها نفقا تحت الباب ، فصارت تخرج وتدخل منه دون كلفة ، واستراح منها ، ثم أنها ولدت ولم ينتبه أن ذلك النفق كان لها ولأولادها فعمد وفتح لكل نفقا ، مما يدل على أن الذكي البارع في شيء قد يكون أبله في غيره.
وكذلك مخترع الخطوط الكهربائية أعطته خادمته بيضة كي يسلقها وقالت له أبقها على النار خمس دقائق ، فأخرج الساعة ووضعها بالدلة وأمسك البيضة بيده ، فقالت له للآن وأنت واضع البيضة على النار ؟! فقال لها(4/436)
ج 4 ، ص : 437
لم تمض الخمس دقائق بعد ، فنظرت وإذ البيضة بيده والساعة في الدلة ، فعكست الأمر.
فالذي يكون عن هذه الأمور التافهة غافلا فمن باب أولى أن يكون المشغول بالدنيا أغفل بكثير عن أمور الآخرة لا سيما وأن منها ما هو غير معقول ، كما يدل عليه قوله «وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» 7 ساهون لا هون بالدنيا لا ينظرون إلى ما يتعلق بها ، ولا يصرفون حواسهم لما خلقت لها ، لأن اللّه تعالى طبع عليها وسلبهم منافعها فصدّت عقولهم عن النظر إليها ، أجارنا اللّه من ذلك.
وسبب نزول هذه الآية أن كسرى بعث جيشا على رأسه شهربان ليقاتل جيش الروم الذي على رأسه مخيلن ، فغلبه بأذرعات وبصرى وهما أقرب أرض للشام إلى أرض العرب ، فشق ذلك على المسلمين لأنهم أهل كتاب ويودونهم ، وفرح المشركون لأنهم كفرة مثلهم ويحبونهم ، فقال المشركون للمسلمين إن قاتلتمونا فسوف نغلبكم أيضا لأن إخواننا غلبوا إخوانكم.
قالوا وبعد نزولها قال أبو بكر للمشركين لا تفرحوا فإن الروم ستغلب فارسا في الحرب القابلة إذ أخبرنا الصادق المصدوق سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم بذلك عن ربه عز وجل ، وإخباره واقع لا محالة ، فقال له أبي بن خلف اجعل بيننا أجلا نناصبك ، أي نراهنك عليه ، فجعل الأجل ثلاث سنين ، وتراهنا على عشر قلاص ، وأخبر أبو بكر حضرة الرسول ، وكان القمار لم يحرم بعد ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده بالحطمة ومادده في الأجل ، فلقي أبو بكر أبيا فقال له تعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل ، فاتفقا على مئة قلوص إلى تسع سنين من شهر كذا من عام كذا ، وإنما فعل هذا أبو بكر لأنه جازم بأن اللّه تعالى لا بدّ وأن يصدق رسوله بما أخبر به لقوة إيمانه ، وإلا لو لم يرد اللّه ذلك لما ألقى في قلبه الموافقة على تمديد الأجل بعد أن اتفقا على غيره.
ولما شاع بين الناس أن أبا بكر يريد الهجرة من مكة بسبب الضيق الذي وقع على المسلمين عامة في أذى قريش ، أتاه أبيّ وقال له أعطني كفيلا بالحظر إذا أنت نزلت مكة فكفله ابنه عبد اللّه ، وبعد الهجرة أراد أبي أن يذهب مع المشركين للاشتراك في واقعة أحد الكائنة في السنة الثالثة من الهجرة ، فجاءه عبد اللّه بن أبي بكر وطلب منه كفيلا بالحظر إذا هو مات أو قتل ، فأعطاه كفيلا ، ثم انه تلاقى مع(4/437)
ج 4 ، ص : 438
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في حرب أحد وضربه الرسول فجرحه جرحا بليغا مات منه بعد رجوعه إلى مكة ، ثم ظهرت الروم على فارس بعد وقعة الحديبية على رأس سبع سنين من تاريخ المراهنة ، إذ وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيها الهجرة ، وهو تاريخ نزول هذه السورة ، فقد هاجر صلّى اللّه عليه وسلم بعدها بقليل إذ لم ينزل عليه بعدها إلا العنكبوت والمطففين ، وختم الوحي المكي بهما ، وذلك بعد عقد المعاهدة بين شهرمان وقيصر ، وقد ضمنا المعاهدة شروطا لم يحبا أن يطلع عليها خاصتهم فضلا عن عامتهم ، لأنها تتعلق بمصالح الدولتين ، وإذ كانت بحضور ترجمانه ، وخافا أن يذيع شيئا منها وكل منهما حريص على كتمانها ، فقال شهريان لقيصر السريين اثنين فإذا جاوزهما فشا ، فقتلا الترجمان لئلا يفشي شيء من خبر تلك المعاهدة باتفاق الطرفين ، ومنذ ذلك التاريخ صار مثلا : كل سر جاوز الاثنين شاع.
وجعلوا لهذه الشطرة صدرا : كل علم ليس في القرطاس ضاع.
فقمر أبو بكر أبيا وأخذ الحظر كله من ورثته ، وأمره الرسول بالتصدق به ففعل.
وهذه من الآيات البينات الدالات على صدقه صلّى اللّه عليه وسلم التي اعترف بها المشركون أنفسهم وهي من الإخبار بالغيب.
والحكم الشرعي في هذا هو جواز المقامرة والربا والعقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار على مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد ، ولم يجوزه الآخرون.
أما هذه المقامرة فقد وقعت قبل تحريم القمار وكان جائزا متعارفا بينهم ، إلا أنه لما كانت التأدية بعد تحريمه وكانت العبرة بالابتداء لأن الأصل إبقاء ما كان على ما كان أخذه أبو بكر ، ولو كان أخذه حراما لما أمره بالتصدق به ، لأن التصدق بالحرام حرام حتى قيل إن من تصدق بالحرام طلبا للأجر يكفر.
وإنما أمره بالتصدق به نورعا ، ولئلا يقول المشركون أخذه أبو بكر مع قول صاحبه بحرمته أو لحاجة فيه.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» التي هي أقرب شيء منهم وما أودعها اللّه من غرائب الأشياء وبدايع الحكم فيها ظاهرا وباطنا وانها لا بد لها من الانتهاء ليعلموا أن أمر سائر الخلائق جرى على الحكمة الخارقة لا بد لها من الانتهاء بالأجل الذي قدّره لها مبدعها وليتحققوا أن «ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى» تفنى عند بلوغه «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ(4/438)
ج 4 ، ص : 439
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ»
8 جاحدون البعث بعد الموت «أَ وَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الجاحدون «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الهلاك والدمار فيعتبروا في كيفية إهلاكهم وسببه مع أنهم «كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» لأن الأمم الماضية أكبر أجساما وأقوى جوارح ، وأصبر جنانا على الشدة من كفار قريش ، لأن آثارهم تدل على ذلك «وَأَثارُوا الْأَرْضَ» حرثوها للزراعة وإخراج المعادن منها «وَعَمَرُوها» بالبناء الضخم والجنان والأنهار والسبل «أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها» أهل مكة وغيرهم وحتى الآن لم يبلغ أهل هذا القرن الذي جاء بالبدائع من الكهرباء واللاسلكي والسيارات والطائرات والمدمرات وغيرها مما لم يتصوره العقل قبلا ، وما وجد من ضخامة الأبنية وقوتها وهندستها ، مما يدل على رقيهم في هذا الفن وغيره من الأمور الدنيوية ، كيف وقد وصفهم اللّه تعالى بأنهم يعلمون ظاهرها وهذا كله من الظاهر.
واعلم أن عمارة هؤلاء للأرض كانت بعد عمارة الجنّ ، لأنهم تقدموا عليهم في الخلقة وفي سكنى الأرض ، والدليل على مهارتهم في البناء والصنائع ما ذكره اللّه تعالى عن عملهم لسيدنا سليمان المحاريب والتماثيل والبنايات والأواني العظام وغيرها ، راجع الآية 84 من سورة الأنبياء والآية 25 من سورة سبأ المارقين ، والآية 44 من سورة النمل في ج 1 ، «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ولم يؤمنوا فأعلكهم اللّه «فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بذلك الإهلاك «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 9 لعدم تصديقهم الرسل ولإصرارهم على الكفر «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى » بالرفع اسم كان مؤخر على قراءة من نصب عاقبة وجعلها خبرها مقدما ، وبالنصب على أنها خبرها على قراءة من رفع عاقبة على أنها اسمها ، وتطلق السوءى على أسوإ العقوبات ، وقيل هي أحد أسماء النار ، أي أن جزاء المسيئين أسوأ الجزاء وهو النار التي هي أسوأ من كل سوء ، وما ندري لعل ما عند اللّه ما هو أسوا وأسوا وإنما كانت تلك للعاقبة المشئومة عاقبتهم «أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» 10 فعاقبهم بأسوء العقوبات
«اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» جليله وحقيره فينشئه شيئا فشيئا ، ثم يميته بعد انقضاء أجله «ثُمَّ يُعِيدُهُ» حيا كما بدأه «ثُمَّ(4/439)
ج 4 ، ص : 440
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»
11 بعد الحياة الثانية للحساب والجزاء على ما وقع منكم في حياتكم الدنيا «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ» ييأس ويتحير «الْمُجْرِمُونَ» 12 إذ تنقطع حجتهم فيسكتون.
والإبلاس الحزن المفرط لشدة اليأس ، ومنه اشتق إبليس ، يقال أبلس إذا يأس من كل خير يريده وإذا تحير في كل أمره وسكت وانقطعت حجته ، وأبلست الناقة إذا لم ترع من شدة الضيعة أي كثرة اشتياقها للفحل ، وإنما يبلسون في الآخرة لظهور خطأهم وخيبتهم مما كانوا يأملونه من شفاعة أوثانهم ، قال تعالى «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ» الدين اختصوا بهم في الدنيا وأصنامهم التي عبدوها من دون اللّه «شُفَعاءُ» يشفعون لهم كما كانوا يغرونهم ويزعمون صدقهم «وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ» 13 إذ تنبرأ منهم ويتبرءون منها وكان كفرهم بالدنيا بسببها.
وهذا مما أوجب حيرتهم ودهشتهم حتى أبلسوا «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» 14 أهل الجنة وأهل النار بعد الفصل بينهم ، إذ يقول اللّه تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس في ج 1 ، أي انفصلوا عن المؤمنين فينفصلوا حالا بحيث لا يبقى مجرم بين المؤمنين ، ولا مؤمن بين المجرمين بمجرد هذا الأمر «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ» 15 يسرون فيها سرورا عظيما.
يقال حبره إذا أسره سرورا تهلل منه له وجهه بالبشر وظهر فيه أثره «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا «وَلِقاءِ الْآخِرَةِ» وأنكروا البعث بعد الموت «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» 16 لا يغيبون عنه أبدا أما المؤمنون العصاة فقد أشار اللّه إليهم في آيات أخر لأنهم لم يدخلوا في هذين الفريقين أما عدم دخولهم مع المؤمنين إذ قرن إيمانهم بالعمل الصالح وهم ليسوا من أهله ، وأما مع الكافرين فلأنهم لم يكذبوا آيات اللّه ورسله ولم ينكروا البعث ، وإنما هم جماعة قصروا عن أعمال الخير وفرطوا باتباع الأهواء فلهم جزاء غير هذا بنسبة كسبهم.
وهذه الآية المدنية في هذه السورة.
مطلب مآخذ الصلوات الخمس وفضل التسبيح ودلائل القدرة على البعث :
قال تعالى «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ» أي سبحوا اللّه أيها الناس(4/440)
ج 4 ، ص : 441
ونزهوه في هذا الوقت ، ويدخل فيه صلاة المغرب والعشاء المشتملان على التسبيح «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» 17 عظموه أيضا ويدخل فيه صلاة الصبح «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» في هذه الأوقات وغيرها إذ يسبحه فيها من خلقه من نعرف ومن لا نعرف وما لا نعرف ويحمده أيضا ، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 44 من الإسراء في ج 1 ، «وَعَشِيًّا» يدخل فيه صلاة العصر «وَحِينَ تُظْهِرُونَ» 18 فيدخل فيه صلاة الظهر ، انتهت الآية المدنية التي هي آيتان بمثابة ثلاث آيات من حيث العدد.
