ج 3 ، ص : 25
النجوم السيارة والثابتة ويسهل لكم أسباب معايشكم «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ» أي الفلك بأداة الجمع ، لأن فلكا يطلق على الواحد والمتعدد وصرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريق الالتفات أحد أبواب البديع قصدا للمبالغة ، كأنه يذكرها لهم بغيرهم ليعجّبهم منها ويطلب زيادة الإنكار ، لأن الالتفات على الوجه المار ذكره أو بعكسه من أنواع الفصاحة في الكلام «بِهِمْ» بركاب تلك السفن «بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» لينة الهبوب لا خفيفة ولا عاصفة ، وما قيل إنها ساكنة فيكون المراد بها هذا المعنى لا إنها واقفة ، إذ لا يستفاد منها بالسير «وَفَرِحُوا بِها» ركابها لموافقتها لمقصودهم ولوجود النفع التام بها والمسرة العظيمة لاستقامة سيرهم وتيسيره «جاءَتْها» جاءت تلك السفينة السائرة بذلك الهواء اللين أو جاءت تلك الريح الطيبة «رِيحٌ عاصِفٌ» شديد سريع الجريان قاطع للأجسام الصلبة ولم يقل عاصفة لأن عاصفا يستوي فيه المذكر والمؤنث «وَجاءَهُمُ» أي ركاب ذلك الفلك بسبب تلك الريح «الْمَوْجُ» هو ما علا وارتفع من اضطراب المياه وغواربها من شدة حركة ماء البحر واختلاطه بعضه ببعض «مِنْ كُلِّ مَكانٍ»
من أطرافهم الأربع ومن تحتهم وفوقهم «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» من الجهات الست ، وأشرفوا على الغرق وتيقنوا الهلاك ، «دَعَوُا اللَّهَ» وحده لا غير «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» إخلاصا حقيقيا لعلمهم يقينا أنه لا ينجيهم من الشدائد والبلايا إلا هو وأن أوثانهم لا تغني عنهم شيئا من ذلك قائلين «لَئِنْ أَنْجَيْتَنا» يا ربنا «مِنْ هذِهِ» الشدة «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 22» أنعامك علينا بخلاصنا موقنين بأنك الإله الواحد ، مؤمنين بصدق أنبيائك ، متمسكين بطاعتك ، ولم يقولوا لنشكرنّك مبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه ، لأن اسم الفاعل يدل على الدوام والتجدد ، والفعل يدل على الإنشاء فقط ، قال تعالى «فَلَمَّا أَنْجاهُمْ» الذي استغاثوا به جل جلاله من ذلك الضيق الذي أحاط بهم بسبب التجائهم إليه «إِذا هُمْ يَبْغُونَ» يفسدون «فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» يعبثون
بمن يمشي عليها ويتجاوزون عليهم ويعملون بغير ما أمروا وأخلفوا ما وعدوا اللّه به من الشكر والإيمان ، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ» الباغون المتجاوزون(3/25)
ج 3 ، ص : 26
على الغير «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» يعود إثمه ووباله ، قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) الآية 45 من سورة الجاثية ونظيرتيها الآية 56 من سورة الشورى الآتيتين ، واعلموا أنكم تتمتعون يبغيكم هذا «مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا» مدة حياتكم فيها وهي قليلة «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة الدائمة «فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 23» بأن نخبركم في الآخرة عن أعمالكم في الدنيا ونجازيكم عليها الخير بأخير منه وانشر بمثله.
مطلب البغي ومتى يكون مذموما ومتى يكون ممدوحا وحكمه :
ولما كان البغي قد يكون بحق مثل هدم دور الكفرة والمعاندين وقطع أشجارهم وحرق زروعهم عند ما يستولي المسلمون عليها عنوة ، كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في يهود بني قريظة الآتية قصتهم في الآية 26 من سورة الأحزاب ، والآية 5 من سورة الحشر ، ويكون بغير حق كأخذ مال الغير ظلما ومجاوزة حدود اللّه تعالى عتوا ، قيّد تبارك وتعالى البغي في هذه الآية بغير الحق لأنه مذموم ، وقد يكون البغي ممدوحا وهو مجاوزة العدل إلى الإحسان ، والفرض إلى التطوع ، والقصاص إلى العفو ، والحق إلى السماح ، لأن معناه اللغوي مجاوزة الحد مطلقا ، وقد تكون هذه المجاوزة في الخير كما ذكرنا فيكون ممدوحا ، وقد يكون في الباطل فيكون مذموما ، وهو بمعناه هذا من أعظم منكرات الذنوب ، لأن معناه الاصطلاحي الإفساد والتجاوز على أموال الناس وأنفسهم ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما ، وقد نظم بعضهم معنى هذه الجملة في بيتين من الشعر وكان الخليفة المأمون العباسي رحمه اللّه يتمثل بهما وهما :
يا صاحب البغي إن البغي مصرعه فارجع فخير مقال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل لا ندك منه أعاليه وأسفله
وقال أيضا :
لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا جنوده ضاق عنها السهل والجبل
ونظمها أيضا الشهاب فقال :
إن يعد ذو بغي عليك فخله وارقب زمانا لانتقام باغي(3/26)
ج 3 ، ص : 27
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى جبل على جبل لدك الباغي
وأقبح أنواع البغي في الحكام قال بهرام وهو لا يعرف الإسلام : أسد حطوم خير من ملك غشوم ، وملك غشوم خير من فتنة تدوم ، فكيف بمن هو مسلم مؤمن ؟ وإن العقلاء حذّروا من غلطة السلطان العادل فكيف بغيره ؟ قال الإسكندر :
على العاقل أن يكون مع السلطان كراكب سفينة ، إن سلم جسمه من الفرق لم يسلم قلبه من الخوف.
أخرج أبو نعيم والخطيب والديلمي عن أنس قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ثلاث هنّ على أهلها المكر والنكث والبغي ، ثم تلا عليه الصلاة والسلام هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إلخ ، وتلا (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الآية 43 من سورة فاطر المارة في ج 1 ، وتلا (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) الآية 10 من سورة الفتح في ج 3.
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم.
وأخرج أيضا من طريق بلال بن بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : لا يبغي على الناس إلّا ولد بغي أو فيه عرق منه.
هذا ، وقرىء متاع بالرفع على أنه كلام مبتدأ أي بغي بعضكم على بعض باطلا هو متاع الحياة الدنيا ، ولا يصلح لزاد الآخرة.
وقراءة الفتح التي جرينا عليها تبعا لما في المصاحف أولى ، لأن الكلام متصل بما قبله ، ولأن المعنى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم لا يتهيا إلا أياما قليلة ، فأقلعوا عنه خير لكم ، قال تعالى «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا» في زوالها وفنائها وقصر مدة التمتع فيها ، والمثل ما شبه مضربه بمورده أي يؤتى بما وقع على ما لم يقع ويستعار للأمر العجيب المستغرب أي إنما حالها في سرعة تقضّيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها «كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ» بذلك الماء «نَباتُ الْأَرْضِ» اشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا لأن الماء كالغذاء للنبات فيجري فيه مجرى الدم من ابن آم «مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ» كالبقول والزروع والحشيش والمراعي «حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها» حسنها ونضارتها وبهجتها باختلاف(3/27)
ج 3 ، ص : 28
أنواع النبات وألوان أزهاره من أحمر وأصفر وأزرق وأبيض وأسود وبين ذلك «وَازَّيَّنَتْ» بنباتها وارواءها فصارت كالعروس إذا نزخرفت بالثياب والحلي واللباس المقول فيه :
كأذيال خود أقبلت في غلائل مصبّغة والبعض أقصر من بعض
وزد على ذلك التطرية والتجميل لما يظهر من جسمها «وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها» أي تحقق لأهل الدنيا تمكنهم من إبداع الشؤون الغريبة والأحوال العجيبة بما شاءوا فيها من بناء رفيع وملك خطير وأموال وأولاد وخدم وحشم ورياش وقدروا باقدار اللّه إياهم على أشياء لم تكن قبل وانقادت لهم معادنها ، وفاضت لهم خزائنها وأطلعهم اللّه على ما كان كامنا فيها ومخبوءا بين طبقاتها من المنافع ، فغاصوا تحت البحار ، وطاروا في الهواء ، وساروا في الأسراب ، وعملوا المدمرات والصواريخ ، وكلم أهل الغرب أهل الشرق والجنوب الشمال ، ورأى بعضهم بعضا بالمرائي المبدعة على البعد ومع الحواجز ، وفعلوا ما أرادوا وتصوّروا وتخيّلوا وظنوا أنهم قادرون على كل ما يريدون ، ونفخ فيهم إبليس ولبسهم العجب فتعاظموا وتكابروا وبغى بعضهم على بعض ، ووليهم أرذلهم ، والتهم القوي الضعيف ، واستخدم الخرق الشريف ، وأعرضوا عن اللّه ، وطغوا في البلاد ، وتحكموا في العباد ، ولم يبق فيهم من ينهى عن منكر أو يأمر بمعروف ، واستحقوا معاجلة عذاب اللّه كما إذا استحصد الزرع «أَتاها أَمْرُنا» بالإهلاك فأوقعناه فيهم فجأة في زمن لم يتوقعوه في جزء من الليل أو جزء من النهار ، وهذا الجزء قد يكون «لَيْلًا» عند أناس «أَوْ نَهاراً» عند آخرين بسبب حيلولة كرة الأرض من الشمس «فَجَعَلْناها» أي الحياة الدنيا بالنسبة لأهلها ومن عليها أي الأرض الجسمية العظيمة بأعين أهلها ، وما أقيم عليها من جبال وحصون وقصور وأودية وأنهار وأشجار «حَصِيداً» كالنبات إذا حصده أهله فلم يبقوا منه شيئا ولم يتركوا له أثرا لأنهم
يستأصلونه لحاجة التين لدوابهم ، ولكن مهما كان استئصالهم له فلا يكون مثل ما إذا كان بحادث سماوي ، إذ تكون تلك الأرض وما كان عليها مما ذكر «كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» أي كأن لم تكن تلك الأرض وكأن لم يكن فيها(3/28)
ج 3 ، ص : 29
أحد مقيما قبل ، لأن غني بمعنى أقام بالمكان ، وهو هنا منفي أي كأن لم يلبث فيها أحد ولم يكن فيها شيء ، كما أن الأرض بعد حصاد زرعها إذا رأيتها تقول كأنها لم تزرع ، والأمس مثل في الوقت القريب ، كأنه قيل لم تغن آنفا.
ويطلق على اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه ، وله أوجه في الإعراب والبناء ، راجع فيه شذور الذهب في علم النحو ، وفيه أن المكسور قد يراد به مطلق اليوم ، أي لا يختص باليوم الذي قبل يومك.
ضرب اللّه تعالى هذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وتكبر على أهلها وأعرض عن الآخرة وازدرى الداعي إليها بنبات برز في الأرض ضعيفا فقوي بالماء وحسن واكتسى كمال رونقه ، ففاجأته صاعقة أو برد أو ريح عاصف فجعلته حصيدا كأن لم يكن زرع أصلا ، ونظير هذه الآية الآية 45 من سورة الكهف الآتية وقد شاهدنا مرارا عند ما يقع البرد على الزرع يترك محله أرضا يابسة كأنها لم تزرع ، وكذلك الطاغي الباغي مهما بلغ من زهو الدنيا وعظمتها ، فإن أجله يفاجئه على حين غفلة فتقصفه قصفا على غرة ، ويكون كأن لم يكن وجد في الدنيا «كَذلِكَ» كما فصلنا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفناكم مصيرها «نُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالة على قدرتنا المنبهة على أحوال الدنيا وعواقبها «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 24» فيها ويعتبرون بما فيها فيقفون على حقائقها ويفقهون معانيها ، وخص المفكرين لأن غيرهم لا ينتفع بها ولا يتوصل إلى إزالة الشك والشبعة التي تحوك في القلب لما رسب فيها من الرين والصدأ المتكاثف الذي حجبها عن التفكر في ملكوت اللّه ، قال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الآية 15 من سورة المطففين الآتية وأمثال هؤلاء هم الذين حكى اللّه عنهم بقوله (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) الآية 6 من سورة فصلت الآتية قال تعالى «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ» من كل مكروه دار الأمان من كل مخوف التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهي الجنة التي يسلم اللّه تعالى وملائكته فيها على أهلها ، وهذه الدار هي الموصوفة بقوله عزّ قوله (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ
لا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) الآية 27 من الواقعة المارة في ج 1 ، وهذه هي التي يدعوكم إليها ربكم أيها الناس لا إلى(3/29)
ج 3 ، ص : 30
زهرة الدنيا الذابلة المحشوة بالمكاره المملوءة بالمخاوف التي هي على شفا جرف هار «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 25» موصل إلى دار النعيم وهذه الدعوة عامة من اللّه تعالى إلى خلقه كافة على لسان رسوله بالدلالة ، إذ حذف مفعولها والهداية خاصة لمن يشاء منهم لإثبات مفعولها ، وهي مساوية للإرادة.
جاء عن جابر قال : جاءت ملائكة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو نائم ، فقال بعضهم إنه نائم ، وقال بعضهم العين نائمة والقلب يقظان ، فقالوا إن لصاحبكم مثلا فاضربوا له مثلا.
وفي رواية خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما للآخر نضرب له مثلا ، فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المائدة.
فقالوا أولوها ليفقهها فإن العين نائمة والقلب يقظان ، فقال بعضهم الدار الجنة ، والداعي محمد ، فمن أطاع محمدا فقد أطاع اللّه ، ومن عصى محمدا فقد عصى اللّه ، ومحمد فرق بين الناس.
قال تعالى «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» العمل وعبدوا اللّه حق عبادته لأن حضرة الرسول فسّر الإحسان الوارد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب بما نصه : قال أي الرجل الموصوف أول الحديث وهو جبريل عليه السلام ، أخبرنى عن الإحسان ، قال أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك.
فهؤلاء الذين هذه صفتهم لهم «الْحُسْنى » الجنة سميت حسنى إذ لا أحسن منها البتة وعرفت فانصرفت إلى المعهود السابق في قوله تعالى (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) «وَزِيادَةٌ» على الحسنى هي رؤية اللّه تعالى التي لا توازيها رؤية ، وهي عند أهل الجنة أحسن من كل شيء.
مطلب معنى الزيادة ورؤية اللّه تعالى :
ولا زائد على نعيم الجنة إلّا رؤية اللّه تعالى المنعم بها ، يدل على هذا ما رواه صهيب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، يقول اللّه تبارك وتعالى أتريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون ألم تبيّض وجوهنا ، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ، قال فيكشف الحجاب فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر(3/30)
ج 3 ، ص : 31
إلى ربهم تبارك وتعالى ، ثم تلا هذه الآية - أخرجه مسلم - وقال به عكرمة والحسن والضحاك ومقاتل والسدي أخذا من قول أبي بكر الصديق وحذيفة وأبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وغيرهم من الصحابة رضي اللّه عنهم ، قال في بدء الأمالي :
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
ومما يؤكد هذا قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية 23 من سورة القيامة المارة في ج 1 ، إذ ثبت لأهل الجنة أمرين أحدهما النضارة وهي حسن الوجه من نعيم أهل الجنة ، والثاني النظر إلى وجه اللّه تعالى كما هنا ، قال الحسن إن الحسنى هي الجنة والزيادة هي العلاوة ، وما هي هذه العلاوة المنكرة تعظيما لشأنها هي رؤية اللّه تعالى ، فأثبت لهم في هذه الآية أمرين أيضا ، الأولى الجنة والثانية الرؤية ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وقد تقدم بحث الرؤية بصورة مفصلة في تفسير الآية 18 من سورة والنجم ، والآية 23 من سورة القيامة ، والآية 143 من الأعراف ، والآية الأولى من سورة الإسراء المارات في ج 1 ، فراجعها ففيها ما ترومه من هذا البحث وزيادة قال تعالى «وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ» لا يغشاها غبرة يشوبها سواد «وَلا ذِلَّةٌ» من أثر هوان مما يرهق وجوه أهل النار من الكآبة والكسوف والاكفهرار بسبب ما يعرض لهم من الحزن وسوء الحال والعياذ باللّه «أُولئِكَ» بيض الوجوه الكرام الأعزاء «أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 26» لا يخرجون منها أبدا «وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ» العظام كالشرك والكفر بدليل التعريف فيكون لهم «جَزاءُ سَيِّئَةٍ» عملوها في الدنيا «بِمِثْلِها» في الآخرة وهذا عدل منه تعالى ، إذ لا يقضي بعقابين على سيئة واحدة بل عذاب واحد ، وفيه تنبيه على أن الحسنة يضاعف ثوابها فيعطى بدل الواحدة عشرة إلى سبعمئة إلى ما يشاء ، وهذا فضل منه على عباده «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» زيادة على ما
يغشى وجوههم من الفتر والاكفهرار ، وقلوبهم من الخوف والهوان مما هيء لهم من العذاب وما ظهر لهم من الخيبة لدى أوثانهم التي كانوا يرجون شفاعتها وتبين لهم أنهم «ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» يمنعهم من عذابه أو يحول دون وصوله إليهم إذا نزل بهم ، كما يكون للمؤمنين شفعاء عند اللّه يشفعون(3/31)
ج 3 ، ص : 32
لهم بإذنه وتصير صفة هؤلاء «كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ» من أثر الذل والهوان والفتر «قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً» لشدة ما يغشاهم من السواد والعياذ باللّه «أُولئِكَ» الموصوفون بالإهانة المشوه وجوههم بالسواد المشبه بطائفة من الليل أو ظلمة آخره «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 27» لا يخرجون منها أبدا ، ولا دليل في هذه الآية على خلود أهل الكبائر بداعي أنها هي السيئات المرادة في هذه الآية ، لأن لفظ السيئات شامل للكفر والمعاصي ، وقد قامت الأدلة على عدم خلود العصاة المؤمنين ، فخصصت الآية بمن عداهم ، وقسمنا في الآية 59 من سورة مريم المارة في ج 1 ما يتعلق بهذا البحث فراجعه.
مطلب الأوثان وما يقع بين العابدين والمعبودين :
قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» مؤمنهم وكافرهم إذ نجمعهم من كل ناحية إلى موضع واحد وهو موقف الحساب ، فتدخل المؤمنين الجنة بدليل قوله تعالى «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا» بعد أن نعزلهم عن المؤمنين في المحشر بقوله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» الآية 70 من سورة يس المارة في ج 1 ما معناه الزموا «مَكانَكُمْ» لا تبرحوه «أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ» الذين كنتم تعبدونهم في الدنيا لتسألوا عن عبادتهم بحضورهم «فَزَيَّلْنا» فرقنا بينهم بعد ما أمرناهم بالثبات في مواضعهم وباعدنا «بَيْنَهُمْ» بين العابدين والمعبودين وقطعنا ما بينهم من التواصل بتمييز بعضهم عن بعض ، وسألنا المعبودين على حدة ، فأنكروا تصدرهم للعبادة ، ثم جمعناهم وسألناهم ، فأجابوا بمواجهة العابدين ما ذكره اللّه بقوله عز قوله «وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ 28» وهذا جواب تبر عن عبادتهم وردّ لقول العابدين إنا كنا نعبدكم ، ولا يقال كيف نطقت ، لأن منها ما هو جماد وهي إما أن تكون منحوتة من حجر أو خشب أو معمولة من طين أو غيره ، فلا يتسنى لها النطق ولا يتيسر ، لأن اللّه تعالى الذي حشرها لهذه الغاية أهّلها في ذلك اليوم للنطق بذلك ، وكذلك الحيوانات والكواكب ، قال مجاهد تنتصب لهم الآلهة فتقول لهم واللّه ما كنا نسمع دعاءكم ، ولا نبصر عبادتكم ، (3/32)
ج 3 ، ص : 33
ولا نعقل ما تقولون ، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا ، فيقول الكفار واللّه إياكم كنا نعبد ، فتقول الأوثان «فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إن» مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان «كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» 29 أي أن شهادة اللّه كافية على أننا لم نعلم بعبادتكم فضلا عن أننا جماد لا نشعر بشيء ، وهذا ظاهر في الأوثان لأنها غافلة لا تعلم شيئا من ذلك ، أما غيرها من العاقلة المتنبّهة العالمة كالملائكة وعزير والمسيح فتؤول كلمة غافلين بحقهم على عدم الرضاء بعبادتهم ، كما تؤول على عدم الشعور بحق الأصنام ، فيقول هؤلاء إنا لم نلق لعبادتهم بالا ، ولم نرض بها ، وكنا غافلين عنها ، وتقول الأصنام إنا لم نشعر بعبادتهم ولا نعلم بها.
هذا إذا كانت الملائكة وعزير والمسيح عالمين بعبادة العابدين لهم يكون جوابهم على نحو ما ذكر آنفا ، أما إذا لم يكونوا عالمين بها وهو أولى لأن اللّه تعالى لما سأل الملائكة عن الأسماء قالوا (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) الآية 32 من سورة البقرة ، وكان صلى اللّه عليه وسلم يسأل جبريل عن أشياء أحيانا فيقول له لا أعلم ، ولقول عيسى عليه السلام جوابا لربه أيضا (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية 115 من المائدة في ج 3 ، مما يدلّ على عدم شعورهم لعبادة عابديهم ، وعلى هذا يكون معنى غافلين بحقهم أيضا مثل معناه في حق الأصنام لتساويهم في عدم العلم.
ولا يخفى أن الملائكة الذين عبدوا غير الحفظة الملازمين لبني آدم.
وهنا سؤال وهو هل يفني اللّه الأوثان بعد حشرها وسؤالهم أم لا ؟ والجواب واللّه أعلم عدم إفنائها أي عدم صيرورتها ترابا كالحيوانات ، وإنما تحشر وتسأل عن عبادتها فتنكر وتتبرأ مما أسند إليها كما هو صريح الآيات ، إذ بضع اللّه فيها قوة النطق والدفاع ، ثم إنها تدخل النار مع عابديها وتحترق معهم بدليل قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) الآية 98 من سورة الأنبياء الآتية ولا اعتراض على أفعاله تعالى من أنها لم تعقل الاحتراق ولم تحس به لأن الذي جعل فيها قوة النطق يجعل فيها قوة الإحساس لا يسأل عما يفعل ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، أما الحيوانات فقد دلّ النص على فنائها كما سيأتي آخر سورة عمّ الآتية ، ولهذا البحث صلة في الآية 22 من سورة الأنعام الآتية «هُنالِكَ» في ذلك الموقف العظيم والهول العميم(3/33)
ج 3 ، ص : 34
«تَبْلُوا» تختبر وقرىء تتلو بتاءين أي تقرأ أو تتبع «كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ» من خير أو شر لأن العملهو الذي يهدي النفس إلى الثواب أو العقاب «وَرُدُّوا» مع ما يظهر لهم من العمل «إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» مالكهم ومدبّر أمورهم ومحاسبهم عليه بالعدل المنفرد في ربوبيته ، لا ما كانوا يتولونهم في الدنيا مما لا حقيقة له بالربوبية ، لأن كلمة مولى تأتي بمعنى المالك وتأتي بمعنى الناصر كما في قوله تعالى :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) الآية 11 من سورة محمد في ج 3 ، كما أنها تأتي بمعنى السيد وبمعنى العبد قال :
ولن يتساوى سادة وعبيدهم على أن أسماء الجميع موالي
ومثل هذه الكلمات تؤول في كل محل بما يتاسبها بحسب المقام «وَضَلَّ عَنْهُمْ» خفي وضاع وغاب «ما كانُوا يَفْتَرُونَ 30» في الدنيا من الأصنام والأوثان بأنها شركاء للّه أو أنهم يشفعون لهم ، أما من عبد وهو يعلم وقد أمر الناس بعبادته كنمرود وفرعون فهؤلاء لا يشفعون ولا يؤذن لهم فيعتذرون بل يساقون على وجوههم سحبّا إلى جهنم واللّه أعلم.
فيا أكرم الخلق.
«قُلْ» هؤلاء المشركين «مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» غيثا ونباتا أأوثانكم أم اللّه «أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ» فلا يقدر أن يسمع أحدكم صاحبه إلا بإذن اللّه «وَالْأَبْصارَ» فلا يستطيع أن يبصر أحدكم صاحبه بها إلا بأمر اللّه لأنه هو الملك الحقيقي المالك لجوارح الإنسان والحيوان وهو الذي يحميها من الآفات والطوارئ إن شاء اللّه مدة الحياة مع ما هي عليه من اللطافة ، إذ يؤذيها كل شيء ، ومن يقدر على خلقها وتسويتها على هذه الصورة العجيبة والهيئة البديعة إلا اللّه ، وإن من يقف على علم التشريح يرى ما يبهر العقل كما بيناه في الآية 28 من سورة فاطر المارة في ج 1 ويحيّر اللبيب ، فسبحان الإله الفعال النادر.
وليعلم أن علم التشريح يزيد في الإيمان ويقوي العقيدة لمن يريد اللّه هدايته «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» المؤمن من الكافر ، والفرخ من البيضة ، والزرع من الحبة في الأرض والإنسان والحيوان من النطفة في الرحم «وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» الكافر من المؤمن ، والبيضة من الطير ، والحب من الزرع ، والنطفة من الإنسان والحيوان «وَمَنْ يُدَبِّرُ(3/34)
ج 3 ، ص : 35
الْأَمْرَ»
في هذا الكون الجسيم علويه وسفليه آللّه أم أوثانكم ؟ «فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ» أي أنهم يجيبونك اضطرارا بأن الفاعل لذلك كله هو اللّه «فَقُلْ» لهم إذا «أَ فَلا تَتَّقُونَ 31» هذا الرب الكبير الفعال لهذه الأشياء وغيرها وكيف تعبدون غيره مما لا يعقل شيئا وهو عاجز عن نفع نفسه ودفع الضرّ عنها.
وليعلم أنه لا يوجد نص صريح على أن اللّه تعالى هو في السماء أو الأرض ، وأما ما جاء من أنه جل جلاله في السماء على المعنى اللائق به تعظيما لشأنه لا على ما نتصوره نحن ، وأن قوله صلى اللّه عليه وسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قل لها أين اللّه ؟ أعتقها فإنها مؤمنة ، وإقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة والسلام كم تعبد يا حصين ؟ فقال سبعة ، واحد في السماء وستة في الأرض ، فقال صلى اللّه عليه وسلم فمن الذي أعددته لزغبتك ورهبتك ؟
فقال الإله الذي في السماء.
على ما يقتضيه الظاهر.
ومن جملة تنزيهه تعالى نسبته للعلو ، ولذلك يرفع الإنسان يديه نحو السماء في الدعاء أي إلى الخزانة المشار إليها في قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية 22 من سورة الذاريات الآتية فراجعها ، لا لكونه جل جلاله فيها ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 13 من سورة طه المارة في ج 1 ، ولهذا البحث صلة في الآية 18 من سورة الأنعام الآتية ، قال تعالى «فَذلِكُمُ» الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو «اللَّهُ رَبُّكُمُ» أيها الناس الإله «الْحَقُّ» الذي لا ريب فيه المستحق للعبادة وحده «فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ» الصريح الثابت أيها الناس «إِلَّا الضَّلالُ» الباطل ، إذ لا واسطة بين الحق والباطل ، وكذلك لا واسطة بين الإيمان والكفر ولا الجنة والنار ، فالذي يتصف به العبد إما حقّا أو باطلا ومن أخطأ أحدهما وقع في الآخر لا محالة ، لأن من وقاه اللّه من النار أدخله الجنة ، ومن خصه بالإيمان عصمه من الكفر ، وهكذا «فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 32» عن الحق إلى الضلال ومن التوحيد إلى الشرك ؟ سئل مالك رحمه اللّه عن شهادة لاعب الشطرنج والنرد ، فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة ، يقول اللّه تعالى (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فهذا كله في الضلال.
والصارف في الحقيقة هو اللّه تعالى ، والإنكار والتعجب متوجهان إلى منشأ الصرف ، (3/35)
ج 3 ، ص : 36
وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم تعلق غرض به ، وتقدم في الآية 12 المارة ما له صلة في هذا البحث فراجعه «كَذلِكَ» كما حقت الكلمة على الباغين من الأمم السابقة المتجاوزين حدود اللّه «حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» أي حكمه لقوله تعالى (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الآية 13 من سورة السجدة الآتية ، ونظيرتها الآية 119 من سورة هود الآتية أيضا ، أي وقعت «عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا» من أمتك يا محمد الذين تمردوا بالكفر وخرجوا عن حدود اللّه «أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ 33» أي حقت عليهم الكلمة لعدم إيمانهم ، وهو قضاء أزلي ولا راد لقضائه المسجل عليهم في سابق علمه ، المثبت في لوحه ، قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لقومك وغيرهم «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» ينشئه على غير مثال سابق كما أنشأ اللّه «ثُمَّ يُعِيدُهُ» بعد موته كما أنشأه أول مرة ، وهذا استفهام إنكاري وجوابه لا أحد يفعل ذلك ، وهو احتجاج آخر على بطلان الإشراك وحقيقة التوحيد ، ولا يقال إن مثل الاحتجاج إنما يأتي على من اعترف بأن من خواص الإلهية بدء الخلق ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفى الإلهية ، وهم غير مقرين بذلك ، لأن في الآية إشارة إلى أن الاعادة أمر مكشوف ظاهر بلغ في ظهوره وجلائه ، حدا بحيث يصح أن يثبت فيه دعوى أخرى ، ولظهور برهانها صارت أمرا مسلما بالبداهة وجعل ذلك الطيبي من ضعه الإدماج كقول ابن نباته :
فلا بدلي من جهلة في وصاله فمن لي بخل أودع الحلم عنده
فقد ضمن الغزل الفخر بكونه حليما ، قال تعالى «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المنكرين إذا لم يجيبوك بالاعتراف «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» هو وحده لا غير ، لأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 34» كيف تصرفون عن قصد السبيل وتقلبون من الحق إلى الباطل لأن معنى الإفك الصرف والقلب ، ومنه قول عروة بن أذينة :
إن تك عمن أحسن الصنيعة مأ فوكأ ففي آخرين قد أفكوا(3/36)
ج 3 ، ص : 37
وخصّه صاحب القاموس بالقلب عن الرأي وهو أنسب في هذا المقام وهذا أمر من اللّه تعالى إلى حبيبه صلى اللّه عليه وسلم بأن ينوب عنهم ببيان من يفعل ذلك لا بأن ينوب عنهم في الجواب كما قاله بعض المفسرين بل أكثرهم ، لأن القول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له ، إذ ليس المؤول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله سبحانه وتعالى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) الآية 78 من سورة الرعد الآتية في ج 3 ، حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون صلى اللّه عليه وسلم نائبا عنهم في ذلك ، بل إنما هو وجود من يفعل المبدأ والإعادة من شركائهم ، فالجواب المطلوب منهم لا لا غير ، نعم أمر صلى اللّه عليه وسلم بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعيّنه وتحتمّه وإشعارا بأنهم لا يجترئون على التصريح به مخافة التبكيت ، لا مكابرة ولجاجا ، قال تعالى «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» فإذا قالوا لك لا وحتما ان يقولوا لا ، لأن شركاءهم لا تنطق لكونها جماد «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ» ويرشد له ، فإذا كان كذلك قل لهم «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ» ويعبد لأنه هو الذي يعطي العقل ، ويبعث الرسل ، وينزل الكتب ، ويوفق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات الدالات على الهدى الكائنة في الأرض والسماء «أَمَّنْ لا يَهِدِّي» يهتدي الشرع الذي يريده «إِلَّا أَنْ يُهْدى » إليه من قبل الغير كالأصنام وهدايتها عبارة عن نقلها من مكان لآخر بواسطة عابديها ، هذا إذا أريد بهذه الآية الأوثان ، أما إذا أريد العابدون رؤساء الكفرة فيكون المعنى أنهم أنفسهم ضالون فكيف يقدرون على إرشاد غيرهم لأنّهم محتاجون للإرشاد فلا يقدرون عليه إلا بتقدير اللّه إياهم وما هو بفاعل ذلك لهم ، فيكون التمسك بهدايته
تعالى أولى وأوجب «فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 35» بأنها آلهة فتساوونها مع الإله الذي بيده الإحياء والإماتة ، وأي شيء حدا بكم إلى اتخاذ هذه الفجرة آلهة فتعبدونها وتتقربون بها زلفى إلى اللّه ، وأي شيء ظهر لكم من منافعها حتى أشركتموها مع الإله القادر الحق القهار الفعال ، وكيف تحكمون بما يأباه صريح العقل ويقر بطلانه ؟ وهذا احتجاج ثالث على بطلان الشرك(3/37)
ج 3 ، ص : 38
وأحقية التوحيد جيء به إلزاما بعد إلزام لهؤلاء الكفرة ، وجاء كل من الاحتجاجات الثلاثة منفصلا عن الآخر دون العطف عليه إيذانا بفضله واستقلاله في إثبات المطلوب ، والسؤال في كل للتبكيت والتقريع في أقوالهم التي هي ليست بأقوى لهم ، وفي أفعالهم التي هي أفعى لهم ، قال تعالى «وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ» فيما بزعم من ألوهية الأصنام وشفاعتها «إِلَّا ظَنًّا» منهم بأنها أنداد للّه وقضاء بالجور بشركتها له فيما يقولون ويحكمون ويتبعون من الوهم والشبه للتي لا تجدي نفعا ، إذ غاية ذلك هي الظن «وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» إذ لا يقوم مقام اليقين فكيف بالظن الفاسد ، لأن المراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع ، لأن اعتقادهم ذلك عبارة عما يستندون فيه إلى الخيالات الفارغة والّا فية الباطلة من ظنونهم الواهية كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ، ولا يلفتون إلى الحقائق ولا يسلكون مالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحقيقة ، فيفهمون مضمونها ويقفون على صحتها وبطلان ما يخالفها.
هذا وفي تخصيص الأتباع بالأكثر إشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على ماهية التوحيد ، ويعرف أحقيته ولكن لا يتبعه مكابرة وعنادا ، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلى اللّه عليه وسلم بأن ينوب عنهم بالجواب هو أن الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك ، لأن منهم من يعلم أحقية ذلك إلا أنه كان معاندا ولعل النيابة حينئذ عن الجمع باعتبار هذا البعض ، على أن الأكثر قد يطلق على الكل كما قدمناه ، كما أن القليل يأتي بمعنى العدم في قوله تعالى (فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ) الآية 88 من البقرة ، وعليه قول القائل :
قليل التشكي في المصيبات حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وحمل النقيض على النقيض حسن وطريق مسلوك «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ 36» من اتباع الظن والأفعال القبيحة وترك الحق والأعمال الحسنة وهذه الجملة تؤذن بالتهديد والوعيد ، قال تعالى «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ» المنزل عليك يا حبيبي «أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال العلامة ابن حجر إن هذه الآية جواب عن قولهم (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) الآية 15 المارة ، وهو طلب للافتراء في(3/38)
ج 3 ، ص : 39
المستقبل ، وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية ذلك زعمهم وقيل إن كفار مكة زعموا أن محمدا أتى بهذا القرآن من نفسه اختلاقا ، فأخبر اللّه عز وجل في هذه الآية أنه وحي أنزله اللّه إليه مبرأ عن الافتراء وأن محمدا والبشر كافة عاجزون عن الإتيان بمثله أو مثل شيء منه ، وأن ما هو عليه من الفصاحة التي أعجزت الفصحاء وكلّت البلغاء عن معارضته وعن الإتيان ببعض نفائس ما فيه من العلوم وأخبار الماضين والأحكام والآداب ومكارم الأخلاق محقق بطلان ما يقولونه فيه ومبطل زعمهم به ، فلا هو مفترى ولا مختلق ولا سحر ولا كهانة ولا من أساطير الأولين ، ولا تعلمه من الغير ولا أعانه عليه أحد كما يقولون راجع الآية 4 فما بعدها من سورة الفرقان في ج 1 ، «وَلكِنْ تَصْدِيقَ» أي أنزله اللّه تعالى مصدقا «الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور وما تقدمها من الصحف السماوية المنزلة على الرسل السابقين ، لأن ما فيه موافق لما فيها ، ولو أنه جاء مباينا لها لطعن فيه البتة.
ومن المعلوم أميّة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فلو لم يكن من عند اللّه لما قدر على إخبار الناس فيما هو نازل من الكتب القديمة ، فضلا عن الإتيان بغيرها.
فإخباره بالمغيبات الأخر وتلاوته على قومه معجزة عظيمة كافية لنبوّته ، ومبرهنة على صدق نزوله من عند اللّه «وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ» تبيينه من الحلال والحرام والفرائض والأحكام وتوضيح ما فيه من الشرائع دليل صريح وبرهان قاطع على أنه كلام اللّه نازل من عنده على رسوله «لا رَيْبَ فِيهِ» بأنه «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 37» بلا شك ولا شبهة.
والجار متعلق بتفصيل ، وجملة لا ريب اعتراضية كما تقول علي - كرم اللّه وجهه - لا شكّ شجاع ، وعمرو بن العاص لا جرم سياسي ، وحسان رضي اللّه عنه حقا جبان ومعاوية عفا اللّه عنه لا غرو حليم ، إلى غير ذلك.
قال تعالى «أَمْ» منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه ، وبل انتقالية ، والاستفهام لإنكار الواقع أي بل «يَقُولُونَ افْتَراهُ» محمد من عند نفسه «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المفترين عليك وعلى ربك «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» بالإخبار بالغيب والأحكام والوعد والوعيد ، فضلا عما هو عليه من الفصاحة والبلاغة وحسن النظم ، لأنكم عرب مثل المنزل عليه ، وقد(3/39)
ج 3 ، ص : 40
نزل بلغتكم ، وأنتم أشدّ تمرنا في النظم واعتيادا بالنثر ، وأكثر علما بالأمور الملائمة للطبائع البشرية وترض للنفوس بإعطاء كل ذي حق حقه ، فإذا كنتم على هذه الحالة ولم تقدروا على إنشاء سورة من مثل هذا القرآن ولن تقدروا البتة ، فاعلموا أنه من عند اللّه حقا ، وأن لو اجتمعت الأنس والجن على الإتيان بمثله لعجزوا ، لأن الآية منه نفسها معجزة والسورة خارقة للعادة ، فكيف بالقرآن كله الذي لا يقدر على الإتيان بمثله غير الذي أنزله.
مطلب الفرق بين آيات التحدي على الإتيان بمثل القرآن :
والفرق بين هذه الآية وآية البقرة عدد 23 في ج 3 واضح ، لأن المراد هنا بسورة مثل القرآن والمراد بآية البقرة فأتوا بسورة من رجل مثل محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وما قيل إن من هناك زائدة ، قيل لا قيمة له ، إذ لا زائد في القرآن ، فكل قيل بزيادة حرف أو قصه في القرآن قيل غير سديد ، وقائله قد زاد في حده وهو عن الحقيقة بعيد ، فهنا تحداهم اللّه تعالى على الإتيان بسورة مثل القرآن بأحكامه وأخباره وبلاغته وفصاحته ، وهناك على الإتيان بمثله من رجل أمي لا يعرف القراءة والكتابة معروف عندهم مثل محمد ، لأنه أتى به على أميته المحققة عندهم ، فكان معجزا بنفسه ، كما أن الفرق بين هاتين الآيتين وآية هود الآتية بيّن ، لأن تلك تحداهم بها للإتيان بعشر سور منه والإتيان من المخاطبين جميعهم أميهم وقارئهم ، لأنه بعد أن تحداهم بكله في هذه الآية وفي آية الإسراء 89 المارة في ج 1 وظهر عجزهم تحداهم بأقلّ منه بأن طلب منهم الإتيان بعشر سور منه فقط ، ولم يأتوا ولن يأنوا ، فظهر من هذا أن كل آية مختصة بشيء لا تشمله الآية الأخرى «وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لتستعينوا به على ذلك من أمثالكم وآلهتكم التي تزعمون أنها تمدكم في المهمات وتلجأون إليها في المهمات «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 38» في قولكم ، لأنه يستلزم الإتيان بمثله من أفرادكم ويستلزم قدرتكم عليه ، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن ، لأنه عليه الصلاة والسلام تحدّى به على لسان ربه عز وجل مصاقع العرب بسورة ما منه ، فلم يأتوا بذلك ، وليعلم أن مجموع ما نزل حين هذا التحدي واحد وخمسون سورة ، وقد تحداهم على الإتيان بمثلها ، فلم يقدروا(3/40)
ج 3 ، ص : 41
لأنه أخبرهم قبل في الآية 89 من سورة الإسراء المارة في ج 1 ، بأنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو عاون بعضهم بعضا ، لهذا بعد أن تحداهم بأجمعه تحداهم بما نزل منه ، ولما عجزوا تحداهم بعشر سور منه كما سيأتي في سورة هود في الآية 14 الآتية ، قال تعالى «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ» أي القرآن ، لأن الخلق كلهم عاجزون عن الإحاطة بعلومه ، فهؤلاء المكذبون أعجز من باب أولى ، وقد سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبّروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا ، ويعلمون أنه ليس من الممكن أن يأتوا بسورة مثله ، والتعبير هنا بلفظ ما عن القرآن دون إن يقال بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه ، للإيذان بكمال جهلهم ، وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به ، وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعليته ما في حيز الصلة له ، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما ، إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم ، لأنه أبلغ «وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوع برهانه إلى الآن وحتى بعد ، بدليل النفي المتصل ، وقيل ولما يأتهم بيان ما يؤول إليه من الوعيد الذي هددهم به اللّه أو ولم يأتهم تفسير ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب ، وعلى هذا كله فالمعنى أن هذا القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهؤلاء الكفرة فاجئوه بالتكذيب قبل أن يتدبروا ألفاظه ويتفكروا في معناه ، أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة «كَذلِكَ» مثل تكذيبهم هذا الخالي عن التعقل والتأمل «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أنبياءهم وما جاءوهم به من الكتب السماوية ولم يصدقوهم بما وعدوهم به «فَانْظُرْ» يا حبيبي «كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ 39» أنفسهم من الأمم السابقة إذ عذبوا بأنواع العذاب بسبب تكذيبهم رسلهم ، وإن من كذبك يا خاتم الرسل ستكون عاقبته عاقبتهم.
وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقي من أذى قومه ، وتحذير للناس بأن يجتنبوا الظلم لئلا يقعوا في مصيره السيء كما وقع الظالمون قبلهم.(3/41)
ج 3 ، ص : 42
مطلب الآية المدنية وشرط النسخ :
والآية المدنية من هذه السورة هي قوله تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» أي إن من قومك يا محمد من يؤمن بهذا القرآن لسابق سعادته «وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ» لشقائه الأولي «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ 40» استعدادهم الفطري بقبول هذا القرآن واعراضهم عنه باقترافهم الأعمال الفاسدة التي أضلتهم عن الاهتداء به
«وَإِنْ كَذَّبُوكَ» يا سيد الرسل «فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ» أي جزاؤه وهذه الآية من آيات المتاركة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من الكافرون في ج 1 ، وقوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 25 من سورة سبأ الآتية «أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ» لا يصل وإليكم من جزائه شيء «وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ 41» لا يصل إليّ من جزائه شيء.
وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية السيف كما زعمه بعض المفسرين لأن مدلولها اختصاص كل بأعماله وثمراتها له من ثواب وعقاب وإن ما فهم من معناها بعض المفسرين كمقاتل والكلبي وابن زيد ، الإعراض وترك التعرض بشيء للكافرين الذين أمر حضرة الرسول أخيرا بقتالهم لا يدل على النسخ ، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا للحكم المنسوخ وهنا لا رفع أصلا لأن مدلول الآية الاختصاص فقط كما ذكرنا وآية السيف لم ترفع شيئا من مدلولات هذه الآية ، فكان القول بالنسخ باطلا وبعيدا عن الصحة ، قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» إذا قرأت عليهم القرآن ويصغون لما تبين لهم ما يأتون وما يذرون ، ولكنهم لا يسمعون سماع قبول ولا يعون وعي أهل العقول ، فلا تحزن عليهم لأنهم صم عن سماع الحق «أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ» كلا لا تقدر على ذلك لأن من أصمّه اللّه وختم على قلبه لا يمكن أن يسمع بأذنيه ، ولا تقدر على إسماعه وهو أصم ، فكيف إذا ضمّ إليه عدم العقل ، إذ يقول اللّه تعالى «وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ 42» فهل تطمع بإسماعهم بعد أن سلب اللّه عقولهم مع أسماعهم ، لأن اللّه تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما تتلوه عليهم ، إذ أن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي(3/42)
ج 3 ، ص : 43
الصوت على ما يريده مخاطبه ، فإذا اجتمع فقدان العقل مع عدم السمع فقد أيس من إسماعه وإفهامه.
وأعيد الضمير في هذه الآية إلى من باعتبار معناها ، إذ يكون للمفرد والجمع فأعاده في الآية الأولى للمفرد باعتبار لفظها ، وفي الثانية للجمع باعتبار معناها ، وفي الثالثة وهي «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ» باعتبار لفظها أيضا ، أي يتطلع إليك ببصره ظاهرا ليعاين أدلة صدقك ، واعلام نبوتك ، ولكنه لا يصدقك إذ أنتم إلى عمى بصره عمه قلبه «أَ فَأَنْتَ» بعد هذا تقدر «تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ 43» كلا لا تقدر على هداية عمي البصر عمه البصيرة ، ولا يمكنك ذلك لئن الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد بحس ويتفطن بالحدس لما لا يدركه البصير ، وأما الأعمى الأحمق فلا يؤمل منه ذلك ، لأنه جهد البلاء والعمدة على البصيرة ، فمن فقدها فقد أيس من اعتباره وإبصاره ، لأن من لا عقل له ولا بصيرة فهو جماد ، ولا ينتفع انتفاعا كاملا بالحواس الظاهرة ، إلا إذا ضم إليها الحواسّ الباطنة قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً» فلا ينقصهم مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادئ الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق ، إذ أرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ومتعهم بالعقل والسمع والبصر تفضلا منه عليهم «وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 44» بعدم استعمال ما منحهم اللّه به من الجوارح لما خلقت لها ، وعده انصياعهم للأمر بالخير وتدبرهم فوائده ، وركونهم إلى الشر وعدم نظرهم إلى عاقبته ، وإقبالهم على المناهي رغبة فيها ، وإدبارهم عن الرشد.
ورغبتهم عن طرقه ، وصدودهم عن الهدى ، وعدم مبالاتهم بما يؤول إليه ، لهذا فإن تقدير الشقاء عليهم لم يكن ظلما من اللّه ، وحاشاه وهو القائل (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الآية 11 من سورة الحج في ج 3 ، وإنما نسب فعل الظلم إليهم لأنه كسبهم اقترفوه برغبة منهم إليه واختيار له ، ولو أوقعوا شيئا من الظلم كرها لما عوقبوا عليه.
وأعلم أنه لا يجوز نسبة الظلم إلى اللّه تعالى بوجه من الوجوه ، ولو عذب بغير ذنب على سبيل الفرض ، لأن الظلم التصرف بحق الغير دون وجه شرعي ، والخلق كلهم ملك اللّه ، والمالك يتصرف بملكه كيفما شاء وأراد ، والتصرف بالملك ولو على غير وجهه لا يعد ظلما ، إذ لا(3/43)
ج 3 ، ص : 44
حق للغير فيه ، وهو لا يسأل عما يفعل ، له الخلق والأمر.
قال تعالى «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ» واذكر يا محمد لقومك يوم يجمعهم ليوم الحساب ، وإذ ذاك يرون أنفسهم «كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا» في دنياهم هذه التي يرونها طويلة الأمد «إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ» وقيل إن هذا اللبث في قبورهم ، والأول أولى بالمقام ، لأن حال المؤمن والكافر سواء في عدم المعرفة بمقدار اللبث في القبور إلى وقت الحشر ، فتعين حمل المعنى على الكافر ، لأن المؤمن انتفع في مكثه بالدنيا بما عمل من طاعة اللّه ورسوله بخلاف الكافر ، فإنه لم ينتفع بعمره فيها ، لأنه أنفذه بالمعاصي ، لذلك استغل مدة لبثه في الدنيا ، لأنه كان في
شهوات ولذات قانية ، فصارت كالعدم «يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ» إذا خرجوا من قبورهم كتعارفهم بالدّنيا ، ثم يشتد عليهم هول الموقف فتنقطع المعرفة ، ويعرض الحبيب عن حبيبه ، والزوج عن زوجته ، والابن عن أبيه ، والأخ عن أخيه ، والأم عن ولدها ، قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) الآيات 35 فما بعدها من سورة عبس في ج 1 ، وقال تعالى (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) الآية 11 من سورة المعارج الآتية ، وقال تعالى (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الآية 103 من سورة المؤمنين الآتية لهذا يصير التقاطع بينهم ، فلا ينظر أحدهم للآخر ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه عن صاحبه ، وحينئذ يظهر مغزى قوله تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» إذ شاهدوه حقا وكانوا يجحدونه بالدنيا «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 45» في بيع آخرتهم الباقية بدنياهم الفانية وضلوا طريق النجلة ، فحصلت لهم خسارة عظيمة لا تتلافى ، قال تعالى «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» من العذاب في الدنيا قبل موتك يا محمد «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبل أن نريك عذابا فيهم إذ نرجئه للآخرة «فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» فيها ، وهناك ترى ما أوعدناهم به من الوبال الدائم «ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ 46» من المعاصي والقبائح لا حاجة إلى شهود عليها ، لأنها كلها مدونة عنده لم يخف عليه شيء منها ، فكل جارحة تشهد بما فعلت وتبين زمانه ومكانه وصفته ، وإذ ذاك يذوقون العذاب الأليم.
وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن بلفظها ومعناها كالآية 94 من المؤمنين الآتية وغيرها ، (3/44)
ج 3 ، ص : 45
وفيها وعيد وتهديد للكفار وأهل المعاصي ، وبشارة لحضرة الرسول بأن اللّه تعالى سيريه العذاب الذي أوعدهم بإنزاله والذل والخزي في الدنيا والآخرة وقد أراه بعض ذلك يوم بدر ، وفي فتح مكة وغيرها من أيام انتصاره عليهم ، وسيريه أيضا ما خبىء لهم في الآخرة من العذاب الذي لا ينقضي «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ» فرقة وطائفة وقوم ورهط وعشيرة وفخذ وبيت «رَسُولٌ» يرسله اللّه تعالى لإصلاحها فيأمرهم وينهاهم ويحذرهم ويبشرهم ، فيؤمن به من شاء اللّه إيمانه ويكفر به من شاء خذلانه ، مثلك مع أمتك ، وكما يكون حالك يا أكرم الرسل مع أمتك كان حالهم مع أممهم في الدنيا والآخرة ، فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أمره به ربه فصدقه أناس وكفر به آخرون كما هي الحالة معك وأمتك ، حتى إذا انتهى الأجل المضروب لهم «قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» العدل فينجي اللّه رسوله والذين آمنوا به ، ويهلك من كذبه وجحد ما جاءه به ، وهذا عدل منه تعالى لأنه لا يهلك قوما إلا بعد أن يتقدم إليهم بالمعذرة وإقامة الحجة على لسان رسوله ، وهذا القضاء قد يكون بالدنيا عذاب استئصال كقوم عاد ونوح ، وقد يكون على البعض وقد يؤخر اللّه عذاب آخرين إلى الآخرة فيوقعه فيهم دفعة واحدة ، وهؤلاء الذين ينالون العذاب في الدنيا سينالهم العذاب الأكبر يوم القيامة أيضا إذا شاء تعذيبهم ، وفي ذلك اليوم يجمع اللّه الأمم كلها للحساب ويجاء برسول كل أمة ليشهد عليها بما كان منها ، فيفصل بنجاة المؤمنين وإكرامهم عنه وفضله ، وبتعذيب الكافرين وإهانتهم بعدله «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 47» شيئا من جزاء أعمالهم فينال المؤمن ثواب أعماله الطيبة وما صبر عليه من مضض العيش في دنياء ويجازى الكافر عقاب أعماله السيئة وما بطر ومرح في دنياه ، فيربح المؤمن ويخسر الكافر ، راجع الآية 11 من سورة الحج في ج 3 ، قال تعالى «وَيَقُولُونَ» لك يا حبيبي على طريق السخرية والاستهزاء «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به من نزول العذاب إذا لم نؤمن بك وبربك وتهددنا به أنت وأصحابك أنزلوه بنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 48» في ذلك ، وهذه الآية لا توجد في ترتيب القرآن من أوله إلى هنا ومن هذه السورة إلى سورة الأنبياء وبعدها تكرر كثيرا عند كل مناسبة ، أما في ترتيب النزول فقد مر مثلها(3/45)
ج 3 ، ص : 46
في سورة يس وغيرها «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المستعجلين ما بسوءهم المستبعدين ما تهددهم به من الشقاء «لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً» أي لا أقدر على شيء لنفسي فكيف أقدر أن أنفعكم أو أوقع بكم ما هددتكم به ، لأن الأمر فيه للّه ، وقدم في هذه الآية الضر على النفع وفي الآية 188 من الأعراف المارة في ج 1 النفع على الضر لأن المقام يستدعي ذلك هنا وهناك ، أي ليس لي
شيء من الأمر كله «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أن يملكنيه بتقديره إياي على فعله ، لأن إنزال العذاب بالأعداء والنصرة للأولياء لا يكونان إلا بتقدير اللّه تعالى وقضائه لا قدرة للبشر على شيء من ذلك.
وإن علم الساعة التي يكون فيها ذلك العذاب الموعود به من خصائصه أيضا لا علم لأحد بوقت قيامها ، لأنه لم يطلع أحدا من خلقه على غيبه ولكن «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» معين عند اللّه ، شرا كان أو خيرا ف «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المحتم لنجاتهم أو عذابهم ، واستوفوا ما قدره لهم من البقاء في هذه الدنيا كاملا نزل بهم ، وإذ ذاك «فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً» عنه ولا لحظة «وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 49» عنه ، وليس المراد هنا بالساعة الساعة الزمانية ، راجع الآية 33 من سورة الأعراف المارة في ج 1 «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الباحثين عن حتفهم نطلقهم «أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ» هذا الذي أوعدكم به «بَياتاً» ليلا وأنتم غافلون في فرشكم «أَوْ نَهاراً» بأن باغتكم به على حين غرّة وأنتم قائمون بأعمالكم وقد عمكم به «ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ» وأي شيء يريد به «الْمُجْرِمُونَ 50» إذا وقعوا فيه ، وما الذي يستعجلون من أنواعه فكله مكروه لا يرغب بنوع من أنواعه فكيف تردون حلوله بكم وهو مر المذاق شديد الخناق
«أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ» فيكم ذلك العذاب ورأيتم ألمه وشدته «آمَنْتُمْ بِهِ» وصدقتم بنزوله من قبل اللّه وأردتم الإيمان باللّه فلا يقبل منكم ، لأن وقت نزوله وقت بأس لا تقبل فيه التوبة والرجوع إلى اللّه ، وسيقال لكم «آلْآنَ» تؤمنون وقد فاتكم وقت الإيمان «وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ 51» لأنكم لا تصدقون أن هناك عذابا وتسخرون بالرسل حينما يخوفونكم به «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بتكذيب الرسل وإنكارهم الإله من قبل ملائكة العذاب «ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» الدائم(3/46)
ج 3 ، ص : 47
فهو جزاء جحودكم في الدنيا «هَلْ تُجْزَوْنَ» في الآخرة التي كنتم تنكرونها في الدنيا «إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 52» من الأعمال القبيحة جزاء وفاقا «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ» يستوخون منك ويطلبون يا سيد الرسل الاستخبار «أَ حَقٌّ هُوَ» قولك إن هناك قيامة أخرى وعذابا على ما نفعل «قُلْ» لهم «إِي وَرَبِّي إِنَّهُ» الذي تستخبرون عنه «لَحَقٌّ» لا مرية فيه البتة «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ 53» اللّه عند إرادته تعذيبكم في ذلك اليوم فلا يفوت شقيا جزاؤه ولا مهرب لأحد ، فالعذاب لاحق بكم لا محالة وهناك تتمنى كل نفس قدر عليها العذاب ما قاله تعالى قوله «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ» أشركت باللّه وكفرت به في الدنيا «ما فِي الْأَرْضِ» من شيء وطلب منها الفداء مما حلّ بها من عذاب اللّه في الآخرة «لَافْتَدَتْ بِهِ» نفسها لتنجو منه إلا أنه لا ينفع الفداء ولا يقبل البدل «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ» أضمروا اليأس والحرمان لما علموا ذلك وكتموا تأثرهم وأسفهم على ما وقع منهم في الدنيا من الكفر والإنكار والتكذيب «لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» عيانا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» أولئك الظالمون «بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 54» فيما قضي عليهم من العذاب لأنه بما كسبت أيديهم ، وإن اللّه لا يشدد في عذاب الظالم ولا يخفف من عذاب المظلوم لقاء ظلمه ، بل ينال كل جزاء على ما عمل.
ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بين الأنبياء وأممهم ، وهذه بين بعضهم بعضا ، وقد جاءت هذه الأفعال بلفظ الماضي مع أنها في القيامة وأحوالها ، وهي من الأمور المستقبلة لأنها واجبة الوقوع ومحققة فيها ، فلذلك جعل اللّه تعالى مستقبلها كالماضي.
واعلم أن كلمة أسرّ التي مصدرها الإسرار من الأضداد ، إذ تكون بمعنى الإخفاء ولإظهار ، ولذلك اختلف المفسرون فيها ، فمنهم من قال أظهروا الندامة وأعلنوها على ما فاتهم ، لأن ذلك اليوم ليس بيوم تصبّر وتصنّع كي يظهروا خلاف ما يبطنون ، وهو الأولى ، لأن استعمال أسر غالبا في الكتمان وهو ما ينصرف إليه الذهن بادىء الرأي ، وهو أنسب بالمقام ، ومنهم من قال أخفوا أسفهم وندامتهم لئلا يلاموا عليها من قبل غيرهم فيجتمع عليهم عذابان العذاب واللوم أيضا ، وعلى هذا يكون المراد بمن يخفي الندامة رؤساء الكفر خشية لومهم من أتباعهم.(3/47)
ج 3 ، ص : 48
والندامة هي الغم والأسف على ما فرط من الشخص ، وإظهارها يكون بعضّ الأصبع والبرطم والبكاء والصياح ، وإخفاؤها بعدم إظهار شيء من ذلك وكتم ما يدل على آثارها ، وقد وقع منهم ذلك ، أجارنا اللّه ، وهذه الآية مكررة في القرآن كثيرا كالرعد والمائدة في ج 3 وغيرها ، ثم اتبع جل شأنه ما يدل على عظمته واقتداره مما سبق بقوله «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا ، ومن كان كذلك فإنه لا يقبل الفداء فليس للكافر أن يقتدى بشيء مما فيهما من العذاب وهما في قبضة ربه وهو من جملة المملوكين فيهما ، فكيف يقتدى المملوك بشيء لا يملكه ، وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، لأن الآخرة ليس فيها ما يملك لأن الملك يؤمئذ كلّه للّه ، وقد أكد هذا بقوله «أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ثابت واقع كما أخبر به رسله لا محالة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 55» ذلك ويجحدون الثواب والعقاب في الدنيا فيقعون في ندامة الآخرة «هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ» في الدنيا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 56» في الآخرة يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» في هذا القرآن على لسان رسوله ، فاتعظوا بها فهي نقاء لكم من الكفر «وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ» من داء الجهل الذي هو في القلب وهو أضر من داء الجسد الذي بمرض البدن «وَهُدىً» من الضلال إلى الصواب «وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ 57» من العذاب الدنيوي والأخروي المادي والمعنوي.
وهذه الآية عامة لكل البشر المنتفعين به قريش فمن عداهم الموجودين في زمنه صلى اللّه عليه وسلم والآتين بعده من عامة الخلق إلى يوم القيامة ، لأن القرآن ما زال ولا يزال رادعا عن الشر ، مرغبا بالخير ، مطهرا للأخلاق ، مصححا للعقائد ، منجيا من الجهالات ، لما فيه من الأمر والنهي والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير ، وخصّ الصدر دون سائر الجوارح لأنه موضع القلب وهو أعز موضع في بدن الإنسان ، قال صلى اللّه عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي عبد اللّه النعمان ابن بشير وهو الذي سميت المعرة الواقعة بين حلب وحماه باسمه : ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب : (3/48)
ج 3 ، ص : 49
مطلب معنى الرحمة والفضل ومراتب كمال النفس.
هذا ، وقد خاطب اللّه عز وجل رسوله سيد المخاطبين بقوله بعد ذلك «قُلْ» لهؤلاء الجهلة ليس الفرح الذي تطمئن له النفس بحطام الدنيا ولذتها الفانية ، وإنما الفرح الدائم المحمود العاقبة يكون «بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ» وهو الإسلام والإيمان والقرآن وطاعة الرسول «فَبِذلِكَ» الأمر العظيم الحسن العاقبة إذا أرادوا الفرح بمعناه ، المبهج للوجوه ، المثلج للصدور «فَلْيَفْرَحُوا» إذا فقهوا ونظروا إلى عاقبة الأمر ، فلا شيء أحق أن يفرح به غير ذلك ، فمن أعطي تلك الأمور الأربعة وعمل بما تفرع عنها فقد أعطي الخير كله لأنه «هُوَ» المشار إليه من الفضل والرحمة «خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ 58» من متاع الدنيا ، لأن ما آتاهم اللّه تعالى في الإسلام والإيمان والقرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم والانتفاع بها وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه لا يقاس بالدنيا وما فيها.
واعلم أن الفرح لذة في القلب تظهر على الجوارح عند إدراك المحبوب والمشتهى من كل ما يؤمله الرجل ، وأكثر ما يستعمل في اللذات البدنية الدنيوية ، واستعمل هنا فيما يرغب فيه من الأمور الأخروية ، قال بعض المحققين إن في هذه الآية إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها : الأولى تهذيب الظاهر من فعل كل ما لا ينبغي ، وإليها الإشارة بالموعظة الحسنة ، لأن فيها الزجر عن المعاصي ، وإذا انزجرت النفس عن المعاصي جنحت إلى الطاعات ففازت بالرضى ، الثانية تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية ، وإليها الإشارة بشفاء لما في الصدور ، الثالثة تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى ، الرابعة تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن وذلك المشار إليه بقوله (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ) إلخ الآية ، هذا ومما يدل على تفسير الآية بما ذكرنا ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضل اللّه القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله ، ولا يكون من أهله إلا من هو مسلم مؤمن.
وروى ذلك عن البراء وأبي سعيد الخدري ، وجاء عن جمع أن الفضل القرآن ، والرحمة الإسلام.
وقيل إن المراد بالرحمة محمد صلى اللّه عليه وسلم لقوله تعالى(3/49)
ج 3 ، ص : 50
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الآية 105 من الأنبياء الآتية ولذلك فسرناها بالقرآن وبمحمد عليه السلام جمعا بين القولين كما فسرنا الفضل بالإيمان والإسلام.
وأخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن الفضل محمد صلى اللّه عليه وسلم والرحمة علي عليه السلام وهو كرم اللّه وجهه وإن كان رحمة جليلة لهذه الأمة إلا أن المقام لا يناسب التفسير بذلك ، كما أن اللّه تعالى لم يطلق الفضل على رسوله محمد بالقرآن ، ولهذا فالأولى بالتفسير هو ما ذكرناه واللّه أعلم.
وفي هذه الآية دلالة على الاستشفاء بالقرآن العظيم ، ولا شك أنه بركة جليلة قد يذهب اللّه تعالى به الأمراض الحسية والمعنوية ، وهذا مما لا ينكره أحد إلا قليل الاعتقاد ، وقدمنا ما يتعلق في هذا عند الآية 82 من سورة الإسراء المارة في ج 1 ، «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ» هذا عامّ في كل ما نزل من السماء أو خرج من الأرض أو كان مما بينهما أو حصل من حيوان وطير وحوت وسائر ما به نفعكم أيها الناس «فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا» بأن بعضتموه وقسمتموه ، وهو ما ذكره اللّه تعالى فى الآيات من 136 - 140 من سورة الانعام الآتية من تخصيص بعض الحيوان والحرث لأناس دون غيرهم وتحريم بعض الحيوان كالبحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها من تلقاء أنفسهم ، كما ستجد تفصيله بمحله إن شاء اللّه ، فيا أكمل الرسل «قُلْ» لهؤلاء المستبدين بالتحليل والتحريم والتخصيص والإباحة «آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ» بذلك أم تلقيتموه عن رسوله أم من كتابه «أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ 59» فتنسبونه إليه دون أن يأذن لكم به ، وبما أنه تعالى لم يأمر بذلك ولم ينزّل به شيئا على رسوله فأنتم كاذبون مختلقون لزعمكم في قولكم (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) كما مر في الآية 27 من سورة الأعراف المارة في ج 1.
مطلب الحرام رزق مثل الحلال وقول المعتزلة فيه والرد عليهم.
هذا ، وإن ما استدلت به المعتزلة في هذه الآية بأن الحرام ليس برزق لا مستند له ، لأن المقدّر للانتفاع هو الحلال ، فيكون المذكور في هذه الآية قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام.
قال في بدء الأمالي :
وإن السحت رزق مثل حل وإن يكره مقالي كل قالي(3/50)
ج 3 ، ص : 51
ومعناه أن الحرام رزق مثل الحلال ، لأن الرزق ما يسوقه اللّه تعالى إلى الحيوان وينتفع به فعلا حراما كان أو حلالا ، سواء في ذلك رزق الإنسان والدواب ، مأكولا وغير مأكول ، ولا يقبح نسبته إلى اللّه تعالى كما تقوله المعتزلة ، لأن اللّه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد في ملكه ، فكل ما يقع من حلال أو حرام بتقديره كسائر أنواع الخير والشر ، إلا أن الحسن برضاه والقبيح بقضاه ، وعقاب مقترف الحرام لسوء مباشرة أسبابه فيلزم على القائل إن الحرام ليس برزق أن من انتفع بالحرام طول عمره لم يرزقه اللّه وهو خلاف الواقع ومباين لقوله تعالى :
(وَما مِنْ دَابَّةٍ ...
إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية 6 من سورة هود الآتية ، وأهل الاعتزال لهم مخالفات كثيرة مع أهل السنة والجماعة منها هذه ، ومنها رؤية اللّه تعالى ، ومنها أن ما يفعله الإنسان من فاحشة لا دخل لخلق اللّه وإرادته فيها ، حتى قيل إن أبا اسحق الاسفراييني كان ذات يوم عند الصاحب بن عباد ، فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني ، فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء ، فردّ عليه الأستاذ أبو اسحق بقوله : سبحان من لا يقع في ملكه إلّا ما يشاء.
وإنهم يقصدون بذلك إكبار اللّه تعالى وتعظيمه عن أن يكون فاعلا لغير الحسن.
وإن أهل السنة والجماعة يمجدونه ويبجلونه فيقولون لا يقع في ملكه من خير أو شر إلا بإرادته وقضائه وقدره ، وطريقهم هذا لعمري هو للصواب ، لأنا نتحاشى أن نقول بوقوع شيء دون إرادته ، إلا أن الخير برضاه والشرّ بقضاء ، وفي البيت المذكور آنفا من أنواع البديع التسجيع بين مقالي وقالي ، والجناس المطرف وهو ما زاد أحد ركبيه على الآخر حرفا في طرفه الأول ، وبين الحل والسحت المطابقة وهي الجمع بين متضادّين ، ومعنى الحلال ما نص اللّه أو رسوله ، أو أجمع المؤمنون على إباحة تناوله ، أو قضى القياس الجلي إباحته بعينه أو جنسه بأن لم يتبين أنه حرام ، والحرام ما نص اللّه تعالى أو رسوله صلى اللّه عليه وسلم أو أجمع المسلمون على امتناع تناوله بعينه أو جنسه ، أو اقتضى القياس الجلي ذلك ، أو ورد فيه حدّ أو تعزير أو وعيد شديد مئول سواء كان تحريمه لمفسدة أو مضرّة خفيّة كالزنى فإن فيه فساد الغراس وتضييع الأنساب وقتل الولد معنّى لعدم وجود من يربيه ، ومذكّى(3/51)
ج 3 ، ص : 52
المجوس فإن فيه فساد الأبدان أو مضرة أخرى علمها الشارع ، أو مضرة واضحة كالسّم والخمر فإن في الأول هلاك النفس ، وفي الثاني ذهاب العقل ، تدبر.
قال تعالى «وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ» أيحسبون أن اللّه لا يعلم حالهم ، أم يظنون أنهم يعافون من عقابه ، أم أن اللّه يغفل عن افترائهم ، كلا ، بل يعلم ولا يغفل ، وإن شاء يعاقبهم عليه عقابا شديدا في الآخرة ، إذ يجازى فيها كلا بما عمل.
وفي هذا الاستفهام توبيخ كبير ، وتقريع خطير ، ووعيد عظيم لجميع أصناف المخالفين أوامر اللّه الكذب فما دونه بالنظر لإبهامه «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ» عميم «عَلَى النَّاسِ» بتأخير عقوبتهم وإمهالهم ليرجعوا إليه ، وقد أنزل عليهم الكتب وأرسل إليهم الرسل وركب فيهم العقل ليميّزوا الخبيث من الطيب ، والحرام من الحلال ، والحق من الباطل فيتبعوا الأحسن ، ولو عاجلهم بالعقوبة لاحتجوا عليه كأهل الفترة والصغير والمجنون والمريض والفقير والملك المار ذكرهم في الآية الأخيرة من سورة طه ، والآية 15 من سورة الإسراء المارتين في ج 1 ، «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ 60» نعم اللّه المتوالية عليهم ولا يقدرونها قدرها ولا يستهدون يهدي اللّه ولا يسترشدون بإرشاد رسله ولا يتبعون ما أنزل إليهم من الحق ،
قال تعالى «وَما تَكُونُ» يا أكرم الرسل «فِي شَأْنٍ» حال وأمر ومطلق خطب.
واعلم أن لفظ الشأن لا يأتي إلا فيما له خطر مما يعظم من الأمور «وَما تَتْلُوا مِنْهُ» من ذلك الشأن ، لأن تلاوته معظم شؤونه صلى اللّه عليه وسلم ، وعود الضمير إلى الشأن أولى من عوده إلى القرآن لاحتياج تأويل «مِنْ قُرْآنٍ» بمعنى سورة ، لأن كل جزء منه قرآن ، والإضمار قبل الذكر يكون تفخيما للمضر وهو كما ترى ، وقيل إنه يعود إلى التنزيل غير المذكور ، وعليه يكون المعنى وما تتلوء من التنزيل «وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ» أيها الناس قليلا كان أو كثيرا ، جليلا أو حقيرا «إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً» نراه ونثبته ونحصيه عليكم في صحائفكم ، لأنا رقباء عليكم.
وقيل إن الخطابين الأولين في قوله تعالى (وَما تَكُونُ) (وَما تَتْلُوا) له صلى اللّه عليه وسلم ولأمته عامة ، لأن العادة إذا خوطب رئيس القوم بشيء كان قومه داخلا فيه لانصرافه إليهم بالتبعية ، والأول(3/52)
ج 3 ، ص : 53
أولى ، إذ روعي في كل من المقامين ما يليق به ، فعبّر أولا بالخطابين المذكورين في مقام الخصوص لسيد المخاطبين بالشأن ، لأن عمل العظيم عظيم ، وعبر بالثاني للأمة جميعهم برّهم وفاجرهم بالعمل العام للجليل والحقير ، ليمتاز رأس النوع الإنساني بالخطاب أيضا عن عامة الناس ، كما امتاز بغيره عليهم «إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ» أي أنه تعالى شاهد عليكم حين الدخول في أعمالكم والخوض بأقوالكم.
ومعنى الإفاضة الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه والتلبس به «وَما يَعْزُبُ» ولا يغرب ولا يبعد ويخفى ويغيب «عَنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل ما يقع في ملكه «مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ» أو أقل ، وذكر الذرة للتقليل عند الناس ، وتطلق على السخلة الصغيرة جدا ، وهو تعالى لا تخفى عليه خافية مهما قلت «فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» ولا فيما بينهما أو فوقهما أو تحت الأرض «وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ» منها فعلمه بالقليل كعلمه بالكثير وعلمه بالبعيد كعلمه بالقريب سواء عنده فلا يقع شيء في كونه «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ 61» مدون ومثبت بصورة ظاهرة في لوحه العظيم الذي لم يغفل شيئا.
قدم في هذه الآية الأرض على السماء وفيما سبق وسيأتي السماء على الأرض في مثل هذه الآية الآية 43 من سورة سبأ الآتية وغيرها ، لأن شهادة اللّه تعالى هنا على أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصلها بقوله (وَما يَعْزُبُ) إلخ حسّن تقديم الأرض ، وإلا فحق السماء أن تقدّم على الأرض ، لأنها أفضل منها ، عدا ما ضمّ جثمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإنّه لا شك أفضل من السماء.
مطلب أولياء اللّه من هم والمحبة الصادقة والرؤيا الصالحة :
ثم إنه تعالى لمّا عمّم وعده ووعيده في حق جميع من أطاع وعصى ، أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه فقال مصدرا كلامه بأداة التنبيه «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ» الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة ، وتولى هدايتهم بما آتاهم من الآيات والبراهين على قدرته ، والدلائل والحجج على حكمته ، وتولوا القيام بحقه والرحمة لخلقه ، وتحابوا في اللّه ومن أجله على غير أرحام بينهم أو أموال يتعاطونها ، (3/53)
ج 3 ، ص : 54
فهؤلاء الكرام المتقون «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» يوم يخاف الناس من هول الموقف «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 62» إذا حزنوا وقت الفزع الأكبر زمن الحسرة ، ثم وصفهم بقوله تعالى قوله «الَّذِينَ آمَنُوا» بي وبكتبي ورسلي «وَكانُوا» في الدنيا «يَتَّقُونَ 63» ما يغضب اللّه تعالى من أقوال وأفعال ، ويعملون ما يرضيه وهؤلاء الذين إذا رئوا ذكر اللّه.
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يقول اللّه تبارك وتعالى أين المتحابون بجلالي ، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي.
وروى الطبراني بسنده عن سعيد بن جبير مرسلا قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أولياء اللّه تعالى فقال هم الذين إذا رئوا ذكر اللّه.
وعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن من عباد اللّه لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من اللّه ، قالوا يا رسول اللّه تخبرنا من هم ؟ قال هم قوم تحابوا في اللّه على غير أرحاء بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فو اللّه إن وجوههم لنور ، وأنهم لعلى نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، وقرأ هذه الآية - أخرجه أبو داود - وروى البغوي بسنده عن ابن مالك الأشعري قال : كنت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال :
إن للّه عبيدا ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من اللّه يوم القيامة ، قال وفي ناحية القوم اعرابي فجثى على ركبتيه ، ورمى بيديه ، ثم قال حدثنا يا رسول اللّه عنهم من هم ؟ قال فرأيت في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البشر ، فقال هم عباد من عباد اللّه ومن بلدان شتى وقبائل شتي ، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ولا دنيا يتباذلون بها ، يتحابون بروح اللّه ، يجعل اللّه وجوههم نورا ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن ، يفزع الناس ولا يفزعون ، ويخاف الناس ولا يخافون.
وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول قال اللّه تعالى المتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء.
واعلم أن الولي أخذ لفظه من الولاء ، وهو القرب والنصرة ، قولي اللّه هو الذي يتقرب إليه تعالى بكل ما افترض عليه ، ويكون مشتغلا باللّه مستغرق القلب في معرفه نور جلال اللّه ، فإن رأى رأى دلائل قدرة اللّه ، (3/54)
ج 3 ، ص : 55
وإن سمع سمع آيات اللّه ، وإن نطق نطق بالثناء على اللّه ، وإن تحرّك تحرك في طاعة اللّه ، وإن اجتهد اجتهد فيما يقربه إلى اللّه ، لا يفتر عن ذكره ولا يرى بقلبه غيره ، فإذا كان العبد كذلك كان اللّه وليه وناصره ومعينه ، قال تعالى :
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية 257 من سورة البقرة في ج 3 ، فعلى هذا يكون العالم العامل هو ولي اللّه ، وغير العامل هو الأحمق الخاصر ، فقد جاء بالخبر ويل للعالم من لاتباع ، وقال صاحب الزيد
وعالم بعلمه لم يعملن معذّب من قبل عابد الوثن
وقال تعالى : (أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) الآية 22 من الجاثية الآتية.
هذا ومعنى المتقي من اتقى كل ما نهى اللّه عنه ، وأكبر من التقوى الورع ، والورع من اتقى الشبهات وترك الحلال مخافة الوقوع بالحرام.
روى البخاري ومسلم عن أبي عبد اللّه النعمان بن بشير قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى اللّه محارمه.
فيجب على المتقي الورع أن يجتنب الحريم والمحرم لأن المحرم حرام لعينه ، والحريم محرم ، لأنه يت ؟ رج به إلى الحرام ، فمن كانت هذه صفاتهم.َهُمُ الْبُشْرى »
بالنجاة من كل سوء والفوز بكل حسنِ ي الْحَياةِ الدُّنْيا»
قال أكثر المفسرين البشرى في هذه الآية الرؤيا الصالحة الصادقة ، أخرج الترمذي عن عبادة ابن الصامت قال : سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالىَ هُمُ الْبُشْرى )
قال هي الرؤيا الصالحة يراعا المؤمن أو ترى له.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا وما البشرات ؟ قال الرؤيا الصالحة.
وروى البخاري ومسلم عنه أيضا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
هذا لفظ البخاري ولمسلم إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ، ورؤيا المسلم جزء من(3/55)
ج 3 ، ص : 56
ستة وأربعين جزءا من النبوة.
والرؤيا ثلاث : رؤيا صالحة بشرى من اللّه ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا ممّا يحدّث المرء نفسه ، ولا يحمل معنى الآية إلا على الأولى ، وهذه الأحاديث تأكيد للرؤيا وصدقها.
ومعنى أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وهو أنه صلى اللّه عليه وسلم أقام في النبوة يوحى إليه ثلاثا وعشرين ستة ، كان في بدايتها ستة أشهر يرى الوحي في النام ، فتكون مدة الرؤيا الصادقة جزءا باعتبار كل ستة أشهر جزءا من ستة وأربعين جزءا ، وهذه أصح من رواية خمس وأربعين إلخ ، وفي رواية ست وسبعين وغيرها لانطباقها على المعنى دون كسور ما.
هذا ، وقيل إن البشرى هي الثناء الحسن في الدنيا والجنة في الأخرى ، أخرج مسلم عن أبي ذر قال : قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه ، قال تلك عاجل بشرى المؤمن ، قال العلماء هذه البشرى المعجلة له بالخير في الدنيا دليل للبشرى المؤجلة له في الآخرة المشار إليها بقوله تعالى :
(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية 12 من سورة الحديد في ج 3 ، وهذه البشرى المعجلة دليل على رضاء اللّه تعالى عنه ومحبّته له وتحبببه إلى خلقه ، وقال الزهري وعطاء وابن عباس وقتادة : هي نزول الملائكة بالبشارة من اللّه عند نزول الموت بدليل قوله سبحانه (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) وتقول لهم (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) من هول القبر والقيامة (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) الآية 37 من فصلت الآتية ، وفي الآخرة أيضا بعد خروج نفس المؤمن يعرج بها إلى اللّه ويبشر برضوان اللّه.
وقال الحسن هي ما بشر اللّه به المؤمن في كتابه من جنّته وكريم ثوابه يدل عليه قوله تعالى تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ»
ولا إخلاف لمواعده التي وعد بها عباده المخلصين العارفين في كتابه وعلى لسان رسله ولا تغيير لشيء من لِكَ»
أي تبشير المؤمن بما فيه سعادته في الدارينُ وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
64» الذي لا أعظم منه ، وهذه الآيات الثلاث واقعة كالمعترضة بين ما قبلها وهو (وَما تَكُونُ) إلخ ، وبين ما بعدها وهو «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» في شأنك من التخويف والتهديد ولا يسؤك تكذيبهم وتعزيزهم بكثرة الأموال والأولاد «إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» فالغلبة والقهر على الأعداء بالقدرة من خصائص(3/56)
ج 3 ، ص : 57
اللّه تعالى لا يملكها أحد غيره ، فهو الذي يعز من يشاء وحده لا شريك له ولو لم يكن لديه قوة ومنعة ، ويذل من يشاء ولو كان ذا قوة ومنعة ، وأنت ممن شاء عزّك في الدنيا والآخرة ، قال تعالى (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية 21 من المجادلة في ج 3 ، وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية 9 من سورة المؤمن الآتية ، وقال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 8 من سورة المنافقين في ج 3 ، وقال تعالىَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الآية 45 من سورة الروم الآتية ، وقال تعالىَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)
الآية 17 من الصافات الآتية ، ولهذا فإنه تعالى قادر على سلبهم ما يتعززون به عليك بإهلاك أموالهم وأولادهم وذوبهم وإدلالهم وإهانتهم وإظهار عزك عليهم بالنصر و«هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم ودعائك «الْعَلِيمُ 65» بنواياهم وأحوالك ، والدليل على أن الآية السابقة معترضة الالتفات إلى الخطاب لتكون معطوفة على (وَما تَكُونُ) التي هي خطاب لحضرة الرسول أيضا ، والحذف أي لو حذفتها ووصلت ما قبلها بما بعدها لصح المعنى شأن الآيات المعترضة والآيات المدنية بالسور المكية وبالعكس ، إلا أنه لا يجوز بوجه من الوجوه حذف شيء من ترتيب القرآن بالقراءة للوصل المذكور ولا لغيره قطعا ، ويحرم إلا الاتباع لما هو محرر في المصاحف لا تبديل لكلمات اللّه ، قال تعالى قوله «أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» كل آية تصدّر بأداة التنبيه كهذه فيها تنبيه للسامع على النظر لمعناها ومغزاها ، فهذه تنبه القارئ أن لا ملك لأحد في هذين الهيكلين العظيمين وما فيهما إلا اللّه ، وأن كل من يدعي العزّة على غيره ولم يرد اللّه عزّه لا ينالها ، لأنه جل شأنه لا يسخر أحدا له مما بين السماء والأرض ينصره ويقويه ، وإذا علم هذا فكل أحد ذليل إلا من أعزه اللّه ، وكل أحد ضعيف إلا من قواه اللّه ، وكل أحد مهان إلا من أكرمه اللّه ، فمن أراد عزّه سخر له ما يدعو إلى ذلك من خلقه الذين هم في السموات والأرض ، فيكون عزيزا بعزّة اللّه ، ولا تكرار في هذه الآية لأن الآية المتقدمة عدد 55 جاءت بلفظ (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ ، وكذلك الآية الآتية عدد 68 وكل ما صدر بما يكون لغير العاقل غالبا ، وما صدر بمن(3/57)
ج 3 ، ص : 58
يكون للعاقل ، فيدل مجموع الآيات على أنه تعالى مالك جميع ما ومن في السموات والأرض العاقل وغيره ، النّامي والجامد وغيرهما من كل ما يطلق عليه جماد وحساس ، وإذا كان العقلاء في ملكه فلأن يكون غيرهم في قبضته من باب أولى ، وإذا علمت هذا ظهر لك أن ما يعبده المشركون من الأوثان في ملكه وتحت تصرفه ، فجعلها شركاء له معبودة من دونه من القدح بمكان بالنسبة لمقام الربوبية الفردة الحقة.