قال ابن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال نعم وقرأها أعني هذه الآية ، ونظيرها الآية 130 من سورة طه في ج 1 ، والآية 78 من سورة الإسراء أيضا.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم.
وروى مسلم عن سعيد بن أبي وقاص قال : كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة ؟ فسأله سائل من جلسائة قال كيف يكتب الف حسنة ؟ قال يسبح اللّه مئة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ، ويحط عنه ألف خطيئة ، وذلك أن كل حسنة تمحو خطيئة.
وروى مسلم عن جورية بنت الحارث زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم ورضي اللّه عنها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها وهي في مسجدها فرجع بعد ما تعال النهار ، فقال ما زلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد ؟ قالت نعم ، فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بكلماتك (أي التي قلتهن في تلك المدة كلها) لوزنتهن : سبحان اللّه وبحمده عدد خلقة ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من قال سبحان اللّه وبحمده في كل يوم مئة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.
وأخرج عنه أيضا عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان اللّه وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاده.
وقال فيهما حديث حسن صحيح.
قال تعالى «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» راجع تفسيرها في الآية 96 من الأنعام المارة ، وله صلة في(4/441)
ج 4 ، ص : 442
الآية 28 من آل عمران في ج 3 إن شاء اللّه «وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالمطر «وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» 19 من قبوركم أحياء مثل خروج النبات من الأرض الميتة.
ثم شرع يبين بعض دلائل قدرته على البعث بعد الموت ليتعظ منكروه فقال «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ» أي أصلكم آدم عليه السلام «مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ» أيها الناس من ذلك الأصل الواحد «بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» 20 في الأرض فتلأونها كثرة
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» من جنسها «أَزْواجاً» مثلكم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» وهنّ من أعظم النعم عليكم فلو جعلتهن من غير جنسكم لما حصلت الألفة ولما اطمأن الزوج لزوجته «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» من غير سابق معرفة ولا قرابة ، ولو لا التجانس لما حصلت تلك المودة والرحمة ، ولا يوجد سبب لهذا التعاطف والمودة المفرطة إلا الزوجية المتجانسة ، وهذا يطلب في الزوجية التجانس في البيئة أيضا ليتوافقا بالأخلاق والعوائد والآداب لأنها مع هذه تكون أكثر ألفة ومحبة ممن يتخالفان في الطبائع إذ يحتاج إلى التطبع (عند الاختلاف) بغير ما اعتاد عليه الآخر ، وقل أن يمكن تغيير الطبع ، وقلّ من يقدر على الصبر عند خلافه ، وقد أمرت الشريعة بالتكافؤ ، ولهذه الغاية ترى حوادث الطلاق كثيرة ، فلو تقيد الناس بالتكافؤ لما رأيت رجلا يترك زوجته ، وجل مصائب الناس من عدم تمسكهم بشريعتهم «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور في الآيتين «لَآياتٍ» عظيمات دالات على القادر المبدع المبدئ المعيد «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 21 فيها فيؤمنون بمنشئها «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ» في الكلام واللغات العربية والفارسية والعبرية والحبشية وغيرها كالقبطية والكردبة والبربوية والسريانية والكورية والإفرنسية والإنكليزية والروسية والألمانية والجركسية وغيرها ، مما تفرع عنها وتداخل فيها «وَأَلْوانِكُمْ» الأبيض والأسود والأحمر والأشقر والأسمر وما بينهما من الألوان «إِنَّ فِي ذلِكَ» الاختلاف الذي أبدعه المبدع جل جلاله لحكمة التعارف باللون واللغة والشكل والصورة والحلية ، مع أنكم من أصل واحد «لَآياتٍ» كافيات للإيمان باللّه والاعتراف ببالغ قدرته وعظيم سلطانه ، إذ لو اتفقت الأصوات والصور(4/442)
ج 4 ، ص : 443
لوقع اليأس بين الناس ، فسبحان من أحسن كل شيء خلقه وجعل ما خلق عبرة وعظة «لِلْعالِمِينَ» 22 بكسر اللام لأنهم أهل التدبر والتفكر بآيات اللّه ، قال تعالى (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) الآية 44 من العنكبوت الآتية ، وقرىء بفتح اللام أي أن تلك الآيات واضحات لا تخفى على أحد ، والأولى أولى ، ولفظ العالمين بالفتح يدخل فيه من يعقل ومن لا يعقل ، فالذي لا يعقل لا ترد عليه الآيات ولا يعقلها ، لأن من العالم من هو دون البهائم فلا يعقل ولا يفقه أيضا ، لذلك فإن القراءة بكسر اللام أحسن.
قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» في طلب الرزق وهذه الآية تشير إلى أن النوم كما يكون ليلا يكون نهارا وكذلك السعي يكون فيهما ، وإن تخصيص أحدهما للنوم والآخر لطلب المعاش لا يمنع من استعمالهما معا في ذلك ، وهو من أجل النعم على الخلق ، ولا نعمة من نعم اللّه إلا وهي جليلة ، ولكن منها ما هو أجل «إِنَّ فِي ذلِكَ» التقسيم وجعل كل من الليل والنهار صالحين للاستراحة والعمل والعبادة ، إذ يخلف أحدهما الآخر عند الحاجة ، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية 62 من الفرقان ج 1 ، «لَآياتٍ» بالغات في الدلالة على الواحد المعبود بحق «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» 23 سماع قبول فيعون ما يتلقونه من قبل المرشدين «وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً» بنزول الغيث وخشية مما يترقب من الصواعق والشهب «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» يبسها فيجعلها تهتز بالنبات وتربو بالماء «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة للنبات «لَآياتٍ» دالات على إحياء البشر بعد موته «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 24 قدرة اللّه ويستظهرون كمال صنعه وبالغ إبداعه في استنباط الأسباب وكيفية التكوين ، إذ لا فرق عند اللّه بين الإحياءين ، كما لا فرق عنده بين الإماتتين ، لأن القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ» تقف وتثبت وتمسك نفسها بلا عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية 10 من سورة لقمان المارة وله صلة في الآية 5 من سورة الرعد في 3 «وَالْأَرْضُ» على الهواء والماء بلا مرتكز ولا(4/443)
ج 4 ، ص : 444
ما سك فهي والسماء قائمتان «بِأَمْرِهِ» لهما بقوله جل قوله كونا كذلك ، فكانتا حالا بين الكاف والنون ، دون مهلة أو تراخ ، راجع الآية 11 من سورة فصلت المارة ، «ثُمَّ» أنتم أيها الناس كذلك قائمون بأمره ، ذلك وإنه «إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ» المدفونين بها لأجل البعث بنفخة واحدة من بوق إسرافيل عليه السلام «إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» 25 منها أحياء كحالتكم الدنيوية
كاملين غير ناقصين ، لأن اللّه تعالى يعيد للأعرج رجله ، وللأقطع يده ، وللأعور عينه ، حتى القلفة ، وهذا من قبيل إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال قيام السموات والأرض واستمساكها ، ودعاؤكم وخروجكم بأمره.
قال تعالى «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» 26 منقادون مطيعون له لا لغيره ، فالذي لم يطعه فعلا يطعه بالقوة ، والذي لم يعظمه قالا يوقره حالا ، لأن المراد طاعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» من شيء «ثُمَّ يُعِيدُهُ» كما خلقه بلا واسطة «وَهُوَ» أمر الإعادة «أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وأيسر من الإبداء لأنه كان على غير مثال والإعادة على مثال سابق ، لهذا فإن اسم التفضيل هنا على غير بابه ، أي أن أهون بمعنى هين ، إذ لا شيء على اللّه بأهون من غيره ولا أصعب بأن يحتاج لامر آخر أكثر من الأول ، فالعظيم والأعظم والقليل والأقل عنده سواء ، لأن أمره لهما واحد لا يعز عليه شيء «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» الذي ليس بعده مثل من الوصف العجيب الشان كالقدرة العامة والحكمة التامة والعظمة البالغة «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ» 27 في كل شيء العليم بكل شيء.
مطلب جواز الشوكة إلا للّه ومعنى الفطرة للخلق وكل إنسان يولد عليها :
«ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ» في بطلان الشرك ثم بين هذا المثل بقوله «هَلْ لَكُمْ» أيها الأحرار المالكون للعبيد والإماء «مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ» من المال والأنعام والأولاد وغيرها هذا استفهام على طريق النفي ، أي ليس لعبيدكم شركة معكم فيما رزقناكم ، وإذا كان كذلك فكيف تشركون عبيدي وخلقي معي ؟ ألا تساوون أيها الحمقاء أنفسكم(4/444)
ج 4 ، ص : 445
بربكم من هذه الحيثية ؟ فكما أنكم لا تشركون عبيدكم في ملكم ، فأنا لا أشرك أحدا في ملكي «فَأَنْتُمْ فِيهِ» أي الرزق الكائن لكم «سَواءٌ» مع عبيدكم ، كلا ، بل لكم خاصة.
وهذا استفهام إنكاري أي لستم في رزقكم وعبيدكم سواء ، إذ ليس لهم التصرف به دون أمركم ، ولا يحق لهم أن يعارضوكم في إنفاقه والتصرف فيه ، مع أنهم مثلكم في البشرية ومثلكم في الكسب وهم غير مخلوقين لكم ، فاذا علمتم هذا عرفتم خطأكم في إشراك خلقي بي فيما هو من خصائصي.
وهل «تَخافُونَهُمْ» أي العبيد بأن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم فيها «كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ» أي تخافونهم أن يستبدوا بالتصرف بأموالكم بدون رأيكم مثل خيفتكم ممن هو من نوعكم ، أي كما تخافون من الأحرار الذين مثلكم إذا كانوا شركاءكم في المال أن ينفردوا به ، أو يخاف أحدكم شريكه في الميراث أن ينفرد به ، أي لا حق لهم في أموركم لا في التصرف ولا في القسمة ولا في الإرث إذا متم ، فإذا كنتم لا تخافون هذا من مماليككم ولا ترضونه لأنفسكم ، فكيف ترضون أن تكون أصنامكم التي هي من صنع أيديكم شريكة لي وتعبدونها من دوني وهي وأنتم من خلقي ، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من سورة الصافات «كَذلِكَ» مثل هذا التفصيل الواضح «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونبينها ونمثلها «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 28 هذه الأمثال فيتدبرونها ، ويتعظون بها ، ويعون مغزاها ، وينتبهون لمعناها.
ونظير هذه الآية الآية 74 من سورة النحل المارة فراجعها.
واعلم أن التمثيل لتصوير المعاني المعقولة تصويرة المحسوسة إبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس ليكون غاية في الإيضاح والبيان ، وفي هذه الآية إشارة إلى صحة أصل الشركة بين الناس لافتقارهم بعضهم لبعض ، هذا ولما كان إعراضهم مستمر انتقل عن مجادلة إرشادهم إلى الحق لاستحالة قبولهم له فقال عز قوله «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بشركهم ذلك «أَهْواءَهُمْ» في ضروب الإشراك «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جاهلين ما يجب عليهم معرفته ولكن يا قوم «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» استفهام على طريق الإبعاد والتعجب أي لا أحد يقدر على هدايته «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» 29 أي أن الذين يخذلهم اللّه لا أحد يمنعهم منه أو يحول بينهم وبين عذابه إذا حل بهم(4/445)
ج 4 ، ص : 446
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ» الذي أنت عليه يا سيد الرسل لا تمل عنه ولا تلتفت إلى غيره وتوجه إليه بكلك لا بوجهك فقط ، لأن هذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، وهو ضرب من ضروب علم المعاني الذي يزيد الكلام رونقا وبهجة حال كونك «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين يخالفه فهو دين الحق لكونه «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي خلقته في عالم الذر والرحم والدنيا ، ولهذا قال «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» الذي خلق الناس عليه ، فلا ينبغي أن يغير أو يبدّل ، ولهذا أمر اللّه تعالى رسوله ليقتدي به أصحابه المؤمنون به بتعديل وتسوية الوجه والمراد منه الكل للإقبال على الدين والاهتمام بشأنه والمحافظة على أركانه وشروطه ، لأنه هو أصل الأديان التي جبل اللّه خلقه الطائعين على التمسك فيه ، روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ، ثم قال ، قرأوا إن شئتم (فطرة اللّه) الآية ، زاد البخاري فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسنه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (أي مستوبة لم يذهب من بدنها شي ء) هل تحسون بها من جدعاء ، ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا (فطرة اللّه) الآية ، والمراد بالفطرة العهد الذي أخذه اللّه على البشر حين خاطبهم بقوله (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) الآية 172 من الأعراف في ج 1 ، فكل مولود بالعالم جار على ذلك الإقرار ، وإن عبد غير اللّه في بداية أمره فإنه يرجع إلى عهد ربه الأزلي فيسبق عليه الكتاب فيتوب ويموت على الإيمان ، راجع الآية 104 من سورة الأنبياء المارة ، والآية 30 من الأعراف ج 1.
واعلم أن لا عبرة في الإيمان الفطري في أحكام الدنيا ، بل العبرة في الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ، ألا ترى إلى قوله صلّى اللّه عليه وسلم فأبواه يهودانه إلخ ، فمع وجود الإيمان الفطري محكوم له بحكم أبويه الكافرين ، وهذا معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلم في الحديث القدسي : يقول اللّه تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم.
أي حولتهم عنه ، على أنهم لو تركوا وشأنهم لا بد وأن يعتقوا هذا الدين الإسلامي المستحسن في العقول السليمة والأطباع المستقيمة المتهيئة لقبول الحسن ولم يعدلوا عنه ما سلموا من أفات التقليد التي ينزلون بها عن هذه الفطرة التي جبلت عليها خلقته والحجة المستقيمة إلى ما يتلقونه(4/446)
ج 4 ، ص : 447
ممّن يتعاهدهم ، وإلا فلا تغيير لما وضعه اللّه «ذلِكَ» الدين القويم والفطرة المستقيمة هو «الدِّينُ الْقَيِّمُ» البالغ مستوى العدالة «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 30 حقيقته فيزيغون عنه والأقل يعلم شيئا منه ويعرض عنه ،
فلا تنظر يا سيد الرسل إلى هؤلاء وقم به أنت وأصحابك حال كونكم «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» خاضعين له راجعين إليه «وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليكم في أوقاتها فهي أسّه وعماده وملاك شعاء «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 31 به غيره «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ» بدل من المشركين بإعادة الجار وقرىء فارقوا ، وهذه الآية تقيّد آية الأنعام 159 المارة لأنها تفيد التبعيض وتلك تفيد العموم ، وقدمنا ما يتعلق بمثل هذا الخطاب في الآية 64 من سورة الزمر المارة ، وهؤلاء لم يتفقوا على التفريق في الدين بل تعدّوه «وَكانُوا شِيَعاً» فرقا مختلفة فيه كل طائفة تشايع غيرها وإمامها الذي أضلها ، ومع أنهم كلهم على ضلال في ذلك فإنهم «بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» 32 راضون به يحسبونه حقا لعدم تدبرهم وتفكرهم في حقيقته ، راجع الآية 13 من الشورى المارة تجد ما يتعلق ببحث التفرق.
قال تعالى «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» بالدعاء والتضرع حالة كونهم خاشعين مقبلين راجعين إليه «ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» 33 معه غيره في العبادة والدعاء ويظن هؤلاء الكفرة العتاة أنما تنشر عليهم شيئا من رحمتنا «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من النعم جزاء لفضلنا عليهم كلا بل قل لهم يا سيد الرسل إن اللّه لم يهملكم ولم يعطكم لتكفروا به «فَتَمَتَّعُوا» بكفركم «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» 34 عاقبة ذلك ، وفي هذه الجملة التفات من الغيبة إلى الخطاب وتهديد ووعيد بسوء العاقبة ، قال تعالى «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً» وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة ففيه إيذان بالإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم ليطلعوا عليها «فَهُوَ يَتَكَلَّمُ» أي ذلك البرهان المعبر عنه بسلطان «بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» 35 وما هنا مصدرية ، أي لم ننزل سلطانا بإشراكهم وإنما اختلقوه من أنفسهم «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً» من غيث أو صحة أو ولد أو رزق ، أي مطلق نعمة ، كما أن(4/447)
ج 4 ، ص : 448
الضر في الآية السابقة يطلق على أضداد هذه الرحمة ويشتمل على كل شر «فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من كل ما يسوء الإنسان «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» بسبب ما اقترفوه من السيئات «إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» 36 يبأسون من الرحمة ، بخلاف المؤمنين فإنهم إذا أصابهم خير شكروا اللّه ، وإذا مسهم ضرّ صبروا رجاء رحمة اللّه بكشفه عنهم.
مطلب ما قاله البلخي للبخاري وحق القريب على قريبه والولي وما شابهه :
قال بعض العارفين من أهالي بلخ لصاحب له كيف حالكم يا أهل بخارى ؟ قال نحن قوم إذا وجدنا أكلنا ، وإذا فقدنا صبرنا ، فقال البلخي حال كلاب بلخ هكذا ، فقال وكيف حالكم يا أهل بلخ ؟ قال نحن قوم إذا وجدنا آثرنا وإذا فقدنا شكرنا.
وهؤلاء لعمري هم أهل اللّه العارفون الصادقون ، وهؤلاء هم الصوفية الذين هم حقيقة صوفية لا متصوفة زماننا ، فأين نحن منهم رجماك ربي رحماك ، نسألك العفو والعافية والشكر على العافية ، والتوفيق لما تحب من الأعمال ، والستر الجميل ، وإذا قدرت علينا قدرا لا تريد أن تكشفه عنا فنسألك الصبر الجميل عليه ، وأن تجعلنا من القليل ، ولا تكلنا إلى غيرك ، ولا تؤاخذنا بما نفعل ويفعل السفهاء منا ، إنك على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير.
قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ» من خلقه يوسعه عليهم بجهد وبغيره «وَيَقْدِرُ» يضيّق على من يشاء ولو جدّ ما جد «إِنَّ فِي ذلِكَ» البسط والقبض الجاريان بمقتضى المشيئة «لَآياتٍ دالات على حكمة المعطي «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 37 به ويرضون بقسمته لاعتقادهم أن ذلك مراده لا غير ، وللّه در القائل :
نكد الأديب وطيب عيش الجاهل قد أرشداك إلى حكيم كامل
ثم نبههم اللّه تعالى إلى ما يجب أن يفعل ، وما يجب أن لا يفعل ، وما يجب أن يترك ، فخاطب به سيد المخاطبين ليعمل به أمته فقال «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» من البر والصدقة والنظر والصلة ، لأن
هذه كلها من حق المسلم على المسلم ، فكيف بالقريب الذي له حقّان حق الإسلام وحق القرابة ، فالعطاء إليه يكون صدقة وصلة «وَالْمِسْكِينَ» الذي لا مال له ولا كسب يكفيه «وَابْنَ السَّبِيلِ» المسافر(4/448)
ج 4 ، ص : 449
الغريب الذي نفدت نفقته فبقي منقطعا عن أهله فينبغي لمن وسع اللّه عليه أن يعطيه ما يكفيه ويبلغه اهله.
وليعلم أن اللّه تعالى إذا بسط رزقه على عبده فإن ما ينفقه منه في سبيل البر والخير لا ينقصه بل يزيده ، كما انه إذا ضيق عليه فإن التشدد بالإمساك لا يوفر عليه ، وفيه قيل :
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها على الناس طرا قبل أن تنفلت
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ولا البخل ينميها إذا هي ولت
بل عليه الشكر إذا رزق ، قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) والصبر عند الضيق ، قال تعالى (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة إبراهيم المارة.
وما قيل إن هذه الآية مدنية والمراد بها الزكاة قيل لا قيمة له لأنها مكية كسورتها ، واستثناؤها يحتاج إلى دليل ، ولم يوجد ، ومما يدل على أن المراد بها غير الزكاة الإجماع على مكيتها ، والزكاة لم تفرض إلا في المدينة ، وقد استنبط من هذه الآية الإمام أبو حنيفة وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب على قريبه الموسر ، ووجه استنباطه هو أن آت أمر ، والأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف ، وهو هنا معدوم ، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي ، وقد جاء بجانب المسكين وابن السبيل بعد القريب ، ولو كان المراد الزكاة لم يقدم ذو القربى عليهما لأنهم فيها سواء.
هذا وما جاء عن أبي سعيد الخدري أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه السلام فاطمة رضي اللّه عنها فدكا لم يثبت ، وينفيه ما اشتهر أنها ادعت فدكا بعد وفاة أبيها صلّى اللّه عليه وسلم بطريق الإرث ، وقد ردت دعواها لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، - أو كما قال - .
وقد ثبت لك أن الآية المدنية لا بد من دليل يؤيد مدنيتها ، وهذه الآية مكة ، وحادثة فدك بالمدينة ولا يوجد ما يؤيدها.
قال تعالى «ذلِكَ» إعطاء القرابة المساكين وأبناء السبيل فيه «خَيْرٌ» كثير لفاعله ، وإنفاق المال لأمثال هؤلاء أحصن من الاستئثار للإنسان بما أتحفه اللّه به من النعم ، ومنعه من الفقراء وشبههم «لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» بإنفاقه ويتقربون به إليه «وَأُولئِكَ» المريدون وجه اللّه بصدقاتهم المعطون لها عن طيب(4/449)
ج 4 ، ص : 450
نفس «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 38 الفائزون بالنعيم المقيم عند اللّه القائل «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ» بأن تأخذوا أكثر منه «فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ» بل يمحق بركته ويفنيه ، وقال بعض المفسرين ما أعطيتم من الهدايا بقصد أن تعود عليكم بأكثر منها فلا يبارك لكم فيها عند اللّه لأنكم لم تبتغوا بها وجهه ، فلا يثيبكم عليها ، وقال إن هذا كان متعارفا عندهم قبل الإسلام ، وبقي على حاله فيما بينهم ، وحرّم على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وحده ، واستدلوا على هذا بقوله تعالى (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) الآية 6 من سورة المدثر المارة في ج 1 ، ولهذا يقولون تأتي الهدية على حمار فترجع على بعير.
وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية المذكورة من المدثر فراجعها.
وقال بعضهم المراد بالزيادة هنا الزيادة المعروفة بالمعاملة التي حرمها الشرع ، لأن الآية نزلت في ربا ثقيف وقريش ، وهذا القول أوفق بظاهر الآية لأنها تشير إلى مقدمات تحريم الربا على طريقة التدريج التي أشرنا إليها في المقدمة في بحث التدريج بالأحكام ، كما وقع في الخمر ، والمعنى الأول بعيد عن الظاهر ، على أنه يبعد أن يراد بها واللّه أعلم بيوع العينة التي كانت تتعاطاها الجاهلية وبقي أثرها في زمننا هذا ، المشار إليها في الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي اللّه عنها في بيع العينة ، وذلك أن يبيع الرجل ما يساوي خمسة بعشرة مثلا لقاء الإمهال ، أو يبيعه شيئا صوريا لا حقيقة له مثل أن يقول له اشتريت مني هذه الساعة أو هذا البساط أو هذا القماش بعشرة ؟ فيقول اشتريت ، وقبلت ، لفظا من غير تقابض أو بتقابض ، ثم يقول له بعتنيه بثمانية ؟ فيقول بعتكه ، فيعطيه الثمن الأخير ويكتب عليه الأول ، فهذه بيوع لا يبارك اللّه بها لأن ظاهرها بيع وباطنها ربا ، واللّه مطلع على النيات لا تخفى عليه خافية والأمور بمقاصدها ، لهذا فإنه تعالى لا بد وأن يسلط على متعاطيها ما يمحق ماله ويسلب نعمته من ولد أو زوجة أو قريب أو إتلاف بحرق أو غرق أو خسارة ، لأن هذا العمل حيلة على اللّه العالم بجليات الأمور وخوافيها ، وقد مسخ اللّه طائفة من بني إسرائيل قردة وخنازير حينما احتالوا على صيد السمك يوم السبت راجع الآية 162 من الأعراف في ج 1 ، وقال بعض الأئمة إن الذين يأكلون الربا بالحيلة يحشرون يوم القيامة على صور القردة والخنازير ، استنباطا من(4/450)
ج 4 ، ص : 451
قوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) الآية 276 من البقرة في ج 3 ، والآية المتقدمة من الأعراف ، وسنأتي على توضيح هذا هناك إن شاء اللّه مع قصة أهل البيت في موضعها بالآية 60 من المائدة في ج 3 إن شاء اللّه.