قال تعالى «وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ» مفعول يدعون قبله ، ومفعول يتبع مقدر تقديره شيئا غير أهواءهم وتسميتهم لأن شركة اللّه تعالى في ربوبيته محالة ، وهذا على أن ما في يتبع نافية وهو الأولى في المقام والأنسب في المعنى ، وقد ذكر صاحب الجمل رحمه اللّه وجوها أخرى في معنى ما ، وتفسير هذه الآية.
وجعل الشربيني عفا اللّه عنه مفعول وما يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء شركاء أيضا ، وصدر قوله هذا بقوله (وكان حقه وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ) شركاء وأراه متجاوزا في قوله هذا ، لأن الحق ما قاله ربه لا ما جرى عليه هو وغيره ، راجع الآية 5 من سورة الحج والآية 108 من سورة التوبة في ج 3 ، وهو خلافا لما جرينا عليه من أن مفعول يتبع الذي قدرناه تبعا لغيرنا (شيئا) إذ يدل عليه قوله تعالى «إِنَّ» أي ما «يَتَّبِعُونَ» في الحقيقة «إِلَّا الظَّنَّ» على توهم شفاعتها لهم «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ 66» يحزرون ويقدرون شركة اللّه تعالى تقديرا باطلا وكذبا محضا ، فتبّا لما يتبعون ، وتعسا لما يزعمون ، وقبحا لما يفعلون ، ويؤسا لما يكذبون ، وإفكا بحتا لما يفترون.
ثم نبه جل شأنه على عظيم قدرته وشمول نعمته وأنه الذي يستحق العبادة وحده بقوله «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ» فتستربحوا من أتعابكم التي قاسيتموها في النهار «وَالنَّهارَ» جعله «مُبْصِراً» لتنصرفوا فيه إلى أعمالكم وتأمين معاشكم والنهار يبصر فيه لا يبصر هو إلا أن معناه مفهوم في كلام العرب فخاطبهم بلغتهم ، قال جرير :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بناثم
أضاف النوم إلى الليل ووصفه به وعنى نفسه ولم يكن هو نائما ولا بعيره ، (3/58)
ج 3 ، ص : 59
وهذا من باب نقل الاسم من المسبب إلى السبب ، قال قطرب تقول العرب أظلم الليل وأبصر النّهار بمعنى صار ذا ظلمة وذا ضياء «إِنَّ فِي ذلِكَ» السكون ليلا والاشتغال نهارا «لَآياتٍ» من آيات اللّه الكثيرة الدالة على انفراده بالإلهية واستحقاقه وحده للعبادة وعبرة «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ 67» سماع قبول واعتبار وتدبر وتذكر لينتفعوا بها ويتعظوا فينتبهوا وينتهوا عما يقولون «قالُوا» أولئك المشركون بعد هذه الدلائل المبرهنة على التوحيد «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» من الملائكة وسموها بنات اللّه ، تعالى عن ذلك ، وهذا فضلا عن وصمهم عزّته بالشريك من الأوثان وقد خصوا الإله بالبنات وهم لا يرضونهن لأنفسهم «سُبْحانَهُ» تنزه عن ذلك وتبرأ من أن يكون له ولد «هُوَ الْغَنِيُّ» عن جميع خلقه ، والولد إنما يتخذ للحاجة ليتقوى به على غيره ، ويستعين به لحوائجه ، ويستعز به لذله ، ويتشرف به لهوانه ، ويتلذذ به لشهوته ، وكلّ ذلك من أمارات الحدوث وهي عليه محال ، وهو منزه عن ذلك كله ، وكيف يتخذ ولدا وهو «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا ، والكل في تصرفه وهو خالقهم ومحدثهم من العدم ، وهم محتاجون إليه في كل أمورهم مع غناه عنهم ، ولما نزه جلّ شأنه نفسه المقدسة عن الولد عطف على من قال ذلك بالإنكار والتوبيخ والتقريع فقال عز قوله نافيا صحة ذلك «إِنْ عِنْدَكُمْ» أيها المفترون «مِنْ سُلْطانٍ بِهذا» الذي اختلقتموه أي ما عندكم عليه حجة ولا برهان به البتة ، ثم تابع بالإنكار عليهم بقوله «أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 68» حقيقته وتضيفون إليه ما لا صحة له ، وهو المبرأ من كل نقص المنزه عن كل شريك فكيف تجوزون نسبة ما لا تجوز نسبته إليه تعالى ، وهذا جهل مركب منكم أيها لمختلقون لا يستند إلى برهان ، ولا يعتمد على دليل ولا مادة ، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لأمثال هؤلاء «إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» ويقولون عليه الباطل وينسبونه إلى ما لا يليق بجنابه «لا يُفْلِحُونَ 69» في الدنيا أبدا ، ولا ينجون من عذاب الآخرة ، وعذاب القبر ، ولا يفوزون بريح الجنة ، ولا يسعدون السعادة الطيبة وإن اغتروا بطول العمر والسلامة من الأمراض في الدنيا والبقاء بنعيمها الزائل والتمتع بعلو(3/59)
ج 3 ، ص : 60
المناصب والجاه ، لأن هذا كله «مَتاعٌ» قليل زائل يتمتعون به في حياتهم ويقيمون به رياستهم ويرفعون به صيتهم ويتظاهرون به على المؤمنين ويناصبونهم العداء وينشرون عليهم سطوتهم «فِي الدُّنْيا» فقط لا يدوم لهم ذلك ولا ينتفعون به في الآخرة ، بل يكون عليهم وبالا فيها «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» بالموت «ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ» بعد الموت وفي الآخرة بعد الحساب على ذلك وغيره ونعذبهم «بِما كانُوا يَكْفُرُونَ 70» نعمنا ولم يستعملوها لما خلقت لها كما أنهم لم يستعملوا جوارحهم لما خلقت لها.
هذه نبذة من أحوال قريش قومك يا محمد ، قصصناها عليك وها نحن أولاء نقص عليك من أحوال الأنبياء قبلك وما لا قوه من أقوامهم كي تذكره لهم ، وتسلي نفسك بما وقع لهم من أقوامهم.
قال تعالى «وَاتْلُ» يا محمد «عَلَيْهِمْ» أي قومك «نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» هم بنو قابيل أول رجل أهرق الدم على وجه الأرض وسن القتل الذي لم يعرف قبل ، إذ قتل أخاه هابيل وعصى أباه ، كما ستأتي قصتهما في الآية 27 من سورة المائدة في ج 3.
قال صلى اللّه عليه وسلم من سن حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة.
وهو أول من انشق على أهله ومنه بدأ الخلاف ، لأمر أراده اللّه ، قال تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» الآية 118 من سورة هود الآتية ، وفائدة هذه القصص إخبار حضرة الرسول بأحوال الأمم السابقة مع أنبيائهم ، وإعلامه بأنه ليس هو وحده قاصى شدة بإرشاد قومه بل إخوانه الأنبياء كانوا كذلك ، فإنهم كذبوا وأهينوا وطردوا وقتلوا ، ليتسلى بذلك ويهون عليه.
ما يلاقيه من قومه ، قال تعالى حاكيا حاله معهم «يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ» ثقل وعظم وشق «عَلَيْكُمْ مَقامِي» بين أظهركم إذ طال أمده فيهم إذ لبث بعد تشرفه بالنبوة معهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، كما سنبينه في الآية 14 من سورة العنكبوت الآتية ، وهو يدعوهم خلالها إلى اللّه ولينبذوا الكفر فلم ينجع بهم «وَتَذْكِيرِي» يصعب عليكم ووعظي إياكم «بِآياتِ اللَّهِ» وبيان حججه وبراهينه طلبا لهدايتكم لما به نفعكم ، ولقاء هذا تعزمون على طردي وقتلي ، فافعلوا ما شئتم «فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ»(3/60)
ج 3 ، ص : 61
ولست مباليا بكم إذ هو حسبي وثقتي ، قد فوضت أمري إليه «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ» الذي عزمتم عليه واستعدوا لتنفيذه ، ولا تتركوا شيئا تصورتموه إلا أحضرتموه «وَ» ادعوا «شُرَكاءَكُمْ» أيضا فيما أنتم عليه ممن هو على طريقتكم فيما أظهرتموه.
يؤيد هذا التفسير قول من جعل الواو بمعنى مع ، أي أجمعوا أمركم مع شركائكم.
وما قيل إن المراد بالشركاء هنا الأوثان ، مخالف للظاهر ومناف للسياق ، وإذا صحت الحقيقة فلا مجال للعدول عنها إلى المجاز «ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» هما وكربا بل اجعلوه سهلا ويسرا «ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ» ذلك الأمر الذي أجمعتم عليه وأهلكوني ، وتخلصوا مني ، واطرحوا عنكم ثقلي عليكم ، وتخلصوا من مقامي بينكم ، ولا تلتفتوا لتذكيري «وَلا تُنْظِرُونِ 71» لا تمهلوني إن استنظرتكم بل عجلوا بما تريدونه.
هذا وإن تفسير الغمة بالستر والخفاء والإبهام كما ذكره بعض المفسرين لا يناسب المقام ، إذ يكون المعنى على هذا التفسير ليكن أمركم ظاهرا منكشفا ، أخذا من غم الهلال إذا خفي والتبس أمره على الناس ، وعليه حديث وائل بن حجر : لا غمة في فرائض اللّه.
أو لا تستر ولا تخفي بل تظهر وتعلن ، فالمشي على هذا الوجه فيه بعد عن المعنى المراد واللّه أعلم «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» عن نصحي ، وأدبرتم عني وأعرضتم عن تذكيري ، فذلك شأنكم ، أما أنا «فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» على إرشادي حتى يؤدي نصحي إلى توليكم عني أو تتهموني بالطمع «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» لا على أحد غيره.
فإن أطعتموني فهو حظكم وسعادتكم ، وإلا فلا ضرر عليّ من عدم قبولكم نصحي المؤدي إلى حرمانكم من الإيمان باللّه الموصل إلى نعيمه الدائم ، ولكن آسف عليكم واللّه يثيبني على نيتى آمنتم أو توليتم «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 72» للّه المستسلمين لأمره ونهيه ، فإني لا أخالف أمره ولا أخاف سواء ، هذا آخر كلام نوح عليه السلام لقومه وقد بلغ الغاية في النصح لهم ، وأظهر عدم مبالاته بما يريدونه به من العزم على قتله ، وقد بلغ النهاية من درجات التوكل والوثوق باللّه عز وجل مبينا عدم خوفه منهم ومما أجمعوا عليه به ، وصارحهم بأن مكرهم مهما كان فإنه لا يصل إليه لاعتماده على ربه «فَكَذَّبُوهُ» وقابلوا مبالغة نصحه لهم والتصلب(3/61)
ج 3 ، ص : 62
في دين اللّه بمبالغتهم بالعناد والتمرد والإصرار علي الكفر «فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ» من المؤمنين الذين ركبوا «فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ» جمع خليفة ، أي أبقيناهم يخلفون الهالكين غرقا فيسكنون الأرض ويعمرونها بدلهم «وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» لإصرارهم على الكفر وأهلكناهم «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ 73» فإنها عاقبة مشئومة ، وقد مرت القصة في الآية 58 من الأعراف في ج 1 ، ولها صلة في الآية 25 من سورة هود الآتية ، وفي هذه الجملة إعلام بتهويل ما جرى عليهم وتحذير لمن يكذب الرسل وتسلية لحضرة الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم بما يلاقيه من قومه ، وتخويف لقومه بأنهم إذا لم يؤمنوا تكون عاقبتهم الهلاك مثل قوم نوح ، إذ جرت عادة اللّه تعالى أن يوقع الهلاك بعد الإنذار ، ومن أنذر فقد أعذر ، والنظر قد يكون بالبصر وبالبصيرة ، وعند الخاصة يكون بالبصيرة أكثر منه بالبصر ، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ» أي نوح عليه السلام «رُسُلًا» كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام ، وهؤلاء ما بين نوح وموسى عليهم السلام «إِلى قَوْمِهِمْ» كعاد وثمود وغيرهم ممن قصّ اللّه تعالى علينا ومن لم يقصّ «فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» الدالة على نبوتهم المثبتة لرسالتهم والحجج المبينة لصدقهم والبراهين الموجبة للإيمان بهم «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» بما أظهروه لهم من المعجزات الباهرات ، ولم يتبعوا الشرع الذي جاءوهم به «بِما» بالذي أمرهم به رسلهم بلزوم اتباعه من أصول الدين وفروعه الذي «كَذَّبُوا بِهِ» أمثالهم «مِنْ قَبْلُ» مجيء الرسل إليهم بل أصروا على كفرهم وعنادهم ، وجروا على نهج قوم نوح في اتخاذ التكذيب ذريعة ، ولم يرتدعوا بما وقع على من قبلهم من العذاب ، وكأنه لم يكن ، إذ لم يغيروا حالتهم بعد بعثة الرسل ، كأنه لم يبعث إليهم أحد وينذرهم
عاقبة أمرهم ، ويخوفهم سوء أعمالهم ، ويزجرهم عن المنكرات ، ويأمرهم بالمعروف «كَذلِكَ» مثل ما طبعنا على الباغين الأولين «نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ 74» المتجاوزين حدودنا ، الخارجين عن طاعتنا ، الباغين على عبادنا ورسلنا.(3/62)
ج 3 ، ص : 63
مطلب رسالة الأنبياء خاصة عدا نوح باعتبار آخرها ومحمد أولا وآخر :
وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل رسول أرسل إلى قومه خاصة ، وإيذان بعموم رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم وهذ متفق عليه في بداية كل نبي ونهايته فيما عدا نوح عليه السلام إذ اختلف العلماء في بعثته ، هل هي لأهل الأرض عامة أو لصنع مخصوص ، وينبني على هذا الخلاف الخلاف في أن الطوفان هل عم وجه الأرض كله أو بعضه ؟
قال ابن عطية : الراجح الثاني المؤيد بكثير من الآيات والأحاديث ، ولأن كثيرا من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الطوفان.
هذا أصح ما قالوه في بداية رسالة نوح ، أما نهايتها فهي عامة ، إذ أجاب اللّه دعاءه بقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية 26 من سورة نوح الآتية ، فالذي لم يهلك بالطوفان هلك بغيره إذ ثبت أنه لم يبق بعد الطوفان على وجه الأرض سوى من كان معه بالسفينة لعموم الآية المستشهد بها والآية المفسرة قبل وظاهر الآيات الأخر والأحاديث الواردة في هذا الشأن ، وعلى هذا فالفرق بين رسالة محمد ورسالته عليهما الصلاة والسلام خصوص رسالة نوح ابتداه وعمومها انتهاء ، وعموم رسالة محمد ابتداء وانتهاء ، وان رسالة نوح مقصورة في زمنه ، ورسالة محمد مستمرة إلى آخر الدوران ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية المذكورة من سورة نوح الآتية ، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ» أي الأنبياء المذكورين وغيرهم ممن لم يذكرهم اللّه في كتابه «مُوسى وَهارُونَ» صدر هذه الآية ينفي القول بعدم رسالة هرون عليه السلام ، كما ذكر في التوراة الموجودة الآن ، لأن صريح بعثة هرون كبعثة موسى ، راجع الآية 34 من القصص المارّة في ج 1 ، وهذه من جملة الآيات المحرفة بالتوراة وهي كثيرة ، وسنبين منها كل ماله مناسبة ومساس في تفسير الآيات «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» أشراف قومه ، ويندرج فيهم بقية قومه ، لأنهم تبع لهم ، ولذلك خصهم وسمى الملأ ملأ لأن رؤيتهم تملأ العين رواء والنفوس جلالا وبهاء إذ كانوا يمتازون على العامة باللباس والسكن والمأكل والمشرب والمركب وغيره ، وهم أهل الحل والعقد في الملك وهم خاصة الملك ومرجع أمره ، وعززناهما «بِآياتِنا» المعجزات المار ذكرها في الآية 133 فما بعدها(3/63)
ج 3 ، ص : 64
من سورة الأعراف في ج 1 «فَاسْتَكْبَرُوا» عن قبولها وتعاظموا على رسلنا وأعجبوا بأنفسهم فجحدوا صحتها وأصروا على كفرهم «وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ 75» في ذلك لاجترائهم على ردّ آيات اللّه تعالى وكفرهم بها «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا» وعرفوه حقا لا مناص لهم من إنكاره «قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ 76» ظاهر يعرفه كل أحد «قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ» الصريح «لَمَّا جاءَكُمْ» من الحق «أَ سِحْرٌ هذا» خاطبهم على سبيل الإنكار ، أي كيف تقولون لهذا الحق سحر وهو حقيقة واقعة ، وقد أدى عنادكم لهذا القول البذي الذي سمّيتم الحق به سحرا ، ثم احتج على صحة قوله بأنه ليس بسحر بل حق محض بقوله «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» 77 بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم ، ولا ينجحون بمشروعهم ، لأن السحر عبارة عن تمويه وتخييل غير دائم ، فصاحبه مغلوب ومبهوت وخاسر في أمره غير ظاهر ببغيته.
وإن ما جئتكم به سيكون له الفوز والغلبة عليكم بصورة واضحة دائمة ، وما كان هذا شأنه فليس بسحر «قالُوا أَ جِئْتَنا» الكلام فيه حذف أي بهذا السحر يا موسى أنت وأخوك «لِتَلْفِتَنا» تلوينا وتصرفنا بما عندك من السحر ، وتلفتنا «عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من الدين القديم المألوف ، وتصرفنا إلى دين حديث لا نعرفه «وَتَكُونَ» بذلك «لَكُمَا الْكِبْرِياءُ» العظمة والسلطان علينا ، وتطلق هذه الكلمة على الملك لأنه أكبر شيء يطلب في الدنيا ويرغب فيه «فِي الْأَرْضِ» منطقة مصر ، لأن ملك فرعون لم يتجاوزها لما مر في الآية 46 من سورة القصص في ج 1 مما حكاه اللّه على لسان شعيب عليه السلام الدالة على اقتصار ملك فرعون بأرض مصر لا يتخطاها لغيرها «وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ 78» ولا مصدقين ما جئتمانا به وفيه تأكيد لإنكارهم السابق ، وانما ثنوا الخطاب لموسى وأخيه مع أنه وحده الذي خاطبهم تعظيما لأمر الإعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى وإقناطه من إيمانهم به وبأخيه ، وانما أفردوه بقولهم «لِتَلْفِتَنا» لأنه من خصائص صاحب الشريعة وهو موسى عليه السلام «وَقالَ فِرْعَوْنُ» وحده دون ملائه لأن الأمر له ومن خصائصه وما يهمه.
أما الاستكبار المار ذكره ونحوه فهو مما يسند(3/64)
ج 3 ، ص : 65
إليه ولأشراف قومه «ائْتُونِي» أيها الشرطة وهم الحاشرون المار ذكرهم في الآية 27 من سورة الشعراء المارة في ج 1 «بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ 79» ماهر في السحر أمر قومه بذلك ليعارض معجزات موسى بسحر سحرته ليبين لقومه لما رأى أن الشك غامرهم في صدق موسى أنّ ما جاء به هو سحر لا من عند اللّه ، كما ذكر يقصد أضلالهم عن الإيمان به ، فذهب الحاشرون وجمعوهم في الوقت
والمكان الذي اتفقا عليه كما مرت الإشارة إليه في سورة الشعراء وطه في الآيات 37/ 75 فما بعدها المارات في ج 1 «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ 80» تقدم سبب تقديمهم له في السورتين المذكورتين ، وهو بإلهام من اللّه ، لأن سحرهم لا يؤثر بعصا موسى لو ألقاها أولا بخلاف ما لو ألقاها بعدهم ، لأنها تؤثر في سحرهم ، ولو لا هذا التقديم لقال الجهال ، وكلهم إذ ذاك جهال ما غلب موسى السحرة فقط
«فَلَمَّا أَلْقَوْا» ما معهم من الحبال والعصي المطلية بالزئبق والمحشوة به قبل طلوع الشمس حتى رآها الناس على حالها ، ثم صاروا يدمدمون عليها حتى طرقتها حرارة الشمس ، فصارت تتحرك كما مرت الإشارة إليه في تلك السورتين والآية 126 من الأعراف المارة في ج 1 أيضا ، وبهذه الصورة موهوا على الناس بأنها انقلبت حيات وجبالا «قالَ مُوسى » مخاطبا للسحرة بعد أن ألقى عصاه ، وصارت تلقف الزئبق المطلي بعصيّهم وحبالهم بقدرة اللّه تعالى الذي جعل فيها قوة جاذبة لذلك الزئبق كالمغناطيس في جذب الحديد «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ» هو الشيء الباطل بعينه «إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ» ويفضحكم بمحقه بالكلية حتى يكون لا أثر ولا عين بالحق الذي آتانيه ربي قطعا لمادة الفساد «إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ 81» لا يحسنه ولا يقوّيه ولا يثبته ولا يؤيده وقدمنا في الآية 52 من سورة الشعراء ما يتعلق بالسحر فراجعه «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ» يثبته ويقوّيه ويجعله ما حقا للباطل ومرهقا لأهله ، ويظهره «بِكَلِماتِهِ» التي وعد بها أنبياء بالنصر وإعلاء الكلمة «وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ 82» ذلك ، فإنه يوقعه فيهم ويوجبه عليهم قال تعالى «فَما آمَنَ لِمُوسى » بعد ظهور هذه المعجزات الواضحة على يده وخيبة ما أمله فرعون من سحرته الذين آمنوا بموسى لما عرفوا(3/65)
ج 3 ، ص : 66
الحق «إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ» بني إسرائيل ، لأن آباءهم بقوا مع فرعون ، فلم يجيبوا دعوته خوفا منه ، وفي هذا تعريض لحضرة الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم حيث لحقه الحزن والأسف على عدم إيمان قومه ، أي فما يحزنك يا حبيبي إذا لم يؤمن قومك كلهم ، وما هذا الاغتمام بشأنهم ، أليس لك أسوة بمن قبلك من الأنبياء وخاصة موسى وقومه ، وما قيل إن ضمير قومه يعود إلى فرعون بعيد عن الصحة ، إذ لم يؤمن من قومه إلا امرأته آسية وخازنه وزوجته وماشطة بنته ومؤمن آل فرعون ، وهؤلاء لا يسمون ذرّية لأن الذرية الطائفة وأولاد العشيرة ، ولا وجه للاحتجاج بمن دخل من أبناء فارس إلى اليمن ولقبوا بالأبناء ، لأن أولئك أمهاتهم من غير جنس آبائهم ، ويريد صاحب هذا القول أن آباء الذرية المذكورة كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل ، أي وكانوا يتبعون أمهاتهم بالإيمان كأولاد الفرس المذكورين ، بل عائد إلى موسى بدليل قوله «أَنْ يَفْتِنَهُمْ» يعذبهم ليصدهم عن الإيمان وبصرفهم عن الهوى ، ولم يقل أن يفتنوهم ، لأنه هو وحده الفاتن لهم ، ولأن قومه كانوا تابعين له ويرغبون مراده ، وهذا لا يمنع أن تكون الذرية الحاصلة من أب قبطي وأم إسرائيلية ، أو بالعكس ، أن يدخلوا في هذه الذرية المؤمنة ، لأن الهدى هدى اللّه يهدي به من يشاء.
وما قيل إن الضمير في ملائهم راجع إلى فرعون على سبيل التعظيم كما هو العادة في ضمائر العظمة ، مردود ، لأن ذلك خاص بضمير المتكلم ، مثل نحن والمخاطب كما في قوله «رَبِّ ارْجِعُونِ» الآية 99 من سورة المؤمنون الآتية ، وقوله إلا فارحمون يا آل محمد ، ولم ينقل أن ذلك يكون في ضمير الغائب كما هنا ، وما قيل إنه جمع الضمير باعتبار عوده إلى فرعون وآله مردود أيضا ، لأن هذا يكون في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم ، وفرعون ليس كذلك ، قال تعالى «وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ» في مصر خاصة وهكذا كلما جاءت هذه اللفظة فلا تنصرف إلى غيرها كما مر أي أنه غالب عليها وقاهر أهلها متكبر جبار «وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ 83» المتجاوزين حدود اللّه المبالغين في الظلم لأنه كان عبدا فادعى الربوبية وكان كثير القتل والتعذيب للناس(3/66)
ج 3 ، ص : 67
«وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» إيمانا خالصا «فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا» وامضوا معي ولا تخافوا من فرعون فإن اللّه عاصمكم منه وثقوا بكلامي فان اللّه تعالى ناصري عليه ومهلكه وقومه فاستسلموا لأمر اللّه «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ 84» له منقادين لأمره تابعين لإرادته فاذا كنتم موصوفين بالإيمان المحض القلبي المذكور في هذه الآية وبالإسلام الظاهري الذي هو مطلق الإذعان المذكور فيها ، فامتثلوا قولي وهذا هو كمال الإيمان ، لأن من يؤمن باللّه إيمانا حقيقيا لا يتوكل على غيره «فَقالُوا» مجيبين له «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» لا على غيره ، ثم ابتهلوا إلى ربهم فقالوا «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً» محلا لها بأن تسلطهم علينا فيصرفونا عن دينتا أو يعذبونا فيردونا قسرا عنه فيقول فرعون لو كانوا على الحق لما سلط عليهم ، ولم يصابوا بعذابه ، فيظنوا أنهم
خير منا فيتعنّتوا بذلك ، ويزدادوا كفرا وطغيانا فتكون مسخرين «لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 85» المتمادين في الظلم ولا تهلكنا بذنوبنا أو ذنوبهم «وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ 86» ومن قبح جوارهم وسوء صنيعهم بعد أن تخلصنا من ظلمهم وبغيهم ولهذا عبر عنهم بالكفر بعد الظلم ووضع المظهر موضع المضمر أي القوم الكافرين بدل منهم هذا ولا جرم أن اللّه تعالى أجاب دعاهم ، وقبل توكلهم ، فنجاهم مما يخافون وأهلك عدوهم ، وجعلهم خلفاء في أرضه ، فمن أراد أن تستجاب دعوته فليخلص لربه ويرفض ما سواء ويحسن ظنه به ، فإنه عند حسن ظن عبده به قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا» اتخذا واجعلا «لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً» للصلاة يرجعون إليها بعبادتهم لإقامة شعائر الدين فيها «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» تستقبلونها في صلاتكم وكلوا أي الأنبياء ، عليهم السلام في ذلك الزمن يستقبلون الكعبة ، كما روى عن ابن عباس قال قال بنو إسرائيل لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة ، فأذن لهم أن يصلوا في بيوتهم ، وأن يجعلوها قبل القبلة ، لأن موسى وهارون كانوا يستقبلونها لكونها قبلة أبيهم إبراهيم عليهم السلام ، وكانوا يصلون خفية لئلا يؤذيهم كفرة القبط ، كما كان محمد وأصحابه في بداية الإسلام ، فإنهم كانوا يخفون صلاتهم وعبادتهم خشية اذية قريش(3/67)
ج 3 ، ص : 68
لهم وقد عمم اللّه هذا الخطاب ، لأن العبادة عامة وواجبة على العامة ، وخصص أوله بموسى وأخيه لأن الأمر باتخاذ بيوت العبادة من خصائص الأنبياء لأنهم هم المشرعون لغيرهم ، وقيل المراد من قوله «قِبْلَةً» أي اجعلوها متقابلة وليس بشيء على أن ظاهر القرآن لا يدل على المعنى المراد في هذه اللفظة لأن اليهود تستقبل صخرة بيت المقدس ، والنصارى مطلع الشمس ، ولا يبعد أن تشمل هذه اللفظة الأمر بأن يجعلوا بيوتهم قبلة لرّوادها من الضيفان والزوّار وجعلها مأوى لكل فقير ومسكين ومقطوع يستقبلون فيها العاني وذا الحاجة وغيرهم ، لأن هذا من جملة ما حث عليه الشارع ومن مكارم الأخلاق واللّه أعلم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» في تلك البيوت على المعنى الجاري في التفسير «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 87» بك يا موسى فإنه لا يصيبهم أذى الكفرة ولا ينالهم مكروه منهم «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا» من كل ما يتزين به الناس من اللباس والحلي والمراكب والمساكن ونحوها «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» الناس ويميلوهم عن طاعتك ويصرفوهم عن هداك ، وكرر لفظ ربنا للالحاح في التضرع ، واللّه تعالى يحب الملحين في الدعاء واللام في ليضلوا مثل اللام في قوله تعالى «لِيَزْدادُوا إِثْماً» الآية 78 من آل عمران في ج 3 في اللفظ والمعنى وهذه حجة على المعتزلة لأنهم لا ينسبون ما لا يليق فعله إلى الخالق ، واللّه تعالى يقول ليضلوا وليزدادوا ، إذ لا يكون شيء خيرا كان أو شرا إلا بإرادته وقضائه وقدره ، راجع الآية 59 المارة من هذه السورة.
واعلم بأن هذه اللام للتعليل مجازا لا حقيقة ، لأن اللّه تعالى آتاهم ما آتاهم ليؤمنوا به ويشكروه فتوسلوا بها إلى البغي والطغيان ، وتوصلوا بها إلى الكفر والخسران ، فاشبهت حالهم حال من أعطى المال لأجل الإضلال فورد الكلام بلفظ التعليل بناء على هذه المشابهة وقال بعض المفسرين إن اللام هذه للعاقبة أي تكون عاقبة أمرهم الإضلال عن الحق.
وقيل في هذا المعنى :
وأموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أي أن عاقبة المال والدور تكون كذلك.(3/68)
ج 3 ، ص : 69
مطلب معنى الطمس وعدد الآيات وأن الأنبياء لم يدعوا على أممهم إلا بعد اليأس منهم :
ثم أنه لما رأى موسى عليه السلام إصرارهم على الكفر ولم ينجع فيهم نصحه ، ولم يتيقظوا لصبر اللّه عليهم ، ولم يؤثر فيهم ما أظهره لهم من المعجزات على يد رسولهم ، ركن إلى الدعاء عليهم بعد أن أيس منهم ، فقال «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» أهلكها وأذهب آثارها وامحقها لأنهم يستعينون بها على معصيتك والطمس المحو وإزالة الأثر للشيء ، قال قتادة بلغنا أن زروعهم وأموالهم وجواهرهم صارت حجارة.
وقال ابن عباس ، إن دراهمهم ودنانيرهم صارت حجارة منقوش عليها نقشها كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا.
وقيل إن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة وهي حجارة ، والجوزة مشقوقة وهي حجارة راجع الآية 101 من الإسراء في ج 1 والأولى أن يراد بهذا الطمس إتلافها وذهاب منافعها وهو أولى ، واللّه أعلم ، لتدخل في جملة الآيات التسع المشار إليها في الآية المذكورة من سورة الإسراء ، إذ لا يتجه عدها منها على رأي بعضهم بالمعنى الأول ، أي قلبها حجارة مع بقاء وصفها ، هذا وقدمنا في الآية 143 من الأعراف في ج 1 ما يتعلق بهذا فراجعها يتبين لك أن هذه ليست من الآيات التسع ، وأن الآيات تسع عشرة ، منها ما هو خاص بموسى ، ومنها ما هو خاص بالقبط ، ومنها ما هو خاص ببني إسرائيل قبل خروجهم من مصر وبعد خروجهم ، وما قيل إن صورهم صارت حجارة لا وجه له ، لأنه عليه السلام دعا على أموالهم لا عليهم ، وكان عذاب القبط بالغرق لا بالمسخ.
واعلم أن النبي لا يدعو على قومه ما زال يأمل إيمانهم ، ولم يدع عليهم إلا بإشارة من اللّه تعالى ، وأول من دعا على قومه نوح عليه السلام ، وذلك بعد أن أوحى إليه ربه بقوله جل قوله (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) الآية 36 من سورة هود الآتية ، فراجعها تعلم منها أنه يئس من إيمانهم فدعا عليهم ، وهكذا موسى وغيره ومن قبله وبعده لأنهم أشفق على أمتهم من الأب على ولده ، ولذا قال صلى اللّه عليه وسلم اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون حينما تعدوا عليه وآذوه(3/69)
ج 3 ، ص : 70
«وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» اربطها وقسّها حتى لا تلين للإيمان ولا تنشرح له ، وهذه الجرأة من سيدنا موسى بعد أن أيّسه اللّه من إيمانهم ، وإنما قال ما قال لعلمه أن اللّه تعالى وتعظم يفعل ذلك لمن يشاء ، ويحكم به لمن يريد ، ثم علل قساوته هذه بقوله «فَلا يُؤْمِنُوا» وهم على حالتهم هذه من الرفاه والصحة ، وسيضلون متمادين في الضلال «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ 88» وكان ذلك ، فإنهم لم يؤمنوا حى داهمهم الغرق ، فكان إيمانهم إيمان يأس حالة يأس ، فلا يقبل ممن آمن منهم أو من غيرهم في هاتين الحالتين ، قال في بدء الأمالي :
وما إيمان يأس حال بأس بمقبول لفقد الامتثال
فظهر أن دعاء موسى هذا بهذه الشدّة موافق لقضاء اللّه تعالى وقدره عليهم في الأزل ، وقد ألهمه اللّه إياه ، ولما كان هارون عليه السلام يؤمن على دعاء موسى خاطبهما بقوله عز قوله «قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» لأن التأمين دعاءه ، ومنه يعلم أن دعاء الإمام دعاء للمأموم ، وقراءته قراءة له أيضا.
واعلم أن معى آمين اللهم استجب فحال اللّه تعالى بين فرعون وقومه ، وبين الإيمان حتى أدركهم الغرق ، إجابة لدعائهما الموافق لما هو في علم اللّه ، لأن الناس جارون على تطبيق ما هو كائن في الأزل ، وما هم إلا مظاهر له «فَاسْتَقِيما» على ما أنتما عليه واثبتا على الدعوة وامضيا لأمركما ولا تستعجلا في إجابة دعوتكما ، فإنها مجابة لا محالة ، ولكن بوقتها المحتوم الذي لا يتبدل.
قالوا وكان بين الدعوة والإجابة أربعون سنة ، ومن هنا قيل أن أقل صبر اللّه على الظالم أربعون سنة ، على أنه قد يجيب الدعاء حالا في بعض الأحيان ، وهو لا يسأل عما يفعل من تقديم الإجابة وتأخيرها «وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ 89» حكمة إمهالنا لمن عصانا وانجاز وعدنا لمن دعانا ، وهذا النهي لا يدل على صدور النهي عنه من موسى وهرون ، كما أن قوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية 65 من سورة المؤمن الآتية لا يدل على صدور الشرك من محمد صلى اللّه عليه وسلم لأنه مستحيل عليه بل مجرد تأكيد امر الوعيد ، وقد كثر أن ينهى الشخص عما يستحيل وقوعه منه زجرا للغير ، والإفادة بأن في تأخير الدعاء حكما إلهية وتعليما للأمة بعدم طلبهم(3/70)
ج 3 ، ص : 71
الاستعجال بإجابة الدعاء ، وإيذانا بأن الجهلة لا يعرفون عادات اللّه تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح.
وليعلم أن كل دعاء لا بدّ أن يجيبه اللّه تعالى في الدنيا أو أن يدفع عنه ما يقابله من البلاء ، أو أن ما لم يعطه له في الدنيا يعطه له في الآخرة ، فأكثروا أيها الناس من الدعاء وألحوا به على ربكم ، فإنه يحب الملحين فيه بخلاف البشر منكم ، وفيه قيل :
لا تسألن بنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
اللّه يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
قال تعالى «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» أي عبرناهم إياه حتى قطعوه «فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ» لحقوهم ليدركوهم ويردوهم إلى مصر ليسترقوهم ويقتلوا من شاءوا منهم «بَغْياً» وتطاولا عليهم بالقول «وَعَدْواً» عدوانا وظلما وطغيانا عليهم بالفعل ، فلما تراءى الجمعان قبل دخولهم البحر قالوا لموسى ابن المخلص والبحر أمامنا وفرعون وراءنا ، وكان موسى أخرجهم بأمر اللّه تعالى وتوجه بهم نحو البحر بأمره ، ولا يعلم ماذا يفعل بعد ذلك ، فأوحى اللّه إليه أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه حالا ، فانفلق وظهرت أرضه يابسة كأنها لم تنحسر عن ماء فأمرهم بدخوله فدخلوه ، فاتبعهم فرعون وجنوده وصار الطرفان فيه بنو إسرائيل بآخره وفرعون وقومه بأوله ، فخرج بنو إسرائيل عن آخرهم ، وتوسط فرعون وقومه كلهم البحر ، فأطبق عليهم والتطم بأمواجه فوقهم جميعهم ، قال تعالى حاكبا حالة فرعون حين رأى ذلك «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ 90» المنقادين لأمره ، قال هذا ظنا منه أنه ينجيه من الهلاك ليعود لكفره كما كان يقول لموسى عند نزول كل آية كما هو مبين في الآية المارة من سورة الأعراف في ج 1 ، ولم يعلم بانقضاء إمهال اللّه إياه ، وان إمهاله ذلك لم يكن إهمالا ، وإنما ليوافي الوقت المقدر لإهلاكه الذي لا يتقدم ولا يتأخر ، ولئلا تبقى له معذرة يعتذر بها أو حجة يحتج بها ، وقد أجمعت العلماء على أن الإيمان مهما كان خالصا ، والتوبة من المعاصي مهما كانت نصوحا ، لا يقبلان حال اليأس ، لصراحة قوله تعالى(3/71)
ج 3 ، ص : 72
(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) الآية من آخر سورة المؤمن الآتية ، وتقدم ما يتعلق في هذا البحث في الآية 137 من سورة الشعراء المارة ج 1 ، وله صلة في آخر سورة المؤمن المذكورة ، وفي الآيتين 16/ 17 من سورة النساء في ج 3.
واعلم أن قول فرعون لا يدل على الإخلاص بل يقيد التشكيك ، لأنه لم يقل آمنت باللّه الذي لا إله إلا هو ، ولم يقل كما قالت السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) الآية 120 من سورة الأعراف المارة في ج 1 ، وأن قوله (آمنت بالذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) هذا دليل على عدم اعتقاده صحته ، لأنه كان دهريّا ينكر الصانع الأعظم ، ولذلك ادعى الربوبية على قومه الذين يعبدون الأوثان ، فلم تنفعه توبته ولا إيمانه ، لأنه لم يجنح إليها إلا بعد انفلاق بابهما بحضور الموت بصورة لم يبق معها له أمل بالنجاة منه ، ولو أراد اللّه لوفقه لهما عند رؤية معجزة انفلاق البحر ، إذ كان في الوقت فسحة ولكن من يرد اللّه خذلانه فلا هادي له.
مطلب الحكمة في عدم قبول إيمان اليائس وإخراج جثة فرعون ومعجزة القرآن :
قال تعالى «آلْآنَ» تركن إلى الإيمان وقد ضيعت وقته ، لا لا سبيل لك إليه «وَقَدْ عَصَيْتَ» ربك وبغيت وتطاولت بادعائك الألوهية «قَبْلُ» هذا الوقت وقد دعيت للإيمان سنين كثيرة ولم تجب دعوة رسولنا ، ولم ترجع إلينا ، أما الآن وقد اضطررت في وقت اليأس من الحياة فلا سبيل لإجابة طلبك الإيمان لإعراضك عنه في وقته «وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ 91» في أرض اللّه وعباده وبلاده ، وأهنت رسلي وتجبرت على عبادي.
والحكمة في عدم قبول إيمان اليائس هو أن الناس إذا صاروا في تلك الحالة يضطرون إلى الإيمان ليخلصوا من العذاب ، فلو قبل منهم لآمن كل أتباع الرسل المتقدمين ، ولما أهلك اللّه منهم أحدا فتتعطل الحكمة المرادة من تعذيب الكافر وتنعيم المؤمن ، لأنه إذا قبل إيمان الكافر عند آخر رمق من حياته يتساوى مع المؤمن بنعيم الجنة ، وهذا مخالف لإرادة اللّه ووعده ووعيده ، ولهذا اقتضت إرادته الأزلية بعدم الانتفاع بإيمان اليائس ، وعند نزول العذاب الذي لا محيد عنه لتحصل ثمرة التفاوت بين المؤمن والكافر ، وكذلك(3/72)
ج 3 ، ص : 73
لا تقبل التوبة في الآخرة مطلقا لأنها من قبيل العمل المقرب إلى اللّه ، ولا عمل في الآخرة وإلا لآمن كل كافر وتاب كل عاص ، ولانتفت الحكمة من خلق النار والعذاب.
قال تعالى «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» فنلقيك على نجوة من الأرض ، والنجوة المكان المرتفع ، فألقي على الساحل كأنه ثور ، وإنما قال ببدنك أي جسمك كاملا لم ينقص منه ، شيء ليراك ويعرفك من كنت تتأله عليه ، وأنت جسد بلا روح ، وقيل ببدنك بدرعك المعروف عند قومك ، وكان من ذهب مرصع بالجواهر ومن هنا يقول أهالي دير الزور للجية الثمينة بدن وهي لم تكرر في القرآن ، ويفهم من هذا أنه كان لا تطوف العروس التي كانوا يطرحونها في النيل لأجل فيضانه «لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» أي إنما قذفناك ببدنك الذي كنت تعرف به لتكون علامة لمن وراءك ، لأنهم كانوا لا يصدقون أن فرعون يموت ، إذ مر عليه أربعمائة سنة في الملك لم تصبه شوكة ، فلما رأوه جئة هامدة منتنة صدقوا أنه عبد مثلهم ليس بإله ، فيعتبرون عند ما يرونه في غاية الخسّة بعد أن كانوا يرونه في نهاية العظمة ، وقال بعض المفسرين تكون آية لمن يأتي بعدك من القرون المستقبلة ، وعليه يتجه القول الآن بأن هذا من الإخبار بالغيب ، إذ عثر على قبره في مصر سنة 137 وحفظ في متحف مصر حتى الآن ، وتكون معجزة عظيمة من معجزات القرآن العظيم ، إذ أن التوراة تذكر موته غرقا ولم تذكر جثته ، والإنجيل لم يأت بشيء عن ذلك ، وظل الذين لا يصدقون بالقرآن ينكرون خروج جثته الثابت بصراحة حتى تاريخ إخراجها ، فظهر أمر اللّه وخذل الجاحدون وأسلم من الأمريكان إذ ذاك ما ينوف عن تسعين رجلا في شهر اكتشافه ، وربما أسلم خلق كثير بعده عند ظهور كوامن هذا القرآن الجليل الحاوي على ما في الدنيا والآخرة من وقائع وأقوال وأعمال «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا» هذه وأضرابها مما كان وسيكون «لَغافِلُونَ 92» عنها تلئهون
مائلون عن التعرض إليها زائغون عن منهج الحقائق.
روي أن جبريل عليه السلام قال لفرعون وهو بصورة رجل من قومه ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفرها وجحد حقه وادعى السيادة عليه دونه ؟ فكتب له الجواب.
يقول أبو العباس(3/73)
ج 3 ، ص : 74
الوليد بن مصعب الريان : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمائه أن يغرق في البحر.
قال فلما الجملة الغرق ناوله جبريل فتواه بخطه فعرفه وقال ما قال.
ولا بعد في هذا لأن اللّه أرسل إلى داود من استفتاه بشأن المرأة التي أخذها كما مرّ في الآية 24 من سورة ص في ج 1 ، فحكم على نفسه بنفسه وهو نبي مرسل فلأن يرسل إلى هذا الخبيث لتحق عليه الكلمة بفعله القبيح من باب أولى.
وروي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لما أغرق اللّه فرعون قال (آمَنْتُ) إلخ قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حبال البحر فأذسه في فيه مخافة أن تتداركه الرحمة - أخرجه الترمذي وقال حديث حسن - .
وفي رواية أخرى عنه عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ذكر أحدهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ذكر أن جبريل عليه السلام جعل يدس في فيّ فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا اللّه فيرحمه اللّه ، أو خشية أن يرحمه اللّه - أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح - .
وبما أن هذا الحديث مشكل في ظاهره فيحتاج إلى إيضاح في صحته ومعناه ، أما صحته فقد ورد من طريقين مختلفين عن ابن عباس ، الأول عن ابن زيد بن جدعان وهو شيخ نبيل صالح صادق ، ولكنه كان سيء الحفظ ويغلط ، ولهذا ضعفه يحيى بن معين وغيره ، والحديث الثاني إنما يضعف إذا لم يتابع عليه أو إذا خالفه الثقات ، وكلا هذين الأمرين منتف فيه لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير ، وهو إسناد على شرط البخاري ، ورواه أيضا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، وعطاء ثقة قد أخرج له مسلم وما تكلم في عطاء من قبل اختلاطه انما يخاف منه إذا انفرد به أو خولف فيه ، وكلاهما منتف أيضا ، فعلم أن هذا الحديث له أصل ثابت وأن رواته ثقات (وليس في قول ذكر أحدهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم شك في رفعه) وإنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه ، وشك شعبة في تعيينه بأنه هل هو عطاء أو عدي ، وبما أن كلا منهما ثقة فإذا رفعه أحدهما وشك الآخر في تعيينه لم يكن هذا علة في الحديث ، وكلمة حبال البحر في الأول وطينه في الثاني لا تكون مباينة ، لأن حبال البحر طينه ، فالمعنى في الروايتين واحد ، فلا يصح الاعتراض عليه بعد(3/74)
ج 3 ، ص : 75
أن ثبت عنه صلى اللّه عليه وسلم بالوجه المار ذكره.
أما صحة معناه فلا غبار عليها ، لأن أهل السنة المثبتين القدر القائلين بخلق الأفعال للّه تعالى وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه يحول بين المرء وقلبه كما في الآية 24 من سورة الأنفال في ج 3 ، فهو تعالى يحول بين الكافر والإيمان بدليل هذه الرواية ، وقوله تعالى أيضا :
(وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) الآية 155 من سورة النساء في ج 3 ، وقوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية 111 من سورة الأنعام الآتية ، وقوله تعالى (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) الآية 101 من الأعراف المارة في ج 1 ، وهكذا فعل جل شأنه بفرعون إذ منعه عن الإيمان جزاء تركه إياه ، ودس الطين في فمه من قبل جبريل عليه السلام من جنس الطبع والختم على القلب ، ففعله هذا مع فرعون عليه اللعنة من هذا القبل ، ولم يكن إلا بإرادة اللّه الملك الجليل ، وغاية ما فيه أن يقال إن اللّه منع فرعون من الإيمان عقوبة على كفره السابق ، وما قيل إنه لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل كان عليه أن يعينه عليها ، هو قيل قد يكون سديدا إذا كان جبريل مكلفا مثلنا يجب عليه ما يجب علينا ، أما إذا كان ليس كذلك وإنما يفعل ما أمره اللّه به وهو الذي منع فرعون من الإيمان ، وإنما جبريل منفذ لأمره ليس إلا ، فكيف لا يجوز له منع من منعه اللّه وكيف يجب عليه اعانة من لم يعنه اللّه ، وقد أخبر عنه بأنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم ، وقد قضت حكمته أن لا يقبل الإيمان في مثل حالة فرعون ، ولما كان في أفعال اللّه تعالى قولان أحدهما أنها لا تعلل وأن تعليلها محال ، فعلى هذا لا يرد شيء من هذا أصلا ، ولم يبق إشكال في معنى الحديث ، والقول الثاني أن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح ، فعلها لأجلها ، وكذا أوامره ونواهيه ، لها غاية محمودة لأجلها أمر بها ، ونهى عنها ، وعلى هذا يقال لما قال فرعون (آمَنْتُ) إلخ ، وقد علم جبريل بإعلام اللّه إياه أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب ، وأن الوقت المقبول فيه الإيمان نفد ، وأن إيمانه في غير الوقت المحدد له لا ينفعه ، دسّ الطين في فيه لتعجيل ما قد قضى عليه ، وسد الباب
عنه سدا محكما بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ ، ولا يبقى من(3/75)
ج 3 ، ص : 76
عمره متسع للإيمان المقبول ، فيكون عمل جبريل تكميل لما سبق في حكم اللّه عليه وتنفيذ لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون ، وهو سعي في مرضاة اللّه ، وما قيل إن في منعه من التوبة كفرا لأنه رضي ببقائه على الكفر والرضاء بالكفر كفر لا وجه له لما قدمنا من الإضلال والهدى بمشيئة اللّه تعالى ، وجبريل إنما يتصرف بأمر اللّه وقد فعل ما أمر به والرضاء بالأمر غير الرضاء بالمأمور فأي كفر يكون هذا ؟
على أن الرضاء بالكفر إنما يكون كفرا بحقنا لأننا مأمورين بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفرا بحقنا مخالفتنا ما أمرنا به ، وإن من ليس بمأمور كأمرنا ، ولا مكلفا تكليفنا ، بل يفعل ما يأمره سيده ربه كالملائكة ، فإنه إذا نفذ ما أمره به ربه لم يكن راضيا بالكفر ولا يكون كفرا بحقه ، وما قيل كيف يليق بجلال اللّه أن يأمر جبريل بمنع فرعون من الإيمان فقول سخيف لأن اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل ، فإذا علم هذا ويقول كيف فهو سخيف ، وإذا لم يعلم فهو جاهل جهلا مركبا ، هذا وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام ما أبغضت شيئا من خلق اللّه تعالى مثل ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد ، وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتعصم بكلمة الإخلاص فينجو ، فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت اللّه تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال (آلْآنَ) إلخ ، قال تعالى «وَلَقَدْ بَوَّأْنا» وطنّا وأنزلنا «بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ» منزلا محمودا صالحا مرضيا وصفه بالصدق ، لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق فتقول رجل صدق وقدم صدق ، راجع الآية الثانية من هذه السورة ، وذلك أن الشيء إذا كان كاملا لا بد وأن يصدق الظن به ، وهذا المكان هو مصر والشام والقدس والأردن ، وهي بلاد الخصب والبركة ، ومن أحسن بقاع الأرض وأخيرها نتاجا ، فالكامل فيها لا يضاهيه كامل في غيرها ، ولهذا كانت مهبط الأنبياء ومهاجرهم ومدافنهم فيها ، وناهيك به شرف «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» اللذائذ الحلال من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن ومركوب «فَمَا اخْتَلَفُوا»(3/76)
ج 3 ، ص : 77
في أمر دينهم ، بل ثابروا عليه وتمسكوا به «حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بالوقوف على إلهام التوراة فاختلفوا بتأويلها زمن نزولها كما اختلفوا أخيرا في نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، فمنهم من آمن بهما ومنهم من كفر ، لذلك يقول اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 93» من الحق وإذ ذاك يميز بين المحق والمبطل ، ويجزى كلا بما بستحقه ، فيدخل من آمن وصدق الجنة ، ومن كفر وجحد النار.
مطلب معنى الشك المخاطب به محمد صلى اللّه عليه وسلم ومعنى الصدق والأراضي المباركة والآيات المدنيات :
«فَإِنْ كُنْتَ» يا سيد الرسل «فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» في هذا القرآن على سبيل الفرض والتقدير ، لأن الشك في ذلك لا يتصور منه وقوعه لا نكشاف الغطاء له صلى اللّه عليه وسلم ، ولذا عبّر بان التي تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه ، حتى إنها تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه ، حتى إنها تستعمل في المستحيل عقلا وعادة كما في قوله سبحانه (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) الآية 82 من سورة الزخرف الآتية ، وقوله تعالى (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) الآية 26 من سورة الانعام الآتية ولم يعبّر في هذه الآيات بإذا لأنها تفيد الجزم بوقوع الشرط بعدها ، وصدق القضية الشرطية لا يتوقف على وقوعها ، أي إن كنت في شك مما قصصناه عليك من قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» وهم الأخبار والعلماء والربانيون العارفون بالتوراة والإنجيل والزبور ، فإنه محقق عندهم لا مرية فيه لأنها مدونة في كتبهم بعضا باللفظ وبعضا بالمعنى وأخرى بالإشارة وطورا بالعبارة وتارة بالرمز ومرة بالامارة ، وخص هذا السؤال بالقصص لأن الأحكام القرآنية قد تخالف ما عند أهل الكتاب ، لانها ناسخة لكثير منها ومغايرة لها ، إذ جاءت موافقة لعصره صلى اللّه عليه وسلم فما بعده إلى يوم القيامة ، بخلاف الأحكام الموجودة في كتبهم ، إذ لم تكن صالحة لذلك ، والشك لغة خلاف اليقين وهو اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة ، وهو ضرب من الجهل وأخص منه ، (3/77)
ج 3 ، ص : 78
فكل شك جهل وليس كل جهل شكا ، فإذا قيل فلان شك في هذا الأمر فمعناه توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه ، وظاهر هذا الخطاب لسيد المخاطبين محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولكن المراد به غيره على حد قوله تعالى (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) الآية 81 من سورة القصص المارة في ج 1 ومثلها الآية 65 من سورة الزمر الآتية وما يشابهما من الآيات ، لأنه صلى اللّه عليه وسلم لا يصده صاد عن آيات ربه ، فثبت أن المراد غيره بمعنى إياك أعني واسمعي بإجارة ، فيكون المعنى قل أيها الإنسان إن كنت في شك مما أنزل علي فاسأل أهل الكتاب يخبرونك بصدقه ، يدل على هذا قوله تعالى آخر هذه السورة (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) فلا يقال والعياذ باللّه تعالى أن الرسول شاكّ في نبوته أو فيما أنزل عليه ، حاشا ثم حاشا ، لأنه يوجب سقوط الشريعة معاذ الله ، ولكان غيره بالشك أولى وهو لا يجوز البتة ، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة لم يشك النبي صلى اللّه عليه وسلم قط ولم يسأل ، إذ قال لا أشك ولا أسأل ، وعامة المفسرين على هذا ، فاحذر ثبت اللّه قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين من ذكر الشك والصاقه بحضرة الرسول بداعي أنه من البشر ، فإنه لا يجوز أصلا ، نعم إنه بشر ولكنه قال مرارا إني لست كأحدكم ، وعبر قول الناظم :
محمد بشر وليس كالبشر بل هو جوهرة والناس كالحجر
وفي هذه الآية تنبيه على أن من خالجته شبهة في أمر دينه فليراجع من يزيلها عنه من أهل العلم وليسارع إلى ذلك ، قال تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الآية 44 من سورة النحل الآتية ولا يعتمد على علمه ، فكم زل عالم ، وليعلم أن الاعتماد على النفس غرور وخيلاء وليتأمل قوله تعالى (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الآية 76 من سورة يوسف الآتية ليدفع عن قلبه ما طرأ له بالبرهان من قوانين الدين وأدلته ومباحث العلماء العارفين فيه ، وبما أن هذه الآية مدنية والآيتين اللتين بعدها كذلك ، فإن المراد بالذين يقرأون الكتاب واللّه أعلم هم عبد اللّه بن سلام وأصحابه الموثوق بأخبارهم ، ولا يخفى أن منطوق الآية عام شامل لمؤمنهم وكافرهم ، لأن القصد في هذا الإخبار بصحة هذه القصص ، والإخبار(3/78)
ج 3 ، ص : 79
بصحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأنهما مدوننان في كتبهم وموضح فيها بعض تلك القصص ونعت حضرة الرسول ، ومهما بالغوا في الكذب والإنكار لا يستطيعون جحدها خشية تكذيبهم أمام قومهم ، وهم عرب يتحاشون عنه ، إلا أنهم يبالغون في كتمها مهما أمكن.
هذا وقال بعض المفسرين إن الخطاب في الآية لحضرة الرسول يشمل كافة الخلق على حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الآية الأولى من سورة الطلاق في ج 3 وهو حسن ، لكن فيه بعدا لأنه متى قيل إنه داخل في هذا الخطاب كان الاعتراض بما قدمناه موجودا والسؤال عنه واردا ، وقال بعضهم أن (إن) في الآية نافية والمعنى ما أنت في شك حتى تسأل ، فلا تسأل ، ولئن سألت لازددت يقينا ، ولكنه خلاف الظاهر ، وقيل إن الشك هنا بمعنى الضيق ، أي إن ضقت ذرعا من أذى قومك فاسأل إلخ الآية ، وليس بشيء ، لكونه خلاف الظاهر أيضا ، وقيل إن الخطاب ليس له أصلا ، لأن الناس كانوا في زمنه ثلاث فرق : مصدقون وهم المؤمنون ، ومكذبون وهم الكافرون ، وشاكون وهم المترددون ، فخاطبهم اللّه تعالى بقوله فإن كنت أيها الإنسان في شك من الهدى الذي أنزلناه على نبينا ومما أخبر به من القصص ، فاسأل أهل الكتاب يدلوك على صحته ، وإنما وحد الضمير وهو يريد الجمع ، لأن الخطاب لجنس الإنسان كما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 7 من سورة الانفطار وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الآية 7 من سورة الانشقاق الآتيتين ، فإنه تعالى لم يرد فيها إنسانا بعينه بل أراد الجمع وهو وجيه ، واللّه أعلم.
«لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» في هذه الآيات الواضحة والبراهين القاطعة فهو الحق لا ريب فيه «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ 94» في شيء منه فتتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين ، بل دم على جزمك الذي أنت عليه من قبل ولا تلتفت إلى ما ينقولون ، والافتراء هو التشكك والتردد وهو أخف من التكذيب ، ولذا عقبه بقوله «وَلا تَكُونَنَّ» أيها الإنسان «مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» فأنساهم اللّه ذكره وخسروا الدنيا والآخرة «فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ 95» مثلهم نفسا وعملا ، والتعبير بالخاسرين أظهر من التعبير بالكافرين ، (3/79)
ج 3 ، ص : 80
والفائدة من النهي في الموضعين التهييج والإلهاب وزيادة التثبت والإعلام بأن الافتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما ، فكيف بمن يمكن اتصافه بهما ، وفي هذه الآية قطع لأطماع الكفرة.
وهاتان الآيتان على حد قوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما سيأتي في الآية 104 من هذه السورة ، وما قدمناه في الآية 17 من سورة القصص المارة فهي من جملة الخطابات المراد بها غيره صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه معصوم من الشك والمرية والتكذيب ، كما ثبت لك مما تقدم وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن العظيم ، وأحسن الأقوال في تفسيرها ما ذكرناه لك في تفسير هذه الآية ، فتمسك بها واحذر أن تكون ممن يشملهم قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ» بالعذاب الداخلين في قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية 120 من سورة هود الآتية المحكوم عليهم بذلك بمقتضى قضائه الأزلي وقدره السابق في علمه المسجل في لوحه المحفوظ «لا يُؤْمِنُونَ» البتة إذ لا يمكن نقض قضاء أبرمه وتخلف إرادة قضاها ، وهكذا كل من قطع اللّه بعدم إيمانه لا يؤمن مهما جاءه من الرسل والكتب ومهما أظهر له من الآيات والمعجزات بدليل قوله تعالى «وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ» من آيات الرسل الأقدمين وغيرها ، لأنهم لا ينتفعون بها ولا يتدبرون حكمها ولا يعقلون معناها لصرفهم جوارحهم إلى غير ما خلقت لها ، لذلك قطع الأمر بموتهم كفارا وتخليدهم بالنار ، لأنهم مثل فرعون لا يؤمنون «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ 96» الذي لا آلم منه ولا مرد له ولا نجاة منه ، وإذا آمنوا حينذاك لا ينفعهم إيمانهم للإتيان به في غير محله كما مرّ تفصيله في الآية 90 آنفا وهذه آخر الآيات المدنيات ، قال تعالى «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ» أي أهلها من اطلاق المحل وإرادة الحال فيه ، كما تقول سال الوادي ، وجرت الساقية ، وهذا كثير في القرآن أيضا وهو من محسنات الكلام.
«آمَنَتْ» عند معاينة العذاب «فَنَفَعَها إِيمانُها» حال اليأس ، ولا يرد على هذا عدم قبول إيمان فرعون ، لأنه لم يفارقه النبي الذي أرسل لإرشاده حتى أدركه الغرق ، أما هؤلاء فإن نبيهم بعد أن أنذرهم بنزول العذاب تركهم كما سيأتي في القصة.(3/80)
ج 3 ، ص : 81
مطلب في المشيئة والاستثناء وقصة يونس عليه السلام :
وقد سبق في علم اللّه تعالى صدق نيتهم في توبتهم قبل إحاطة العذاب فيهم ، كما سنوضحه لك قريبا ، بخلاف فرعون لأنه في تلك الحالة الرهيبة لم يزل شاكا كما تقدم في الآية 90 المارة حتى مات «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ» استثناء متصل ، لأن الجملة في معنى النفي ، أي ما آمنت قرية من القرى الهالكة فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا نفعهم إيمانهم ، وقوم منصوب على أصل الاستثناء وإذا رفعت (قوم) على القراءة الأخرى كان الاستثناء منقطعا ، ويكون المعنى لكن قوم يونس نفعهم إيمانهم «لَمَّا آمَنُوا» إيمانا خالصا لا يشم منه رائحة شك أو غيره ولذلك «كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ» الذلّ والهوان «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بخلاف غيرهم إذ استأصلناهم بالعذاب لعدم صدق نيتهم وصحة إخلاصهم ، وقد سبق في علم اللّه أن الذين استؤصلوا لو أجاب دعاءهم ورفع عنهم العذاب لردوا إلى ما نهوا عنه ، أما هؤلاء فكان في علمه الأزلي إخلاصهم للّه في توبتهم ، لذلك رفعنا عنهم العذاب «وَمَتَّعْناهُمْ» في الدنيا بعده «إِلى حِينٍ 97» انقضاء أجلهم المقدر لمكثهم فيها ، وهو الأجل المبرم المقدّر على حسن توبتهم ونيتهم ولو لا ذلك لأهلكوا بالأجل المعلق المقدر على عدم توبتهم ورجوعهم إلى اللّه ، راجع الآية 2 من سورة الأنعام الآتية.
، وهؤلاء خصوا من بين الأمم بحسب قضاء اللّه الأزلي ، وتنطبق عليهم القاعدة ما عموم إلا وخص منه البعض ، كقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية الأخيرة من سورة القصص المارة ، وقوله تعالى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية 69 من الزمر الآتية ، وقوله تعالى (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية 88 من سورة النمل المارة في ج 1.
هذا ولا يقال إنهم آمنوا قبل نزول العذاب لمخالفته للآية لأن الكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو بعد قرب وقوعه ، لأنه وقع قبل إحاطته بهم وبعد مشاهدتهم له ، واللّه أعلم.
وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون هي أن يونس عليه السلام بعثه اللّه إلى أهل نينوى بأرض الموصل ، وكانوا مشركين فدعاهم لتوحيد اللّه تعالى ورفض سواء من الآلهة ، فأبوا عليه وأصروا(3/81)
ج 3 ، ص : 82
على كفرهم وكذبوه وجحدوا رسالته ، فأخبرهم أنهم إذا لم يؤمنوا فإن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ليال ، فأتقوا منه ، واشتد غضبه عليهم ، ولما لم يجد نصحه لهم نفعا أعرض عنهم وتركهم وذهب خارج قريتهم ، فلما فقدوه عرفوا أن ما وعدهم به من العذاب واقع بهم لا محالة لأنهم لم يجربوا عليه كذبا ، فخافوا وندموا ، فلما أصبحوا توقعوا نزول العذاب فرأوا غيما أسود فغشاهم فأيقنوا أنه ما وعدهم به ، فلبسوا المسوح وخرجوا إلى الصحراء بنسائهم وأولادهم ودوابهم وأظهروا توبتهم للّه وإيمانهم برسوله وردوا المظالم إلى أهلها وعجّوا إلى اللّه بالدعاء وعملوا ما كان يأمرهم به نبيهم وانتهوا عما نهاهم عنه ، حتى انهم صاروا يقلعون الأحجار المغصوبة من بنائهم ويعطونها أهلها ، رصاروا يتضرعون إلى اللّه ، وفرقوا بين الأولاد والأمهات من نوع الإنسان والحيوان ، وازداد بكاؤهم وبالغوا بالاستغاثة إلى اللّه.
وهم يشاهدون الدخان يظهر من ذلك الغيم ، وانه لا يزال بسود ويتكاثف ويقرب منهم حتى غشي مدينتهم كلها واسودت أسطحتهم وأحاط بهم من كل جانب ، وهم يلحّون بالدعاء إلى اللّه ويستصرخونه بالإغاثة ، وصار الأطفال يتصايحون والحيوانات تتثاغى ، والنساء تبكي ، وازداد عويل الرجال لرقة قلوبهم على الأولاد والحيوانات والنساء وأملهم برجاء اللّه رفع بلاءه عنهم وهو يتقوّى ساعة فساعة ، ثم ذهبوا إلى شيخ لهم كانوا يعتقدون به فشكوا إليه نزول العذاب واستطلعوا رأيه واسترشدوا به ، فقال لهم قولوا يا حي حين لا حي ، يا حي محيي الموتى ، ويا حي لا إله إلا أنت.
وقال الفضيل قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل ، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن له أهل.
وأنابوا كلهم إلى اللّه بإخلاص ونصح وصدق ودعوا كلهم بلسان واحد بذلك الدعاء وابتهلوا إلى اللّه تعالى موقنين قبول رجائهم ، فرحمهم وكشف عنهم العذاب أولا بأول ، وبدد تلك الغيوم حتى لم يبق منها شيء ، فقرحوا وسبحوا اللّه وحمدوه وشكروه ، ثم أمر اللّه يونس بالرجوع إليهم ، فقال رب كيف أرجع فيجدوني كذابا لأني وعدتهم بالعذاب فكشفته عنهم ، وإن عادتهم إذا كذب
الرجل دون بيّنة قتلوه ، وانصرف مغاضبا.
وسنأتي على بقية هذه القصة في الآية 139 فما بعدها من سورة الصافات الآتية حتى لا تتكرر(3/82)
ج 3 ، ص : 83
هنا وهناك ، وقد ألزمنا أنفسنا التحاشي عن التكرار في القصص وغيرها مهما أمكن ، لأن سبب ضخامة تفاسير المفسرين من التكرار لا غير.
مطلب المشيئة عند أهل السنة والمعتزلة ومعنى الآية فيها :
قال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ» على الإحاطة والشمول «جَمِيعاً» تأكيد بعد تأكيد بحيث لا يتخلف منهم أحد البتة ، ولكن اللّه جل شأنه لم يشأ ذلك ، لأنه لا يشاء إلا ما يعلمه ولا يعلم إلا ماله ثبوت في نفسه في لوحه ، فما لا ثبوت له أصلا لا يعلم ، وما لا يعلم لا يشاء ، ولا يشاؤه لكونه مخالفا لحكمته التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع.
وفي هذه الآية إشارة إلى تحقيق دوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته ، وإعلام بكمال قدرته ونفوذ مشيئته ، وحجة على المعتزلة الزاعمين أن اللّه تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم ، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها ، وقرية لا يجوز التخلف عنها ، وحملوا ما في الآية على الأخير ، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة إلجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا ، لكنه لم يشأ ، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا له ولضده ، وفوض الأمر إليهم ، محتجين بقوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية 29 من سورة الكهف الآتية ، وهذا ديّنهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه ، وفيه أنه لا قرينة على التقيد مع أن قوله تعالى «أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 98» يأباه قياسهم لأن المعنى ليس لك الأمر بإكراه الناس على الإيمان ، وإنما أنت مبلغ ومنذر ، فلا تحرص على إيمان من لم يؤمن ، لأنه لا يكون إلا بالتصديق والإقرار ولا يمكن الإكراه على التصديق.
والهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة والفاء للتفريع والمقصود تفريع الإنكار.
ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفريع الإنكار وقيل الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أربك لا يشاء أفأنت يا محمد تكرههم على الإيمان ، والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على مشيئته تعالى ، والإباء هو الإباء ، فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها ، (3/83)
ج 3 ، ص : 84
والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع على طريق المبالغة ، ومن المعلوم أن المشيئة غير الإرادة ، فإن اللّه تبارك وتعالى أمر الكافر بالإيمان وأراد منه الكفر بمقتضى مشيئته الأزلية ، وهذا مما لا نزاع فيه ، حتى أن الإنسان قد يأمر خادمه بشيء وهو يريد غيره ، قال ابن عباس : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره عز وجل أنه لا يؤمن إلّا من سبقت له السعادة في الذكر الأول ، ولم يقل إلّا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول أي اللوح المحفوظ الذي فيه سابق علم اللّه الأزلي بما كان وما يكون ، قال تعالى «وَما كانَ» ما صح وما استقام ولا جاز «لِنَفْسٍ» من النفوس التي علم اللّه تعالى «أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ومشيئته وإرادته.
وهذه الآية بيان لنبعية إيمان النفوس التي علم اللّه تعالى إيمانها بمشيئته وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك ، وتقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل «وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ» الكفر بقرينة ما قبله قال تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآية 137 من سورة التوبة في ج 3.
وقيل السخط والعذاب وأصله الشيء الفاسد المستقذر ، وعبّر عن الكفر بالرجس لأنه علم في الفساد والاستقذار ، راجع الآية 128 من سورة الأنعام الآتية.
وقرىء بنون العظمة ونجعل الرجس «عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ 99» أوامر اللّه ونواهيه فلا يفقهون مغازيها حتى يعوها ويتعظوا فيها ، فيا أكرم الرسل
«قُلِ» لهؤلاء الكفرة «انْظُرُوا» نظر اعتبار واستدلال وتفكر وتدبر «ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من الآيات العظام الدالة على عظم صانعها ، ففي السموات الشمس والقمر والنجوم السيارات والساكنات مما عرفه البشر ومما لم يعرفه بعد ، وإن كابر بعضهم وقال بمعرفة كل ما في السموات حتى أنه أحصاها عدا فإن هناك من الأفلاك والبروج السائرة والواقفة الطالعة والغارية الظاهرة والخفية والتي يحصل بها الليل والنهار والإنضاج والرطوبة واليبوسة والتطعيم والتلوين وتأثيرات كثيرة وضعها اللّه تعالى فيها ومنافع تكون منها بإرادته تعالى للبشر والحيوان والطير والحوت والنبات والجماد ، وفي الأودية والجبال والبحار والأنهار والعيون والأشجار(3/84)
ج 3 ، ص : 85
والزروع والمعادن المختلفة نوعا وجنسا وشكلا ولونا طبيعة وعملا مما يتركب منها ، وأذواق ما يؤكل منها وطعمها مما لا يعلم إحصاء إلا اللّه ، ففي كل منها آية عظيمة دالة على رب عظيم يغنيكم أيها الكفرة عن طلب آية غيرها :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
إن كنتم تريدون الإيمان بمبدعها «وَما تُغْنِي الْآياتُ» مهما كانت جليلة ونادرة «وَالنُّذُرُ» مهما كثروا وتعبوا في نصح البشر «عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ 100» حالا ومستقبلا لأن اللّه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهم الذين لا يعقلون المنوه بهم آنفا الذين سبق لهم في الأزل الشقاء «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ» هؤلاء الكفار الذين لا يعقلون آيات اللّه ويطلبون الآيات من الرسل «إِلَّا» أياما سودا «مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ» بأن بوقع اللّه بهم مثل ما أوقعه عليهم من الغرق والخسف والريح والصيحة وغيرها من أنواع العذاب الذي صبّ على أسلافهم ، وقد أطلقت الأيام على الوقائع الشديدة ، لأن العرب تسمي النقم أياما كما هنا والنعم أياما كما في قوله تعالى (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) الآية 5 من سورة ابراهيم الآتية ، فإذا كانوا ينتظرون إهلاكا مثل إهلاكهم لأنهم سائرون على شاكلتهم ، فيا حبيبي «قُلْ» لهم «فَانْتَظِرُوا» ذلك لا تستعجلونه فإنه آت «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 102» له وإني مترقب إهلاككم فيه ونجاتي ومن معي لقوله عز قوله «ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» من ذلك العذاب المنتظر «كَذلِكَ» مثل ما أنجينا الرسل الذين بعثناهم إلى الذين قبلكم وأهلكنا من كذبهم من أمثالكم لأنا نرى «حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ 103» أنت ومن آمن بك يا محمد ونهلك المشركين الذين كذبوك.
واعلم أن حروف هذه الآية من كلمة كذلك إلخ 1468 بحساب الجمل وان الآيتين من سورة الصافات 171/ 172 والآية 51 من سورة المؤمن لها مساس في مغزى هذه الآية فراجعها وراجع الآية 47 من سورة الروم الآتية أيضا ، وإنا مثلما نفّذنا وعيدنا بإهلاك الكفرة ننجز وعدنا بنصرة الرسل وفوز المؤمنين بهم ، وهذا مما أوجبه اللّه تعالى على ذاته المقدسة من الحق هو من حيث الوعد والحكم لا من حيث الاستحقاق ، لأنه تبارك وتعالى ما عليه واجب(3/85)
ج 3 ، ص : 86
والعبد لا يستحق عليه شيئا ، ومعنى أن الإنجاء واجب عليه انه كالأمر الواجب عليه تعالى بحسب وعده الذي لا يخلف ، وإلا فلا وجوب حقيقة لا بالإنجاء ولا بالإهلاك ، لأنه يفعل ما يشاء ويختار ، فله أن يعذب المؤمن وينعم الكافر ، فلا يسأل عما يفعل كما هو عقائد الأشعرية والماتريدية ، وعليها جميع أهل السنة والجماعة ، وهذا لا يعد ظلما منه ، لأن الظلم التصرف في ملك الغير بلا حق ، واللّه سبحانه وتعالى هو المالك المتفرد في عذا الكون علويه وسفليه ، وله التصرف فيه كيفما شاء وأراد ، وهذه الآية مقررة لمضمون ما قبلها ، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيات 55/ 65 و91 المارات في هذه السورة ، قال تعالى «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي» الذي أدعوكم إليه تقدم ما فيها في الآية 91 المارة من هذه السورة أيضا «فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الأوثان لأني على دين أبيكم إبراهيم عليه السلام الذي تعرفونه ، لا تشكون فيه ، كما أن رؤساء النحل كلها تحترمه وتقر لحضرته بصحة الدين القويم ولا تشك فيه ، فالأولى أن تشكوا في دينكم المبتدع الذي لا أصل له البتة ، وإنما قدم النفي لأن العبادة غاية تعظيم المعبود فلا تليق لأخس الأشياء كالأوثان التي لا تضر ولا تنفع تارك عبادتها وعابدها ، وإنما تليق لمن بيده النفع والضر والإحياء والإماتة الملمع إليه بقوله «وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ» فهو الذي يستحق العبادة لأنه خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم يميتكم ثم يحييكم ، وقد اكتفى بذكر الوفاة لأنه أشد شيء على النفس وأقوى في الزجر والردع «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 104» المصدقين باللّه الواحد وبما جاء من عنده ، ولما ذكر العبادة التي هي من أعمال الجوارح اتبعها بما هو من أعمال القلوب وهو الإيمان فقال جل قوله «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ» أي ذاتك
كلها ، وهذه عطف على أن أكون «لِلدِّينِ حَنِيفاً» مائلا عن كل أباطيلهم وهي حال مؤكدة من الوجه لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والاعراض عن الباطل بكلية الإنسان من إطلاق الجزء على الكل «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 105» في الاعتقاد والأعمال «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ» مما يدعوك إليه(3/86)
ج 3 ، ص : 87
قومك من الاستشفاع بالأوثان وغيرها «فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ 106» لنفسك وغيرك ، هذا كله خطاب عام مراد به غير حضرة الرسول وإنما خوطب به تهييجا
وإلهابا لقلوب الناس وحثهم على التوحيد والكف عما هم عليه والرجوع إلى اللّه تعالى كما قدمناه في الآية 94 المارة من هذه السورة.
قال تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ» من مرض وفقر وشدة وذلة «فَلا كاشِفَ لَهُ» عنك «إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ» صحة وعافية ورفاه وجاه «فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ» على عباده من أحد ما «يُصِيبُ بِهِ» بكل من الضر والخير «مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» مؤمنهم وكافرهم وقد قطع جل شأنه في هذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه ، وسبيل الاعتماد في الأمرين وغيرهما إلا عليه ، وقد رجح سبحانه جانب الخير في هذه الآية على جانب الشر لأنه لما ذكر إمساس الضربين أن لا كاشف له إلا هو ، فيدل هذا على أنه يزبل جميع المضار ويكشفها ، لأن الاستثناء من النفي إثبات ، ولما ذكر الخير قال (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي أن جميع الخيرات منه لا يقدر أحد على ردها ، لأنه هو مفيضها على عباده ، ولذلك عضدها بقوله «وَهُوَ الْغَفُورُ» لذنوب عباده الساتر لها «الرَّحِيمُ 107» بهم الرءوف كثير الشفقة عليهم ومن رحمته لا يؤاخذهم بما يفعلون بحسب لطفه بهم ، ويرزقهم وهم له جاحدون بمقتضى رأفته بهم ، قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية الأخيرة من سورة فاطر المارة في ج 1 ، وقال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ...
ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية 62 من سورة النحل الآتية ، فأكثروا من شكره أيها الناس واحمدوه وعظموه ومجّدوه ، فهو المختص بالحمد بالدنيا والآخرة وهو المالك له فلا يقدر أحد أن يحمد أحدا إلا بتقديره «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ» هو كتاب اللّه الذي فيه هديكم «مِنْ رَبِّكُمْ» ومالك أمركم على لسان رسولكم الذي هو منكم «فَمَنِ اهْتَدى » به وصدقه وآمن بما أنزل عليه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» لأن نفع هداه يرجع إليها «وَمَنْ ضَلَّ» عن سلوك طريق هداه ولم يسترشد به وكذب من أنزله عليه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» لأن وبال ضلاله عائد عليه نفسه ، (3/87)
ج 3 ، ص : 88
وفي هذه الآية تنزيه ساحة صاحب الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه من جلب نفع ودفع ضر لذلك أمره اللّه أن يقول لقومه العتاة المعاندين «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ 108» للقيام بأموركم وإصلاح أحوالكم ، وإنما أنا بشير لمن أطاع اللّه بالجنة ونذير لمن عصاه بالنار ، وفي هذه الآية إشارة إلى أنه صلى اللّه عليه وسلم غير مجبر لهم على الإيمان ولا بمكرههم عليه ، ولا هو مكلف بقسرهم على شيء ما وإنما هو مأمور بتبليغهم أوامر اللّه ونواهيه فقط كما مر في الآية الأخيرة من سورة طه المارة في ج 1 ، وللبحث صلة في الآية 21 فما بعدها من سورة الغاشية الآتية ، قال تعالى «وَاتَّبِعْ» يا سيد الرسل في جميع شئونك اعتقادا وعملا وتبليغا «ما يُوحى إِلَيْكَ» من ربك في هذا القرآن واعمل به وذكر قومك ليعملوا به «وَاصْبِرْ» على عدم قبولهم أوامر ربك ، وعلى أذاهم لك ، ومخالفتهم لأمرك ، ودم على هذه الحالة «حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ» بنصرك عليهم وإعلاء كلمتك وإظهار دينك بالوقت الذي قدرناه هذا وارض بحكم اللّه فيما تؤمر به وتنهى عنه «وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ 109» وأعدلهم وأنفذهم حكما ، لأن المطلع على السراء العالم بما تخفيه الصدور من قول الخصمين يوقع حكمه على ما هو الواقع دون حاجة إلى بينة أو شهادة ، فالخطأ في حكمه محال والقول بخلاف هذا ضلال ، وفي هذه الآية الوعيد والتهديد بالخذلان للكافرين والوعد والبشارة للمؤمنين بالنصر بما لا يخفى على بصير.
ويوجد سورة أخرى في القرآن مختومة بمثل هذه اللفظة وهي سورة والتين المارة في ج 1 فقط ، وقد امتثل صلى اللّه عليه وسلم أمر ربه بالصبر على قومه حتى جزع الصبر ولم يجزع هو كما قيل :
سأصبر حتى يجزع الصبر عن صبري وأصبر حتى يحكم اللّه في أمري
وكما قيل أيضا :
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبرت على شيء أمر من الصبر
وكما في قول الآخر :
يبيت يريني الدهر كيف انقلابه أبيت أريه الصبر كيف يكون
وللصبر بحث في الآيات الأخيرات من سورة النحل الآتية فراجعها.
هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.(3/88)
ج 3 ، ص : 89
تفسير سورة هود
عدد 2 - 52 - 11
نزلت بمكة بعد سورة يونس عدا آيتي 13/ 14 وآية 114 فإنها نزلت بالمدينة ، وهي مئة وثلاث وعشرون آية ، وألف وستمئة كلمة وتسعة آلاف وخمسمائة حرفا ، وقد بينا الآيات بما بدئت به أول سورة يونس المارة ، وختمت بما ختمت به سورة النمل المارة في ج 1.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الر» اسم للسورة وللقرآن وإشارة لأسماء اللّه الحسنى وصفاته أي بعضها ، وقال بعض المفسرين معناه أنا اللّه أرى ، وقد تقدم ما فيه من البحث الوافي أول سورة الأعراف والسور المصدرة بالحروف المنقطعة المارة في ج 1 وفي السورة قبلها وقولنا اللّه أعلم بمراده بما فيها أحسن ما قيل فى معناها لأنها عبارة عن رموز بين اللّه ورسوله لا يعلمهما غيرهما على الحقيقة ، وهكذا حكم الآيات المتشابهات في هذا القرآن العظيم إذ يوكل معناها إلى اللّه ، قال الإمام الرياني الشيخ نعمة اللّه بن محمود النخجواني في تفسيره الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية في تفسير هذه اللفظة : أيها الإنسان الأحق الأليق لإعلاء لوامع أنوار الإلهية وارتفاع رايات رموز أسرار الربوبية بين الأنام بالبيان والتبيان هذا «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ» إحكاما مبرما لا تنسخ ولا يطرأ عليها تبديل أو تعديل إذ لا كتاب بعده ، وقد نسخت آياته أكثر أحكام الكتب القديمة وعدلتها إلى أحسن نظما وأخف عبئا وأعظم أجرا ، وإني لأعجب ممن يقرأ هذه الآية ويقول بالنسخ إذ ما بعد الاحكام إلا التسليم بجميع ما جاء فيه.
واعلم أن الر تقرا كما هو الأصل بتفخيم الراء وهكذا في كل راء مفتوحة أو كان ما قبلها مفتوحا ولا عبرة بالحرف الساكن بينهما أي بينهما وما قبلها لأنه حاجز غير حصين «ثُمَّ فُصِّلَتْ» تفصيلا بديعا ونظمت تنظيما رصينا فبيّنت الحلال من الحرام والحق من الباطل أكمل بيان وأتم تبيان وأوضحت القصص والأخبار أحسن إيضاح ، وهذا الإحكام والتفصيل واقع ومنزل «مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ 1» بأفعاله عليهم بأقواله يضع الأشياء مواضعها بما يصلح أحوال عباده شاهد لما يقع منهم وقد أمركم أيها الناس «أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ»(3/89)
ج 3 ، ص : 90
وحده لا شيء ولا أحد أبدا ، وأن هنا مفسرة على ما جرينا عليه وهو أحسن من جعلها على تقدير اللام كما مشى عليه بعض المفسرين ، والمعنى على الأول أن اللّه الذي أنزل هذا الكتاب وأحكم آياته وفصلها أمركم أن لا تعبدوا غيره وذلك لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه ، وعلى الثاني تكون مصدرية وتقدر اللام معها تعليلا وعليها يكون المعنى هذا كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا اللّه ، ويجوز أن تكون هذه الجملة مبتدأة للإغراء على التوحيد أي الأمر بالتبري عن عبادة غير اللّه تعالى أي الزموا التوحيد واتركوا عبادة الغير وارجعوا إلى اللّه ربي وربكم «إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ» أي يقول اللّه تعالى يا محمد قل لقومك إنني أيها العصاة «نَذِيرٌ» لكم من عقاب اللّه تعالى «وَبَشِيرٌ 2» لكم أيها الطائعون بثوابه «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» مما اقترفتموه من الذنوب واخترقتموه من العيوب «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» بعدها عما سلف منكم حال حياتكم من كل ما يغضب اللّه فإذا فعلتم ذلك فإن اللّه تعالى «يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً» في هذه الدنيا بسعة الرزق والعافية والعزّ «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده ، واعلم أن ما جاء في الحديث الشريف : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر لا يرد على هذه الآية لأنها سجن المؤمن بالنسبة لما أعده اللّه تعالى له في الآخرة من النعيم المقيم فكل ما أعطاه له في هذه الدنيا من النعم لا يعد شيئا بجانبه على أن ما يصيبه فيها من البلاء يكون مكفرا لذنوبه كي يلقى ربه وليس عليه ذنب يستوجب المجازاة وهذا لطف من اللّه بعباده المؤمنين ، وكذلك الكافر فإن الدنيا له جنة بالنسبة لما أعده له من العذاب الأليم في الآخرة ، فكل ما يصيبه في الدنيا من النعيم لا يوازيه عذاب ثانية واحدة من عذابها وأن ما يناله من الخير فيها فهو بمقابل حسناته التي يعملها كصلة رحم وإقراء ضيف وشبههما كي يلقى اللّه تعالى
وليس له حسنة تستحق الجزاء الحسن وهذا زيادة في شؤمه وعذابه «وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ» زيادة من عمل صالح «فَضْلَهُ» جزاءه لا يبخس منه شيئا أبدا ، قال أبو العالية من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة لأن الدرجات تكون على قدر الأعمال ، وقال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له(3/90)
ج 3 ، ص : 91
عشر حسنات ، فإن عوقب بالسيئة في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها بالدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ، ثم يقول ابن مسعود ملك من غلبت آحاده أعشاره.
فعلى العاقل
أن يكثر من الخير إبان شبابه وسعته ، لأنه قد يعجز في الكبر والفقر عن القيام بما يريده من القربات ، ولهذا قال الحافظ :
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس شيىء دريس كالجديد من الثياب
«وَإِنْ تَوَلَّوْا» تتولوا وتعرضوا عن ما جئتكم به من الهدى وأسديت لكم من النصح والتوجيه والإرشاد «فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» بمقتضى الشفقة والرحمة أن يحيط بكم «عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ 3» هو يوم الجزاء على الأعمال يوم مهول لا أعظم منه.
واعلم أن كل عمل منعم عليه في الآخرة منعم على صاحبه في الدنيا أيضا بتزيين عمله في نظره وراحة ضميره إليه وتعلقه برضاء ربه ، ورجاء ثوابه عليه ، واطمئنان نفسه فيه ، وانشراح قلبه له ، وثناء الناس عليه ، وترغيب الغير لمثله ، وضرب المثل فيه بالخير والسماحة والعمل الطيب والفعل الحسن ، كما أن كل عمل معذب عليه في الآخرة معذب ضمير صاحبه عليه في الدنيا بقبح صورته في نظره وسوء تصوّر عمله في قلبه ، وإن كان ذاق لذته الظاهرة الزائلة بحينها وضيق صدره لما وقع بعد قضاء شهوته الحيوانية وتخوفه من سوء عاقبته إن كان له وجدان أو دين ، وندمه على ما فرط منه وحسرته على تفريطه ، وذم الناس له وتحذيرهم من عمله ، وضرب مثل السوء به.
مطلب كل ما ينعم عليه العبد في الدنيا ينعم عليه في الآخرة وبالعكس :
روى الإمام أحمد بن حنبل والدارمي رحمهما اللّه بإسناد حسن في سنديهما عن وابصة بن معبد رضي اللّه عنه دفين الرقة من أعمال دير الزور - سابقا - ، قال أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البر ؟ قلت نعم (وهذا من الإخبار بالغيب لأنه صلى اللّه عليه وسلم أخبره بما جاء يسأل عنه قبل أن يبديه له) قال استفت قلبك ، البر ما اطمأنت(3/91)
ج 3 ، ص : 92
إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك بالفاء وفي رواية بالقاف - فعلى الأول من الفتيا وهي الجواز والرخصة والثاني من الإقتاء وهو الإرضاء ، أي وإن أرضوك فلا تركن لقولهم.
وروى مسلم عن النواس بن سمعان رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس.
وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وريحانته رضي اللّه عنهما قال حفظت من رسول اللّه : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال صلى اللّه عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
قال تعالى «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ» أيها الناس بعد الموت «جميعا» بركم وفاجركم «وَهُوَ» الذي أحياكم في الدنيا وأماتكم فيها ويحييكم ثانيا يوم القيامة ذلك الإله الواحد المتجلي في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق هو «عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 4» لا يعجزه شيء «أَلا إِنَّهُمْ» أولئك الكفرة عند سماع آيات اللّه المنزلة عليك يا أكمل الرسل من ربك الملك الجبار القهار العلام «يَثْنُونَ» يلوون ويعطفون ويصرفون عنك «صُدُورَهُمْ» يزوّرونها عن رؤيتك وينحرفون بكليتهم عنك ويخفون ما فيها من عداوتك ، يقال أزوّر عنه وثنى عنه لأن من يقبل على الشيء يقبل بصدره ، ومن يدبر يزوّر وينحرف بصدره ويطوي كشحه ، وهذه الآية في معرض الجواب عما تقدم من الترغيب والترهيب فكأن أولئك الكفرة بعد ما سمعوا من حضرة الرسول ذلك القول العظيم الإلهي الذي تخر له صم الجبال تمادوا في كفرهم وأصروا على ضلالهم ودارموا على إعراضهم المشار إليه بقوله (فإن تولوا) الجملة المارة في الآية 3 ، وإنما خص الصدور بالازورار لأن ما فيها مكتوم ، فكأنهم يظهرون له خلاف ما يبطنون ، يدل عليه قوله تعالى «لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ» صلى اللّه عليه وسلم واللّه لا تخفى عليه خافية فإنه جلت عظمته يخبر نبيّه بما يقع منهم ظاهرا وباطنا «أَلا» تنبيه ثان لما بعده بأنه شيء يهتم له ويجب الاعتناء به ، وهو أن اللّه يعلم كل ما يقع منهم حتى أنهم «حِينَ» وقت وزمن «يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ» فيه فيغطون بها رءوسهم كراهية رؤية من تخطب(3/92)
ج 3 ، ص : 93
رؤيته صلى اللّه عليه وسلم وكراهية سماع قوله الذي يشتاق إليه الجماد لا لأمر آخر ، قاتلهم اللّه ، فإنه تعالى يعلم قبل وقوعه منهم بأنهم فاعلوه وهؤلاء مثلهم مثل قوم نوح عليه السلام إذ أخبر اللّه عنهم حينما يتكلم معهم نوح عليه السلام بقوله (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلا يسمعوا كلامه (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) لئلا يروه كما سيأتي في الآية 7 من سورته الآتية تشابهت قلوبهم ، أخزاهم اللّه الذي «يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ» في أنفسهم «وَما يُعْلِنُونَ» من كلامهم كما هو عالم من قبل ما يقع منهم سرا وجهرا قبل وقوعه «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 5» بما فيها من الأسرار المستكنة فكيف يخفى عليه حال هؤلاء ؟! وفي هذه الآية دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها بل قبل وجودها الخارجي وهو مما لا ينكره أحد إلا بعض المعتزلة القائلين بأنه تعالى يعلم الأشياء بعد حدوثها ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، لما فيه من تشبيهه بخلقه ، لأن العلم بالشيء بعد حدوثه يعلمه بعض خلقه فلا مزية فيه ، وهذا كقول بعضهم إن الإسراء وقع مناما لأنه قد يقع لبعض خلقه من غير نكير ، قال ابن عباس نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر ، وكان يلقى رسول اللّه بما يحب ويطوي بقلبه عليه ما يكره ، وما قيل إنها نزلت في بعض المنافقين الذين كانوا يلقونه صلى اللّه عليه وسلم بوجه منطلق ويبطنون له غير ذلك لا يتجه ، لأن هذه السورة مكية والآية كذلك ، والنفاق إنما ظهر في المدينة وهم فيها لا شك يقع منهم ذلك وأكثر ، ولذلك سموا منافقين وهذه الآية تنطبق عليهم ، إلا أنها لم تنزل بحقهم ، اللهم إلا إذا كان هذا من قبيل الإخبار بالغيب عن شيء لم يقع ، لعلمه تعالى بوقوعه فيما بعد ، فيكون جائزا ، ومثله كثير في القرآن ، لأنه من جملة معجزاته صلى اللّه عليه وسلم ومعجزات القرآن العظيم ، وهو من قبيل ما تأخر
حكمه عن نزوله ، راجع أول سورة الطارق المارة في ج 1 ، قال تعالى «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» اسم لكل حيوان دب على وجه الأرض أي مشى عليها ، ويطلق على ذوات الأربع عرفا ، والمراد هنا ما هو عام للإنسان وغيره «إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» تفضلا منه وتكرما لا واجبا «وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها» وبقاءها في عالم الشهادة ، ومقدار ثباتها فيه وانفكاكها عنه ، ومكامنها(3/93)
ج 3 ، ص : 94
ومساكنها ، ومحل وكرها الذي تأوي إليه في الأرض والبحار والجبال والهواء وغيرها ، «وَمُسْتَوْدَعَها» قبل خروجها إلى عالم الظهور وقبل استقرارها في الأصلاب والأرحام والبيوض وغيرها ، وبعد انعدامها من المحلات التي تدفن فيها أو تضمحل بها ، وما قيل إن تفسير المستودع بهذا لا يلائم
تكفل اللّه بأرزاقها إذ لا مجال له ولا حاجة للرزق فيه مردود ، لأن المراد بالتكفل مدة بقائها في برزخ المادة واحتياجها للرزق ، فتنتهي مدته بالأجل المقدر لكل دابة ، فكأنه قيل إن اللّه تعالى متكفل برزق كل دابة ، ويعلم مكانها أول ما تحتاج إلى الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه.
ولهذا البحث صلة في الآية 98 من سورة الأنعام الآتية ، وقد ألمعنا إليه في الآية 9 من سورة مريم المارة في ج 1 «كُلٌّ» من الدواب دوّن اسمه ورزقه ومستقره ومستودعه ، وما يطرأ عليه في مدة أجله «فِي كِتابٍ مُبِينٍ 6» ظاهر مثبت فيه كل شيء قبل خلقه وبعد خلقه ، وموضح فيه آجال الأشياء ومصيرها بعد موتها وانعدامها بأي صورة كانت وتكون ، والدبّ مأخوذ من الدبيب وهو الشيء الخفيف وعليه قوله :
زعمتني شيخا ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا
ويفهم من هذه الآية أن اللّه تعالى يسوق رزق كل دابة إليها دون أن تسعى إليه بمقتضى تكفله لها بدليل قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية 22 من الذاريات الآتية ، وقوله صلى اللّه عليه وسلم : لو توكلتم على اللّه لحق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا.
وما جاء في الخبر : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب.
وتؤذن أيضا في حمل العباد على التوكل ، إلا أنه لا يمنع من مباشرة الأسباب ، مع العلم بأن اللّه تعالى هو المسبب لها وجاء في الخبر : (اعقل وتوكل) وقال تعالى (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الآية 16 من سورة الملك الآتية ، ففيهما إيذان بتعاطي الأسباب مع التوكل على اللّه ، إلا أنه لا ينبغي أن يعتقد عدم حصول الرزق بدون مباشرة سبب ، فإنه تعالى يرزق كثيرا من خلقه دون مباشرة الأسباب أصلا ، فقد جاء في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله(3/94)
ج 3 ، ص : 95
إذ أمره اللّه تعالى بالاشتغال بتبليغ الرسالة إلى من يعلم عتوه له وعناده وبغضه له بسبب قتل الرجل من قومه قاتله اللّه ولم يحسب قتل الألوف من قبله من قوم موسى ، فأمره اللّه تعالى أن يضرب صخرة بعصاه ، فضربها فانشقت عن صخرة ثانية ، فضربها فانشقت عن صخرة ثالثة ، فضربها فانشقت عن دودة كالذرة ، وفي فمها شيىء يجري مجرى الغذاء لها ، وسمعها تقول سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ولا ينساني ، فتنبه موسى عليه السلام لذلك وصرف نظره عن ذكر أهله.
وما أحسن قول ابن أذينة :
لقد علمت وما الإسراف من خلقي إن الذي هو رزقى سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه ولو أقمت أتاني لا يعنيني
وقد صدقه اللّه تعالى حيث وقد على هشام بن عبد الملك ، فلما رآه قرّعه بقوله هذا فقال له وتشد رحلك من المدينة إلى الشام بطلب الرزق ، فتركه ورجع ، فلما غاب عنه ندم هشام على ما وقع منه نحوه ، وكانوا يخشون الشعراء حفظا لكرامتهم ، لأن الشاعر قد لا يترك عادته من الهجاء كما لا يتركها في المدح ، ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم : ذبوا بأموالكم عن أعراضكم ، فأرسل بجائزته إليه من دمشق إلى المدينة ، فلما رأى أنه أرسلها رغما عنه دون طلب منه ، قال للرسول قل له قد صدقت في قولي ولو أراد اللّه لما بعثك بها من الشام إلى المدينة ، فأخبر الرسول هشام بن عبد الملك بما قاله ابن أذينة فسمعه ورجع عن كلامه.
مطلب إرسال الرزق عفوا وكون العرش على الماء وكيفية الخلق :
ولا ينبغي لمثله أن يفعل ذلك ، ويوجد أخبار وآثار كثيرة في هذا الشأن ، وقد ألغى أمر الأسباب إلغاء تاما القائل :
مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا وإذا وليت عنه تبعك
وهذا يكون بحسب مكابرة الأشخاص واعتقاداتهم ، وبالجملة فينبغي الوثوق باللّه وربط القلب به فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وتشير هذه الآية أيضا إلى(3/95)
ج 3 ، ص : 96
أن الحرام رزق وإلا فمن يأكل طول عمره حراما يلزم أن لا يكون مرزوقا ، وهو خلاف الواقع ، وقدمنا ما يتعلق في هذا عند الآية 59 من سورة يونس المارة وما يتعلق بالكسب في الآية 20 من سورة المزمل ، والآيتين 40/ 39 من سورة والنجم ، وفي الآية 13 من سورة فاطر المارات في ج 1 ، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» راجع تفسيرها في الآية 60 من سورة الفرقان المارة في ج 1 وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي تعرضنا فيها للبحث عما فيها ، وله صلة في الآية 9 من سورة فصلت الآتية «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» قبل خلق السموات والأرض ، فتدل هذه الآية على أن العرش والماء خلقا قبل السموات والأرض ، وفي وقوف العرش على الماء مع عظمته اعتبار لأهل الأفكار ، وفيه من كمال القدرة ما فيه ، لأن البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الخلق العظيم قد وضع على الماء ، ولم يخرج عن حيّزه الطبيعي ؟ ولا يقال كيف ، لأن افعال اللّه تعالى لا تعلل وقدرته لا تضاهى كما قدمنا في الآية 92 من سورة يونس المارة ، روى مسلم عن عبد اللّه بن عمر وبن العاص قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول كتب اللّه مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء.
وأخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض ؟ قال كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ، وخلق عرشه على الماء.
وروى البخاري عن عمران بن حصين قال دخلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب ، فأتى ناس من تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم ، فقالوا بشرتنا فأعطنا ، فتغير وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم دخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشر يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم ، قالوا قبلنا يا رسول اللّه ، ثم قالوا جئنا نتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر ما كان ؟ قال كان اللّه سبحانه وتعالى ولم يكن معه شيء ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ، ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت ، (3/96)
ج 3 ، ص : 97
فانطلقت أطلبها ، فإذا السراب يقطع دونها ، وأيم اللّه لوددت أنها ذهبت ولم أقم.
هذا ومعنى كان اللّه ولم يكن معه شيء ، يعني لا الماء ولا العرش ولا غيرهما ، ومعنى كان عرشه على الماء ، يعني خلق الماء وخلق العرش فوقه ، ومعنى العماء سحاب رقيق ليس معه شيء ، ومعنى قوله ليس فوقه هواء أي ليس فوق العماء هواء ، وكذلك وما تحته هواء ، وفي رواية في عمى بالقصر لا بالمد ، وعليه يكون المعنى أن لا شيء ثابت في ذلك ، لأنه من عمى معرفته عن الخلق أي كان قبل أن يخلق خلقه ، ولم يكن شيء غيره ، ويكون معنى ما فوقه هواء ليس فوق العمى هواء ولا تحته هواء ، لأنه لا شيء ، وإذا كان لا شيء فليس يثبت له هواء بوجه ما.
وقيل العمى كل أمر لا يدركه الفطن واللّه أعلم ، لأن هذا التأويل على كلام العرب المعقول عنهم ، وإلا فلا أحد يدري كيف كان ذلك العماء ، فيجب الإيمان به بلا تكييف ، لأن الأمور المتشابهة ينبغي الإيمان بها حسب ظاهرها والوقوف عندها ، وذلك طريق السلامة ، راجع الآية 5 من سورة طه المارة في ج 1 تجد ما يسرك «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» في هذه الدنيا وأكثر ورعا عن محارم اللّه ، وأعظم شكرا لنعمائه ، وأحسن تفكرا في موضوعاته ، وأشدّ تدبرا في مكوناته أي لهذا خلقها وخلق ما فيها من الخلق الذي من جملته أنتم أيها العقلاء ، ورتب فيها ما تحتاجون إليه من بدء وجودكم وأسباب معايشكم ، وأودع فيها ما تستدلون به على بدائع مكوناته ، وتعتبرون بها على ما يقع من مقدراته ليعاملكم معاملة المختبر الممتحن فيرى المحسن منكم لخلقه ويجاز به على إحسانه ، والمسيء التصرف في ذلك فيعاقبه على إساءته ، وإلا فهو عالم بالصالح والطالح قبل إيجادهما «وَلَئِنْ قُلْتَ» يا سيد الرسل لكفار قومك «إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ» أحياء كحياتكم هذه فتسألون عما عملتم وتحاسبون عما وقع منكم في الدنيا ، فيثاب المؤمن على إيمانه ويعاقب الكافر على كفره «لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا» الذي يقوله محمد ويزعم أنه من القرآن الذي أنزل عليه من ربه ما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 7» ظاهر خداعه باطل لا أصل له ، يريد به أن نقول ما يقوله من الحياة بعد الموت وعبادة الإله الواحد ليغرينا به ، قال تعالى «وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ(3/97)
ج 3 ، ص : 98
الْعَذابَ»
الذي وعدناك بإنزاله عليهم يا سيد الرسل عند عدم قبولهم ما تتلوه عليهم من وحينا «إِلى أُمَّةٍ» آجال وجماعة من الأوقات «مَعْدُودَةٍ» قلائل معلومة محدودة لأن الدنيا كلها قليلة بالنسبة إلى الآخرة ، ويطلق لفظ الأمة على الجماعة من الناس ، فكأنه تعالى قوله يقول لو أخرناهم بمقدار حياة أمة وانقراضها ومجيء أمة أخرى «لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ» ما يمنع العذاب الذي توعدنا به يا محمد من النزول استهزاء وسخرية بك يا أكمل الرسل ، لشدة جهلهم وعدم علمهم أن لمقدراتنا كلها آجالا مقدرة لا تقدم ولا تؤخر عما هو مدون في علمنا الأزلي ، ولكن قل لهم إنه نازل بهم لا محالة ، ثم صدّر الخطاب بأداة التنبيه المار ذكرها في الآية الخامسة من هذه السورة فقال «أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ» بوجه من الوجوه لأن أجل اللّه إذا حل لا يحول وهو مهلكهم البتة.
مطلب أداة التنبيه وجواز تقديم خبر ليس عليها :
واستدل جمهور البصريين على جواز تقديم خبر ليس عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف ، لأن يوم منصوب بمصروفا الذي هو خبرها ، ولا عبرة لمن ادعى عدم الجواز بعد أن وقع في كتاب اللّه تعالى ، قال في البحر : تتبعت دوارين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ، ولا تقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية وقول الشاعر :
فيأبى فما يزداد إلا لجاجة وكنت أبيا في الخنى لست أقدم
فإنه مقدم عليها ، قال تعالى «وَحاقَ بِهِمْ» أحاط بهم من جميع جهاتهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 8» أي العذاب المعبر عنه بما من كل جوانبهم فلا محيص لهم للتخلص منه ، وأصل (حاقَ) حقّ مثل زل وزال وذم وذام ، وجاء بمعنى الماضي لتحقق وقوعه ، وإلا فالمقام يستدعي مجيئه مستقلا لعدم وقوعه بعد (ان يحيق بهم) وجاء بيستهزئون مكان يستعجلون ، لأن استعجالهم بطلب نزول العذاب كان بطريق السخرية ، لأنهم غير مصدقين به قال تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» من صحة وسعة وأمن بحيث يجد لذّتها ، ولذلك عبّر(3/98)
ج 3 ، ص : 99
بالإذاقة عن الإعطاء والإيصال «ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ» لعدم قيامه بشكرها ، قال عليه الصلاة والسلام اشكروا النعم لا تكفروها ، فإنها إن زالت فهيهات أن تعود.
فالعاقل يقدر النعمة حال تلبسه بها ، والجاهل لا يقدرها حتى تسلب منه بالمرض والضّيق والخوف فإذ ذاك يندم ولات حين مندم ، وعبّر عن السلب بالنزع إشعارا بشدة تعلقه بها وإيذانا بزيادة حرصه عليها «إِنَّهُ لَيَؤُسٌ» من عودها إليه قنوط الرجاء من فضل اللّه ، لعدم صبره وتوكله عليه وثقته به ، ولو كان متوكلا وثقا باللّه لقيدها بالشكر ولكنه «كَفُورٌ 9» لما أسلفه اللّه من النعم شديد الجحود لها كأن لم ينعم عليه بشيء ، لأن الضيق بعد سعة الرزق ، والمرض بعد الصحة ، والخوف بعد الأمن صعب جدا ، لا يقدر من يصبر عليه كل أحد ، أجارنا اللّه من ذلك.
قال تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ» وأرهقته «لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي» تباعد عني كل ما يسوءني من فقر ومرض وخوف وذل ، فيأمن مكر اللّه إذ يغيب عن باله زوالها إذا لم يؤد شكرها ويصرفها مصارفها ولم يضفها إلى اللّه تعالى بل إلى الصدقة والعادة والكد ، ولهذا فقد ذمه اللّه بقوله عز قوله «إِنَّهُ لَفَرِحٌ» بما ناله من ذلك الخير «فَخُورٌ 10» به على غيره ، ولم يخطر بباله أن ذلك كله من ربه.
واعلم أن للفرح لذة في القلب تحصل بنيل المراد ، واليئوس والفخور والكفور ، أحمد مبالغة تدل على الكثرة والفخر والتطاول على الناس بما عنده من المعاقب والمال والنشب والرياش والرياسة ، واللام في لئن في الآيات الأربع المارة موطئة للقسم ، وجوابه سادس جواب الشرط كما في قوله :
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها وأمكنني منها إذا لا أقيلها
برفع أقيلها لأن إذن هنا حرف جواب وجزاء فقط ، إذ فصلت لا النافية بينها وبين الفعل ، وشرط النصب بها عدم الفصل والتصدير وكون الفعل بعدها مستقبلا ولم يغتفر بالفصل بينها وبين الفعل إلا بالقسم كقوله :
إذن واللّه نرميهم بحرب يشيب الطفل من قبل المشيب
لأن الفصل بغير القسم يمنع تسلط الناصب ، وعليه قول أبي محجن الثقفي رحمه اللّه : (3/99)
ج 3 ، ص : 100
إذا مت فادفنّي إلى أصل كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنّي في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
بالرفع لعدم تسلط الناصب بسبب الفصل بلا ، وإنما قلت رحمه اللّه لأنه تاب توبة نصوحا في حرب القادسية ، وسنأتي على قصته في غير هذا الموضع.
قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا» على الشدائد والمصائب وأيقنوا أن اللّه تعالى سيبدل عسرهم يسرا ، وخسرهم نفعا ، وخوفهم أمنا ، وذلّهم عزّا ، فإن هؤلاء يسندون كل ما يصيهم إلى ربهم ويعلمون أن الخير برضاه والشر بقضاه.
واعلم أن هذا الاستثناء متصل من الإنسان إذا أردنا بالإنسان الهار ذكره في الآية المتقدمة الجنس ، وأل فيه للاستغراق ، ومنقطع إذا أردنا به الإنسان الكافر ، وأل فيه للعهد.
قال ابن عباس المراد كافر معين وهو الوليد بن المغيرة أو عبد اللّه بن أمية المخزومي.
على أن الإطلاق أولى ، فيدخل فيه المذكوران وغيرهم ، ولا مندوحة عندي في تخصيص هذين الكافرين وأضرابهما في نزول آيات اللّه ، وهم أصغر من ذلك ، والأحسن أن يجنح المفسر إلى عدم تقييد أو تخصيص آيات اللّه بإنسان أو شيء إلا إذا كان هناك مقيد أو مخصص ، وإلا فالإطلاق والتعميم أولى وأحسن للذين فقهوا معنى الآيات «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» مع صبرهم وداوموا عليها حال عسرهم ويسرهم وشكروا اللّه تعالى على ما آتاهم من فضله من النعم ورجوا منه دوامها وصبروا وحمدوا عند زوالها «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» عظيمة لذنوبهم مهما كانت ، لأن الغفور لا يعظم عليه شيء «وَ» لهم بعد هذه المغفرة «أَجْرٌ كَبِيرٌ 11» لا أكبر منه وهو الجنة ، وقد وصف اللّه تعالى ثوابهم بالكبر لما يحتوي عليه من النعيم السرمدي ولاشتماله على رضاء اللّه.
هذا ولما تمادى الكفرة على طلب اقتراح الآيات من حضرة الرسول تعنتا لا استرشادا ، لأنهم لو كانوا مستهدين لكفتهم آية واحدة ولما داوموا على استهانتهم بحضرة الرسول وعدم اعتبارهم ما يتلوه عليهم من القرآن الحكيم ، ضاق صدره الشريف من ذلك ، واشتد ضيقه لما يرى من ضحكهم وسخريتهم واستهزائهم عليه وعلى ربه وكتابه ، وخاف أن يلحقه ملل من الإدمان على وعظهم هيّجه(3/100)
ج 3 ، ص : 101
اللّه تعالى والهب في قلبه التشدد بأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم ما يلقيه إليهم من الوحي ، فقال جل جلاله «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ» من هذا القرآن مخافة عدم قبولهم به «وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ» من عتو كفرة قومك ، فلا تتلوه عليهم ولا تبلغهم أحكامه.
قال ضائق لمشاكلة تارك ، وليدل على أن الضيق عارض له لأنه صلى اللّه عليه وسلم أفسح الناس صدرا وأوسعهم خلقا ، كيف لا وقد مدحه ربه بقوله عز قوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) الآية 5 من سورة نون المارة في ج 1 ، وقوله تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) الآية 160 من آل عمران الآتية في ج 3.
مطلب في اسم الفاعل والآيتين المدنيتين والتحدي بالقرآن :
إلا أن الضيق يطرأ عليه أحيانا بسبب ما يلاقي من قومه ، ولأن كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل ، فتقول في سيد وجواد وسمين سائد وجائد وسامن مثلا ، وعلى هذا قول اللص إذ يصف السجن :
بمنزلة أما اللئيم فامن بها وكرام الناس باد شحوبها
فعلى هذا أن كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد به معنى الحدوث من غير توقف على سماع ، وما قيل إن العدول من ضيّق إلى ضائق لمجرد مشاركة تارك ليس بشيء ، ولا يوجد في القرآن اسم فاعل من ضاق على وزن ضائق إلا هذا كما لا يوجد فيه فعل خماسي أصالة.
واعلم أن ما قاله بعض المفسرين من أن النبي صلى اللّه عليه وسلم همّ أن يدع سبّ آلهتهم ظاهرا حينما قالوا له (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) بما ليس فيه سبّ آلهتنا ولا مخالفة آبائنا كما تقدم في الآية 15 من سورة يونس المارة غير سديد وحاشاه من ذلك ، لأنه صلى اللّه عليه وسلم معصوم من الإخبار مما أمر بتبليغه أن يبلغه بخلاف ما هو لا خطأ ولا عمدا ، ولا سهوا ولا غلطا ، ومعصوم أيضا أن يسكت عن شيء منه أو يكتمه ، لأنه محتم عليه أن يبلغ ما أنزل إليه كما أنزل حرفيا ، وإن اللّه تعالى عاصمه من كيد كل كائد كما سيمر عليك في الآية 70 من المائدة في ج 3 ، وقد(3/101)
ج 3 ، ص : 102
أجمعت العلماء على ذلك ، لأن تجويز ترك شيء من القرآن يؤدي إلى الشك في أداء الشريعة والتكاليف المطلوبة من البشر ، إذ المقصود من إرسال الرسل تبليغ وحي اللّه للمرسل إليهم ، فإذا لم يحصل فقد فاتت الفائدة المتوخاة من إرسالهم ، وهم معصومون من ذلك كله ، راجع آخر سورة والنجم المارة في ج 1 تجد ما يطمئن إليه ضميرك ويشرح له صدرك في هذا البحث «أَنْ يَقُولُوا» أي لعلك تترك تبليغ بعض الوحي مخافة قولهم «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ» مال كثير يستغني به عن السعي ويجلب الناس بسبب بثه إليهم ، الكنز هو ما يدخر من المال ولا يكون إلا كثيرا ، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء أو الحصول ، لأن مرادهم التعجيز يكون ذلك على خلاف العادة ، لأن الكنوز إنما تكون في الأرض فتستخرج منها لا أنها تنزل من السماء «أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ» يصدق كل ما يقوله لنا إنه من عند ربه حتى نصدقه ، وإلا بمجرد كلامه فلا ، لأنا نعلم أنه مختلقه من من نفسه أو يتعلمه من الغير أو يسمعه من خرافات الأولين ، يقول اللّه تعالى لحبيبه إذا صارحوك بهذه الأقوال التافهة فأعرض عنهم «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ» لهم من عذاب اللّه واللّه شاهد على رسالتك فلست بحاجة إلى المال الذي فيه مطمع قومك ولا إلى الملك ليشهد لك على وحينا ، ولست بوكيل على إيمانهم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 12» بما فيه أنت وقومك ، قال ابن عباس إن هذا القول والقول في سورة يونس الآية 5 المارة قالته طائفة من الكفرة ، أي عبد اللّه المخزومي ورفقاؤه من الضلال وإن حضرة الرسول قال لكل منهم لا أقدر على شيء من ذلك ، فنزلت تلك الآية هناك وهذه هنا.
وأول الآيتين المدنيتين 13/ 14 في هذه السورة هو قوله تعالى «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» اختلق محمد هذا القرآن ونسبه إلى اللّه «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المفترين «فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» أي تحداهم يا محمد بذلك ، لأنهم عرب مثلك ، والقرآن باللغة العربية ، فقل إذا كنتم تزعمون أني افتريته فافتروا عشر سور مثله ، وكان نزل من القرآن عند هذه الحادثة جميع السور المكية وهي ست وثمانون سورة ، وقسم من المدني ، لأن هذه الحادثة وقعت في المدينة ، وهاتين الآيتين نزلت فيها متأخرتين(3/102)
ج 3 ، ص : 103
عن سورتها المكية التي عددها بحسب النزول ، اثنتان وخمسون سورة ، فتراهم عاجزين عن الإتيان ببعض سورة من مثل هذا القرآن مهما بلغوا في الفصاحة ، لأن كلام الخلق لا يضاهي كلام الخالق ، وقد ذكرنا في سورة يونس المارّة عند قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية 38 أن معناها هناك مثل جميع ما نزل ، فلما عجزوا تحداهم الآن بعشر سور ، وقيل معناها هناك في الإخبار بالغيب والأحكام والوعد والوعيد لا بسورة واحدة ، ومثلها الآية 88 من سورة الإسراء المارة في ج 1 ، ومعناها هنا في الفصاحة والبلاغة من غير إخبار عن غيب ولا ذكر حكم ولا وعد ولا وعيد ، ولهذا فلا دليل لمن قال إن هود نزلت قبل يونس ، لأنه تحداهم بعشر سور فلما عجزوا تحداهم بسورة واحدة ، تأمل وقد بينا أن يونس نزلت قبل هود على ما عليه الجمهور ، وهود بعدها بالتنزيل وفي ترتيب القرآن أيضا ، فضلا عن أن هذه الآية والتي بعدها مدنيتان ، وأن بينها وبين آية يونس سنين وأشهرا وأياما ، هذا ولما تحداهم بهذا الكلام أمره أن يقول لهم «وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من شركائكم وأعوانكم وأمثالكم من كل خلقه ليساعدوكم على الإتيان بذلك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 13» أنه مفترى ، ولا تكرار في هذه الآية وآية يونس لأن هذه مدنية وبعشر سور ، وتلك مكية ، وبكل سوره النازلة وآية البقرة عدد 23 بخلافها كما سيأتي في تفسيرها في ج 3.
وقد بينا عند تفسير آية يونس ما هو أوضح من هذا فراجعه.
قال تعالى «فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» جاء الضمير بالجمع تعظيما لحضرة الرسول وطبعا لم ولن يستجيبوا لأنهم أقل من ذلك «فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ» هذا القرآن كله يا محمد عليكم «بِعِلْمِ اللَّهِ» تعالى بواسطة أمينه جبريل عليه السلام ليس بمفترى ، لأنكم وجميع الخلق لا تقدرون على الإتيان بسورة منه ، ولا آية معجزة أيضا «وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» وحده الإله القادر على إنزاله وجعله معجزا للخلق أجمع ، فقل لعامة الكفار هو كلام اللّه «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 14» مذعنون له منقادون لعظمته ، خاضعون لأوامره ونواهيه.
وبعد إظهاركم العجز عن ما تحداكم به لم يبق شائبة شبهة بأنه من عند غير اللّه بل من عند اللّه حقيقة ، وأن ما أنتم عليه من الشرك والإنكار باطل ، (3/103)
ج 3 ، ص : 104
فاتركوا هذه المكابرة والعناد وآمنوا باللّه ورسوله.
انتهت الآيتان المدنيتان.
قال تعالى «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها» بأعماله الحسنة فيها ونيته الصادقة ، ورضي باستبدال الباقي بالفاني والدائم بالمنقطع «نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها» كاملة زائدة «وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ 15» شيئا منها ولا ينقصون نقيرا والضميران عائدان للحياة الدنيا ، الثاني مؤكد للأول ، لأن البخس لا يكون إلا في الدنيا من أولى الأمر ، ونجس الآخرة ناشىء عن التقصير في الأعمال الصالحة.
نزلت هذه الآية في كل من عمل عملا يبتغي به غير اللّه ، والبخس نقص الحق على سبيل الظلم من أيّ كان ، وجاء هنا على ظاهر الحال محافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص ، فكأنه نقص لحقوقهم التي يزعمونها ، وفعل يبخسون هذا لم يكرر في القرآن.
هذا ، وما أخرجه النحاس في ناسخه عن ابن عباس بأن هذه الآية منسوخة بآية (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) الآية 18 من سورة الإسراء المارة في ج 1 ، مردود من وجهين : الأول أن هذه من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ كما نوهنا به في الآية 41 من سورة يونس المارة ، الثاني أن آية الإسراء مقدمة على هذه بالنزول ، والمقدم لا ينسخ المؤخر كما بيناه في بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة ج 1 ، فلا معنى للقول بالنسخ البتة «أُولئِكَ» الذين وصفوا أعلاه هم «الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ» لأنهم استوفوا ثواب أعمالهم في الدنيا وقد عملوها لأجلها «وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها» من الخير لأنهم صنعوه للسمعة والرياء فلم يقصدوا فيه رضاء اللّه ، فكافأهم عليه في الدنيا لأن عمل الخير لا بد وأن يكون له ثواب لا يعدمه فاعله بمقتضى قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الآية 7 من سورة الزلزلة في ج 3.
مطلب العمل لغير اللّه والآية المدنية الثالثة وعود الضمير في منه :
قال تعالى «وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 16» في الدنيا من الخير أي في الآخرة لأنه كان لغير اللّه ولمكافأتهم عليه فيها ، والباطل لا ثواب له في الآخرة.
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : قال اللّه تبارك(3/104)
ج 3 ، ص : 105
وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تعلم علما لغير اللّه أو أراد به غير اللّه فليتبوأ مقعده من النار.
وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تعلم علما مما يبتغى به وجه اللّه ، لا يتعلمه إلا ليصبب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
أي ريحها.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود لا دليل له لأنها مكية وليست من المستثنيات والآية مطلقة وسبب نزولها ما ذكرناه آنفا ، أما الآية المدنية الثالثة فهي قوله تعالى «أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» وأراد بأعماله الصالحة وجه اللّه تعالى ابتغاء ثوابه لأنه يعمل مخلصا على برهان ناصع وحجة واضحة دالة على طريق الحق والصواب فيما يأتيه ويذره لأن البيّنة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة ، وتطلق على الدليل مطلقا وهاؤها للمبالغة وتنوينها للتعظيم ، أي بينة عظيمة الشان ، والمراد بها هنا القرآن المعبر عنه بالبيّنة ولذلك ذكر الضمير هنا بتأويل البينة بالبرهان أو القرآن أي الذي يعمل على هذا النور ليس كمن وصف بالآية المتقدمة من الذين يعملون على جهل وظلمة «وَيَتْلُوهُ» أي القرآن الموصوف بما تقدم «شاهِدٌ مِنْهُ» أي يتبع هذا القرآن دليل منه وهو الإعجاز في نظمه وإخباره بالغيب دليل كاف على أنه من عند اللّه تعالى «وَمِنْ قَبْلِهِ» أي القرآن ، وذكر الضمير تأكيدا لأنه يكون المراد به هو هو «كِتابُ مُوسى » أي التوراة الجليلة لا الصحف المنزلة عليه قبلها لعدم إطلاق لفظ الكتاب عليها فهي شاهدة بصحته أنه من عند اللّه لأنه يخبر عما قبلها ، وهذا كاف في الاستشهاد بكونه «إِماماً» في الدين والأحكام يقتدي به المهتدون «وَرَحْمَةً» عظيمة ونعمة كبرى لمن أنزل عليهم واتبعوه وعملوا بما فيه واهتدوا بهديه ، لأن التوراة الجلية أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع التي لا بد للبشر منها إذ الكتب والصحف قبلها كانت تحتوي على التوحيد والإيمان واعتقاد بالنبوة فقط ، لذلك يقال لها صحف ولا يطلق عليها لفظ الكتاب إلا مجازا ، وقد يجوز أن تتطرق الصحف لبعض الأحكام ، راجع الآيتين 36/ 37 من سورة والنجم المارتين في ج 1 «أُولئِكَ» الذين اقتدوا في التوراة وعملوا فيها(3/105)
ج 3 ، ص : 106
من أهل الكتابين المخلصين الذين لا يكابرون ولا يعاندون ولا يبدلون ولا يغيرون شيئا منها برأيهم مما يكون مخالفا لمراد اللّه تعالى ولما أنزله على رسلهم ولا يكتمون الحق المشار إليهم بأنهم على بينة من ربهم «يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي القرآن لأنه يشتمل على ما في التوراة «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ» الذين تجزّبوا على حضرة الرسول من أهل مكة وأهل الكتابين وغيرهم «فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ» يوم القيامة ومصيره فيها ، والموعد مكان الوعد قال حسان :
أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لا فيها
«فَلا تَكُ» أيها الإنسان الكامل «فِي مِرْيَةٍ» شك أو شبهة «مِنْهُ» بأنه من غير اللّه بل هو حقا من عنده راجع الآية 94 من سورة يونس المارة «إِنَّهُ» أي هذا القرآن «الْحَقُّ» الصريح الواقع الواضح «مِنْ رَبِّكَ الذي رباك في أمر دينك ودنياك وفضلك على من سواك «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ 17» أنه من عند اللّه لكثافة الرين الغاشي قلوبهم ولشدة عنادهم ومكابرتهم وعتوهم ، واختلاف انكارهم ، ونظير هذه الآية الآية 28 من سورة الأحقاف الآتية.
هذا ، واعلم أن بعض المفسرين أعاد ضمير منه الأول إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وقال إن الشاهد هو علي كرم اللّه وجهه ، لاتصاله بحضرة الرسول ، مستدلا بما قاله جابر بن عبد اللّه قال علي بن أبي طالب ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان ، فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك ؟ فقال عليه السلام ما تقرأ الآية التي في هود (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي من النبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد تشريفه عليه السلام وهو المشرف على جميع الناس بعد الأنبياء ، كيف لا وهو ابن عمه وبمنزلة هرون من موسى ، وهو ختنه ، وهو الذي فداه بنفسه يوم الهجرة ، إلا أن سياق التنزيل يأباه ، وهذا الخبر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، ولا يكاد يصح ، ويرده ما روي عن محمد بن الحنفية ، قال قلت لأبي (يعني عليا) أأنت التالي ، قال وما تعني بالتالي ؟ قلت قوله سبحانه (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) قال وددت أني هو ، ولكنه لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط ، ووجه هذا القول أن اللسان.
يعرب عن الجنان(3/106)
ج 3 ، ص : 107
ويظهره ، فجعل كالشاهد له ، لأنه آلة البيان ، وبه يتلى القرآن وتظهر فصاحته وبلاغته ودلالته على الغيب ، قال محمود الآلوسي عليه الرحمة : إن في تقرير الاستدلال على أن المراد بالشاهد علي عليه السلام ضعفا وركاكة بلغت القصوى.
ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر رضي اللّه عنه مستدلا بقوله تعالى (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) الآية 32 من سورة الزمر الآتية ، وفيها بحث نفيس فراجعه.
ويعني بالذي جاء بالصدق محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، والذي صدق به أبا بكر رضي اللّه عنه ، لأنه كان الثاني بالغار ، والثاني بالإمامة والخلافة ، وكان من النبي صلى اللّه عليه وسلم بمنزلة السمع والبصر ، ويجعل عود الضمير للنبي بهذا المعنى لقوله صلى اللّه عليه وسلم (إنهما يعني أبا بكر وعمر) منى بمنزلة السمع والبصر ، نعم إنهما كانا كذلك وإن عليا كرم اللّه وجهه أقرب منهما لكن اختصاصهما أو أحدهما في هذه الآية بعيد ولم يرد القائل إلا تعزيز مكانتهما وتعظيمهما ، وهما عظيمان عزيزان من دون هذا ، ومن غير أن تقروا لهما ما هو خلاف الواقع ، فمكانتهما عند اللّه وعند خلقه عظيمة بهذا وبغيره وهما عند الناس معظمان به وبدونه ، على أن هناك أقوال أخر بأن الشاهد هو جبريل عليه السلام أو هو ملك آخر أو هو الإنجيل لأنه يتلوه في التصديق نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لكن وجود نزولها قبل القرآن يأبى الركون إلى القول به ، والقول الأول الذي جرينا عليه هو الصحيح ، لمناسبته سياق التنزيل وقبوله من كبار المفسرين ، كأبي السعود وأضرابه ، وناهيك بمفتى الثقلين قدوة ، وإنما نقلنا تلك الأقوال - وإن كنا لا نراها - للوقوف على صحتها وعدمه ، وليعلم القارئ بالاطلاع عليها أننا لم نغفل شيئا مما له مساس بالمعاني ولا بالألفاظ.
هذا ، واللّه أعلم.
انتهت الآية المدنية الثالثة ، وهذه الآيات كغيرها من المدنيات واقعة بين ما قبلها وما بعدها كالمعترضة ، قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» لا أحد أظلم منه البتة ، ولا أشد تعديا ، ولا أكثر تجاوزا ، لأن الكذب في نفسه كبيرة ، وهو مجانب للإيمان فيما بين الناس ، فكيف بالكذب على اللّه تعالى ؟ فهو من أعظم الكبائر كما تشير إليه هذه الآية «أُولئِكَ» المفترون الكذب على اللّه «يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ» في الموقف العظيم يوم القيامة «وَيَقُولُ الْأَشْهادُ» الملائكة الذين(3/107)
ج 3 ، ص : 108
يحفظون أعمال بني آدم وغيرهم أو الأنبياء أو أهل الموقف حين يسألون عن ذلك
«هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ» في الدنيا ، وهذا التشهير والفضيحة يكونان لكل من كذب على اللّه ، وحينئذ يلعنهم أهل الموقف حينما يسمعون قول اللّه تعالى «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ 18» فيتنبه لذلك من لم يلعنهم ، فيلعنهم أيضا.
وهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام الأشهاد بالنظر لظاهرها ، والأشهاد جمع شاهد وشهود ، ويجمع على شهداء ، فيكون جمع الجمع ، وقد جاءت بلفظ الجمع في القرآن ، وكلاهما بمعنى واحد ، إلا أن الأخير أبلغ من الأول.
روى البخاري ومسلم عن صفوان بن محرز المازني قال : بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل ، فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في النجوى ، قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربّه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه ، تعرف ذنب كذا وكذا ، فيقول أعرف مرتين ، فيقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته ، وفي رواية ثم تطوى صحيفة حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد ، وفي رواية فينادي بهم على رءوس الأشهاد من الخلق (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية المارة.
وقيل إنه من كلام اللّه تعالى ، والأول أولى بالمقام.
ثم وصف اللّه تعالى هؤلاء الظالمين أنفسهم بالكذب عليه فقال «الَّذِينَ يَصُدُّونَ» الناس ويمنعونهم «عَنْ» اتباع «سَبِيلِ اللَّهِ» ويحولون دون سلوكه «وَيَبْغُونَها» الطريق المعدلة المستقيمة المؤدية إلى الإيمان السويّ «عِوَجاً» مائلة عن السواء منحرفة عن الإستواء ، بإلقاء الشبهات في قلوب الناس وقلب معاني الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ 19» جاحدون وجودها منكرون البعث بعد الموت ، وكرر لفظ هم تأكيدا لكفرهم «أُولئِكَ» الصادون الناس عن الإيمان المنكرون النشأة الآخرة الطالبون منهج السبل المضلة «لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ» الإله القدير العليم ، ومهما ضربوا «فِي الْأَرْضِ» لا يفلتون عن قبضة الرّب ، ولا يتمكنون من الهرب إذا أراد عذابهم للانتقام منهم «وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» يقدرون على تخليصهم أو يدافعون(3/108)
ج 3 ، ص : 109
عنهم ويقونهم من عذاب اللّه إذا أراد إيقاعه فيهم ، ولكنه تعالى يمهلهم في الدنيا ليزدادوا إثما ويأخذوا ما هو مقدر لهم في الأزل من رزق حرام وعمل سيىء حتى لا يبقى لهم شيء في الدنيا ثم يميتهم و«يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ» في الآخرة على عدم إيمانهم وصدّهم الناس عن الإيمان ومنعهم من سلوك الطريق المستقيم وإنكارهم الآخرة ، لأنهم صموا في الدنيا عن سماع هذا الحق و«ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ» لما يبلغهم نبيهم من وحي اللّه «وَما كانُوا يُبْصِرُونَ 20» نهج السلام لينتفعوا به ، وقد حرموا فوائد هاتين الحاستين التي منحها اللّه الإنسان ليستعملها في طلب الخير ودفع الشر ، مع أن الحيوانات العجم تستفيد منها بدفع ما يضرهم برؤية أو سماع
«أُولئِكَ»
الذين هذه صفتهم هم «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ»
بإبدالهم عبادة النافع الضار بعبادة الأوثان التي لا تضّر ولا تنفع «وَضَلَّ عَنْهُمْ»
بسبب صفقتهم الخاسرة «ما كانُوا يَفْتَرُونَ
21» في الدنيا على أنفسهم وغيرهم من أن الأوثان أو ما يعبدونهم من الملائكة وغيرهم يشفعون لهم في الآخرة «لا جَرَمَ» لا محالة حقا وجرم في الأصل فعل ماضي بمعنى كسب ، قال الشاعر :
نصبنا رأسه في جذع نخل بما جرمت يداه وما اعتدينا
وتأتي بمعنى حقا كما هنا أي مع لا وهي اسم لا ، أي حقا «أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ 22» لأنهم باعوا الجنة بالنار واستبدلوا المخلوق بالخالق ، فلا أخسر منهم أبدا ، وهذا هو الخسران المبين ، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» باللّه ورسله وكتبه واليوم الآخر «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» ضميمة على إيمانهم «وَأَخْبَتُوا» خشعوا وخضعوا للّه وأنابوا واطمأنوا له فرجعوا «إِلى رَبِّهِمْ» وانقطعوا لعبادته وهذا إشارة إلى أعمال القلوب كما أن العمل إشارة إلى أعمال الجوارح ، لأن الأولى لا تنفع في الآخرة بدون الثانية ولا تقبل «أُولئِكَ» الذين هذا نعتهم «أَصْحابُ الْجَنَّةِ» في الدار الآخرة جزاء إيمانهم وإخلاصهم «هُمْ فِيها خالِدُونَ 23» دائبون آمنون لا يخرجون منها أبدا «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ» أصحاب النار المذكورين أولا «كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَ» مثل أصحاب الجنة المذكورين أخيرا كا «الْبَصِيرِ(3/109)
ج 3 ، ص : 110
وَالسَّمِيعِ»
على سبيل المقابلة أحد أبواب البديع وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم بما يقابل كل منهما من أضداد ، فيعود الأول إلى الأول والثاني على الثاني بطريق اللّف والنشر المرتب ، فانظروا أيها الناس «هَلْ يَسْتَوِيانِ» هذان الصنفان الأولان مع الصنفين الآخرين «مَثَلًا» كلا ، لا يستويان ، فقل لهم يا سيد الرسل «أَ فَلا تَذَكَّرُونَ 24» معاني هذا المثل ومغزاه فتنتفعون به ، وبعد أن بين تعالى ما يدل على توحيده وأحوال المؤمنين والكافرين وموقفهم مع حضرة الرسول بين أنبيه أخبار من تقدم من الأنبياء مع أقوامهم بقوله جل قوله «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» ليرشدهم إلى سلوك طريقه ، فقال لهم «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ 25» أخوفكم عقاب اللّه وأحذركم من الإشراك به وآمركم «أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» وحده فهو المستحق للعبادة «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن لم تتركوا عباده الأوثان وترجعوا لطاعة الرحمن «عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ 26» شديد عذابه وصف اليوم بالألم لوفوعه فيه «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ» يا نوح «إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا» مالك ميزة علينا بشيء فكيف تريد أن تستأثر بطاعتنا إليك «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا» أسافلنا من الحاكة والإسكافية وأشباههم ذرى الحرف الخسيسة الذين أطاعوك «بادِيَ الرَّأْيِ» دون تدبر وتفكر على وهلة بما طليت عليهم من فصاحة لسانك ولين جانبك ، ولو أنهم ذوو مكانة عندنا أو أنهم تمعنوا في الأمر الذي دعوتهم إليه وتصوروا العواقب لما اتبعوك حالا وتركوا دين آبائهم ، ثم تجارءوا عليه ، قاتلهم اللّه ، فقالوا له جهارا «وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» في مال أو جاه أو شرف أو غيره من المميزات التي توجب طاعتك ، لا أنت ولا من اتبعك السوقة الذين لا نرضى مجالستهم ، فكيف تريد أن ننقاد لك وتكون لك السلطة علينا.
وجوابكم هذا لحضرته على غاية من الجهل وسوء الأدب ، لأن الرفعة في الدين ومتابعة الرسل لا تكون بالشرف والسمعة والصيت والرياسة الدنيوية ، وأن الدعوة إلى اللّه للبشر لا تكون إلا من بشر مثلهم اختصه اللّه تعالى وشرفه برسالته ، لأن الفضيلة المعتبرة عند اللّه هي الإيمان به والانقياد لأوامره والاجتناب عن مناهيه(3/110)
ج 3 ، ص : 111
لا بما ذكروه من الأمور الدنيوية وشرف الصنعة ، وما هذا الجواب منهم إلا لفرط جهلهم وتوغلهم في الدنيا وملاذها وانهماكهم في شهواتهم ، ولذلك ختموا كلامهم بقولهم «بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ 27» في هذه الدعوى أنت وأتباعك ، وإن تصديقهم لك عبارة عن مواطئة تمهيد للحصول على الرياسة علينا «قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» فيما بشرتكم به وأنذرتكم منه واضحة شاهدة على صدقي «وَآتانِي» الذي أرسلني إليكم «رَحْمَةً» هديا ومعرفة ونبوة ورسالة «مِنْ عِنْدِهِ» وهو إله الكل «فَعُمِّيَتْ» ألبست وأخفيت «عَلَيْكُمْ» فلم تهدكم ولم تهتدوا إليها ، لأن الحجة كما تكون بصيرة ومبصرة تكون عماء وعمها ، وإن الأعمى والأعمه كما أنه لا يهتدي لا يقدر أن يهدي غيره ، لذلك لا نقدر على إلزامكم بها «أَ نُلْزِمُكُمُوها» قسرا وجبرا «وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ 28» نافرون عنها ، كلا لا نستطيع على ذلك إذ لا إكراه في قبول الدين بل يجب الإقدام عليه والإقبال إليه طوعا برغبته ومحبته «وَيا قَوْمِ» تدبروا ما أقوله لكم وانظروا عاقبته وتلقوه بحسن نية ، واعلموا أني «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا» لتظنوا بي طمعا ولا رياسة لتشتبهوا فيّ من أجلها أو تشكّوا أن إنذاري لكم لأمور دنيوية كلا «إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» الذي أرسلني ، وأن ما أبذله إليكم من النصح وأسديه لكم من الإرشاد لمجرد هدايتكم لطريق اللّه وحمايتكم من عذابه المترتب على إصراركم على الكفر «وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا» بي وصدقوني من أجل قولكم أنهم أراذل خسيسو الحرفة ، فقراء وضيعون بالحسب والنسب ، فهذا كله لا يمنعي من قبول إيمانهم ، ولا يجوز لي أن أتباعد عنهم «إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» بعد الموت ، فيشكونني إليه ، فيعاقبني على طردهم ، لأن وظيفتي قبول إيمان من يؤمن مهما كان ، وإن الإيمان سيجعل لهم
شرفا وحسبا أعلى عند اللّه مما أنتم عليه «وَلكِنِّي أَراكُمْ» يا قوم بأقوالكم هذه وتطاولكم عليّ «قَوْماً تَجْهَلُونَ 29» عظمة اللّه الذي عنده أكرم الناس أتقاهم لمحارمه وأخوفهم من عذابه ، لا الأكثرون أموالا والأكبرون جاها والأحسنون حرفة ، ولا العالون نسبا وحسبا ، فالمؤمن الحقير بأعينكم خير عند اللّه من العظيم الكافر ، فارتكزوا(3/111)
ج 3 ، ص : 112
على الحكمة ولا تتسافهوا بإطالة اللسان على المؤمنين مهما كانوا ، فهم أحسن منكم عندي وعند اللّه ، لأنكم لا تعلمون ما ينبغي أن يعلم.
هذا وقد يأتي لفظ الجهل بمعنى التعدي على الغير ، ومنه قول صاحب المعلقة :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين
وقدمنا في الآية 111 من الشعراء في ج 1 أن خسة الصنعة لا تضر مع الإيمان ، وكم من صاحب صنعة خسيسة هو عند اللّه أفضل من كثير من خلقه ، راجع الآية 113 من سورة الحجرات في ج 3 «وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ» يوم الجزاء ويحول دون تعذيبي والانتقام مني «إِنْ طَرَدْتُهُمْ» الآن بعد أن أظهروا الإيمان باللّه وأخلصوا دينهم له «أَ فَلا تَذَكَّرُونَ 30» عاقبة أمر الذين يطردون المؤمنين ، فتنبهوا عما أنتم فيه من الاستكبار والضاد ، ونبهوا أنفسكم وغيركم ، وأعرضوا عن مجادلتكم هذه التافهة ، وآمنوا مثلهم لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
مطلب تبرؤ الأنبياء من الحول والقوة وكون الإرادة غير الأمر وصنع السفينة :
«وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» فاتبعوني لأعطيكم منها.
وأدعي الفضل بها عليكم ، وهذا جواب لقولهم (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) المار ذكره «وَلا» أقول لكم إني «أَعْلَمُ الْغَيْبَ» لأصدق ما ذكرتموه في حق المؤمنين بأن إيمانهم عن غير تدبّر وتفكر ، فما لي حق بذلك ، وما عليّ إلا قبول الإيمان على ظاهره ، واللّه يتولى السرائر «وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ» وهو جواب على قولهم (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) المار آنفا ، لأني في الحقيقة بشر مثلكم ولكن اللّه فضلني عليكم برسالته فقط ، ولا دليل في هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر على الإطلاق ، لأن قول نوح عليه السلام هذا بمقابلة قولهم له كما مرّ ، لأنهم كانوا يظنون أن الرسل لا يكونون من البشر لقرب عهدهم من بعضهم وتفشي أخبار الملائكة بينهم من يوم أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام ، فلهذا قال لهم :
(وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء ، وقدمنا في الآية 70 من الإسراء في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث فراجعه «وَلا(3/112)
ج 3 ، ص : 113
أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ»
تحتقرها وتستصغرها وتتصورها بأنهم أراذل (وكلمة تزدري لم تكرر في القرآن) حيث «لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً» رزقا في الدنيا لهوانهم عليه نزولا عند هواكم ، فعسى اللّه أن يؤتيهم خير الدنيا والآخرة ، لإيمانهم به وتصديقهم لرسوله وصبرهم على الفقر والذل اللذين تفتقدونهم بهما ، فأعرضوا عنهم أيها القوم «اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ» من صدق الاعتقاد وخلوص الإيمان ، وهذا جواب لقولهم آنفا ما معناه أنهم لم يتبعوك رغبة في دينك بل لكونهم فقراء لا وزن لهم عند أحد فاطردهم ليتبعك الأشراف فإنهم لا يتنازلون أن يجالسوهم ويكونوا من أتباعك معهم ، وهذا مثل قول قريش لمحمد صلى اللّه عليه وسلم في الآية 50/ 52 من سورة الأنعام والآية 28 من سورة الكهف الآتيتين ، وهكذا فقد تشابهت قلوبهم كما أخبر اللّه عنهم في الآية 167 من سورة البقرة ج 3 من زمن نوح إلى زمن محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنك تجد محاورتهم للأنبياء على وتيرة واحدة «إِنِّي إِذاً» إذا قبلت قولكم وطردتهم «لَمِنَ الظَّالِمِينَ 31» لهم ولنفسي أيضا ، وإني لا أرضى بالظلم فكيف أفعله ، كما ليس لي أن أكذّب ظاهر إيمانهم ولا أبطله ، لأن اللّه يعلم ما في ضمائرهم «قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا» بما أوتيت من بلاغة في القول وقوة في المحاججة وفصاحة في البرهان ، وإنا لا نؤمن بك مهما أسرفت في النصح وبذلت من الرشد الذي تزعم أنه لصالحنا «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» به من عذاب ربك وأنزله علينا «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 22» فيما تهددنا به من وعيدك ، لأنا قد مللنا من تكرار قولك إنك رسول اللّه وإن لك ربا ينصرك علينا ويعذّبنا إن لم نؤمن بك ونتبعك «قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ» الذي كفرتم به وهو «إِنْ شاءَ» أنزله بكم عاجلا وإن شاء أخره وليس لي أن أقدم شيئا أو أؤخره خيرا كان أو شرا ، لأني بشر مثلكم «وَما
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ 33» اللّه العظيم القادر ، ولا فائتين عذابه.
ولا تقدرون على الهرب من قبضته «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ» مهما بالغت فيه وأدمته «إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» فيما أنتم عليه ، ويضلكم عن هداه بما يجعله فيكم من البغي والطغيان.
وفي هذه الآية دليل على(3/113)
ج 3 ، ص : 114
أن الإرادة غير الأمر كما قدمناه في الآية 98 من سورة يونس المارة ، أما ما ذكرناه في الآية 12 منها فهو في حق تزيين الأعمال وكونها من اللّه.
واعلم أن إرادة اللّه تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء والتزيين والإضلال حق ، وأن وقوع خلاف مراده ممتنع محال ، وأما المعتزلة القائلون بضدّ هذا فقد وقعوا في حيص بيض منها ، واختلفوا في تأويلها ، فمنهم من أولها بالإهلاك ، ومنهم من لجأ إلى المجاز عن تركهم ، ومنهم من جعل إن نافية ، وكلها أقوال أرهى من بيت العنكبوت ، لأن الآية صريحة لا تقبل التأويل.
والحق أن يقولوا معنا بأن ذلك المهدي المضل المزين «هُوَ رَبُّكُمْ» الذي خلقكم ورباكم في هذه الدنيا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 34» في الآخرة فيجاري المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» أي الوحي الذي يتلوه عليهم كما تقول كفار مكة لك يا أكرم الرسل ، لأنهم قاتلهم اللّه جاءوا على وتيرة واحدة بالاحتجاج والتكذيب والمجادلة مع جميع الرسل ، ولهذا قال تعالى في الآية 168 من سورة البقرة في ج 3 ، تشابهت قوبهم «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي» جمع جرم ، وهو اقتراف السوء ، يقال أجرم فلان إذا فعل الجرم أي الذنب الكبير ، ويقال لفاعله مجرم ، أي عليّ إثم إجرامي «وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ 35» أنتم في إسنادكم الافتراء إليّ لأنه جرم عظيم ، وهذا آخر محاورة سيدنا نوح مع قومه في هذه السورة ، وما قيل إن آية (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) المارة ترجع إلى كفار مكة وإنها معترضة بين محاورة نوح وقومه لا وجه له ، لأن السياق يدل على أنها من تمام محاورته ، والسياق يؤيد هذا ، قال تعالى «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ» لا تحزن ولا تأيس عليهم ، فإني مهلكهم «بِما كانُوا يَفْعَلُونَ 36» بك يا رسولي من الأذى ، وبأنفسهم من الضلال والكفر.
قيل كانوا يضربون نوحا عليه السلام حين يدعوهم إلى اللّه ويدلهم على الهدى ويأمرهم بالرشاد حتي يغشى عليه ، فإذا أفاق يقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، وهكذا كان سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم مع قومه ، يقابلهم بالدعاء لهم بالهداية.
هذا ، ولما تمادوا على ما هم عليه وهو ينتظرهم جيلا بعد جيل ولم ينجع بهم نصحه ، ولم يكفوا(3/114)
ج 3 ، ص : 115
عن أذاهم له ورأى كل جبل يظهر أنجس من الذي قبله ، وقد أيس من إيمانهم ، شكا أمره إلى اللّه بعد أن أقنطه من إيمانهم في هذه الآية ، دعا عليهم كما هو مذكور في سورته الآتية في الآية 26 فاستجاب سبحانه دعاءه ، وأوحى إليه بقوله «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا» على مرأى منا لئلا تزبغ عن الصواب في كيفية صنعها المثبتة في أزلنا ، وذلك لأن اللّه تعالى كما خلق في عالم الذر جميع الناميات ، صور أيضا كل الجامدات ، فكان كل ما يظهر منها طبق ما هو مكون عنده في لوحه وكلمة (بِأَعْيُنِنا) جاءت هنا وفي الآية 14 من سورة القمر المارة في ج 1 ، «وَوَحْيِنا» أي اصنعها بمقتضى ما نأمرك به من عرضها وطولها وثخنها وارتفاعها وعمقها وهيئتها ومم يكونّها ومقدار ما تستوعبه ، قال ابن عباس لم يعلم نوح كيف يصنعها فأوحى اللّه إليه أن يجعلها مثل جؤجؤ الطائر ، «وَلا تُخاطِبْنِي» يا رسولي بعد انهاءك عملها وطوافها على وجه الماء الذي سأقدره لها «فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» من قومك ولا تتشفع لأحد منهم ، ولا تسألن بتأخير عذابهم «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ 37» حتما محكوم عليهم في الموت غرقا حكما مبرمأ قضي فيه أزلا وجف به القلم ، فلا سبيل إلى كفه «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ» امتثالا لأمر ربّه حسبما أوحي له به.
قال الأخباريون : بعد أن سمع نوح من ربه ما سمع أقبل على عمل السفينة ، ولهي عن قومه بها ، فقلع الخشب وضرب الحديد ، ومحيا الإسفلت وهو القار ، أي القير الأسود ، واستحضر كل ما يحتاجه لعملها ، وباشر صنعها بيده بمقتضى ستراءى له من صورتها ، فصار لا يخطىء بشيء لأن العلم له هو اللّه ربه والعمل بجرأة النبوة كما فهمه من معنى الوحي وكيف يخطىء وهو أكمل البشر في زمانه ، وصنع الكامل لا يكون إلا كاملا ، وجعل يدأب على عملها وحده «وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ» ضحكوا من عمله واستهزءوا به ، ويقولون له صرت نجارا بعد أن كنت نبيا ، وكيف تصنع سفينة في أرض ييس من برية لا ماء فيها ، وذلك أنه بدأ عملها بعيدا عن قومه وعن الماء بوحي ربه ، وعادة الرسل أنهم لا يسألون ربهم عند ما يأمرهم بشيء تأدبا ولعلمهم أنه لا يأمرهم إلا بما فيه فوزهم ، راجع الآية 62 من الشعراء المارة في ج 1 «قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا» على ما ترون من(3/115)
ج 3 ، ص : 116
عمل أمرني به ربي «فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ» إذا نجانا اللّه وعذبكم «كَما تَسْخَرُونَ 68» منا الآن ، قال هذا على سبيل الإزدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الآية 40 من سورة الشورى الآتية ، لأن السخرية بمعناها المعلوم لا يليق صدورها من منصب النبوة ولما رآهم ازدادوا بالاستهتار به هددهم بقوله «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» غب عملكم هذا وسترون «مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ» في هذه الدنيا فيذله ويهينه ثم يهلكه ويدمّره «وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ 39» في الآخرة لا يتحول عنه ، وهو عذاب النار الدائم أنحن أم أنتم ، ثم ثابر على عمله ولم يعبا بهم حتى أكملها ، قالوا كانت بطول ثمانين ذراعا وعرض خمسين وارتفاع ثلاثين وهو عمقها بذراعه عليه السلام ، والذراع من رءوس الأصابع إلى المنكب ، وجعلها ثلاث طبقات : عليا ووسطى وسفلى ، وجعل فيها كوى ليطل منها إلى الخلاء وليرى بعضهم بعضا منها ، وكانت من خشب الساج ، وقال الحسن كان طولها ألفا ومثني ذراع ، وعرضها ستمئة ، وقال غيره طولها ثلاثمائة ذراع ، والأول أولى وأنسب وأوجه ، أما ما قيل إن صنعها استغرق ثلاثين سنة فإن صح فيكون للقول الثاني وجه ، واللّه سبحانه وتعالى أعلم ، إذ لم يبين لنا ذلك ، والقرآن اقتصر على ذكرها فقط ، ولما أمر بر كوبها عند انتهاء الأجل المقدر لإغراق قومه ، حمل عليه السلام أهله ومن آمن به ، ومن كل ذي روح زوجين اثنين فيها كما أمر ، وهذا ما يدل على عظمتها ، قالوا وقد جعل اللّه له علامة على ركوبها بقوله عزّ قوله «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا» بإنفاد عذابهم ، وحان الوقت المقدر لإغراقهم في سابق علمه «وَفارَ التَّنُّورُ» بالماء إذ جعلناه علامة لقرب نزول العذاب لقوم نوح عليه السلام وإنجائه ومن آمن به أي أبق منتظرا ظهور هذه الأمارة فإذا رأيتها «قُلْنَا» لك اركب فيها أنت وأهلك ومن
آمن بك و«احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ» من أنواع الحيوان «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» واترك الباقين «وَأَهْلَكَ» احملهم أيضا ، ويدخل في الأهل من آمن به لأنهم صاروا من أهله لقول رسول اللّه سلمان منّا أهل البيت.
ويجعله من أهله إلا لإيمانه.
هذا ، واعلم أن التنور هو الذي يخبز به ، وهو بلغ(3/116)
ج 3 ، ص : 117
الفرس أيضا بهذا المعنى لا أنه فارسي في الأصل معرّب ، راجع الآية 18 من سورة الشعراء المارة في ج 1 ، والفور ان الغليان يعني نبع الماء إذا اشتدّ صار كأنه يفور كالماء في القدر على النار ، فإنه يفور عند اشتداد الحرارة ، واختلف في موقعه قيل بالكوفة ، وقيل بالهند ، وقيل في الجزيرة في عين وردة ، وقيل بالشام ، وفي كل هذه المواضع محل يسمى تنورا ، والأولى كونه في الجزيرة لقربها من جبل الجودي الذي استقرت عليه بنص القرآن كما سيأتي في الآية 43 لأنهم قالوا إنها رست بالمنطقة التي طافت منها ، ويوجد الآن في الجزيرة محل يسمى تينير وفوقه عين ماء عند جبل كوكب الآتي ذكره في الآية 43 المذكورة ، وما قيل إن التنور هو وجه الأرض أو هو طلوع الفجر ففيها صرف الحقيقة إلى المجاز دون مسوّغ ما ، والحق أنه التنور المعلوم بمعناه الحقيقي ، لأن الكلام إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة هو الذي يخبز
فيه ، ومعنى الزوجين كل اثنين لا يستغنى أحدهما عن الآخر ، كالذكر والأنثى يقال لكل واحد منهما زوج ، وليس المراد بالزوج هنا ما يقابل الفرد ، ولأن المعنى من كل صنف زوجين ذكر وأنثى ، قالوا حشر اللّه له جميع الحيوانات فجعل يضرب بيديه عليها ، فتقع الأنثى بيده اليسرى والذكر باليمنى ، فيعزلهم على حده ، وقد خصص عليه السلام الطبقة السفلى للوحوش والهوام ، والوسطى الدواب والأنعام ، والعليا لحضرته ومن معه والطير وما يحتاجونه من الزاد حسبما أمره اللّه ، وكان هذا بعد إكمال عمل السفينة طبقا لمراده وخاطبه جلّ خطابه أن أدخل فيها من شئت مما أمرتك «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» من أهلك وهو ابنه كنعان وزوجته واعلة فقط ، وذلك لسابق علمه بغرقهما مع الكفرة لما هو مدون بأزله اختيارهما الكفر على الإيمان حسب تفديره وإرادته ولا يقع في كونه خلاف مراده «وَمَنْ آمَنَ» عطف على وأهلك أي كل المؤمنين معك ، قال تعالى «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ 40» جدا بالنسبة لكثرة قومه ، ولم يبين جل جلاله مقدارهم ولهذا تضاربت الأقوال في عددهم وأصحها أنهم ثمانون نسمة كما روي عن ابن عباس ، ويؤيد قوله وجود قرية بقرب الجودي الذي رست عليه السفينة مسماة بقرية الثمانين وهي معروفة الآن والجزيرة(3/117)
ج 3 ، ص : 118
معروفة بجزيرة ابن عمر
«وَقالَ» الملك السلام مخاطبا رسوله نوحا عليه السلام ومن آمن معه «ارْكَبُوا فِيها» فقد آن إغراق الكفرة ، فأمر عليه السلام أن يستقر كل في طبقته ، ولما تم ذلك لم يعرف عليه السلام كيف يمشيها على الماء فقال تعالى له ولصحبه إذا أردتم سيرها قولوا «بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها» فإنها تسير بإذن اللّه الذي نجاكم عليها «وَ» إذا أردتم إرساءها قولوا بسم اللّه «مُرْساها» فإنها تقف حالا وهذا تعليم من اللّه لعباده بأن من أراد أمرا فعليه أن يبدأه بذكر اللّه ليبارك له فيه وينجح بغايته المحمودة قالوا فصارت الأرض تنبع مياها غزيرة والسماء تمطر مياها وافرة مدة أربعين يوما بشدة وهم بالسفينة لم يبرحوا مكانهم ويشاهدون عظمة اللّه ، قال تعالى (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) الآية 11 (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) الآية 12 من سورة القمر المارة في ج 1 ، قالوا وارتفع الماء بالسفينة على أعلى جبل أربعين ذراعا فطافت بإذن اللّه بين عاصفة من الأمواج وصار سيدنا نوح عليه السلام إذا أراد إيقافها قال بسم اللّه مرساها فتفف ، وإذا أراد سيرها قال بسم اللّه مجراها فتسير مهما كان يحوطها من أمواج وعواصف ، ولم يحجه ربه إلى المرابط والمراسي والمجاديف والملاحين فقال عليه السلام شكرا لهذه النعمة «إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 41» بمن تاب وأناب من عباده ، ومن رأفته يقبلهم إذا رجعوا إليه بعد كفرهم.
ثم وصف اللّه تعالى سرعة سيرها بقوله جل قوله «وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ» عظيم هائل لدلالة التنوين أي في غاية من الشدة والموج ما ارتفع من الماء بسبب اشتداد عصف الرياح وقد شبهه اللّه تعالى في عظمته «كَالْجِبالِ» وبهذا أنجى اللّه المؤمنين جميعا وأغرق الكافرين ولم يرحم منهم أحدا استجابة لدعوة نبيهم حتى أم الصبي التي ضرب بها المثل : قالوا لما مر الماء بالسكك من القرية خافت امرأة على ابنها من الغرق فصعدت به إلى الجبل وكلما ارتفع صعدت به حتى بلغت قمته ، فتناولها الماء فرفعت ولدها إلى حضنها فتناولها الماء فرفعته إلى رأسها فأدركها الماء فرفعته بيدها فوق رأسها فأخذها وإياه الماء فغرقا ، ولذلك قالوا لو رحم اللّه أحدا من قوم نوح لرحم أم الصبي «وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ» كنعان أثناء نبع الماء من الأرض ونزوله من(3/118)
ج 3 ، ص : 119
السماء «وَكانَ فِي مَعْزِلٍ» عنه لأنه لم يركب معه في السفينة وكان منعزلا عن المؤمنين بعيدا عنهم «يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا» بالسفينة لتنجو من الغرق الذي ألم بك في الدنيا ومن العذاب المقدر لك في الآخرة إن لم تؤمن وتتبعنا «وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ 42» فتهلك معهم غرقا الآن وتعذيبا غدا «قالَ» كنعان كلا لا أركب معكم ولا أغرق لأني «سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ» بسبب ارتفاعه إذ لا يبلغه الماء مهما ارتفع ، وقد اختلف العلماء في هذا الجبل كما اختلفوا بالتنور فمن قال بالجزيرة وهو الأصوب كما نوهنا آنفا قال هو جبل كوكب وهو قريب من محل التنور قريبا من مجرى الخابور من الشرق الشمالي من جهة الحكة والذي يليه من الشرق الجنوبي جبل سنجار والذي يليه من الغرب الجنوبي جبل عبد العزيز والذي يليه من الشمال الغربي جبل ماردين وكلها بالجزيرة قريبة منه ، ومن قال إنه بالكوفة أو بالهند أو بالشام ذكر غير ذلك من الجبال الموجودة هناك والأول ينطبق على المعنى لأنه قال (إلى جبل) منكر منون وكل هذه الجبال يراها الرائي من موضع التنور الواقع في الجزيرة أما الأخر على الأقوال الأخرى فلا ندري هل يراها من كان عند التنور الذي فيها أم لا فكأنه قال إني سأعتصم بأحد هذه الجبال «قالَ» له أبوه عليه السلام لا تعتر يا ولدي مما ترى من هذه الجبال ومن إغواء قومك فإنه «لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» ولا مانع من عذابهو لا منجى من إهلاكه ولا يخلص من هذا الغرق «إِلَّا مَنْ رَحِمَ» اللّه منهم إركابهم هذه السفينة التي أمرني ربي بصنعها الذين لم يقدر إغراقهم ، وإن ما ترى من قولك وغيرهم فإنهم كلهم هالكون ولا زال يسديه النصح وهو بمانع حتى تباعدا عن بعضهما «وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ» بحيث لم يبق أحدهما يشاهد الآخر ولم يسمع صوته ولا يرى إشارته لأنه بعد ما طافت السفينة ارتفع ارتفاعا
هائلا وصار لشدة علوه كالسد بينهما وقد شبهه اللّه بالجبال آنفا لعظم ارتفاعه «فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ 43» معهم
طبقا لقضاء اللّه وقدره أزلا ، قال الأخباريون لما كثر الروث في السفينة لطول بقائها جارية على ظهر الماء أوحى اللّه إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل ففعل فوقع خنزير وخنزيرة ومسح(3/119)
ج 3 ، ص : 120
على الخنزير فوقعت منه فأرتان فأقبل الخنزيران على الروث فأكلوه وصار الفأر يفسد في السفينة ويقرض ما فيها ، فأوحى اللّه إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر فأكلاه إلا قليلا ودامت السفينة جارية ستة أشهر ، إذ ركب فيها لعشر من رجب وهبطت على الجودي يوم عاشوراء ، وتناهى الطوفان وخرجوا من السفينة وصاموا ذلك اليوم شكرا للّه تعالى ، وعمروا قرية هناك تسمى الآن سوق الثمانين وهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان.
مطلب المياه كلها من الأرض والبحر المكفوف :
وبعد أن تم مراد اللّه تعالى بإغراق الكفرة وإنجاء المؤمنين خاطب الأرض بقوله عز قوله «وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ» تشير هذه الآية على أن الماء كله من الأرض إذ أضافه إليها وهو موافق لقول من يقول أن الأمطار كلها من الأنجرة المتصاعدة من الأرض والبحار والأنهار وغيرها ، وهذا مما يعرفه العرب الأقدمون إذ يقولون إن الغيوم تلتقم الماء من البحر تم تمطره ، وعليه قوله :
شربن بماء البحر ثم ترفعت في لحج خضر لهن أجيج
وقال :
كالبحر يمطره السحاب وماله من عليه لأنه من مائه
راجع الآية 30 من سورة النازعات الآتية تجد ما يتعلق في هذا البحث ، وقال بعض العلماء المطر قسمان قسم من أبخرة الأرض والمياه وقسم من علم اللّه وذلك استنادا لما يقوله بعض العارفين بوجود بحر بين السماء والأرض يسمى المكفوف ينزل منه نوع من المطر ، يؤيد هذا ظاهر الآية 20 من سورة الزمر الآتية وهي قوله تعالى (أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) وآية المؤمنين 18 الآتية أيضا وهي (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) وتقدم ما يدل على هذا في قصة المعراج أول سورة الإسراء المارة في ج 1 ، وعدم اطلاع الطبيعيين والفلكيين على هذا البحر لا يكون حجة على عدم وجوده ، لأن دعوى النّفي لا تثبت بالنفي بل بالإثبات.