وقد شاهدنا كثيرا ممن تعاطوا الربا أصالة وبالحيلة قد أفقرهم اللّه وسلب نعمتهم وأحاجهم إلى السؤال ، ومنهم من تمتع بها مدة حياته ولم ينتقل ماله لأولاده ، ومنهم من انتقل ماله لأولاده فاستهلكوه فيما حرم اللّه واحتاجوا إلى السؤال.
وعلى كل فإنهم لا ينتفعون بما لهم انتفاعا نافعا في الدنيا ، فهم في الآخرة أشد حرمانا منه ومعاقبة عليه.
ولهذا البحث صلة أيضا في الآية 34 من سورة التوبة في ج 3 ، ألا فلينتبه الذين يريدون دوام نعم اللّه عليهم وانتقالها لأولادهم من ذلك ، وليتعظوا بغيرهم ويتوبوا إلى ربهم قبل أن يحيق بهم عذاب الدنيا ويحيط بهم عذاب الآخرة.
قال تعالى «وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ» طهارة ، لأن النفقة المقبولة طهارة لصاحبها من الذنوب ، لأن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الزكاة ، كما أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الحج ، ومنها لا يكفرها إلا الهم بالمعيشة ، ومنها ومنها طهرنا اللّه منها.
وقد يراد بهذه الطهارة ما يقابل (وما آتيتم من ربّا) إلخ ، أي طهارة لأنفسكم بعقود البيع الصحيحة الخالية من ذلك الفضل المصرح به فيها بأنه ربا ، فإنكم نثابون عليه ثواب الصدقة لما فيها من مراعاة حق المسلم ، ولذلك أعقبها بقوله «تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» بها وتبغون رضاءه «فَأُولئِكَ» المجتنبون الحالة الأولى الفاعلون الثانية «هُمُ الْمُضْعِفُونَ» 39 الذين تضاعف لهم البركة والرحمة والأجر على عملهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة واللّه يضاعف لمن
يشاء بأكثر وأكثر ، إذ أثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة التي يتوخونها من ذلك الربا الرجس ، وقد مدحهم اللّه تعالى على فعلهم الطيب الطاهر بالإشارة الدالة على التعظيم تقديرا لفعلهم الحسن.
هذا ، وإن ما ذكرته في تفسير هذه الآية لم يتطرق له أحد من المفسرين ، كما هو الحال في تفسير الآية 88 من سورة النمل المارة في ج 1 ، ولعلها ممّا ينتقد ، ولكن حسب اعتقادي أقول إنه أحسن قول في تفسيرها ولا أقول كما قال الغير فيما ينفرد به :
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم(4/451)
ج 4 ، ص : 452
إذ لعله : أن يقف على ضد ما فهمته.
ولا أصمه بالشطر الأخير من قوله :
وما علي إذا ما قلت معتقدي إلى جهول يظن الجهل عدوانا
وأظنه إذا أنصف حبّذ ما قلته لأنه منطبق على المعنى الواقع ، وبعد أن فوضت العلم فيه إلى اللّه لم يبق محل للانتقاد وغيره.
قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» كلا لم يستطيعوا ولن يستطيعوا لأنهم وأوثانهم مخلوقون له «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 40 أنظر رعاك اللّه إلى ما تضمنته هذه الآية الكريمة من بلاغة عظمى في قوله من الأولى والثانية والثالثة إذ استقلت كل منها بتأكيد تعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم.
مطلب ظهور الفساد في البر والبحر ، والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر وعسى أن تكون لامته من بعده :
قال تعالى «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» من المعاصي فإن الناس صاروا يقدمون على المنكرات والفواحش وهم سائرون في البحر ولم يخشوا أن يرسل اللّه عليهم ريحّا فتغرقهم ، كما أنهم يفعلون تلك الخبائث في البر ولم يخافوا أن يخسف اللّه بهم كما فعل بغيرهم ، وقد كثر الحرق والقتل والنهب والسلب والزنى واللواطة والشرب والقمار فيهما معا ، وقل الحياء ، فلا حول ولا قوة إلا باللّه ، اللهم أجرنا من غضبك ومن القحط فقد قلت بركات البر حتى ان الزرع لا يأتي بضعفه وبركات البحر حتى ان اللآلئ لا تكاد تدرك.
وما قيل إن فساد البر في مدن الصحراء ، وفساد البحر في مدن السواحل ، أو قلة مياه العيون ، أو عدم إثبات الأرض ، وخلو الأصداف ، أو بقتل ابن آدم أخاه ، وفي البحر بغصب الجلندي السفينة المار ذكرها في الآية 71 من سورة الكهف ، وغير ذلك مما يضاهي هذا ، فهو بعيد عن المعنى المراد بمناسبة هذه الآية ، وإن تقييدها بمثل هذه المسائل مناف لظاهرها العام المطلق في كل فساد يقع في البحر.
وهؤلاء الذين يعيثون في الأرض فسادا في البر والبحر لا يهملهم اللّه ، وقد أمهلهم «لِيُذِيقَهُمْ» جزاء «بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» مقدما معجلا «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 43 عن(4/452)
ج 4 ، ص : 453
هذه الأعمال القبيحة ، حتى إذا أصروا عليها عاقبهم عليها كلها في الآخرة غير عقاب الدنيا.
واعلم أنه لا يوجد في القرآن العظيم آية مبدوءة بالظاء غير هذه «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ» وتفكروا في أطلال منازلهم وتدبروا كيفية إهلاكهم واسألوا عن أسبابها وإبقاء مساكنهم خاوية تعلموا أنه «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» 42 باللّه جاحدين حقوقه مثلكم ، واعلموا أنكم إذا لم ترجعوا عما أنتم عليه يكون مصيركم مثلهم.
وأنت يا سيد الرسل لا يهمنّك تماديهم «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ» المعهود في الآية 30 المارة ولا تكرار ، لأن في الأول لفظ حنيفا وإشارة إلى الدين الحنيف بأنه هو الدين القيم ، وفي هذه القيم فقط الذي لا عوج فيه ، والمعرفة إذا أعيدت يراد منها الأولى نفسها كما أوضحناه في سورة الانشراح ج 1 ، وقد أمر اللّه عباده على لسان رسوله بإقامة الدين والإسراع للتمسك فيه «قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» إذ لا يقبل فيه الرجوع إليه ولا التوبة ولا الفداء ولا الشفاعة المطلقة «يَوْمَئِذٍ» يوم يحل ذلك اليوم العظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، حينئذ «يَصَّدَّعُونَ» 43 يتفرقون بعضهم عن بعض ، والتصدّع تفرق أجزاء الأواني ، واستعير لمطلق التفرق ، قال تعالى (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الآية 4 من القارعة في ج 1 ، أي أن أشخاص الناس تتفرق لشدة هول ذلك اليوم.
واعلموا أيها الناس أن «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» هو يحمل وباله وحده «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» 44 يوطئون لها ويبنون وهو عبارة عن معنى يستفاد من أفعال الخير التي سيراها صاحبها حسا ، أولا في القبر ، وثانيا في الجنة ، كما يمهد الإنسان فراشه في الدنيا ليستريح عليه في مضجعه من كل ما ينغص نؤمه.
قال تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ» بأكثر مما عملوا لأنهم أحبابه ، أما الذين عملوا السيئات فإنه يعاقبهم في ياره «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» 45 لأنهم كرهوا الخير لأنفسهم فأبغضهم اللّه ، لأن من لا يحبه يبغضه.
ثم عطف على الآيات من 20 إلى 25 المارة التي عدد فيها آثار نعمه على عبده تذكيرا لهم بأفضاله(4/453)
ج 4 ، ص : 454
وحثا لهم على الإخلاص لحضرته ، لأنه هو وحده المتفضل بها عليهم ، فقال جل قوله «وَمِنْ آياتِهِ» الدالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته «أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» عباده بالغيث «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» ثمر الخصب المتسبب عنه «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» بسبب تلك الرياح ، فتصلوا إلى مقاصدكم من البلاد والقرى والبوادي وغيرها «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الأرباح في زروعكم وأثماركم وتجاراتكم برا وبحرا «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 46 نعمه المتوالية عليكم.
قال تعالىَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ»
كما أرسلناك إلى هؤلاء ، أي الموجودين على ظهر الأرضَ جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ»
على صدقهم كما جئتهم به أنت وكذبوهم كما كذبوكَ انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا»
منهم وأنجينا المؤمنينَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
47 بنا.
واعلم أن في الآية 103 من سورة يونس المارة والآيتين 171 و172 من سورة الصافات المارة أيضا والآية 21 من المجادلة الآتية في ج 3 ، وفي هذه الآية بشارة عظيمة لحضرة المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم بالظفر والنصر على أعدائه ، وفيها كفالة وعهد من اللّه تعالى على نفسه المقدسة بنصر المؤمنين وهو الموفي بعهده ووعده ، القائم بكفالته ، الصادق بما يخبر ، وقد وفّى لرسوله ما تعهد به له ولأصحابه ، وهذا الوعد عام لكل مؤمن ومؤمنة مستمر إلى يوم القيامة ، وفيه أيضا وفي الحساب والقضاء ، ولكن الناس لم يكونوا مؤمنين موقنين بالمعنى الذي يريده اللّه منهم كما كان عليه محمد وأصحابه ، ولو كانوا كذلك ما سلب منهم نعمة الملك ، ولم يسلط عليهم عدوهم ولجاءهم النصر من حيث لا يشعرون ، وسخر لهم كل شيء ، ولكن أين الإيمان وأين الإسلام كل منهما رسم بلا جسم ، ومسمى بلا اسم ، ودعوى بلا برهان ، وقول بلا بيان ، نعم انهم مسجلون رسميا مسلمين ، وأعمالهم أعمال الكافرين ، لا تراحم ولا توادد بينهم ، ولا صلاة ولا صوم ولا حج ولا زكاة ولا صدقة بالمعنى الذي يريده اللّه منهم ، ولكنهم زناة شربة خمر قذفة للمحصنات كذبة همّازون لمأزون محتالون شهداء زور وبهتة مغترون ، فأنى ينظر اللّه إليهم ، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : لازلتم منصورين ، ما دمتم متبعين سنتي فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم ، (4/454)
ج 4 ، ص : 455
فإذا كان هذا جزاء ترك السنن فما بالك بالفرائض ، وما بالك بارتكاب المحرمات ، وما بالك بالتجاهر بالشرب واللعب واللواطة بلا خوف من اللّه ولا حياء من الناس ، وإني أخشى أن يكونوا قد صاروا حثالة بالمعنى الوارد في قوله صلّى اللّه عليه وسلم يذهب الصالحون أسلافا الأول فالأول ، حتى لا يبقى من الناس إلا حثالة كحثالة الثمر والشجر لا يبالي اللّه بهم.
رحماك ربي عاملنا بما أنت أهله ، ولا تعاملنا بما نحن أهله يا أهل التقوى وأهل المغفرة.
ومما يدل على أن هذا الوارد في الآيتين المذكورتين نصر مستمر في الدنيا والآخرة ما رواه أبو الدرداء قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حتما على اللّه أن يرد عنه نار جهنم ، ثم تلا هذه الآية ، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر بمعناه.
قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ» مسيرة يوم وأيام وأقل وأكثر خفيفا أو كثيفا «وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً» قطعا متفرقة أو يضم بعضه لبعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» من فرجه ووسطه «فَإِذا أَصابَ بِهِ» بذلك الغيب «مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» 48 به لما يدره عليهم وعلى أنعامهم ودوابهم من الخيرات «وَإِنْ كانُوا» أولئك العباد «مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ» ذلك الغيث «مِنْ قَبْلِهِ» كرره تأكيدا للدلالة على بعد عهدهم به والأحسن عود هذا الضمير إلى الرياح ، فيكون المعنى من قبل أن ينزل عليهم من قبل إرسال الرياح «لَمُبْلِسِينَ» 49 قانطين آيسين ، لأنه بعد إرسال الرياح يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها ، فإذا هبت الرياح قبل المطر لا يكون مبلسا بل يكون راجيا برؤية هيئة السحاب وهبوب الرياح «فَانْظُرْ» يا من يتأتي منك النظر «إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ» وحسن تأثيرها في الأرض وفي قلوب الناس «كَيْفَ يُحْيِ» الإله القادر الرؤوف بخلقه «الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات والأزهار والثمار «إِنَّ ذلِكَ» الإحياء للأرض بعد يبسها الذي هو بمثابة الموت لها وإحياء نباتها بعد جفافه بالمطر من قبل اللّه القادر على ذلك فإنه ولا ريب «لَمُحْيِ الْمَوْتى » كما أحيا الأرض الميتة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 50 لا يعجزه شيء ، (4/455)
ج 4 ، ص : 456
قال تعالى «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً» ليبس الأرض وما عليها «فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا» بعد أن كان ذلك النبات أخضر يهتزّ «لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» 51 ما أسلفناهم من نعم الغيث ويجحدون نزوله كأنما لم نغثهم أبدا.
واعلم أنه لم يأت في القرآن لفظ المطر إلا للعذاب ، والغيث إلا المرحمة ، وقد بينا ما يتعلق بتفصيل هذا في الآية 22 من سورة الحجر فراجعها.
قال تعالى «فَإِنَّكَ» يا سيد الرسل «لا تُسْمِعُ الْمَوْتى » قلوبهم «وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ» المختوم على آذانهم «الدُّعاءَ» الذي ترشدهم به «إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» 52 عنك بظهورهم لأنهم إذا كانوا مقبلين إليك قد يفهمون بالإشارة والرمز «وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» في هوّة هواهم «إِنْ تُسْمِعُ» ما تسمع «إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» لأنهم مقبلون إليك بقلوبهم وأبصارهم مصغون بعقولهم وآذانهم ، ينظرون لما تقوله بكليتهم «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» 53 لك منقادون مطيعون لأوامرنا التي تبلغهم إياها ، فاترك أمثال أولئك واعرض عنهم ولا تحزن عليهم لأنهم في حكم الموتى واحرص على هؤلاء فإنهم هم المنتفعون بوعظك ونصحك.
مطلب في سماع الموتى وتلقين الميت في قبره وإعادة روحه إليه والأحاديث الواردة بذلك :
هذا ، وقد استدل بعض الحكماء بهذه الآية على أن الأموات لا يسمعون ، وأيدها بقوله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية 22 من سورة فاطر ج 1 ، وهذا القائل توصل بقوله هذا إلى عدم تلقين الميت في القبر إذ لا فائدة له منه ، وقال لو حلف لا يكلم فلانا فكلمه ميتا لا يحنث لأنه ليس بأهل للكلام ولا للسماع.
وحكى السفارينى في البحور الزاخرة أن عائشة رضي اللّه عنها ذهبت إلى نفي السماع وذلك أنه جاء في صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال : ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، فقالت ذهل ابن عمر إنما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إنه ليعذب بخطيئته وذنبه ، وإن أهله يبكون عليه الآن ، قالت وذلك مثل قوله أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم يسمعون ما أقول ، إنما قال إنهم(4/456)
ج 4 ، ص : 457
الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ، ثم قرأت الآيتين ، ورجح هذا القاضي أبو يعلى من أكابر الحنابلة في كتابه الجامع الكبير ، مستدلين بالآيتين المذكورتين وشبهها مما في القرآن العظيم.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنهم يسمعون وهو اختيار ابن جرير الطبري وابن قتيبة وغيره ، وقال ابن عبد البر : إن الأكثرين على هذا ، واستدلوا بما جاء في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي اللّه عنهما قال :
لما كان يوم بدر وظهر عليهم (على المشركين) رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا ، وفي رواية أربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى (بئر من اطواء بدر) وأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ، فقال عمر رضي اللّه عنه يا رسول اللّه ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟! فقال والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم.
زاد في رواية لمسلم عن أنس : ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا.
وبما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى انه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل (يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلم) ؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد اللّه ورسوله ، فيقال أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا ويفسح له في قبره سبعون ذراعا ، وتملأ عليه خضرا إلى يوم القيامة ، وأما الكافر إلخ.
وبما رواه الطبري في الكبير عن أبي أمامة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس القبر ثم ليقل يا فلان بن فلانة ، فإنه يقول أرشدنا يرحمك اللّه ، ولكنكم لا تسمعون إلخ.
وبما أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال : كانت امرأة بالمدينة تقم المسجد فماتت ، فلم يعلم بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فمر على قبرها فقال ما هذا القبر ؟
فقالوا أم محجن ، قال التي كانت تقم المسجد ؟ قالوا نعم ، فصف الناس ، فصلى عليها ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أي العمل وجدت أفضل ؟ قالوا يا رسول اللّه أتسمع ؟ قال ما أنتم بأسمع منها ، فذّكر عليه الصلاة والسلام أنها أجابته قم المسجد أي كنسه ، وإجابتها له(4/457)
ج 4 ، ص : 458
على سبيل المعجزة له صلّى اللّه عليه وسلم.
وبالحديث الذي رواه الشيخان المار ذكره في الآية 26 من سورة إبراهيم المارة في بحث سؤال القبر.
وبما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير المشار إليه في الآية 41 من سورة النازعات المارة وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال أشهد أنكم أحياء عند اللّه تعالى ، ثم خاطب أصحابه فقال فزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردّوا عليه إلى يوم القيامة.
وبما أخرجه ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح عن ابن عباس مرفوعا : ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه.
وبما أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له أتسمع ما يقال لك فإذا بلغ حفرته دفنه معه.
وبما في الصحيحين من قوله صلّى اللّه عليه وسلم : إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه يسمع قرع نعالهم.
وأجابوا عن الآيتين بما قاله السهيلي إنها كقوله تعالى (أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) الآية 41 من الزخرف ، أي أن اللّه تعالى هو الذي يسمع لا أنت.
وقال غيره من الأجلة لا تسمعهم إلا أن بشاء اللّه أولا فتسمعهم سماعا ينفعهم ، لأن الشيء قد ينتفي لانتفاء فائدته وثمرته ، قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الآية 179 من الأعراف في ج 1 ، وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في الآيتين المذكورتين.
هذا وإن السيدة عائشة رضي اللّه عنها لم تحضر قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم لأهل بدر ، فغيرها ممن حضر أحفظ للقضية منها ، على أنهم إذا كانوا عالمين كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين ، أما وقد اتفقت الكلمة على أن الشهداء يسمعون لأن اللّه تعالى أخبر عنهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون الآية 171 من آل عمران في ج 3 ، كما سنبينه في تفسيرها إن شاء اللّه ، وأجمعوا على أن روح الميت تعود إليه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء اللّه منهم ، فلا مانع إذا من القول بسماعهم في الجملة ، وهو للقول الحق ، على أن يكون هذا السماع على أحد وجهين :
الأول أن يخلق اللّه تعالى عز وجل وهو القادر على كل شيء في بعض أجزاء الميت(4/458)
ج 4 ، ص : 459
قوة يسمع بها من شاء اللّه إسماعه كالسلام ونحوه ، ولا يمنع من ذلك وجوده تحت الثرى وقد انتحلت منه هاتيك البنية وانقصمت العرى ، ولا يكاد يتوقف في قبول هذا القول من يجوز أن يرى أعمى الصين بقّة الأندلس.
الثاني أن يكون ذلك السماع للروح بلا واسطة قوة البدن ، ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك مطلقا بعد مفارقتها البدن بدون وساطة قوى فيه ، وإذ كان للروح على القول الصحيح تعلق بالبدن كله أو بعضه بعد الموت لا يعلم حقيقته وكيفيته إلا اللّه ، وهذا التعلق غير التعلق بالبدن الذي كان لها قبله أجرى اللّه سبحانه عادة أمره بتمكينها من السمع وخلقه لها عند زيارة القبر ، وكذا عند حمل البدن وعند الغسل مثلا ، ولا يلزم من وجود ذلك التعلق والقول بوجود قوة السمع ونحوها فيها نفسها أن تسمع كل مسموع ، لما أن السماع مطلقا ، وكذا الإحساسات تابعة المشيئة ، فيقتصر على القول بما ورد فقط من السلام ونحوه ، ولا يلزم على هذا التزام القول بأن أرواح الموتى مطلقا في أفنية القبور ، لما أن مدار السماع عليه مشيئة اللّه تعالى ، وقدمنا ما يتعلق في بحث الروح بصورة مفصلة في الآية 85 من الإسراء في ج 1 فراجعها.
مطلب في أدوار الخلقة والجناس وحقيقة أفعال وفعائل وأنواع الكفر والجهل :
قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» هو ماء مهين ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة إلخ وكلها ضعيفة «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» تبدأ من المراهقة إلى الشاب إلى الكهولة إلى الكمال إلخ «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً» لأن ما بعد الكمال إلا النقص «وَشَيْبَةً» شيخوخة فهوما وهو تمام النقصان ، فسبحانه «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» من القوة والضعف والشباب والشيب وغيرها «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بتدبير خلقه «الْقَدِيرُ» 54 على ما يشاء ، وقدمنا ما يتعلق في مراتب الخلق في الآية 67 من سورة المؤمن المارة ، وله صلة في الآية 5 من سورة الحج في ج 3.
قال تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ» المحكوم عليهم بالعذاب لما قدمنا أنه لا يسمى سجر ماء إلا بعد إثبات ما أسند إليه ، وهذا القسم يكون عند تذاكرهم من مدة مكثهم في الدنيا والبرزخ فيقولون «ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» وإنما استقلوا مدة لبثهم مع كثرتها لطول يوم القيامة(4/459)
ج 4 ، ص : 460
على المعذبين وشدّة هوله «كَذلِكَ» مثل هذه الأيمان الكاذبة التي يأتون بها يوم القيامة وأنواع الإفك التي يعتذرون بها ويحاججون ربهم وغيرهم بها «كانُوا يُؤْفَكُونَ» 55 بالدنيا وينصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب ، إذ كذبوا أنفسهم ، لأنهم لبثوا في الدنيا وفي القبر مئات السنين ، وهذا لكذبهم في الدنيا بأنهم لم يبعثوا ولم يحاسبوا ولم يعاقبوا «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ» في حالة الدنيا لهؤلاء الكاذبين «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ» من يوم خلقكم إلى يوم موتكم في الدنيا ، ومن يوم موتكم في البرزخ «إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ» الذي كنتم تنكرونه قرونا كثيرة «وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 56 أنكم تبعثون ولا تصدقون الرسل بما جاءتكم به ، وإن علمكم الآن وتصديقكم لا ينفعكم شيئا لتفريطكم به وقت نفعه ، وفي هذا يقال :
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخش سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
هذا وبين الساعة والساعة في الآية الأولى جناس تام مماثل ، ولا يضر اختلاف حركات الإعراب ولا وجود ال في أحدهما لأنها مؤكدة ، ولا يضر اتحاد مدلولها في الأصل ، لأن المعرف فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمن لمكان النقل في المعرف وصيرورته علما على القيامة كسائر الأعلام المنقولة ، وأخذ أحدها من الآخر لا يضر أيضا ، كما هو موضح في بحث جناس الاشتقاق.
قالوا ولا يوجد في القرآن العظيم جناس من هذا النوع إلا هذه في القسم المكي جميعه ، وسيأتي مثله في الآية 45 من سورة النور في القسم المدني ج 3 إن شاء اللّه ، لأن الابصار الأول فيها جمع بصر ، والثاني جمع بصيرة كما ستقف عليه هناك إن شاء اللّه.
وقال بعضهم إن هذا النوع من الجناس لا يكون بين حقيقة ومجاز ، وان الابصار الثاني في تلك الآية ليس من باب الحقيقة بل في المجاز والاستعارة ، لأن البصيرة تجمع على بصائر لا على الابصار ، ولأن علماء العربية قالوا إن صيغة أفعال من جمع القلة وهو لا يطرد إلا في اسم ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار ، أو مكسورها كغيب وأغياب ، أو مضمومها كرطب وأرطاب ، وساكن العين كثوب وأثواب ، أو محركها كعضد وأعضاد(4/460)
ج 4 ، ص : 461
وفخذ وأفخاذ ، وصفة فعائل من جموع الكثرة وهي لا تطرد إلا في اسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثه مدّة كسحابة وسحائب ، وبصيرة وبصائر ، وحلوبة وحلائب ، وشمال وشمائل ، وعجوز وعجائز ، وسعيد علم على امرأة وسعائد ، وقد استعيرت الأبصار للبصائر مجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز ، وقد ظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز وانكسر التجنيس فيها ، وهو بغير محله لما ذكرنا أن الساعة عبارة عن قطعة من الزمن وكلاهما حقيقة فيه ، تأمل.