واللّه تعالى قادر على أكثر من ذلك فلا(3/120)
ج 3 ، ص : 121
يستبعد شيء على اللّه تعالى وهو الخلاق العظيم ، ولا يخفى أن أكثر أقوال الطبيعيين والفلكيين مبنية على الظن والحدس لأنها أمور غير محسوسة ، والخطأ في الظن أكثر من صوابه وخاصة في غير المرئي ولا يعلم مكنونات اللّه إلا هو فعلى العاقل أن يؤمن بمثل هذه الأشياء لأن الإيمان بها لا يضره ، ولا يجحدها فإن الجحد لها قد يضره والتسليم أسلم وهو مذهب السلف الصالح وناهيك بهم قدوة «وَيا سَماءُ أَقْلِعِي» أمسكي عن القطر «وَغِيضَ الْماءُ» نقص ونضب إذ انقطع من السماء انهماره ومن الأرض انفجاره فغار وذهب ولعبت الرياح شرقا وغربا ، ونشفت الأرض وببست «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» بإهلاك قوم نوح عليه السلام ومن قدر عليهم تبعا لهم ممن أراد اللّه تعالى إغراقه من غيرهم «وَاسْتَوَتْ» السفينة «عَلَى الْجُودِيِّ» جبل معروف الآن شمالي دجلة مما يقابل عين ديوار من أرض الجزيرة الواقعة جنوبي دجلة شمالي غربي الموصل «وَقِيلَ بُعْداً» وسحقا وهلاكا «لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 44» وكلمة بعدا يقولها العرب إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك وعدم العودة ، فإنهم يقولون بعدا بعدا ، ولذلك خصوها بالسوء وهكذا كلما مرت هذه الكلمة يكون المراد منها ذلك المعنى ، وقال الأخباريون لما استقرت السفينة على الجودي بعث نوح عليه السلام غرابا ليأتيه بخبر قومه فوقع على جيفة فلم يرجع اليه ، ثم بعث لحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين ، فعلم نوح أن الماء ذهب بالمرة ، فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا تراه يألف البيوت حتى لآن ، وطوق الحمامة بالخصرة في عنقها ، ودعا لها بالأمان ، فمن ذلك اليوم ألفت البيوت واعتاد الملوك إرسالها بالكتب إلى من تريد.
وهي كذلك حتى الآن لم يستغن عنها مع وجود الطائرات وغيرها وإذ نعمت النظر فلا تجد شيئا يستغرب الآن إلا وله أصل قبل ، وإذا تتبعت هذه المنشآت الحديثة لم تجدها بنت سنتها بل لا بد وقد سبق لها بحث أو عمل ، وإذا مر الفكر على عمل شيء أو بحث في أمر قد يستحيله عقل غيره أمعن نظره فيه وأفرغ تدبيره ، فجعل له أساسا حتى إذا لم يتوفق لا نجاره تركه لعيره ، وهكذا حتى استوت هذه المخترعات فظهرت لعالم الوجود ، وهي وإن كانت من صنع البشر إلا أنها من إلهام اللّه تعالى إياه قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ(3/121)
ج 3 ، ص : 122
وَما تَعْمَلُونَ)
الآية 96 من الصافات الآتية ، وسيظهر لنا هذا القرآن ما تستبعده العقول مثل قول أبي الحسن الأشعري إن بالإمكان أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس راجع الآية 38 من سورة الأنعام الآتية قالوا ومر نوح عليه السلام أثناء سيره بالسفينة على البيت الحرام ، وقد رفعه اللّه تعالى من الغرق وبقي موضعه ، فطافت به السفينة سبعا حوله ، وأودع الحجر الأسود في جبل أبي قبيس.
قالوا ولم ينج من الغرق سوى عوج بن عنق ، لأنه حمل أخشاب السفينة من الشام إلى المحل التي هي فيه حال صنعها.
هذا ولا يقال كيف أغرق اللّه تعالى الأطفال والحيوان إذ لا ذنب لها ، لأنه تعالى مالك لها والمالك يتصرف بملكه كيفها يشاء ، ولأن هذا الإغراق مجرّد سبب للموت في حقهم ، وأي مجذور في إماتة من لا ذنب له بالنسبة إلى المحيي المميت الذي في كل لحظة يحيي أمما ويميت أمما بما يقدره من الحروب والطاعون والخسف وغيرها
بسبب ولا سبب حسب حكمته البالغة ، وهو الإله الفعال لما يريد الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، ولا دافع لقدره ولا يسأل عما يفعل ؟ وما قيل إن اللّه تعالى أعقم أرحام النساء قبل العرق بأربعين سنة كي لا يولد لهم ولد يهلك بسببهم ، ليس بسديد ، إذ لم يوجد ما يؤيده ويرد عليه إغراق الحيوانات والطيور وأولاد الأمم الأخرى الذين أصابهم الغرق وعمهم البلاء غير قوم نوح عليه السلام ، لأن مبدأ دعوته خاصة لقومه ونهايتها عامة كما ذكرناه في الآية 74 من سورة يونس المارة ، ولا يوصف جل شأنه بظلم بتعميم العذاب ، لما قدمناه غير مرة ، وقالوا ان الحيوانات والطيور وقعت على قدمي نوح تلحسها راجية حملها معه بالسفينة ، ولم يفعل ، لأنه لم يؤمر بذلك.
وقالوا إن الطوفان عم وجه الأرض كلها ، وهناك أقوال بأنه عم جزيرة العرب وما بجوارها ، يريدون قارة آسيا كلها ، وان القرآن لم يذكر بأن الطوفان عم الأرض كلها ، وان قوله تعالى حكاية عن سيدنا نوح عليه السلام في دعائه (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية 36 من سورته الآتية ، وأن اللّه تعالى أجاب دعاءه ، فلم يفهم منه أن إهلاكهم كان بالغرق مع قومه ، إذ يمكن أنه أهلكهم بغير طوفان ، فلا يكون دليلا قطعيا على إهلاكهم به ، ولم يرد فيه خبر أو حديث صحيح ، ولأن(3/122)
ج 3 ، ص : 123
لفظ الأرض يطلق على إقليم منها كأرض مصر ، راجع الآيات 21 - 45 و56 من سورة يوسف الآتية ومثلها في سورة المؤمن وغيرها ، وإذ لم يرد حديث صحيح أيضا في ذلك ولا فيما نقلناه عن الأخباريين والقصاص ، فلا يحق لمجادل أن يجادل فيه ، وإن تنويه المؤرخين إذا لم يقصد بحديث لا عبرة به أيضا ، إذ لا يوجد تاريخ يعتمد عليه قبل التوراة التي هي أول كتاب استمدّ منه المؤرخون أقوالهم.
هذا وأما ما جاء في هذه القصة من حسن النظم وبداعة التركيب وبلاغة القول وفصاحة إيجازه واطنابه وخاصة هذه الآية 44 ، فحدّث ولا حرج ، لأن البشر عاجز عن وصفه وللّه در القائل في التنزيل وما جمعت آياته :
وعلى تفنّن واصفيه بحسنه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
ورحم اللّه الأبوصيري حيث يقول :
آيات حق من الرحمن محدثة قديمة صفة الموصوف بالقدم
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا عن المعاد وعن عاد وعن ارم
فما تعد ولا تحصى عجائبها ولا تسام على الإكثار بالسأم
مطلب في قوله تعالى انه ليس من أهلك وتفنيد قول من قال إنه ليس ابنه :
قال تعالى «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ» بعد أن خرج من السفينة هو وأهله ومن معه وتذكر ابنه كنعان ووعد اللّه في الجاء أهله «فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» وقد وعدتني بإنجائهم من الغرق «وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» فلم أغرقته وأنت لا تخلف الميعاد ولم تستثنه «وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ 15» فاحكم لي بإنجاز وعدك ، لأنك العادل في الحكم للعالم مما تحكم.
قال هذا لأن الحاكم إذا حكم بالعدل ولم يعلم أنه عدل موافق للشرع بعد من أهل النار ، لأنه بمنزلة العوارف الذين يحكمون برأيهم وبالقياس على أحكام من سلف من أمثالهم ، لا يستند إلى كتاب سماوي أو تشريع نبوي أو قياس على أحدهما ، فحكمه حكم الجاهل الذي يقضي بخلاف الحق ، ولهذا قيل قاضيان في النار وقاض في الجنة ، فالذي في الجنة قاضي عرف الحق وقضى به واللذان في النار هما الأولان ، ولا فضل لحاكم على(3/123)
ج 3 ، ص : 124
غيره إلا بالعلم والعدل ، ورب جاهل ظالم غشم في زماننا لقب بقاضي القضاة بمعنى أحكم الحاكمين كما لقب كافر بملك الملوك وهو مع كفره طاغ باغ ، وأكره الناس على اللّه من تلقب بهذا ، كما في الحديث الشريف إذ لا تليق هاتان الصفتان إلا برب العالمين «قالَ» تعالى «يا نُوحُ إِنَّهُ» ابنك الذي تذكرته وغرق مع من غرق «لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» الذين هم على دينك وليس هو داخل بالوعد الذي وعدتكه «إِنَّهُ عَمَلٌ» بالتنوين وقرىء بكسر الميم فعلا ماضيا أي عمل عملا «غَيْرُ صالِحٍ» وعلى القراءة الثانية تقرأ غير بالنصب على أنها مفعولة لعمل ، وعلى القراءة الأولى وهي كون عمل مصدرا فتضم راء غير على أنها صفة للعمل ، ويكون المعنى هو نفسه عمل غير صالح لأنه مشرك كافر هذا مبالغة في ذمه لإفناع نوح عليه السلام بأنه ليس من أهله ، ولذلك أغرقته لكونه غير داخل في الوعد.
واعلم أن هذا القراءة جائزة لأنه لم يبدل ولم يغير منها حرف ، كما أنه لم يزد ولم ينقص من حروف الكلمة ، وإنما التبديل وقع فى الإعراب فقط ، وكل ما كان على هذا من القراءات لا بأس فيه ، أما ما يقع فيها تبديل أو نقص حرف أو زيادته فلا تجوز ولا تعد قراءة إذ هي تفسير لبعض الكلمات وردت من بعض الأصحاب أو كتبت على هامش مصاحفهم.
تدبر هذا واعلم أن أهل الرجل من يجمعه وإباهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما ، ولما حكمت الشريعة برفع حكم النسب في كثير من الأحكام بين المسلم والكافر ، قال سبحانه وتعالى منزل هذه الآية لشريعته الثابتة في أزله إنه ليس من أهلك الذين هم على طريقتك وملّنك ، لأنه لم يؤمن بك مثلهم ، ولهذا فإن صريح الآية أبانت أنه ليس من أهله ، وفي مثل هذا قال القائل :
لا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهله
لأن مدار الأهلية هو القرابة الدّينية وقد انقطعت بالكفر ، ولذا لم يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر ، ولا حجة بخبر سلمان منا أهل البيت فإن المراد به قرابة الدين وهي أقرب من النسب لكن في غير الإرث ، قال أبو فراس :
كانت مودة سلمان لنا نسبا ولم يكن بين نوح وابنه رحم(3/124)
ج 3 ، ص : 125
وقال الآخر :
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد خفض الشرك الحسيب أبا لهب
هذا ومن قال إنه ابن زوجته لا يلتفت إلى قوله بعد قول اللّه تعالى (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) وقوله (يا بُنَيَّ) و(إِنَّ ابْنِي) والقول في هذا كالقول بأن آزر عم إبراهيم مع صراحة القرآن بأنه أبوه كما سيأتي في الآية 74 من سورة الأنعام.
أما ما قيل إنه من البغي والعياذ باللّه ، فإنه قول باطل تتنزه ساحة الأنبياء عنه ويخشى على قائله الكفر ، واستدلاله بقوله تعالى (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أي من زوجتي لا من صلبي ، استدلال واه لا قيمة له ولا عبرة به ، كيف وقد سماه ابنه في الآيتين مرتين صراحة ولا بعد صراحة القرآن حاجة إلى تأويل أو كناية ، وإنما قال عليه السلام من أهلي لأن اللّه تعالى وعده بإنجاء أهله وهو منهم على ظنه أن الكفر لم يخرجه من معنى الأهلية ، لا لأنه كما زعم هذا القائل الجاهل بأحوال الأنبياء المبرئين من كل عيب مادي أو معنوي.
أما ما استبعده بعض المفسرين من أنه لا يكون ابن النبي كافرا فبعيد عن الحقيقة ، لأن قابيل كافر وهو ابن آدم عليه السلام ، وإبراهيم خليل اللّه أبوه كافر.
وقال ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط ، ولا يقال كيف طلب النجاة له وهو كافر ، لأن رقة الأبوة والأمل من نوبته عند رؤية أهوال الإغراق دعتاه إلى مناداته لعله يسلم وينجو ، وهذا من موجبات الدعوة للغير فضلا عن الولد.
قال تعالى «فَلا تَسْئَلْنِ» يا رسولي عن شيء «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» جاء لنهي في هذه الآية عام مندرج تحته النهي عن سؤاله بعدم إنجائه بدليل الفاء التفريعية ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال :
ضمير إنه من قوله تعالى (إِنَّهُ عَمَلٌ) إلخ ، يعود إلى المسألة المستفادة من معنى السؤال ، أي مسألتك إياي يا نوح عن ابنك عمل غير صالح لا أرضاه لك ، كما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه ، وفي رواية جرير سؤالك ما ليس لك به علم عمل غير صالح.
ويستدل بهاتين الروايتين اللتين لم تعلم صحتهما القائل بأنه ابن بغي ، ويقول إنما أعاد الضمير ابن عباس إلى المسألة حذرا من نسبة الزنى إلى من لا ينسب إليه ، وهو رضي اللّه عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه ذلك المعنى أو يتصور من عود الضمير(3/125)
ج 3 ، ص : 126
إلى ابن نوح ما تصوره هذا الجاهل بقدر الأنبياء ، فيسند الضمير إلى من ليس له لئلا يتصور ما يلزم من ذلك المحذور ، كيف وهو حبر الأمة وأعلم الناس بمعاني كتاب اللّه بعد المنزل عليه ووحيه وخلفائه ، فعلى العاقل أن لا يلتفت إلى ترهات كهذه تلصق بأعظم الرجال لتؤخذ عنهم وهم منها براء ، ومن له مسكة من عقل أو لمعة من إيمان لا يصدق أقوالا كهذه بمجرد نقلها عنهم ، لأن كثيرا من الدساس يفعلون هذا ، قاتلهم اللّه وأخزاهم.
قال تعالى «إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ 46» لمثل هذا وأنت من أصفيائي وكان عليه السلام لا يعلم أن سؤاله هذا محظور عليه ، ولما علم مما أوحي إليه ربه أن طلبه نجاة ابنه وإدخاله في وعد ربه لا يرضى به ربه رجع واعتذر والتجأ إليه «قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» بجوازه ورضائك به «وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي» جهلي هذا وخطئي بإقدامي على سؤالك شيئا لا يحق لي سؤاله ، ولا يجوز لي طلبه البتة «وَتَرْحَمْنِي» بالعصمة عن العود إلى مثلها برحمتك التي وسعت كل شيء «أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ 74» عملا واحرسني يا سيدي من أن أذهل عن شكر نعمتك ، فإن الذهول عنه عندها معاملة خاسرة توجب زوالها.
واعلم أن لا دلالة في هذه الآية على عدم عصمة الأنبياء ، لأن اللّه تعالى وعد نوحا بإنجاء أهله وقد اتبع ظاهر هذا الوعد فسأل نجاته ، فعاتبه اللّه تعالى على ما ليس له به علم من استثنائه من أهله في سابق علمه ، لأنه كافر مصر على كفره ، وبين له أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم ، وأعلمه بأنه هالك لا محالة مع قومه الظالمين أنفسهم ، ونهاه عن مخاطبته فيه ، وفي كل ما لا يعلمه مما يوقعه اللّه تعالى في ملكه ، فخاف عليه السلام من إقدامه على سؤاله ذلك الذي لم يؤذن له به ، فلجأ إلى ربه وسأله المغفرة حالا عن هذا الذنب الذي ليس بذنب عند غير الأنبياء ، لأن العبد كلما ازداد قربا من اللّه تضاعفت خشيته منه ، وقد جاء عن سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أعلمكم باللّه وأخشاكم له أنا.
وذلك لقربه من ربه عز وجل ، لأن في ازدياد قربه ازدياد معرفته بربه ووقوفه على بعض عظمته وكبريائه ، فيزداد خوفه منه فيستعظم ما يقع منه مما يراه مخالفا للأدب ، ولهذا المعنى قبل إن حسنات الأبرار سيئات(3/126)
ج 3 ، ص : 127
المقربين ، وكما أن القرب من اللّه يكون سببا لكثرة أدبه معه فكذلك القريب من السلطان يكون أكثر من غيره أدبا وخوفا منه لما يرى من بطشه ولتأمين مقامه ومكانته عنده وعند الناس.
هذا وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب أو معصية من نوح عليه السلام سوى تأويله وإقدامه على سؤال ربه بنجاة ابنه ، وهو مما لا يؤاخذ عليه ولا يستوجب العتبى إلا عتاب الأحباب ، وقدمنا في الآية 121 من سورة طه في ج 1 ما يتعلق بعصمة الأنبياء ومعنى ما يصدر منهم فراجعه.
قال تعالى «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ» بسفينتك على المحل الذي استقرت عليه وانزل إلى الأرض المستوية المعتدلة مما حول جبل الجودي «بِسَلامٍ» وأمان من الغرق وتحية «مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ» من ذرية أهل السفينة ، وهذه بشارة من اللّه تعالى إليهم بالنمو والخيرات وإلى قرون تجيء بعده ، قال تعالى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) الآية 17 من سورة الصافات الآتية ، أي إلى يوم القيامة ، لأن الخليقة الموجودة الآن منسوبة إلى أولاده الثلاثة سام وحام ويافث ، ولهذا يسمى أبا البشر الثاني بعد الأب الأول آدم عليه السلام ، وبهذا يستدل القائل بأن الطوفان عم الأرض كلها ، وأن دعوة نوح شملت كل من كان عليها ، قال محمد بن كعب القرظي دخل في هذه البشارة كل مؤمن إلى يوم القيامة.
وإلى هنا للتمهت قصة نوح عليه السلام التي قصها علينا في كتابة.
ثم ابتدأ فقال «وَأُمَمٌ» كافرة يحدثون بعدك وينشأون ممن معك «سَنُمَتِّعُهُمْ» في هذه الدنيا بالسعة بالرزق والخفض في العيش والرفعة في الجاه مدة آجالهم «ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا» يوم القيامة جزاء أعمالهم السيئة «عَذابٌ أَلِيمٌ 48» وقال محمد المومى إليه دخل في هذا المتاع والعذاب كل كافر إلى يوم القيامة «تِلْكَ» القصّة التي قصصناها عليك يا محمد «مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ» في جملة الأخبار الغيبية «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» القرآن الذي جاءك به ذلك في جملة ما أنزلناه عليك منه ، ولا يقال إن هذه القصة معلومة في في التوراة أو غيرها من الكتب فكيف صح قوله (ما كُنْتَ تَعْلَمُها) إلخ ، لأنها كانت معروفة على الإجمال ، ومنها ما هو بطريق الرمز والإشارة ، أما على هذا(3/127)
ج 3 ، ص : 128
التفصيل فلم يوجد إلا في القرآن ولم يرد ذكرها على هذا الوضوح إلا به ، ولأن حضرة الرسول أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يعلم ما في الكتب القديمة ، وكذلك قومه جلّهم أمّيّون ، ومنهم من لم يسمع بها أيضا ، لأن الجهالة باختيار الأمم السابقة وكيفية إهلاكهم غالبة عليهم ، فاندفع ما يقال وأخرس القائل.
«فَاصْبِرْ» يا سيد الرسل أنت ومن معك من المؤمنين على أذى قومك وتحمل جفاهم حتى يأتي وعد اللّه ، كما أن نوحا ومن بعده من الأنبياء صبروا حتى جاءهم وعد اللّه «إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ 49» ربهم الصابرين على ما يخبرهم به ، فيكون لهم النصر والفوز ، قال تعالى «وَإِلى عادٍ» أرسلنا «أَخاهُمْ هُوداً» في النسب ، لانه منهم لا في الدين الذي نسبه أقرب ولا في الهوى الذي هو تبع لما جاء به حضرة الرسول القائل (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) وأشار إليه ابن الفارض رحمه اللّه بقوله فيه :
كم نسب في الهوى بيننا أقرب من نسب من أبوي
وتقدم نسب سيدنا هود في الآية 65 من سورة الأعراف في ج 1 «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» يستحق العبادة «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ 50» بعبادتكم غيره كاذبون بادعائكم أن الأصنام آلهة مختلقون ما تزعمون من الشريك له
«يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» أي النصح الذي أسديه لكم وما أبلغه إليكم من رسالة ربي التي فيها هديكم وصلاحكم للخير وخلاصكم من الشر «أَجْراً» جعلا ولا أجرة آخذها منكم لقاءه ، لتظنوا أن لي فيكم طمعا ما «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي» خلقني فهو الذي يرزقني في الدنيا ويثيبني في الآخرة «أَ فَلا تَعْقِلُونَ 51» وعظي وتأخذون بقولي الذي أبذله لكم مجانا ، وهل شيء أنفى للتهمة من هذا فكيف لا تقبلون رشدي ؟ واعلم أنه ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول لأن شأنهم الرشد والنصح ، وأن مما يمحضها للقبول هو حسم الطمع.
وما دام الرسول لا يريد ولا يتوقع شيئا من هداه المادة يجب أن يركن إليه ويجاب دعاؤه ، وإذا كان الناصح يجنح إلى المادة أو يتوهم منه طلبها من المنصوح له لا ينجح بدعوته ولا تنفع هدايته «وَيا قَوْمِ(3/128)
ج 3 ، ص : 129
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ»
مما أنتم عليه من الكفر وآمنوا به وحده «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» من الشرك ودواعيه ، واخضعوا لعظمته وأنيبوا إليه «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» تباعا المرة بعد المرة ، أي ينزل عليكم ماءها ، إذ تطلق عليه لأنه نازل منها بالنسبة لما نرى وقيل في هذا المعنى :
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
والضمير في رعيناه يعود للغيث المتسبب عن نزول المطر ، لأنه هو الذي يرعى لا المطر نفسه ، وإنما وعدهم بالغيث لأن بلادهم أجدبت ثلاث سنين متوالية وذهب عنها خصبها بسبب عكوفهم على الأوثان وجنوحهم عن الواحد الديان وردهم دعوة رسوله ، فوعدهم إذا هم آمنوا أن يرحمهم اللّه وبعيد لهم أرضهم خصبة كما كانت قبل المحل «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ» وذلك أن اللّه تعالى غضب عليهم فأعقم نساءهم كما أمحل أرضهم ، فوعدهم نبيهم بأنهم إذا آمنوا يعيد أرحام نسائهم إلى النتاج كما كانت عليه قبل أيضا ، فيزداد عددهم وتقوى شكيتهم فتزداد قوتهم في المال والولد والرزق «وَلا تَتَوَلَّوْا» عني وتعرضوا عن نصحي فتكونوا قوما «مُجْرِمِينَ 52» متلبسين الإثم مصدر أجرم إذا أذنب وجنى ويأتي على فلة من جرم وعليه قوله :
طريد عشيرة ورهين ذنب بما جرمت يدي وجنى لساني
«قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ» واضحة وبرهان ناصع وحجة ظاهرة ودليل قاطع على صحة قولك «وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» المجرد عن المعجزة وتقول العرب حتى الآن (جئتني بإثمك) أي بلا شيء معك غير الكلام المجرد ، وإذا كنت كذلك فلا نتبعك «وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ 53» فيما تقول أو تأتي به «إِنْ نَقُولُ» أي ما نقول «إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» بجنون لأنك تسبّها فخبلتك انتقاما لكراهتها ففسد عقلك «قالَ» ألكم آلهة تفعل شيئا معاذ اللّه «إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ» على ما أقوله لكم «وَاشْهَدُوا» أنتم علي بأني أحقر آلهتكم وأجهلكم بعبادتها و«أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 54» شيئا «مِنْ دُونِهِ» أي الإله الواحد الذي لا شريك له «فَكِيدُونِي جَمِيعاً»(3/129)
ج 3 ، ص : 130
أنتم وشركاؤكم «ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ 55» ولا تمهلوني لحظة واحدة إن صح قولكم إن لآلهتكم قدرة على إضرار من ينالها بسوء أو يصد عن عبادتها ، وقد صارحتكم وأشهدتكم وتحديتكم فلا تتسامحوا معي مثقال ذرة ، وهذا الحزم والعزم البالغان الغاية القصوى من معجزاته صلى اللّه عليه وسلم لأنه كان وحيدا فيهم ولم يهبهم على ما هم عليه من الجبروت لما هو عليه من الثقة باللّه ، ثم كر عليهم بالتحدي فقال «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ» بقصد التعريض بهم والتقريع بأوثانهم التي يزعمونها آلهة بأنها ليست برب لهم ولا يتوكل عليها وإن ربهم ورب شركائهم هو اللّه ربه ورب كل شيء «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» مالكها وقاهرها وميسرها لما خلقت له وفاقا لسابق علمه بها ، لأن من أخذت بشعر مقدم رأسه فقد قهرته والناصية هي مقدم الرأس ، وأطلق على الشعر النابت فيها للمجاورة ، وإنما خصها بالذكر لأن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذل قالوا ناصيته بيد فلان ، وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه جزّوا ناصيته ليمنّوا عليه ويفخروا بذلك ، فخاطبهم اللّه تعالى بما يعرفون ، ثم أكد لهم ذلك بقوله عز قوله «إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 56» يسير فيه خلقه كلا بما يناسبه بحسب فطرته التي فطر عليها أزلا كما هو مدون في لوحه ، لا تبديل لخلق اللّه ، وهو جل شأنه عدل لا يضيع عنده معتصم ، ولا يفوته ظالم ، مطلع على أمور عباده ، مجاز لهم بمقتضى أعمالهم ، كالواقف على الجادة ليحفظها ويدفع الضرر عن المارين بها بالنسبة لما تعرفون.
وهذا كقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) الآية 14 من سورة والفجر ، قال تعالى «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك وأعرضوا عن نصحك ولم يؤمنوا فقل لهم «فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» من اللّه «إِلَيْكُمْ» وقمت بما أوجبه علي من تبشيركم وإنذاركم ، فإن لم تسمعوا وتطيعوا فلا بد من إهلاككم «وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ» لإعمار أرضه وخلافته فيها «وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً» بتوليتكم عن طاعته وإنما تضرون أنفسكم «إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ 57» ومن جملة الأشياء أنا فإنه لا محالة حافظي من تعديكم بمقتضى وعده إياي بذلك وهو لا يخلف الميعاد وكل هذا لم ينجع بهم وبقوا مصرين على كفرهم فحق عليهم العذاب ، قال تعالى «وَلَمَّا(3/130)
ج 3 ، ص : 131
جاءَ أَمْرُنا»
بإهلاكهم وحل أوانه المقدر لإنزاله بهم «نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» وهم على ما قيل أربعة آلاف «بِرَحْمَةٍ مِنَّا» ورأفة بهم ، لأن البلاء إذا نزل بمدينة أو قوم عم الكافر والمؤمن ، ولكن كرما منه تعالى وفضلا قد أنجى المؤمنين من عذاب الدنيا الذي أوقعه بقومهم عقوبة مقدمة ولعذاب الآخرة أشدّ وأخزى وأدوم «وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ 58» في الآخرة كما أنجيناهم من عذاب الدنيا ، ووصفه بالغلظة لأنه عظيم بالنسبة لعذاب الدنيا ، وكان إهلاكهم بالريح الشديدة مدة سبع ليال وثمانية أيام حسوما نحسات كما ذكر اللّه ، راجع قصتهم مفصّلة في الآية 72 من سورة الأعراف في ج 1 ، وأشير إليها اجمالا في أكثر السور ، وقد صادف ذكرها الآن خلال الأيام المذكورة المسماة عندنا بالعجوز والحسوم ، إذ أن هذا اليوم من أوسطها يوم الخميس في 27 شباط سنة 928 ، وهذا من جملة الصدف التي وافقت تفسير بعض الآيات المشار إليها في هذا التفسير قال تعالى «وَتِلْكَ» القبيلة المهلكة هي «عادٌ» وسبب إهلاكهم هو أنهم «جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ» هودا فمن قبله «وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ 59» من رؤسائهم المتمردين على اللّه المترفعين عن قبول الحق عنادا «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً» رديفا إلى لعنتهم في الآخرة الملمع إليها بقوله تعالى «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» أتبعهم لعنة أيضا ، وحذفت من الأخيرة لدلالة الأولى عليها راجع الآية 30 من سورة آل عمران ج 3 ، وبين سبب هاتين اللعنتين بقوله «أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ» ولم يشكروا نعمه «أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ 60» عطف بيان على عاد لأن عادا قبيلتان قبيلة هود وقبيلة عاد إرم أي العماليق المار ذكرهم في الآية 8 من سورة والفجر في ج 1 ، فقال تعالى هنا قوم هود ليزول الاشتباه أي أهلكوا هلاكا أي هلاك ، فسحقا لهم
وبعدا لا يدرى مداه ، بدليل التكرار ، لأن العنة معناها البعد أيضا فكررها بعبارتين مختلفتين دلالة على نهاية التأكيد ، كما أن تكرار التنبيه بألا مع النداء المستتر بالدعاء عليهم يدل على التهويل وتفظيع حالهم ، ويبعث على الاعتبار بهم والحذر من أفعالهم ،
قال تعالى «وَإِلى ثَمُودَ» أرسلنا «أَخاهُمْ صالِحاً» بالنسب أيضا لأنه منهم(3/131)
ج 3 ، ص : 132
وقد مر نسبه أيضا في الآية 73 من سورة الأعراف في ج 1 ، وهم سكان الحجر وثمود اسم للقبيلة والثمد الماء القليل «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» البتة «هُوَ» الذي «أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» وحده لا شريك له «وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها» فأطال أعماركم وجعلكم سكانها وعمارها.
مطلب سبب طول العمر وبقاء الحكم كثيرا عند البعض :
قالوا كان أحدهم يعيش كثيرا وتتراوح أعمارهم ما بين ثلاثمائة وألف سنة ، وكان قوم عاد كذلك ، وسئل نبي من أنبياء زمانهم عن سبب طول أعمارهم ، فقال لأنهم عمروا البلاد وعاش بها العباد.
وقيل إن اللّه أوحى لنبي من أنبيائهم بهذا ، وقال معاوية لرجل أحيا أرضا آخر عمره ما حملك على هذا ؟ قال قول القائل :
ليس الفتى بفتى يستفاد به ولا يكون له في الأرض آثار
وسئل عن بقاء حكمهم ، فقال لأنهم لا يولون إلا ذوي العقول ، ولا يحكمون إلا ذوي الأصول ، ولا يعاقبون إلا بقدر الذنب لا يقدر البغض ، ولا يكافئون إلا بقدر العمل لا بقدر المحبة ، وقيل إن هذين السؤالين وقعا على ملوك الفرس واللّه أعلم.
«فَاسْتَغْفِرُوهُ» عما سلف منكم من الذنوب «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» توبة نصوحا لا عودة فيها وأطيعوه وآمنوا به «إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ» رحمته من عباده المؤمنين لا يحول بينه وبينهم حائل «مُجِيبٌ 61» لدعائهم قابل رجوعهم غافر لما كان منهم «قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا» بأن تسعدنا ونفخر بك ، لأنك ذو حسب ونسب فينا ، ولأنّك تعين الضعيف وتبر الفقير وتحترم الناس ، وكنا نطمع بك تأييد ديننا أيضا مع السيادة علينا «قَبْلَ هذا» القول الذي صدر منك حيث أسأتنا به وخيّبت آمالنا فيك «أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» من الآلهة وقد عاش أسلافنا عليها لا لا تفعل هذا ، فإن أملنا بك غيره «وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» من عبادة إلهك وحده دون آلهتنا «مُرِيبٍ 62» يوقعنا في مرية من أمرك وما تدعونا إليه ، والريبة قلق النفس وانتفاء الطمأنينة والوقوع في الشبهة والركون إلى التهمة «قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ(3/132)
ج 3 ، ص : 133
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً»
لآتيها لكم وتشاركوني في منافعها ، إذ أمرني أن أدعوكم إليها لإرشادكم إلى الهدى فإذا لم أفعل «فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ» الذي شرفني بالرسالة إليكم وأوجب علي إنذاركم بالكف عن الكفر «إِنْ عَصَيْتُهُ» بعد تبليغكم رسالته وتبشيركم بجنة دائمة النعيم إذا أجبتم دعوتي وآمنتم بربي «فَما تَزِيدُونَنِي» بما ذكرتم من تعجبكم عن نهيي إياكم من عبادة الأوثان «غَيْرَ تَخْسِيرٍ 63» بنسبتكم إياي إلى الخسارة أو نسبتي إياكم إلى الخسران ، أي لا تفيدوني غير العلم بخسارتكم مما أدعوكم إليه من الرشد وسلوك طريق الصواب ، أما أنا فلست خسرانا شيئا إلا خسارتكم وحرمانكم من فضل اللّه تعالى الذي وعدة لكم إن اتبعتموني ورفضتم ما أنتم عليه ، فقالوا له إن كنت صادقا فآتنا بآية تدل على صدقك ، فقال لهم سلوا ما شئتم ، قالوا أن تخرج لنا ناقة من هذه الصخرة لصخرة كانت عندهم ، قال ربه ، فأجابه فقال «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً» عظيمة واضحة على صدقي كما طلبتم «فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ» من نباته كسائر أنعامه لتدرّ لكم اللين فتشربونه مجانا دون أن أكافئكم مؤنتها «وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» بأن تضربوها أو تعقروها ، لأنكم إذا فعلتم بها شيئا «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ 64» في الدنيا لأنها من آيات اللّه وهو يغتار لآياته إن أهينت ، فخالفوا أمره رغم تحذيرهم مغبة مخالفته وتهديدهم بعقاب اللّه إن هم مسوها بسوء ، فأقدموا عليها «فَعَقَرُوها فَقالَ» لهم نبيهم أما وقد فعلتم ذلك «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» وفي آخرها يحل بكم عذاب اللّه إذ أخبرني بأنكم لا تعيشون في الدنيا غيرها لمخالفتكم أمري والدار تطلق على البلد وعلى الساحة جمع دارة وسوح قال أمية بن الصلت :
له داع بمكة مشتعل وآخر فوق دارته ينادي
وتطلق على الدنيا أيضا ، والمشتعل الرجل الطويل الخفيف اللطيف ، فقالوا له أمهلنا أكثر من ذلك على طريق الاستهزاء فقال لهم «ذلِكَ» الوعيد الذي أخبرتكم به «وَعْدٌ» صادق لا يبدل ولا يغير ، لأنه صادر من الإله العظيم ، فافعلوا ما شئتم فإنه «غَيْرُ مَكْذُوبٍ 65» فيه أبدا وستجدون عاقبة سخريتكم(3/133)
ج 3 ، ص : 134
هذه ، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» بإهلاكهم وانقضى أجلهم المقدر عليه أزلا أنزلناه بهم و«نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» منه «بِرَحْمَةٍ» وفضل ولطف «مِنَّا وَ» نجيناهم (مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ» أي ذلّه وهوانه إذ لا أخزى ممن كان هلاكه بغضب اللّه وانتقامه وقرىء (يَوْمِئِذٍ) بفتح الميم لأنه أضيف إلى غير متمكن ، وهكذا إذا أضيف إلى الفعل فيكون مبنيا على الفتح أيضا ، وقد وقع عليهم العذاب بشدة «إِنَّ رَبَّكَ» يا أكرم الرسل الذي يخبرك بحوادث من قبلك «هُوَ الْقَوِيُّ» على هذا الإهلاك الفظيع لأعدائه ، وإنجاء أوليائه وأحبابه ، الذين يحتفظون بدينه وينصرون عباده ويحفظون فقراءه ، وهو «الْعَزِيزُ 66» الغالب الذي لا يضاهيه أحد ولا يفلت من عذابه أحد «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» من قبل ملائكة اللّه والظاهر انه إسرافيل لأنه الموكل بصيحة القيامة وهي صيحة عظيمة دونها كل صوت صاعقة وكل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم من هولها فهلكوا جميعا وسبب إهلاكهم بالصيحة ، لأنهم لم يرقّوا لصياح نبيهم وصياح فصيل الناقة ، ولم يرحموا ثعاءه ، ولم تلن قلوبهم لصياح أمه حين عقروها ، والجزاء من جنس العمل «فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ 67» على ركبهم قعودا خامدين صرعى هالكين لا حراك بهم «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» ولم يتوطنوا في الدنيا ولم يقيموا بها ولم يسكنوها أبدا ، يقال غنى بالمكان إذا أتاه وأقام به ثم نبه تعالى على سبب إهلاكهم بقوله عز قوله «أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ» بعد إنعامه عليهم وإجابة طلبهم ألا بعدا لثمود 68 تقدم مثله آنفا وذكرنا القصة مفصلة في الآية 79 من الأعراف في ج 1 ، قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى » بأن يأتيه ولد وحفيد والرسل هم الملائكة فلما دخلوا عليه «قالُوا سَلاماً» كأنه قيل له ما قالت الرسل لأن
في مجيئهم مظنة لسؤال السامع بهم ، لأنهم غالبا يأنون بالعذاب تنفيذا لأمر اللّه ، فأجابهم إبراهيم بما ذكر اللّه «قالَ سَلامٌ» عليكم إذ ظنّهم ضيوفا ، وكان عادته إقراء الضيف بدليل قوله تعالى «فَما لَبِثَ» تأخر وأبطا إلا «أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ 69» مشوي وكان عليه السلام اعتاد أن يلف العجل كله بالعجين ويشويه بالتنور وهو من أحسن أنواع الأكل لا يعدله(3/134)
ج 3 ، ص : 135
شيء من الأطعمة عند من يحسن عمله ، وفي تقديم العجل كله إشارة إلى استحباب تقديم الأكل إلى الضيفان بزيادة عن كفايتهم ، ومنه عليه السلام أخذت عادة تقديم الذبيحة كلها إلى الضيوف والإسراع بتقديم القري لاحتمال أنهم جياع ، وذلك من آداب الضيافة لما فيها من الاعتناء بالضيف ، وهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ، ومن دلائل الإيمان.
مطلب إقراء الضيف ومعنى الضحك وحقيقته :
روى البخاري ومسلم عن ابن شريح قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه.
ورويا عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه.
وفي خبر آخر قال صلى اللّه عليه وسلم : من ذبح لضيفه كانت فداءه من النار.
ومن السنة تلقي الضيف بطلاقة وجه ، لأن البشاشة خير من القري ، وأن يبالغ في خدمته بنسبته ، لأن زيادة التواضع تخاسس ، والعرب لا شك لا تألو جهدا في هذا الشأن ، حتى أن أحدهم ليستدين ويكرم ضيفه ، إلا أن التكليف للضيف بغير المستطاع مكروه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : أنا وأنقياء أمتي براء من التكلف ، وقد جاء عن أنس وغيره من الأصحاب أنهم كانوا يقدمون الكسرة اليابة وحشف التمر ويقولون ما ندري أيها أعظم وزرا الذي يحتقر ما قدم إليه أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدمه ، وأن يخدمهم بنفسه ، كما فعل إبراهيم عليه السلام ، ويظهر لهم السرور ويأكل معهم ، ويطيل الحديث على الأكل ، ولا ينظر إلى أكلهم ، ويكرم دوابهم وخدمهم إن كان ذلك ليزدادوا سرورا ، ومن السنة أن يحدث أضيافه بما يسرهم ، وأن يقدم الألوان دفعة واحدة ، أو يخبرهم بها ليأكل مما يشتهيه ، وأن يشيعهم إلى باب الدار إن كانوا من أهل البلد ، وإلى آخره إن كانوا غرباء عنه ، ولهذا البحث صلة في الآية 44 من سورة الذاريات ، والآية 5 من سورة الحجر الآتيتين ، قال تعالى «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ» أي العجل المقدم إليهم ، (3/135)
ج 3 ، ص : 136
وهذا يدل على أنه عليه السلام لا يعرفهم أنهم ملائكة وإلا لما قدم إليهم شيئا لأنه يعلم أن الملائكة لا يأكلون ، وهذا كاف للرد على من قال إنه يعرفهم ، ويؤيد عدم معرفته لهم قوله تعالى «نَكِرَهُمْ» خاف منهم ، لأن الضيف إذا مس الطعام أمنه المضيف وإلا خاف منه وحذره ، ولهذا قال تعالى «وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» في قلبه لأن الوجس رعب القلب ولهذا فإن من خال أنه يعرفهم فقد أخطأ المرمى ويؤكد خطأه قوله تعالى حكاية عنهم «قالُوا لا تَخَفْ» يا إبراهيم إذ عرفوا خوفه من هيولاء فأمنوه وبينوا له أنفسهم ليسكن روعه ، فقالوا نحن رسل ربك «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى » إهلاك «قَوْمِ لُوطٍ 70» لتجاوزهم عليه
«وَ» كان «امْرَأَتُهُ» سارة بنت عمه بتشديد الراء وتخفيفه كما ذكره صاحب الجمل على الجلالين «قائِمَةٌ» بالرفع على أن الواو من (وَامْرَأَتُهُ) للحال أي حاضرة في خدمتهم ، لأن النساء إذ ذاك لا يحتجبن ، ولا سيما العجائز ، وما قيل إنها كانت وراء الستر وهو ما يسمونه الآن عرب البادية (خدرة) وهي بساط ثخين كبير يوضع فاصلا ما بين مقعد الرجال ومقر النساء في بيوت الشعر في البوادي والقرى.
والحجاب من خصائص هذه الأمة ، أما حرمة النظر فلا ، إذ جاء في الإنجيل من نظر إلى أجنبية يشتهيها فهو يزني.
قال تعالى حكاية عن سارة رضي اللّه عنها «فَضَحِكَتْ» سرورا بزوال الخوف الذي توقعته من عدم أكلهم ، ومن فسره هنا بمعنى الحيض ، فقد صرفه عن معناه الحقيقي ، وإن كثيرا من العلماء أنكروا مجيء الضحك بمعنى الحيض ، وما استدل به بعضهم من قوله :
تضحك الضبع لقتلي هذيل وترى الذئب بها يستهل
وقول الآخر :
تضحك الضبع من دماء سليم إذ رأتها على الحراب تمور
بأن الضحك فيها بمعنى الحيض خطأ بين ، لأن الشاعر أراد أنها تكشر بأنيابها عند أكل اللحم ، فمن زعم أن كثرها هذا ضحك أي حيض فقد سها ولم يفرق بين الريم والمها ، ولو أراده تعالى لقال حاضت لأنه لفظ جاء ذكره مرارا في سورة البقرة والطلاق فلا يقال لم يذكره لأنه مستهجن ، هذا وحقيقة الضحك انبساط(3/136)
ج 3 ، ص : 137
الوجه من سرور النفس ويستعمل في السرور المجرد في التعجب وسميت مقدمات الأسنان ضواحك لبدوها عند الضحك ، وما قاله بعض اللّغويين ان ضحكت بمعنى حاضت ، واستدل ببعض أقوال العرب فجائز ، إلا أنه فيما نحن بصدده هنا لا ينطق على المعنى المراد ، واللّه أعلم.
قالوا إن إبراهيم عليه السلام قال لضيفانه لما ذا لا تأكلون ؟ فقالوا له لا تأكل طعاما بلا ثمن ، فقال ثمنه ذكر اللّه أوله ، وحمده آخره ، فقال جبريل لميكائيل حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا.
قالوا وضحكت سارة تعجبا لأنها وزوجها يخدمونهم بأنفسهما وهم لا يمدون أيديهم إلى الطعام الذي هو من أحسن الأطعمة إذ ذاك ، وقد يكون الآن أيضا من أحسنها عند كثير من الناس ، وقيل إنها ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم ، والصحيح الأول ، لأنها لا تعرف سبب مجيئهم أولا حتى تضحك تعجبا من ذلك ، ومن قال إنها ضحكت بالبشارة من أن يكون لها ولد وحفيد على كبر سنها ، فهو سابق لأوانه ، لأن الملائكة لم تذكر هذه البشارة أولا.
قال تعالى «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ» ولد لإبراهيم منها «وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» 71 حفيدا لها من ابنها اسحق ، وفي هذه الآية بشارة أخرى بطول عمرهما حتى يريا ولدهما يكبر ويتزوج ويأتيه ولد ، وإنما خصّت بالبشارة دون إبراهيم ، مع أنها لهما جميعا لأن النساء أشدّ فرحا وأعظم سرورا بذلك من الرجل ، ولأن إبراهيم له ولد من جاريتها هاجر ، وهو إسماعيل عليه السلام جد نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم وسائر الأنبياء من اسحق أي من إبراهيم ، فما بعد ، أما من تقدمه كهود وصالح وغيرهما ممن لم يقصه اللّه علينا ، فإنهم من سيدنا نوح عليه السلام وهو ومن تقدمه كإدريس وشيث وغيرهما من آدم عليه السلام «قالَتْ يا وَيْلَتى » كلمة يستعملها الناس عند رؤية أو سماع ما يتعجب منه مثل يا عجباه نداء ندبة «و أصلها (ويلتي) فأبدل الألف من ياء المتكلم للمضاف «أَ أَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ» كيف يكون هذا زاعمة أنه من المحال بالنسبة لمثلها ، لأنها كانت بنت تسعين سنة على ما قالوا «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» زوجي مسنا كبيرا قالوا كان ابن مئة وعشرين سنة ، والبعل هو المستعلي على غيره ، ولما كان الزوج مستعليا على المرأة قائما بأمرها سمي بعلا ، قال تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى(3/137)
ج 3 ، ص : 138
النِّساءِ)
الآية 34 من سورة النساء ج 3 ، والشيخ لغة من بلغ سن الأربعين ، واصطلاحا من بلغ رتبة أهل الفضل ولو صغيرا ، وبعد أن استفهمت استفهام تعجب واستبعاد أكدته بقولها «إِنَّ هذا» الذي أخبرتموني به «لَشَيْءٌ عَجِيبٌ 72» مخالف للعادة ، إذ لا يتصور أن مثلي يلد لمثله ، ولا يتوهم ذلك أصلا ، ولم يكن تعجبها هذا من قدرة اللّه تعالى ، لانها تعلم أنه أقدر على أكثر من ذلك ، كيف وقد نجى زوجها من النار ومن كيد النمرود وحفظها من الجبار الذي أراد أخذها من زوجها ، وإنما تعجبت من حالها وحال زوجها بالنسبة للبشارة ليس إلا ، «قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» الذي يخرج الحي من الميت والميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها كلا ، لا تعجبي فإن اللّه أقدر على أن يجعل العجوز مثلك تلد من الشيخ الذي هو مثل زوجك ، فقالت لا عجب من أمر اللّه ، وإنما من أمري وأمر بعلي ، فلما أعجبهم كلامها دعوا لهما بما ذكر اللّه ، وهو «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» آل إبراهيم «إِنَّهُ حَمِيدٌ» على أفعاله كلها ومنها تعجيل النعم وتأجيل النّقم «مَجِيدٌ 73» شريف منيع لا يرام كريم جواد واسع العطاء ، وإن كلمة مجيد كررت في القرآن أربع مرات فقط هنا وفي أول ق وفي الآيتين 15/ 21 من سورة البروج المارتين في ج 1 ، قال تعالى «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ» الخوف الذي نشأ من عدم إقدامهم على أكله «وَجاءَتْهُ الْبُشْرى » بالولد والحفيد ، المتضمنة إطالة عمره بعد هرمه شرع «يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ 74» لانه لما علم أنهم ملائكة اللّه وعلم
أن مجيئهم لإهلاك قوم لوط سبب مساوئهم الخبيثة وتعديهم على نبيهم ، قال لهم أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون مؤمنا أتهلكونها ؟ قالوا له لا ، ثم لم يزل بهم حتى قال مؤمن واحد قالوا لا ، كما في بحث التكوين ص 18 من التوراة ، قال لهم إن فيها لوطّا ، قالوا نحن أعلم بمن فيها وإنا لننجينه بأمر اللّه وأهله إلا امرأته ، ونظير هذا في الآية 32 من سورة العنكبوت الآتية ، ثم طلب تأخير العذاب عنهم علّهم يؤمنون ، فبين اللّه تعالى أن الذي حمل إبراهم على هذه المجادلة مع الملائكة ما هو مجبول عليه من الشفقة على عباد اللّه ، ومشرب فيه من الصفات(3/138)
ج 3 ، ص : 139
التي ذكرها اللّه بقوله «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ» لا يحب تعجيل العقوبة على من يسيء إليه ، كثير الاحتمال للأذى ، صفوح عن زلة غيره ، عفو على من اعتدى عليه «أَوَّاهٌ» كثير التأوه والتحسر خوفا من اللّه «مُنِيبٌ 75» رجاع إلى اللّه رقيق القلب شديد الرأفة عظيم الإخبات إلى ربه كبير الرحمة بعباد اللّه ، فهذه الصفات الجليلة حملته على الاستغفار لأبية كما أدت به إلى طلب تأخير العذاب عن قوم لوط ، لأن الكامل لا يقصر خيره على الأقارب فقط بل يعم من عرف ومن لم يعرف ، ولما كان الأمر بالإهلاك لا محيص عنه مقضيا مبرما بعلم اللّه جفّ القلم به في اللوح المحفوظ ، خاطبه ربه عز وجل لأن الملائكة لا تقدر أن ترده لعلمهم بقربه من اللّه واتخاذه خليلا له ، قال عز قوله «يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» الأمر لا تطلب تأخير عذاب جفت به الصحف عن أمري واترك رسلنا وشأنهم في تنفيذه «إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ» الذي لا راد له «وَإِنَّهُمْ» قوم لوط البغاة الذين تجاوزوا حدود اللّه بشيء لم يسبقوا به ، ولو لا هم لم يعرف «آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ 76» بدعاء ولا جدال ولا بطريق من الطرق ، فسكت إبراهيم وترك جدال الملائكة لما عرف أن الأمر مقطوع به من عند اللّه لا حول لأحد ولا طول بتأخيره عن وقته طرفة عين ، فخرج الملائكة من عنده وتوجهوا إلى قرى لوط وكان بينهما أربعة فراسخ.
مطلب قصة لوط عليه السلام وعرض بناته على أشراف قومه لتخليص ضيوفه الكرام :
قال تعالى «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ» عليه السلام وحزن لأنه رآهم بصفة رجال حسان مرد ، وخاف عليهم من تعدي قومه «وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» صدرا ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن ، والذرع الوسع تقول العرب ليس هذا في يدي أي في وسعي ، والذراع من اليد مر ذكره في الآية 39 المارة ويقولون ضاق فلان ذرعا إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه ، لأن الذرع يوضع موضع الطاقة ، والمعنى ضاق بمكانهم صدره عليه السلام لأنهم اعتادوا القبائح وعمل الفاحشة مع كل من قدروا عليه من المارين في قريتهم وغيرها ، لا يراعون(3/139)
ج 3 ، ص : 140
حرمة أحد ولا يذعنون لنهيه ، وإنما قلق باله عليه السلام لظنه أنهم من الإنس ولعلمه أنه لا يقدر على تخليصهم من مراودة قومه الخبثاء «وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ 77» شديد ، كأنه قد عصب وربط بالشر والبلاء ، ولم تتكرر هذه الكلمة أيضا بالقرآن ، روي أن اللّه تعالى قال للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم أربع شهادات باستحقاقهم الإهلاك ، فقام عليه السلام واستقبلهم على ما هو عليه من الكرب ، ومشى معهم إلى منزله الخاص بالضيفان ، وقال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية ، قالوا وما أمرهم ؟ فقص عليهم حالتهم الخبيثة مع الناس وبعضهم وقال أشهد باللّه أنهم لشر أهل قرية في الأرض ، وكررها أربع مرات لشدة تأثره منهم ، وكلما قالها مرة يقول جبريل لرفقائه اشهدوا ، فدخلوا معه المنزل ولم يعلم بهم أحد من قومه ، وقد عجب هو عليه السلام من أمرهم كيف دخلوا ولم يتعرضهم أحد ، ولم يعلم أنهم ملائكة ، والملائكة يوجدون بالمحل الذي يريدونه بمثل البرق فمن أين يتوصل إليهم الناس ، فلما رأتهم امرأته التي هي من أهل القرية خرجت فأخبرت قومها بهم ، فلما سمعوا قولها بادروا وتوافدوا على بيت لوط ، قال تعالى «وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» يسرعون المشي نحوه ، والهرع مشى بين الخبب والهرولة والجمز فصاروا من كثرتهم كأنهم يدفعون دفعا «وَمِنْ قَبْلُ» مجيئهم هذا «كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» الفعلات الخبيثات وهي إتيانهم الرجال ، فتلقاهم لوط و«قالَ يا قَوْمِ» اتركوا ضيفاني لا تعتدوا عليهم وإن كنتم لا تراعون خاطري وتقصدون فضيحتي ولا بد لكم مما عزمتم عليه فدونكم «هؤُلاءِ بَناتِي» اللاتي كنتم تخطبونهن مني وكنت أمتنع من زواجهن لكم لأنكم على غير ديني ، وهذا الخطاب لملأ قومه عليه السلام الذين كانوا خطبوهن منه قبل هذه الحادثة ، وقد فداهنّ للمحافظة على ضيفانه ، وقال لهم «هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» مما أنتم قادمون عليه وقاصدون فعله فإني أفتدي أضيافي بهن وأوافق الآن على زواجهن لكم أيها الوجهاء ، فادفعوا قومكم وانصروني واحموا أضيافي منهم ، وكان في شريعته عليه السلام جواز زواج المسلمة من الكافر ، وكان امتناعه من زواجهن لأشرافهم بقصد جلبهم للإيمان به ، واستدامت هذه الشريعة لزمن محمد صلى اللّه عليه وسلم(3/140)
ج 3 ، ص : 141
إذ زوج بنته زينب لأبي العاص وهو كافر ورقية إلى عتبة وهو كافر حتى نزل الوحي بالمنع في المدينة المنورة ، فحرم زواج المؤمنة بالكافر ، ولا تزال الحرمة حتى الآن كما سيأتي بيانه في الآية 230 من البقرة في ج 3 ، وستدوم هذه الشريعة المطهرة إن شاء اللّه إلى يوم القيامة ، وعلى هذا يظهر أن الامتناع من إعطائهن إلى أشراف قومه هو ما ذكرنا لأنه يرى عدم كفاءتهم لهن لما هم عليه من العمل القبيح ، لا لأجل منع شرعي غيره ، وإنما بادرهم بهذا الكلام ليكفوا عن أضيافه ، وإن كان ليس من المروءة أن يعرض الرجل بنته على غيره ليتزوج بها لا سيما وهم كفار وهو نبي مكرم على اللّه ، ولا يليق بمنصبه الشريف ذلك ، ولكن للضرورة أحكام والضرورات تبيح المحظورات ، وتفسير البنات بيناته نفسه عليه السلام جاء على الحقيقة وموافق لسياق التنزيل ، أما من قال إن المراد ببناته نساؤهم لأن النبي كالوالد والأمة كالولد له ولهذا أضافهن لنفسه ، لأن كل نبي أب لأمته ، فهو قول وجيه إلا أن المراد حينئذ المجاز لا الحقيقة ، ولا يصرف القول إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة ، وإن من رأي أن الأخذ بالمجاز هنا متعذر لعدم الصارف فسر بما فسرناه عملا بحقيقة اللفظ وظاهر القرآن ، وإلا فلا ، لأن المعتل معتل أبدا مهما علّلته ، والضمير لا يرتاح إلى ما به علّة دون أن يقف على الصارف أو المانع ، وقد مر في الآية 47 ما يتعلق بمثل هذا
فراجعه ، إلا أنه لما كان القوم كثيرين وبناته ثلاثا أو اثنتين وللفظ يؤيد الأول وليس يكفين كبار قومه رأي بعض المفسرين الأخذ بالمجاز أشبه من الحقيقة استنادا إلى هذا التعليل العليل ، ويكون قوله لنسائهم بناتي مبالغة في التودد إليهم والتواضع هم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوه عليه طعما في أن يستحيوا منه ويرقوا له ، فيتركوا ضيوفه عند سماع قوله هذا مع ظهور الأمر عنده واستقرار العلم عندهم ، إذ لا مناكحة بينه وبينهم ، فأقول هذا هو المناسب ويجوز القول به أنه هو الصحيح لو لا قوله تعالى الآتي في الآية التالية لأنه صريح بأنهن بناته نفسه ، وأنه إذا صاهرهم بهن فيكونون أصهاره وهم وجوه قومهم حماة له من تعدي الآخرين ، وقد يوجد كبير واحد يحمي من ألف وأكثر إذ ليس شيء بألف مثله إلا الإنسان وهو بحاجة للنصرة لما ذكرنا أنه(3/141)
ج 3 ، ص : 142
غريب عنهم لا علاقة معهم إلا بمصاهرتهم ، هذا ولا يقال إنه يفهم من قوله تعالى هن أطهر لكم أن إتيان الرجال طاهر لأنه جاء بأفعل التفضيل ، وكلما كان كذلك يؤذن بوجود رائحة الأفضلية في المفضول أيضا كما تقول فلان أعلم من فلان فإنه يقتضي وجود علم ما بالمفضول لأن الكلام خرج مخرج المقابلة وله نظائر كثيرة منها قوله صلى اللّه عليه وسلم لما قال المشركون يوم أحد (أعل هبل) ثم قالوا إن لنا العزى ولا عزى لكم ، قال لأصحابه ردوا عليهم فقالوا ما نقول يا رسول اللّه ؟ قال قولوا اللّه أعلى وأجل ، وقولوا اللّه مولانا ولا مولى لكم.
إذ لا مماثلة بين اللّه تعالى والصنم فضلا عن المفاضلة ، ومنها قوله تعالى (أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الآية 26 من سورة الصافات الآتية ، ومعلوم أن شجرة الزّقوم لا خير فيها البتة حتى يظن التفاضل بينها وبين المشار إليه وهو الفوز العظيم بنعيم الجنة ، فأفعل فيها مجاز وهو عبارة عن كلام جار مجرى ما في الخبرين والآية ، لأنه من المعلوم أن إتيان الرجال محرم نجس فمن أين تناله الطهارة ليتصور ما يزعم من مفهوم الآية ، فتنبه أرشدك اللّه لعلو مكارم الأخلاق وارتفاع محاسن الآداب.
قال تعالى «فَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس وآثروا الطاهر النقي على النجس الخبيث «وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي» تسوؤني فيه وتفضحوني بما تريدونه منهم فتهينوني وتذلوني أمامهم وجاء في الآية 71 من سورة الحجر الآتية (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي ما آمركم به وأنهاكم عنه أو إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فاقضوها فيما أحل لكم واتركوا الحرام الذي في عاقبته خذلانكم «أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ 78» سديد العقل صحيح الرأي يفعل الجميل ويكف عن القبيح ، وهذا الاستفهام للتعجب أي إنكم على كثرتكم وادعائكم العقل السليم ما فيكم واحد يسمع قولي ويزجر قومه عن ذلك «قالُوا» معرضين عن قبول النصح غير مبالين بكرامة نبيهم «لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ» في نكاحهن لأنك تزعم أننا لسنا بأكفاء لهن لإيمانهن بك وكفرنا ولما نحن عليه من الفعل الذي تكرهه ، هذا على القول الأول الذي جرينا عليه وهو المقبول وعليه المعول ، وعلى القول الثاني فإن صاحبه يفسر الحق في هذه الآية الصريحة بأنهن بناته نفسه بالشهوة ، أي مالنا شهوة في وقاع(3/142)
ج 3 ، ص : 143
النساء ، أي نسائنا الذين تزعم أنهن بناتك وما لنا حاجة بهن ، وهو لعمري بعيد والأخذ به غير سديد ، لأن هذه الآية كانت فصل الخطاب لا تقبل التأويل ويبطل معها كل دليل «وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ 79» وهو إتيان الذكور دون النساء فلما رأى إصرارهم ورأى نفسه ضعيفا تجاههم «قالَ» عليه السلام متأثرا متحسرا آسفا «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً» على مقاومتكم لدفعتكم بنفسي عن أضيافي وأهلكتكم دون أن أمكنكم منهم «أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ 80» من قبيلة أو عشيرة يمنعوني منكم إذا أوقعت فيكم مكروها لفعلت وفعلت ومنعتكم من الوصول إلى داري.
تمنى هذا عليه السلام لا نشغال فكره بأضيافه وقومه ، وإلا فهو يأوي إلى ركن أشد من كل ركن ، روى البخلوي ومسلم عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرحم اللّه لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته.
وقال أبو هريرة ما بعث اللّه نبيّا بعده إلا في منعة من عشيرته.
ومعنى الركن في الحديث هو اللّه تعالى ، فلا ركن يضاهي عظمة ركنه ، ولا بأس يعادل شدة بأسه ، ولا قوة تقابل كبير قوته ، ومن كان اعتماده على اللّه لم يبال بشيء ، ومن اعتمد على الخلق ذل ، وقيل :
إذا كان غير اللّه للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد
ومعناه في الأصل الناصية من البيت أو الجبل ، ومن قال إن أو هنا بمعنى بل أي قال سيدنا لوط بل آوي إلى ركن شديد ، ينافيه الحال ، واستغراب سيد الرجال قوله وعده منه بادرة ، فقال الحديث السالف الذكر ، ولو كان يعلم أن ذلك قصد لوط لما ذكر هذا الحديث ، وإن مما يدحض هذا القول الآية التالية ومجيء أو بمعنى بل في بعض المواقع لا يفيد أنها هنا بمعناها ، ثم أغلق لوط بابه وصار يدافع قومه ويناظرهم ويناشدهم اللّه من ورائه ، وهم لا يلتفتون إليه ، ويعالجون فتح الباب ليدخلوا عليه ويتسلطوا على أضيافه ، وهو عليه السلام أقوى منهم على الانفراد ، ولكن الكثرة تغلب الشجعان ، فلما رأت الملائكة ما يقاسيه لوط من الكرب بسببهم وهم ينتظرون الساعة المقدرة لإهلاكهم
«قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» أرسلنا لإهلاكهم ، فتنح عن الباب واتركنا وإياهم ، وإنك(3/143)
ج 3 ، ص : 144
تلجأ إلى ركن شديد ، فإنهم «لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ» لأن اللّه حافظك منهم ، ولن يستطيعوا علينا ، فإن اللّه سلطنا عليهم ، فبعد صراحة هذه الآية يطرح قول كل من يقول إن أو بمعنى بل ، ويكذبه ، إذ لو كانت أو بمعنى بل فلا حاجة للإتيان بها ، ولا محل لقول الملائكة إنا رسل ربك ، أي ناصروك عليهم ، قالوا فترك الباب لما عرفهم أنهم ملائكة ، فدخلوا يتسابقون إلى الملائكة ، ولما أرادوا مد أيديهم إليهم تحوّلوا إلى صورتهم الحقيقة ، واستأذن جبريل ربّه رب العزة في عقوبتهم ، إذ جاء أجلها ، لأنهم لا يقدرون أن ينفذوا شيئا أرسلوا إلى تنفيذه إلا بعد الاستئذان ، لأنه قد يعفو عن العقوبة وهو الذي لا يسأل عما يفعل ، فأذن لهم ، فضربهم ضربة واحدة بجناحه ، فطمس أعينهم ، فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا ويقولون النجاة النجاة ، فإن في بيت لوط سحرة! وجاء في رواية أخرى أنهم كسروا الباب ودخلوا فلطمهم جبريل فطمس أعينهم ، فقالوا وهم هاربون يا لوط جئتنا بسحرة ، وتوعدوه ، فأوجس في نفسه خيفة منهم إذ قال سيذهب هؤلاء ويذرونني لا ناصر لي ، لأني غريب عنهم ، فعندها قال جبريل لا تخف والتفت هو وجماعته إلى لوط وقالوا «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ» قرىء أسر بالقطع والوصل من الإسراء وهما بمعنى واحد ، وقيل إن أسرى سار أول الليل وسرى آخره ، ولا يقال في النهار إلا سار كما بيناه أول سورة الإسراء المارة في ج 1 ، «بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» آخره أو شدة ظلمته ، قال مالك بن كنانة :
وقائمة تقوم بقطع ليل على رحل أهانته شعوب
يؤيد هذا التفسير قوله تعالى (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) الآية 34 من من سورة القمر المارة في ج 1 ، والسحر آخر الليل وأشده ظلمة ، وأصل القطع القطعة من الشيء ، لذلك قال ابن عباس طائفة من الليل ، وقال قتادة بعد صدر منه «وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ» وراءه وضمير منكم يعود على أهله ، وقوله لا يلتفت من تسمية النوع وهو من بديع النكات ، إذ أن المتأخرين من أهل البديع زعموا أنهم اخترعوا نوعا من البديع لم يكن قبل وسمّوه تسمية النوع ، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام : (3/144)
ج 3 ، ص : 145
واستخدموا العين مني فهي جارية وكم سمعت بها في يوم بينهم
ويتبجحوا في ذلك ولم يعلموا وجوده في كتاب اللّه الذي لم يغفل شيئا في مثل هذه الآية ، وإن علومهم وعلوم من تقدمهم مستقاة من هذا القرآن العظيم الذي يقول اللّه تعالى فيه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 من الأنعام الآتية فلم يترك شيئا من أفعال وأعمال الأولين والآخرين ، قال الأبوصيري رحمه اللّه :
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا عن المعاد وعن عاد وعن ارم
فلا تعد ولا تحصى عجائبها ولا تسام على الإكثار بالسأم
ثم استثنى من أهله عليه السلام فقال «إِلَّا امْرَأَتَكَ» بالنصب على الاستثناء المتصل من أهلك ، وبالرفع على البدلية من أحد ، أي اتركها لا تأخذها معك «إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» من العذاب فهي هالكة معهم لرضائها بفعلهم ، فلم تمنعهم ولم تزجرهم وكانت تخبرهم بمن يأتي عنده ، حتى إنها أخبرتهم بحضور الملائكة ظنا منها أنهم بشر ، ولم يروهم حين مجيئهم ، وذلك لأنهم لا يمشون مشي البشر ، إذ يصلون إلى المحل الذي يريدونه بلحظة ، فلا يحس إلا وهم أمام من يقصدونه ، قال لوط متى ينزل فيهم العذاب قالوا له «إِنَّمَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ»
قال لهم أريد أسرع من ذلك قالوا له إن الوقت المقدر لإهلاكهم هو الصبح «أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ 81» ولم يكن بيننا وبينه إلا هذا الليل المضل ، وقرئ الصبح بضم الباء ، وعي لغة جائزة لأنها ليست بحركة إعراب ، أما حركة الإعراب كحركة الميم في أنلزمكموها وأضرابها فلا يجوز فيها الإسكان بداعي الخفة إلا ضرورة كقوله :
فاليوم أشرب غير مستحقب إنما من اللّه ولا واغل
بإسكان الباء من أشرب للخفة ضرورة ، وقول الآخر :
وناع يخبرنا بمهلك سيد تقطع من وجد عليه الأنامل
بإسكان باء يخبرنا ، أما الإسكان لتوالي الحركات فقد أجازه بعضهم بلا ضرورة مثل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) الآية 58 من سورة النساء ج 3 ، وأمثال كثير ، وكان سيبويه يخفف الحركة ويختلها ، قالوا وهو الحق ، ولما دخل الليل تهيأ لوط وهيأ أهله ، ثم أخذهم وترك زوجته ، وأوصاهم بعدم(3/145)
ج 3 ، ص : 146
الالتفات وراءهم ، امتثالا للأمر قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» حان وقته بعذابهم «جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها» إذ أدخل جبريل عليه السلام جناحه تحت قراهم الخمس ، ورفعها حتى بلغ بها عنان السماء ، وهم نائمون لم ينتبه أحد منهم ولم يكفأ لهم إناء وقلبها بهم ، فسمعت امرأته وهي لا حقة بلوط وأهله راكضة خلفهم (هوة العذاب) الهوة صوت انهدام الجدار هنا صوت انقلاب القرى ، فالتفتت ورافعا فهلكت ، وهذه الحكمة من منعهم من الالتفات إلى الوراء ، إذ قدر اللّه إهلاك من يلتفت منهم وراءه ، قال تعالى «وَأَمْطَرْنا عَلَيْها» أي القرى المقوبة «حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» حتى لا يبقى منهم أحد ممن كان سارجا عن القرى وآتيا إليها ، فمن شذ عنها فلم يهلك بالخسف هلك بالحجارة مثل امرأة لوط المار ذكرها ، ومعنى سجيل الطين لقوله تعالى في الآية 33 من الذاريات (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) والقرآن يفسر بعضه وفي الفارسية أصلها سنك ، راجع الآية 82 من الشعراء المارة في ج 1 ، وهذه كالسندس والإستبرق وغيرها.
فإنها كلمات عربية استعملها الغير ، لأن العرب نطقت بها قبل القرآن «مَنْضُودٍ 82» متتابع نعت لسجيل مأخوذ من النضد وهو وضع الشيء بعضه على بعض فعلا ، أو كون بعضه فوق بعض خلقة ، مثله في قوله تعالى (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الآية 29 في الواقعة المارة في ج 1 «مُسَوَّمَةً» نعت ثان أي معلمة بعلامة العذاب لا تشبه حجارة الدنيا ، قالوا كان مكتوبا على كل واحدة منها اسم من تهلكه ، ولا عجب لأنها «عِنْدَ رَبِّكَ» القادر على كل شيء وهي من جملة ما في خزائنه التي لا يطلع على ما فيها ولا يملكها غيره ، أو أنها ساقطة من لدنه من مكان لا يعلمه غيره ، وضمير الخطاب هذا يعود إلى سيد المخاطبين على طريق الالتفات وتقدمت القصة مفصلة في الآية 84 من الأعراف المارة في ج 1 ، ولهذا قال تعالى «وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ 83» أي من قومك يا محمد المتغالين في الظلم ، بل هي قريبة منهم إذا أصروا على ظلمهم ولا شك أنا نوقع بهم ما أوقعناه بغيرهم من العذاب ، وفي الآية تهديد لكل ظالم لأن الذي أهلك اللّه به شذاذ قوم لوط من الحجارة لا يبعد أن يرمي العرب أهل الظلم كافة ، قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» تقدم نسبه بالأعراف(3/146)
ج 3 ، ص : 147
«قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ» في سعة من الرزق موسرين غير محتاجين لأكل أموال الناس باطلا بالخلسة «وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ 84» بكم وباله لا يترك منكم أحدا ، ويبدل اللّه خصبكم قحطا ، وسعتكم ضيقا ، ورخصكم غلاء ، فيسلب نعمكم كلها ويحل بكم نقمه إن لم تتوبوا من عملكم هذا ، وذكرنا في الآية 85 من الأعراف أن مدين أحد أولاد إبراهيم عليه السلام ، وأنه بنى المدينة هذه فسمّاها باسمه ، والمراد أهلها ، ثم أكد عليهم بما يزيد في زجرهم بقوله «وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» العدل ، بتقويم لسان الميزان ومكانه وتسوية المكيال من كل أطرافه ، وفائدة التصريح بالأمر بالإيفاء مع أن النهي الوارد في الآية السابقة يستلزمه ، لأن النهي عن الشيء عين الأمر بضده أو مستلزم له تضمنا أو التزاما ، لأن الخلاف بمقتضى اللفظ ، لا أن التحريم والوجوب ينفك عن مقابلة الضدّ.
النعي بما كانوا عليه من القبح وهو النقص مبالغته بالكسف ، ثم الأمر بالضد مبالغته في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكفر عكسا ، وتقييده بالقسط يفيد أن الفضل الزائد يكون محرمّا أيضا كالنقص ، لأن النقص سرفة من المشتري والزيادة سرفة من البائع ، وهذا ما هو واقع ببعض بلادنا ، ولا مانع ولا وازع ، لأن من الكيالين والملتزمين للباحات التي يباع بها الحبوب وغيرها يفعلون ذلك على علم ومرأى من الحكومة ، فنسأل اللّه أن يبصّر المؤمنين بعيوبهم ويرشدهم للسداد والصواب في كل أمورهم «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» أي لا تنقصوا أموالهم ، وفيه معنى التكرار لما سبق أيضا تحذيرا من عاقبة الأمر
ومبالغة بالتأكيد ، لأن التكرار مرتين يفيد شدّة الاهتمام والعناية بالمنهي عنه أو المأمور به ، فكيف إذا كان ثلاثا «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 85» وهذا تذييل وتتميم لما تقدم من الأمر والنهي.
واعلم أن العثي يعم تنقيص الحقوق كلها ، لأن معناه مطلق الفساد ، وإنما أكّده بلفظ من معناه إعلاما بأن فعلهم هذا قبيح بذاته ، مشين لهم ، فيه مفسدة لمصالح دينهم وأمر آخرتهم ، ولهذا يقول «بَقِيَّتُ اللَّهِ» التي أبقاها لكم من الحلال في(3/147)
ج 3 ، ص : 148
الدنيا وانتظار الثواب على ترككم الحرام بالآخرة «خَيْرٌ لَكُمْ» مما تسرقونه بالتطفيف إذا بعتم والزيادة إذا اشتريتم «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 86» باللّه المنتقم منكم بالدنيا وإن أمهلكم فإنه سينتقم منكم بالآخرة ، وإني أتقدم لكم بالنصيحة ابتغاء بقاء نعمكم وخوفا من سلبها إذا أصررتم على ما أنتم عليه (وكلمة بقية) لم تكرر في القرآن «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 87» لأموالكم وأنفسكم ولا أقدر أن أنمّيها لكم مع ما أنتم عليه من نقص الكيل والوزن ، لأن اللّه نهانا عن ذلك ، ولست بحفيظ أيضا على أعمالكم كي أجازيكم عليها ، لأن ذلك كله بيد اللّه وحده وإنما أنا ناصح ومنذر لكم بأن تحفظوا نعمكم بأداء شكرها وإعطاء حقها «قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ» بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك.
هذا وإن قصدهم بهذا الاستفهام الإنكاري التهكم والتعريض بركاكة رأيه وحاشاه من ذلك ، كيف وهو خطيب الأنبياء ، وإنما خصوا الصلاة دون بقية أحكام الإيمان لأنه عليه السلام كان أكثر صلاة ممن تقدم من الأنبياء ، وكان قومه ينتقدونه بذلك ويقولون له ما تفيدك هذه الصلاة ؟ فيقول هم إنها تنهى عن القبائح كلها وتأمر بمحاسن الأخلاق ، ومن هنا قوله صلى اللّه عليه وسلم : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إلا بعدا.
لأن اللّه تعالى يقول (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) الآية 25 من العنكبوت الآتية ، أي أن صلاتك هذه تأمرك «أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» من الأوثان «أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» من النقص والزيادة «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ 88» في زعمك وزعم أصحابك فلما ذا ابتدعت هذا علينا فلو كنت كذلك لما كان يجوز لك أن تشق عصا قومك ، ولا يجدر بك أن تخالفهم وتسفه عاداتهم.
هذا إذا كان وصفهم له بتلك الصفتين على الحقيقة ، وإذا كانوا يريدون الاستهزاء فيكون المراد ضدهما أي السفيه الضال الغاوي ، لأن العرب تصف الشيء بضده فتقول للديغ سليم ، وللأعمى بصير ، وللفلاة المهلكة مفازة ، وهكذا «قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» تقدم مثلها «وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً» حلالا بفضله ورحمته من غير نجس وتطفيف ، وكان عليه السلام كثير النعم كثير الخير ، وفي هذه الجملة(3/148)
ج 3 ، ص : 149
معنى الاستفهام ، أي إذا كنت كذلك فهل يمكن أن أخالف أمره وأوافق هواكم وأكتم عليكم ما أمرني به ربي أن أبلغه إليكم كلا لا أقصد ذلك «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» فاسبقكم لفعله وأستبد به دونكم مع اعترافكم بكمال عقلي وحسن سجيّتي وإني أختار لكم ما أختاره لنفسي وأنهاكم عما أنزه نفسي عن اقترافه ولا أفعل شيئا قط وأنا أنهى عنه إذ لا يليق بالرجل ذلك ، وعليه قوله :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
«إِنْ أُرِيدُ» لا أريد قط فيما آمركم به وأنهاكم عنه شيئا «إِلَّا الْإِصْلاحَ» لكم بنصحي وموعظني فيما بيني وبينكم وبين ربي وربكم «مَا اسْتَطَعْتُ» من جهدي وما دمت متمكنّا من الإصلاح فإني لا آلو فيه جهدا ، وسأبدل قصارى وسعي برشدكم وهدايتكم من غير إبصار ولا إكراه.
هذا واعلم أن شأن هذه الأجوبة الثلاثة المبينة على مراعاة حقوق ثلاثة مطلوبة لكل من يأمر وينهى ، فالأول حق اللّه تعالى ، والثاني حق النفس ، والثالث حق الناس ، تدبر قوله البالغ ذروة المعنى والبلاغة وقمة الفقه والفصاحة «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» لا أفعل شيئا أو أتركه إلا بمعونة اللّه وتأييده ، لأنه هو الموفق لطرق الخير والطاعة واجتناب سبل الشر والعصيان ، والتوفيق تسهيل اللّه تعالى على عبده ما يعسر عليه وتيسير ما يصعب «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» في أموري كلها «وَإِلَيْهِ أُنِيبُ 89» أرجع خاضعا خاشعا إليه فيما ينزل بي من الخير فأحمده عليه ، ومن الشر فألجا إليه في دفعه ، وقد طلب عليه السلام التوفيق من ربه لإصابة الحق فيما يأتي ويذر والاستعانة به على مجامع أمره ، مظهرا بهذا عدم مبالاته بكفار قومه مهما قالوا أو فعلوا ، ثم كر على قومه فقال «وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ» لا يوقعنكم في الجزم ويكسبنكم إياه «شِقاقِي» خلافي معكم وتحملكم عداوتي لأجل خيركم «أَنْ يُصِيبَكُمْ» بسببه عذاب عاجل في هذه الدنيا جزاء كفركم وفعلكم السيء فيحل بكم «مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ» من الإهلاك غرقا «أَوْ قَوْمَ هُودٍ» من التدمير بالريح العاصف «أَوْ قَوْمَ صالِحٍ» من الموت بالصيحة «وَما قَوْمُ لُوطٍ»(3/149)
ج 3 ، ص : 150
الذين أهلكوا بالخسف والرجم بالحجارة «مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ 90» لقرب عهد إهلاكهم منكم وهم جيرانكم بالسكن ، وقد حل بهم ما لم يحل بغيرهم ، كما أن جرمهم لم يقترفه غيرهم ، فاتعظوابهم «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» تقدم مثله «إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ» بعباده إذا تابوا وأنابوا «وَدُودٌ 90» بهم كثير الرأفة والمحبة لإيمانهم به ليكونوا قريبين منه
«قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ» لأن اللّه أصمهم وأعمى أبصارهم عن سماع الحق ورؤيته ، وإلا فهل يوجد أنصح كلاما مما خاطبهم به وأبلغ معنى في النفس ، وهو أحسن الخلق مراجعة إلى قومه ، ولكن قولهم هذا والعياذ باللّه من الطبع على القلب والختم على الفؤاد ، ومن يضلل اللّه فما له من هاد ، وانظر لسخافة قولهم «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» يتعذر عليك منعنا مما نحن عليه لكبر سنك وضعف بصرك ، وإذا أردنا أن نوقع فيك مكروها فلا تقدر على صدنا منه ولكنّا نحترمك لأجل عشيرتك ولم يقولوا للّه الذي أرسلك ، قاتلهم اللّه ، لأنهم ينظرون إلى ظاهر الدنيا ، وهو عليه السلام كان قويا في عشيرته ولهذا قالوا «وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ» بالحجارة حتى تموت «وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ 92» بعد أن أهنتنا وأهنت ديننا فلا نحترمك ولا نكرمك ، وقتلك علينا هين ، وما قيل إن المراد بعزيز كونه أعمى لا يصح في المعنى ، ونحن ذكرنا في قصته في الآية 85 من سورة الأعراف المارة في ج 1 أن القول بعماه لا صحة له ، لأن اللّه لم يبعث نبيا أعمى ولا من به زمانة ، ولهذا البحث صلة في الآية 84 من سورة يوسف الآتية «قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي» جماعتي وعشيرتي «أَعَزُّ عَلَيْكُمْ» أهيب وأمنع «مِنَ اللَّهِ» فتكرموني لعزّتهم ولا تكرموني لأجل اللّه الذي خلقكم ورزقكم «وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» كالشيء الملقى إلى الوراء مثل قدح الراكب ، لا تلتفتوا إليه إلا عند الحاجة «إِنَّ رَبِّي» الذي نبذتموه خلفكم ونسيتموه «بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ 93» لا يخفى عليه شيء من أعمالكم الظاهرة والباطنة ، وفي هذه الجملة تهديد عظيم ، لأنهم راعوا جانب الرهط ولم يراعوا جناب اللّه ، ولم يعلموا أنه سيعاقبهم على ذلك ، ثم أكّد التهديد بوعيد أشدّ منه فقال «وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ»(3/150)
ج 3 ، ص : 151
وقدرتكم مما تنوونه لي من الشر من كل ما تتمكنون عليه «إِنِّي عامِلٌ» ما أتمكن عليه بقدر ما يؤيدني به اللّه من النصر ويمكنني من القدرة ، فابذلوا أنتم غاية جهدكم في شقاقي وأقصى طاقتكم في عدواني وإني لا أزال أثابر على عمل الخير لكم وترغيبكم لطاعته لعلكم تتنبهون فترجعون إليه ، وإن أصررتم فمصيركم إليه يوم القيامة وهناك «سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» أنا أم أنتم «وَارْتَقِبُوا» نزول العذاب بكم فقد قرب أوانه «إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ 94» لنزوله منتظر عاقبة أمركم وما يحل بكم من الذلة والإهانة مترقب نتيجة وعيدي لكم ونصرتي عليكم ، قال تعالى «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» المحتوم المقدر لنزول العذاب فيهم وانتهى أمد إمهالهم للإيمان «نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا» وفضل ، لأن عادتنا إنجاء المؤمنين ونصرتهم «وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» من أحد ملائكة اللّه العظام جبريل أو غيره كإسرافيل وميكائيل لأن هؤلاء هم الموكلون بتنفيذ مهام الأمور وعظائمها بأمر اللّه تعالى «فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ 95» على ركبهم من هول سماعها ، فماتوا جميعا حالة كونهم لا طين في الأرض ملازمين لها في أمكنتهم التي كانوا عليها حين الصيحة ، لأنها أماتتهم حالّا بحيث لم يتحرك أحد من مكانه لهول الصيحة «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» في قرية مدين ولم يسكنوها ولم يعمروها وصاروا نسيا منسيا.
فتنبهوا أيها الكفرة وسارعوا بالتوبة إلى ربكم قبل أن يحل بكم ما حلّ بهم «أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ» قوم شعيب وسحقا لهم «كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ 96» قوم صالح لأنهم أهلكوا بالصيحة أيضا مثلهم ولم تعذب أمتان بعذاب واحد غيرهما إلا أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم وقوم شعيب من فوقهم ، وما قيل إن الصيحة نوع من العذاب ، لأن العرب تقول صاح بهم الزمان إذا هلكوا ، مستدلين بقول امرئ القيس :
فدع نهبا صيح في حجرته ولكن حديث ما حديث الرواحل
ليس بسديد لما فيه من صرف الكلام عن ظاهره دون مبرر ولمنافاته لما جاء في سورة الأعراف بلفظ الرجفة الحاصلة لهم من خوف الصيحة راجع الآية 91 منها(3/151)
ج 3 ، ص : 152
ج 1 ، وبعدت قرئت بضم العين كما في الآية ، وقرئت بالكسر ، وعليه قوله :
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلا مكانيا
من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ومعناها على كلا القراءتين الهلاك ، والقصة مفصلة في الآية 93 من الأعراف المارة في ج ، قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ 97» سميت الحجج والبراهين سلطانا لأن صاحبها يقهر من لا شىء له منها ، كالسلطان بالنسبة لرعيته «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» لإرشادهم وهدايتهم باتباعه ، ولكنهم لم يلتفتوا إليه «فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ» الطاغية وكيف يتبعونه وينقادون لأمره «وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ 98» لأنه ضال وكافر وأمره ضلال وكفر غير محمود العاقبة لأنه لا يدعو إلى هدى وسترونه «يَقْدُمُ قَوْمَهُ» إلى النار «يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهم وراءه «فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ» أدخلهم فيها لأنه كما كان أمامهم في الضلال في الدنيا حتى أغرقهم في البحر يكون أمامهم في الآخرة حتى يدخلهم جهنم «وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ 99» النار لأن القصد من الورد تسكين ألم العطش والنار ضده فاستعمل في ورود النار على سبيل الفظاعة ، لأنه شبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردين إلى الماء وأتباعه بالواردين والماء بالنار والعياذ باللّه ، «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً» طردا وبعدا من الرحمة «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» لعنة أخرى أفظع من لعنة الدنيا وسيقال لهم «بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ 100» العون المعان بترادف اللغتين لأن كل شيء جعلته عونا لآخر وأسندت به شيئا فقد ردفته ، ولهذا اخترنا تأويل الرفد بالعون على تفسيره بالبطاء الذي هو من معناه أيضا لملاءمة المقام ، إذ لكل مقام مقال «ذلِكَ» الذي قصصناه عليك يا سيد الرسل من أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام مع أقوامهم ، وكيفية إهلاكهم لما أصروا على كفرهم ولم يطيعوهم كله «مِنْ أَنْباءِ الْقُرى » السابقة «نَقُصُّهُ عَلَيْكَ» لتخبر به قومك
فينتبهوا من غفلتهم ويتعظوا بما حل بهم علهم يرجعوا عن غبهم ، ولتسلي نفسك وتتأسى بما تأسى به إخوانك الأنبياء قبلك ، لئلا يضيق صدرك مما يجابهونك به ، ولتعلمهم أنهم إذا لم يؤمنوا ويرجعوا إلى اللّه فيصيبهم ما أصابهم من(3/152)
ج 3 ، ص : 153
العذاب ، وما عليك إلا أن تحذرهم سوء العاقبة وتذكر لهم أحوال أسلافهم وآثارهم «مِنْها» أي القرى المهلك أهلها أثرها «قائِمٌ» لم يزل إذ أن قسما من بنائها باق وجدران أكثرها قائمة واقفة على حالها «وَحَصِيدٌ 101» ومنها خراب مندثر محي أثرها بالكلية لطول الزمن على تركها بلا سكن ، كالأرض المحصود زرعها التي كأنها لم تزرع قبل ، وأطلقت العرب لفظ الحصيد على الفناء كما قيل :
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
قال تعالى «وَما ظَلَمْناهُمْ» بما أوقعنا فيهم من العذاب المهلك «وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» بإصرارهم على الكفر ورفض نصح الرسل حتى ماتوا مشركين باللّه كفّارا منكري الآخرة «فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ» أوثانهم «الَّتِي يَدْعُونَ» يعبدونها ويستغيثون بها عند المحن ويرجون نصرتها «مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ» ولم ترد بأسه عنهم في الدنيا «لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ» بإهلاكهم «وَما زادُوهُمْ» في الآخرة عند استشفاعهم بهم «غَيْرَ تَتْبِيبٍ 102» تدمير وتخسير وتب بمعنى خسر وتبّه غيره أوقعه في الخسران ، أي أن عبادتهم للأصنام فضلا عن أنهم لم تفدهم شيئا فقد أهلكتهم فوق إهلاكهم حتى دمّروا تدميرا ، قال بشر ابن أبي حاتم :
هم جدعوا الألوف فأذهبوه وهم تركوا بني سعد تبابا
«وَكَذلِكَ» مثل ذلك الأحد العظيم : «أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ» حالة كون أهلها كافرين عتاة «إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ 103» كما علمت من كيبة أخذ الأمم لكذبة لرسلها ، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته :
ثم قرأ هذه لآية.
وحكم هذه الآية عام في كل ظالم إلى يوم القيامة ، ألا فليحذر الظالمون هذه العاقبة السيئة ويتداركوا أنفسهم بالتوبة وإرجاع المظالم إلى أهلها ، كي لا يعرضوا أنفسهم لغضب اللّه فيدخلوا في هذا الوعيد الشديد المؤلم «إِنَّ فِي ذلِكَ» الأخذ والإهلاك «لَآيَةً» عظيمة وعبرة كبيرة «لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ» لأنه إذا علم ما وقع في الدنيا على المجرمين اتعظ وعمل لما يقي نفسه من مثله ، (3/153)
ج 3 ، ص : 154
ومن العذاب الأخروي المعد لهم الذي لا يقاس بعذاب الدنيا ، لأنه بالنسبة لعذاب الآخرة قليل من كثير «ذلِكَ» اليوم الذي يكون فيه عذاب الآخرة «يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ» لأجل الحساب أولهم وآخرهم برهم وفاجرهم «وَذلِكَ» اليوم العظيم «يَوْمٌ مَشْهُودٌ 104 فيه أنواع العذاب مما لا تطيقه الصنم الرّواسي ومن أنواع النعيم ما تبتهج به النفوس وكل منهما مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، والمعنى كثر شاهدو ذلك اليوم فحذف الجار وصار المجرور مفصولا على التوسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به لأن الضمير لا يجوز نصبة على الظرفية والجار لا يعمل بعد حذفه فيكون من باب الحذف ولإبصال وهو كثير في كلام العرب ويكون في الاسم كمشترك وفي الفعل كقوله :
ويوم شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن الدراك نوافله
وفي رواية النهال بدل الدراك أي مشترك فيه وشهدنا فيه ، والمعنى أن الخلائق كلهم يشاهدون ذلك الموقف المهول ليس أهل الأرضين فقط بل أهل السموات جميعهم أيضا «وَما نُؤَخِّرُهُ» أي ذلك اليوم الذي يجمع فيه الخلق كلهم «إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ 105 سنبينه وشهوره وأيامه ولحظاته كما هو في علمنا لا يطلع عليه أحد «يَوْمَ يَأْتِ» أجل ذلك اليوم بانتهاء الأمد المضروب له عند اللّه الذي لا يتخطاه.
مطلب في ضمير يأت والجمع بين الآيات المتعارضة ومعنى الاستثناء في أهل الجنة والنار :
وقد أعدنا ضمير يأت إلى الأجل خلافا لبعض المفسرين ، وقد منع بعضهم عوده إلى اليوم محتجا بأن تعرف اليوم بالإتيان يأبى تعرف الإتيان به ، لأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان ، وأعاده للجزاء الذي يقع فيه وبعضهم أعاده للّه تعالى.
وليعلم أن منع عوده لليوم ممنوع لأن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد وعاشوراء والنيروز والساعة مثال يجري مجرى الزمان وإن كان في نفسه زمانا فباعتبار تغير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال يوم تقوم الساعة ويوم يأتي العيد والعيد في يوم كذا فالأولى زمان وضميره أعني فاعل الفعل(3/154)
ج 3 ، ص : 155
زماني وعود الضمير للجزاء لا وجه له لعدم ذكره سابقا وعود الضمير على ما لم يكن موجودا إذا لم يكن معلوما أو لم يسبق له ذكر لا يجوز ، وعوده للّه تعالى غير سديد لأنه جل شأنه هو المتكلم والضمير لا يعود لنفس المتكلم في مثله وكذلك الحال على قراءة يؤخره بالياء لا يتجه عود الضمير إليه تعالى بل ضمير يؤخره يعود إليه تعالى ، وحذف ياء يأت وصلا ووقفا جائز للتخفيف كما في لا أدر ولا أبال وأثبتها النحويان ونافع بالوصل وابن كثير بالوصل والوقف وباقي السبعة بالحذف في الحالتين لأن الإجذاء بالكسرة عن الياء كثير لا سيما في لغة بل «لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ» مطلقا أو بما يتعلق بالشفاعة بدليل قوله عز قوله «إِلَّا بِإِذْنِهِ» أدبا واحتراما من جهة ولشدة الخوف وطول زمنه من جهة أخرى ، وهذه الآية وإن كانت ظاهرا تتعارض مع قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) الآية 111 من سورة النحل ، وقوله تعالى (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الآية 24 من سورة الأنعام الآتيتين وغيرهما من الآيات الدالة على وجود التكلم والخصام يوم الموقف ، إلا أنه لا معارضة في الحقيقة لأن يوم القيامة يوم طويل تختلف فيه أحوال أهله فتارة يسكتون ومرة يجادلون وطورا يتعاتبون وأخرى يجحدون ويحجمون عن الكلام لما تأخذهم الدهشة من هيبة الموقف فكأنهم ألجموا بألجمة محكمة لا يستطيعون معها التكلم وبعضا يؤذن لهم بالكلام وإبداء للعذر وقد ينسح لهم بالكلام فينكرون ما عزي إليهم كما أوضحناه في الآيتين 35 26 من سورة الأعراف وما قبلها والآية 109 من سورة طه والآية 27 من سورة فاطر المارات في ج 1 ، وللبحث صلة في الآية 19 فما بعدها من سورة فصلت والآية 21 من سورة إبراهيم الآتيتين ، لهذا جاز التوفيق بين الآيات المتعارضات لصرف كل منها لما يناسبها وهذا هو وجه الجمع بينها فلا تعارض من حيث المعنى ولا تنافي من جهة الحكم ولا تباين
من حيث اللفظ هذا على أن منع التكلم مطلقا ، أما إذا كان منع التكلم مما يتعلق بالشفاعة فلا معارضة لا من حيث الظاهر ولا من جهة الحقيقة ، لأن الشفاعة لا تكون لأحد إلا بإذن اللّه ومن تكلم بإذنه كان مأمورا بالتكلم ولا يقال لمئله أنه تكلم من تلقاء نفسه «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ» بسوء عمله «وَسَعِيدٌ 106» بحسنه أي ينقسمون إلى قسمين(3/155)
ج 3 ، ص : 156
لا ثالث لهما وقدمنا في الآية 41 فما بعدها من سورة الأعراف فيما يتعلق بها فراجعه ثم بين ما لكل منها فقال «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا» بحكم اللّه الأزلي لما هم عليه من الكفر «فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ» مد النفس وإخراجه من الصدر وترديده فيه حتى تنتفخ منه الضلوع «وَشَهِيقٌ 107» رد النفس وإرجاعه إلى الصدر وهما معروفان عند العرب قال الشماخ في حمار وحشي :
بعيد مدى التطريب أول صوته زفير ويتلوه شهيق محشرج
«خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» في الآخرة لأنهما في الدنيا زائلتان قال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية 49 من سورة إبراهيم الآتية ، وكل ما علاك فأظلت فهو سماء وكل ما استقرت عليه قدماك فهو أرض ، وهذا كلام يؤذن بالتأبيد وبعلم بدوام الشر.
جريا على عادة العرب ، فإنهم يقولون لا آتيك ما دامت السموات والأرض ، وما دام الملوان ، وتعاقب النيران ، وتخالف الجديدان ، يكنون بذلك التأبيد ، وهذا الخلود المحتم في النار للكافرين ينفي صرف الدوام للسموات والأرض الموجودة الآن «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» لبعض عصاة المؤمنين الذين يدخلهم النار جزاء اقترافهم عظائم الذنوب ثم يخرجهم منها إن شاء فيكون الاستثناء منقطعا ، لأنه من غير جنس المستثنى منه ، لأن الذين أخرجوا من النار بعد تعذيبهم فيها موقتا سعداء في الحقيقة ، وقد استثناهم اللّه تعالى من الأشقياء ، يدل على هذا ما أخرجه البخاري ومسلم عن جابر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه سبحانه وتعالى يخرج قوما من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة.
وفي رواية يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة.
وروى البخاري عن عمران بن حصين أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يخرج قوم من النار بالشفاعة فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ 108» لا معارض له ولا راد لإرادته «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ» لهم فيها بهجة وسرور ، وقرىء سقوا بالبناء للفاعل ، وسعدوا للمفعول ، وقرىء بالمفعول والفاعل «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» وهم قوم من العارفين المخلصين وينقلهم ربهم إلى مأوى أكبر وأجل منها وهو المقام الذي يرون به ربهم(3/156)
ج 3 ، ص : 157
عز وجل ، فيحل رضوانه عليهم ويتجلى لهم فيه ، وعليه يكون الاستثناء متصلا ، لأنهم من السعداء ولو تفاوتت درجاتهم ، ويكون الاستثناء منقطعا إذ أرجع إلى مدة لبث المستثنين من النار قبل دخولهم الجنة ، فلا يكون خلودهم فيها كامل ، بالنسبة لأمثالهم ، لأنهم لم يدخلوها ابتداء «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ 109» غير مقطوع بل هو مستمر أبدا دائم سرمدا هذا ما شاءه اللّه لأهل الجنة أللهم اجعلنا من أهلها ولم يخبرنا بما شاءه لاهل النار ، روى ابن مسعود عن أبي هريرة وعمرو بن العاص قال : ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد ، فإذا صح هذا يحمل على إخلاء أماكن المؤمنين الذين استحقوا النار من النار بعد إخراجهم منها ، أو على إخراج الكفار من النار إلى الزمهرير ، إذ ثبت بالدليل الصحيح القاطع وإجماع أهل السنة والجماعة خلود المؤمنين بالجنة والكافرين بالنار وإخراج جميع الموحّدين من النار وإدخالهم الجنة.
وقال بعضهم إن العصاة لا يخرجون ، ويرد قولهم ما نقلناه في الأحاديث الصحيحة ، ولا حجة لهم إلا الطعن بصحتها ولن يتيسر لهم فعلا.
هذا ، وقد أخرج ابن المنذر عن الحسن قال : قال عمر رضي اللّه عنه لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال : ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية يريد الاستثناء الوارد فيها.
وليعلم أن السعادة هي معاونة الأمور الإلهية للإنسان ومساعدته على فعل الخير والصلاح وتيسيره لها ، وهذه السعادة الدنيوية تؤول إلى السعادة الأخروية التي نهايتها الجنة ، والشقاوة علي خذلان العبد وانهماكه فيما حرم اللّه عليه وتماديه في موارد البغي والطغيان ، وهذه الشقاوة الدنيوية توصله إلى الشقاوة الأخروية التي غايتها النار وفاقا لما هو في علم اللّه الأزلي.
روى البخاري ومسلم عن علي كرم اللّه وجهه قال : كنا في جنارة في بقيع الفرقد (مقبرة أهل المدينة) فاتانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكث (يضرب الأرض) بمخصرته (وهي عصاة كالسوط رأسها يشبه القوس للزناد) ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ، فقالوا يا رسول اللّه أفلا نتكل على كتابنا ؟ فقال اعملوا فكل ميسّر لما خلق له ، أما من كان من(3/157)
ج 3 ، ص : 158
أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ) الآية 5 فما بعدها من سورة والليل المارة في ج 1 ، وقد ذكرنا ما يتعلق في هذا في سورة والعصر المارة في ج 1 فراجعه.
هذا وهناك أقوال أخر في الاستثناء الآنف الذكر في حق الفريقين أعرضنا عن ذكرها لمضاربة بعضها لبعض فضلا عن كثرتها ، وفائدة دفع توهم كون الخلود أمرا واجبا عليه تعالى لا يمكن له نقضه ، وهو جل شأنه ما عليه واجب وغاية ما فيه إرشاد العباد إلى تفويض الأمور إليه تعالى وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا حق لأحد عليه ولا يجب شيء عليه (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) الجملة من الآية المارة ، فإذا شاء تعذيب أهل الجنة فعل وإذا شاء تنعيم أهل النار فعل ، لا منازع له ، له الخلق والأمر ، ولا يبعد أن يكون هذا الاستثناء على نمط الاستثناء الذي ندب إليه الشرع في كل كلام على نحو قوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) الآية 28 من سورة الفتح في ج 3 استثناء في واجب وهو في حكم الشرط كأنه قيل إن شاء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل أو منقطع ، وذكرنا في الآية 19 من الفرقان والآية 72 من مريم المارتين في ج 1 ، دحض قول من يقول إن مرتكب الكبيرة يخلد في النار فراجعه ، وقد أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال :
لما نزلت (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) قلت يا رسول اللّه فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه ؟ قال بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له.
وأخرج الترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي يده كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول اللّه أما تخبرنا ؟ فقال الذي بيده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، ثم قال الذي بشماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، ثم قال للذي بشماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزداد فيهم(3/158)
ج 3 ، ص : 159
ولا ينقص منهم أبدا ، فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول اللّه إن كان أمر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال صلى اللّه عليه وسلم بيده هكذا فنبذهما وقال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير ، وجاء في حديث آخر الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وحمل معناه على ظهور الأمر للملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك.
واعلم أن في هذه الآية من أنواع البديع صفة الجمع مع التفريق والتقسيم ، أما الجمع ففي قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإن النفس كما تقدر عامة لكونها نكرة في سياق النفي وكل نكرة جاءت في سياق النفي تعم.
وأما التفريق ففي قوله تعالى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وأما التقسيم ففي قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ) إلخ الآية (وَأَمَّا الَّذِينَ) إلخ ، وعليه جاء قول الشريف القيرواني :
لمختلفي الحاجات جمع ببابه فهذا له فنّ وهذا له فنّ
فللخامل العليا وللمعدم الغنى وللمذنب العتبى وللخائف الأمن
وأمثاله كثير ، هذا وقد جاءت الأفعال في الآية بالماضي مع أنها في الواقع مستقبلة إشارة إلى تحقيق وقوعها كما ذكرنا في مثلها غير مرة ، قال تعالى «فَلا تَكُ» يا سيد الرسل «فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ» الكفرة من الأصنام «ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ» من الأوثان قبلهم وهو مستندهم في عبادتها لا غير لأن غاية ما يحتجون به هو أنهم رأوا آباءهم تعبدها فعبدوها فلا تنعب نفسك فيهم أو تشك في أمرهم «وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ» من العذاب تاما كاملا كما أوفيناه لأسلافهم «غَيْرَ مَنْقُوصٍ 110» إذا أصروا على ما هم عليه على أنا سنوفيهم رزقهم الدنيوي كاملا أيضا ليستوفوا تمام أجلهم فيها وفي هذه الآية إشارة إلى مزيد فضل اللّه على عصاته إذ لم يقطع شيئا من رزقهم مع ما هم عليه من الكفر على أن معنى النصيب يدل على أن المقصود به رزق الدنيا لأنه مما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك ويؤكد هذا قوله تعالى (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) الآية 76 من القصص المارة في ج 1 ، وقال بعض المفسرين : المراد بنصيبهم عذابهم في الدنيا(3/159)
ج 3 ، ص : 160
والآخرة ، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» إذ صدق به بعض قومه وكذبه آخرون كما فعل قومك معك فلا تضجر من تكذيبهم فلك أسوة بمن قبلك «وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» بتأخير العذاب عن منكري حقك لأجل معلوم عندنا محدود لا يبدل ولا يغير «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» حال تكذيبهم وكذلك الأمم السابقة فقد أمهلوا لانقضاء آجالهم المعينة عندنا «وَإِنَّهُمْ» لا يزالون «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» بأنه أي القرآن بدليل سبق كتاب موسى عليه السلام بأنه من عند اللّه منزل عليك أو أنهم في شك «مُرِيبٍ 111» من نزول العذاب بهم وقد أوقعهم هذا الشك في الرية بنزوله وتوهموا عدم صحته
«وَإِنَّ كُلًّا» من الفريقين المختلفين المصدق منهم والمكذب (والتنوين في كلا يسمى تنوين العوض لأنه عوض عن المضاف) «لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ» أي واللّه ليوفينهم جزاء أعمالهم فاللام فيه للقسم فيثبب المصدق الجنة والمكذب النار ، ولما هنا بمعنى إلا مثلها في قوله تعالى في الآية 4 من سورة الطارق المارة في ج 1 وهي (كل نفس لما عليها حافظ) وقرىء لما بالتنوين بمعنى جميع مثلها في قوله تعالى (أكلا لمّا) الآية 19 من سورة الفجر المارة في ج 1 أيضا ، وقد تكون ظرفا بمعنى حين وعليه يكون المعنى وإن كلا حين يبعثوا ليوفينهم جزاء أعمالهم دون حاجة إلى الإثبات «إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 112» لا يخفى عليه شيء من عملهم ، وفي هذه الآية وعد وبشارة للمصدقين ووعيد وتهديد للمكذبين.
مطلب في الاستقامة والتقوى والورع وما يتفرع عنهما :
قال تعالى يا سيد الرسل «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» من الاستقامة التي أمرناك بها لا تعدل عنها قيد شعرة فهي طريق توفيقك لما وعدناك به من النصر والظفر وهذا أمر تأكيدي بطلب المثابرة والدوام على الحالة الأولى كقولك للقائم قم حتى آتيك ، أي دم على ما أنت عليه «وَمَنْ تابَ مَعَكَ» وآمن بك وبما أنزل عليك ، فعليهم أيضا أن يلازموا الاستقامة ويداوموا عليها.
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب.(3/160)
ج 3 ، ص : 161
وروى مسلم عن سفيان بن عبد اللّه الثقفي قال : قلت يا رسول اللّه قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال : قل آمنت باللّه ثم استقم.
فالاستقامة كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق ، كالتقوى فإنها كلمة جامعة لكل خير ، وكالورع فإنها كلمة جامعة لكل بر ، فالاستقامة تشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلى اللّه عليه وسلم وبين سائر المؤمنين ، بل وبين الخلق أجمع ، وتشمل الأمور الخاصة به عليه السلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك ، وقالوا إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يكون ميل لأحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلا بالافتقار إلى اللّه تعالى ، ونفي الحول والقوة بالكلية ، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بالشيء الموجود غير المدرك الذي يكون بين ضوء الشمس والظل ، فإنه ليس بشمس ولا ظل ، بل هو أمر فاصل بينهما ، ولعمري إن ذلك لدقيق ، راجع الآية 25 من سورة الفرقان في ج 1 ولذلك قالوا لا يطيق الاستقامة إلا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية ، ثم عصم بالتثبت بالحق.
قال تعالى (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) الآية 75 من الإسراء في ج 1 ، وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أرق من الشعرة واحد من السيف إشارة إلى هذا النهج المتوسط ، ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال صلى اللّه عليه وسلم شمروا شمروا ، وما رئي بعدها ضاحكا.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال : ما نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آية أشد من هذه الآية ولا أشق.
واستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من قوله صلى اللّه عليه وسلم شيبتني هود.
كما أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبل.
وذلك لأن مبنى هذه السورة على إرشاده تعالى شأنه نبيه صلى اللّه عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مبدئها إلى آخرها ، وإلى ما يعزى لمن تصدى لهذه المرتبة العظيمة من الشدائد ، واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد ، وهي أي هذه السورة الجليلة جامعة لإرشاده صلى اللّه عليه وسلم من مفتتح أمره إلى مختتمه ، وهذه الآية كالفذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد ، وخاف من عدم(3/161)
ج 3 ، ص : 162
القيام بأعبائها ، حتى إذا لقي اللّه تعالى في يوم الجزاء ربما مسّه نصيب من السؤال عنها ، فذكر القيامة في تلك السور أي هود وإخوتها كآل حميم وغيرها ، يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده اللّه تعالى له فيها ، وقد كررت الجملة الأولى من هذه الآية في الآية 14 من سورة الشورى الآتية ، وهذا لا ينافي عصمته عليه السلام وقربه من ربه ، لكونه الأعلم باللّه والأخوف منه ، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة ، فكأنها هي المشيبة له من بينها ، ولذا بدأ بها في جميع الروايات ، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة واللّه أعلم.
وسنأتي على تتمة هذا البحث في الآية الآتية إن شاء اللّه ثم خاطب جل خطابه الخلق أجمع بقوله «وَلا تَطْغَوْا» أيها الناس فتخرجوا عن حدود اللّه ، ولا تعلوا في الدين أيها المؤمنون فتتجاوزوا عما أمرتم به ونهيتم عنه فتغلبوا ولا تخالفوا أيها الناس أوامر اللّه فتعصوه في شيء ما ، ولا تنحرفوا بإفراط ولا تفريط ، فكلاهما ذميم ، وسماء اللّه طغيانا تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى اللّه عليه وسلم «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 113» قال ابن عباس ما نزلت آية على رسول اللّه أشد عليه من هذه الآية ، ولذلك قال شيبتني هود وأخواتها الحافة والواقعة والنبأ والغاشية والمرسلات وكورت وآل حم ، لكثرة ما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار.
واعلم أن هذه الآية الكريمة تؤذن بوجوب اتباع المنصوص عليه من الأحكام الشرعية دون انحراف ، وان أعمال العقل الصرفة بما يخالف المشروع طغيان وضلال ، أما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص الشرعية فهو من باب الاستقامة بمقتضى النصوص الآمرة بالاجتهاد.
مطلب الزجر عن مخالطة الظالم وأن الدين بين لامين والآية المدنية والصلوات الخمس :
قال تعالى «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بمخالطتهم ، أي لا تميلوا أيها المؤمنون إلى الظالمين ، ولا تحبوهم ، ولا ترضوا بأعمالهم المؤدية إلى غضب اللّه ولا تطيعوهم فيما يخالف دينكم ، فإنكم إن فعلتم شيئا من هذا «فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» وتذيب أعضاءكم بحرها ، لأن الركون إليهم رضا بأعمالهم التي قد تؤدي إلى الكفر ، (3/162)
ج 3 ، ص : 163
ولا شك أن الرضا بالكفر كفر ، والمحبة للشيء إلحاق به.
قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الآية 35 من التوبة في ج 3 ، قال الحسن : جعل اللّه الدّين بين لامين (ولا تطغوا ولا تركنوا).
وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك ، لأنهم يداهنونهم ويسكنون عن مظالمهم.
وقال الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى اللّه من عالم يزور عاملا.
وقال صلى اللّه عليه وسلم : من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى اللّه في أرضه.
وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء ، فقال لا ، فقيل له إنه يموت ، فقال دعه يموت.
أي إن كان انقضاء أجله معلق على عدم إعطائه هذه الشربة فدعه يموت وإلا فلا يموت وله شيء في الدنيا حتى نسمة الهواء إلا يستوفيها ، فقد جعله رحمه اللّه أدنى حالا من أدنى حيوان ، إذ النصوص الشرعية تقضي على من عنده ماء واحتاج للوضوء به وعنده كلب ظمآن بأن يسقي ما عنده من الماء ذلك الكلب ويتيمم بالتراب ، إذ في كل كبد حراء أجر ، وذلك اجتهاد من سفيان رضي اللّه عنه ، وهو أن بقاء الحيوان لا ضرر فيه على أحد ، وأن بقاء الظالم فيه ضرر ، ولهذا رجح الحيوان عليه.
وروي عن الموفق أبي أحمد بن طلحة العباسي ، أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه ، فلما أفاق قيل له ما بالك ؟ فقال هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم نفسه! لذلك ينبغي هجرهم وعدم التزيي بزيهم ، وعدم زيارتهم ، لما فيها من تعظيم ، وهو حرام ، وينبغي لمن لا يخاف من شرهم أن يهبنهم ولا يجالسهم إلا لمعذرة شرعية ، ولقضاء مصلحة من لا ناصر له.
هذا ، واعلم أن خطاب اللّه تعالى حضرة رسوله بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبت عليها والتأكيد على ملازمتها لأنه من مقتضاها.
والحث على الدوام والثبات عليها من واجبات المسلمين لبعضهم وعلى بعضهم ، وانه يجب على كل فرد أن يتحلى بها في بيعه وشرائه ، وأكله وشربه ، ولبسه ومحبته ، ومع أصحابه ، وسائر معاملاته مع ربه وأهله والناس أجمعين ، فإن الدين المعاملة أي حسنها وسلامتها من الشوائب ، لأن المراد من جملتها عماد الدين حسن المعاملة ، كما أن الدين النصيحة للّه ولرسوله والناس أجمعين ، لأن المعاملة والنصيحة جزء عظيم من أمور الدين لا معظمه ، مثل الحج عرفة ، (3/163)
ج 3 ، ص : 164
لأن الوقوف بعرفات معظم الحج ، وبغيره لا يسقط الفرض ، بل هذا من قبيل الناس تميم ، والمال الإبل ، والطعام اللحم ، إلى غير ذلك ، فإذا تحلّى العاقل بالصفات المارة في معنى الاستقامة دخل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) الآية 30 من فصلت الآتية ، فمثل هؤلاء يموتون ميتة سعيدة هنيئة ، ويخاطبون ربهم دلالا ، فيقولون له يا ربنا ما حال أولادنا بعدنا ؟ فيقال لهم «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
عليهم نتولاهم بذاتنا بعدكم «وَفِي الْآخِرَةِ»
نتولاكم وإياهم في جنتنا» (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ)
من جميع الملاذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ)
من كل ما تريدونه وتقر أعينكم به ، قال تعالى «وَما لَكُمْ» إذا لم تستقيموا على الطاعة والعمل الصالح وتجتنبوا الطغيان والركون إلى الظلمة «مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» يمنعونكم من عذابه إذا حل بكم في الدنيا والآخرة «ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ 114» أبدا ولا تظفرون بمطلوبكم ولا تفوزون بنجاح مهماتكم ، ولا شك أن هذا الخطاب مقصود به المؤمنون كما ذكر آنفا ، وأنه تغليظ أو تغليب لحال المؤمنين عليه صلى اللّه عليه وسلم وإلا فهو معصوم من الطغيان ومن الركون إلى الظلمة والظلم كليته وجزئه.
وهذه الآية المدنية الأخيرة من هذه السورة قال تعالى «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» غدوة وعشية ، فدخل فيها الصبح والظهر والعصر «وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» أقرب ساعاته وزلف بمعنى قرب فيدخل فيه المغرب والعشاء «إِنَّ الْحَسَناتِ» التي أعظمها الصلوات الخمس «يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» على اختلاف أنواعها بمنه وكرمه إذا شاء وأراد «ذلِكَ» إشارة إلى قوله استقم فما بعده «ذِكْرى » عظيمة لمن يتذكر وعظة كبيرة لمن يتعظ في مغزى الأمرين والنّهيين المارين وفيها نفع جليل «لِلذَّاكِرِينَ 115» اللّه تعالى في جميع أحوالهم ، لأن ذكر اللّه يمنع من مخالفته.
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ، وفي رواية أصاب منها كل شيء إلا الجماع ، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر له ذلك فنزلت هذه الآية ، وكانت هذه الحادثة في المدينة ، فقال الرجل هو هو أبو اليسر الأنصاري يا رسول اللّه الي هذه الآية ؟ قال لمن عمل بها من أمتي.
وفي رواية قال رجل(3/164)
ج 3 ، ص : 165
من القوم يا نبي اللّه هذه له خاصة ؟ قال بل للناس كافة.
وهذا مما يؤيد أن الأسباب لا تقيد الآيات فإنها وإن نزلت بمعين فمعناها يبقى عاما شاملا غيره.
هذا وما ذكرناه قبلا بمناسبة الآيات المدنيات بأنها كالعترضة قبلها وبين ما بعدها لا يمنع أن تشير إلى ما قبلها من الآيات كهذه ، لأنها لم تأت إلا لمناسبة ، وكذلك الآيات المكيات في السور المدنيات ، وكذلك بين السور.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن.
زاد في رواية : ما لم يغش الكبائر.
وزاد في أخرى : ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
وروى البخاري عن جابر قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات.
قال الحسن وما يبقى من الدرن.
وروى الترمذي عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي اللّه عنهما عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
اتق اللّه حيثما كنت ، واتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن.
وقال العلماء الصلوات والأعمال الصالحة تكفر الذنوب الصغائر ، استنباطا من هذه الأحاديث.
أما الآية فهي عامة للصنفين ، إلا أن جمهور العلماء خصّوها بالصغائر ، وقالوا أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة النصوح.
وسنأتي على ذكرها في سورة التحريم في ج 3 إن شاء اللّه تعالى القائل «وَاصْبِرْ» يا أكرم الرسل على أذى قومك وما تلاقيه منهم وعلى القيام بما أمرت به من الاستقامة وأداء ما افترضته عليك ، وأحسن لمن أساء إليك «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 116» لأنفسهم ولربهم بالإحسان إلى عباده والناس أجمعين ، بل يجازيهم عليه جزاء حسنا وافيا.
وانظر رعاك اللّه إلى بلاغة هذه الآيات الجليلة (وكل آياته جليلة ، إلا أن بعضها أبلغ من بعض ، كما أن منها الحسن والأحسن) راجع الآية 5 من سورة يوسف والآية 55 من الزمر الآتيتين ، كيف أفرد بخطابه جل خطابه أوامر أفعال الخير لحضرة الرسول ، وإن كانت في المعنى عامة له ولأمته ، وجمع أوامر النهي لصرفها لامته تعظيما لشأنه وإجلالا لقدره ، وكل منها يفيد المعنى المطلوب.
قال تعالى «فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ» الذين أهلكناهم «مِنْ قَبْلِكُمْ» يا أمة(3/165)
ج 3 ، ص : 166
محمد ، وكلمة لولا للتحضيض وكذلك أخواتها لوما ولو وأما ولما وإذا وكلما ، وكل منها يقيد الشرط ويحتاج للجواب ، لكنها لا تجزم ، وكلمات التحضيض كهذه تختص بالمضارع ، وكذلك أحرف العرض كألا وأما ، أما إذا كانت للتوبيخ والتذميم فتختص بالماضي كقوله تعالى (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) وقوله (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) الآيتين 12/ 16 من سورة النور في ج 3 ، وغيرها كثير في القرآن أما كلما ولما فلا تدخلان إلا على الماضي هذا واسم كان المارة «أُولُوا بَقِيَّةٍ» من فضل وخير وتقى ورأي سديد وعقل رشيد ، وأطلقت البقية على هذه الألفاظ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فيصطفيه لنفسه ويدخره ، ومن هنا يقال فلان من بقية القوم أي خيارهم ، وعليه فسّر بيت الحماسة :
إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم فما على مذنب عندكم فوت
ويقال في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ، وقرىء بقية على وزن صورة مصدر بقي يبقى كرضي يرضى بمعنى راقب وانتظر ، وعليه يكون المعنى فهلا كان لهم ذو ابقاء لنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط اللّه وعقابه «يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ» ويقيمون العدل فيها لما أهلكناهم ولكن لم يكن فيهم جماعة من أولى النهى والدين ينهى عن الفساد ، وفي هذه الآية تعجب من اللّه لرسوله وأمته بأن الأمم السالفة لم يكن فيهم من يزجر عن المعاصي ويحذر من عاقبة السوء ، ومثل هؤلاء في عداد من قال اللّه تعالى فيهم (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) الآية 78 من سورة المائدة ج 3 ، ولو كان لرفعوا عن قومهم العذاب وإنما أهلكوا لعدم وجود من يأمر بمعروف وينهى عن منكر ، وإيذان بأن أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيهم من يقوم بذلك ، كيف لا وقد قال صلى اللّه عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه أي بقيام الساعة.
ولهذا لم يهلكهم إهلاك الأمم المكذبة استئصالا «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا» استثناء منقطع ، أي لكن قليلا منهم وهم الذين آمنوا بالرسل أنجيناهم مع رسلهم ، لأنهم كانوا عونا لهم في النهي عن الفساد وسائرهم تاركون له ، ومن في قوله ممن للبيان لا للتبعيض ، لأن النجاة للناهين وحدهم بدليل قوله (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ(3/166)
ج 3 ، ص : 167
ظَلَمُوا)
الآية 165 من الأعراف في ج 1 «وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ» من النعم وترفهوا فيه من الشهوات وحب الرياسة ، ورفضوا الأمر بالمعروف ونبذوا النهي عن المنكر ، وأعرضوا عن حق اللّه فجعلوه ظهريا.
والترف التوسع في النعمة ، وقد يتعدى به إلى ما لا يحل ، قال تعالى (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها)
الآية 16 من الإسراء في ج 1 «وَكانُوا مُجْرِمِينَ 117» بعملهم ذلك فحكم اللّه عليهم بالعذاب لارتكابهم الجرائم وأعظمهم الكفر.
قال تعالى «وَما كانَ رَبُّكَ» يا سيد الرسل «لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ» منه والتنوين للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم ويراد منه تنزيه اللّه تعالى عن ذلك على أبلغ وجه ، وإلا فلا ظلم منه أصلا فيما يفعله بعباده ، كائنا ما كان لما علم مما مر من قاعدة أهل السنة والجماعة الملمع إليها في الآية 92 من سورة يونس المارة وفي مواضع كثيرة في الجزء الأول.
مطلب لا يجوز نسبة الظلم إلى اللّه وأن الأمر غير الإرادة :
واعلم أنه لا يجوز نسبة الظلم إلى اللّه تعالى بوجه من الوجوه ، لأن ذلك محال ، قال صاحب الزبد :
وله أن يؤلم الأطفالا ووصفه بالظالم استحالا
لأن الكل ملكه ولا يعد المتصرف بملكه ظالما كيفما كان تصرفه «وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ 118» في أعمالهم ولكن يهلكهم لكفرهم وركوبهم المعاصي والإفساد فيها ، وقال بعضهم إن الظلم هنا يراد به الشرك ، وعليه يكون المعنى أنه لا يهلك أهل القرى بسبب الشرك الذي هو أعظم مناوأة للوحدانية إذا كانوا مصلحين في معاملتهم أنفسهم ، وغيرهم ، ويجرون الحقوق لأهلها ، ويتحاشون مضرة أنفسهم ومضرة الناس ، والواو في صدر الجملة للحال.
واعلم أن المراد بالإهلاك على الوجهين عذاب الاستئصال في الدنيا ، أما عذاب الآخرة فلا مناص منه ، ومن هنا قال بعض الفقهاء إن حقوق اللّه مبنيّة على المسامحة إذ قد يشملها عفوه الضافي وكرمه الوافي ، وحقوق العباد مبنية على المشاححة أي التضييق والتشديد.
وعليه جاء المثل : (3/167)
ج 3 ، ص : 168
الملك يبقى مع الكفر والمعاصي ، ولا يبقى مع الظلم والجور.
وهذان أي قول الفقهاء والمثل مأخوذان مما رواه الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية (وَما كانَ رَبُّكَ) إلخ ، فقال : وأهلها ينصف بعضهم بعضا.
وأخرج هذا الحديث ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا ، ولم أقف على صحته.
قال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ» يا أكرم الرسل «لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» على دين واحد وشريعة واحدة ، لكنه جل أمره لم يشأ ، كما أنه تعالى قال (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) الآية 13 من سورة السجدة الآتية ، ولكنه لم يشأ أيضا ، إذ لا يفعل أحد الطاعة إلا بمشيئته ورضاه ، ولا يقدر على فعل المعصية إلا بمشيئته وقضاه ، ولهذا قال «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» باعتقادهم أديانا شتى وشرائع مختلفة وعبادات متباينة «إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» منهم ، فإنهم يتفقون على دين واحد وعبادة واحدة وشريعة واحدة ، كما يأمرهم نبيهم وكتابهم المنزل إليه من ربهم «وَلِذلِكَ» لأجل بقائهم مختلفين «خَلَقَهُمْ» ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير كما هو في علمه الأزلي ، لأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه ، والتعذيب والإثابة ليس إلا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي ، وربما يرجع هذا في الآخرة إلى أن التعذيب والإثابة اللذين هما من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب والمثاب في نفسه ، ومن هنا قالوا إن المعصية والطاعة أمّارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيان لها ، فيندفع قول القائل بأنه إذا كان خلقهم لذلك فلم يعذبهم ، واستدل في هذه الآية على أن الأمر غير الإرادة ، وأنه تعالى لم يرد الإيمان به من كل ، وأن ما أراده سبحانه بحسب وقوعه ، وقدمنا في الآية 12 من سورة يونس المارة ما يتعلق في هذا البحث فراجعه.
وذكر بعض العارفين أن منشأ تشبيب سورة هود له صلى اللّه عليه وسلم اشتمالها على أمره بالاستقامة على الدعوة مع إخباره بأنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف ، وأنه لا يشاء اجتماعهم على دين واحد ، وقد حقت «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» على ذلك الوجه ، ونفذ قضاؤه بالوعد للسعداء بالجنة ، والوعيد للأشقياء(3/168)
ج 3 ، ص : 169
بالنار ، طبقا لما هو مدون في كتابه ، وحق أمره بذلك ، وهو قوله للملائكة أزلا وعزتي وجلالي «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ» الهاء فيها للمبالغة ، وهي والجن بمعنى واحد ، أما من قال إن الجن يقع على الواحد فتكون الجنة جمعا له ويكون من الجموع التي يفرق بين مفردها وجمعها بالهاء مثل كمأة فليس بشيء ، لأن الحق أنه اسم جمع لا واحد له من لفظه والكمأة جمعها أكمؤ قال.
ولقد جنيتكم أكموء عساقلا ولقد نهيتكم عن نبات الأوبر
«وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» 119 من عصاتهم كما سبقت كلمته بملء الجنة من تقاتهم لما علم شرعا أن العذاب والوعيد مخصوصان بالكافرين والمصرين على المعاصي بدليل قوله تعالى في الآية 18 من الأعراف المارة في ج 1 (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).
والنعيم والوعد مخصوصان بالمؤمنين لقوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جنات تجري) إلخ الآية 10 من سورة المائدة في ج 3 وهي مكررة كثيرا في القرآن باللفظ والمعنى ، والقرآن يفسر بعضه بعضا فما قيل إن ظاهر الآية يقضي بدخول الفريقين جهنم ، قول واه يخالف آيات اللّه وأخبار رسوله التي لا تقبل التأويل والتفسير ، وليس للرأي فيها مدخل ، ولهذا البحث صلة في الآية 14 من سورة السجدة الآتية فراجعه.
قال تعالى «وَكُلًّا» مفعول مقدم والتنوين للعوض عن المضاف إليه أي وكل نبأ «نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ» السالفين قبلك ، وهو بيان لكلا ويبدل منها قوله تعالى «ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك وتتأسي بأخبارهم معهم ليسهل عليك تحمل أذاهم «وَجاءَكَ» يا حبيبي «فِي هذِهِ» السورة العظيمة كما جاءك في غيرها من القصص «الْحَقُّ» الواضح الصريح الذي لا يغير ولا يبدل وكل ما جاء في القرآن فهو حق ثابت ، وخصصت هذه السّورة العظيمة كما جاءك في غيرها من القصص «الْحَقُّ» الواضح الصريح الذي لا يغير ولا يبدل وكل ما جاء في القرآن فهو حق ثابت ، وخصصت هذه السّورة به تشريفا وتكريما «وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» 120 جاء فيها أيضا ، فإذا تذكر قومك أحوال الأمم السالفة وكيفة إهلاكهم وأسبابه واتعظوا وتذكروا وأخبتوا إلى ربهم
«وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» من قومك وغيرهم ، لأنك مرسل لجميع الخلق بمقتضى الآية 158 من سورة الأعراف المارة في ج 1 وما ترشدك إليه من الآيات على سبيل التهديد(3/169)
ج 3 ، ص : 170
«اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم وما تتمكنون أن تعملوه ، وهذا الوعيد تهكم بسوء عاقبتهم إذا بقوا مصرين على ما هم عليه على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 47 من سورة فصلت الآتية «إِنَّا عامِلُونَ 121» دائبون على ما أمرنا به «وَانْتَظِرُوا» بنا ما تتصورونه أن يقع بكم من الدوائر «إِنَّا مُنْتَظِرُونَ 122» ما يحل بكم من العذاب وينتقم منكم كما انتقم ممن قبلكم أمثالكم المكذّبين «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من كل ما يقع فيها وفوقها وتحتها ، ومن كان كذلك فلا يخفى عليه شيء من أعمال من هو بينهما وأعلاهما وأسفلهما «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» فيما يتعلق فيكم وفي غيركم ، وعليه فلا بدّ من مصيركم إليه فينتقم من الكافر ، وينعم المؤمن ، ثم التفت إلى صفيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال عزّ قوله وأنت يا أكمل الرسل «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» فهو كافيك وكافلك ، وقد جاء في الحديث الشريف من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه تعالى.
ولا شك أنه صلى اللّه عليه وسلم متوكل على ربه حق التوكل ، وإنما يراد منه الدوام والاستمرار ، أي فداوم على ما أنت عليه يا سيد الرسل ولا تبال بالذين لا يؤمنون بك ، ولا يضيق صدرك من تكذيبهم «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 123» أنت ومن آمن بك وأمتك كلهم مؤمنهم وكافرهم ، لأن أعمالكم جميعا يحصيها عليكم ويجازيكم عليها السيء بمثله والحسن بأمثاله.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد غير الموفق غافل عن عمله لا يدري ما يفعل به ، حتى إذا وقع أمر اللّه به انتبه فندم من حيث لا ينفعه الندم.
أجارنا اللّه من ذلك.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
تفسير سورة يوسف
عدد 3 - 53 و12
نزلت بمكة بعد سورة هود عدا الآيات 2 و3 و7 فإنهن نزلن بالمدينة ، وهي مئة واحدي عشرة آية ، ومثلها في عدد الآي سورة الإسراء فقط ، وألف وستمئة كلمة ، وستة آلاف وستون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.(3/170)
ج 3 ، ص : 171
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «الر» تقدم ما فيه أول سورتي هود ويونس المارتين فراجعهما وما يرشدانك إليهما «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ» الأزلي المدون في اللوح المحفوظ «الْمُبِينِ» 1 لكل شيء من علوم الدنيا والآخرة.
وهاتان الآيتان المدنيتان من هذه السورة ، قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» سمي بعض القرآن قرآنا لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير ، وكما يطلق على الكل يطلق على البعض ، ولا يرد ما قيل إن بعض كلماته أعجمية في الأصل على قوله عربيا كاليم والقسطاس وغيرهما ، لأنها عربية قبل نزول القرآن والعرب يتكلمون بها قديما بما يدل على أن الأصل استعمالها في اللغة العربية والأعاجم أخذوها منها كغيرها من الكلمات المستعملة عندهم ، راجع الآية 182 من الشعراء المارة في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا البحث مستوفيا ، وقد يكون بعضها من باب توارد اللغات كما يكون في الشعر أحيانا من باب توارد الخاطر ، وسبب إنزاله باللغة العربية «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» 2 معانيه وتتدبرونها فتعلمون المراد منها ، ولو أنزله بلغة أخرى لا حتججتم وتقدمتم بالأعذار من عدم فهمه وصعوبة تعلمه ، فيا أكمل الرسل إنا «نَحْنُ» إله السموات والأرض «نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» في هذه السورة قصة واقعة قبل زمنك مدونة في الكتب القديمة ، ولكن كل ما نقصه في هذا القرآن أحسن مما قصصناه قبل وأوسع وأصح ، لأن الكتب الموجودة لعبت فيها أيدي غير طاهرة فبدلت وغيرت فيها لذلك لا يعتمد على ما جاء فيها إذا كان مخالفا لما في هذا القرآن ، وقد قصصناها عليك الآن كاملة لنقصها على قومك لما فيها من العبر والحكم ، والنكت ، والفوائد الدينية والدنيوية ، وسير الملوك ، والمماليك ، والعلماء ، ومكر النساء ، والصبر على الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء ، والعفو عند المقدرة ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الآداب ، بصورة
مفصلة لم يعلمها غيرك ، كما سنقص عليك في غير هذه السورة قصصا أخرى غير ما تقدم لتحيط علما بما كان وما سيكون من علمنا الأزلي.
قال خالد بن سعداه : يتفكه أهل الجنة بسورة يوسف وسورة مريم وسماعهما يريح كل محزون.
والقصص بفتح القاف اتباع الخير(3/171)
ج 3 ، ص : 172
بعضه بعضا ، وبالضم جمع قصة وهي الحكاية تذكر شيئا فشيئا ، أي إنا نبين لك يا أكرم الرسل أخبار الأمم الماضية أحسن بيان ، ولذلك قال أحسن القصص وكل قصص القرآن حسن ، وفيه ما هو أحسن ، قال سعد بن أبي وقاص : أنزل القرآن على رسول اللّه فتلاه على أصحابه زمانا ، فقالوا يا رسول اللّه لو قصصت علينا ، فنزلت هذه السورة.
وقيل إن كفار مكة أمرتهم طائفة من اليهود أن يسألوا رسول اللّه عن السبب الذي أحل بني إسرائيل في مصر ، فسألوه ، فنزلت.
وقيل قالت اليهود لمشركي مكة صلوا محمدا عن أمر يعقوب وقصة يوسف مع اخوته ، وكانت عندهم بالعبرانية ، فأنزل اللّه هذه السورة ليفهمها للعرب.
وقدمنا في المقدمة أن القرآن منه ما نزل بسبب أو على سؤال أو حادثة ، ومنه ما نزل بغير ذلك ، فلا يشترط للنزول سبب ، بحيث لم ينزل بشيء من القرآن إلا بسبب ، تدبر «بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ» قبل نزوله وإيحائه إليك «لَمِنَ الْغافِلِينَ» 3 عنه يا محمد وعما فيه من أخبار الأمم الماضية ، وقصص الأنبياء ، وكيفية الخلق مما لم يخطر ببالك أننا ننزل عليك وحينا ولم تتصور إخبارنا لك عن عجائب أخبار الأولين.
وما في صدر الآية مصدرية ، وإن مخففة من الثقيلة ، واللام في لمن الفارقة بينها وبين ان النافية ، انتهت الآيتان المدنيتان الأوليان.
قال تعالى واذكر يا محمد لقومك «إِذْ قالَ يُوسُفُ» وهو الكريم بن الكريم بن الكريم «لِأَبِيهِ» يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام المتصل نسب سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم إليه وهو :
نسب كان عليه من شمس الضحى نورا ومن ضوء الصباح عمود
«يا أَبَتِ» بتاء التأنيث المعوضة عن ياء الإضافة لتناسبها ، لأن كل واحدة منها زائدة في آخر الاسم ، ولهذا تقلب هاء بالوقف ، وجاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر كما في رجل ربعة ، وكسرت التاء لتدل على الياء المحذوفة ، ومن فتح التاء فقد حذف الألف في يا أبتاه ، واستبقى ما قبلها كما فعل في حذف الياء في غلام ، ومقول القول قوله «إِنِّي رَأَيْتُ» رؤيا منامية.
واعلم أيها القارئ أنا سنأتي على هذه القصة تدريجيا بحسب نزولها ليكون أوقع في النفس وأقرب للفهم ، وأخصر للفظ ، وحذرا من تكرارها ، فتدبرها تباعا من أولها في هذه الآية إلى آخر(3/172)
ج 3 ، ص : 173
الآية ...
منها «أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» 4» جمعها جمع من يعقل وقال رأيتهم ولم يقل رأيتها لأنه أخبر عنها بفعل العقلاء كقوله تعالى «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» الآية 18 من سورة النمل في ج 1 لتنزيلها منزلة العاقل ، ومثل هذا كثير في القرآن حتى في الأصنام لهذه العلّة «قالَ يا بُنَيَّ» صغّره تعظيما له وشفقة عليه أو لعذوبة اللفظ وقال له «لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ» هذه الآن «عَلى إِخْوَتِكَ» فإن لها مغزى عظيما وأخاف إذا قصصتها عليهم أن يحسدوك عليها لما يتخيلون من معناها «فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» عظيما يخشى عليك من عاقبته ، أمره عليه السلام بكتمان رؤياه ، لأنه عرف من معناها أن اللّه تعالى يصطفيه لنبوته وينعم عليه في الدارين ، وإن لها عاقبة حسنة ، فحذرا من أن يتفرس إخوته بتأويلها فيغاروا منه فيحتالوا عليه فيهلكوا ، لأنهم وإن كانوا عقلاء فلا يؤمن عليهم من اتباع وساوس الشيطان ، لذلك قال «إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ» أراد جنسه ليشمل كل أفراده الأنبياء ، فمن دونهم قبل نبوتهم ، لأنه بعدها لا تأثير له عليهم لعصمتهم من قبل اللّه «عَدُوٌّ مُبِينٌ» 5 عداوته لأنه لم يخفها منذ أظهرها لآدم عليه السلام ، وإنما قال يا بني بالتصغير حنانا عليه ورأفة به ، لأنه كان يحبه حبا مفرطا أوجب حسد إخوته له قبل الرؤيا ، فإذا سمعوا هذه الرؤيا يزداد حسدهم ويفتح لهم الشيطان باب التزيين لإهلاكه.
ولهذا خاف عليه من أن يبيّن لهم نتيجة محبة أبيه وما يؤول أمرهم منها ، ويحسن لهم التخلص منه وبين لهم سبلها قبل أن يكبر فيعجزوا عنه ويسيطر عليهم.
مطلب في الرؤيا وماهيتها وما يفعل رائيها وفي الحواس العشرة :
روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول الرؤيا الصالحة من اللّه ، والرؤيا السوء من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم ما يحبّ فلا يحدث بها إلا من يحب ، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا.
ويتعوذ باللّه من الشيطان الرجيم وشرّها فإنها لا تضره.(3/173)
ج 3 ، ص : 174
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبّها فإنها من اللّه فليحمد اللّه عليها وليحدث بها (أي من يحب حملا للمطلق على المقيد لأن الحديث الأول قيد التحدث بها لمن يحبه الرائي) وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنها من الشيطان فليستعذ باللّه من الشيطان ومن شرها ، أي ويفعل كما فعل بالحديث السابق ولا يذكرها فإنها لا تضره.
وروى مسلم عن جابر رضي اللّه عنه قال إن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ باللّه من الشيطان الرجيم ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه.
لم نعرف نحن مدخلية البصق على اليسار والتحول عن الجنب الذي كان عليه لكن القائل يعرفه حق المعرفة لأنه لا ينطق عن هوى ، فعلى العاقل أي يفعل ما أمره به نبيه وحبيبه صلى اللّه عليه وسلم ، فهو سبب السلامة من المكروه الذي يراه ، كما أن الصدقة سبب للوقاية في المال والجسم ودفع البلاء وأخرج الترمذي وأبو داود عن أبي ذر العقيلي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة.
وفي رواية من ستة وأربعين وهي على رجل طائر ما لم تعبّر ، فإذا عبرت وقعت ولا نقصها إلا على وادّ وذي رأى.
وهذه الرؤيا التي تحتمل وجودها ، فإذا عبر بأحدها وقع واللّه أعلم.
وقدمنا أول الإسراء في ج 1 والآية 142 في الأعراف في ج 1 أيضا ، وفي الآية 94 من سورة يونس المارة ما يتعلق بهذا البحث فراجعه ترشد إلى المواقع المتعلقة في هذا البحث وفي رؤية اللّه عز وجل أيضا ونزيدك هنا إيضاحا ، فاعلم رعاك اللّه ان حقيقة الرؤيا خلق اللّه في قلب المؤمن النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان ، وجعلها علما على أمور أخرى يجعلها في ثاني الحال وهو يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة ، وماهيتها عبارة عن ارتسام صورة المرأى وانتقاشها في مرآة القلب في النوم ، فيحتفظ بها المؤمن بعد اليقظة ، راجع الآية 60 من سورة الإسراء في ج 1.
واعلم ان الحواس ظاهرة وباطنة ، فالظاهرة خمس :
السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، والباطنة خمس أيضا : المفكرة والذاكرة والحافظة والمخيلة والواهمة والحس المشترك ، وتسمى هذه الحواس والحس المشترك(3/174)
ج 3 ، ص : 175
المعدود في الباطنة قوى ، ويسميها المناطقة والمتكلمون العقول العشرة ، ولكل واحدة منها كوكب يضيء يدرك به معنى يناسبه سواء في اليقظة أو في النوم.
وقال علماء الصوفية الرؤيا من باب العلم ولكل علم معلوم ، ولكل معلوم حقيقة ، وتلك الحقيقة صورته ، والعلم عبارة عن وصول تلك الصورة إلى القلب وانطباعها فيه ، سواء كان في النوم أو في اليقظة ، فلا محل له غير القلب ، ولما كان عالم الأرواح متقدما في الوجود والمرتبة على عالم الأجسام ، وكان الإعداد الرباني الموصل إلى الأجسام موقوفا على توسط الأرواح بينها وبين الحق ، وتدبير الأجسام مفوض إلى الأرواح وتعذر الارتباط بين الأرواح والأجسام للمباينة الذاتية الثابتة بين المركب والبسيط ، فإن الأجسام كلها مركبة والأرواح كلها بسيطة ، فلا مناسبة ولا ارتباط بينهما ، وما لم يكن ارتباط لا يحصل تأثير ولا تأثر ، ولا إمداد ولا استمداد ، فلذلك خلق اللّه تعالى عالم المنازل برزخا جامعا بين عالم الأرواح وعالم الأجسام ليصبح ارتباط أحد العالمين بالآخر ، فيتأتى حصول التأثير والتأثر ووصول الامداد والتدبير ، وهكذا شأن روح الإنسان مع جسمه الطبيعي العنصري الذي يدبره ويشتمل عليه علما وعملا.
ولما كانت المباينة ثابتة بين روح الإنسان وبدنه ، وتعذر الارتباط الذي يتوقف عليه التدبير ووصول المدد اليه خلق اللّه تعالى لنفسه الحيوانية برزخا بينهما أي بين البدن والروح المفارق ، فنفسه الحيوانية في ميزاتها قوة معقولة ، فهي بسيطة تناسب الروح المفارق ، ومن حيث انها مشتملة بالذات على قوى مختلفة متكثرة منبئة في أقطار البدن متصرفة بتصرفات مختلفة ومحمولة أيضا في البخار الضبابي الذي هو في التجويف الأيسر من القلب الصنوبري يتناسب المزاج المركب من العناصر.
فحصل الارتباط والتأثير والتأثر وتأنى وصول المدد ، فإذا علمت ما وضحناه لك أعلاه فأعلم أن القوى الخيالية التي في نشأة الإنسان من كونه نسخة من العالم المثالي المطلق كالجزء بالنسبة إلى الكل وكالجدول بالنسبة إلى النهر الذي هو مشروعه ، وكما أن طرف الجدول الذي يلي النهر متصل به فكذلك عالم الخيال الإنساني من حيث طرفه الأعلى متصل بعالم المثال ، والمثال نوعان مطلق ومقيد ، فالمطلق ما حواه العرش المحيط من جميع(3/175)
ج 3 ، ص : 176
الآثار الدنيوية والأخروية ، والمقيد نوعان : نوع مقيد بالنوم ، ونوع غير مقيد به مشروط بحصول غيبة أو فتور عما في الحس ، هذا وأول ما يراه الأنبياء عليهم السلام الصور المثالية في النوم والخيال في اليقظة ، ثم يترقّبون إلى أن يروا الملك في المثال المطلق والمقيد يقظة مع فتور في الحس وكونهم مأخوذين عن الدنيا عند نزول الوحي ، إنما هو مع بقاء العقل والتمييز ليس إلا ، ولهذا لم ينقص وضوءهم لأنهم عليهم السلام تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم ، كما جاء عنه صلى اللّه عليه وسلم في الصحيح ، وهذه ميزة اختص بها اللّه أنبياءه دون سائر البشر ، كما خصهم بالرسالة والنبوة ، فلا مجال لقول بذلك والسؤال عن السبب فيه ، لأنه من أفعال اللّه تعالى وأن أفعاله لا تعلل ، وإنما لم تنم قلوبهم تبعا لأعينهم مثلنا لأن بواطنهم متحلية بصفات اللّه متخلقة بأخلاقه ، مطهرة من أوصاف البشرية من كل ما فيه نقص ظاهر بالإضافة إلى ذروة الكمال ، فضلا عن كل ما يذم لأنه عجز وضعف وآفة ، ولو حلّت الآفة قلب النّبي الذي هو عمود بدنه الشريف لجاز أن يحل فيه سائر الآفات الأخرى ، من توهم في الوحي والغفلة عنه والسّآمة منه وفزع يمنعه عن واجب عليه ، وحاشاهم من ذلك ، وقد ذكرنا قبلا في مطلع هذا البحث أن الرؤيا عبارة عن اعتقادات يخلقها اللّه تعالى في قلب النائم ، وأن تلك الاعتقادات تكون علما على أمور أخر يخلقها اللّه في ثاني الحال أو حال اليقظة ، والحال الأول هو النوم وهذا قول الإمام محي الدين النووي رحمه اللّه نقلا عن المازني ، وتتمته فما يكون علما على ما يسر يخلقه اللّه تعالى بغير حضرة الشيطان ، وما كان علما على ما يضرّ يخلقه بحضرته أي عند الرائي فيسمى الأول رؤيا وتضاف اليه تعالى اضافة تشريف ، ويسمى الثاني حلما وتضاف إلى الشيطان كما هو الشائع من إضافة كل مكروه إليه ، وإن كان الكل من اللّه تعالى.
وهذا معنى ما جاء فى قوله صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا من اللّه والحلم من الشيطان لأن الرؤيا اسم للمحبوب ، والحلم للمكروه ، ولهذا لا ينبغي أن يقول رأيت حلما بل رؤيا.
وقال المحدثون إذا كانت الرؤيا صادقة فهي أحاديث الملك الموكل به أي النائم ، وإن كانت كاذبة
فهي وساوس الشيطان والنفس ، وقد يجمع بين قول المحدثين وقول المازني الذي نقله النووي بأن القصد من أنها اعتقادات إلخ أي اعتقادات تخلق(3/176)
ج 3 ، ص : 177
بواسطة الملك أو وسوسة الشيطان مثلا ، وقد تكون الرؤيا مما يحوك في صدر الرائي قبل النوم من أمور الدنيا والآخرة ، فتنطبع له بمثال خيالي في نومه.
واعلم أن المسببات في المشهور عن الأشاعرة مخلوقة له تعالى عند الأسباب لا بها ، تدبر.
وقال الفلسفيون الرؤيا انطباع الصور المنحدرة من أفق القوة المخيلة إلى الحس المشترك ، فالصادقة منها إنما تكون بالملكوت لما بينهما التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك ، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبها فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ، ثم إن كانت المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت عن التعبير وإلا احتاجت إليه.
واعلم أن الرؤيا كالرؤية من حيث الرسم ، والمعنى على القول الصحيح ، إلا أن منهم من خص الأولى بالنوم والثانية باليقظة وجعل الفرق بينها ، حرفي التأنيث كالقربى والقربة ، وذكرنا أول سورة الإسراء أن كلا منهما يطلق على الآخر فلا فرق بينهما ، وفيه تعليل نفيس فراجعه ، قال تعالى «وَكَذلِكَ» أي مثل ما اصطفى اللّه غيرك من الأنبياء «يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ» في الدنيا لإرشاد عباده وفي الآخرة لقربه في نعيم الجنان مما رفع منزلتك في هذه الرؤيا ، واجتباء اللّه تعالى للعبد اصطفاؤه له وتخصيصه بفيض إلهي يحصل له منه أنواع المعجزات أو الكرامات بلا سعي منه ، وهذا لا يكون إلا للأنبياء ومن يقاربهم من الصديقين العارفين «وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» التي يرونها الناس في منامهم بحيث يلقى ما تؤل به في قلبك ، فكان عليه السلام أعلم الناس في تأويل الرؤيا وإنما خصه اللّه تعالى بهذه الزيادة على عيره ممن تقدمه من الأنبياء ، كما خصّ كثيرا من أنبيائه بخصائص متباينة ، فالتي خصّها بهذا لم يعطها لغيره راجع الآية 14 من سورة النمل في ج 1 لأن خلاصه من السجن مقدر على تعبيره رؤيا الملك الآتية كما هو مقدر في سابق علمه «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ» الدنيوية التي نبشرك بها في الرؤيا «عَلَيْكَ» بنعمته الأخروية فيكمل لك نعمة النبوة ونعمة الملك في الدنيا ونعمة النعيم وتجلي المنعم في الآخرة «وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ» من أهله ونسله يتمها أيضا عليهم «كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ» يعقوب «إِبْراهِيمَ» حيث خلصه(3/177)
ج 3 ، ص : 178
من الإحراق وشرفه بالنبوة واتخذه خليلا وفدى ولده إسماعيل من الذبح «وَإِسْحاقَ» إذ أخرج من صلبه يعقوب ومن صلب يعقوب الأسباط الاثني عشر الذين أنت أجدهم وشرفهم بالنبوة ومنّ على أبيهم فجعله أبا الأنبياء كلهم من بعد نوح «إِنَّ رَبَّكَ» الذي رباك وحفظك مما قدره عليك «عَلِيمٌ» بمن يستحق الإعطاء والاصطفاء «حَكِيمٌ 6» يضع الأشياء مواضعها ، ولا يفعل شيئا إلا بحكمة وعن حكمة لحكمة وفي حكمة ، وقد حقق اللّه تعالى لسيدنا يوسف ذلك ، إذ تاب عليهم بعد فعلتهم به ، وحفظه منهم بعد أن هموا بقتله ، وردّه على أبيه بعد أن قارب قلبه اليأس منه وخلصهم جميعا من قشف البداوة وجعل فيهم الملك والنبوة ، وهذه الآية المدنية الثالثة من هذه السورة.
مطلب الآية المدنية ، وأسماء أخوة يوسف وأسماء الكواكب والكيد ليوسف منهم :
قال تعالى «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ» أي في خبرهم وقصتهم معه وهم شمعون ولاوى ويهوذا وزلبون ويشجز من ليّا زوجته يعقوب الأولى بنت ليّان بنت خاله ودان وتفتوتا وجاد واستين من جاريته زلفه وبلهة ويوسف وبنيامين من راحيل أخت ليا.
وأسماء الكواكب التي رآها في منامه هي : 1 أجريان 2 - والطارق 3 - والدنيال 4 - وقابس 5 - وعمودان 6 - والفليق 7 والصبح 8 - والضروع 9 - والفرخ 10 - ووثاب 11 - وذو الكتفين.
وهم كناية عن أخوته الأحد عشر المار ذكرهم ، والشمس والقمر عن أمه وأبيه ، وكان بين مبدأ الرؤيا وتحقيقها أربعين سنة ، إذ كان عمره حين الرؤيا اثنتي عشرة سنة ، وحين الإلقاء في البئر سبع عشرة سنة ، وحين الخروج ثماني عشرة سنة ، وحين الخروج من السجن أربعين سنة ، إذ أدخل فيه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ومكث في بيت العزيز خمس عشر سنة وحين السجود اثنتين وخمسين سنة ووقع خلال ذلك «آياتٌ» عظيمات وعبر وعظات «لِلسَّائِلِينَ 7» عنها أخيرا في المدينة المنورة وهم اليهود إذ وجدوها موافقة لما في كتبهم وأوضح وأنصح وأبلغ مما فيها ودلالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأنهم سمعوها منه وهو أمي فكانت برهانا على أنها وحي من اللّه(3/178)
ج 3 ، ص : 179
عز وجل بلا شك ولا شبهة وكون هذه الآية والآيتين قبلها 2/ 3 مدنيات مروي عن قتادة وابن عباس رضي اللّه عنهم ومثبت في الكتب التي ذكرناها بالمقدمة في بحث مأخذ هذا التفسير ، لذلك لا يلتفت إلى قول من قال أنهن مكيات والبينة تقام على الإثبات لا على النفي ، قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرسل تفاصيل هذه القصة التي كثر السؤال عنها «إِذْ قالُوا» أخوة يوسف إلى بعضهم واللّه «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ» بنيامين «أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ» أقسموا قسمين على جهتين أصابوا في الأولى هذه وأخطأوا في الثانية ، وهي «إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ 8» ظاهر في عمله هذا.
والعصبة الجماعة جمع لا واحد له من لفظه كالرمط والنفر والفلك والنساء ، والواو للحال أي كيف يكون هذا وهما اثنان ونحن جماعة ويفضلهما علينا ويحبهما أكثر منا مع أنه لا فائدة له منهما لصغرهما ، فكيف إذا كبرا ورأى منهما ما يرى منا الآن من المنافع والخدمة ونحن القائمون بمصالحه ، ونحن أحق بمودته منهما.
واعلم أن سبب هذه المودة والمحبة لهما لصغرهما ووفات أمهما أو لأمر تفرسه فيهما ، وهذا أقرب لأنه لو كان الحب بسبب الصغر لأحب بنيامين أكثر من يوسف ، ولكنه عليه السلام رأى فيه من مخايل الخير ما لم يره فيهم ، وزاد ذلك ما فهم من مغزى الرؤيا وليس هو بالصغير ليقال لصغره ، والصغير محبوب عند كل أحد ، قيل لابنة الحسن أي بنيك أحب إليك ؟ قالت الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يحضر ، والمريض حتى يشفى.
وقيل في هذا المعنى :
إن البنان الخمس أكفاء معا والحلي دون جميعها للخنصر
وإذا الفتي فقد الشباب سماله حب البنين ولا كحب الأصغر
وهذان البيتان وقبلهما بيتان للوزير أبي مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري.
هذا وأنه عليه السلام لم يفضله إلا بالمحبة القلبية ، وهي خارجة عن وسع البشر لأنها أمر باطني ، وليس في طوقه دفعها ، يؤيد هذا قوله صلى اللّه عليه وسلم اللهم هذا قسمي فيما أملك ولا قدرة لي على ما لم أملك.
وذلك لأنه من مقتضيات حس الأرواح التي هي من أمر اللّه وقد وقع منهم هذا قبل النبوة على القول المعتمد فلا يعد حسدهم(3/179)
ج 3 ، ص : 180
هذا لأخويهما ورمي أباهما بالعقوق المستفاد من قولهم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وإلقائهم أخاهم في البئر قادح في نبوتهم ، لأن العصمة بعد التشرف بالنبوة ، ويجوز قبلها أن يقع من النبي مثل ذلك ، وقدمنا ما يتعلق بعصمة الأنبياء في الآية 23 من سورة الأعراف والآية 2 من سورة طه في ج 1 وكذلك في الآية 15 من سورة القصص المارة فراجعها.
ثم بين تعالى ما قرّ عليه رأيهم من الكيد ليوسف بقوله «اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً» بعيدة بدلالة التنكير أي أن التخلص منه بأحد أمرين : إما بقتله أو تغريبه في مكان بعيد ، لأن التغريب يحصل به المقصود كالقتل وجرمه هين خفيف ، وقيل في هذا :
حسنوا القول وقالوا غربة إنما الغربة للأحرار ذبح
وقال بعضهم لبعض إذا فعلتم أحد هذين الأمرين بيوسف «يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» من يوسف وأخيه ويقبل عليكم بكليته لا يلتفت إلى غيركم ، والمراد بالوجه الذات ، قال تعالى (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) الآية 35 من سورة الرحمن في ج 3 ، ولفظ الوجه بهذا المعنى مكرر كثيرا في القرآن ، لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه فلذلك خص الوجه «وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ» أي تنفيذ الأمر الذي تجمعون عليه من أحد الأمرين «قَوْماً صالِحِينَ 9» بأن تتوبوا إلى ربكم من جرمكم فيعف عنكم «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ» هو يهوذا على الأصح لأنه صاحب مشورتهم وأحسنهم رأيا ، يدل عليه لفظ قائل المنوّن وإلا لقال أحدهم أو أكبرهم «لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ» لأن القتل جريمة عظيمة أخاف أن لا تغفر لكم ، وإذا كنتم لا بد فاعلين يا اخوتي خذوه «وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ» قعره المظلم وأسفله العميق.
والغيابة كل موضع ستر شيئا وغيبه عن النظر.
والجب البئر الكبيرة غير المطوية ، فإذا طرحتموه فيها حصل المقصود من تغريبه ، إذ قد «يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ» الواردين على الجب فيأخذونه إلى بلادهم ، هذا رأي لكم «إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ 10» به ما ترومون افعلوا ما أشرت به عليكم ، وهذا الجب معروف عندهم لذكره بال التعريفية ، قيل هو بئر بيت المقدس ، وقيل في الأزرق ، والأحرى أن يكون البئر الموجود الآن قرب صفد في فلسطين(3/180)
ج 3 ، ص : 181
المسمى حتى الآن ببئر يوسف ، فاستصوبوا رأيه مع أن فيه إشارة إلى عدم الفعل بدليل قوله (إِنْ كُنْتُمْ) إلخ ، أي إذا كنتم مصرين على الإيقاع بيوسف فافعلوا فيه ما ذكرت لكم فهو أهون جرما عند اللّه ، وفيه أمل ، ثم ذهبوا إلى يوسف وصاروا يرغبونه بالذهاب معهم إلى البرية وحسنوا له النزهة في البادية ، وأروه من اللطف والعطف ما حدا به أن يكلفهم بأن يقولوا لأبيهم ليأذن له بالذهاب معهم إلى المرعى ، وأنه هو موافق ومحبذ ذلك ، ويمنعه أدبه أن يتقدم لك بهذا ، وكان ما كان وجاءوا إلى أبيهم
«قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ» أنطقهم اللّه تعالى بما يوقع الريبة في قلب أبيهم ، حتى إذا وقع منهم ما يلام عليه يلوم نفسه ، لأنهم لم يقولوا له مالك لا ترسل يوسف معنا ، بل قالوا مالك لا تأمنا عليه ليذهب إلى المرعى يتسلى بين أزهار الأرض ويستنشق ريحها العذب مع رغبته بذلك ، لأنه كلفنا أن نستأذنك بالسماح له «وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ 11» فلا تخف عليه فإنا نشفق عليه ونريد له الخير ، ولا غرو إنه عليه السلام أحس منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه من إيماء هذه الآية ، ثم ألحّوا عليه بقبول رجائهم ، فقالوا «أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ» معنا في البرية الواسعة ليتمتع بنضارتها وبهجتها ، ومعنى الرتع الاتساع في الملاذ وأصله أكل البهائم في الخصب من الربيع ، ثم أكدوا له رعايتهم إليه وعنايتهم به ومناظرتهم إليه بقولهم «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 12» له من كل مكروه ، وكيف لا تكون له كذلك وفيه رضاك ولم يزالوا به راجين ليأذن لهم بأخذه ليتسع صدره بالتفرج على الصيد والرمي والجري الذي يفعلونه بالبادية ، وبعد أن أكدوا له مقالتهم بأصناف التأكيد ، إذ أوردوا الجملة اسمية وحلوها بأن واللام وأسندوا حفظه إليهم جميعا «قالَ» يعقوب عليه السلام «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ» أي مجرد ذهابكم به يؤلمني لشدة مفارقته علي وقلة صبري عن رؤيته ، وقرىء ليحزني بالإدغام ثم قال وإنه ليريبني أن تهملوه وتتركوه وحده بانشغالكم عنه بالرعي والصيد «وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ» وقرىء بالياء كما قرىء يأكله بدون همز ، ولم يأت لفظ الذئب بغير هذه السورة ، قالوا إنما قال هذا لأنه رأى في منامه ذئبا شدّ عليه ولم يعلم أن قوله هذا الذي(3/181)
ج 3 ، ص : 182
أنطقه به اللّه فيه تعليم لمكيدتهم ، إذ لم يقع في نجواهم شيء من هذا ولم يخطر ببالهم أن الذئب يأكل البشر إذ ذاك ، قال الشاعر :
ومن سرّه أن لا يرى ما بسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
ثم ألهمه اللّه زيادة على ذلك بأن بين لهم ما يعتذرون به فختم كلامه بقوله «وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ 13» لاهون بصيدكم ولعبكم ورميكم ، فقد لقنهم عليه السلام ما يحتجون به وما يعتذرون منه إليه وقد وقع هذا القول منه عليه السلام لأولاده لأن الأنبياء عليهم السلام لمناسبتهم التامة بعالم الملكوت تكون واقعاتهم واقعة ، ومن الأمثال : البلاء موكل بالمنطق.
أخرج أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تلقنوا الناس فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس ، فلما لقنهم أبوهم كذبوا ، فقالوا أكله الذئب.
والحزن ألم القلب لفقد محبوبه.
والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه «قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ 14» عاجزون هالكون إذا لم نقدر على حفظه من الذئب بل من الأسد ، كيف وهو أعزّ شيء عندنا ، فلما رأى عزمهم على حفظه وحزمهم على محافظته بعد أن أقسموا إليه بإزالة ما خطر بباله واطمأنوا على سلامته ورأى رغبة يوسف بالذهاب معهم ، عهد إليهم بمراقبته ، وتعهدوا إليه بذلك كله ، أذن لهم به ، ففرح يوسف لموافقة أبيه ولم يصدقوا متى ينقضي الليل ، فلما أصبحوا أخذوه معهم «فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ» إلى البادية وبعدوا عن العمران وصرفوا النظر عن قتله اتباعا لقول يهوذا صاحب مشورتهم «وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ» المار ذكره فعمدوا إليه وقبضوه وطرحوه فيه.
هذا ما قصه اللّه علينا في كتابه.
أما الأخباريون فقالوا لما بعدوا به عن العمران أظهروا له الجفاء والعداوة مما هو كامن في صدورهم ، طفقوا يضربونه ، وصار كلما استغاث بواحد منهم ضربه ، فلما رأى عزمهم على قتله شرع يصيح يا أبتاه لو رأيت ما نزل بيوسف من اخوته لأحزنك وأبكاك ، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك ، فأخذه روبيل وضرب به الأرض وجثم على صدره ليقتله ، فاستغاث بيهوذا فأدركته رحمة الأخوة ورقّ له ، فقال يا اخوتي(3/182)
ج 3 ، ص : 183
ما على هذا عاهدتموني فخلّصه من يده ، وقال ألقوه بالجب ، فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيّارة.
فذهبوا إلى بئر هناك ضيق الرأس واسع الأسفل فشدوه بحبل ودلوه فيه ، فتعلق بشفيرها وكانوا شلحوه قميصة ، فقال دعوه أستتربه ، فلم يفعلوا ، وقال لهم أتتركوني في هذه البرية وبهذا الجب فريدا وحيدا ؟! فقالوا له دع الشمس والقمر والكواكب يسترونك ويؤنسونك ، وأرسلوه في البئر وهو يستغيث بهم ولا مغيث ، ولما بلغ نصف البئر ألقوه إرادة موته ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ، وتركوه ورجعوا وقالوا إن ملكا أرسله اللّه إليه فحلّ وثافه ، وأخرج له صخرة من البئر فأجلسه عليها ، وقالوا إن يعقوب لما بعثه مع إخوته أخرج له قميص إبراهيم الذي كساء اللّه إياه في النار حين ألقي فيها وهو من الجنة ، فجعله في قبعته وجعلها في عنقه ، فأخرجه الملك وألبسه إياه ، فأضاء له الجب من بريقه ، وعذب ماء الجب ، وصار له غذاء وشرابا ، ولما نهض الملك ليذهب وكان جبريل عليه السلام قال له يوسف إذا خرجت استوحشت ، فقال له إذا رهبت فقل : يا صريخ المستصرخين ، ويا غوث المستغيثين ، ويا مفرج كرب المكروبين ، قد ترى مكاني ، وتعلم حالي ، ولا يخفى عليك شيء من أمري ، فقالها فاستأنس وحفته الملائكة.
قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ» في البئر حال صغره كما أوحينا إلى عيسى ويحيى من بعده في صغرهما ، وكان عمره سبعة عشرة سنة كما قدمناه في الآية 7 المارة «لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا» الذي فعلوه بك وأنت صاحب السلطة عليهم «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 15» أنك أنت يوسف كما أنهم لم يشعروا كيف آنسناك بالبئر وجعلنا ماءه لك طعاما وشرابا ، ولا يعلمون حينما يأتونك في مصر ليمتاروا لأهلهم وأنت عامل فيها ، ولا يعرفونك إذ يأتونها وأنت ملكها لطول العهد وعدم تصور أذهانهم بما تصير إليه إذ ذاك من علو الشأن وعظمة السلطان ولا يدرون بأنا أعلمناك بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا معك ، وفائدة هذا الوحي تطبيب قلبه وإزالة الهم عنه وغم الوحشة تقوية لجنانه ، وهذا الوحي إما بواسطة الملك الذي كان معه في البئر أو بإلهام من اللّه ، والأول أولى لما مر.