قال تعالى «فَيَوْمَئِذٍ» يوم قيام الساعة «لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ» ولا احتجاجهم لأن قبول العذر والتوبة محلّهما الدنيا ، وقد انقضت «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» 57 يسترضون لربهم فلا تطلب منهم العتبى وهي الاسترضاء لفوات محلها ، وبعد أن حق عليهم العذاب فلا مناص لهم منه.
وقال بعضهم : إن العتبى من الإعتاب بمعنى إزالة البعث كالعطاء والاستعطاء أن لا يطلب منهم إزالة عتب اللّه أي غضبه لا بالتوبة ولا بالطاعة ولا غيرهما «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» ليعتبروا فيه فلم يعتبروا ، وهذا إشارة إلى عدم قبول الاعتذار في الآخرة «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ» من الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل ، أو مما نزل على من قبلك «لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ» أيها الرسل «إِلَّا مُبْطِلُونَ» 58 فيما جئتم به ، فكان شأنهم معك كشأنهم مع الرسل قبلك ، لأنهم كلوا يأتونهم بالحق ويكذبونهم ويرمونهم بالباطل من القول ، ويصمونهم بالافتراء فلم ينتفعوا بما نضرب لهم من الأمثال ونقص عليهم من القصص ونذكرهم به من الأخبار السالفة «كَذلِكَ» مثل هذا الطبع البليغ المحكم «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» 59 الجهلة الذين علم اللّه اختيارهم الضلال على الهدى والكفر على الإيمان ، ولذلك وصموا مرشديهم بما لا يليق بهم لشدة توغلهم بالكفر.
واعلم أن الكفر أربعة أنواع : الأول أن يقر بالإيمان بلسانه ولا يعتقد صحته بقلبه وهذا كفر النفاق.
الثاني أن لا يتعرف على اللّه أصلا ككفر فرعون إذ يقول (ما علمت لكم من إله غيري) وهذا كفر إنكار.
الثالث أن يعرف اللّه بقلبه ولا يقره بلسانه كإبليس ، وهذا كفر جحود.
الرابع أن يعرف اللّه يقلبه(4/461)
ج 4 ، ص : 462
ويقر به بلسانه ولا يدين به كأمية بن الصلت وهذا كفر عناد.
ومنه كفر أبي طالب قبل إيمانه في آخر رمق من حياته على قول ابن عباس أو بعد مماته على ما جاء بأن اللّه أحيا له أبوبه وعمه أبا طالب فآمنوا به إكراما لحضرته المقدسة ولما لأبي طالب عليه من الأيادي البيضاء ، والقول بما ذكره ابن عباس أولى لأن الإيمان بعد الموت لا عبرة به إلا أن يكون خاصة له وإكراما لحفيده ، وما عام إلا وقد خصص ، وما ذكرنا من أقواله في الآية 56 من سورة القصص المارة في ج 1 والآية 26 من سورة الأنعام المارة تدل على أنه عارف بربه معتقد صحة رسالة ابن أخيه وأن الذي منعه من التصريح بالإسلام مخافة مذمة قريش.
والجهل اثنان بسيط وهو من لا يعرف صاحبه ما هو للعلم ، ومركب وهو مثل الأول إلا أن صاحبه لا يعرف نفسه أنه لا يعرف ، وهذا هو الذي يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب الحق ، ولهذا قالوا هو شر من البسيط ، وما الطف ما قيل في هذا :
قال حمار الحكيم يوما لو أنصفوني لكنت أركب
لأني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب
وقيل فيه أيضا :
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ولو كنت أعلم ما تقول عذلتكا
ولكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
وقال الآخر :
فبايعا هذا ببخس معجل غبنت ولا تدري إذا كنت تعلم
فإن قلت لا أدري فتلك مصيبة وإن قلت أدري فالمصيبة أعظم
وأمثال هذا كثير.
قال تعالى «فَاصْبِرْ» يا خاتم الرسل على أذاهم فقد أظلك ما وعدناك به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» في نصرك وإعلاء كلمتك ثابت في أزلنا إنجازه فدم على ما أنت عليه «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» 60 أي لا يحملونك على العجلة بما تعدهم به فإنهم لا يصدقونك ولا يؤمنون بوعدك الذي وعدك به ربك مع أنه واقع لا محالة ، ولكن له أجل لا يسبقه.
هذا ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه.
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير(4/462)
ج 4 ، ص : 463
وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه في سنته عن علي كرم اللّه وجهه أن رجلا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية 65 من الزمر المارة ، فأجابه عليه السلام وهو في الصلاة (فاصبر إن وعد اللّه حق ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون) وهذا ليس بكثير على باب مدينة العلم وسيف اللّه ومن هو بمنزلة هرون من موسى بالنسبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقد سماه رسول اللّه حينما خرج إلى ابن ود العامري الإسلام كله.
وفي هذه الآية إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يصدقون بأحوالهم ولا يعتقدون صحتها ، ولذلك يستخفون بهم ويرمونهم بما ليس فيهم وما هم منه براء ، عفا اللّه عنهم وأعادهم إلى الرشد.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة العنكبوت
عدد 35 و85 و29
نزلت بمكة بعد سورة الروم عدا الآيات من 1 إلى 11 فإنها نزلت بالمدينة وهي تسع وستون آية ، وتسعمئة وثمانون كلمة ، وأربعة آلاف ومئة وخمسة وستون حرفا.
لا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الم» 1 تقدم معناه وما فيه أول سورة الأعراف فما بعدها من أمثاله مفصلا «أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» في هذه الدنيا بلا بلاء وهي داره ، ولا امتحان واختبار وهي محلهما ، بمجرد «أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا» باللّه ورسوله وكتابه وملائكته والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من اللّه «وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» 2 فيها بأموالهم وأولادهم وأنفسهم ، كلا ثم كلا.
مطلب لا بدّ من اقتران الإيمان بالعمل الصالح :
لا يكفي الإيمان المجرد ، بل لا بد من اقترانه بالعمل الصالح والصبر على البلاء.
نزلت هذه الآية وما بعدها إلى 11 في المدينة المنورة في أناس كانوا في مكة بعد(4/463)
ج 4 ، ص : 464
هجرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مسلمين فكتب إليهم أصحاب الرسول أن لا يقبل اللّه منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا من محل الكفر إلى الإيمان ، فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فتبعهم المشركون فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، قال بعضهم لو أثاب اللّه المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا ، لقال الكافر المعذب ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي ، فإيمانه الذي تثبيه عليه مما لا يستحق الثواب له ، وبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض من خير الآخرة ونعيمها الذي لا يكيف ، وان نعيم رجل أو امرأة من أهل الجنة لو قسم على أهل الأرض لزاد عليهم بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت ، وقال ابن عباس أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد ابن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم من المسلمين ، وقيل في عمار كان يعذب في اللّه ، وقيل في مهجع بن عبد اللّه مولى عمر وكان أول من قتل من المسلمين في بدر فسماء صلّى اللّه عليه وسلم سيد الشهداء وقال إنه أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة ، فجزع أبوه وأمه فأنزل اللّه هذه الآية.
قال تعالى «وَلَقَدْ فَتَنَّا» اختبرنا وامتحنا «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قبل أولئك المسلمين الممتحنين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم بأنواع البلاء فمنهم من قتل ومنهم من نشر بالمنشار ، ومنهم من مشّط بأمشاط الحديد المحماة ومنهم من أحرق بالنار ، ومنهم من صبر على أنواع التعذيب ، فثبتوا على دينهم ولم ينصرفوا عنه «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ» بهذا الافتتان ، وهو عالم قبل ولكن ليظهر ذلك من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ليطلع عليه خلقه «الَّذِينَ صَدَقُوا» بإيمانهم وحافظوا عليه ولم يثنهم عنه ما أصابهم من البلاء رغبة به وطلبا لما عند اللّه من الثواب «وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» 3 في إيمانهم الذين ذمهم اللّه تعالى بقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الآية 12 من سورة الحج في ج 3 ، أي ليميز الصادق من الكاذب فيما بين الناس ، أما هو جلّ علمه فهما معلومان عنده من يوم قالوا بلى كعلمه بجميع مكوناته ، وان ما يطهره من أقوالهم ليعلم به الناس ، وانه سيكافىء الصادق على صدقه ، ويجازي الكاذب على كذبه.
قال تعالى «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا» يفوتوننا ، (4/464)
ج 4 ، ص : 465
كلا لا يقدرون على الهرب منا ، ولا يفلتون من قبضتنا ، أو يظنون أنا لا نعاقبهم ، بلى سننتقم منهم لا محالة ، وإذا كان هذا ظنهم فقد «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» 4 به فقد خاب ظنهم وبئس ما حكموا به.
واعلموا أيها الناس أن «مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ» في الآخرة فعليه أن يحسن إيمانه ويشفعه بالعمل الصالح ، ويعتقد بالبعث بعد الموت «فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ» المضروب للقائه الذي فيه عقاب الكافر وإثابة المؤمن «لَآتٍ» لا محاله ، فليستعد له ويستمر على صالح العمل كي يصدق رجاؤه ويحقق أمله.
وإتيانه كناية عن إتيان ما فيه من الخير العظيم لأهل الخير ، والشر الجسيم لأهل الشر ، ألا فلينتظر المحسنون ثواب أعمالهم والمسيئون عقابها «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوال عباده سرّها وجهرها «الْعَلِيمُ» 5 بنياتهم طيبها وخبيثها ، ثم طفق جل شأنه يعرض بالجهاد ويرغب فيه لقرب أوانه ، لأنه تعالى سيأذن لحبيبه في هذه السورة بالهجرة التي هي مقدماته ، فقال عز قوله «وَمَنْ جاهَدَ» منكم أيها الناس أعداء اللّه الكافرين أعداءكم لإعلاء كلمة اللّه وتخليص عباده من الذل ومن رق الكفار ، وأنقذهم من أذاهم المرعق ، وصبر نفسه على قتالهم ، وصدق ربه بما آتاه من قوة بدنية ومالية «فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ» لأنها هي التي تحظى بعظيم ثوابه لتلك الغايات الشريفة ، فمن زهد بنفسه لأجل اللّه فيكون جزاؤه ومكادنه عليه ، وناهيك به مجاز يعطي على القليل الكثير ، وعلى العظيم أعظم منه «إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» 6 وإيمانهم وجهادهم ولو شاء لما أحاجهم إلى الجهاد ، ولكن أمرهم به لمنفعة أنفسهم وليظهر لخلقه من منهم الطائع له أزلا والعاصي كما هو مدون في لوحه ولما يعود عليهم بسببه من الخير العميم والفضل الجسيم ، قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» التي أعظمها الجهاد في سبيل اللّه في زمنه ووقت الحاجة الماسة إليه ، وإلا فتوحيد اللّه أعظم منه وسد عرز المحتاج الذي لا يقوم به أحد أفضل أيضا «لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» في الآخرة ولنبدلنها حسنات بسبب ما ضحوه من الأعمال الطيبة لإيمانهم «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» 7 مر مثلها في الآية 97 من سورة النحل المارة.(4/465)
ج 4 ، ص : 466
مطلب برّ الوالدين وما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه ، وأبي بكر مع ولده ، وعياش وأخويه أولاد أسماء بنت محرمة :
قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» أمرناه أن يتعهدهما ويراعي حقوقهما ويحسن إليهما «وَإِنْ جاهَداكَ» ألحّا عليك أيها الإنسان «لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» بإلهيته ، ولا يصح أن يكون إلها إذ لا إله غيري ، أنا الملك صاحب الأمر والنهي «فَلا تُطِعْهُما» في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وان الإشراك لا أعظم منه ولا أجلب لغضب اللّه من معتنقه ، «إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» لا إلى غيري بررتم بوالديكم أو عقفتم أو آمنتم أو كفرتم وحينذاك «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 8 في الدنيا ، فأجازيكم على الخير خيرا منه ، وعلى الشر مثله.
وقدمنا ما يتعلق في بر الوالدين في الآية 24 من الإسراء في ج 1 وفي الآية 14 من سورة لقمان المارة فراجعهما.
وتفسير الجملة الأولى من هذه الآية في الآية 15 من سورة الأحقاف المارة ، وذكرنا في آية لقمان ما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه ، وفي آية الأحقاف ما وقع لأبي بكر أيضا فراجعها.