قالوا ولما أتموا فعلتهم هذه لم يروا ما يعتذرون به إلا ما لقنهم أبوهم ، فعمدوا إلى(3/183)
ج 3 ، ص : 184
ذبح سخلة ولطخوا ثوبه بدمها ليعرضوه إلى أبيهم علامة على صدقهم المموّه قال تعالى «وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً» تأخروا عن موعدهم كل يوم تبريرا لعذرهم وصاروا «يَبْكُونَ 16» بأعلى صوتهم عند ما دخلوا الدار ، فقال لهم يعقوب ما لكم هل أصاب أغنامكم شيء ؟ قالوا لا وإنما أصابنا ما هو أعظم ، فأحسّ هنالك وقال أين يوسف «قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ» في العدو والرمي في البادية «وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا» ثيابنا وزهابنا «فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» حال غفلتنا عنه «وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا» ونعلم أنك لا تصدقنا بهذا «وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ 17» حقيقة فيما ذكرناه لك من واقع الحال لشدة محبتك له بل قد تتهمنا بالكذب ، وقد تقدموا له بعدم تصديقهم لأنهم كاذبون مختلقون ما قالوه ، وقالوا له إن الدليل على صدقنا هو هذا المحكي عنهم بقوله تعالى «وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ» دم سخلة ، ومما يثبت كذبهم أن القميص غير ممزق ولا يعقل أن ذئبا يأكل إنسانا وهو لابس قميصه ولا يمزقه ، كما لا يعقل أنه نزع عنه القميص ثم أكله ، لذلك كذبهم «قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» عظيما أوقعتموه بيوسف ، فاذكروا إلي ما هو حقا ، قالوا لا غير ذلك ، وأنكروا عليه أمره وأصروا على أقوالهم ، فأعرض عنهم وقال «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» لا شكوى فيه إلا إلى اللّه ، ولا جزع ولا تحدث بالمصاب لغيره ، ولا تزكية للنفس «وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ» به على ما أنا عليه لا أطلب العون من غيره «عَلى ما تَصِفُونَ 18» من الكذب في أمر يوسف ، قال هذا إظهارا للتجلد وعزما على الصبر ، وتفويضا لأمر اللّه ، قال ابن الفارض :
ويحسن إظهار التجلد للعدى ويقبح غير العجز عند الأحبة
أي لا يحسن إظهار التجلد والصبر على صدمات الدهر مطلقا ، بل يحسن للأعادي ، أما عند الأحبة فيحسن العجز ، لأن إظهار التجلد عندهم قبيح جدا ، قال سحنون يخاطب ربه :
وليس لي في سواك حظ فكيفما شئت فاختبرني
قالوا فابتلاه اللّه تعالى بحصر البول ، فاعترف بعجزه ، فصار يطوف بسكك(3/184)
ج 3 ، ص : 185
بغداد ويقول للأولاد أدعوا لعمكم الكذاب يعني نفسه ، فعفا اللّه عنه.
وإنما كذبهم عليه السلام لأنهم احتجوا بما قاله لهم ، ولأنه وقع في خلده كذبهم ، ولأنه يعلم حنقهم عليه ، ولذلك فعلوا فعلتهم أول يوم ذهبوا به إذ لم يبق بوسعهم تصوّره ، عفا اللّه عنهم ، هلا صبروا عليه يوما أو أسبوعا ليرى صدقهم فيما تعهدوا به ، ثم يفعلوا فعلتهم هذه ، وإن مغزى قوله تعالى (أَنْ تَذْهَبُوا) وقوله (فذهبوا) ينمّ على ذهابهم به أي إهلاكهم إيّاه ، لو قدرهم اللّه عليه ، ولكن منعهم فألقوه في البئر وأوقع في قلوبهم أن هذا الإلقاء هلاك له ، وبعد أن رأوا من أبيهم ما رأوا برد صدرهم ، وقالوا قضي الأمر بهذه الكلمات وسيزول من صدره أولا بأول ، وقد تم ما أردناه وانصرفوا لعملهم ، قال تعالى «وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ» الذي يستسقي لهم الماء ، قالوا إنه مالك بن ذعر الخزامي من أهل مدين «فَأَدْلى دَلْوَهُ» في ذلك البئر لإخراج الماء لقومه ، فتعلق يوسف بالدّلو فلما خرج إلى فمه ورآه الوارد على أحسن صورة من الغلمان ، وقد جاء في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أعطي يوسف شطر الحسن ، قالوا وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه ، وإذا تكلم رأيت شعاع النور في ثناياه ، فلم يتمالك نفسه من شدة الفرح ، إذ «قالَ يا بُشْرى » خاطب أصحابه بعد أن ذهب به إليهم وهم قريب منه بقوله «هذا غُلامٌ» خرج مع الدلو فأمسكته وأتيت به إليكم ، أن ناسا خطفوه من أهله «وَأَسَرُّوهُ» خبأوه هنا وجعلوه «بِضاعَةً» ليبيعوه كي لا يعلم به أحد «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ 19» لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه ، فابتهج به كل السيارة وكل تمنى أن يكون له ، قالوا وكان أخوه يهوذا يتعهده الفينة بعد الفينة كلما يأتي قريبا من البئر لأجل المرعى وكان يأتيه بطعام خلسة عن أخوته فيطرحه في البئر ، ولم يعلم أنه ليس بحاجة إلى طعامهم ، إذ كفاه اللّه
بالماء ، وأنه جاء كعادته فنظر في البئر فلم يره ، وقد مضى على إلقائه ما يقارب السنة ، وإن إخوته الآخرين لم يعلموا يعمل يهوذا ولم يتعاهدوه وظنوا أنه قد هلك من وقته ، فلما لم يجده رجع وأخبر إخوته بالأمر ، فتحسس دمهم عليه وحدا بهم داعي حب الأخوة فندبهم إلى التحري عنه ، فأجابوه وأطاعوه وساروا في طلبه(3/185)
ج 3 ، ص : 186
يمينا وشمالا ، فوجدوه عند السيارة ، وتحدثوا بينهم عما يقولون ، فاتفقوا على أن قالوا هذا عبدنا أبق ونظروا إليه وهددوه بالقتل إن هو كذبهم ، فاعترف لهم بذلك خوفا منهم لما ذاق من ضرهم ، لا سيما وقد أشار إليه يهوذا بذلك وهو أرقهم عليه وأرأفهم به ، إذ لم ير العطف إلا منه ، وهو الذي خلصه من الذبح من يد روبيل ، وإذ ظهر للسيارة أنه عبد لهم بسكوته على قول إخوته وسكوته قبلا على قول الذي أخرجه من البئر طلبوا بيعه منهم ، فاتفقوا على ذلك.
مطلب جرائم إخوة يوسف وفائدة العفو وصلاح الوالدين وعظيم فضل اللّه تعالى :
قال تعالى «وَشَرَوْهُ» منهم «بِثَمَنٍ بَخْسٍ» ناقص عن قيمة أمثاله فيما لو فرض أنه عبد أو مبخوس حرام ، لأنه حر لا يجوز بيعه «دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» إشارة إلى قلتها ، قالوا هي ثلاثون درهما ، لأنهم كانوا يعدون ما دون الأربعين ، والأربعون أوقية فيزنونها وزنا ، وفي هذا المبلغ عينه دلّ يهوذا الأسخريوطي اليهود على عيسى ليغتالوه ، فألقى شبهه عليه ، رفداه اللّه به ، فقتل ورفع عيسى إلى السماء كما ستوضحه في الآية 58 من النساء في ج 3 ، «وَكانُوا فِيهِ» أي تساهل أخوة يوسف في أمره حتى جعلوه عبدا وباعوه بقيمة بخسة بما يدل على أنهم «مِنَ الزَّاهِدِينَ 20» فيه الراغبين عنه لبقاء حنقهم عليه ، قالوا وبعد أن قبضوا ثمنه من السيارة قالوا لهم استوثقوا منه لئلا يهرب منكم كما أبق منا ، قالوا وسبب بيعه لهم لأنهم لم يقدروا على أخذه من السيارة لكثرتهم ، ولم يقدروا على قتله بعد أن صار بأيديهم ، وتأسوا بقولهم قد حصل ما كنا نريده من تغريبه والذين أخذوه من أهل مصر ، وهي بعيدة عنا فيكون فيها بحكم المعدوم لعدم إمكان وصول خبره إلى أبيه ، فتركوه وذهبوا ولما وصلوا إلى مصر باعوه إلى العزيز خازن ملكها الريان بن الوليد بن يزوان من العماليق بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين ، هذا ولم يوقع اللّه في قلوب أخوته أن بيعه للسيارة قد يفضي إلى مجيئه أو إعلام أبيه به ، ولم يوقع في قلوبهم أن ردوه إلى أبيهم واعتذروا له وأزاحوا عن قلبه الغم والهم الذي حل فيه من أجله(3/186)
ج 3 ، ص : 187
بل أوقع في قلوبهم أنه صار بحكم الميت وأن حجتهم التي احتجوا بها لأبيهم تمت لئلا يظهر كذبهم لأمر أراده اللّه ، ولا يكون إلا ما أراده ، وقد اشتمل عمل أولاد يعقوب بأخيهم على عدة جرائم : 1 - قطيعة الرحم 2 - وعقوق الوالد 3 - وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له 4 - والغدر بالأمانة 5 - وترك الوفاء بالعهد 6 - والكذب 7 - وبيع الحر 8 - والافتراء بأنه عبد أبق منهم 9 وقصد القتل دون جرم 10 - واجتماعهم على هذه الخصال التي كل واحدة منها موجبة لغضب اللّه فضلا عن كذبهم على أبيهم فيما أخبروه به ، ومع هذا فإن اللّه واسع الرحمة عفا عنهم وشرفهم بالنبوة وبارك في ذريتهم وجعل فيها الملك والنبوة ، وذلك لصلاح والدهم وعفوه عنهم واستغفاره لهم واستغفار أخيهم لهم وعفوه عنهم حال القدرة ، فصلاح الوالدين نافع بالدنيا والآخرة
قال تعالى (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية 20 من الطور وبمعناها الآية من سورة المؤمن والآية 141 من سورة الكهف الآتيات ، ألا فلا يقنط أحد أو بيأس من رحمة اللّه ولو عمل ما عمل إذا تاب وأصلح ورد المظالم لأهلها ، راجع ما قدمناه في الآية 70 من سورة الفرقان ج 1 وهذا من عظيم فضل اللّه الذي ألمعنا إليه في الآية 12 من سورة القصص وقرىء يا بشراي أي على إضافة البشرى لنفسه ، أو على كونه اسم غلام عنده ، وبعضهم أعاد ضمير (وَشَرَوْهُ) إلى مالك المذكور وبعض رفاقه من السيارة ، أي خبأوه وجعلوه بضاعة ليبيعوه ويختصوا بثمنه دون بقية السيارة ، وبعضهم فسر (شَرَوْهُ) بباعوه ، وما مشبنا عليه أوفق لظاهر القرآن وأنسب للمعنى.
قال تعالى «وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ» بعد وصوله إليها واسمه قطفير ويلقب بالعزيز «لِامْرَأَتِهِ» زليخا بنت يمليخا وقيل راعيل بنت رعابيل ، ومقول القول «أَكْرِمِي مَثْواهُ» إقامته عندك وقدمي له أحسن الطعام والشراب واكسيه أفخر الحلل وا أمري له بألين الفراش لأن فراستي فيه عظيمة ونحن ليس لنا ولد «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا» في مصالحنا أو نربح به إذا أردنا بيعه «أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» إذا تبين لنا صلاحه ، وكان لا يولد لها وذلك لما رأى من سيماه وأخلاقه وما هو عليه من الحسن والأدب ، قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف ، وابنة شعيب في موسى ، (3/187)
ج 3 ، ص : 188
وأبو بكر في عمر حين استخلفه على الأمة عند موته رضي اللّه عنه «وَكَذلِكَ» مثل ما أنجينا يوسف من القتل وأخرجناه من البئر وعطفنا عليه قلب العزيز «مَكَّنَّا» جعلنا قرارا ومكانة ومقاما عظيما كريما «لِيُوسُفَ» الصديق الصابر «فِي الْأَرْضِ» من مصر تمكينا ثابتا ، وجعلنا له فيها منزلة راسخة عليه عند عزيزها حتى إنه أمر امرأته بإكرامه وعلمها بكرامته عليه دون سائر حاشيته وغرسنا حبه في قلبه وقلب زوجته حتى صار مقربا عندهما على غيره من الخدم وصارا ينظران إليه بصفة ولد «وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» بغير الرؤيا التي هي السبب في خلاصه ممّا سيبتلى به من السجن وبراءته مما يتهم به ، ونملكه على مصر ، إذ أن الملك سيفوضه بكل شيء ويقيمه مقامه كما سيأتي «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ» الذي شاءه ليوسف عليه السلام ، وهو المتولي عليه لا يكله إلى غيره حتى يبلغ منتهاه من الدارين ، وهو الذي يفعل ما يشاء له ولغيره ، ويفعل ما يريد لا رافع لأمره ولا راد لقضاه ، ولا يغلبه غالب ، وهو الذي يبلغه ما قدره له في علمه ويخلصه مما يبتلى به ، وأعاد بعض المفسرين ضمير أمره إلى يوسف ، ولا مندوحة فيه ، لأنه غالب على أمر يوسف وغيره وكافة خلقه «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 21» صنع اللّه في يوسف وما يراد منه أن يكون ، وعلم ذلك منوط به وحده ، «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ» تقدم معنى الأشد في الآية 212 من سورة القصص في ج 1 «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» يقضي به بين الناس بحسب شريعة آبائه لا بمقتضى ما يراه من ملكه لأن الأنبياء يلهمون خلقة من حين الولادة ، فضلا عن أنه عليه السلام نبىء بالبئر كما مر وهو في الثامنة عشرة من عمره ، وأدخل في السجن وهو أبن ثلاث وثلاثين ، كما نبىء عيسى بالمهد ويحيي في السابعة من عمره ، راجع الآيتين 41 من سورة مريم ، و1 من سورة طه في ج 1 ، فالنبوة سابقة
لهذا ، وما قيل إنه حين ألقي بالجب كان عمره عشر سنين ضعيف إذ يكون بقاءه في الجب ثماني سنين ، ولم يقل به أحد ، وقيل إن المراد بالحكم هنا الحكمة ، وهي في لسان الشرع العلم النافع المؤيد بالعمل ، لان العلم بدون العمل لا يعتدّ به ، والعمل بخلاف العلم سفه ، والمراد بالعلم هنا تأويل الرؤيا ، والأولى أن يؤول الحكم(3/188)
ج 3 ، ص : 189
على ما جرينا عليه كما عليه أكثر المفسرين ، والمراد بالعلم الفقه بالدين لأنه عليه السلام كان يرجع إليه جل أهل مصر في أمورهم ، حتى إن العزيز صار يحيل من يأتي إليه ليتحاكم مع خصمه إلى يوسف لما رأى من حدة عقله وإصابة رأيه ، لهذا فإن ما قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما إن المراد بالحكم هنا النبوة وبالعلم الشريعة وجيه أما القول برسالته فلا ، لأنه أرسل بالسجن ، وكذلك القول بأنه أعطي شريعة خاصة أو أنزل عليه كتاب ، وهذا يقال
إذا كان هناك نص صريح يستند إليه ، وليس فليس ، «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 22» في هذه الدنيا الصابرين على النوائب أمثال يوسف عليه السلام ، وفي الآية إعلام بأنه كان محسنا في أعماله متقنا مسالك التقوى والورع في عنفوان شبابه ، ومن هنا قال الحسن من أحسن عبادة اللّه تعالى في شبيبته آتاه اللّه الحكمة في اكتهاله ، قال تعالى «وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها» خادعته ودعته لنفسها وطلبت منه أن يواقعها ، والمراودة مفاعلة من راد يرود ، إذا جاء وذهب «عَنْ نَفْسِهِ» الطاهرة الزكية وجيء بعن بدل من دلالة على أن السيدة زليخا زوجة العزيز نازعته في ذلك لما هو عليه من حسن الأدب والصورة ، بأن صارت تطلب منه الفعل وهو يطلب الترك ، كما تقول جاذبته عن كذا ، لأن عن ، تدل على البعد ، فكأنها تجذبه لنفسها جذبا بالغا وهو يتباعد عنها تباعدا مقصودا.
وهذا إعلام بكمال نزاهته وإظهار عفته ، لأن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لحسنها وقربه منها مثبت لذلك ، وأن استعصاءه عليها مع كونه تحت يدها يؤذن بأنه في أعلى معارج العفّة ويعلن أنه بأسنى درجات النزاهة ، كيف لا وقد شرفه اللّه بالنبوة وزاده عليها الحكم بين الناس وتعبير الرؤيا ؟ ولما رأت عدم رغبته بما طلبته ناشىء عن أمر قلبي كرهه في تنفيذ طلبها غضبت عليه ، وجرته لداخل الدار «وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ» عليه ، واعلم أن تضعيف الفعل يدل على التكثير ، أي أنه ليس بابا واحدا بل أبواب كثيرة ، قالوا إنها سبعة ، واحد داخل الآخر والتفتت إليه «وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ» تعالى أقبل إلي ، فقد هيئت لك ، وهي لغة حوارن إذ ذاك ، أي هلم أفعل ما آمرك به ، وفيها معنى الحث على الفعل ، وقيل إن هيت بالعبرانية.
بمعنى تعال فعرّبت(3/189)
ج 3 ، ص : 190
إلى هيت لك ، أو أنها في الأصل كلمة عربية وافقت العبرانية كما وافقت لغة العرب لغة الروم في القسطاس ، ولغة العرب لغة الفرس بالتنور ، ولغة العرب لغة الترك في الغسّاق ، ولغة العرب لعة الحبشة في ناشئة الليل من باب توارد اللغات ، وقد مر لك تحقيق هذا وغيره من الكلمات المقول فيها أنها أجنبية مفصلا في الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1 ، وقرىء هيئت لك بالهمز ، أي تهيأت ، وهو اسم فعل مبني على الفتح كأين ، وما قيل إنها سريانية أو قبطية أقوال لا مستند لها إلا استعمالها ، وإن استعمالها في اللغات الأخرى لا يدل على أنها منها دلالة قطعية ، لأن اللغات متداخلة بعضها في بعض ، والأحسن أن يقال عربية استعملها الغير كما أوضحناه هناك.
ولما سمع عليه السلام منها ذلك ورأى عزمها عليه من حالها وتعليق الأبواب عليه ولا محل للهرب منها ، صدّ عنها وولاها ظهره وصارحها بقوله «قالَ مَعاذَ اللَّهِ» اعتصم به وألجأ إليه ممّا دعوتني إليه وتريدينه مني «إِنَّهُ» زوجك العزيز «رَبِّي» ربّاني تربية حسنة وأكرمني و«أَحْسَنَ مَثْوايَ» عنده وأمرك بإكرامي ، وقد عظمت منزلتي عنده وجلّ مقامي لديه وفوضني القضاء بين الناس قصدا لعلو شأني عندهم ، وأنت زوجته ولك من الحق عليّ مثل ما له ، فإن خنته فيك فأنا ظالم من وجهين لإقدامي على ما هو محرم وخيانتي لمن له فضل علي لأني عشت بنعمته «إِنَّهُ» أستعيذ به وألجأ إليه هو اللّه ربي وربك ورب العالم أجمع «لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 23» عنده ولا يفرزون بالنجاح لديه والزناة يؤوبون إليه بخسران سعادة الدنيا والآخرة.
وهذا منه عليه السلام اجتناب ما وراءه اجتناب وامتناع ما بعده امتناع ، لأنه قد علله من جهات أولا أنه منكر فاحش يجب أن يعاذ منه باللّه ويلجأ إليه بالخلاص من قربانه لما علم بتعليم اللّه إياه من قبحة وسوء عاقبته ، ثانيا أن زوجها سيده وقد أحسن إليه وأوصاها بإكرامه فكيف يمكن أن يسيء إليه بالخيانة ، وهو سبب ظاهري ذكره لها علّه أن يؤثر فيها وتتأثر منه فتردع وتزجر نفسها مما سولت لها به ، ثالثا أن من يفعل هذا الفعل الخبيث يكون ظالما محروم الظفر بالبغية الطيبة والسعادة ورفاه العيش في الدنيا والآخرة.
وأن إجابة طلبها في غاية الخسة ونهاية الرذالة تجاه من يتعاهده بالخير ويعطف عليه ، وكل هذا(3/190)
ج 3 ، ص : 191
لم يؤثر فيها لما داخل قلبها من حبه ، فأدركته وأقبلت عليه وحرّضته وحذّرته ، فلم يفعل وأكد لها
إعراضه ، ووعظها بما أوتيه من فصاحة في اللفظ وبلاغة في المعنى وشدة في الخطاب ، وهي عن ذلك بمعزل ، فرمت نفسها إليه وعكفت بكلها عليه وهذا مغزى قوله تعالى «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ» عزمت عزما شديدا عليه إلّا أن يفعل وقربت نفسها منه ، وهو يدافعها ولم ينجع بها الوعظ ولا غيره ، إذ لم يبق عندها المزجر مسمع ولا للتحذير من سوء العاقبة مطمع ، وهنا يحسن الوقف ثم الابتداء بقوله تعالى «وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» وهو النبوة الجليلة ، فلولاها ولو لا حصول العصمة بها شأن كل نبي لهمّ بها وقاربها ، مثل الهم والقربان اللّه الذي فعلتهما هي ، ولكن عهد إليه بالنبوة حال دون ذلك.
وقال السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المنسوب إلى محمد عبده : أرادت قتله حين امتنع من إجابة طلبها وهو أراد قتلها ليتخلص مما دعته إليه ، ولكن القتل أمر عظيم حال دونه مقام النبوة التي تتباعد عن كل مخالفة لما نهى اللّه.
وهو رأي جيد إلا أنه لم يقل به أحد من المفسرين ، مع أن الهم قد يأتي بمعنى القتل.
مطلب خلاصة القول بالهم وبطلان أقوال من قال به والشهادات على براءة يوسف عليه السلام :
هذا وكان الهم منه هم الطباع مع الامتناع لا كهمها هي الذي هو هم السباع المقصود منه إجراء الفعل ، ولو كان كذلك وحاشاه من ذلك لما مدحه اللّه عليه بآخر هذه الآية بقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) وقيل إنه قصدها بخاطره قصدا غير مختار ، وهو من دواعي القلب ولا صنع للعبد فيما يخطر في قلبه ، ولا مؤاخذة عليه بل يثاب عليه ويكتب له به حسنات كثيرة ، ومن سماء ذنبا فهو بالنسبة لمقامه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وإلا فالهم الحقيقي منتف في حقه عليه السلام بنص قوله تعالى (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) وفيه كفاية ، ويفهم مما تقدم أن هم النفس لا يؤاخذ عليه البشر مطلقا كما بيناه في الآية 84 من القصص في ج 1 ، وله صلة في الآية 254 من البقرة في ج 3 ، وقال إذا وطنت النفس على الهم فهو سيئة وإلا فلا ، والقول الحق إن مطلق الهم لم يقع منه ، ولم يجل بخاطره ، ولم تحدثه(3/191)
ج 3 ، ص : 192
به نفسه البتة ، وحاشا أن تتوطن نفس السيد يوسف على مثل ذلك الهم ، وأنى لها ذلك وهي مقدسة في جسد طاهر شريف عصمه اللّه تعالى من كل شائبة.
ومن هنا تعلم سخافة قول من قال إن الشيطان جرى بينهما حتى أخذ بجيده وجيدها وجمع بينهما ، وأنى للشيطان من مقاربة من تكفل اللّه بعصمته بقوله (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الآية 43 من سورة الحجر الآتية ، وقال تعالى حكاية عن إبليس (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية 41 منها أيضا ، وشناعة قول القائل إنه عليه السلام وحاشاه جلس منها مجلس الخائن ، وقباحة قول الآخر بأنه حل سراويله وصار يعالج ثيابه ، كأن هذين الخبيثين كانا ثالثهما والشيطان حاضرين معهما ، قاتلهم اللّه ، وكذب من قال أن البرهان المذكور في الآية هو أنه لما أراد مقاربتها رأى كفا مكتوبا عليه (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) الآية 10 فما بعدها من سورة الانفطار الآتية التي كانت في علم اللّه الأزلي الذي لم يطلع عليه أحد غيره ، ولم يعلم بها جبريل مع قربه من ربه ، لأنه لا يعلم ما في القرآن ، وحتى القرآن لا يعلم ما هو إلا بعد نزوله ووضعه في بيت العزة ، فمن أين يا ترى رأوا ذلك الكف فإن كان كما يقول فهو كاذب ، وإن كان غيره فلا صحة له.
قال فلما رأى ذلك ولى هاربا ثم عاد فرأى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) الآية 32 من الإسراء المارة في ج 1 ، قال فلم ينجع به ، ثم رأى الآية 284 من سورة البقرة في ج 3 وهي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) على ذلك الكف أيضا ، ثم انفرج سقف البيت فرأى يعقوب عاضّا على إصبعه يقول له أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء ، وأن جبريل ضربه بصدر الذي فخرجت شهوته من أنامله ، وأقوال أخر يأبى القلم كتابتها ويندى الجبين من ذكرها ، ويستحي الجاهل من سماعها فضلا عن قبولها ، وباليته استشهد بشيء مما نزل على إبراهيم فمن قبله من الأنبياء ، لأن هذه الآيات بلفظها نزلت في القرآن العظيم بعد يوسف بقرون كثيرة ، واختلاق القائل أقاله اللّه من رحمته بأنه حل سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية وأنه سمع صوتا يقول إياك وإياها مرتين ، وصوتا ثالثا اعرض عنها ، فلم ينجع به ، فهذه كلها أقوال واهية باطلة منكرة لا نصيب لها من الصحة ، (3/192)
ج 3 ، ص : 193
ونسبة بعضها إلى ابن عباس وغيره من خيار الناس افتراء محض وافك خالص وبهت مختلق وكذب مدبر ، وحاشاهم من هذه التهم التي لا تقع من أدنى الناس ، وقد ألصقها بهم من لا خلاق له في الآخرة ، قصد توجيه أنظار الناس إليها للأخذ بها والتصدي لكرامة الأنبياء المعصومين من النقائص المادية والمعنوية ، قاتل اللّه الأفاكين المنافقين ، فانظر أيها العاقل حماك اللّه أن هذه الآيات التي يزعمونها ظهرت إلى السيد يوسف عليه السلام ، ولم يرتدع بها لو وقعت لأكبر زنديق وأفسق فاسق وأشقى شقي وأفجر فاجر وأدنى دنيء وأعصى العصاة وأعتى العتاة وأبغى البغاة وأطغى الطغاة لا نكف عن ذلك الفعل ، فكيف يتصور أن يتصور رؤية ذلك كله من قبل السيد يوسف ولم يرتدع وهو نبي اللّه معصوم بعصمته محفوظ بوقايته ؟! واعلم أن مما يفتد هذه الأقوال ويكذبها عدم إسنادها لنقل صحيح أو
نص صريح من آية أو حديث.
وهاك الشهادات الواقعة ببراءته عليه السلام من الآيات :
أولا شهادة المرأة نفسها كما حكى اللّه تعالى عنها بقوله (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وقوله تعالى (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي في قوله بريء مما عزي إليه.
وثانيا شهادة زوجها فيما حكى اللّه عنه في قوله (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر لا تتكلم به ولا تحدث أحدا فيه ، فإني عالم ببراءتك.
ثم نظر إليها بغضب وقال (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) بادعائك على يوسف وإسنادك الفعل إليه.
ثالثا شهادة الولد كما حكى اللّه عنه بقوله (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) إلخ (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
رابعا شهادة يوسف عليه السلام بقوله كما ذكر اللّه عنه (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وهو لا ينطق عن هوى لاعتصامه بالنبوة الكاملة المبرأة من كل عيب ، وقوله (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).
خامسا شهادة اللّه تعالى ذاته بقوله عز قوله (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ومن أصدق من اللّه قيلا ، ومن أصدق من اللّه حديثا ، فتنبه رعاك اللّه ، أبعد هذه الشهادات القاطعة يجترىء أحد على مس كرامته عليه السلام ، إلا من(3/193)
ج 3 ، ص : 194
أعمى اللّه بصره وأعمه بصيرته ، ومن ناصب العداء لأولياء اللّه ؟ هذا ، أما ما حكاه اللّه عنه في قوله (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي ما أبرىء نفسي من مجرّد الهم النفسي ليس إلّا ، على أنه يحتمل أن لا يكون هم نفسي أصلا ، وإنما قال ما قال على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لقولها.
أما عدم ضربها لدفعها عما همّت به كما يقول بعض المنهوكين فهو لحكمة أرادها اللّه ، ولأنه أوّلا لا يجسر عليها لأنها سيدته بحسب الظاهر وهو تحت تربيتها ونعمتها وإسارتها أيضا ، لأن سيدها اشتراه كالعبد ، ثانيا لأنه لو ضربها لتسببت في قتله وادعت أنه ضربها لعدم انقيادها له ، ثالثا لو دافعها فعلا باليد لمزقت ثيابه من قدام فيكون دللا على اقدامه بخلاف تمزيق ثيابه من خلف لأنه دليل على هروبه وتوليه عنها وتعلقها به مع نفوره منها.
هذا ، ومن قال إن البرهان هو الآيات التي رآها ورؤيته إباه على الصورة المذكورة ، أو أنه صنمها الذي قامت إليه وسترته لئلا يطلع عليها وغير ذلك مما بمجّه القلب ، فقد مال عن الحق وتاه عن الرشد وضل الطريق القويم وعدل عن الصراط المستقيم وما البرهان إلا ما ذكرناه وهو مقام النبوة الشريفة التي هي حجة اللّه وبرهانه ، وآيته في تحريم الزنى ، والعلم بما يستحقه الزاني من العقاب الدنيوي والأخروي.
قالوا وحينما أدخلته الدار الداخلة ضمن دور سبعة وهو لا يعلم ماذا تريد به منه وإنما طاوعها على الدخول لأنه منقاد لأمرها كسائر الخدم ، إذ لا يستطيع أحد أن يخالف أمرها ، ولما رأى أنها غلّقت الأبواب أي ردتها دون ان تنفلها بالغال ليتم مراد اللّه بطهارة السيد يوسف ، وكلفته بالفعل ، امتنع ونفر إلى الباب الأول فنفذ منه ، فتبعته فهرب إلى الثاني ، وهكذا هو يهرب وهي تتابعه وتجذبه لجانبها وهو يزداد نفورا ، حتى خرجا إلى صحن الدار ، وكان ما كان عند باب الدار كما سيأتي.
هذا وإن نفوس الأنبياء مطهرة من كل خلق ذميم وفعل رذيل وسوء أدب ، ومجبولة على الأخلاق الطاهرة والآداب السامية والأفعال المقدسة والأقوال العالية ، وبعض هذا يحجزهم عن فعل ما لا يليق ، بل عن قربانه ، فظهر من هذا ان كل ما نقل عن ابن عباس وعلي رضي اللّه عنهم أو عن غيرهما من أعلام الإسلام بهت صرف لا ظل له من الحقيقة ، وحاشاهم أن يقدموا على أقوال هكذا ، ولا سيما(3/194)
ج 3 ، ص : 195
بحق خلص عباد اللّه تعالى ، ولا قصد لهؤلاء اللاصقين هذه الأقوال بهم إلا تقوية حججهم ليأخذ الناس بها ، لأنها منسوبة إلى أولئك الأعلام ، فينقلونها للخاص والعام كي يصدقوها ، ولكن من عنده لمعة من عقل أو ذرة من دين يأنف سماعها فضلا عن نقلها ، والقول بها هذا.
واعلم أن الهم نوعان هم ثابت مع عزم وقصد وعقيدة ورضى مثل هم امرأة العزيز ، ومثل هم عمرو بن صابىء الرجمي في قوله :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
فهذا النوع يؤاخذ به العبد ، ولهذا لمّا أقرّ قائل هذا البيت به أمام الحجاج قتله ، وقتله له افراط وتفريط كسائر أفعاله ، عليه ما يستحق من اللّه ، لأن مجرد قول هذا البيت لا يستوجب القتل بل التأديب ، وهمّ عارض وهو ما يخطر بالقلب أو تحدث به النفس من غير اختيار ولا عزم ولا نية ولا رضى ولا عقيدة كهمّ يوسف عليه السلام ، فالعبد ليس مؤاخذ به ما لم يتكلم أو يعمل ، يؤيد هذا ما روي عن أبي هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : يقول اللّه تبارك وتعالى إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة ولم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له عشرا.
هذا لفظ مسلم ، وللبخاري بمعناه ، على أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم البتّة كما مشينا عليه من تفسير الآية ، ولأن اللّه تعالى لم يحك عنه شيئا كما حكى عن آدم عليه السلام في قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية 23 من سورة البقرة ج 3 ، وعن داود عليه السلام في قوله (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) الآية 24 من سورة ص في ج 1 ، وعن موسى عليه السلام في قوله (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) الآية 26 من القصص المارة في ج 1 ، وعن سليمان عليه السلام في قوله (رَبِّ اغْفِرْ لِي) الآية 26 من سورة ص أيضا ، إلى آخر ما جاء عنهم عليهم السلام كنوح وذي النون وغيرهم ، فيظهر من هذا أنه براء مما نسب إليه من الهم المطلق لأنه لو وقع منه لأتبعه بالتوبة والاستغفار كإخوانه الأنبياء عليهم السلام ، ومن هنا يعلم عدم صدور شيء منه البتة ، وما قيل إن هذه الحادثة قبل نبوته مردود لما تقدم أن اللّه تبارك وتعالى نبأه في البئر ، وينافيه سياق الآية ، وسياق إتيانه النبوة على هذه الحادثة يرده أيضا ، وإن(3/195)
ج 3 ، ص : 196
ما جرينا عليه مأخوذ من أقوال السلف الصالح كجعفر الصادق وغيره من كبار المحققين ، والآية على حد قوله تعالى (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) الآية 10 من القصص المارة في ج 1 ، وعلى هذا يكون معنى الآية لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها واللام ليست بواجبة في جواب لولا إذا كانت بصيغة الماضي كما هنا ، فيأتي باللام وبدونها يقال لولا زيد لأكرمتك ، فحيث وجد البرهان انتفى الهم ، كما أن وجود زيد في المثالين ينفي الإكرام.
مطلب في لولا والسبب في نقل ما فيه وهم يوسف عليه السلام والأحاديث الموضوعة :
ولولا حرف امتناع لوجود ، تقول لولا علي لهلك عمر ، ولولا عصمة اللّه لقارفت الذنب ، أي امتنعت مقارفة الذنب لوجود العصمة.
وهنا امتنع الهم المزعوم لوجود البرهان ، قال السيد محمود الآلوسي رحمه اللّه في تفسيره روح البيان بعد الأخذ والرد : نقول للجهلة الذين نسبوا تلك الفعلة الشنيعة إلى يوسف عليه السلام إن كانوا من اتباع اللّه فليقبلوا شهادته على طهارته - يريد بعض ما ذكرنا من الشهادات الخمس التي ذكرناها آنفا - وإن كانوا من اتباع إبليس فليقبلوا شهادته ، يريد ما ذكرناه أيضا ، وقوله (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وإذا كان هؤلاء السفلة زادوا على إبليس كما قال الحريري :
وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فذاك أمر آخر ، فعلم مما مرّ أن ما نقله الواحدي واضرابه من هذه الشبهات الشائنة والشوائب السافلة مصدره القصص والحكايات وكتب أهل الكتاب المحرّفة ، أما الصحيح منها فمبرا من ذلك ، وقد تصلّف بعض القائلين لهذه الأقوال فقال إن ما ذكرناه نقلناه عن الذين أخذوا التأويل ممن شاهدوا التنزيل ، وهو لعمري غير صحيح ، وإنما هو من قال وقيل ، وان بعض المفسرين الذين اغتروا بما وجدوه من تلك الأقوال الواهية المدونة في كتب غير معتبرة ونقلوها كما وجدوها ، ولم ينظروا إلى الأقوال الواردة في تفنيدها ، ولم يلقوا لها بالا ، كما وقع للإمام(3/196)
ج 3 ، ص : 197
السيوطي وبعض علماء الحديث إذ نقلوا أحاديث موضوعة لا أصل لها وأثبتوها في كتبهم بناء على سلامة طويتهم وظنهم أن أحدا لا يختار الكذب على حضرة الرسول كما ظن آدم عليه السلام أن أحدا لا يحلف باللّه كاذبا ، فصدق إبليس في قسمه كما حكى اللّه عنه في قوله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) الآية 21 من الأعراف المارة في ج 1 ، ومن هذا القبيل الإمام البيضاوي رحمه اللّه مع جلالة قدره نقل مائة وأربعة عشر حديثا وأثبتها في أواخر سور القرآن من تفسيره ، مع أنها جلها موضوعة ، ولا يقال لمثله إنه جاهل بمعرفة الأحاديث ، ولكنه نقلها كما رآها عن حسن نية ، تجاوز اللّه عنه وسامحه ، وهو نقلها تبعا للثعلبي ، وكذلك مفتي الثقلين أبو السعود وجار اللّه الزمخشري ذكراها على ما هما عليه من العلم الواسع والفضل العميم ، وهي في الحقيقة من وضع بعض المتعبدين الجملة الذين يزعمون أن في ذلك قربة ، مع أنها فرية عظيمة جرت على ألسنة العوام وتداولوها بينهم حتى الآن ، ويسندونها بأقوالهم لحضرة الرسول وهو منها براء ، راجع بحث الحديث الموضوع في حاشية لقط الدرر على متن نخبة الفكر للإمام ابن حجر رحمه اللّه تجد ملاك هذا البحث بما يقنعك أنها مكذوبة على حضرة الرسول ولا يجوز نقلها ، تدبر.
قال تعالى معلنا براءة يوسف عليه السلام والثناء عليه بموقفه الذي وقفه أمام سيدته بقوله عز قوله «كَذلِكَ» مثل هذا التثبت ثبتناه حتى عن الهمّ بالسّوء «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ» أي جنسه وحقيقته بما يشمل الخيانة وغيرها «وَالْفَحْشاءَ» اي الزنى القبيح نصرفه عنه أيضا «إِنَّهُ» السيد يوسف عبدنا ونبينا «مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ 24» الذين اخترناهم لعبادتنا وخلافتنا في أرضنا ، وفي هذه الجملة معنى التعليل أي صرفنا عنه ذلك لكونه من خلص عبادنا.
هذا على القراء بفتح اللام وعلى كسرها يكون معناه الذين أخلصوا لنا فأطاعونا كما أردنا فحفظناهم مما لا نريد وعصمناهم مما يشين ، وفي هذه الآية عند من له لب أو ألقى السمع للحق ما ينقطع معه عذر أولئك المتشبثين بأذيال هاتيك الأخبار التي ما أنزل بها من سلطان ، ولم يقل بها أحد من أهل الشان ، وأن ما زعموه من إلصاقها ببعض الرجال زور وخال عن البرهان ، وما لهم عليه من بيان ، اللهم إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس ، راجع الآية 22(3/197)
ج 3 ، ص : 198
من سورة والنجم في ج 1 ، ومما يؤذن في براءته قوله جل قوله «وَاسْتَبَقَا الْبابَ» هو هربا منها وخلاصا مما تريده ، وهي لحاقا به وطلبا له لئلا يفلت من يدها وتفلس مما أرادته عليه ، فأدركته فأمسكت قميصه من الخلف وجذبته بشدة لئلا يخرج من الباب وهو جبذ نفسه إلى الأمام ليخرج منه ، فلو كان هناك بعض الهم لما وقع منه هذا «وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ» بسبب تلك المجاذبة القوية لأن كلّا منهما بذل غاية قوته فيها ، فاجتماع القوتين سبب القدّ ، إذ لو تراخى أحدهما لما وقع ، وهناك في هذه الحالة صادقا «وَأَلْفَيا سَيِّدَها» أي زوجها لأن العادة في ذلك الزمن تدعو الزوجة زوجها بسيدها ، وأهل دمشق الأول كانوا كذلك ، وحتى الآن لهم بقية تسمي الزوج سيدا ، ولم يقل تعالى سيدهما لأن يوسف عليه السلام لم يكن مملوكا حقيقة للعزيز ، لأنه حرّ لا يملك فضلا عن أنه نبي كريم «لَدَى الْبابِ» رأياه مقبلا نحوه يباشر فتحه ليدخل ، وهذه صدقة لم تتوقعها زليخا وإنها كما غفلت عن تسكير الأبواب على يوسف بالغال غفلت عن إغلاق باب الدار ، فهابت زوجها وخافت التهمة ، واحتالت لتبرىء ساحتها عنده ، وسبقت يوسف بالكلام «قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً» تريد زنى ، ثم أنها لشدة حبها بيوسف خافت عليه أن يقتله زوجها لهذه
التهمة وتحرم مما هي طامعة فيه منه ومؤملة صدوره ولو بعد حين ، فبادرت زوجها قبل أن يتكلم وقالت ليس جزاؤه القتل إذ لم يقع منه فعل ولا جزاء له على المراودة «إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ 25» بأن يضرب ضربا مبرّحا ولم تذكر اسم يوسف بذلك ، بل قصدت العموم أي كل من أراد ذلك بأهلك حقه أن يفعل به هكذا ، لأنه أبلغ فيما قصدت من تخويفه طعما في أن يوافقها على ما تريده منه ولم تقدر أن تستخدم كلامها بأكثر من ذلك لحراجة الموقف ، وإلا فهي لا تريد أن تصم يوسف بشيء أصلا لأنها لم تقطع أملها منه «قال يوسف عليه السلام مدافعا عن نفسه لأنها وصمته أولا ، ولو سكتت لما كشف أمرها ، ولكنها لما قالت ما قالت ولطخت عرضه بمواجهة سيدها وهو بريء فاضطر إلى إزالة التهمة عنه ولم يثنه الخوف فخاطب سيدها بما ذكر اللّه عنه قال «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي»(3/198)
ج 3 ، ص : 199
وأنا لم أرد بها سوءا فالحت علي فأبيت وضايقتني بتغليق الأبواب ، فهربت فلحقتني واجتذبتني من الوراء وجذبت نفسي إلى الامام للتخلص منها فأخرج إلى الطريق فقدّ قميصي بسبب تجاذب القوتين كما ترى ، فأمعن نظره في كلامها فلم يعرف أيهما أصدق بسائق الميل إلى زوجته ، وهناك جاء ابن عم زوجته.
مطلب من تكلم في المهد وكيد النساء والحذر من مخالطتهن :
قالوا وكان رجلا حكيما وهو المعني بقوله تعالى «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» وقيل إنه ابن خالها أو أختها وعلى كل فالمراد به أنه رجل كبير ذو رأي سديد وهناك قول آخر مشى عليه أكثر المفسرين بأنه طفل في المهد من أقاربها استدلالا بما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال تكلم في المهد أربعة وهم صغار ابن ماشطة ابنة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم.
قال الطيبي وهذا الحديث ذكره البغوي بلا سند ، فلا يعتمد عليه ، ومما يؤيد عدم اعتماده دلالة الحصر في حديث الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة :
عيسى بن مريم وصاحب جريح وصي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا ، فترك الصبي الثدي وقال اللهم لا تجعلني مثله ، وردّه الجلال السيوطي فقال هذا منه أي من الطيي على جاري عادته من عدم الاطلاع على طرق الأحاديث ، والحديث المتقدم صحيح على شرط الشيخين ، أخرجه أحمد في مسنده ، وابن حيان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وصححه من حديث بن عباس ، ورواه الحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح على شرط الشيخين ، وفي حديث الصحيحين المشار إليه آنفا زيادة على الأربعة وهي الصبي الذي يرضع من أمه المذكور فصاروا خمسة ، وهم أكثر من ذلك ، ففي صحيح مسلم رحمه اللّه تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود كما تقدم في سورة البروج في ج 1 ، وفي الآية 13 فما بعدها من سورة ص في ج 1 أيضا ، وقد جمع الألوسي من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر صبيا وبينهم بقوله :
تكلم في المهد النبي محمد ويحيى وعيسى والخليل ومريم(3/199)
ج 3 ، ص : 200
ومبري جريح ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم
وما شطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم
وقيل إن الطيبي لم يرد الطعن بالحديث المذكور وإنما أراد أن يبين الحديث الدال على الحصر وغيره تعارضا يحتاج إلى التوفيق واللّه أعلم.
وما قيل إن الشاهد هو القميص المقدود ليس بشيء كما لا يخفى ، وقد جعل اللّه تعالى الشاهد من أهلها على كلا القولين أي كبيرا كان أو صغيرا ليكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وألزم لها ، فإذا كان كبيرا تكون شهادته بمثابة الحكم أي حكم حاكم من أهلها ، وإذا كان صغيرا وقد أنطقه اللّه الذي أنطق كل شيء فذكر كونه من أهلها لبيان الواقع لأن شهادة الصبي حجة قاطعة لا فرق فيها بين أن يكون قريبا أو بعيدا ، وسمي شاهدا لأنه أدى كلامه جهرا لدى الطرفين تأدية الشاهد شهادته لدى الحاكم ، ولأنه دل على الشاهد الحسي وهو تمزيق القميص المذكور في قوله تعالى «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ 26» فيما دافع به عن نفسه وهي صادقة بدعواها «وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ 27» في دفاعه وهي كاذبة في دعواها وظاهر الحال يؤيده إذ لا يعقل شق القميص من الوراء من قبل الطالب ، وهذه الآية تشير إلى أن الشاهد كان طفلا لأنه لو كان كبيرا وكان معهم على الباب فلا بدّ وأن يطلع على التّمزيق هل هو من أمام أو من خلف ، ولم يسأل عن شق القميص ، فلو قال القائل بهذا إنه جاء بعد العزيز وأن العزيز حكى له الحالة دون أن يطلع على القميص وأنه حكم بما حكم له بحالة لم يشاهد معها شيئا من ذلك ، لكان أقبل للأخذ به.
هذا وبعد أن سمع العزيز كلام الشاهد نظر زوجها إليه وعاينه قال تعالى «فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» أيها الماكرات المحتالات «إِنَّ كَيْدَكُنَّ» أيتها النساء «عَظِيمٌ 28» جدا يعجز عنه الرجال جانحا بهذا إلى تصديق شهادة الشاهد المكذبة لا دعاء زوجته والمحققة صدق دفاع يوسف ، وقد خاطبها بلفظ عام بمقابلة خطابها له به إذ قالت(3/200)
ج 3 ، ص : 201
(ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) ، وتنبيها إلى أن الكيد خلق لهن عريق ، والمكر من شأنهن قديم ، والحيل من عاداتهن والخداع دأبهن ، والفتنة من ديدنهن ، قال أبو تمام :
ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها سجيّة نفس كل غانية هند
وإنما وصف اللّه كيدهن بالعظم أشدّ تأثيرا في النفس ولأنه منهن يورث العار بخلاف صدور لكونه من الرجال ، ولربات القصور منهن القدح المعلّى لأنهن أكثر تفرغا من غيرهنّ ، ولأن أحدا لا يجسر على فضيحتهن غالبا.
هذا ولعظم كيد النساء اتخذهن إبليس عليه اللعنة وسائل لإغواء من صعب عليه إغوائه ، ففي الخبر ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء ، وفي خبر آخر : اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن إبليس طلاع رصاد وما بشيء من فخوخه بأوثق لصيده في الأتقياء بالنساء ، قال بعض العلماء إن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهنن به.
وقال آخر أنا أخاف من النساء أكثر من الشيطان لقوله تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) الآية 75 من سورة النساء في ج 3.
وقال هنا (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) وجاء في الحديث : اطلعت إلى النار فوجدت أكثر أهلها النساء إلخ يكفرن العشير.
وجاء ، النساء حبائل الشيطان.
وقال عليه السلام : لا تطلعوا النساء على حال ، ولا تأمنوهن على مال ، ولا تذروهن إلا لتدبير العيال ، إن تركن وما يردن أوردن المهالك ، وأفسدن الممالك ، ينسين الخير ، ويحفظن الشر ، يتهافتن بالبهتان ، ويتمادين في الطغيان.
وقال سليمان عليه السلام امش وراء الأسد ولا تمش وراء المرأة.
وقال صلى اللّه عليه وسلم : إياكم ومحادثة المرأة فإنه لا يخلو رجل بامرأة ليس لها محرم إلا هم بها.
وقال علي كرم اللّه وجهه : إياك ومشاورة النساء فإن رأيهنّ إلى أفن (ضعف ونقص) وغرمهن إلى وهن (ضعف في الأمر والعمل والبدن) اكفف أبصارهن بالحجاب ، فإن شدة الحجاب خير لهن من الارتياب ، وليس خروجهن بأضرّ من دخول من لا يوثق به عليهن ، فإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل ، ويأتي الأفن بمعنى الأحمق ضعيف الرأي قليل التدبير ، والوهن الضعف والفتور.
وقال أبو بكر رضي اللّه عنه : ذل من أسند أمره إلى امرأة.
وقال عمر رضي(3/201)
ج 3 ، ص : 202
اللّه عنه : أكثروا لهن من قول لا ، فإن نعم تغريهن على المسألة وقال استعيذوا باللّه من شر النساء وكونوا من خيارهن على حذر.
وجاء في حكمة داود عليه السلام وجدت في الرجال واحدا بألف ولم أجد واحدة في جمع النساء.
وقال الحكماء لا تثق بامرأة ولا تغتر بمال وإن كثر.
وقال النخعي من اقتراب الساعة طاعة النساء ، ويقال من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه ، وقال بعض الحكماء : إياك ومخالطة النساء فإن لحظات المرأة سهم ولفظها مهم.
وورد : ما اختلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان رسولها إليه ورسوله إليها وللنساء حيل في إتمام مرادهن لا يقدر على بعضه عظام الرجال ، فالمرأة إذا أحبتك أكلتك ، وإذا أبغضتك أهلكتك ، وهي الشر كله فاتقها بكلك.
ثم التفت العزيز إلى يوسف وقال يا «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» الذي وقع لك مع سيّدتك لا تذكره واطو حديثه ، والتفت إليها وقال توبي «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» اقترفتيه مضاعفا بتهمتك غلامك من إرادة السوء الذي أنت مصدره ، واندمي على تعديك عليه بما رميته به «إِنَّكِ كُنْتِ» بعملك هذا «مِنَ الْخاطِئِينَ 29» لخيانتك زوجك والبهت على غلامك ، ولم يقل الخاطئات تغليبا للرجال على النساء.
واعلم أن الحكم الماهر بجملته تلك التي حكم بها قد عرف زوجها منها خيانتها من وجوه : لأن يوسف مملوك عندهم والمملوك لا يتجاسر على سيدته ، ولأنه شاهدهما هو هارب وهي طالبة والطالب لا يهرب ، ولأنه رآها مزينة بأكمل الزينة ويوسف بدرعه لا غير ، ولم ير عليه شيئا من علائم الرغبة ، بل عليه علامة الرهبة منها والخوف من اللّه ، ولأنه خبره في هذه المدة الطويلة خمس عشرة سنة ووقف على حاله وكمال أدبه وأحاسن أخلاقه وحيائه وخجله وعدم اطلاعه على حالة تناسب إقدامه على مثل تلك الحالة ، وقد أيد عدم رغبته قد قميصه من دبر ، ولذلك ألصق التهمة فيها ، هو وابن عمه على القول بأنه هو الشاهد وبرأه مما عزي إليه ، وإذا كان الشاهد صغيرا وهو ما يركن إليه الضمير فإن براءته قطعية لا ظن فيها ، لأنها من اللّه معجزة له عليه السلام ، واللّه خير الشاهدين ، وبما أن اللّه تعالى لم يبين لنا هذا الشاهد فقد جمعنا بين أقوال المفسرين في هذا الشأن ووكلنا العلم إلى اللّه ، وإنما ملنا إلى القول الثاني لأن الشاهد الكبير ابن عم زوجها والصغير ابن خالها أو أختها ، واللّه تعالى يقول من أهلها ، تدبر.(3/202)
ج 3 ، ص : 203
مطلب أقسام الخطأ ومراتب الحب ومعنى الفتى والمتكأ والإكبار :
واعلم أن الخطأ ثلاثة أقسام : الأول أن يريد غير ما تحسن إرادته فيفعله وهذا الخطأ التام المأخوذ به ، والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد وهذا أصاب في الإرادة وأخطأ بالعمل ، وعليه قوله صلى اللّه عليه وسلم من اجتهد فأخطأ فله أجر ، والثالث أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ بالإرادة مصيب بالفعل.
وما نحن فيه راجع إلى الأول.
قالوا وكان العزيز مع حلمه قليل الغيرة فقد اقتصر على هذا القول وكان عليه بعد أن قنع بخطأ زوجته أن يفعل بها ما يفعل غيره بمثلها من أهل المروءة والشرف ، وقد جاء في البحر أن تربة إقليم العزيز أي في زمنه اقتضت ذلك ولكونه وثنيا لا يعبأ به ، وأين هذا مما جرى لبعض الملوك في المغرب ، وذلك أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجاريته تغتيهم من وراء ستار ، فاستعاد بعض خلصائه ببيتين من الجارية كانت غنت بهما ، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعا في دست ، وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس فأسقط في يده ومرض مدة حياته.
ولهذا فإن المصريين تركوا المدينة التي كان فيها العزيز وشيدوا غيرها وسكنوا فيها لما هم عليه من المروءة والشهامة والغيرة ، قالوا وشاع الكلام بين خدم القصر وانتقل لغيرهم كما قال الشاعر :
وكل سرّ جاوز الاثنين شاع.
قال تعالى «وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ» جماعة من النساء لما سمعن الخبر من امرأة الساقي والخباز وامرأة صاحب الدواب وصاحب السجن والحاجب وغيرهن من ملازمي القصر اللاتي أشعن الخبر للنساء اللاتي اتصلن بهن من أهل المدينة ، قيل هي الأقصر أو عين الشمس أو غيرهما في ذلك الزمن ، وسرى الخبر لأشراف النساء من صنف امرأة العزيز وصرن يتحدثن به بكون «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا» علقها حبه والشغاف جارة معلقة بالقلب تسمى غلافه ولسانه ، يعني أن حبها دخل هذه الجلدة ووصل إلى القلب فأحاط به ، فصارت مغرمة به لا تعقل شيئا سواه ، وقيل الشغاف سويداء القلب ، وقال الحسن باطنه ، وقرىء شعفها بالعين أي حرق فؤادها حبه وعليه قول الأعشى : (3/203)
ج 3 ، ص : 204
يعصي الوشاة وكان الحب آونة مما يزيّن للمشعوف ما صنعا
وقال بعضهم الشعف الجنون ويأتي الشعف بمعنى البغض وليس مرادا هنا ، وللحب مراتب أولها الهوى ثم العلاقة وهي الحب الملازم للقلب ، ثم الكلف وهو شدة الحب ، ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار المسمى بالحب ، ثم الشغف وهو احتراق القلب مع لذة يجدها ، وكذلك اللوعة واللاعج ثم الشعف بالعين وهو كذلك أيضا ، وزيد فيه أن يبلغ الحب شفاف القلب فيخترقه إلى الفؤاد ، ثم الجوى وهو الهوى الباطن ، ثم اليتم وهو أن يستعبده الحب ، ثم النّيل وهو أن يسقمه الحب بأن ينال من قواه فيهلكها ، ثم التوله وهو ذهاب العقل من الحب ، ثم الهيوم وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه فلا يدري أين هو ، ولهذا قالوا الهاثم لا يقصر الصلاة لأنه لا جهة له معينة ولا مدة معلومة ، قال ابن الفارض :
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل فما اختاره مضنى به وله عقل
الأبيات ، إلى أن قال : فأوله سقم وآخره قتل.
راجع هذه القصيدة فقيها ما تريده من معاني الحب وأنواعه ومباديه ونتائجه.
وجاء في الآية تراود بالمضارع مع أن المراودة انقطعت والمقام يناسبه الماضي دلالة على دوام المراودة كأنها بقيت مستمرة حتى صارت سجية لها ، وهو كذلك ، واللّه أعلم بما في القلوب.
والفتى الطري من الشباب والسخي والكريم ، ويطلق على المملوك والخادم ، رجاء في الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي.
ويطلق على الشهم ذي المروءة ، وأطلق على يوسف لأنه جامع لهذه الصفات كلها ، وإنما عبروا عنه بلفظ فتى مبالغة باللوم عليها ، لأن التي لها زوج عظيم مثل زليخا لا يليق بها أن تراود غيره ممن هو دونه في زعمهنّ ، لأنه كان يخدمها وليس بينه وبينها كفاءة ، يرون أن جنوحها إلى عبدها في غاية الغي ونهاية الضلال ، لذلك قلن كما ذكر اللّه عز ذكره «إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 30 في إقدامها على ذلك وخيانتها لزوجها الرجل الجليل بمراودتها خادمها ، وذلك من الخسة بمكان ، قالوا هذا لأنهن لم يعلمن أنه أشرف من على وجه الأرض في زمنه.
قال تعالى «فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ» قولهن واغتيابهن لها وسمته مكرا لشبهه له في الإخفاء عنها ، لأنهن لم يصارحنها به(3/204)
ج 3 ، ص : 205
لما بلغهن عن يوسف وأردن بقولهنّ هذا اغضابها تعمدا كي تريهن يوسف لما بلغهن من جماله وكماله حيلة منهن لهذه الغاية ، ولذلك «أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ» كي تريهنّ إياه فتقطعن اللوم عنها ، وقد عرفت ذلك لأنها تعرف من أمرها ما تعرفه من أمر غيرها عند ما تراه «وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً» أترجا هو نوع من البرتقال ، وما قيل إنه تفاح ينفيه قوله تعالى «وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً» لأن التفاح يغسل ويؤكل بقشره لما فيه من النفع الذي لا يوجد بلبّه ، والأترج لا يؤكل قشره لأنه مفصول عنه وليس من لونه وطعمه ، وهكذا جعل اللّه تعالى كل قشر لا يؤكل مع اللب مفصول عنه كالموز والرمان وأنواع البرتقال والجوز واللوز والفستق والبندق وأنواعه وما شابهه ، وإنما قلنا يغسل لأن القشر قد يحمل جراثيم كثيرة تعرضه الذرات الممتزجة بالهواء والسّم الذي فيه وهي لا تخلو من ضرر للوجود الذي أوجب اللّه تعالى عليه محافظته ، وقد جاء في الخبر : من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه ، وجاء في خبر آخر : اتقوا الغبار فإن فيه النسمة وهي ما يعبرون عنها ب (الميكروب) وبما أن قشور الفواكه لا يخلو من التراب وهو قد لا يخلو من النسم فقد اعتادوا تقشيرها زيادة في الترف ووقاية من الضرر ، وإذا كان قشر الفاكهة أو الخضرة المتصل بها مخالفا للبّها في اللون أو الطعم كالبطيخ الأخضر والخيار وما يشبههما فإن شاء قشره وإن شاء أكله بقشره لأنه غالبا لا يكون بينه وبين لبه مباينة في الطعم تمنع من الأكل كالباذنجان والقرع والقثاء والعجور وما ضاهى ذلك ، وإذا لم يكن عاسيا فطبخه وأكله مع لبه أحسن فائدة للوجود ، والبطيخ الأصفر يؤكل بقشره أيضا ويجوز بغيره للمترفين إذ يأكله خدمهم وأنعامهم ، روي أن الإمام أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه لم يأكل البطيخ الأصفر إذ لم يبلغه أن حضرة الرسول أكله بقشره أو بغير قشره ، لأنه غالبا يكون
قشره من لونه وطعمه وليعلم أن تقشير التفاح والإجاص والخوخ والكمثرى والمشمش وما شاكلها يكون من البطر وازدراء النعمة وإظهار العظمة ، وقد يكون كسلا عن القيام بغسله غسلا جيدا.
هذا وإنما أتتهم بالسكاكين لأنهن مترفات لينات البنان لا يقدرن أن يزلن القشر بأيديهن ، وما قيل إن المتكأ هنا كناية عما يتكأ عليه من النمارق والوسائد(3/205)
ج 3 ، ص : 206
يرده الإتيان بالسكاكين لعدم الحاجة إليها فيه ، وقال بعضهم إنه نفس الأكل إذ يقال اتكأنا عند فلان ، أي أكلنا عنده ، وعليه قول جميل :
فظلنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله
وعلى هذا فقد اختلف في نوعه هل كان لحما أو ورقا ملفوفا بجبين أو بلحم أو بلوز ، وشبهه من الحلويات التي تقص بالسكين وتؤكل بالشوكة ، ولكن الأول أولى وأليق بالمقام ، لأن ما يقدم للزائرين عادة فاكهة أو حلو مقطع ناسف لا طعام.
ثم تركنهن حتى باشرن بتقشيره وأشغلتهن به وكانت قد ألبست يوسف عليه السلام من الديباج الأبيض ، لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض صيفا والسواد شتاء كما قيل :
إذا لبس البياض حسبت بدرا وإن ليس السواد سبى العبادا
والتفتت إليه بما يتنبهن له «وَقالَتِ اخْرُجْ» للسلام «عَلَيْهِنَّ» فخرج ، فإذا هو كالبدر ليلة تمامه «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ» أعظمته بأعينهن ودهشن لما هو عليه من الحسن والجمال المزينين بحلل الكمال ، قالوا إنه كان يشبه آدم عليه السلام حين خلقه ربه قبل أكله من الشجرة وإهباطه للأرض ، وجاء في الحديث إن اللّه خلق آدم على صورته ، وفي رواية على صورة الرحمن وناهيك بذلك ، وما قيل إن أكبرن بمعنى حضن بالاستناد لقول القائل :
يأتي النساء على أطهارهن ولا يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
أي حضن فقد أنكره أبو عبيده وقال لا نعرف ذلك في اللغة ، والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر.
ونقل مثل هذا عن الطبري وابن عطية ، وقد أخرج رواية أكبرن بمعنى حضن جرير وابن المنذر من طريق عبد الصمد عن ابن عباس ، وهو أي عبد الصمد وإن كان روى ذلك عن أبيه علي عن أبيه ابن عباس ، فلا يعول عليه لقولهم إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم.
وقال الكميت إن أكبرن بمعنى أمنين ، ولعل الكلام فيه كالكلام في الذي قبله ، نعم له أصل في اللغة إذ قال المتنبي :
خف اللّه واستر ذا الجمال ببرقع إذا لحت حاضت في الخدور العواتق(3/206)
ج 3 ، ص : 207
إلا أنه لا دليل على ذلك ، لأنه قال حاضت ولم يقل أكبرت أو أمنت ، ولا يبعد أن تحيض أو تمني المرأة إذا اشتد شبقها ، وكذلك الرجل قد يمني بمجرد النظر إلى المرأة ، ولكن ما في الآية لا يراد منه ذلك ، على أنه لو فرض مجيء أكبرن بمعنى حضن فهو لازم لا يتعدى إلى المفعول به لأنه من الطبائع والنعوت ، وكل ما كان كذلك فهو لازم ، وما في الآية متعد ، فيكون بمعنى أعظم المتعدى كما جرينا عليه ، واللّه أعلم.
«وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» بدلا من الأترج لفرط دهشنهن بطلعته وخروج جوارحهن عن منهاج الاختيار ، حتى أنهن لم يحسسن بالألم لا نشغالهن بالنظر إليه «وَقُلْنَ» بلسان واحد تعجبا من قدرة اللّه الكاملة على صنع ذلك القوام الرائع والحسن البديع «حاشَ لِلَّهِ» بالألف وإسقاطها وهو حرف وضع للاستثناء والتنزيه والتبعد معا ، ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء ، ولم ينون مراعاة لأصل المنقول عنه ، وكثيرا ما يراعون ذلك فيقولون جلست من على يمينه فيجعلون على اسما ولم يعربوه ، وكذلك عن في جلست من عن يساره ومن في غدت من عليه ، ولم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاة ، كل ذلك مراعاة للأصل ، وقال ابن الحاجب إن (حاشَ لِلَّهِ) اسم فعل بمعنى برىء اللّه تعالى من السوء وليس بشيء ، لأن الحرف لا يكون اسما إلا إذا نقل وسمي به وجعل علما ، فجينئذ تجوز فيه الحكاية والإعراب وفيه أقوال كثيرة أعرضنا عنها خشية الإطالة والملالة ، ولا طائل تحتها ، على أن الذي يعلل الكلمات يرى الكل جائزا بحسب وسعته في اللغة ، كما ان الذي له وقوف على العربية لا يكاد يغلط أحدا ، إذ يرى لكل وجهة ، وغير خاف أن وجوه الإعراب كثيرة ولغات العرب فيها أكثر ، أي أن الذي ذكروه لنا بأنه عبد اغترت به زوجة العزيز ما هو عبد بل «ما هذا بَشَراً» أيضا فضلا عن أنه ليس بعبد «إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ 31» نفين عنه صفة البشرية لما هالهن من جماله ، لأنهنن لم يرين بشرا بشبهه بالحسن وقوام الجوارح ، وأثبتن له الملكية لما ركز في الطبائع أن لا شيء أحسن من الملك ولو لم يره أحد ، كما ركز في(3/207)
ج 3 ، ص : 208
الأذهان أن ليس بشيء أقبح من الشيطان ولم يره أحد أيضا ، أي بصورتهما الحقيقية وعليه قول بعض المحدثين :
ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة حسنا وإن قوتلوا كانوا شياطينا
ولا سيما وقد انضم لذلك الجمال الرائق نور النبوة وآثار خضوعها واخباتها لرافع السماء وباسط الأرض من الحالة التي أوقعته فيها مما زاده مهابة ووقارا ، فلا غرو أن يصيبهن الدهش والذهول فيصرعهن ويصرف نظرهن عما في أيديهن من الأترج إلى أيديهن ، فيغقلن عنه ويقطعن أيديهن بدله ، ولم يشعرن بما عملن لأن طلعته البهية ألهبت في قلوبهن ما يمنعهن من الإحساس بألم الموسى ، وانهماك انسان أعينهن في التطلع إليه حال دون رؤية الدماء التي سالت من أيديهن على ثيابهن ، فلما رأت زليخا ما صنعن بأنفسهن وعلمت أنهن قد أعذرنها بما فعلت ، ولو أنهن شاهدنه قبل مثلها واختلطن معه اختلاطها لما لمنها ، لأنهن رأينه لحظة فوقع منهن ما وقع ، فكيف وهي معه ليل نهار ، لهذا تسلطت عليهن و«قالَتْ فَذلِكُنَّ» العبد الذي تتقولن وتتفوهن فيه ، والفتى «الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ» ثم صرحت أمامهن بما وقع منها فقالت مقسمة «وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» امتنع وأبى ، والاستعصام مبالغة في الامتناع والتحفظ الشديدين ، ثم أقسمت ثانيا فقالت «وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ» به من الوقاع واللّه واللّه واللّه «لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ 32» الأذلاء المهانين مع السراق والسفاك في السجن ، قالت ذلك لأنها علمت مما شاهدته من دهشتهنّ به انهن لا يلمنها بعد بل يعذرنها ، قالوا ثم قال النساء كلهن يا يوسف أطع مولاتك لئلا تسجن ، فلم يصغ لهن وانصرف عنهن قائلا «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» أضاف الضمير إليهن كلهن مع أن مولاته وحدها تدعوه لأنهن أمرنه بامتثال أمرها بالفعل ، فناجى ربه عز وجل ملتجئا إليه وآثر السجن لأن مشقته نافذة طلبا إلى راحته الأبدية برضاء اللّه تعالى ، ومن هنا قالوا يختار أهون الشرين ، وقد جاء في الخبر أنه عليه السلام لما قال هذا أوحى اللّه إليه يا يوسف
أنت جنيت على نفسك ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت ، ولهذا قال محمد صلّى اللّه عليه وسلم لما سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك(3/208)
ج 3 ، ص : 209
الصبر فقال سألت البلاء فاسأل اللّه العافية ، ثم التجأ إلى ربه فقال «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ» ومكرهن واحتيالهن أخاف يا رب «أَصْبُ» أميل ميلا قلبيا لا اختيار لي فيه بحسب الطبيعة البشرية قد تحدّت النفس نفسيا ركوني «إِلَيْهِنَّ» ولو تخطرا بالقلب أو هاجا في النفس ، وأخاف يا مولاي ان يؤثر (ومعاذ اللّه يا مولاي) فيّ لأني بشر ، وحاشاك يا مولاي أن تريد ذلك مني أو تتغلب على نفسي بشيء من ذلك ، وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف ربه جريا على سنن الأنبياء وطرق العارفين الكاملين في قصر نيل الخيرات والنجاة من الشرور على جناب اللّه تعالى ، وسلب القوى والتصور عن أنفسهم مبالغة في استدعاء عطفه تعالى عليه في صرف كيدهن عنه بإظهار عدم طاقته بالمدافعة إلا بحوله وقوته عز شأنه كقول المستغيث أدركن يا رب وإلا أهلك ، وقد لا يهلك ، لأنه عليه السلام يطلب الالتجاء إلى ربه ليعصم وفي نفسه داعية سوء إن لم يعصمه ، كلا وحاشاه من ذلك ، وفي هذه الآية جواب استدلال للأشاعرة بأن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه اللّه تعالى (وأصل إلا) أن الشرطية ولا النافية فأدغمت النون باللام (وأَصْبُ) مضارع صبا إذا مال ومنه ريح الصبا لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها والصبابة إفراط الشوق ، وفي القاموس صبى بمعنى مال ، وصبى بمعنى حنّ ، والصبوة جهلة الفتوة ، ثم قال منددا من خوف ما سيكون من إحساسات قلبية خشية مغبته باثا سوء نتيجته إلى ربه «وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ 33» الذين لا يعلمون ما يعملون ، وفي هذه الجملة إشارة إلى أن من يرتكب الذنب فإنما يرتكبه عن جهالة وهو ليس من أهلها ، لذلك دعا ربه إنقاذه مما يراد فيه «فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ» كما هو
عادته جل جلاله في أنبيائه وأوليائه وأحبابه في إجابة أدعيتهم عند الضيق كما سيأتي في الآية 110 من هذه السورة «فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ» وثبته بعصمته وأبقاه على عفته وحال بينه وبين المعصية ودواعيها «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لدعاء عباده المتضرعين إليه «الْعَلِيمُ» بأحوال الداعي ونيته وما يصلح له.
وتدل هذه الآية على أن الإنسان لو أتى بكل مكر وحيلة لإزالة ما وقر في صدره من حب وعداوة لعجز ، لأن حصولها ليس باختياره ولو كان لتمكن من(3/209)
ج 3 ، ص : 210
قلب الحب كرها والعداوة صداقة ، وبالعكس ، ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى ربه ليصرف ما حاك في صدره الشريف ، قال المتنبي :
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
ولهذا فإن العاشق كثيرا ما يريد إزالة العشق من قلبه ولكنه يعجز.
واعلم أن أكثر ما يوقع في المعصية الجهل والخطأ ، ولا تقع إلا بتقدير اللّه تعالى وقضائه وهي للمغفرة أقرب ، أما والعياذ باللّه من يوقعها عالما عامدا فقد تؤدي إلى كفره ، لأن العلم والعمد دليلان على الاستحلال واستحلال ما حرم اللّه كفر ، قال بعض النادمين على ما فعلوا :
وما كانت ذنوبي عن عناد ولكن بالشقا حكم القضاء
ومن كان كهذا فباب العفو يشمله ، قال تعالى «ثُمَّ بَدا لَهُمْ» أي العزيز وأهله وأصحابه رأي آخر بعد ذلك الرأي ، إذ أن زليخا قالت لزوجها إن هذا العبد قد فضحني ، فإما أن تأذن لي بالخروج لأعتذر إلى الناس ، وإما أن تحبسه ليقطع هذا الكلام ويقف عند حده ، وذلك بعد ما أيست منه و«مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ» الدالات على براءته وطهارته بما قص اللّه عنه.
قال عكرمة سألت ابن عباس عن هذه الآيات ، فقال ما سألني عنها أحد قبلك هي قدّ القميص وأثرها في جسده وشهادة الشاهد وأثر السكين في النساء ، وفي قوله من الآيات إيذان بأن هناك آيات أخر لم يذكرها ، كما أنه لم يذكر كثيرا من معجزات الأنبياء عليهم السلام ، وفاعل بدا ضمير يعود إلى البداء بمعنى الرأي كما ذكرنا وعليه قوله :
لعلك والموعود حق لقاؤه بدا لك في تلك القلوص بداء
مطلب اختيار السجن ليوسف والمتآمرين على اغتيال الملك وتأويل رؤيا السجينين :
واما السجن المفهوم من قوله تعالى «لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ 35» إلى أن ينسى الناس هذه الحادثة وينقطع ذكرها في المدينة ، وإنما اختار الحبس على خروج زوجته واعتذارها من الناس ، لأن الاعتذار لا يقطع الإشاعة عن زوجته بل يزيدها ، والحبس قد يقطع خبرها بطول الزمن المستفاد من قوله (حَتَّى حِينٍ) ، (3/210)
ج 3 ، ص : 211
والحين وقت من الزمن يقع على القليل والكثير ، قالوا مبدأه خمس وآخره أربعون سنة ، وسنأتي على بيانه مفصلا في تفسير سورة الإنسان في ج 3 ، وعلى كل في هذه المدة تذهب استفاضة تلك الواقعة ، قالوا فأمر به فحمل على حمار وسيق للسجن ، قالوا وكانت تتأمل أنه بعد أن يذلل في السجن تلين عريكته وتنقاد لها قرونته فتظفر بما أرادته منه بطوعه بعد أن تصرمت حبال رجائها منه بعرض جمالها بنفسها وبإغوائها وبمالها وبتأثيرها فلم يجد شيئا ، قال تعالى «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ» قالوا إن أحدهما خباز الملك صاحب طعامه ، والثاني ساقيه وصاحب شرابه لأنهما أدينا بجرم الموافقة مع جماعة من أشراف مصر أعداء الملك لا غتياله لقاء جعل معلوم على أن يدسا السم في طعامه وشرابه ، وأن الخباز قبل الجعل المسمى له والساقي أبى ، وقد وصل إلى الملك بأن ما يوضع أمامه من الطعام والشراب مسموم ، وحذره من أخبره من تناول شيء منه ، وقيل إن الساقي أخبر الملك بأن الطعام الذي هيأه له الخباز مسموم ، وأن الخباز قال للملك إن الشراب الذي أحضره لك الساقي مسموم بمقابلة قول الساقي له إن الطعام مسموم ، فكلف الملك الساقي أن يشرب ذلك الشراب ففعل ولم يصبه شيء ، ثم كلف الخباز أن يأكل الطعام الذي أحضره له فأبى ، فأطعمه دابة فماتت لساعتها ، فظهرت خيانته فحبسهما معا على توهم أن الساقي تواطأ مع الخباز أي الطاهي قبلا ولم يخبره إلا عند الأكل حتى يظهر التحقيق براءته ، ولما كان هذه القصة عظيم من الأهمية فقد يظلم في بدايتها كثير من الناس ثم ينجو من قدر له النجاة.
قالوا ولما دخل يوسف السجن صار يعظ الناس وينصحهم ويحذرهم من الموبقات ، ويأمرهم بالمعروف ، ويحبّذ لهم عمله ، وأن يحسنوا لأنفسهم وغيرهم ويتباعدوا عن المنكرات لئلا يقعوا في سوء عواقبها ، ويقول لهم من رأى منكم رؤيا فليأت إليّ أعبرها له بما يلهمني اللّه تعالى مما يدل على خيرها وشرها ، فقال الفتيان لنجربنّه ونتراءى له رؤيا ، وكان عليه السلام يراهما مهمومين ، فقال لهما ما شأنكما ، فقصا عليه الأمر الذي حبسا من أجله وأتبعا حديثهما بما صوراه من الرؤيا «قالَ أَحَدُهُما» صاحب الشراب «إِنِّي أَرانِي» رأيت نفسي في المنام وعبّر في المضارع لاستحضار الصور الماضية في ذهنه(3/211)
ج 3 ، ص : 212
«أَعْصِرُ خَمْراً» عنبا سماه بما يؤول إليه ، لأن الخمر لا يعصر ، وإنما يعصر العنب ، والعصر إخراج المائع من الفواكه وغيرها ، قالوا وكان اسمه نيو فقال يا سيد إني رأيت في المنام حبلة من كرم حسنة لها ثلاثه أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك «وَقالَ الْآخَرُ» صاحب الطعام واسمه مجلّت «إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ» قالوا إنه قال أيها السيد إني رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وأنواع الطعام وسباع الطير تنهش منها «نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ» أي تفسير ما رأيناه وما يؤول أمر رؤيانا ، وقد عرضنا عليك ذلك لحسن عقيدتنا بك «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 36» إلى الناس أجمع ، لأنك تعود المرضى في السجن وتأخذ من عناء المسجونين بما تسديه إليهم من النصح ، وتهديهم إليه من الرشد ، وتوسع على فقيرهم وتجمع للمحتاجين ما يسد عوزهم ممن عنده فضل بما ترغبهم به من الثواب ، وتجتهد في عبادة ربك ليل نهار ، وإنك صبيح يرجى منك الخير ويؤمل منك الفلاح ، ولذلك فإنا وكل أهل السجن يحبونك كأنهم يعلمون أن الرؤيا لا تقص إلا على من يحبه الرائي كما أخبر بذلك حضرة الرسول في أحاديث متعددة ، وذلك لأنهم مخالطون للملك وليسوا من السوقة ، فقال لا تحبوني فما جاءني البلاء إلا من المحبة ، فإن عمتي أحبتني وكنت عندها ، فطلبني والدي منها فلم تفعل ، فلما أصر عليها كان عندها منطقة اسحق عليه السلام ، لأنه أكبر من والدي يعقوب وثوب إبراهيم جدي الذي جاء به إليه جبريل من الجنة ، فألبسه إياه حين ألقي في النار لأن اسحق ورثه من إبراهيم أبيه ، وهي ورثته منه ، وكان التوارث لمثل هذه
الآثار للأكبر ، فشدتها على بطني وأرسلتني إليه ، ثم ادعت فقد المنطقة ، وكان في شريعته أن السارق يؤخذ نفسه بما سرق ، فتحروا المنطقة فوجدوها عندي ، فأخذتني وبقيت عندها حتى ماتت ، فدخل علي من حبها بلاء ، وأحبني أبي فنشأ من حبه لي حسد اخوتي ، فألقوني في الجب ، وأحبتني امرأة العزيز فحبست بسبب محبتها ، ثم أعرض عنهما كراهية أن يعبرها لهما لما في تعبيرها على أحدهما من الشرّ وهو لا يحب أن يجابه به أحد إلا بالخير ، أخرج أبو حاتم عن قتادة قال : لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه(3/212)
ج 3 ، ص : 213
قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا إن لكم بهذا لأجرا ، فقالوا يا فتى بارك اللّه فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بورك لنا في جوارك ما نحب ان كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة ، فمن أنت ؟ قال أنا يوسف ابن صفى اللّه يعقوب بن ذبيح اللّه اسحق بن خليل اللّه ابراهيم ، فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك لما أنت عليه من اللطف وما لديك على الناس من العطف وكثرة البر والمجاملة ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت ومن هنا اعتيد تعيين وعاظ للسجون يخففون عن المظلومين بلاءهم ويحبذون للظالمين التوبة والرجوع إلى اللّه ورد المظالم ويمنونهم بعفو اللّه عنهم واطردت العادة حتى الآن ، ثم إن الفتيين ألحا على يوسف بتعبير رؤياهما فقال أولا لتثقا في قولي فإني أقول لكم «لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ» في حبسكما هذا أو من أهلكما «إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ» بأن أبين لكما ماهيته وكيفيته ومن أين أتاكما ولونه وطعمه ووقت أكله «قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما» وقبل أن ترونه وهذا من معجزاته عليه السلام أظهرها إليهم ليركنوا إليه ويأخذوا بقوله أملا بهدايتهم ، ونظيرها معجزة سيدنا عيسى عليه السلام المبينة في قوله تعالى (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) الآية 50 من آل عمران ج 3 ، فقالا له هذا منعلم الكهنة فمن أين جاءك ، قال لست بكاهن وإنما «ذلِكُما» الذي ذكرته لكم «مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» من جملة العلوم التي منّ بها علي وعلمنيها بوحيه المقدس يشير إلى أن ذلك معجزة له وأنها جزؤ يسير مما أفاضه اللّه عليه ، وكأنه قيل له أنى لك هذا ولما ذا علمك ربك هذه العلوم واختصك بتعبير الرؤيا فقال «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» يريد العزيز وقومه إذ
أعرض عنهم وترك رأيهم وما يتعبدون به ويرجونه ولم يوافقهم على ما يريدون لأنهم عبدة أوثان «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ 37» جاحدون البعث بعد الموت منكروا المعاد وأن الجملة الأولى كافية للإشعار بكفرهم وأتى بالثانية تأكيدا وكرر لفظ هم لهذه الغاية ، وليس المراد بالملة ملة آبائه كما قد يخطر بالبال السقيم باعتبار ما كانوا عليه قديما كما يقوله بعض الأغبياء لأن الأنبياء عليهم(3/213)
ج 3 ، ص : 214
السلام من حين ولدوا وظهروا إلى الوجود هم على التوحيد الخالص «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» ذكرهم عليه السلام ليعلمهم أنه من بيت النبوة وأنه نبي لأن آبائه مشهورون في مصر وغيرها بأنهم أنبياء مرسلون من اللّه إلى البشر ولعلهم إذا عرفوا نبوته ونسبه يسمعون نصحه وإرشاده ولعلهم يدينون بدينه ويتركون ما هم عليه من عبادة الأوثان وقال هذا ليفهمهم أن ما فاز بما فاز به من النبوة إلا باقتفاء آثارهم وعدم اتباع ملة الكافرين بإنكار الحشر والنشر حينما جئت إلى مصر ، وقال إنا نحن قوم أبدا «ما كانَ لَنا» ما صح ولا استقام قط منذ القدم «أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ» أي شيء كان بل نعبده وحده وقد عصمنا من عبادة غيره واختارنا لتحمل وحيه واصطفانا لتبليغ خلقه أوامره ونواهيه يسير بذلك عليه السلام أن ما أنتم عليه يا أهل مصر من الإشراك هو كفر محض وأن اللّه المنفرد بالألوهية لا يقبل ولا يرضى من المشرك عبادته «ذلِكَ» رفضنا عبادة الأوثان وعكوفنا على عبادة الرحمن والإخلاص إليه واختصاصنا بالنبوة كله «مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا» إذ علمنا ما لم نعلم وألهمنا طرق العدل ومسالك الصواب في كل ما يتعلق بنا وبالناس من أمور الدنيا والآخرة «وَ» فضله «عَلَى النَّاسِ» إذ بين لهم مناهج الهدى والرشد
وأرسل إليهم من خلص خلقه من يرشدهم ويهديهم «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ 38» فضله ونعمه ويشركون بعبادته غيره مما لا يستحق العبادة فيخسرون الدنيا والآخرة ويندمون ولات حين مندم.
مطلب مبادئ رسالة يوسف عليه السلام وتعبير رؤيا السجينين ومشروعية الرجاء :
ثم شرع يدعوهم إلى الإيمان تأدية لأمانة ربه التي وكلها إليه ، فقال «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ» يا ساكنيه جميعكم ، على قراءة الجمع ، اسمعوا ما أقول لكم وأطيعوني فيما آمركم به ، وتأملوا فيه وتدبروا معناه ، وعلى قراءة التثنية ، يريد به رفيقيه الذي دخلا معه اللذين يطلبان تأويل رؤياهما ، وعلى كل قال لهم «أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ» شتى ، من حفر وحديد وخشب ونحاس وفضة وذهب وحجارة وغيرها من صورة صغيرة(3/214)
ج 3 ، ص : 215
أو كبيرة وبين ذلك ، لا تضر ولا تنفع ، ولا عن نفسها شرا تدفع ، «خَيْرٌ» بأن تتخذوها ربا وتعبدوها «أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ 39» لكل شيء القادر على الإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ، الذي قهر الجبابرة بالخذلان والموت الذي لا يشبهه شيء من خلقه ، والمنفرد بالإلهية ، المنقطع النظير ، والقوي الذي لا يغلبه غالب ولا يطلبه طالب ، لا زوجة له ولا ولد ، ولا معين ، ولا وزير ، وهذا الخطاب عام للمخاطبين ولمن هو على دينهما من أهل مصر ، وعلى هذا فتكون التثنية باعتبار أنهم جماعة من سلفهم جماعة على حد قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 45 من سورة النمل في ج 1 ، ومن هنا تعلم أن هذا يشمل طالبي تعبير الرؤيا وغيرهما ، وهذا أحسن في التعبير وأنسب بالمقام راجع تفسير الآية المذكورة ، وعليه جاء قوله تعالى «ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ» أربابا وآلهة من الأوثان «إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» بلفظ اجمع على المعنى الأخير ، وكذلك ما تدعون التقرب إلى اللّه به من عبادة الكواكب والحيوانات والجمادات ، كلها إفك «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» يؤيد وجودها ولا برهان يثبت عبادتها ، ولا يوجد دليل على تسميتها آلهة لأنها ذليلة حقيرة يقدر على إهانتها كل أحد ، ويحطمها المرأة والولد ، ثم قال مظهرا لهم التأثر على عكوفهم على عبادة ما لا يصلح للعبادة والأسف على الركون إليها وهي لا شيء «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» أي ما الحكم في أمر العباد والعبادة إلا للإله المنفرد بالحكم الذاتي الذي «أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا» أيها الناس ملكا ولا بشرا ولا جنا ولا إنسا ولا جسما ولا شيئا «إِلَّا إِيَّاهُ» إذ لا معبود بحق غيره «ذلِكَ» تخصيص الإله الواحد القهار بالعبادة والسيادة ونفيهما عن غيره هو «الدِّينُ الْقَيِّمُ» الثابت بالأدلة القطعية والبراهين
الساطعة «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 40 وهذا من مبادئ رسالته عليه الصلاة والسلام ، لأنه نبىء بالبئر وهو ابن ثماني عشرة سنة ، وأرسل وهو في السجن وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على أصح الأقوال بدليل هذه الآية ، وقد وصف الأكثر بأنهم لا يعلمون دين اللّه وأوامره ونواهيه لجهلهم الحجج السماوية والأرضية الدالة على الألوهية وعدم استعمالهم ما منحهم اللّه به(3/215)
ج 3 ، ص : 216
من العقل ووقوفهم عند ما ألفوا عليه آباءهم وألفوه ،
ولما فرغ عليه السلام من دعوة الخلق إلى الحق حسبما أمره ربه رجع إلى تعبير رؤياهما فقال «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما» الساقي فإنه يرجع إلى وظيفته «فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً» إذ تظهر براءته مما عزي إليه من العلم والاشتراك باغتيال الملك «وَأَمَّا الْآخَرُ» الطاهي فيثبت عليه الجرم المعزولة «فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ» لتسببه في اغتيال الملك ومباشرته لها فعلا لعدم امتثال أمر الملك بالأكل وبراءة الأول بالشرب ، وهما دليلان كافيان على براءة الأول وحكم الثاني ، وقال إن هذا سيكون بعد ثلاثة أيام ، وذلك لأن الأول قال ثلاث عناقيد عنب ، والآخر قال ثلاث سلال ، فقال له ما رأينا شيئا فقال لهما «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ 41» ووجب حكم اللّه تعالى عليكما بما أخبرتكما ، رأيتما أو لم تريا ، وإنه آتيكم لا محالة بعد ثلاث ، ومن هنا قيل البلاء موكل بالمنطق «وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ» تيقن وتحقق «أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي» إذا خرجت من السجن «عِنْدَ رَبِّكَ» سيدك ومولاك لعله يتذكر مظلمتي فيخرجني من السجن ، قالوا وبعد ثلاثة أيام خرج الأول وصلب الثاني ، وهذا حكم عدل من ملك مصر في براءة الساقي ، لانه لم يقبل الجعل على المؤامرة في حق الملك ولم يباشر عملا.
أما قتل الطاهي ففيه ما فيه لأنه وإن كان أتم جميع الأسباب إلا أنه لم يقع الفعل كما علمت ، ولكن الملوك اعتادت قتل من يتآمر عليها وسنّت بذلك قوانين فهي تعمل بها حتى الآن ، قال تعالى «فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ» أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر الملك بيوسف.
مطلب في ضمير أنساه ورؤيا ملك مصر الأكبر وخروج يوسف من السجن :
وما قيل إن الضمير في أنساه يعود إلى يوسف غير وجيه ، لأن المعنى بصير حينئذ أن الشيطان أنسى يوسف ذكر اللّه بطلبه الفرج عنه من ملك مصر دونه ، وهو محال لما فيه من التعريض إلى الغفلة ، والأنبياء بعيدون عنها منزهون منها ، لذلك اخترنا ما عليه جل المفسرين من عود الضمير إلى الساقي لأنه أولى وأنسب بالمقام وأوفق للسياق واللّه أعلم «فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ 42» بسبب ذلك ، وعلى ما قالوا إنه أتم في(3/216)
ج 3 ، ص : 217
في السجن سبع سنين ، والبضع ما بين الثلاثة والعشرة ، روي أن أنسا قال أوحى اللّه إلى يوسف من استنقذك من القتل حين همّ إخوتك أن يقتلوك ؟ قال أنت يا رب ، قال من استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه ؟ قال أنت يا رب ، قال فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك ؟ قال أنت يا رب ، قال فما بالك نسيتني وذكرت آدميا غيري ؟
قال يا رب كلمة تكلم بها لساني ، قال وعزتي وجلالي لأدخلنك في السجن بضع سنين.
وروي عن الحسن أنه قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم رحم اللّه يوسف لولا كلمته التي قالها أي (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ولما لبث في السجن ما لبث.
ويستدل من قول يوسف عليه أن الاستعانة بالعباد لقضاء الحوائج جائزة لقوله تعالى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) الآية 3 من سورة المائدة في ج 3 وقال صلّى اللّه عليه وسلم : اشفعوا تؤجروا ويقضي اللّه على لسان رسوله ما شاء.
وقال عليه الصلاة والسلام أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، فمن أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت اللّه قدميه على الصراط يوم القيامة.
وقال تعالى (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) الآية 85 من سورة النساء في ج 3 ، إلا أن هذا يختلف باختلاف الأشخاص ، والأليق بمقام الأنبياء تركه لأنفسهم والأخذ بالعزيمة ، وهكذا جرت عليه عادتهم ، قالوا إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وعاتبه على كلمته تلك.
وإن من يتمسك بهذه الأخبار استدل على عود الضمير من أنساه إلى يوسف لا إلى الساقي كما ذكرناه آنفا ، ووكلنا علمه إلى اللّه تبرئة لساحة الأنبياء عما لا ينبغي ، ولم نجزم به لأنا لسنا من أهل الترجيح.
هذا ولما أراد اللّه تعالى إخراج يوسف من السجن أرى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة ، وهي ما قصها اللّه تعالى بقوله «وَقالَ الْمَلِكُ» الريّان بن الوليد لمن عنده من السّحرة والكهنة والمنجمين والمعبّرين «إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ» هزال ضعاف من البقر «وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» سبع أيضا «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ» هذه لأنها هالتني وإني لمتخوف منها «إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ 43» تفسرون سمي المفسر معبرا لأنه يعبر من أول الرؤيا إلى آخرها ليستخرج المعنى المراد منها ، والتعبير خاص في هذا ، أما التأويل فعام فيه وفي غيره.
راجع بحثه في المقدمة ج 1 «قالُوا» السحرة وأمثالهم أشراف(3/217)
ج 3 ، ص : 218
مملكته الذين قصها عليهم هذه «أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أخلاطها وأباطيلها ، وأصل الضغث الحزمة من أنواع الحشيش والأحلام جمع حلم مما يرى في النوم من وسوسة الشيطان وحديث النفس الخبيثة كما بيناه في الآية 5 المارة «وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ 44» فقلق الملك وتشوش أكثر من ذي قبل لتوقف الناس عن معرفة تأويل رؤياه ، وصار يتعجب منها خاصة قضية تغلب ضعاف البقر على السمان على عكس العادة ، لأن القوي من كل دائما يتغلب على الضعيف ، وصار يبحث عمن يعبرها له ، فتذكر الساقي إذ ذاك حذاقة يوسف في التعبير وشدة اختصاصه به ، قال تعالى «وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ» تذكر وتفطن «بَعْدَ أُمَّةٍ» مدة طويلة على تعبير رؤياه ورفيقه في السجن ووقوعها كما عبرها وصيّته له بأن يذكر سيده فيه «أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ» أيها الملك «فَأَرْسِلُونِ 45» لآتيكم بمن يعبرها ، ولذلك لم يقل أفتكم وذكر الضمير لعوده على الأمر الذي استصعبه الملك من الرؤيا ، قالوا قال هذا بعد أن تمثل أمام الملك بالاستئذان وجثى على ركبتيه احتراما على حسب عادتهم ، فأرسله الملك بعد أن فهم مما ذكر له من أحواله ومما قص عليه من أطواره ، وأنه من سلالة ابراهيم عليه السلام وانه يتمكن من تعبير رؤياه فذهب ودخل السجن وقال «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ» سماه صديقا لصدقه في تعبير رؤياه وغيرها ، «أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ» الملك وأتباعه وأهل مملكته ، لأن هذه الرؤيا شاعت لدى العامة ولم يقدر أحد على تعبيرها وصارت شغلهم الشاغل ، فبينها لنا مما علمك ربك لنذكرها للملك وملائه «لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ 46» تأويلها ، ويظهر لهم فضلك فتخلص من محنتك هذه ، فسأله عن الرأي لأن له مدخلا في التعبير إذ المعبر
يعبر لكل بحسبه وما هو عليه ، فقال له الملك الأكبر ، «قالَ» قل للملك ومن أهمه شأن هذه الرؤيا هي رؤيا مشؤومة وعاقبتها وخيمة ، ولكن إذا أردتم أن تتخلصوا من هولها وتكونوا في مأمن من مغبتها «تَزْرَعُونَ» خبر بمعنى الأمر لأنه فسر البقرات السمان والسنبلات الخضر بسبع سنين مخصبة ، والبقرات العجاف(3/218)
ج 3 ، ص : 219
والسنبلات اليابسة بسبع سنين مجدبة ، أي ازرعوا أيها الناس «سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً» بحسب عادتكم لأن الدأب العادة المتمادية ، حتى إذا بلغ الزرع الحصاد «فَما حَصَدْتُمْ» منه كل سنة «فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ» لا تدوسوه ولا تذرّوه فإنه يسوس «إِلَّا قَلِيلًا» جدا بأن تدوسوا وتذروا منه بقدر «مِمَّا تَأْكُلُونَ 47» في كل سنة واحتفظوا بالباقي بسنبله واتركوه على حاله إلى السنين المجدبات المنوه بها في قوله «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» السبع المخصبات.
ولم يؤنث الضمير تفخيما لشأنهن «سَبْعٌ شِدادٌ» مرهقات للناس لأنهن ممحلات مجديات «يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ» أن يأكل الناس فيها ما ادخرتموه من السنين المخصبات ولم يتركوا منه «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ 48» تحززونه للبذر فتبقونه في الحصن ليحفظ فلا يسقع ولا يطرأ عليه ما يفسده ، والإحصان هو الاحراز بعينه ، كما أن البذر هو البزر «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» السبع الممحلات «عامٌ» نون للتعظيم لما فيه من الخير الجسيم ، وهو كالسنة إلا أنه يستعمل فيما فيه الرخاء والخصب غالبا كما تستعمل السنة فيما فيه الشدة والجدب ، يدل عليه قوله تعالى «فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ» بأمطار كثيرة نافعة «وَفِيهِ يَعْصِرُونَ 49» الأعناب والزيتون والسمسم وكل ما من شأنه أن يعصر كالبرتقال والليمون والرّمان ، وهو كناية عن كثرة الخيرات فيها والبركات الأرضية والسماوية ، وقل لهم إذا فعلوا ذلك نجوا من سرها ، وإلا فالويل كل الويل لهم ، فرجع الساقي فرحا مسرورا وأتحف الملك بذلك ، فاستحسنه ورآه مصيبا واعتقد الحكمة
في المعبر لإرشاده لما يجب أن يعمل ويحتاط لذلك الأمر العصيب ، واشتاق لرؤيته لينعم عليه جزاء لتعبيره هذا ، وإراجة فكره من هول تلك الرؤيا ، ومن التدبير المستقبل لحفظ رعيته من الهلاك ، فالتفت لخدمه وذكر ما قص اللّه عنه بقوله عزّ قوله «وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ» من سجنه لأنظر اليه وأكافئه ، فذهب منهم الأول بدليل قوله «فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ» لأن أل هنا للعهد والمعهود وهو الأول الذي ذهب اليه إجابة لدعوته إذ اشتاق لرؤيته وأخبره بما قال الملك «قالَ» يوسف للرسول لا أذهب معك الآن(3/219)
ج 3 ، ص : 220
ولا أخرج من السجن بل «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ» الذي فعلنه بي واحتلن به عليّ «عَلِيمٌ 50» لم يرد عليه السلام اخبار الملك بأمر النسوة معه ، وانما أراد أن يطلع هو والعزيز على حقيقة ذلك ، ولهذا اكتفى عليه السلام بذكر تقطيع الأيدي ورمز إلى المراودة التي كلفته بها امرأة العزيز بالكيد الذي وقع منها على طريق المجاملة ، واحتراز من سوء المقابلة ولعلهن يتكلمن إلى الملك بواقع الحال ، إذ لم يصمهنّ بشيء ظاهرا ، وكان ما ظنّ وكان تأنيه بالخروج من السجن إصابة لتظهر براءته عند الناس أجمع كما هو بريء عند اللّه ، وليعلموا أنه سجن ظلما ، ومن كرم أخلاقه عليه السلام لم يذكر اسم سيذته مع مع السبب في إحضار النسوة ، وقد أثنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على فضله وحسن أناته بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي وأخرجه الترمذي بزيادة ثم قرأ فلما جاءه الرسول إلخ ، وجاء في حديث آخر : لقد عجبت من يوسف وصبره واللّه يغفر له حين سئل عن البقرات السمان والعجاف ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني ، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال إرجع إلى ربك إلخ الآية ، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرت الباب ولما ابتغيت العذر ، وانه لحليم ذو أناة وهذا من تواضعه صلّى اللّه عليه وسلم ، وإلا فحلمه وأناته وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه من قول الخلق وامر الحق لا يقاس بغيره ، فقد أعطى من كل شيء غايته ومنتهاه وعبر بحرا وقف الأنبياء بساحله الأدنى ، فرجع الرسول وأخبر الملك بقوله ، فأمر حالا بجمع النسوة واحضارهن
ثم خاطبهن بقوله «قالَ ما خَطْبُكُنَّ» ما شأنكن وأمر كن «إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ» خاطبهن جميعا بهذا القول سترا لامرأة العزيز ، ولا نهن أمرنه بمطاوعتها «قُلْنَ» للملك بلسان واحد «حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» ذنب أو خيانة فى شيء ما وقد بالغن في نفي جنس السوء عنه بتكيد لفظ السوء ، وزيادة من ، (3/220)
ج 3 ، ص : 221
وابتداء جوابهن بكلمة التبرؤ والتعجب من زيادة عفته ، ثم «قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ» بانفرادها للملك «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ» ظهر ظهورا واضحا بينا «أَنَا» يا حضرة الملك «راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ 51» بقوله هي راودتني اعترفت هنا اعترافا صريحا علنا ، لأن اعترافها الأول في الآية 32 المارة كان بحضور النسوة فقط ، فلم يكن كافيا لبراءته عند زوجها والعامة قالوا ثم أمر الملك الرسول أن يخبر يوسف بذلك ، فذهب اليه وبشره بالاعتراف العلني العام ببراءته بحضور الملك مما عزى اليه قال يوسف عليه السلام «ذلِكَ» عدم خروجي من السجن وامتناعي من اجابة الملك أولا وسبب تثبتي وأناتي هو لظهور براءتي عند العزيز الذي كان أحسن إلي وأكرمني مدة إقامتي عنده «لِيَعْلَمَ» علما حقيقيا «أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» في زوجته كما لم أخنه في ماله وخدمته ولا بحضوره «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ 52» ولا يسددها ولا يسهل مكرهم ولا يرشدهم لطريق الخلاص ، فلو كنت خائنا لما أنقذني من هذه الورطة ولم يوفقني للنجاة منها.
وهذه الآية بالنسبة لما قبلها على حد قوله تعالى (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) من قول ملأ فرعون وقوله بعد (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من قبل فرعون كما مر في الآية 110 من سورة الشعراء ، وما قيل ان (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) من قول امرأة العزيز تبعا للآية قبلها فليس بشيء كما أن من قال إن الضمير في ليعلم للملك ، وفى لم أخنه له ليس بشيء أيضا ، وما جرينا عليه هو الأولى وعليه أكثر المحققين ، وكذلك قوله تعالى «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي» هو من قول يوسف عليه السلام لا من قول المرأة كما قاله بعض المفسرين هذا ولما ذكر عليه السلام براءته مما عزي اليه قال على طريق هضم النفس والتواضع إلى ربه ولئلا يزكي نفسه على أتم وجه وليبين ما وفق اليه من الأمانة والعصمة التي منّ اللّه بها عليه قال (وَما أُبَرِّئُ) إلخ من الهم الذي أوطنها عليه لأنه عبارة عن خطرات قلبية جارية عادة في طبيعة البشر مجردة عن القصد والعزم وكذلك لا أبرىء نفسي من الميل المجرد الذي هو من طبع النفس.(3/221)
ج 3 ، ص : 222
مطلب مراتب النفس ومواقف التهم وحكاية الزمخشري واجتماع يوسف بالملك بعد توليه الوزارة :
«إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» أي جنس النفس طبعها الأمر بالسوء لما فيها من القوى الشهوانية ، والسوء لفظ جامع لكل ما يتهم به الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية ، أما السيئة فهي الفعلة القبيحة ، والنفس من حيث هي واحدة لها صفات منها هذه ، ومنها اللوامة ومنها المطمئنة ، فإذا دعيت النفس إلى شهواتها ومالت إليها فهي الأمارة بالسوء ، فإذا منعتها النفس اللوامة على ما نوته من القبح يحصل لها الندامة فيكون من صفاتها المطمئنة أي أن النفس على الإطلاق تأمر صاحبها بعمل السوء ، لأن الإنسان إذا ترك وشأنه كان شريرا بالطبع «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي» إلا النفس التي رحمها اللّه وعصمها كنفوس الأنبياء أمثال يوسف عليه السلام ، ولم يخص نفسه تواضعا وهضما لنفسه ، وقد تأتي ما بمعنى من كما هنا وكما في قوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) الآية 3 من سورة النساء في ج 3 ، راجع الآية 16 من سورة الفرقان في ج 1 وجعل الاستثناء هنا متصلا أولى من جعله منفصلا كما لا يخفى «إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ» لما يعتري النفوس بمقتضى طباعها لأن منه ما لا يكون في طوق البشر دفعه كالهم والميل المجردين عن القصد والنية وهو «رَحِيمٌ 53» بعصمة تلك النفوس من الجري على موجب ذلك لخروجه عن الوسع وإنما تورع عليه السلام بالقول ليتوصل إلى ما يحمل الملك على الهداية والإيمان باللّه تعالى كما توصل إلى إيقاع الحق لصاحبه بالسجن لهذه الغاية.
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أن نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف مواقفها ، قال عليه الصلاة والسلام : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم.
وأخرج مسلم من رواية أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمرّ به رجل فدعاه وقال هذه زوجتي ، فقال يا رسول اللّه من كنت أظن به فلم أكن أظن بك ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم ، أي يأخذه لطرق الشرّ من حيث لا يحس ويأتيه من كل جوانبه من كل مسلك كما أن الدم يجري في جميع عروق ابن آدم وهو لا يحس به فهو من قبيل المعلوم غير المحسوس مثل(3/222)
ج 3 ، ص : 223
حركة الظل وفلكة المهواية والرحى وسريان النار في الفحم والزيت في الزيتون والسمسم وما أشبه ذلك ، راجع الآية 112 من سورة هود المارة ، وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي سبط رسول اللّه وريحانته رضي اللّه عنهم قال حفظت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
أي ما تشك وتشتبه به إلى ما لا تشك ولا تشتبه فيه.
وجاء في خبر آخر رحم اللّه امرأ جبّ المغيبة عن نفسه.
أي قطعها بعدم وقوفه ومروره في مواقف التهم وعدم مشيه مع المشبوهين باقتراف المعاصي ومجالستهم ومكاتبتهم فيجب على الإنسان أن يحفظ نفسه وسمعته من كل ذلك.
كان جار اللّه محمود الزمخشري مقطوع الرجل وقد أخذ حكما من قاضي زمانه بأنها قطعت بعاهة لئلا يظن أنها قطعت بسرقة أو فساد في الأرض ، وكلما دخل بلدة اظهر لأهلها حكم القاضي بأنها قطعت بعاهة خوفا من تهمة السوء ، قيل إنه ذات يوم أمسك عصفورا فكسر رجله فقالت له أمه كسر اللّه رجلك كما كسرت رجله ، وكان ذهب إلى بخارى لطلب العلم وكسرت رجله بسبب وقوعه عن الحمار ، فقال هذه دعوة أمي إلا أن الإثبات الذي لديه يدل على أنها تعطلت بالثلج.
هذا ولا يبعد أن السيد يوسف عليه السلام خشي أن يخرج ساكتا من السجن عن أمره الذي سجن من أجله وشاع خبره لدى العامة ولم تتضح براءته منه بصورة جلية ليطلع عليها الخاص والعام ، وقرف به من أن يتسلق به الحاسد إلى تقبيح أمره ذلك ، فيكون سلّما إلى الحط من قدره ونظر الناس إليه بعين الاحتقار ، فلا يعلق كلامه في قلوبهم وهو بحاجة إلى ذلك لتمهيد دعوته إلى ربه ، وقد لا يترتب على دعوته قبولهم فيما لو بقي ساكتا عن إظهار واقعته ، لذلك فإنه وضحها للناس على الصورة المذكورة أعلاه ، هذا ولما ثبت لدى الملك براءته ورأى علمه وفضله ودرايته وثناء العامة عليه أحبّ أن يصطفيه لنفسه ، لأن الصابر العفيف الحسن الكتوم أهل لأن يكون من خواص الملك ، وكان عليه السلام العفيف الحسن الكتوم أهل لأن يكون من خواص الملك
، وكان عليه السلام متحليا بكل وصف حميد ، فأراد أن يوليه أمر ملكه وتدبير رعيته المنبئ عنه قوله تعالى «وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي» فذهب الرسول الأول حالا فرحا مسرورا ودخل السجن وبلغه أمر الملك على رؤوس الأشهاد ، (3/223)
ج 3 ، ص : 224
وقال إن الملك أمر بإخراجك من السجن بلا عودة ، وطلب مقابلتك ليوليك أمره ، فودع أهل السجن ودعا لهم بخير ، ولما خرج أسفوا كلهم على فراقه وفرحوا بخروجه ، قالوا ولما خرج كتب على باب السجن هذا بيت البلاء ، وقبر الأحياء ، وشماتة الأعداء ، وتجربة الأصدقاء.
ثم اغتسل خارجه ولبس ثيابه وتوجه نحو الملك ، فلما قرب منه قال حسبي ربّي من دنياي ، حسبي ربي من خلقه ، عز جارك يا اللّه وجلّ ثناؤك ولا إله غيرك.
ولما وقف بين يديه وأبصره قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بك من شره وشر غيره.
وسلم عليه بالعربية ، فقال له ما هذا اللسان ؟ قال لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانية ، فقال له ما هذا اللسان ؟ قال هذا لسان آبائي ، قالوا وكان الملك يحسن سبعين لغة ، فكلمه بها كلها ، فأجابه بما يكلمه ، وزاد عليه بالعبرية والعربية ، فأعجب به غاية الإعجاب وقربه وأجلسه بجانبه ، قالوا وكان خروجه من السجن بعد بلوغه الأربعين سنة من عمره ، لأنه أدخل فيه بعد كمال الثالثة والثلاثين وبقي فيه سبع سنين على أصح الأقوال ، وما قيل إنه لبث في السجن خمس سنين قبل أن أوصى ساقي الملك ليعرض أمره على ربه فليس بشيء ، لأنه دخل معه وخرج بعد تعبير الرؤيا بثلاثة أيام ، ولأنه حين خرج كان عمره أربعين سنة وإذا مشينا على هذا القيل يكون عمره إذ ذاك خمسا وأربعين سنة ، ولم يقل به أحد.
قال تعالى «فَلَمَّا كَلَّمَهُ» وشاهد منه ما لم يكن بالحسبان وما وقع منه حين مواجهة الملك من الاحترام اللائق به مما أعجب الملك ودهش منه كان بتعليم اللّه تعالى ، لأن الملوك لا يبدأون بالكلام بل بالتحية والدعاء فقط ، ثم يسكت أمامهم حتى يكون الملك البادئ ثم يجاب على قدر السؤال ، فلما رآه الملك واقفا على هذه الأصول وزيادة لم يرها من غيره أقبل عليه وخاطبه بقوله كما حكى اللّه عنه «قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ» ذو مكانة عالية ومنزلة سامية «أَمِينٌ 54» ذو مقام مؤتمن على أسرارنا وعلى خزائننا ، قالوا وقال الملك يا يوسف أحب أن أسمع منك تأويل الرؤيا فقصّها كما رآها ثم قص له تأويلها كما ذكره أولا ، فقال واللّه ما أخطأت منها شيئا ، وإنها كانت عجبا وما سمعته منك أعجب ، لأنك أخبرتني عن شيء رأيته أنا وأوّلته(3/224)
ج 3 ، ص : 225
أنت بشيء لم يخطر على بالي ، ثم قال له ماذا ترى نعمل ؟ فأشار عليه بما تقدم مع تفصيل وتوضيح ، وقال إذا فعلت هذا تؤمن قوت قومك وتأتيك الناس طلبا للميرة من كل مكان ، فتبيعهم الفضل فيجتمع عندك خزائن الأرض ، وتستعبد الناس بما تضع لهم من معروف بصيانة حياتهم من الموت جوعا وما ، تبيعه لهم منة يعدونه صدقة منك لشدة الحاجة إليه ، فقال ومن لي بمن يقوم بهذا العمل العظيم الذي فصلته لي لأنه يحتاج إلى جماعة مدرّبين محنكين يعون ما يعملون ويعلمون عاقبة ما يفعلون فيأمنون مما يعتذر منه «قالَ» يوسف عليه السلام أنا أكفيك ذلك كلّه أيها الملك «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» التي يشملها ملكك وخولني ما فيها من أموال وطعام وأنعام وغيرها من جميع أنواع الخراج الذي قننته عليهم لأقوم لك بذلك كما ينبغي إن شاء اللّه «إِنِّي حَفِيظٌ» لها أمين عليها «عَلِيمٌ 55» بطرق جبايتها وجمعها وحفظها خبير بوجوه تفريقها وتعيين مواردها وتبين مصالحها وكيفية صرفها ، فقال له الملك نعم إني لا أرى أليق منك ولا أحق بذلك ، قالوا فولاه واردات دولته ونفقاتها (وزارة المالية) ولا محل للقول هنا بأنه لا يجوز طلب الإمارة فكيف ساغ للسيد يوسف طلبها مع ما هو عليه من النبوة لما جاء في الصحيحين عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها.
لأن هذا إذا لم يتعيّن عليه طلبها ، فإذا تعين وجب عليه طلبها ، وإيضاحا لذلك نضرب مثلا : لو كلف رجل بمنصب القضاء وعرف أنه إذا لم يقبله يعين له من ليس من أهله ، وجب عليه قبوله إياه ، بل يجب عليه طلبه لما في ذلك من الخطر على مصالح المسلمين وغيرهم وضياع حقوقهم ، ولما كان السيد يوسف عليه السلام مرسلا لمصالح الخلق ومكلفا برعاية حقوقهم ومحافظة أمورهم ، وقد علم بإعلام اللّه إياه أن غيره لا يتمكن من ذلك كما يجب ، لاسيما في هذه القضية ، وأن الناس سيترامون بأموالهم وأنفسهم على مصر للميرة منها ، وأنه لا بد لهذه الوظيفة من أمين صادق رؤوف على العباد يقوم بها ، وجب عليه طلبها لأنه إذا لم يقبلها لا يستطيع أحد القيام بها كما ينبغي ويحافظ على حقوق الأمة ويصونها(3/225)
ج 3 ، ص : 226
من الهلاك بصورة عادلة لا تفضيل فيها للخطير على الحقير ، ولا الغني على الفقير ، لذلك طلبها وزكى نفسه أمام الملك بما تقدم لتطمئن نفسه ويستريح ضميره ، إذ شغل باله بمن يوليه عنه هذه المهمة ويكفيه مؤنتها ويريحه من هذا الأمر الذي ذكره له على ما هو عليه من الخطورة ، ولا يقال أيضا كيف زكى نفسه واللّه تعالى يقول (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) ؟ الآية 30 من سورة والنجم المارة في ج 1 لأن تزكية النفس إذا قصد بها إيصال الخير والنفع إلى الغير مطلوبة ومحمودة ، وانما تكره لا تحرم التزكية للنفس إذا قصد بها التطاول على الناس والتفاخر بما عنده عليهم والتوصل إلى ما لا يحل ، وهذه كلها بعيدة عن ساحته عليه السلام وغاية تصديه لذلك إنما هي إعلام الملك بما تقدم وايقافه على أنه ليس مختصا بأمور الدين فقط كما ظن الملك به اولا من تعبير الرؤيا والنصح لأهل السجن ، وان من كان هذا شأنه بعيدا عن أمور الدنيا لا يعرف ما يلزم لها أو يتعلق بها ، بل له علم كامل بها وما يتفرع عنها أيضا ، ومن هنا قال أهل هذا العصر بفصل الدين عن السياسة ولم يعلموا أن الواقف على أصول الدين أعلم بالسياسة من غيره ، وهذه المصلحة من أمور الدنيا بحسب الظاهر بقطع النظر عما يلزم لها من العدل وما فيها من الثواب العظيم عند اللّه ، فإنه قد علم بتعليم اللّه تعالى إياه لو تولاها غيره لجار وارتشى وفضل أناسا على آخرين ، فأدى إلى هلاك الأمة أو أكثرها فاجابه لذلك ، وإنما لم يذكر اللّه تعالى اجابة الملك إلى توليه يوسف إيذانا بأن ذلك أمر لا غنى له عنه ، لأنه لم يقل له يوسف ما قال إلا حينما رآه متحيرا بمن يوليه ذلك الأمر الخطير ، قالوا وكان بين طلب توليه وإسنادها اليه سنة واحدة ، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال قال رسول صلّى اللّه عليه وسلم يرحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لا ستعمله من ساعته ، ولكنه أخّر ذلك
سنة وسبب هذا التأخير أن الملك لا يولي أحدا قبل أن يختبره بما يوليه عليه وان السنة كافية للتحقيق عن حال الموظف خارجا وداخلا.
مطلب تمرين الموظف وزواج يوسف بزليخا ودخول السنين المجدبة واجتماع يوسف بإخوته :
ومن هنا اتخذت الملوك قاعدة التمرين لمدة سنة على الأقل لمن يريدون توليته حتى إذا ظهر لهم خلالها كفاءته عينوه وإلا صرفوه ألم تر أن حضرة الرسول قال(3/226)
ج 3 ، ص : 227
سودوا قبل أن تسودوا أي صيروا أهلا للسيادة قبل أن تقلّدوها.
قالوا ولما انقضت السنة وظهر للملك من اختباره أحوال يوسف من جميع نواحيها أنه ذلك الرجل الذي هو أهل لأن يعتمد عليه في هذه المهمة واطمأن من لباقته ولياقته ووثق من اقتداره وكان العزيز شاخ وهرم فعزله عن العمل وأحاله إلى المعاش ثم أحضر يوسف عليه السلام إلى مجلسه بحضور ملائه وقلده الوزارة وبلغه أمر تعيبنه ووشحه بسيف مرصّع وحلاه بخاتمه ووضع له سريرا من ذهب مكللّا بالورد والياقوت وأجلسه عليه وتوجه بتاج الملك ، وسلمه خزائنه وفوض اليه أمر الملك كله بصورة فوق العادة الجارية لمن سلف من وزرائه ، وتخلى له عن كل شيء وأبلغ ذلك إلى عماله في جميع أقطار مملكته ، فدانت له الملوك وأذعنت اليه الأمم وانقادت له أعيان المملكة وشيوخها ، وتولى الأمر والنهي بنفسه ، وكان عمره إذ ذاك واحدا وأربعين سنة ، قالوا وتوفي العزيز في هذه السنة ، فزوجه الملك امرأته زليخا ، فلما دخل عليها قال أليس هذا أحسن مما كنت تريدينه ؟ قالت لا تلمني أيها الصديق فقد كنت غضة طربة ناعمة ، في ملك ودنيا كما رأيت ، وكان صاحبي شيخا لا يأتي النساء وأنت على ما جعلك اللّه عليه من الجمال والأخلاق والهيبة والوقار فغلبتني نفسي وعصمك اللّه ، قال ووجدها عذراء وولدت له افرائيم وميشا ، قالوا ولما بدأت السنون الخصبة أقام السيد يوسف العدل بين أهالي مصر وغيرهم وأحبه الخاص والعام وهيء محالا لخزن الحبوب ، واستحضر ما يؤمن لأهالي مملكته وغيرهم طيلة السنين المجدبة قالوا ولما دخلت السنون المجدبة فأول من أحسّ بالجوع الملك ، فأرسل إلى يوسف يقول له الطعام الطعام ، نخصص له وحاشيته وله نفسه كل يوم أكلة واحدة وسط النهار ، ومن ثم صار غداء الملوك نصف النهار ، وحتى الآن وهم سائرون على هذه العادة ، وكان عليه السلام نبه جميع الأهالي إلى أن يدخروا طعام سبع سنين كما فعل
هو ، إذ ادخر لأهل مملكته ما يكفيهم تلك المدة ، وقد فعلوا ولكنهم استهلكوه بسنة واحدة لعدم انتظامهم في الأكل وعدم اقتصادهم على أكلة واحدة كما فعل هو والملك ، ولأن العادة في الغلاء (أعاذنا اللّه منه) تتغير إذ ان الإنسان يأكل فيه اكثر من زمن الخصب والرخص(3/227)
ج 3 ، ص : 228
والرخاء ، ولفراغ العين تقل البركة فطلبوا الابتياع منه ، فباعهم بالسنة الأولى والثانية من السنين المجدبة بالنقود ، والثالثة بالحلي والجواهر ، والرابعة بالدواب والأنعام ، والخامسة بالعبيد والجواري ، والسادسة بالضياع والعقارات ، والسابعة بأنفسهم وأولادهم ، حتى صار جميع ما في مملكته ملكا له ، واسترق أهلها فصاروا عبيدا له من جملة حاشيته ، ثم ذهب فقابل الملك وقال له كيف رأيت صنع اللّه فيما خولتني فيه بحسن نيتك وعقيدتك في ؟ فقال الملك نعم ما فعلت وحسن ما صنعت ، أنا لك تبع والرأي لك فيهم وفي غيرهم ، فقال الملك نعم ما فعلت وحسن ما صنعت ، أنا لك تبع والرأي لك فيهم وفي غيرهم ، فقال إذا ، إني أشهدك وأشهد اللّه على أني أعتقتهم كلهم ، ورددت لهم أموالهم وضياعهم ، ثم ظهر عليهم وأبلغهم ذلك ، فقالوا ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم ولا أرأف من يوسف ، بل ولا سمعنا من آبائنا ملكا تحىّ بصفاته وحبه لرعيته ، وكان عليه السلام لا يشبع طيلة السنين المجدبة ، فقيل له في ذلك ، فقال أخاف ان أنا شبعت أن أنسى الجائع ، ولهذا فقد آمن به الملك وجميع الناس الذين وقفوا على أخلاقه هذه ، وكان لا يبيع أكثر من حمل بعير للواحد لئلا يضيق الطعام على الباقين وكان يلقاهم بوجه طلق ويحسن إليهم ويوفي لهم الكيل ولا يميز بين أحد ويعدهم بأن يبيعهم مرة أخرى كلما نفذ ما عندهم ويقول إن الحبوب كثيرة فلا تخشوا نفادها ، وان في الخزائن ما يكفيكم إلى وقت الخصب والحصاد ، لذلك لا ترى أحدا إلّا ويدعو له بالخير.
قال تعالى (وَكَذلِكَ) كما أنعمنا على يوسف بما تقدم ذكره من
تخليصه من إخوته ومن البئر ومن امرأة العزيز ومن السجن «مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ» أقدرناه على أهلها وثبتنا قدمه وجعلناها راسخة في أرض مصر «يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» لا ينازعه فيها منازع ، ولا يعارضه فيها معارض ، له الأمر والنهي فيها من بعد اللّه تعالى وقد أكرمناه بذلك إكراما من لدّنا وقرىء نشاء بالنون لمجانسته قوله تعالى «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا» عطائنا الواسع في الدنيا من الغنى والملك والنبوة «مَنْ نَشاءُ» من عبادنا المخلصين لنا النّافعين لعبادنا «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» 56 منهم فيها لأن الإضاعة تكون للعجز أو الجهل أو(3/228)
ج 3 ، ص : 229
البخل ، والكل محال عليه تعالى ، فامتنعت الإضاعة وحل الإحسان ، وهو يعم أمورا كثيرة وحقيقة الشاهد والعيان ، قال صلّى اللّه عليه وسلم في حديث جبريل الذي رواه مسلم عن عمر رضي اللّه عنه ، قال أخبرني عن الإحسان ، قال أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وهذه الرؤية ليست برؤية عيانية بل حالة تحصل عند الرسوخ في كمال الإعراض عما سوى اللّه ، وتمام توجهه إلى حضرته المقدسة بحيث لا يكون لسانه وقلبه وهمه غير اللّه تعالى ، وسميت هذه الحالة مشاهدة لمشاهدة البصيرة إياه تعالى كما أشار إليها بعض العارفين بقوله :
خيالك في عيني وذكرك في فمي وحبك في قلبي فإين تغيب
وقال الكندي :
وفي أربع مني حلت منك أربع فما أنا أدري أيها هاج لي كربي
خيالك في عيني أم الذكر في فمي أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي
قال تعالى : «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ» من أجر الدنيا مهما كان عظيما وهو مهيء «لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ 57» اللّه تعالى فيأتمرون بأمره وينتهون بنهيه وفيه إشارة إلى أنه كان من المتقين زمن الهم والميل ، واعلام بأن اللّه تعالى أعد ليوسف عليه السلام في الآخرة أعظم مما أتاه في الدنيا قالوا ولما اشتد القحط وعم البلاء احتاج أهل البادية إلى الميرة من الحاضرة فأتوا مصر ومن جملتهم أهله حيث كانوا نازلين بالعربات من أرض فلسطين عند ثغور الشام فقال السيد يعقوب عليه السلام لأولاده بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فاقصدوه ثم جهزهم وأرسلهم وذلك قوله تعالى «وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ 58» جاهلون كونه هو إذ لم يعرفوه البتة ، وذلك لأنهم جاءوا عليه على حالتهم البدوية التي تركهم عليها ، فعرفهم هو لذلك وهم رأوا ملكا متوجا بتاج الملك بزي ملوك مصر فمن أين يعرفونه ، على أن العرفان يخلقه اللّه تعالى في القلب ولم يخلقه فيهم إذ ذاك ليحقق اللّه ليوسف عليه السلام ما وعده به في قوله (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الآية 15 المارة.(3/229)
ج 3 ، ص : 230
مطلب أول من سن التحقيق عن الهوية ومعنى الأخوه وفضلها ومحاسن الأخلاق :
قالوا ولما دخلوا عليه حيوه بالعربية فرد عليهم بها ، وكلمهم وسألهم ، فأخبروه بهويتهم وحالهم ومحلهم والسبب الذي جاء بهم إليه ، فقال لهم عليكم جئتم تنظرون عورة بلادي ؟ فقالوا ما نحن بجواسيس وإنما نحن أخوة أولاد أب واحد ، وكنا اثنى عشر وها نحن عشرة ولنا أخ آخر لأب تركناه عند والدنا حيث كان له أخ أحبنا إلى أبينا وقد هلك بالبرية ، فأمسك أخاه يتسلى به ، وان مجيئنا للميرة ليس إلا كما ذكرنا.
قالوا وبعد إكرامهم أراهم من لين الجانب ما قرت أعينهم به ، قال ومن يعرفكم ويعلمنا صدق قولكم ؟ قالوا لا أحد لأنا غرباء ، قال ائتوني إذا بأخيكم لأبيكم الذي هلك أخوه كما زعمتم ليظهر لي حقيقة قولكم ، قالوا ان أباه يحزن لفراقه ، قال اتركوا أحدكم عندي رهينة حتى إذا تبين أنكم جواسيس أجريت معه ما يستحقه الجاسوس من الجزاء ، لأن هيئتكم تدل على أنكم عيون لا ممتارون كما تزعمون ، وإنما قال لهم ذلك مع علمه بخلافه توطئة وتقدمة لأن يستنزلهم لجلب أخيه وإلا فبعيد عليه عليه السلام أن يتهمهم بذلك لأن هذا إذا كان على حقيقة يكون من البهت والبهت لا يليق صدوره منه ويصرف هذا عن معناه الحقيقي زيادة إكرامهم وحسن مكالمتهم وايفاؤه الكيل لهم وتزويدهم لما يحتاجون من الطعام في سفرهم وقوله لهم بعد هذا «وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
59» فوافقوه على ما قال وافترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأيا بعد يهوذا ، فسلموه إليه قال تعالى «وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ» بفتح الجيم ، وكسرها لغة رديئة ، إذ حمل لكل منهم بعيرا وبالغ بملاطفتهم وإكرام وفادتهم واحسان ضيافتهم ، فلما غادروه «قالَ» لهم «ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ» يطلق على الأخوة لأب بنو الأعيان والإخوة لأم بنو العلّات ويقال للأخوة من أم واحدة وآباء متفرقين بنو الأخياف وللأخوة من أب وأم أشقاء وقد نكر الأخ مبالغة في عدم معرفته لئلا يتهموه بمعرفتهم أو ينتبهوا لها ، والأخ قد يكون أكثر شفقة من الابن وقد أثنى اللّه على الأخوة بقوله جل قوله (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) الآية 110 من آل(3/230)
ج 3 ، ص : 231
عمران في ج 3 ، وقال «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» الآية 48 من سورة الحجر الآتية وقال صلّى اللّه عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها أتلف وما تناكر منها اختلف وقال صلّى اللّه عليه وسلم ان روحي المؤمنين يلتقيان في مسيرة يوم ، وما رأى أحدهما صاحبه ، وقد سنّ الإخاء وندب إليه وآخى بين أصحابه ، وجاء في الخبر عنه صلّى اللّه عليه وسلم كم أخ لك لم تلده أمك ، وقال عليه الصلاة والسلام الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين.
وقال جعفر الصادق عليكم بالإخوان فأنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة.
وقال الشاعر :
أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وقال زياد خير ما اكتسب المرء الإخوان ، فإنهم معونة على حوادث الزمان ، ونوائب الحدثان ، وعون في السراء والضراء.
قال ابن السماك أحق الإخوان ببقاء المودة الوافر دينه ، الوافي عقله ، الذي لا يملّك على القرب ولا ينساك على البعد ان دنوت منه داناك ، وان بعدت عنه راعاك ، وان استعنت به عضدك ، وان احتجت إليه رفدك ، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله ، فهو الذي يواسيك في الشدة أكثر من الرخاء ، ويغار عليك كما يغار على نفسه ويساوي حاجتك بحاجته بل تقتضى مروءته تقديمها على حاجته ولو أضرّت به.
وفي هذا قيل :
دعوى الإخاء على الرخاء كثيرة ولدي الشدائد تعرف الإخوان
وقال الآخر :
إن أخاك الحق من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك شتّت فيك شمله ليجمعك
وقيل لخالد بن صفوان أي اخوانك أحب إليك ؟ قال الذي يسد قلّتي ، ويغفر زلّتي ، ويقبل عثرتي وقيل من لم يوأخ إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه ، ومن لم يرض من صديقه إلا بايثاره على نفسه دام سخطه ، ومن عاتب على كل ذنب ضاع عتبه وكثر تعبه.
وقيل في ذلك :
إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
وإن أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه(3/231)
ج 3 ، ص : 232
وقالوا إذا رأيت من أخيك أمرا تكرهه ، أو خلة لا تحبها فانصحه وانهه واضرب له الأمثال على قبح عاقبتها ، ولا تهجره رأسا ، ولا تقطع صلته ولا تصرم ودّه ، ولكن داو كلمته ، واستر عورته ، وابقه وابرأ من عمله قال تعالى (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) الآية 267 من سورة الشعراء في ج 1 ، فإن اللّه لم يأمره بقطعهم بل بالبراءة من سيء عملهم ، وقيل :
أخاك الذي إن تدعه لملمة يجبك كما تبغي ويكفيك من يبغي
وان تجفه يوما فليس مكافئا فيطمع ذو التزوير والوشي ان يبغي
وقالوا ليس سرورا يعدل لقاء الاخوان ولا غم يعدل فراقهم ، ولكن من هؤلاء الإخوان فإن اخوان أهل هذا الزمن خوّان ، ان أبديت لهم شيئا أحبوك وان منعتهم رفدك بغضوك ، وهم كما قالوا شر الإخوان الواصل في الرخاء الخاذل في الشدة ، وهذا الصنف منهم كثير ، وفيهم يقول القائل :
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ومن أين للحر الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ذئابا على أجسادهن ثياب
وأتى هؤلاء ممن نوه بهم حضرة الرسول بقوله ما تحابّ اثنان في اللّه الا كان أفضلهما عند اللّه أشدهما حبا لصاحبه ، وما زار أخ أخا في اللّه شوقا إليه ورغبة في لقائه إلا نادته الملائكة من ورائه طبت وطابت لك الجنة.
وما أحسن ما قيل :
وزهدني في الناس معرفتي بهم وطول اختباري صاحبا بعد صاحب
فلم ترني الأيام خلأ تسرني مباديه إلا ساءني في العواقب
راجع الآية 29 من سورة الفرقان في ج 1 تجد ما يتعلق بهذا البحث ، وله صلة في الآية 67 من سورة الزخرف الآتية فراجعها ، قال تعالى «أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» لكم ولغيركم إيفاء مستمرا بدلالة استقبال الفعل لأن هذا الكلام وقع بعد أن كال لهم «وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ 59» المقرين للضيف سابقا ولا حقا بدلالة الجملة الاسمية ولم يقل هذا بطريق الامتنان بل قاله حتما لهم على تحقيق ما أمرهم به يدل عليه قوله «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي» مرة أخرى ففيه إيعاد لهم على عدم الإتيان بأخيهم المتضمن مخالفة أمره وزاد في(3/232)
ج 3 ، ص : 233
الوعيد بقوله «وَلا تَقْرَبُونِ 60» البتة إذ يظهر له عدم صحة قولكم هذا على قراءة الكسر ، وعلى قراءة الفتح يكون المعنى لا تدخلوا بلادي لأني سأعاملكم معاملة العيون.
وتأتوني تقرأ بالهمز وبدونه مثل يأكل ويأكل ، أي أنه يعاملهم معاملة الجواسيس فضلا عن عدم الإيفاء بالكيل والإحسان في الضيافة أي لا أمدكم ولا أدخلكم بلادي وسأردكم خائبين وذلك عبارة عن ترهيب وتضييق ووسيلة لاهتمامهم بجلب أخيه
«قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ» فنحتال عليه حتى ننتزعه منه ونحضره لك وأكدوا له تنفيذ ما أمرهم به بقولهم «وَإِنَّا لَفاعِلُونَ 61» ما أمرتنا به إذ لا غنى لنا عن العودة لحاجتنا إلى الميرة لأنا آل بيت معروف تطرقه الضيفان من كل مكان وما تصدقت به علينا لا يكفينا ، وأذن لهم بالانصراف «وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ» من طعامهم الذي ابتاعوه منه «فِي رِحالِهِمْ» أوعيتهم التي يحملون فيها أشياءهم «لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 62» إلينا ، لأن ديانتهم وأمانتهم تحملهم على ردها فيحصل المطلوب من قصد حضورهم بأخيهم ، وهذا التفسير أولى بالمقام وبسياق الكلام من أن يراد بالبضاعة معرفة كرمه وسخائه لأنهم قد علموا ذلك مما تقدم ، أوانه رأى أخذ الثمن من أهله لؤما مع أنه ليس بشيء عنده ، وقد صمم على بيعهم إليه أو أنه أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب فرده إليهم ، فهذه الأوجه كلها وان كان يحتملها التفسير إلا أنها بعيدة عن المرمى نائية عن المغزى ، واللّه أعلم.
قال تعالى «فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» قال لهم ولم ذلك قالوا إن ملك مصر أحسن وفادتنا وأكرمنا إكراما لو كان من ولد يعقوب ما فعل بنا مثله ، إلا أنه ظن أنّنا جواسيس وعيونا على مملكته لأنا من قطر غير قطره ، طلب أولا منا من يعرّفنا بعد أن عرفناه بحالنا ونسبنا فقلنا له إنا غرباء لا يعرفنا أحد ، فازداد تنكرّه منا وأخذ أخانا شمعون رهنا على أن نحضر له أخانا بنيامين دلالة على صدقنا إذ ذكرنا له قصتنا وفقد أخينا الذي هو أحبنا لأبينا ، وإننا لم نأت به لأن أبانا أبقاه يتسلى به ، وقال لنا إن لم تأنوا به فلا أميركم بعد أبدا «فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا(3/233)
ج 3 ، ص : 234
نَكْتَلْ»
ثانيا لأن الزمن زمن قحط وإنا بحاجة للطعام كما تعلم ، ولا تخف عليه فاتركه يذهب معنا «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 63» لا نفرط به البتة ، فلم يجب طلبهم ، لأنه لما أجاب طلبهم بيوسف فعلوا ما فعلوا به ، ولهذا «قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ» أي كيف آمنكم عليه وقد فعلتم في أخيه ما فعلتم وقد قلتم مثل هذا القول المؤكد بأصناف التوكيد وأكثر ثم فرطتم به لا أسلمه لكم ولا آمنكم عليه «فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً» منكم ومني ومن الخلق أجمع «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 44» بي وبه وبكم وبسائر مخلوقاته ولكن اذهبوا إليه وقولوا له إن أبانا يصلي عليك أي يدعو لك على ما أوليتنا من معروف وهو يجيب طلبكم إن شاء اللّه ، ولما رأوا جزم أبيهم على عدم إرساله سكنوا «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ» إذ رأوها مدسوسة بين أمتعتهم فدهشوا وعادوا إلى أبيهم «قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي» أيّ شيء نعمل وراء ما فعل بنا من الإحسان ملك مصر وأوفى لنا الكيل وأكبر وفادتنا فما نطلب منه بعد ذلك كله و«هذِهِ بِضاعَتُنا» التي أعطيناها له من ثمن القمح الذي باعه لنا «رُدَّتْ إِلَيْنا» أيضا فلا نحتاج إلى ثمن آخر ، فهيء لنا أخانا لنذهب به إليه ثانيا «وَنَمِيرُ» نحمل الطعام ونجلبه من بلد آخر من مار يمير والمصدر الميرة ، أي نمير «أَهْلَنا» به «وَنَحْفَظُ أَخانا» من كل ما نخاف عليه مما خطر ببالك ومما لم يخطر حتى نرده إليك سالما «وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» على السفرة الأولى ، لأن الملك لا يعطي الرجل الواحد أكثر من حمل واحد «ذلِكَ» القمح الذي جلبناه في المرة الأولى «كَيْلٌ يَسِيرٌ 65» قليل لا يكفينا وأهلنا فضلا عن الضيفان ، وأن الملك يسهل عليه ما يعطينا ولا يتعاظمه علينا لما شاهدنا منه من العطف واللطف «قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ» بالتاء والياء «مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ» عهدا موكدا باليمين «لَتَأْتُنَّنِي بِهِ» سالما كما أخذتموه وتحسنوا رفقته ، وهذا اليمين لا أقبله منكم على الانفراد بل من جميعكم ، على أن لا تتركوه «إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» من قبل الأعداء فتغلبوا جميعكم عليه ، بحيث لا تقدرون على خلاصه والرجوع به إليّ ، بأن تقاربوا الهلاك ، في ذلك تقول العرب أحيط بفلان إذا هلك أو قارب الهلاك.(3/234)
ج 3 ، ص : 235
مطلب تعهد أولاد يعقوب بأخيهم الثاني والإصابة بالعين وسببها وما ينفعها :
فقبلوا ما اشترطه عليهم لأنهم رأوا أنفسهم مضطرين لأخذه لما ذكر ولإيفاء وعدهم للملك ولخلاص أخيهم الذي تركوه رهينة عنده ، «فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ» على الصورة التي أرادها «قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ 66» في هذا العهد وأذن لهم به وفوض أمره إلى اللّه وأرسله معهم ، ولما خرج يودّعهم ويدعوا لهم ويوصيهم بعضهم ببعض ورأى هيئتهم وكثرتهم خاف عليهم من العين «قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ» فتتطرق إليكم أعين أهل مصر ولكن تفرقوا «وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ» أي كل ثلاثة أو أربعة من باب ، وذلك حرصا عليهم من أعين أهل مصر لما هم عليه من الحسن وعظم القامة ، وخوفا من الحسد أيضا لما في هاتين الخصلتين من تشعث القلوب من أنهما يؤثران بالإنسان من ذوي النفوس الخبيثة ، ومذهب أهل السنة والجماعة أن العين إنما تفسد أو تهلك عند نظر العاين بفعل اللّه تعالى ، وإذا أخبر الشرع بوقوع شيء وجب اعتقاده ، ولا يجوز تكذيبه وإنكاره لأنه من مجوزات العقل ، فلا يعتد بقول جساحده ، روى أبو داود عن عائشة قالت : يؤمر العاين فيتوضا ثم يغتسل منه المعين وقد ورد بالوضوء لهذا الأمر في حديث سهل بن حنيفة لما أصيب بالعين عند اغتسالة رواه مالك في الموطإ ، وقدمنا في الآية 52 من سورة القلم ج 1 ما يتعلق بهذا البحث مفصلا وموثقا بالأدلة فراجعه ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يعوذ بالحسن والحسين ، فيقول أعيذكما بكلمات اللّه التامة من كل هامة ، ومن كل عين لامة.
وزعم الطبيعيون أن العاين تنبعث من عينيه قوة سميّة تتصل بالمعان فيفسد أو يهلك كانبعاث قوة سمية من الأفاعي والعقارب فتصل بالملدوغ فيهلك ، وإن كان غير محسوس لنا ، فهكذا المعان تتصل به من عين العاين قوّة سمية غير مدركة فتصعقه أو تهلكه ، إلا أن انبعاث السم من الأفاعي والعقارب يكون بالاتصال وهناك لا اتصال ، فلا يحسن التمثيل ، إذ لا يقره العقل الذي جعلوه مصدرا للقبول والعدم ، ولذلك قال المازني هذا غير مسلم لأنا بينا في كتب الكلام أن لا فاعل إلا اللّه ، وبينا فساد(3/235)
ج 3 ، ص : 236
القول بالطبائع ، وبينا أن المحدث لا يفعل شيئا فيبطل ما قالوه ، على أن هذا المنبعث من العين ، إما جوهر أو عرض ، فباطل أن يكون عرضا ، لأنه لا يقبل الانتقال ، وباطل أن يكون جوهرا لأن الجواهر متجانسة ، فليس لبعضها بأن يكون مفسدا لبعض بأولى من عكسه ، فبطل ما قالوه ، لكن من تخيل الإسلام منهم قال لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرثية من عين العاين فتتصل بالمعين فتتخلل مسام جسمه فيخلق اللّه تعالى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السموم ، عادة أجراها اللّه تعالى ، وليست ضرورية ، ولا طبيعية الجاء الفعل إليها ، ولكون العين حقا شرعت الرّقيا من أجلها ، لأنها من جملة الأسباب الدافعة لها ، فينبغي لمن عرف نفسه أنه ذو عين أن لا ينظر إلى الأشياء نظر إعجاب ، وأن يذكر اللّه تعالى عند رؤية ما يستحسنه ، وعلى السلطان أن يمنع من عرف ذلك منه منى مخالطة الناس ، وقالت المالكية : لا فرق بين العاين والساحر ، أي أنهما يقتلان إذا قتلا ، ويحبسان إذا خيف وقوع ضرر منهما.
هذا وينبغي لكل أحد أن يقول كل يوم ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه ، حصّنت نفسي بالحي القيوم الذي لا يموت ، ودفعت عنها السوء بألف لا حول ولا قوة إلا باللّه.
وما قيل إن من له نفس شريفة لا تؤثر عينه مدفوع بما رواه القاضي أن نبيّا استكثر قومه فمات منهم في ليلة واحدة مائة ألف ، فشكا ذلك إلى اللّه فقال له سبحانه أنت استكثرتهم فعنتهم ، هلا حصّنتهم إذا استكثرتهم ، فقال يا رب كيف احصّنهم ؟
قال تقول حصنتكم بالحي القيوم إلخ.
ومن قال إن يعقوب عليه السلام خاف عليهم الاغتيال أو لئلا يفطن عليهم أعداؤهم فيهلكونهم أو يصل بنيامين قبلهم فيتصل بأخيه ينفيه قوله تعالى «وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ» لأن القدر كائن لا محالة لا قدرة لي على دفعه عنكم «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» وحده ، إذ هو تفويض منه عليه السلام في أموره كلها إلى ربه عز وجل دون سواه ، ومن جملتها ما خاف عليهم من العين ، ولم يخطر بباله اتصال بنيامين بأخيه لأنه لو علم ذلك لما امتنع أولا من إرسال بنيامين معهم ، ولما أخفى على أولاده كونه يوسف فيما بالغوا بإكرامه لهم ، ولما وقع منهم هذا التفويض الذي ينم عن الأسف(3/236)
ج 3 ، ص : 237
والحزن على يوسف الدال عليه قوله «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ 67» وفيه إرشاد لأولاده وغيرهم بالتوكل على اللّه في كل الأمور.
قال تعالى «وَلَمَّا دَخَلُوا» أبواب المدينة الأربعة «مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ» أي دخلوا متفرقين في أبواب المدينة تنفيذا لأمر أبيهم ، وإلا في الحقيقة التي هي في علم اللّه «ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ» ذلك التفرق في الدخول «مِنَ اللَّهِ» إذا كان قدر عليهم شيئا من أقداره الأزلية أن يرد عنهم «مِنْ شَيْ ءٍ» قط كما ذكرنا وفيها إيذان بتصديق قول يعقوب عليه السلام وما أغنى إلخ ، لأنه بعد أن أمرهم بالدخول من الأبواب خوفا عليهم من العين والحسد رجع ففوض أمره إلى ربه ، وما كان ذلك منه يقينا «إِلَّا حاجَةً» هي شفقة الآباء على الأبناء ، وقد كانت «فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ» أن يقولها في وصيته لهم ، فلما ذكرها لهم وذكرهم فيها «قَضاها» فلم يبق في نفسه ما يوصيهم به ، والاستثناء منقطع ، وإلا فيه بمعنى لكن «وَإِنَّهُ» يعقوب عليه السلام «لَذُو عِلْمٍ» غزير وفهم كثير بأن الحذر لا يغني عن القدر ، وأن لا دافع لما أراده اللّه ، ولا مانع «لِما عَلَّمْناهُ» بالوحي الذي أنزلناه عليه عند تشريفه بالنبوة.
ويشعر تأكيد الجملة بأن واللام والتنكير وتعليلها بالتعليم المسند إلى ضمير العظمة.
إلى جلالة قدر يعقوب عليه السلام وعلو شأنه وواسع علمه وعظيم تبجيله «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 68» ما يعلمه يعقوب لأنه على نور من ربه وعلم جليل علمه إياه ، وأن جميع ما في الكون علويه وسفليه لا يعلمون شيئا مما يعلمه اللّه إلا بتعليمه إياهم.
قال تعالى «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ» قالوا له أيها الملك هذا أخونا الذي ذكرنا لك عنه وأمرتنا بإحضاره فشاهده وعرفه ، ولكن لئلا يحسو بما أراده ودبره سأله عما قالوه لهم بشأنه وشأن أخيه ، فذكر له ما ذكره له اخوته حرفيا فقال لقد تبين لي الآن صدقكم وقد أحسنتم بأن أزلتم الشبهة عن أنفسكم وعن ما كنت أتصوره فيكم ، قالوا فزاد في إكرامهم وقراهم وأجلس كل اثنين على مائدة فجلسوا وبقي بنيامين وحده ، فتنهّد وقال في نفسه لو كان أخي حيا لجلس معي ، فأحسّ يوسف بما جال في خاطره وصار يتفقدهم ويبش في وجوههم ويجلب لهم الأكل والشراب(3/237)
ج 3 ، ص : 238
الذي أحضره لهم ، ومر في بنيامين فقال له أنت وحدك على مائدة وإخوتك كل اثنين ، وجلس معه وصار يأكل ، ولما جن الليل هيأ لكل اثنين غرفة وأمرهم أن يناموا فيها ، فناموا كذلك وبقي بنيامين وحده في غرفة فيها سريران ، فدخل عليه بعد أن تفقدهم أيضا ونام معه في غرفة واحدة ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «آوى إِلَيْهِ أَخاهُ» قالوا فلما خلا به ، قال له ما معنى بنيامين بالعربية لأنها كلمة عبرانية ؟ فقال معناها المتوكل ، فقال تعرف أخاك الذي قيل إنه هلك بالبرية ؟ قال نعم ولكن لا يشبه أحدا من إخوتي ولا من غيرهم ، قال تحب أن أكون أنا بدله ؟ قال ومن يجد أخا مثل الملك وأنت الذي لا نظير لك في محاسن الأخلاق ومكارم الآداب والبهجة والجمال والكمال ، إلا أنه لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف عليه السلام وضمه إليه و«قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ» يوسف ابن يعقوب وراحيل «فَلا تَبْتَئِسْ» لا تحزن ولا تأسف «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 69» بي وبك فيما مضى ، والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس ، وقالوا قال له لا تخبر إخوتك بهذا واذهب معهم ، قال لا أفارقك أبدا ، قال افعل ما آمرك وسترى كيف آخذك منهم ، قال نعم الأمر إليك قال تعالى «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ» تقدم مثله ، وذلك بأن كال لهم وزودهم ووفى لهم بأحسن مما مر ثم انهم أخبروه ببضاعتهم ، الأولى بأنهم وجدوها بين أمتعتهم وأتوا بها إليه قالوا إنا لا نستحل كتمها لأنا أخذنا قمحا بدلها ويحرم علينا في ديننا ذلك وقالوا إن أبانا يدعو لك ويحبك ويصلي عليك ، لأنا ذكرنا له حسن وفادتك لنا وإكرامك إيانا ، فلمّا سمع منهم ذلك لم يسئلهم كيف وصلت إليهم لأنه عالم بها فقال إذ كان ذلك منكم ، وقد توسمت فيكم الخير ، فإني أسمع لكم بها لقاء صدقكم وأمانتكم وإتيانكم بأخيكم ، وهو قد سمع لهم بها حين وضعها بأمتعتهم ، ولكن لقصد وقد حصل ، ثم تفكر كيف يتمكن من إبقاء أخيه عنده
فتخيل في نفسه أن لا يكون ذلك إلا بتدبير فيه تهمة لذلك «جَعَلَ السِّقايَةَ» علبة الكيل وأصلها مشربة الملك التي كان يشرب فيها وكانت من ذهب وبسبب الغلاء الشديد ، وعزة الطعام جعلها صاعا للكيل ووضعها بيده نفسه «فِي رَحْلِ أَخِيهِ» لئلا يحس أحد فيما(3/238)
ج 3 ، ص : 239
دبره لأخذ أخيه ، وقيل أنه أمر الكيالين أو أحدهم بوضعها في حمل أخيه ، لأن الملك عادة لا يباشر ذلك بنفسه كما يفهم من قوله وجهزهم ، لأن المجهز فتيانه لا هو واللّه أعلم أي أنه دسه فيه من حيث لا يعلم هو أيضا ، ثم أمرهم بنقل متاعهم وودعهم وتركهم يتحادثون في حسن صنيعه لهم دون سائر الممتارين ، حتى إذا علم أنهم تجاوزوا عمران المدينة أرسل إليهم فتيانه وأخبرهم بفقد السقاية وأنهم آخر من خرج من حمل الكيل وأمرهم أن يسرعوا ليلحقوهم ويسألوهم عنها ، فتبادروا يهرولون حتى قربوا منهم ولذلك عبر بأداة التراخي قال «ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ» نادى مناد منهم عليهم قائلا «أَيَّتُهَا الْعِيرُ» يا أهلها والعير الإبل المحملة «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ 70» وقصد بمناداتهم بلفظ السرقة سرقتهم إيّاه من أبيه ، لأنهم لما احتالوا عليه بأخذه للنزهة وكان قصدهم قتله فكأنهم سرقوه ، وهذا من المعاريض وفيها مندوحة عن الكذب ، وهذا على القول بأن القائل هو يوسف عليه السلام ، وعليه فلم يبق مجال لقول من قال إنه لا يليق به وهو نبي أن يتهمهم بشيء ، يعلم أنهم براء منه وعلى القول بأنه أخبر فتيانه الموكلين بالكيل بفقد الصاع وأمرهم أن يتبعوهم لأنهم هم الذين أخذوه ليلحقوهم ويستردوه منهم ، ولم يأمرهم بالمناداة عليهم بلفظ السرقة فليس في الأمر شيء من ذلك ، والقضية لا تخلو ولكنها للمصلحة ، تدبر
«قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ» ووقفوا مكانهم حتى وصلوا إليهم وقالوا أيها الفتيان «ما ذا تَفْقِدُونَ 71» قالوا لهم ألم يكرمكم الملك ويأمر بحسن قراكم ويبيتكم عنده ووفى لكم الكيل ورد عليكم بضاعتكم قالوا بلى وله الشكر وحسن الثناء منا ما حيينا «قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ» فقدناه بعد ذهابكم ولم نكل لغيركم به فردوه إلينا واللّه يجزيكم خيرا ، واعلموا أن الملك تفضل وقال «وَلِمَنْ جاءَ بِهِ» بأن رده من تلقاء نفسه حلوانا من عنده حلالا «حِمْلُ بَعِيرٍ» من الطعام ثم قال المنادي «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ 72» كفيل بإعطائه لمن يعطينا إياه ويكفينا مؤنة التحري عليه ، والزعيم الكفيل بلغة اليمن ، ويأتي الحميل بمعنى الكفيل أيضا ، قال صلّى اللّه عليه وسلم الحميل غارم فلما سمعوا بهتوا وردوا عليهم بلسان واحد «قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ» ديانتنا وأمانتنا ، وذلك أنهم حينما قربوا من المدينة شدوا أفواه(3/239)
ج 3 ، ص : 240
رحالهم لئلا تأكل من الزروع والطعام العائد لأهل القرى ، ولم يزالوا كذلك حتى دخلوا المدينة ، وأنهم ردوا البضاعة حين اطلعوا عليها دون طلب أو سؤال ، ثم قالوا «ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ» وذلك لأنه حين قال لهم الملك إنكم جواسيس وأثبتوا له خلافه وأحضروا له أخاهم وشهد له بما ذكروة وتركوا له أخاهم شمعون رهينة حتى ظهر له صدق قولهم ، ثم قالوا له «وَما كُنَّا سارِقِينَ 73» السقاية ولا غيرها من قبل حيث لم يصدر هكذا أفعال سيئه منا وهذه الجملة نفي لقولهم أنكم لسارقون ثم قالوا لهم بعد أن أقسموا على تلك الأمور الثلاثة إنا آل يعقوب لا نقدم على شيء مما ذكرتم ، وفي الآية قسمان ، لأن العرب تجري العلم مجرى القسم ، كما أن الشرع أجرى لفظ الشهادة مجرى اليمين ، قال قائلهم
ولقد علمت لتأتين منيّتي ان المنايا لا تطيش سهامها
فأجابهم للفتيان عن تقديم السرقة «قالُوا فَما جَزاؤُهُ» أي السارق عندكم بينوه لنا «إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ 74» بحلفكم هذا حتى تجرى عليه ذلك «قالُوا جَزاؤُهُ» عندنا آل يعقوب «مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ» أي الذي يوجد الصاع في حمله «فَهُوَ جَزاؤُهُ» بأن يسلم نفسه لصاحب السرقة ليسترقه سنة كاملة ، وهذه سنتنا في كل سارق إنما قال جزاؤه ولم يقل هو ، لأن الأنسب الإضمار في مثله ، قالوا بل الإظهار أحسن هنا لإزالة اللبس ، وعليه قوله :
لا أرى الموت يسبق الموت بشيء نغص الموت ذا الغني والفقيرا
«كَذلِكَ» مثل هذا الشرع الذي ذكرناه لكم أيها الفتيان شرع آل يعقوب ومثل هذا الجزاء «نَجْزِي الظَّالِمِينَ 75» السراق وهذه من جملة كلام أولاد يعقوب عليه السلام لا من كلام الفتيان كما قاله بعض المفسرين ، لأن الفتيان ليس لهم من الأمر شيء حتى يقولوا نجزي ، فقال أصحاب يوسف لا بد لنا حينئذ من تحري أوعيتكم ورحالكم حتى يتقن ، قالوا لا بأس دونكم ، قالوا ورجعوهم إلى المدينة ليتحروهم أمام الملك ، لأنهم لم يجسروا على تحريهم استبدادا من أنفسهم لما رأوا ما لهم من الاحترام عنده دون سائر الناس ، وذلك بعد أن ذكروا له ما دار بينهم من الكلام وما اتفقوا عليه من جزاء السارق وأنهم وافقوا على التحري(3/240)
ج 3 ، ص : 241
براءة لساحتهم ، فأمر يوسف كبير أعوانه بذلك «فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ» أي فتش أولا أوعية أخوته لأبيه «قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ» الشقيق بأن أخره بعدهم.
مطلب اتهام بنيامين بالسرقة وما وقع لأخوته مع ملك مصر من جراء ذلك :
قالوا فلم يروا شيئا ، وكانوا كلما فتحوا متاعا أو وعاء لا ينظر إليه يوسف ويستغفر اللّه ربه تأثرا مما رماهم به حتى لم يبق إلا رحل بنيامين ، فأراد الأعراض عنه فقال اخوته لا واللّه لا نتركك حتى تتحراه أيضا ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا فأمر بفتحه إجابة لطلبهم ، ثم تحروه فوجدوه فيه ، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ» أنت الضمير هنا وذكره آنفا لأن الصواع يذكر ويؤنث أو أنه عند التأنيث يعود للسقاية ، وفي التذكير يعود للصواع ، قالوا لما رأوه الأخوة بهتوا ونكسوا رءوسهم وأقبلوا على بنيامين يلومونه.
ويقولون له يا ابن راحيل فضحتنا وسوّدت وجوهنا ، فقال واللّه ما وضعته ولا سرقته ، فقالوا يا ابن راحيل ما زال يأتينا منكم بلاء ، فقال لهم بعد أن شددوا عليه بالتأنيب إن ابن راحيل ما زال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية ، وأقيلتم تؤنبوني على ما لم أعلم ، ان الذي وضع الصاع في رحلى هو الذي وضع البضاعة في رحالكم في المرة الأولى ، وقصد بهذا يوسف عليه السلام لأنه في الحقيقة هو الذي فعل الأمرين بنفسه أو بأمره ولكنه عرض بهم ليفهمهم انكم أنتم جئتم أولا بالبضاعة والآن بالسقاية ، فتذكروا إن كنتم تعلمون بمن وضع البضاعة في رحلكم ، فأنا أعلم الذي وضع السقاية في رحلي ، وإذا كنتم لا تعلمون فأنا أيضا لا أعلم.
ولما سمعوا منه هذا القول سكتوا وظنوا أن ما قاله هو الواقع ، قالوا فأخذ يوسف بنيامين بمقتضى شرع أبيه الذي ذكره إخوته وأمرهم بالانصراف ، قال تعالى «كَذلِكَ» مثل الكيد العظيم «كِدْنا لِيُوسُفَ» وعلمناه إياه والكيد من الناس حيلة ومكر ومن اللّه تعالى تدبير بالحق ، ولو لا هذا التعليم والتدبير السديدين «ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» لأن شريعة ملك مصر أن يغرم السارق مثل ما أخذ ويضرب فقط ، لا أن يؤخذ ويسترق «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» ذلك ، لأن هذا كله إنما وقع من يوسف بالهام من اللّه تعالى ومشيئته ، ولو لا(3/241)
ج 3 ، ص : 242
ذلك لما جرى الأمر على ما أراد قال في درر المرتضى إن كدنا تأتي بمعنى أردنا ، وعليه أنشد :
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
هذا وانا نحن إله السموات والأرض الخافض الرافع «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ» بالعلم والعمل كما رفعنا رتبة يوسف على إخوانه باقتضاء حكمتنا وما تستدعيه المصلحة «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 76» من البشر إلى أن ينتهي إلى ربه تعالى مما لا يناله البشر ، راجع الآية 43 من النجم المارة في ج 1 ، ولما رأى الإخوة أن سقط في أيديهم وقد احتفظ الملك بأخيهم وأمرهم بالانصراف أقبلوا عليه كلهم و«قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» وعرضوا بكلامهم هذا بأن أمهم ليست بامه ، قيل إن السرقة التي عزوها ليوسف وعيروا بها أخاه هي ما ذكرناه قبل في قصة المنطقة عند قوله تعالى ، (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الآية 34 المارة ، وما قيل إنه عليه السلام كان سرق بيضة أو صنما أوانه كان يسرق الطعام ويعطيه للفقراء أقوال أضعف من القول الذي أخذنا به ، لأن هذا وأمثاله مما لم ينبه عليه اللّه تعالى ولم يوقف على حقيقته أحدا ، وإن علمه عند اللّه وحده ، وما ذكر كله على علاته لا يسمى سرقة على فرض صحتها ، وإنما سميت سرقة لشبهها بها ، وبما أنهم لم يجدوا ما يعدوه عليه عيبا من شيء ظاهر معقول ولا ما يمس بكرامته غير ذلك ، عدوه عيبا عليه ، من حيث لا يعد إلا على حد قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فأول من قراع الكتائب
قال تعالى «فَأَسَرَّها يُوسُفُ» عليه السلام أخفى تلك المقالة التي وصموه بها بالسرقة حيث جعلها مكتومة في سره «وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ» لا قولا ولا فعلا بل صفح عنها حلما وعفوا أو كتم ما أراد ان يجابههم به من القول جوابا على مقالتهم تلك ، وهي المعني بها بقوله تعالى «قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً» منزلة ممن رميتموه بالسرقة ، أي ذكر هذه الجملة في نفسه عليه السلام لما حصل في قلبه من الحزازة الحاصلة من قولهم ذلك ، والحزازة وجع القلب من غيظ ونحوه ، وقيل أنه عليه السلام أراد بقوله لاخوته (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) لما أقدموا عليه من(3/242)
ج 3 ، ص : 243
أخذهم له بطريق الاحتيال وظلمهم بضربه في الأرض والقائه في الجب ، وكذبهم على أبيهم بأن الذئب أكله ، وبيعهم له بثمن بخس ، وبعد هذا كله ومرور الزمن الطويل ترى بقاء الحقد عليه بقلوبهم حتى رموه الآن بالسرقة ، وهذا وجيه كله لو لا كلمة الحقد لأنه بعد أن شرفهم اللّه بالنبوة لم يبق في قلوبهم حقد ولا حسد ، ولكنها كلمة سبق بها اللسان في مثل هذا الحال ، واختطفها القلم فأثبتها «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ 77» به يوسف وأخاه ثم تذكروا موثقهم الذي أعطوه لأبيهم بأن لا يفرطوا به حتى يغلبوا جميعهم كما مر في الآية 66 وعزموا على إيفاء عهدهم لأبيهم وهم أحق ممن يفي بعهده ، فالتفتوا إلى يوسف وخاطبوه بما ذكر اللّه عنهم عزّ ذكره «قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً» في السن والقدر والجاه ، وأن من كان كذلك فان ابنه يستوجب العفو والصفح احتراما له فضلا عن أنه لا يصبر على فراقه مدة استرقاقه ، إذ أقعدته الكآبة على أخيه الأول وصار يتعزى عنه بهذا ، فنرجو منك أيها الملك الصفوح الحليم أن تعفو عنه وإلا «فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 78» للناس عامة ولنا خاصة ، وعددوا فضائله التي أجراها لهم «قالَ» يوسف أنا لا أمنّ بإحساني إليكم «و لكن مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ» لم يقل من سرقه تورعا ، ولذلك سنّ للشاهد أن يقول أخذ لا سرق درأ له في الحد «إِنَّا إِذاً» إذا أخذنا بدله وتركناه «لَظالِمُونَ 79» مبالغون في الظلم بأخذنا البريء وتركنا المدان بإجابة طلبكم ونحن ما أخذناه إلا على قولكم وفتواكم حسب شريعتكم ، ولو تركتمونا وشأننا لعاملناه معاملة رعيتنا بمقتضى شرع البلاد بأن نأخذ منه مثل ما سرق ونضربه ثم نتركه ، أما الآن وقد تم ما توافقنا عليه فلا مجال لتركه إذ لا يجوز للملك أن يرجع عن أمر أنفذه إلا بعفو ،
والسارق ليس بأهل له «فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ» وعرفوا يقينا أنه لا يرده إليهم ولا يقبل فداءه بأحدهم «خَلَصُوا نَجِيًّا» انفردوا عن الناس بأنفسهم يتناجون بينهم ويتشاورون ماذا يفعلون «قالَ كَبِيرُهُمْ» وصاحب مشورتهم يهوذا المنوه به في الآية 10 المارة «أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ(3/243)
ج 3 ، ص : 244
اللَّهِ»
بزده إليه إلا أن يحاط بكم فتغلبوا جميعكم عليه ولا يمكنكم تخليصه بصورة من الصور «وَمِنْ قَبْلُ» بنيامين هذا «ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ» قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه والقول بكون ما هنا مصدرية أحسن من كونها زائدة ، إذ لا زائد في كتاب اللّه ومن القول بأنها موصولة لأنه يؤدي لجعل كلمة قبل تكرار ، إذ يكون المعنى من قبل الذي فرطتم ، وعلى الأول من قبل تفريطكم وهو أحسن ، قالوا قال لهم يهوذا انكم حين أخذتم يوسف قلتم لأبيكم إنا له لناصحون ، إنا له لحافظون ، وإنا إذا لخاسرون ، راجع الآيات 10 فما بعدها ولم تراعوا محافظة أقوالكم هذه ولم تفوا بوعدكم وعهدكم لما كنتم عليه قبل تشريفكم بالنبوة ، أما الآن وقد أكدتم إيمانكم ومواثيقكم أيضا وجزمتم بأنكم لا تتركونه إلا أن تغلبوا أو تقهروا «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ» هذه ولا أغادرها معكم أبدا «حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» بمبارحتها فيقبل عذري بعدم التمكن من استخلاص بنيامين لأنه صار بيد الملك ، وقدرته محيطة بنا ، إذ لا يمكن أن يباري الملك أو يجارى أو يقابل أو يشادد ، لأن قدرته محيطة بنا قالوا إن الكبير الذي قال هذا القول هو روبيل وهو الذي تخلف في مصر وقد مر أنه شمعون راجع الآية 62 المارة ، والصحيح أن كبيرهم في السن روبيل ، وفي الرياسة شمعون ، وفي العقل
والمشورة يهوذا ، واللّه أعلم وقال أرى أن نخبر أبانا بهذا ونعلمه بأنا قد أقمنا بما يجب علينا إزاء موثقه الذي أخذه علينا ، فيعذرنا أو يأمرنا بما يراه «أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي» برد أخي لأبيه ، ولو بقيت ما بقيت أو أخرج قسرا من مصر أو أقاتل الملك ، فإما أقتل فأعذر أو أستخلص أخي فأكون بارا بوعد أبي ، وهذا الذي أبتغيه من اللّه «وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ 80» فلما سمع روبيل قول أخيه يهوذا غضب ، وكان إذا غضب لم يقم لغضبه شيء ولم يقاومه أحد ، وكان إذا صاح ألقت الحوامل حملهن ، ولكن إذا مسه أحد من ولد يعقوب سكن ما فيه ، فقال يا إخوتي كم عدد أبواب مصر قالوا عشرة ، قال لهم اكفوني الأسواق ، وأنا أكفيكم الملك ، ثم تقدم إلى الملك فقال أيها الملك لتردنّ أخانا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقى بمصر امرأة حاملا إلا وضعت ، فنظر إليه وإذا(3/244)
ج 3 ، ص : 245
كل شعرة منه قائمة ورأى شعر صدره خارجا من ثيابه ، فأشار يوسف لابنه الصغير أن يلمسه فذهب إليه وصار الملك يكلمه حتى مسه فسكن غضبه ، ونظر إلى اخوته وقال لهم أيكم مسّني قالوا لا أحد ، فقال في نفسه ان هذا بذر من بذور يعقوب يريد ابن يوسف لظنه أنه مسه ، ثم غضب ثانيا وتطاول على الملك بصوته وكلامه.