وقيل إن هذه الآية نزلت في عياش بن ربيعة المخزومي لما هاجر مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فجاء أبو جهل والحارث بن هشام ونزلا عنده في المدينة وقالا له إن من دين محمد صلة الرحم وبر الوالدين ، وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك ، وهي أشد لك حبا (وذلك لأنهما أخواه لأمه) ، فاستشار عمر فقال يخدعانك ، ولئن بقيت لأقسم مالي بيني وبينك ، فلم يزالا به حتى أطاعهما ، فقال له عمر أما إذ عصيتني فخذ ناقتي ، وإن رابك أمرهما فارجع فإنها لا تدرك.
رضي اللّه عنه وأرضاه ، إنه لينظر بنور اللّه ، كيف وقد جاء التنزيل يحمل من أقواله ، وقد قال فيه صلّى اللّه عليه وسلم لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدّثون فإن يك من أمتي منهم أحد فإنه عمر.
وفي رواية : لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن بك في أمتي أحد فإنه عمر.
وكلمة محدّثون بالتشديد ، وفي رواية : ملهمون.
وهذا مما يؤيد أن أن اللّه تعالى لم يترك هذه الأمة من معنى الوحي وآثار الرسالة ، كيف وقد(4/466)
ج 4 ، ص : 467
قال صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدّد لها أمر دينها.
وللّه الحمد ، هذا ، ولما لم يقنع بقوله ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا وليطلعهم عليه ليصدقوا أن من عباده ممن هو ملهم بما يقع من قضائه ، فلما انتهوا به إلى البيداء قال أبو جهل كلتت نافتي فاحملني معك ، فنزل ، فأخذاه وشدا وثاقه ، وجلده كل منهما مئة جلدة ، وذهبا به إلى أمه ، فقالت له لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد.
هذا وقد جعل بعض المفسرين الآيات الثلاث في حق سعد رضي اللّه عنه ، وان ما جرينا عليه أولى ، على أن كلا منها عامة اللفظ والمعنى لا يخصصها عن عمومها هذه الأسباب ولا يقيدها عن إطلاقها ، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ولأن الآية الواحدة قد يكون نزولها لعدة حوادث بسبب انطباق مآلها عليها ، ولم نعهد أن ثلاث آيات نزلت في حادثة واحدة أو آيتين ، وعليه فالقول بنزول الآيات الثلاث المذكورة في حق سعد رضي اللّه عنه لم يثبت ، واللّه أعلم.
ومرت بقية القصة في الآية 11 من سورة لقمان ، وقيل إنها نزلت في سعد بن مالك الزّهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس ، لما أسلم قالت له لا آكل ولا أشرب ولا استظل حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعيّر بي ، فلم يفعل ، وبقيت أياما ، ولما أيست منه أكلت وشربت واستظلت ، قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» 9 من عبادنا مع الأنبياء والأولياء والشهداء والعارفين.
قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ» إيمانا مطلقا «فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ» لأجله أو من أجله «جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ» به من أذية أو إهانة «كَعَذابِ اللَّهِ» أي نزل ما يصيبه منهم منزلة عذاب اللّه في الآخرة وجزع كما يجزع من عذابه لو حل به ، مع أنه لا يعد كل عذاب الدنيا شيئا بالنسبة لجزء من عذاب الآخرة ، فلم يصبروا على ما وقع عليهم من عذاب الدنيا ، ورجعوا عن دينهم وكفروا بربهم ، مع أنه يجب عليهم أن يصبروا عليه مهما كان شديدا ، لأنه فان رغبة بما عند اللّه للصابرين من نعيمه الدائم.
وهذه سمة المنافق فإنه إذا أوذي في اللّه رجع عن دينه ، كالذي يعبد اللّه على حرف ، راجع الآية 12 من سورة الحج المشار إليها آنفا ، أما المؤمن فإنه يصبر على ما أصابه(4/467)
ج 4 ، ص : 468
طلبا لما عند اللّه من الثواب «وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ» وغنيمة للمؤمنين من أعدائهم «لَيَقُولُنَّ» لهم أولئك المنافقون «إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» على عدوكم وكنا مسلمين مثلكم ، وإنما أكرهنا على ما وقع منا ، فأكذبهم اللّه بقوله «أَ وَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ» 10 من الإيمان الصادق والنفاق المحض وغيره ،
بلى هو أعلم منهم بأنفسهم ، وهذا استفهام تقريري بمعنى القسم ، أي بلى واللّه هو عالم بذلك ، ولهذا أردفه بالقسم.
فقال «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» وثبتوا على إيمانهم حالة البلاء «وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» 11 الذين تخلوا عنه عند الشدة ، أي واللّه إنه عالم بالفريقين حق العلم لأن اللام في الفعلين موطئة للقسم.
نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا مؤمنين بألسنتهم فإذا أصابهم أذى من الكفار واتقوهم على ما يريدونه ، فنضحهم اللّه تعالى ، وهذه آخر الآيات المدنيات.
قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» بمحمد «اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ» أي إذا كان الصارف لكم عنا خوفكم عقاب اللّه الذي يهددكم به محمد فارجعوا عن دينه إلى دينكم ونحن نتحمل عنكم ما يهددكم به ، فأكذبهم اللّه بقوله «وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» هذا نفي مؤكد بالباء الواقعة في خبر ما التي هي بمعنى ليس جيء بها لتاكيد نفي الاستمرار وبمن الداخلة على شيء لتأكيد الاستغراق ثم قرر ذلك بقوله «إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» 12 بأنّ المقيدة للتحقيق والتأكيد واللام الموكدة لها ، ونظير هذه الآية في المعنى الآية 25 من سورة النحل المارة ، كما أن نظير الآيتين 10/ 11 المارتين الآية 166 فما بعدها من سورة آل عمران في ج 3 ، قال تعالى «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ» أوزارهم الباهظة «وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» أيضا ، لأن هؤلاء المضلين عليهم عقابان ، عقابا لافترافهم الكفر ، وعقابا لحمل غيرهم عليه ، راجع الآية 25 من سورة النحل المارة «وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» سؤال توبيخ وتبكيت «عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» 13 من الأكاذيب والأباطيل ويغرون غيرهم بها كقولهم هذا ، روى مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال : من سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن(4/468)
ج 4 ، ص : 469
ينقص من أوزارهم شيء.
والسنة السيئة هي المبتدعة التي لم يرد عن النهي عنها حديث صحيح ، كما أن السنة الحسنة الواردة في الحديث الآخر الذي ذكرناه في آية النحل المذكورة هي غير التي منها حضرة الرسول ، وتنطبق على هذين الحديثين البدع ، فما كان منها سيئا دخل في السنة السيئة ، وما كان منها حسنا دخل في السنة الحسنة.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ» يدعوهم إلى الإيمان باللّه وترك عبادة الأوثان «أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً» لم يقل تسعمئة وخمسين عاما ، لأن الاستثناء يدل على التحقيق ، وغيره يدل على التقريب ، ولأن التعبير بها أقل كلمات من غيرها ، ولأن عقد الألف يدل على التكثير وهو أعظم للكلام.
قال ابن عباس بعث على رأس الأربعين ، ودعا قومه ألفا إلا خمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين ، فعمره ألف وخمسون سنة.
وقال وهب عاش ألفا وأربعمائة سنة.
وجاء في التوراة آخر الإصحاح التاسع أنه عاش مع قومه ستمئة سنة ، وبعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة ، واللّه أعلم.
وهذه الآية كتسلية لحضرة الرسول يعلمه فيها أن من الأنبياء قبلك صبروا على البلاء كثيرا وإنك أولى بالصبر لأنك من أولي العزم ، وإن أمتك مهما قابلتك به ، فإنها أحسن من غيرها من حيث النتيجة ، لأنا جعلناك خير نبي أرسل ، فأرسلناك إلى خير أمة ، فاصبر عليهم فإنك مهما جاملتهم وتحملت منهم لا يكون مثل صبر نوح على قومه في طول مدته ، وإنا بعد صبره هذا أعلمناه بأنهم لم يؤمنوا ، وألقمناه الدعاء عليهم ، فدعا «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ» إجابة لدعوته التي صادقت الوقت المقدر لعذابهم «وَهُمْ ظالِمُونَ» 14 لأنفسهم لعدم إجابتهم دعوة نبيهم للإيمان وإصرارهم على الكفر ، أما نوح «فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ» الذين آمنوا معه من الغرق «وَجَعَلْناها» تلك الفعلة التي فعلناها بهم أو السفينة التي أنجينا بها المؤمنين «آيَةً لِلْعالَمِينَ» 15 أجمع إذ يتناقلون أخبارها جيلا بعد جيل منذ زمنها إلى يوم القيامة.
راجع تفصيل القصة في الآية 44 من نورة هود المارة.
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ» وحده وذروا الكواكب والأصنام التي هي من مخلوقاته وصنع أيديكم «ذلِكُمْ» الذي أرشدكم إليه وأنصحكم به «خَيْرٌ لَكُمْ» من الإشراك(4/469)
ج 4 ، ص : 470
باللّه وعبادة غيره «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 16 الخير من الشر والنفع من الضر ، وقال لهم يا قوم «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً» يدخل فيها كل معبود بغير حق حيوانا أو جمادا ملكا أو إنسا ، أما الأصنام فتختص بما يعمله البشر من فضة وذهب وحديد وغيرها «وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً» كذبا محضا تصنعونه وتسمّونه إلها افتراء على اللّه وبهتا منكم ، يا قوم «إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً» ولا يستطيعون أن يدفعوا عنكم ضرا ولا يجلبوا لكم نفعا ، فاتركوها «فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ» فهو القادر على رزقكم ورزق جميع خلقه الحسّاسة والنامية ، لاحتياج كل إلى الماء والهواء وهما رزق ليعجز البشر عن إطلاقه إذا أمسكه اللّه «وَاعْبُدُوهُ» وحده لا تشركوا به شيئا فإنه لا يقبل الشركة «وَاشْكُرُوا لَهُ» ما خولكم به من النعم العظيمة لأنكم «إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 17 في الآخرة لا إلى أوثانكم وهو الذي يجازي المحسن ويعاقب المسيء ، هذا ما أصدقكم به لخيركم «وَإِنْ تُكَذِّبُوا» ما أقوله لكم «فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ» رسلهم كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، فأهلكهم اللّه بتكذيبهم ، وإني أخاف عليكم إن أصررتم على تكذبي أن يصيبكم ما أصابهم «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 18 الواضح إلى قومه وعلى اللّه الهداية ومنه التوفيق وله الإهلاك والانتقام قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء الناس «كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ» من النطفة ومن لا شيء ثم يميته ويفنيه «ثُمَّ يُعِيدُهُ» في
الآخرة كما بدأه دون كلفة أو إعياء «إِنَّ ذلِكَ» الإبداء والإعادة والإماتة والإحياء «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» 19 لأنه ما بين الكاف والنون من قوله كن ، راجع الآية 27 من سورة الروم المارة «قُلْ» يا أكرم الرسل لهؤلاء المنكرين قدرتنا الجاحدين كتابنا المكذبين لك «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ» يوم القيامة على نمط الأولى إذ لم يتعذر عليه الأحداث إبداء حتى تنعذر عليه الإعادة أخيرا «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 20 وذلك من جملة مقدوراته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
«يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» بسبب وبلا سبب إذا شاء «وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ» كذلك لا يسأل عما يفعل «وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» 21 جميعكم أولكم(4/470)
ج 4 ، ص : 471
وآخركم فله مصير الخلائق وإليه الأمر كله فيهم «وَما أَنْتُمْ» أيها الناس له بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا» يعجزه أيضا من «فِي السَّماءِ» لأن الكل بقبضته لا يستطيع أن يفلت منهم أحد ، وفي هذا حذف الموصول مع بقاء الصلة وهو غير جائز عند البصريين ، وقد أجازه غيرهم واستشهد له في الشعر على المذهبين بقول حسان رضي اللّه عنه وهو :
أمن يهجو رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء
فقد حذف من عجز البيت وأبقيت صلته ، إذا فلا محل للاعتراض على هذا على أن الاعتراض قد يكون إذا كان القرآن مستقى من العربية لا إذا كانت العربية متشربة من القرآن ، ويكون المعنى على التفسير الذي جرينا عليه في هذه الآية لا يعجز اللّه أحد في الأرض من الإنس أو الجن ولا يعجزه أحد في السماء من الملائكة عوامهم وخواصهم ، ومن رأى أن حذف الموصول غير جائز قال ولا في السماء لو كنتم أيها الناس فيها على فرض المحال أي الاستبعاد ، إذ لا محال على اللّه بل بالنسبة إلينا محال هو كما ترى ، قال تعالى «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» 22 يتولى أمركم أو يمنعكم من عذابه «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسله «وَلِقائِهِ» جحدوا البعث بعد الموت الذي فيه لقاء اللّه وماتوا على ذلك «أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي» فلا تنالهم البتة ولا يشموا ريحها «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 23 لا تستطيعه قواهم ولو كانت حديدا.
واعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى أو لم يروا هنا ، جاءت معترضة بين قصة ابراهيم عليه السلام في تذكيره أهل مكة بمناسبة ختام ما ينزل عليهم من القرآن ، إذ ينتهي المكي بانتهاء هذه السورة والتي بعدها فقط ، لأن الخطاب فيها لسيد المخاطبين الذين أعمه أمرهم وأزعجه تماديهم في الطغيان وآسفه عدم تأثرهم من الآيات التي تذوب لها صم الحجارة وآساه اهانتهم له ولأصحابه واذاهم المترادف ، ولم يبق له بعد هذا إلا هجرهم.
قال تعالى فيما يقصه عن سيدنا ابراهيم «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه نعمه لهم وإرشاده إياهم وتحذيرهم بطش ربهم «إِلَّا أَنْ قالُوا» بعضهم لبعض عند ختام مذاكرتهم بشأنه كما تقدم في الآية 65 من سورة الأنبياء(4/471)
ج 4 ، ص : 472
«اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ» ليذيع خبره في الآفاق فيرتدع من تحدثه نفسه بمثل فعله مع قومه وآلهته ، ولهذا اختاروا الإحراق لأنه أكثر سمعة من القتل «فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ» التي القوه فيها على الصورة المقدمة في الآية 71 من الأنبياء المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الفعل الذي فعلوه بإبراهيم وتخليصنا إياه «لَآياتٍ» عظيمات باهرات «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 24 فيعتبرون ويتعظون «وَقالَ» ابراهيم بعد خروجه من النار سالما وأمته نمروذ كما تقدم في القصة يا قوم «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً» لأن تكون «مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» فقط ثم تنقطع في الآخرة لأنها ليست على تقوى وستكون عليكم وبالا ، وهكذا كل صداقة من هذا القبيل راجع الآية 67 من سورة الزخرف المارة «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» وذلك لأن الأوثان تنبرا من عابديها وتنكر أنها كانت معبودة لهم وان رؤساءهم الذين أضلوهم يتبرءون منهم أيضا فيقع التشاحن بينهم فتلعن القادة الاتباع ، والأتباع القادة ، والأوثان عابديها ، والعابدون الأوثان ، ويكثر اللجاج والخصام بينهم ، راجع الآية 31 من سورة سبأ والآية 31 من سورة ابراهيم والآية 47 من سورة المؤمن والآية 20 من سورة السجدة المارات والآية 165 من البقرة فما بعدها ج 3 العابدين والمعبودين ، ويقال لهم حينذاك اخسؤوا لا تكلموا فما لكم من مجيب وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» 25 يحولون دون تعذيبكم البتة.
قال تعالى «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» فقط بعد ظهور المعجزة العظيمة في النار ، وإلا فهو مؤمن من قبل لأن الأنبياء يولدون مؤمنين فلا يتصور فيهم غير الإيمان من بدايتهم حتى نهايتهم «وَقالَ» ابراهيم بعد ذلك كله وقد أيس من إيمان قومه «إِنِّي مُهاجِرٌ» من هذه البلدة «إِلى » حيث أمرني «رَبِّي» لعدم قدرتي على إقامة الدين بين هؤلاء الكفرة ، ولم أجد من ينصرني عليهم لتنفيذ أوامر ربي عز وجل.
مطلب تعويض الهجرة لسيدنا محمد وهجرة ابراهيم وإسماعيل ولوط عليهم الصلاة والسلام وسببها
.
وهو أول من سنّ الهجرة من دار الكفر صيانة لدينه ، وآخرهم حفيده(4/472)
ج 4 ، ص : 473
محمد صلّى اللّه عليه وسلم الذي عرض اللّه تعالى له هجرة جده إيذانا بهجرته من مكة «إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أمره «الْحَكِيمُ» 26 الذي لا يأمر إلا بما يكون فيه المصلحة ولا يرد هنا مسألة الأصلح لأن الأمر غير الإرادة والاختيار غير الوجوب ، تأمل ، وراجع ان شئت الآية 149 من الأنعام المارة وما ترشدك اليه.
قال تعالى «وَوَهَبْنا لَهُ» بعد الهجرة «إِسْحاقَ» من زوجته سارة بنت عمه وكان وهب له قبله إسماعيل من جاريته هاجر «وَ» وهبنا لإسحق «يَعْقُوبَ» في حياته «وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ» أي ابراهيم ولم يصرح باسمه لشهوته وعلو قدره «النُّبُوَّةَ» إذ لم يرسل اللّه نبيا من بعده إلا من ذريته «وَالْكِتابَ» جنسه المشتمل على التوراة والإنجيل والزبور والقرآن إذ أنزلت كلها على ذريته ، ولم ينزل بعدها شيء أبدا «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ» وهو دوام الثناء عليه ومحبته من جميع الأمم على اختلاف مللها ونحلها «فِي الدُّنْيا» فلا تجد أحدا إلا ويثني عليه ، وبسبب بقاء ذريته يستمر ذكره الحسن إلى آخر الدوران «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» 27 للقاء اللّه عز وجل ، فقد جمع اللّه له خير الدارين ، وهو أحق من يكرم بذلك.
قالوا ولما نجى اللّه ابراهيم على الصورة المذكورة في الآية 57 من سورة الأنعام فما بعدها وأذن اللّه له بالهجرة هاجر من أرض بابل إلى الأرض المقدسة هو وزوجته سارة وابن أخيه لوط ، فمروا على حران فأقاموا بها زمانا ثم خرجوا إلى الأردن فدفعوا إلى مدينة فيها جبار من القبط اسمه صارولي ، وهو الذي تعرض له في ساره ، فمنعها اللّه منه ومتعها بهاجر القبطية ، وليس المراد أنها تدبن بالقبطية إذ لم تكن الديانة القبطية مشروعة إذ ذاك ، ويرجع تاريخ تسهية القبط إلى سبعمئة سنة بعد الطوفان ، وإنما سموا قبطا لأنهم نسبوا إلى قبطيم بن مطريم ، قالوا وخرج ذلك الجبار من تلك المدينة فورثها ابراهيم وأ ترى بها ، وأعطى نصفها إلى لوط ، ثم تزوج هاجر بأمر سارة فولدت له إسماعيل وهو ابن ست وثمانين سنة وقيل تسع وتسعين أما إسحق فقد ولدته سارة على طريق المعجزة كما مر في الآية 40 من سورة هود المارة ، وكان ابراهيم ابن مئة سنة ، وقيل وسبع وعشرة سنة كما في الآية 39 من سورة ابراهيم المارة.
ثم أمر اللّه ابراهيم(4/473)
ج 4 ، ص : 474
بالذهاب إلى مكة بإسماعيل وامه ، واعلمه بأنه قد بوأه حرمه وأنه يبنى من قبله ، فأخذهما ووضعهما عند البيت ورجع لأهله كما مر في القصة.
روى البخاري عن ابن عباس قال أول ما اتخذ النساء المنطقة من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتخفي أثرها على ساره ، ثم جاء بها ابراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، فوضعها هناك ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قضى ابراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا ابراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء ؟
فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له اللّه أمرك بهذا ؟ قال نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق ابراهيم فدعا بالدعوات المذكورة في الآية 40 فما بعدها من سورته عليه السلام ، ثم دعا بالآيات 125 فما بعدها من سورة البقرة في ج 3 وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر اليه يتلوى أو قالت يتلبط فانطلقت كراهية ان ترى حالة ولدها ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم ترى أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما (وصار من شعائر الحج) ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا ، فقالت صه تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت صوتا وقالت يا من قد أسمعت إن كان عندك غراث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فيحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء ، فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف ، وفي رواية قدر ما تعرف ، قال ابن عباس : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم يرحم اللّه أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم علينا معينا ، قال فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا للّه تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه ، (4/474)
ج 4 ، ص : 475
(وستأتي كيفية بنائه في تفسير الآية المذكورة آنفا من البقرة ج 3) وان اللّه لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعا في الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، (أي ولا تناله بشي ء) فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا (العائف المتردد حول الماء) فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء ولعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريّا أو جريين (بالتشديد الرسول) فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا نعم ، قال ابن عباس قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم فالفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم ، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم ونشب الغلام وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل ليطالع تركته.
أخرجه البخاري بأطول من هذا ، وسنأتي على تمام القصة في سورة البقرة إن شاء اللّه.
قال تعالى «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» اللواطة المتناهية في الفحش والقبح والخبث التي ابتدعتموها وحدكم «ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» 28 فهم أول من سنها في الأرض ، قاتلهم اللّه «أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ» في أدبارهم «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» الطريق على المارين وتقتلون وتسلبون وتجرون معهم المنكر «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ» مجسكم الذي هو محل مذاكرات أموركم المهمة فيما يتعلق ببعضكم وجيرانكم وغيرهم «الْمُنْكَرَ» اللواطة فينكح بعضكم بعضا فيه ، وتتضارطون ، وتصفرون ، ويحذف بعضكم بعضا بالحصى ، وتفرقعون أصابعكم ، وتعلكون ، وتتبادلون الألفاظ المنكرة البذيئة ، وتتهامزون بالخبث والفحش فيها ، وهي لم تتخذ إلا للاجتماعات والمداولات بالأمور النافعة كالحرب وصادرات البلاد ووارداتها وحسن الجوار مع الناس والمعاهدات وغيرها ، فتوبوا إلى ربكم وارجعوا عن فيكم ، واتعظوا بمن سلف منكم ، كي لا يحل عليكم عذاب اللّه.
«فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» بمقابلة نصحه وتحذيره وإرشاده لما فيه خيرهم «إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ(4/475)
ج 4 ، ص : 476
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ»
29 أن ما نحن عليه قبيح مستوجب للعذاب والآية 82 من الأعراف وهي (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم) إلخ ، وآية النمل (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) إلخ في ج 1 ، وكلها تدل على الاستخفاف به والاستهزاء بقوله والسخرية به وتهديده ، وكان عليه السلام غريبا عنهم ، ولم يأت فيما قص اللّه عنه أنه دعاهم إلى عبادة اللّه كما جاء في قصة
إبراهيم وشعيب وغيرهما لأنه كان في زمن إبراهيم ومن قومه ، وقد سبقه في دعوة التوحيد للّه وعبادته ورفض ما سواه ، واشتهر أمره عند أهل زمنه ، لذلك كانت دعوة لوط لقومه فيما يختص بالنهي عن الفاحشة والأفعال الأخر الخبيثة المار ذكرها فقط ، أما إبراهيم وشعيب كغيرهما من الأنبياء فقد جاء إلى قومهما بعد انقراض من كان يعبد اللّه حال عكوف الناس على عبادة الأوثان ، ولم يكن في زمنهما من يدعو إلى اللّه ولذلك انصرفا إلى دعوة التوحيد والاعتراف بالنبوة والمعاد ، فلما أيس منهم على النحر الذي تقدم في الآية 80 من سورة هود والآية 132 من سورة الصافات المارتين والآية 81 من سورة الأعراف في ج 1 ، دعا عليهم «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ» 30 وحقق «ولي فيهم ، فأجاب اللّه دعاءه.
قال تعالى «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى » بإسحاق ويعقوب «قالُوا» أولئك الرسل وهم الملائكة لإبراهيم «إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ» التي فيها لوط «إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ» 31 أنفسهم بأعمالهم الخبيثة وإهانتهم رسولهم وتعديهم على الناس ، وإنما أخبروه دون أن يسألهم لأنهم يعرفون أن أمر لوط يهمه لقرابته ، ولكونه غريبا عمن أرسل إليهم ، ولهذا «قالَ» إبراهيم «إِنَّ فِيها لُوطاً» وهو نبي فكيف تهلكونهما «قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها» بإعلام اللّه إيانا «لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ» لأنها ليست على دينه إنها «كا(4/476)