ولما لم ير يوسف بدا من التخلص منه إلا بمسه تقدم إليه ووكزه برجله فرماه على الأرض وقال له أنتم أيها العبرانيون تزعمون أن لا أحدا أسد منكم قوة ، وانما فعل هذا بنفسه ليسكن غضبه بمجرد مسّه ، وعرف أنه لو سلط عليه جميع فتيانه لعجزوا عنه ولبطش بهم ، فظن اخوته انما سكن غضب أخيهم من شدة وكزة الملك ، ووقع على الأرض من قوة تلك الرفسة ، فقال بعضهم لبعض لا قدرة لنا على مقابلته ، وابتعدوا عنه وقال بعضهم لبعض
«ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ» صواع الملك وان الملك ذو بطش وقوة لا طاقة لنا به ، وقصّوا له ما حدث بينه وبين كبيرهم روبيل ، وتحقق العجز عن تخليصه بمشاهدتنا كلنا «وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا» من ثبوت السرقة بوجود الصاع في رحله فقط ، إذ لا شاهد على الفعل ، وبما أن وجوده في رحله يحتمل أن دسه فيه وقع ممن لا يعرف طلبنا منه العفو عنه وأن يسدينا معروفا فوق أفضاله السابقة علينا فلم يفعل ، لأن السارق لا يعفى عنه بشريعته هذا «وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ 81» ولو لم تعلم ما قدر عليه من غيب اللّه ما أعطيناك ذلك الموثق الذي أخذته علينا ، بل لما أخذنا معنا ، فاذا صدقكم فيها والا قولوا له «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها» أي أهل مصر «وَالْعِيرَ» واسأل أهل العير «الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها» إذ كلوا من كنعان جيران ليعقوب عليه السلام ، وأصل العير قافلة الحمير ثم توسع بها لكل قافلة ، لذلك قلنا آنفا في الآية 70 المارة إنها قافلة الإبل وأكدوا قولكم بما شئتم ، فقولوا له «وَإِنَّا لَصادِقُونَ 82» فيما ذكرناه لك ، وإنما تآمروا على هذا القول الفصل مبالغة في إزالة التهمة عنهم بسبب واقعة يوسف ، قالوا فذهبوا وتركوا كبيرهم في السن في مصر ليديم المراجعة بشأن أخيهم ويتعاهده برا بعهدهم(3/245)
ج 3 ، ص : 246
يحفظه ، ولما وصلوا قصّوا له القصة وما تفرع عنها من المناجاة ومكالمة الملك لأخيهم ، فقال لهم ومن أعلم الملك بأن السارق عندنا يؤخذ بسرقته لو لا أنكم أخبرتموه ؟
قالوا إنما أخبرناه حينما سألنا عن جزاء السارق بعد إنكارنا لسرقة الصواع لعلمنا أننا براء من سرقته ، فذكرنا له ذلك لئلا يؤثر علينا كذبا ، هذا ولا يقال كيف يجوز ليعقوب عليه السلام وهو نبي أن يقول هذا القول لما فيه من إخفاء الحكم الشرعي ، لأن هذا مشروط فيما إذا كان المسروق منه مؤمنا تابعا لشريعته ومن يعامل معاملة المؤمنين بالمثل ، لا إذا كان كافرا ، وكان عليه السلام يظن أن حكومة مصر كافرة إذ ذاك ، قالوا فلم يقبل عذرهم ، لذلك «قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» أردتموه في بنيامين فزينت لكم أنفسكم إيقاع السوء به كما زينته لكم قبلا في يوسف «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» على فعلكم هذا معى بأخويكم ، اذهبوا عني «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً» يوسف وبنيامين وروبيل.
قال هذا من قبيل الإلهام الإلهي وحسن الظن باللّه ، إذ كان حزينا على يوسف فاشتد حزنه على بنيامين وروبيل أيضا وما بعد الشدة إلا الفرج ، وأنه عليه السلام لم يصدق أولاده بهلاك يوسف وقد وقر في صدره أنه سيرده اللّه عليه ويرى تأويل رؤيته وهو يترقب ذلك كله ، ولذلك قال عسى إلخ «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ» بحالي ووجدي عليهم «الْحَكِيمُ 83» فيما يدبره ويقضيه من إتيانهم إلي «وَتَوَلَّى عَنْهُمْ» ولا هم ظهره وأعرض عنهم لأنه لما سمع كلامهم ضاق صدره ولم يبق بوسعه مكالمتهم ولم يقدروا أن يعيدوا عليه الكلام لما رأوا من شدة حزنه فانكفوا عنه ثم طلبهم ليوقفهم على حاله «وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» الأسف أشد الحزن لأن الحزن إذا تقادم وأتاه حزن آخر جدد الأول فكان أوجع للقلب ، وأعظم لهيجان الحزن الأول الماكث فيه ، قال متمّم ابن نويرة لما رأى قبرا جديدا جدد حزنه على أخيه مالك وصار يبكي ويقول :
يقول أتبكي كل قبر رأيته لقبر توى بين اللوى والدكائك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك
يعني أن الحزن يجدد الحزن ، وانما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخيه ، (3/246)
ج 3 ، ص : 247
لأن رزءه كان قاعدة الارزاء عنده ، وقد أخذ بمجامع قلبه فصار لا يزول عن فكره ولا ينساه ، وقيل في هذا :
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
مطلب جواز البكاء والحزن والأسف بما دون الضجر وتحريم شق الجيب وتحجيم الوجه واللطم وقص الشعر :
ولا يقال إن هذه شكاية منه عليه السلام ولا يليق بمنصب النبوة صدورها ، لأنه عليه السلام إنما شكا أمره إلى اللّه لا إلى غيره ، ولم يشتك من اللّه لأحد لأن باء النداء مختصة بالأسماء ، فكأنه قال يا رب ارحم أسفي على يوسف ، فكان غير ملوم ، وشكواه إليه تعالى ، ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم «وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ» على أولاده للثلاثة «فَهُوَ كَظِيمٌ 84» الحزن ممتلىء القلب به لأنه لا يبثّه إلى أحد إلا إلى ربه ، وقد غشى عينيه بياض من كثرة الدمع لا أنه عمي وفقد النظر فيها ، لذلك فلا صحة لقول من قال إنه عمي ، لأن العمى عيب والأنبياء مبرأون من جميع العيوب الحسية والمعنوية ، وتؤذن هذه الآية بجواز التأسف والبكاء عند المصيبة ، لأن الكف عن أمثال ذلك عند حدوث النوائب لا يدخل تحت التكليف ، ويخرج عن الوسع والطاقة ، فقد قل من يملك نفسه عند الشدائد ، روى الشيخاني في حديث أنس رضي اللّه عنه أنه صلّى اللّه عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
وهذا فإن البكاء والحزن والتأسف بما دون الضجر غير منهي عنه شرعا ، وإنما المنهي عنه ما يفعله بعض الجهلة من النياحة ، ولطم الخدود ، وضرب الصدور ، وشق الجيوب ، والتحمم ، وتمزيق الثياب ، وقص الشعر ، ونثر التراب ، وتخميش الوجه ، ورويا أيضا من حديث أسامة أنه صلّى اللّه عليه وسلم رفع إليه صبيّ لبعض بناته يجرد بنفسه ، فأقعده في حجره ونفسه تنقعقع كأنها في شنّ ، ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام ، فقال سعد يا رسول اللّه ما هذا ؟ فقال هذه رحمة جعلها اللّه تعالى فيمن شاء من عباده ، وانما يرحم اللّه من عباده الرحماء.
وفي الكشاف : قال يا رسول اللّه تبكي وقد(3/247)
ج 3 ، ص : 248
نهيتنا عن البكاء ؟ قال ما نهيتكم عن البكاء وانما نهيتكم عن صوتين أحمقين : صوت عند الفرح وصوت عند الترح.
وعن الحسن أنه بكى على ولد له أو لغيره فقيل له في ذلك فقال ما رأيت اللّه تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه السلام وقد ينشأ ذلك عن المحبة الشديدة التي تزيل من القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع إلى اللّه تعالى كثير الدعاء والتضرع له وقد يوصل ذلك إلى الكمال ويعد سببا للاستغراق في اللّه تعالى ، قال تعالى «قالُوا» أولاد يعقوب الموجودون عنده لما رأوا شدة تأثره «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا» لا تزال «تَذْكُرُ يُوسُفَ» ولا تعتر عن ذكره «حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً» دنفا مشرفا على الموت ذائبا من الهم مضمحلا من الأسى «أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ 85» الميتين بسببه ، وهذا من قبيل بناء الأمر على غالب الظن لما رأوا من حاله وكظمه غيظه ، لأن تردد الحزن في الجوف مما يودي إلى الهلاك غالبا ، فلا يقال كيف حلفوا على ما لم يعلموه ، وإنما وقع من يعقوب عليه السلام هذا لأنه لم يقطع بوفاة يوسف كما ذكرنا آنفا ، ولم يصدقهم بوقوع السرقة من بنيامين ، وان زيادة صبره على يوسف وطول فراقه قد حزّ قلبه ، وزاد في جزعه ما وصم به بنيامين فلا لوم عليه.
هذا ، وحذف حرف النفي من تفتأ في جواب القسم تخفيفا لمعلوميته موضعها لأن تفتأ تدل على النفي المحض ، فإذا دخلت عليها لا النافية صارت متمحضة للإثبات ولذلك قالوا إن نفي النفي إثبات ، قال امرؤ القيس :
فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
لأن برح وفتيء ودام أخوات متمحضات للنفي ، فإذا ادخل عليها حرف النفي تمحضت للإثبات ، والحرض معناه في الأصل فساد الجسم والعقل من الحزن والهم حتى يكون مهزولا نحيفا ، وهو مصدر حرض بكسر الراء ، وجاء أحرض أيضا كما في قوله :
اني امرؤ لجّ بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شقني السقم
ولكونه كذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع ، لأن المصدر يطلق على القليل والكثير والمؤنث والمذكر.(3/248)
ج 3 ، ص : 249
مطلب الصبر الجميل وشبهه وكتاب يعقوب لملك مصر :
واعلم ان الصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه والهجر الجميل الذي لا حسد فيه ، والقول الجميل الذي لا فظاظة فيه والنظر الجميل الذي لا إصابة فيه ، والمدح الجميل الذي لا حسد فيه ، والشكر الجميل الذي لا شكوى فيه الَ»
يعقوب عليه السلام ردا لما وصفوه به من عدم التحمل لمقدورات اللّه ولما ذكروا مما يؤول اليه حاله إذا بقي كذلكِ نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ»
لا لكم ولا لغيركم والبث الغمّ الذي لا يطيق صاحبه الصبر عليه ولم يبق في وسعه حمله فيفرقه على من يعنيه مأخوذ من إثارة الشيء وتفريقه تقول بثت الريح الترابَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
86» من عظيم لطفه وكثير رحمته وجليل عطفه ، وإني لارجوه ان يرعاني ولا يخيب رجائي ، وان يأتيني بالفرح المزيل لما انا فيه من حيث لا أحتسب ، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنه عليه السلام يعلم حياة يوسف ويتوقع رجوعه ، ولهذا قال «يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ» اطلبوا خبرهما بحواسكم ومثله تجسسوا بالجيم ، إلا أنه في طلب الشرّ قال تعالى ولا تجسسوا الآية 13 من سورة الحجرات ج 3 ، وإنما نهى اللّه عنه لانه من أقبح الخصال ، لا سيما إذا كان في عورات المسلمين وبلادهم وإخبار العدو بمواقعهم وعددهم ، فهو أعظم من القتل ، أي تحروا يوسف الذي قلتم إنه هلك ، وأخاه الذي قلتم أنه سرق ، ولم يذكر روبيل لانه بقي باختياره في مصر انتظارا لما يفعل بقضية أخيه «وَلا تَيْأَسُوا» تقنطوا فنقطعوا أملكم ورجائكم «مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» فرجه ورحمته وفضله وتنفيسه ، وهو بالفتح يقال أراح الإنسان إذا تنفس ، ثم استعير للفرج وقرىء بالضم اشتقاقا من الرحمة لانها سبب الحياة كالروح وأضيفت اليه تعالى لانها منه أي لا تقطعوا أملكم من حي معه روح اللّه فان من بقيت روحه في جسده يرجى لقياه فالتمسوه وعليه قول عبيد الأبرص.
وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب
وقوله وفي غير من وارث الأرض فاطمع ، ثم حذرهم ترك العمل بما أمرهم فقال «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ 87» لعدم(3/249)
ج 3 ، ص : 250
علمهم باللّه وصفاته أما المؤمن العارف فلا يقنط بحال من الأحوال لشدة وثوقه باللّه قالوا ثم كتب كتابا إلى ملك مصر وعبارته (من يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح اللّه بن ابراهيم خليل اللّه إلى ملك مصر ، أما بعد فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء ، أما جدي ابراهيم فشدت يداه ورجلاه والقي في النار فجعلها اللّه بردا وسلاما وأما أبي إسحاق فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه اللّه ، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب اولادي الي فذهب به اخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فصبرت وتوكلت ، ثم كان لي ابن آخر وكان أخاه من أمه ، فكنت أتسلى به وإنك حبسته وزعمت أنه سرق ، وانا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك) ثم أعطاهم إياه وأمرهم بالرجوع إلى مصر ، فأخذوه وذهبوا وعند ما وصلوا إلى مصر واتصلوا بأخيهم روبيل واطلعوه على الكتاب فوقع في قلوبهم قبول الملك لما فيه من الترغيب والترهيب فحملوه جميعا ، وتوجهوا نحو الملك ، قال تعالى «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا» لا بدّ وان يكون القائل واحدا ، وبما أنهم كلهم دخلوا عليه فكانوا بمثابة الجمع ، لان ما يقوله أحدهم يقول به كلهم ، لذلك جاء الضمير بلفظ الجمع ، والا لا يعقل انهم كلهم قالوا ذلك بلسان واحد لما فيه من عدم مراعاة الأدب «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ» الملك المنيع الغالب ، قالوا وكان ملوك مصر يلقبون بالعزيز قديما قبل لقب فرعون ، وبما أن يوسف كان قائما مقام الملك ومفوضا من قبله بكل أمور الدولة لقبوه بلقب الملك ، وفي الحقيقة هو بمثابة وزير مالية مفوض ورئيس وزراء برتبة سلفه ، وزاد عليه بلقب مفوض عن الملك بالأمور كلها «مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» الشدّة والفاقة «وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ» رديئة كاسدة لا تنفق إلا بتجوز من البائع وأصل الإزجاء الدفع قليلا
قليلا كتزجية الريح اللينة السحاب الكثيف ، وقللوا بضاعتهم وصغروها أمام الملك ليستميلوه ويستعطفوه ، «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا» بردّ أخينا ، لأن رده إلينا صدقة كما أن توفيتك الكيل لنا صدقة ، وليس معناه تصدق علينا بالطعام أو أعطنا مالا كما قاله بعض المفسرين ، (3/250)
ج 3 ، ص : 251
لأن الأنبياء ، لا تحل لهم الصدقة ، فكيف يليق بهم طلبها ؟ وما قيل إن الأنبياء قبل محمد تحل لهم الصدقة لا صحة له فهو قول مجرّد عن الدليل لأن حضرة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم قال (نحن معاشر الأنبياء» ولم يخص نفسه بذلك ، والأنبياء كلهم على طريقة واحدة ، وكل منهم يقول لقومه (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) فإذا كان لا يطلب على تعليمهم الطريق الموصل إلى اللّه ونجاتهم من عذابه أجرا ، فكيف يطلب الصدقة عفوا ؟ وكذلك القول بأن اجعل مسامحتك بأخذ الرديء من الثمن وإعطاء الجيد من الطعام صدقة لا وجه له ، لأن الثمن الذي جاءوا به كان متداولا في ذلك الزمن فضلا عن أنهم يأخذون الجيد من الثمن طمعا بابتياعهم الطعام للمحتاجين إليه ، لأن الزمن زمن غلاء وقحط ، وانما حقروه بالنسبة لمقام الملك ، لأن كل كثير عنده حقير «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ 88» بثوابه الجزيل على العمل القليل ولم يقولوا يجزيك لأنهم لم يعلموا إيمانه قالوا ثم أعطوه الكتاب وانتظروا بماذا يجيبهم فلما قرأه اغرورقت عيناه ولم يتمالك نفسه أن «قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ 89» في سن الطيش صغار لا تعقلون عواقب الأمر ولا يخفى أن فعلهم بيوسف ظاهر معلوم أما فعلهم بأخيه فهو كناية عما لحقه من الغم على فراق أخيه والهم على افرادهم له عنه واذلاله لديهم حتى صار لا يستطيع أن يكلمهم ومنه ما خاطبوه به عند وجود الصاع في رحله ومن كماله عليه السلام تقدم لأخوته بالمعذرة على فعلهم به حيث نسبهم إلى الجهل لأن له حالات تتقدم بالعذر عن فاعلها فهو كالتلقين لهم كي يعتذروا به على حد قوله تعالى ما غرك بربك الكريم الآية 7 من سورة الانفطار الآتية.
مطلب تعريف يوسف نفسه لاخوته وكرم أخلاقه معهم وتبشير يعقوب به :
فلما سمعوا ذلك انتبهوا وأقبلوا إليه وتقربوا منه «قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ» على طريق الاستفهام التقريري ، ولذلك أكد باللام وأن ، لأن التأكيد يقتضي التحقيق الذاتي للاستفهام الحقيقي ، وذلك لأنهم لم يعرفوه ، لأنه كان في ابّهة الملك وعظمته ، إلا أن لهم علامة فيه وهي زائدة كالشامة في فرقه ، وهي موجودة في إسحاق ويعقوب وسارة أيضا ، وكانت مغطاة بالتاج ، فلما خاطبهم(3/251)
ج 3 ، ص : 252
بذلك القول رفع التاج عن رأسه فظهرت لهم تلك العلامة ، وهذا أيضا قوله تعالى (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الآية 15 المارة ، وقيل أنّهم قالوا أولا على سبيل الشك والوهم لتشبيههم ثناياه بثنايا يوسف لشدة بياضها ، فلما رفع التاج عن راسه عرفوه يقينا فصرخ و«قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» ذكر أخاه مع أنه معلوم لأن البحث كان دائرا حوله ، وصرح باسمه هو تعظيما لما نزل منهم به ، ولما عوضه اللّه تعالى من الظفر والملك ، ثم أكد لهم تعريفه بقوله «قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» بالألفة بعد الفرقة ، والمحبة بعد العداوة ، وجمعنا وخلصنا مما وقع بنا ، وفضلنا بالدين والدنيا والآخرة «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ» اللّه في جميع أموره ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه «وَيَصْبِرْ» على ما يصيبه وعلى ما حرمه اللّه وعلى مشاقّ الطاعة وشهوة المعصية ، فإن اللّه تعالى يعده محسنا ويجزيه الجزاء الأوفى.
وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام ، لأنه مندرج في معناها «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 90» في هذه الدنيا ، وهذا من كماله أيضا عليه السلام ، إذ بدأهم بتذكير نعم اللّه عليه بالسلامة والكرامة ولم يفاجئهم بالتعنيف والملامة ،
«قالُوا» كلهم بلسان واحد «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» اختارك وفضلك بالعلم والحلم والصبر والتقوى والحسن والعقل والملك والرسالة ، ومن قال بالنبوة فقد أخطأ المرمى ، لأنهم كلهم أنبياء إذ ذاك ، والنبوة من حيث هي متساوية بخلاف الرسالة ، لأن منهم من هو من أولي العزم ، وتفضيل الأنبياء الوارد في قوله تعالى ، ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض الآية 55 من الإسراء المارة في ج 1 ، إنما ذلك بكثرة الاتباع وما خص به بعضهم من النعم والمعجزات ، وما نزل عليهم من الصحف ، ثم بادروا بالاعتراف بخطئهم دون تقدم عذر ما بقولهم «وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ 91» فيما صنعناه بك عمدا لأن فعل خطأ بمعنى تعمد بخلاف مخطئين فإنه من أخطأ إذا نسى وسها ، أي لا جرم أننا لم نتّق اللّه والإثم فيك ، ولم نصبر على ما رأيناه من اصطفاء أبينا لك دوننا حال صغرنا ولهذا فإن اللّه تعالى أعزك وأجلّك ، وسلطك علينا ، وأن اللّه تعالى قدّر سلطانك هذا على فعلنا فيك.
وفي اعترافهم بالخطأ استنزال لإحسانه عليهم واستعطاف لعفوه(3/252)
ج 3 ، ص : 253
عنهم ، فجاوبهم بما يثلج الصدر ويقرّ الأعين إذ «قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» ، وأصل الكلمة الثرب وهو الشحم الرقيق على الكرش ، وفي الجوف ، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع ، واستعير للّوم الذي يخرق الاعراض ويذهب بهاء الوجه ، لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى ، كما أنه باللوم تظهر العيوب ، لذلك شبه به ، والجامع بينهما طروء النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال بكل ، وهي اسم لا وخبرها مقدر تقديره كائن متعلق عليكم ، واليوم ظرف متعلق بذلك الخبر المقدر أيضا ، ولفظ اليوم هنا ليس لا قيد لأنه إذا لم يلمهم أول لقائه واشتعال ناره ، فلأن لا يلومهم ولن يعاقبهم بعده بطريق الأولى.
وقال المرتضى إن اليوم موضوع للزمان كله ، مستدلا بقوله :
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
كأنه أريد بعد اليوم ، قال هذا عليه السلام تطييبا لخاطرهم ، وسدا عن بحث ما سلف منهم ، وعلى هذا ينبعي أن يوقف على كلمة اليوم ، لأنه راجع للتثريب ومتعلق بما تعلق به خبر لا كما ذكرنا ، ويبتدأ بقوله عز قوله «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ» وهذه جملة دعائية لهم بالمغفرة من اللّه ، لأن فعل الدعاء لا ينصب ما قبله غالبا ، وإذا رجعناه لما بعده وعلقناه بقوله تعالى يغفر فينبغي أن يوقف على كلمة عليكم ويبتدأ بكلمة اليوم ويوصلها بما بعدها ، وعلى هذا يكون المعنى مبادرته لهم بالبشارة بمغفرة ربهم عما سبق منهم بحقه وحق أخيه ، وذلك لما لحقهم من الخجل والحياء ، إذ لم يبق لهم بد من اعترافهم بالخطأ وندمهم على فعلهم ، ويكون ذلك من قبيل الإخبار بالغيب ، وعلى هذا قول صلّى اللّه عليه وسلم لقريش عند فتح مكة ما تروني فاعلا بكم ؟
قالوا نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت ، فقال أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم ، وقولهم هذا فضلا عن اعترافهم بالذنب فإنه توبة أيضا ، ولا شك أن الذنب مرض وشفاؤه التوبة ، ولهذا قال لهم ما قال ، وهو مصدر العفو ، ولما جاء أبو سفيان ليسلم قال له العباس اتل على رسول اللّه لا تثريب عليكم اليوم ، ففعل ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم يغفر اللّه لك ولمن علمك.
وهذا قد يصح لأن السورة(3/253)
ج 3 ، ص : 254
مكية ، وأن سنة الفتح وإن كانت في السنة الثامنة وكان حضرة الرسول بالمدينة ولم يأت أبو سفيان إلى المدينة ويسلم ، إلا أنه يجوز أنه تعلمها حين نزولها في مكة كالعباس لأنه آخر من هاجر ولم يتعلمها إلا في مكة ، هذا والوقف على كلمة اليوم أولى وأحسن وأليق ، وان أكثر القراء عليه ، وجملة يغفر دعائية إذ يبعد على السيد يوسف أن يقولها بقصد الإخبار بالمغفرة من اللّه ، ولو لم تكن الجملة بقصد الدعاء لقطعوا بالمغفرة لهم بمجرد سماعها من أخيهم الصديق ، ولم يقولوا لأبيهم استغفر لنا كما سيأتي ، ثم بشرهم بقبول عذرهم وأن اللّه تعالى سيغفر لهم برحمته بقوله «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 92» بي وبكم وبالخلق أجمع لأني إذا رحمتكم وأنا الفقير القتور ، فبالأحرى أن يرحمكم ربي وهو الغني الغفور المتفضل على التائب بالعفو الشامل والرحمة الواسعة ، ومن كرم يوسف عليه السلام أنه قدم لهم الطعام وجلس يؤاكلهم فقالوا له إنا نستحي أن نأكل معك بما فرط منا فيك ، فقال لا يا إخوتي لأن أهل مصر وإن كنت ملكهم ، فإنهم ينظرون إلي بالعين الأولى ، لأنهم يعرفونني عبدا للعزيز وخادما له ، ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في أعينهم ، إذ علموا حقيقة ما ذكرته لهم قبلا بأني ابن يعقوب من صلب إبراهيم عليه السلام.
وجاء عن ابن عباس أن الملك قال يوما ليوسف عليه السلام : أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي ، وأنا آنف أن تأكل معي ، أي لأنه غلام العزيز وزيره السابق ، فغضب يوسف عليه السلام وقال : أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل اللّه.
وفي التوراة التي في أيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الخجل أدناهم إليه وقال لا يشق عليكم إذ بعتموني ، وإلى هذا المكان أوصلتموني ، فإن اللّه تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمتكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم ، ويكون ذلك سببا لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها.
(هذا وقد مضت سنتان من سني الجدب وبقي خمس سنين ، إذ ابتدأت المجدبات بعد خروجه من السجن بثلاث سنين وبعد رؤيا الملك بستة وبعد تولية يوسف بسنتين) وقد صيرني اللّه تعالى مرجعا للعزيز وسيدا لأهله وسلطانا على جميع أهل مصر ، فلا يضيق عليكم أمركم ثم سألهم عن حال أبيه(3/254)
ج 3 ، ص : 255
فذكروا له شأنه كما هو عليه ، ففال لهم «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» وهذا بوحي من اللّه عز وجل ، وهذا القميص قميص إبراهيم عليه السلام الذي ألبسه اللّه إياه حين ألقي بالنار بواسطة جبريل عليه السلام ، إذ ألقي فيها عريانا كما ألمعنا إليه في الآية 31/ 15 المارتين ، لأن فيه ريحه وريح الجنة ، وهذا أمر معلوم عقلا ، فضلا عما فيه من الكرامة ، لأن الحبيب إذا رأى ثوب حبيبه أو شيئا مما يلازمه ينشرح صدره وتزول كآبته ، وقيل في هذا المعنى :
وإني لأستشفي بكل غمامة يهب بها من نحو أرضك ريح
حتى إن الرجل وهو في سكرات الموت إذا كان له غائب عزيز وقيل له ها هو جاء يفتح عينيه وتبدو عليه ملامح السرور ، حتى إنه إذا جيء له بشيء من ملابسه يضمه ويشمه وقال لإخوته أيضا «وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ 93» لينعموا بآثار ملكي كما اغتموا بأخبار هلكي ، فأخذوه فرحين مسرورين قاصدين تبشير أبيهم به كما كدروه قبلا بفقده تكفيرا لما وقع منهم عنده ، قال تعالى «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ» عن أرض مصر وتوجهت لأرض كنعان «قالَ أَبُوهُمْ» لأحفاده ومن عنده من أهله «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ 94» تنسبوني إلى الخرف والهرم وقلة العقل والجهل ، وأصل التفنيد ضعف الرأي فقال أفند الرجل إذا خرف وفند إذا جهل ، قال الأصمعي : إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو التفنيد ، أي لو لا تنسبوني لذلك لصدقتموني ، قالوا إن الريح استأذنت ربها بإيصاله ريح يوسف إلى يعقوب على مدة ثمانين فرسخا ولا يبعد على اللّه تعالى إيجاد ريح القميص بحاسة يعقوب عليه السلام ، أو أنه أمر ريح الصبا بنقل ريحه إليه حين أعطاه يوسف لإخوته ، وما ذلك على اللّه بعزيز ، قال أهل المعاني إن اللّه تعالى أوصل ريح يوسف عند انقضاء المحنة وحلول وقت السرور من محله إليه بلحظة واحدة ومنع دخول هذا إليه مدة أربعين سنة من نفس المحل ، ليعلم خلقه أن كل سهل زمن الإدبار صعب ، وكل صعب زمن الإقبال سهل ثم انهم لم يلقوا بالا لكلامه وأكدوا له ما ظنه فيهم إذ «قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ 95» الذي كنت عليه ولا تزال تلهج به من ذكر يوسف ، (3/255)
ج 3 ، ص : 256
ولما سمع ما أجابوه به سكت واستحضر للبشارة مما ذكره ، والضلال الذهاب عن طريق الصواب.
قال تعالى «فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ» وهو يهوذا المار ذكره ، لأنه هو الذي فاجأه بأن يوسف أكله الذئب وأعطاه ثوبه الملطخ بالدم المزيف ، فأحب أن يقابل هذه البشارة بتلك الإساءة ، قالوا وكان تقدم إخوته لهذه الغاية وأخذ معه سبعة أرغفة زادا ، فوصل قبل أن يستوفي أكلها حلال ثمانين فرسخا ، لشدة عدوه بالطريق بسائق فرحه وسروره ، فبادر والده بالتحية والبشارة بحياة يوسف ، وقال له هذا قميصه علامة على صحة قولي ، ثم «أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً» بأن عادت له قوة النظر كما كانت ، وانقلب ضعفه قوة ووهنه فطنة ، وهذا من باب خرق العادة ، وليس بدعا في هذا المقام ، وقيل إنه انتعش فقري قلبه وازدادت حرارته الغريزية ، فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر ، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهبب عليهم من جهة أرض المعشوق ، قال :
ألا يا نسيم الصبح مالك كلما تقربت منا فاح نشرك طيبا
كأن سليمى نبئت بسقامنا فأعطتك رياها فجئت طبيبا
وأن هنا ليست بزائدة لأن الزائد عبث ولا عبث في القرآن لأنها أفادت تحسين اللفظ والتأكيد واستقامة وزن الكلام «قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 96» أنتم ولا غيركم ثم قال لهم كيف تركتم يوسف قالوا هو ملك مصر قال ما أصنع الملك على أي دين هو يعامل الناس هناك قالوا على الإسلام قال الآن تمت النعمة فانبسط وظهر على وجهه السرور «قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا» التي واوقعناها معك ومع أخينا يوسف وأخيه ولا تؤنبنا على ما مضى «إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ 97» معكم ومع اللّه «قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 98» لعباده التائبين أمثالكم وهو كثير المغفرة لعباده أجمع ، واسع الرحمة ، جدير بأن يعفو عنكم ولا يعاقبكم عما وقع منكم.
قالوا إنه عليه السلام أخر طلب المغفرة لوقت السحر في ليلة الجمعة ، لأنه أدعى للإجابة ، وذكروا أنه قال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه ، واغفر لي ولأولادي مما أتوا إلى أخيهم وما أوقعوه فيه.
فأوحى اللّه إليه(3/256)
ج 3 ، ص : 257
اني قد غفرت لك ولهم أجمعين ، أما ما قاله عطاء الخراساني من أن طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ مستدلا بقول يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) إلخ ، وقول يعقوب (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) فهو غير مطّرد ، على أن يوسف نفى عنهم اللوم فقط ، ووكل أمر المغفرة إلى اللّه ، ويعقوب وعدهم بالاستغفار ، لأنه من خصائص اللّه ، وهذا من أدب الرسل ، وأن يوسف طلب المغفرة لهم من اللّه فقط ، لأن الوقف في الآية على كلمة اليوم كما نوهنا به آنفا في الآية 92 المارة ، ولا عبرة بقول من قال إن الوقف على كلمة عليكم لأن الابتداء بكلمة اليوم يشمّ منه رائحة التحتم على اللّه بالمغفرة ، ولا يتصور صدوره من مثل السيد يوسف واللّه تعالى لا يفرض عليه شيء بل هو الذي يفرض على خلقه إرادته الأنبياء فمن دونهم ، قالوا ثم إن يوسف عليه السلام أرسل إلى أبيه مائتي راحلة وجهازا كثيرا مما يكفيه وأهله ، وصار يترقب حضورهم ، ثم ان أهل مصر صاروا ينظرون إليه بغير النظر الأول بعد أن تبين لهم أنه من آل إبراهيم حقيقة ، وعظم بأعينهم ، ووقر وقارا عظيما.
بعد أن كان ينظر إليه بأنه عبد قيمته ثلاثون درهما ، وقد اشتراه العزيز بمايتي درهم أي بعشرين دينارا وكانوا يحترمونه لعلمه وأدبه ومروءته وأخلاقه وكثرة عطفه على الفقراء ولطفه بالعامة وإكرامه الخاصّة بما هم أهله ، لذلك تشرب حبه في قلوبهم لتلك المحاسن العالية والمكارم السامية.
أما وقد علموا الآن أنه من بيت إبراهيم عليه السلام الذائع الصيت الذي يحبه أهل السماء والأرض بصورة لم يبق معها شك أو شبهة ، وقد شاع هذا لدى أعاليهم وأدانيهم ، فقد ازداد وقاره وتبجيله وتعظيمه وهيبته بأعينهم وقلوبهم ، لأن الحاكم إذا كان عريقا في الحكم يعظّم في ثلاث جهات لأصالته ولتوليته ولعدله ، وهناك خصلة رابعة هي كمال أخلاقه وعفته.
قالوا ثم رحل السيد يعقوب وآله إلى مصر وهم كالجيش العظيم وتهيأ يوسف لاستقبالهم لما علم بخروجهم فخرج هو وفتيانه ووجهاء مصر وقادتها إلى فناء المدينة لملاقاتهم ، وأخرج أهله وأولاده ، وكان عدد المستقبلين أربعة آلاف نسمة عدا أعوام أهل المدينة وسوقتهم ، وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك رئيس الوزراء لأنه بعد أن ولاه الملك وزارة المالية ودخلت أعوام الغلاء(3/257)
ج 3 ، ص : 258
ورأى تدبيره وعلو شأنه فوضه بإدارة الملك كله وجعله نائبا عنه.
قال تعالى «فَلَمَّا دَخَلُوا» فناء المدينة «عَلى يُوسُفَ» وحاشية المستقبلين ، وكان آل يعقوب ثلاثا وسبعين نسمة ، عدا الخدم والرعاة والرحالة والمرضعات ، وكان يعقوب أمامهم وعند ما أشرف عليهم ترجل ، وأقام يهوذا عن يمينه ، وروبيل عن يساره يتوكا عليهم ، وشمعون وبقية أولاده وأحفاده وراءه صفوفا ، فتقدم إليه يوسف ، وهذا المراد بقوله تعالى «آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ» فضمهما لنفسه وعانقهما وصافح الباقين ، وبعد أن صافحهم الوزراء والأمراء والوجهاء والقادة «قالَ» عليه السلام لأهله «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ 99» على أنفسكم وأموالكم وأنعامكم دون جواز لأن الكنعانين كانوا لا يدخلون مصر إلا بجواز من ملوكها ، لأنها حكومة على حدة ، وآمنين أيضا من
مخاوف القحط وهذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشروع فيه للتيمن والتبرك ، وهو داخل في الأمن لا في الدخول الثاني إلى المدينة والأول لفنائها ، والثالث لقصر الملك ، قالوا ثم تقدم آل يعقوب بموكب عظيم وسار وراءهم موكب الملك والناس وراءهما حتى دخلوا القصر ، وهو معنى قوله تعالى «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ» السرير الخاص بالملك «وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً» أبواه وأخواته والناس وراءهما ، وهذه تحيتهم إذ ذاك وهو خضوع لحد الركوع كما هي تحية الأعاجم الآن ، وليس المراد من السجود هنا وضع الجبهة على الأرض ، واللّه أعلم ، لأنه تحية العباد لرب العباد خاصة ، فلم يكن لأحد قبل ، ولا يكون لأحد بعد ، وهذا وان كان زعم البعض غير جائز لأن اخوته الأنبياء مثله وأكبر منه سنا وفضلا عن أبويه ، إلا أنه يتصور ذلك الزعم إذا كان أمرهم بذلك ، أما وانه لم يأمرهم فقد انقضى ذلك الزعم ، وقد وقع منهم ذلك بتقدير اللّه تعالى تحقيقا لرؤياه ، فلا يقال كيف أجازه وقبله وكيف أقره ورضي به ؟ مما يدل على هذا قوله عز قوله حكاية عنه «وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ» سجودكم هذا والحوادث التي تلتها «قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» في اليقظة قالوا وكان بين الرؤيا وتصديقها أربعون سنة كما مر في الآيتين 53/ 7 ، لأن الرؤيا فى الثانية(3/258)
ج 3 ، ص : 259
عشرة والسجود في الاثنين والخمسين ، وقيل أكثر حتى أوصلها بعضهم إلى ثمانين سنة ، راجع الآية 93 في تفسير الإمام الرازي وكلها أقوال ، إذ لم يذكر اللّه ولا رسوله شيئا عن ذلك «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» ولم يقل من البئر مع أنه أصعب وأشد من السجن لئلا يخجل أخوته لكريم خلقه وعظيم أدبه معهم ، وجليل احترامه لهم ، وكثير لطفه بهم ، وزيادة عطفه عليهم ، ولأن خروجه من الجب أعقبه العبودية وخروجه من السجن أورثه الملوكية «وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ» سمي سكان البادية بدوا كما سمي سكان الحاضرة أي المدن حضرا «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي»
مطلب نسبة النزغ إلى الشيطان مجاز وسبب بلاء يعقوب وإتيان الفرج وحسن الموت :
أضاف عليه السلام الإحسان إلى اللّه تعالى والنزغ إلى الشيطان على طريق المجاز وكمال الأدب مع اللّه تعالى ، والا في الحقيقة الكل من اللّه القائل (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية 78 من سورة النساء ج 3 ، لأنه جل شأنه هو الفاعل المطلق المختار فلا يقع في الكون شيء ولا يرفع منه شيء إلا بعلمه وقضائه وقدره وإرادته ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وعليه فلا وجه لاستدلال المبتدعة في هذه الآية من بطلان الجبر ، لأنهم يقولون لو لا أن يوسف يعلم أن النزغ من فعل اللّه لما أضافه إلى الشيطان ، بل لأضافه للّه ، كما أضاف الإحسان إليه ، وهذا باطل ، لأنه يكون حينئذ في الكون فاعلان ، ولا فاعل في الحقيقة إلا اللّه وحده قال تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) راجع الآية 22 من سورة الأنبياء الآتية ، ولهذا وبخ اللّه تعالى الناسبين لغيره بقوله بعد تلك الآية (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) فقد نبههم جلت عظمته بأن ليس للشيطان مدخل فيه إلا إلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين ، وهذا أيضا باقداره تعالى إياه وتسليطه على بعض خلقه ، فظهر أن الكل من عند اللّه ، راجع الآية 12 من سورة يونس المارة تجد هذا البحث ، وله صلة في الآية 35 من سورة(3/259)
ج 3 ، ص : 260
فصلت الآتية فراجعه «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» من التدبير وحسن الاستخراج وتسهيل الأمور «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ» بمصالح عباده يجريها حسب إرادته «الْحَكِيمُ 100» في جميع أفعاله ، فهو الذي يهيء الأسباب ويؤخر الآمال إلى الآجال كما في هذه القضية ، فإن أولها كان هما وغما وحزنا وآخرها غدا فرجا وسرورا وانشراحا حتى بلغت أعلى مراتب الدنيا والدين ،
ولما تم ليوسف الأمر على ما أراده له اللّه ، تحدث بنعمة ربه فقال «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» من هنا تبعيضيّة لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا وبعض علم التعبير ، وكثير من أحاديث اللّه لا يعلمها هو ولا غيره ، قال هذا عليه السلام على طريق إظهار الشكر لربه لذلك طفق يعددها على نفسه ، وهذا قبل وفاته بأسبوع كما قيل ، إذ انتهت القصة بختام الآية المارة عد 100 ، يا «فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ 101» من آبائي قالوا وأقام يعقوب وآله بعد التلاقي في مصر أربعا وعشرين سنة في أهنأ عيش وأرغد بال وأحسن حال ، وقد حضرت يعقوب الوفاة فأوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده إلى الأرض المقدسة ويدفنه مع إسحاق وإبراهيم ، فلما توفي وضعه في تابوت من ساج وحمله إلى الشام ، فوافق موت أخيه العاص توءمه الذي خرج قبله ، وتلاه هو ، أي أن يعقوب خرج عقبه ولذلك سميا بهذين الاسمين فأخذه معه ودفنهما في قبر واحد ، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة ، وعمر يوسف بعدهما ثلاثا وعشرين سنة ، ورجع إلى مصر وسأل اللّه حسن الخاتمة وقيل عاش عليه السلام بعد أبيه وعمه ستين سنة أو أكثر على ما قيل ، وهما ابن مائة واثنين وأربعين سنة ، ووضع في صندوق من رخام ، ودفن في نيل مصر ، لأن أهله والمصريين تشاحوا في جسمه المبارك كل يريد دفنه في جبانته طلبا لبركته ، ثم اتفقوا على دفنه في وسط النيل كي ينال بركته كل من شرب منه من الإنسان والحيوان والنبات والأرض بسبب جريانه على تابوته ، فلا يختص به واحد دون آخر ، وبقي تابوت يوسف بالنيل وعمت بركته فيه ، ولم يسمى المبارك إلا بعد وضع تابوته فيه كما سيأتي بيانه ، (3/260)
ج 3 ، ص : 261
وكيفية العثور عليه في الآية 50 من سورة البقرة ج 3 ، أي زمن موسى عليه السلام إذ أخرجه من النيل عند خروج بني إسرائيل ودفنه مع آبائه في الأرض المقدسة.
قالوا وانما ابتلى اللّه يعقوب بهذا البلاء ، لأنه ذبح شاة فقام على بابه مسكين صاثم فلم يطعمه منها ، أو انه شوى عناقا وأكله ولم يطعم جاره منه بعد أن شم ريح قترها ، أو أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور عليه فلم يرحمها.
وهذه روايات لو فرض صحتها فلا تقدح بعصمة الأنبياء لانها ليست بسيئات ، إلا أنهم عدوها سيئات إذ يطلب من الأنبياء أعمالا بحسب علو تاجهم وشريف مراتبهم ، وكل منهم امتحن وصبر وفوض أمره إلى اللّه ، قالوا والسبب في إتيان الفرج هو أن يعقوب عليه السلام كان له أخ في اللّه فقال له ما الذي أذهب نور بصرك وقوس ظهرك ولم تبلغ في السن ما بلغه أبواك ؟ قال البكاء على يوسف والحزن على بنيامين ، فأتاه جبريل فقال له إن اللّه يقرؤك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكوني إلى غيري فقال إنما أشكو بثّي وحزني إلى اللّه ، وانما رجل سألني فأجبته لا على طريق الشكوى ، فقال جبريل اللّه أعلم بما تشكو.
فقال يعقوب يا رب تلك خطيئة أخطأتها فاغفرها لي ، فقال غفرتها لك ، قال يا رب أردد علي ريحانتي ثم اصنع بي ما شئت ، فقال جبريل ان اللّه يقرئك السلام ويقول أبشر فو عزّتي وجلالي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وحدت عليك ؟
قال لا ، قال لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا ، وأن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين ، اصنع طعاما وادع إليه المساكين ، فصنع طعاما ثم نادى من كان جائعا فليفطر عند آل يعقوب ،
مطلب أول من سن النداء إلى الطعام وملاذ الدنيا وتمني الموت وقبح الانتحار :
وصار بعد ذلك إذا تغدى أو تعشى نادى مناديه من أراد أن يتغدى أو يتعشى فليأت آل يعقوب فهو أول من سن النداء للطعام وجدد هذه السنة السيد هاشم جدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولم يشاركه في هذه الخصلة أحد من العرب ، وفي عصرنا هذا أحباها الشيخ جدعان بن مهيد من عشائر عنزة ، أما الكرم المطلق فيكثر(3/261)
ج 3 ، ص : 262
في العرب وغيرهم ممن خالطهم ، بارك اللّه فيهم ، وأدام الكرام وأسبل عليهم ستره ونشر عليهم خيره ، ودرّ عليهم من بركاته ووفقهم لما يحبه ويرضاه.
وهنا بحث آخر وهو أنه عليه السلام طلب الوفاة قال قتادة لم يسأل نبي من الأنبياء الوفاة غير يوسف عليه السلام ، وأنه توفى بعد هذا التمني بسبعة أيام ، وذلك لأنه بعد أن تم له ملك مضر وحواليها وبلغ كل ما تمناه البشر الكامل لا سيما بعد جمع شمله مع أبيه وأهله ، وهو يعلم أن مصير الدنيا بما فيها إلى الفناء لا محالة ، ولو عمر ما عمر تاقت نفسه الطاهرة إلى الملك الدائم بجوار ربه الكريم ، ولا يبعد بالرجل الكامل أن يتمنى ذلك رغبة بالنعيم الذي لا يزول ، ولا يمنع من هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم لا يتمنى أحدكم الموت لأمر نزل به ، وفي رواية لا تمنوا الموت فإن هول المطلع عظيم وان من سعادة المرء أن يطول عمره ويحسن عمله ، وعليه فإن الموت عند وجود الضرر ونزول البلاء مكروه ، والصبر عليه أولى ، لأنه عليه السلام لم يتمنّه إبان شدته عند ما كان في الجبّ أو السجن ، بل تمنّاه بعد ما تم له كل شيء تتوق النفس إليه ، وفيه معنى آخر وهو محبة لقاء اللّه تعالى ، فقد روى الشيخان عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه.
وقد تمناه إلياس عليه السلام كما سيأتي في قصته في الآية 123 من الصافات الآتية ، وروى البخاري في صحيحه حديث عدم تمني الموت ، وهو تمناه رضي اللّه عنه ، وذلك أن أهل بلدته اختلفوا فيما بينهم حينما رجع إلى بلده بعد غيابه عنها بسبب طلب العلم ، فكان منهم من يريد دخوله ، ومنهم من لا يريده ، ولما رأى خلافهم يؤدي إلى المقاتلة فيما بينهم ، ويسبب موت بعضهم ، تمنى الموت ، فتوفاه اللّه حالا خشية حصول الفتنة ، والإفساد بين أهل بلدته ، وهذا لا بأس به أيضا ، لهذه الغاية ، أما تمنيه للفاقة والفقر وما ضاهاها من البلاء فلا يجوز ، إذ عليه أن يلجأ إلى اللّه وينقي محارمه ونواهيه ، ويسأله الفرج ، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ولو تأمل هذه الآية 4 من سورة الطلاق الذين ينتحرون والعياذ باللّه لضيق ذات يدهم أو لأمر آخر داهمهم أو لمرض مزمن ألم بهم لما انتحروا وعجلوا بأنفسهم إلى النار ، (3/262)
ج 3 ، ص : 263
فعلى الرجل الذي يمتحن بمثل ذلك أن يطلب من اللّه تعالى العافية فهو أحسن وأجدر بالعاقل ، ويعلم أن اللّه قادر على معافاته مما هو فيه فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، وهو الذي يكشف السوء عن عباده ، وما قيل انه عليه السلام كيف يتمنى اللحاق بالصالحين والصلاح أول درجات المؤمنين ، وهو من الأنبياء مردود ، لأن القصد بالصالحين آباؤه عليهم السلام ، وكلهم أنبياء لا مطلق الصالحين كما جرى عليه بعض المفسرين الذي فتح طريقا لمثل هؤلاء المعترضين ، على أنه قد يكون لهضم النفس على طريق استغفار الأنبياء من بعض ما يقع منهم بالنسبة لدرجتهم.
واعلم رعاك اللّه أن الملاذ الدنيوية كلها خسيسة وأهمها الأكل والجماع والرياسة ، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع وهو ترطب الطعام بالبزاق الذي هر مستقذر في نفسه ، وأنه عند ما يصل إلى المعدة يتعفن ، وقد يشاركه في لذته الحيوان ، وأن يتلذذ بالروث تلذذ الإنسان بأكل الفستق مع الحلوى ، وقال العقلاء من كان همه ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منها ، ولذة الجماع عبارة عن دفع الألم الحاصل من الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته ، فهو إخراج تلك الفضلات المتولدة في الطعام بمعونة جلدة وأعصاب مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس ، مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك ولعبته بها ، ولهذا قال الشافعي رحمه اللّه الجماع عبارة عن ساعة جنون ، ويكفي الرجل أن يجنّ في السنة مرة
واحدة ، ويشاركه فيها الحيوان أيضا.
ولذة الرياسة عبارة عن دفع ألم الذل وطلب السمعة والشهرة وحب الانتقام ، وهذه إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازعه فيها ويحسده عليها لكفى بها هما وغما ، لأن صاحبها لا يزال خائفا وجلا مترقبا الحوادث بسببها.
فإذا كل ما في الدنيا خسيس ، وفي الموت التخلص من الخسيس والرجوع إلى الحسن النفيس ، فعلى العاقل أن يعمل صالحا في دنياه لتصلح له عقباه ، ويحب لقاء اللّه ، وللّه در المعرّي حيث يقول :
ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد
تعب كلها الحياة فما أعجب الا من راغب في ازدياد(3/263)
ج 3 ، ص : 264
إن حزنا في ساعة الموت أضعا ف سرور في ساعة الميلاد
فاتق اللّه أيها الإنسان وارض بما قسم اللّه لك ، واحسن يحسن اللّه إليك.
قال تعالى «ذلِكَ» الذي ذكرناه لك يا أكرم الرسل من هذه القصة البديعة «مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ» الذي «نُوحِيهِ إِلَيْكَ» كأمثاله من الأخبار والقصص الأخرى الماضية والآتية ، «ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» أي أولاد يعقوب عليهم السلام فيما فعلوا أخيهم ما فعلوا «إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ» على إلقائه في الجبّ بعد إرادة قتله «وَهُمْ يَمْكُرُونَ 102» به إذ احتالوا عليه وعلى أبيهم لأخذه معهم إلى المرعى كي يمكروا به كما صوروه بينهم ، وإنما أخبرناك بتفصيل هذه الحادثة لتخبر بها قومك والسائلين عنها فيتحققوا أنها بإخبار اللّه تعالى إياك ، لا كما يزعمون أنك تلقيتها من الغير سماعا أو تعليما ، لأنك أمي وبينك وبينها قرون كثيرة ، فلم يكن في زمنك من حضرها ، وهذا آخر ما قصّ اللّه على نبيه من قصة يوسف ووفاته ، وليعلم أنه لا يجوز أن يقال ما تقوله العامة (وليد ضاع ووجده أهله) لما فيه من التصغير بحق هذه القصة وعدم المبالاة بشأنها ، مع لزوم تعظيمها وإجلالها ، لأن اللّه تعالى سماها أحسن القصص ، كما لا يجوز أن يقال أنت أو هذه أقصر من سورة الكوثر ، أو هذا ما عنده شيء كالسماء والطارق ، أو هذا فارغ كفؤاد أم موسى ، إلى غير ذلك لما علمت من وجوب الأدب والاحترام لكلام اللّه ، وإن أقصر آية منه لها معان عظيمة يكل أكبر عالم عن الإحاطة بها «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ» وبالغت في الجهد على أن يؤمنوا بك فما هم «بِمُؤْمِنِينَ 103» بك أنك مرسل من لدنا لأنهم مصرون على الكفر والعناد مهما بالغت بالحرص على إيمانهم ، «وَما تَسْئَلُهُمْ» أي كفرة قومك «عَلَيْهِ» على تعليم هذا القرآن أو قبول ما فيه أو الإصغاء لأخباره وأحكامه «مِنْ أَجْرٍ» يثفلهم إعطاؤه ليتهموك بأنك إنما تتلو عليهم لطمع نفسي مادّي مما يكن في صدورهم الخبيثة «إِنْ هُوَ» ما هذا
القرآن «إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 104» تذكرهم به مجانا ، وتنصحهم وتعظهم لعلهم يرجعون عن عنادهم ، فيتذكرون ما ينفعهم ويضرهم ، وهذا تسلية لحضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إذ أنه بعد أن أخبرهم بهذه القصة التي وعدوه أنهم يؤمنوا به إذا(3/264)
ج 3 ، ص : 265
هو أخبرهم بها كما هي عند أهل الكتاب الذين سألوهم عنها وقد قصها بأوضح من ذلك ، فلم تزدهم إلا عتوا ونفورا ، قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ» بينة وعبرة ظاهرة دالة على الإله الواحد وصفاته مما هو موجود «فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يتفكر بها هؤلاء الكفرة ولا يعتبرون بمبدعها «يَمُرُّونَ عَلَيْها» بأسفارهم ، لأن آثار الأمم الماضية وأطلالهم فيها أي الأرض ظاهرة للعيان مشاهدة ، وقد بلغهم بالتناقل عن كيفية إهلاك أهلها وهم لا يتعظون بها ، أما آيات السماء فهي ملازمة لهم يشاهدونها أيضا كل ليلة ويرون اختلاف الليل والنهار ، وسير الكواكب فيها ، والانتظام العظيم الذي أبدعه الخالق الذي لا ينخرم قيد شعرة على ممر العصور وكرّها ، ومع ذلك فلا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على صانعها ، لأن اللّه تعالى طمس على قلوبهم لما فيها من الخبث وأعمى أبصارهم تبعا لبصائرهم ، لذلك يقول تعالى قوله «وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ 105» عن ذلك كله وإعراضهم هذا ليس بأعجب من إعراضهم عنك يا حبيبي ، فاصبر عليهم ، ولا تجزع من أفعالهم «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ» بأنه هو الذي خلق هذين الفلكين العظمين وما فيها من أنس وجن ووحش وحوت وطير وديدان ، وألهم كلا ما ينفعه ويضره ، وقدر أرزاقهم لكل بما يناسبه بحكمة عظيمة ، ومع هذا فإن كل من كلف بالإيمان به منهم لا يؤمنون «إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ 106» به غيره من الأوثان ، لأنهم يعلمون أن اللّه تعالى الخالق الرازق ويستغيثون به إذا دهمهم أمر ، ومع ذلك يعبدون غيره.
قال ابن عباس وغيره إن أهل مكة يقولون في تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إلا شريكا وهو لك ، تملكه وما ملك! فنزلت هذه الآية ، ومن هنا كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول لبيك لا شريك لك يقول له قط قط يكفيك ذلك ولا تزد إلا شريكا هو لك إلخ ، قيل إن كفار العرب مطلقا ، وقيل هم الذين قالوا إن الملائكة بنات اللّه ، والكل
جائز ، فكما يجوز نزول آية لأسباب كثيرة يجوز أيضا انطباق أسباب كثيرة على سبب نزول واحد.
قال تعالى مهددا لهم «أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ» عقوبة عظيمة مسجّاة محلّلة لا يعلمون ما فيها تشملهم وتغشاهم داهية «مِنْ عَذابِ اللَّهِ»(3/265)
ج 3 ، ص : 266
فتهلكهم جميعا «أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» على حين غرة وغفلة تفاجئهم من غير سبق علامة أو أمارة فتأخذهم «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 107» بها فيموتون على كفرهم موتة رجل واحد ، القائم قائما والقاعد قاعدا ، وهكذا بحيث لا يستطيع أحد أن يتغير عن حالته التي هو عليها عند نزول العذاب «قُلْ» يا أكرم الرسل «هذِهِ» الحالة التي أنا عليها من الإيمان باللّه وحده والتصديق بما جاء من عند اللّه والإيمان بالبعث بعد الموت «سَبِيلِي» طريقي ومنهجي «أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ» عباده إليها «عَلى بَصِيرَةٍ» معرفة واضحة تميز الحق عن الباطل أسير عليها «أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» وصدق بما جئت به من عند ربي ، قال ابن مسعود رضي اللّه عنه من كان مستنّا فليستنّ بأصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة وأبرّها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، اختارهم اللّه لصحبة نبيه ونقل دينه ، فتشبهوا بأخلاقهم واسلكوا طريقهم فهو الطريق القويم والسبيل المستقيم ، كيف وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن ، أفضل الناس هداية وأحسنهم طريقة ، وقل «وَسُبْحانَ اللَّهِ» أنزهه وأبرئه عن الإشراك «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 108» البتة وهذا لما سبق في الدعوة إلى التوحيد واتباع الطريق التي هو عليها وأصحابه ونفي الإشراك ، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى » مثلك بالنسبة لأهل مكة ومن حولها.
وفي هذه الآية ردّ لقول من قال (لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) الآية 23 من سورة المؤمنين الآتية ، وإنما خص أهل القرى في هذه النعمة العظمى لأنهم أكمل عقلا وأفضل علما من أهل البوادي ، لأنهم أهل جفاء وقسوة ، وأهل المدن أهل لين وعطف غالبا ، ولهذا قالوا إن التبدّي مكروه إلا في الفتن ، وجاء في الحديث من بدا فقد جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، قال قنادة ما نعلم أن اللّه تعالى أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى ، أي المدن والأمصار.
ونقل عن الحسن أنه قال : لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن.
وجاء في الخبر من يرد اللّه به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة.
هذا وإن يعقوب عليه السلام تنبأ قبل(3/266)
ج 3 ، ص : 267
أن ينقل إلى البادية.
قال ابن عباس كان يعقوب تحول إلى بدا وسكنها ، ومنها قدم يوسف وله بها مسجد تحت جبلها ، قال جميل وقيل كثير :
وأنت التي حبّبت شعبا إلى بدا إليّ وأوطاني بلاد سواهما
قال ابن الأنباري : بدا اسم موضع معروف ، يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان كما ذكر في البيت ، وإنما سميت البادية بادية لأن ما فيها يبدو للناظر لعدم وجود ما يواريه ، وهي عبارة عن بسيط من الأرض ، وما قيل إن هذه الآية أي قوله تعالى (إِلَّا رِجالًا) إلخ ، نزلت في سجاع تميمة بنت المنذر التي يقول فيها الشاعر :
أمست نبيّتنا أنثى نطوف بها ولم تزل أنبياء اللّه ذكرانا
فلعنة اللّه والأقوام كلهم على سجاح ومن بالإفك أغرانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت أصداؤه ماء مزن أينما كانا
قول لا صحة له ، لأن ادعاءها النبوة كان بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، ولا قرينة تدل على أن هذا من الإخبار بالغيب ، وقد أسلمت أخيرا وحسن إسلامها وقصتها مشهورة بالسير والتواريخ ، قال في بدء الأمالي :
وما كانت نبيا قط أنثى ولا عبد وشخص ذو افتعال
قال تعالى «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الكفرة «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الذين كذبوا رسلهم كيف أهلكناهم فيعتبرون بهم فيؤمنون باللّه ويتركون هذه الدار الفانية وما فيها لمن اغتر بها من الكفرة المصرين «وَلَدارُ الْآخِرَةِ» الباقية الحسنة «خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» الشرك والمعاصي وعملوا الخير ووحّدوا ربهم «أَ فَلا تَعْقِلُونَ 109» ذلك يا أهل مكة فتتركون ما أنتم عليه وتتبعون ما يأمركم به نبيكم لتفلحوا وتفوزوا.
مطلب في قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من البشر :
قال تعالى «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» وقطعوا أملهم من إيمان قومهم والنصرة عليهم في الدنيا لتماديهم في الكفر مع توالي نعم اللّه عليهم «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ(3/267)
ج 3 ، ص : 268
قَدْ كُذِبُوا»
قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف ، أي ظنت أممهم كذبهم فيما أخبروهم به من نصر اللّه إياهم عليهم وإهلاكهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد ، أي أن الرسل أيسوا من إيمانهم وأيقنوا أن أممهم كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم واستبطئوا النصر عليهم.
والقراءتان على البناء للمفعول تدبر هذا ، واعلم أن من رجع الظن إلى الأنبياء وأراد به ترجيح أحد الجانبين لا ما يخطر بالبال ويهمس بالقلب في شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه الطبيعة البشرية ، فقد أخطأ ، لأنه لا يجوز على أحد من المسلمين ، فكيف يجوز على أعرف الناس باللّه وأنه متعال عن خلف الميعاد ؟ ويبطل هذا الزعم ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية ، قالت بل كذبهم قومهم ، فقلت واللّه لقد استيقنوا بذلك ، فقلت لعلهما قد كذبوا أي بالتخفيف ، فقالت معاذ اللّه لم تكن الرسل تظن ذلك بربها ، قلت فما هذه الآية ؟ قالت هم اتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر ، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن اتباعهم كذبوهم ، جاءهم نصر اللّه عند ذلك.
وقيل أن هذا تكذيب لم يحصل من أتباعهم المؤمنين لأنه لو حصل لكان نوع كفر ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبطء النصر.
وفي رواية عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي مليكة قال قال ابن عباس رضي اللّه عنهما ذهب لها هنالك وتلا (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) الآية 214 من سورة البقرة في ج 3 ، قال تلقيت عروة ابن الزبير وذكرت له ذلك ، فقال قالت عائشة معاذ اللّه واللّه ما وعد اللّه رسوله في شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت ، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون معهم من قومهم من يكذبوهم ، فكانت تقرأها ، وظنوا أنهم قد كذبوا ، بالتشديد مثفلة ، أما ما نقله البعض عن ابن عباس من أنه قال وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم اللّه به من النصر ، قال وكانوا بشرا وتلا قوله تعالى (وَزُلْزِلُوا) الآية المارة من البقرة ، لا يصح إلا إذا أراد بالظن ما يخطر بالبال وكما ذكرنا آنفا ، لأن الأنبياء منزهون عن الظن بربهم(3/268)
ج 3 ، ص : 269
بخلف الوعد والوعيد ، ويجب علينا تطهيرهم وبراءتهم من مثله تنبه ، ولا يخفى أن الظن في القرآن بمعنى اليقين كثير ، كفوله تعالى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) إلى يتقون الآية 47 من البقرة في ج 3 ، هذا.
واعلم ، أن الخبر في استيئاس الرسل مطلق إذ ليس في الآية ما يدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا يكونه ، وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن اللّه تعالى إذا وعد رسله بنصر مطلق كما هو الغالب في أخباره لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته ، فكثيرا ما يعنقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق جل وعلا ، بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما أعتقد طائفة من الصحابة رضوان اللّه عليهم أخبار النبي صلّى اللّه عليه وسلم لهم أنهم سيدخلون المسجد الحرام ويطوفون فيه ، أن ذلك يكون عام الحديبية ، لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم خرج معتمرا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى ، فما استيأسوا من ذلك العام إذ صدّهم المشركون ، ثم عقد الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء حتى قال عمر رضي اللّه عنه ألم تخبرنا يا رسول اللّه أن ندخل البيت ونطوف به ؟ قال بلى أنا خبرتك أنك تدخله هذا العام ؟ قال لا ، قال انك داخله ومطوف به ، وكذلك قال له أبو بكر رضي اللّه عنه فبين له أن الوعد منه عليه كان مطلقا غير مقيد بوقت ، وكونه صلّى اللّه عليه وسلم سعى في ذلك العام وقصد مكة لا يوجب تخصيصا بوعد اللّه بالدخول في تلك السنة ، ولعله إنما سعى بناء على الظن أن يكون الأمر كذلك فلم يكن ، ولا محذور في ذلك وليس في شرط النبي أن يكون كل ما قصده واقعا بل من تمام نعمة اللّه عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى
أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية ، ولا يضر أيضا خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه السلام فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال في تأبير النخل أي تلقيحه حيث نهاهم عنه أولا ، ولمّا لم يأت بالثمر المطلوب سألهم فقالوا لأنا لم نلقحه أي اتّباعا لأمرك فقال إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذون بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن اللّه شيئا فخذوا به ، فإني لن أكذب على اللّه تعالى ، ومن ذلك قوله صلّى اللّه عليه وسلم في حديث ذي اليدين حينما سلم على رأس الركعتين في صلاة رباعية حيث قال له أقصرت(3/269)
ج 3 ، ص : 270
الصلاة يا رسول اللّه ؟ فقال ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم تبين النسيان ، ومنه أيضا في قصة الوليد بن عقبة النازل فيها (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية 6 من سورة الحجرات في ج 3 كما سنبينها في محلها وقصة ابن البيرق النازل فيها (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) الآية 115 من سورة النساء في ج 3 أيضا كما سنبيّنها في محلها إن شاء اللّه ، وفي هذا كفاية في العلم بأنه صلّى اللّه عليه وسلم قد يظن الشيء فيبينه اللّه تعالى على وجه آخر ، لأنه بشر ويجوز عليه ما يجوز على البشر ، فإذا كان خاتم الرسل وأفضلهم هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام ؟ ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء أجمعوا على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك ، لكن لا يقرون عليه ، فإنه لا شك أن هذا دون الخطأ في ظن ما ليس في الأحكام الشرعية من شيء ، وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال أن أولئك الرسل عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له ، فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتا حسبما ظهر لهم كما عين أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم عام الحديبية لدخول مكة ، فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم ، وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزما له أصلا ، فلا محذور ، وأنت عليم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول ما يليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم كما جاء في حديث عائشة المتقدم وشرحه لابن الزبير ، لأن ما جاء به في الردّ والتأويل في غاية الحسن منها رضي اللّه عنها وعن أبيها واللّه أعلم.
قال تعالى «جاءَهُمْ نَصْرُنا» الذي وعدناهم به فجأة من غير احتساب ولا ترقب «فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ» من العذاب الواقع أي نجّى النبيّ ومن آمن معه ومن شملته إرادة اللّه وقرأ بعضهم فنجّي بالتشديد ونون العظمة بالباء على الفاعل وقريء بتشديد الجيم وسكون الياء ، وهي خطأ إذ لا يجوز إدغام النون بالجيم ، والقراءة الصحيحة هي ما عليه المصاحف بالبناء للمفعول «وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا» عذابنا بالإهلاك «عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ 110» إذا نزل بهم البتة وفي هذه الآية وعيد وتهديد لمعاصري حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بأنهم إذا(3/270)
ج 3 ، ص : 271
لم يرجعوا عن كفرهم ينزل بهم عذابه ، وإذا نزل فلا يرده رادّ.
قال تعالى «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ» أي الأنبياء السابقين وأممهم الماضية الطائعة والعاصية الناجية والهالكة «عِبْرَةٌ» عظيمة وعظة خطيرة «لِأُولِي الْأَلْبابِ» العقول الصحيحة السليمة ، أما غيرهم الذين لم ينتفعوا بهذه العبر فلا تكون عظة لهم لعدم سلامة قلوبهم من الرين والصدأ المتكاثف عليها ولذلك لم يعتبروا والعبرة الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى غيره فيقيس بينهما ويتأمل ويتفكر ، فيأخذ ما هو الأحوط والأصوب بالأمر الواقع ويترك الخطأ ، وقد بدأ اللّه تعالى هذه السورة بقوله أحسن القصص وختمها بقوله (فِي قَصَصِهِمْ) مما يدل على أن في هذه السورة الكريمة عبرا كثيرة لمن يعتبر فيها من الأخبار بالغيب والوقائع ما لم يكن بغيرها فضلا عن أنها معجزة عظيمة لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم قال تعالى «ما كانَ» هذا القرآن الذي لقبّناه بأحسن القصص يا أيها الناس «حَدِيثاً يُفْتَرى » يختلق من قبل البشر ، وإنما هو من عند إله البشر ونزل على خيرهم «وَلكِنْ» كان في الأزل ويكون في الحاضر والمستقبل «تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من التوراة والإنجيل وغيرهما مما أنزل اللّه تعالى من كتب وصحف «وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ» تحتاجه يا سيد الرسل أنت وأمتك الموجودون والآتون إلى يوم القيامة من بيان الحلال والحرام والحدود والأحكام والقصص والأخبار والمواعظ والأمثال في كل ما يتعلق في أمور الدنيا والآخرة وما فيهما فمن عرفه حق معرفته لا يحتاج إلى غيره «وَهُدىً» للناس من الضلال والتيه والزيغ أيضا «وَرَحْمَةً» لهم من العذاب وخيرا ينالون به نعم الدارين «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 111» به ويعتقدون أنّ ما فيه حق لأنهم هم المنتفعون به لا غير ، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذا الفعل إلا سورة المرسلات فقط هذا ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تفسير سورة الحجر
عدد 4 - 54 - 15
نزلت بمكة بعد سورة يوسف إلا الآية 85 فإنها نزلت بالمدينة وهي تسع وتسعون آية ، وستمئة وأربع وخمسون كلمة ، وألفان وسبعمئة وستون حرفا.(3/271)
ج 3 ، ص : 272
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى الر 1» تقدم ما فيه ، واللّه أعلم بما فيه ، راجع ما قبلها وما تدلك إليه تجد ما يتعلق في معناه مفصلا «تِلْكَ» إشارة إلى أن ما تضمنته هذه السورة من الآيات بأنها هي «آياتُ الْكِتابِ» المعهود الذي وعد اللّه به حبيبه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بإنزاله عليه «وَقُرْآنٍ مُبِينٍ 1» لكل شيء في الدنيا والآخرة ، والتنكير يشعر بالتفخيم والتعظيم لشأن ذلك الكتاب الذي هو القرآن المدون في اللوح المحفوظ ، ومن قال إن المراد بالكتاب التوراة أو الإنجيل لأن القرآن عطف عليه والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه لا دليل له على ذلك إذ لم يرد ذكر لهما بعد حتى يشار إليها به ، وأن مجيئه بوصفين كان زيادة في إجلاله واحترامه لما فيه من الآيات والأحكام الهامة لهذا المجتمع الإنساني ، أما اقتضاء المغايرة فليس على إطلاقه.
مطلب كلمة لوما ولو لا في ربما وفي كلمات التهكم وعهد اللّه في حفظ القرآن دون سائر الكتب :
«رُبَما» بالتخفيف وتقرأ بالتشديد وهما لغتان في ربّ ، وتكون للتقليل والتكثير وهي هنا للتكثير ، وزيد عليها ما يليها الفعل لأنها من حروف الجر فلا تدخل وحدها على الأفعال كأن وأخواتها فإنها لا تدخل على الأفعال بدون ما ، ولك أن تجعل ما هنا بمعنى شيء فتقول رب شيء ، وتختص بالنكرات وتكون ما كافة لها عن العمل ، وهي تختص أيضا بالماضي من الأفعال ، ودخلت هنا على المضارع لأنه بمنزلة المحقق وقوعه ، لأن كل ما هو مترقب من أخبار اللّه تعالى مقطوع في وقوعه لتحققه فيكون بمنزلة الماضي ، وكأنما قيل هنا ربما ودّ «يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» يوم الجزاء والحساب في ذلك الموقف المهيب الذي ترتعد له الفرائض وتتفطّر له القلوب أي أن الكافرين يتمنون في ذلك اليوم «لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ 2» مؤمنين باللّه في الدنيا وذلك حين يشاهدون أهوال أحوال الآخرة أو حين يحل بهم الموت ، إذ تتراءي لهم منازلهم ويعلمون أنهم كانوا في ضلال ، لهذا يتمنون كثيرا أنهم كانوا مسلمين ، ولكن لا فائدة من ذلك التمنّي إذ لا يقبل الإيمان حال اليأس من الحياة ، فلئلا يقبل في الآخرة من باب أولى(3/272)
ج 3 ، ص : 273
فيكثر ندمهم حينذاك ولات حين مندم ، ولهذا كانت ربما هنا للتكثير لأنهم كلما شاهدوا هولا من أهوال القيامة وكلما رأوا شفاعة الأنبياء لأتباعهم والمؤمنين بعضهم لبعض وكلما عاينوا رحمة اللّه بالمسلمين ونكاله في الكافرين والعاصين أمثالهم يتمنون أنهم كانوا مسلمين ، ويكونون أكثر أسفا وحسرة وندما على ما فاتهم وخاصة حينما يدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار ، أجارنا اللّه منها ، ومن قال إنها هنا للتقليل أراد أنه أبلغ في التهديد والزجر ، أي قليل التمني والندم كافيك في كونه زاجرا لك عما كنت فيه ، فكيف بكثيره ؟ ولأن أهوال القيامة تشغلهم عن كثرة التمني وانغماسهم بالعذاب ينسيهم الندم ، وإنما يخطر ببالهم عند الأفاقة من سكراته ، والأول أنسب بالمقام ، إذ لكل مقام مقال.
قال تعالى «ذَرْهُمْ» يا أكمل الرسل «يَأْكُلُوا» كما تأكل الأنعام ويتمتعوا بحطام الدنيا البالية «وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ» بكثرة الأموال والأولاد والنعم عن الإيمان بنا ويغويهم الشيطان بالانهماك في الكفر والشهوات والإعراض عن الطاعة لك «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 3» سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه وذاقوا وباله ، وفيه تهديد عظيم لمن أخذ حظه من الدنيا وترك نصيبه من الآخرة لأنه صدر الآية بكلمة ذرهم وهي للتهديد أيضا ، فمتى يهدأ العيش لمن هو بين تهديدين تضمنا وعيدين إذا كان له قلب لين أو عين رطبة وفكر يقرّب له ما يستعبده غيرة ؟ هذا ، ولما كان طول الأمل ينسى الآخرة واتباع الهوى يبعد عن الحق والعياذ باللّه وهما ليسا من أخلاق المؤمنين قال تعالى «وَما أَهْلَكْنا مِنْ» أهل «قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ 4» أجل مضروب ووقت معين لإهلاكها لا يتقدم ولا يتأخر ، ولهذا قال ذرهم إذ لم تنزل آية القتال ولم يؤمر حضرة الرسول بقتالهم وقسرهم على الإيمان ، وما قاله بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا عبرة في قوله ، بل هي محكمة جاءت تقوية للقتال وتمهيدا له وتبيبنا لأسبابه ، لأن من أراد أن يبطش بعدوه المخالف له وهو قوي لا يفاجئه ببطشه بل يتقدم له بالإنذار حتى إذا أيس من القبول لما يأمره به وينهاه عنه بطش به ، فيكون معذورا ، لأن من أنذر فقد أعذر ، وهذا من هذا ، قال تعالى «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها» المحتم(3/273)
ج 3 ، ص : 274
لها في أم الكتاب بل تنتظره حتما «وَما يَسْتَأْخِرُونَ 5» عنه لحظة واحدة إذا حل أجله وقد أنث أولا وذكر ثانيا باعتبار اللفظ والمعنى «وَقالُوا» كفار مكة لرسولهم محمد صلّى اللّه عليه وسلم «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» القرآن المذكر للرشد والهدى والحق والصواب «إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ 6» وصموه بما هو براء منه لما يرونه حال نزول الوحي عليه كالمغشي عليه من ثقل ما يلاقي من الهيبة الإلهية ورزانة المنزل مما لا تطيقه الجبال الراسيات ، راجع قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) الآية 6 من سورة المزمل المارة في ج 1 وقوله تعالى (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) الآية 22 من سورة الحشر في ج 3 ، وقولهم له هذا على طريق الاستهزاء إذ يقولون (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) إلخ فيعترفون أنه ذكره وينسبونه إلى الجنون ، ، والتعكيس في كلامهم
للاستهزاء والتهكم جار شائع ، وقد جاء القرآن على ذلك المنوال الذي ألهمه لهم منزله لما هو معلوم في سابق علمه ، قال تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية 27 من سورة آل عمران ج 3 ، ومثلها فيالقرآن كثير ، وقال تعالى (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) الآية 87 من سورة هود المارة وقال تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية 49 من سورة الدخان الآتية ، وقد جاءت هذه الآية على حد قوله تعالى حكاية عن فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) الآية 27 من سورة الشعراء المارة في ج 1 والمعنى أنك تقول قول المجانين بادعائك أن اللّه نزل عليك الذكر قال تعالى «لَوْ ما» هي لو ركب معها ما ، وهي لامتناع الشيء لوجود غيره مثل لو لا ، فتحتاج للشرط والجواب ، ولكنها لا تجزم وإخوانها كذلك وراجع الآية 115 من سورة هود المارة ومعناها هلا ، وهذه أصلها هل ركبت مع لا ، وتفيد التحضيض وهو طلب الشيء بحث وإزعاج ، فعند إرادة المعنى الأخير لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر كما في الآية ، وعند إرادة معنى امتناع الشيء لوجود غيره لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدّر عند البصريين وعليه قول ابن مقبل :
لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري(3/274)
ج 3 ، ص : 275
وهذه بخلاف ربما إذ لا تدخل على الأسماء كما بيناه آنفا في الآية الثانية «تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ» ليشهدوا على دعواك رسالة اللّه لنا كي نصدّقك «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 7» بها قال تعالى ردا عليهم «ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ» على طلبكم الواهي وما ننزلهم «إِلَّا بِالْحَقِّ» عند إرادتنا إنزال العذاب بأحد ، وعند قبض الروح ، وعند إنزال الوحي ، وعند اقتضاء أمر تقتضيه حكمتنا «وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ 8» ممهلين بل لأوقعنا بهم العذاب حالا مع نزول الملائكة ، نزلت هذه الآية في كفار مكة القائلين إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم أنزل علينا ملائكة ربك الذين تزعم ليشهدوا أنك صادق بوعدك ووعيدك كي نصدقك ، قال تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» عليك يا سيد الرسل أصدّقوا أم كذّبوا «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9» من كل ما يقدح فيه كالتحريف والتغيير والزيادة والنقص ، بحيث لو أن أكبر رجل قرأه بزيادة حرف أو نقصه أو تبديل حركة منه لردّ عليه الصبيان ، إذ لا يراعى في لحنه كبير لكبريائه ، وهو الموجود بين الدفتين الآن كما كان قبل يكون بعد المتواترة قراءته كما هي فيه ، كيف لا وهذا العهد من اللّه تعالى بحفظه له على الصورة التي أنزلت عليها ، وبقائه معمولا به إلى آخر الزمان فلا يقدر أحد على إحداث شيء فيه أو إزالة شيء منه البتة بمقتضى عهده هذا ، وهذا من خصائصه ، لأن غيره من الكتب السماوية تطرقت إليها الأيدي بالزيادة والنقصان من تحريف وتبديل ، وأدخل فيها من ما ليس منها يسبب تسلط بعض الملوك على القسوس والرهبان وأهل العلم من أهل الكتابين ، وبسبب الترجمة وأسباب دنيوية وقسرية ، لأن التوراة حرفت مرارا وتداولتها أيدي الملوك وعلماء السوء ، والإنجيل لم ينزل دفعة واحدة ولم يجمع على عهد المسيح ولم يعلم بصورة صحيحة الذي نفله من السريانية إلى العربية ، وأن الأناجيل الأربعة المعمول بها
الآن وإن كانت من حيث المعنى على توافق غالبا فإنها مختلفة من حيث اللفظ ، وكلام اللّه لا بدّ وأن يكون موافقا بعضه لبعض حرفيا في اللفظ والمعنى ، وكلها مخالفة لإنجيل برنابا الذي هو موافق من حيث المعنى للقرآن العظيم بشأن صون سيدنا عيسى من الصلب وعدم توصل أيدي اليهود القذرة إلى طهارته وقدسيته ، وأن المصلوب هو يهوذا الأسخريوطي المنافق الذي دلهم عليه(3/275)
ج 3 ، ص : 276
ليمسكوه ويقتلوه ، فألقى اللّه شبهه عليه جزاء وفاقا كما سيأتي تفصيله في الآية 187 من سورة النساء في ج 3 ، وقال اللّه تعالى في حق هذا القرآن (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) الآية 50 من آل عمران في ج 3 ، بما يعم التوراة والإنجيل وغيرهما ، ولذلك تعهد اللّه بحفظه ولم يشر إلى مثل تلك الآية فيها لعلمه أن يقع فيها ما يقع من التغيير والتبديل ، وقد ولى حفظها إلى الربّانيين والأحبار فاختلفوا وذهب كل منهم مذهبا في تأويلها ، ففسر كل منها على ما تهواه نفسه ، أما القرآن فقد أنزله اللّه تعالى على النبي العربي الأمي بلغته ولغة قومه وأبقاه كما أنزله وسيبقى على حاله إلى يوم القيامة إذ جعله معجزا مباينا لكلام البشر لا يقدر أحد أن يعارضه في إعجازه وفصاحته وبلاغته ولو زيد فيه حرف أو أنقص منه حرف لتغيّر نظمه ومبناه ، ولو غيرت منه كلمة أو بدلت ذهب رونقه ومعناه ، ولو قدم أو أخر منه شيء لاختلف المراد من مغزاه ، ولو حرف حرف منه لنبدلت أحكامه وقضاياه ، فيظهر لكل عاقل بالضرورة أنه ليس من القرآن ويخرج عن كونه كلام الملك الديان ، وقد سخر اللّه تعالى عبادا من خلص عباده يذبّون عنه دواعي المبتدعة والملاحدة وأهل الكتابين المتعصبين بغير الحق ، وأبقاهم كذلك إلى اليوم الذي قدر فيه رفعه ممن ليس بأهله ، فصانه على هذه الصورة من كل إفساد وإبطال ، وأبقاه كما أنزله صادعا بالحرام والحلال والأخبار والأمثال والحمد للّه رب العالمين.
وقدمنا ما يتعلق بهذا في المقدمة من بحث حفظ القرآن ما به كفاية فراجعه.
هذا وما جرينا عليه من عود الضمير في له إلى القرآن أولى وأليق وأحسن من عوده إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم بداعي أن اللّه تعالى ذكر الإنزال والمنزل وكنى به عن المنزل عليه بعود الضمير له وهو محمد صلّى الله
عليه وسلم مع أن هذا معلوم بالبداهة ، وإن سياق الآية يأبى عود الضمير إليه بل عوده لأقرب مذكور ، وهو الذكر أوجب وأصح وأشهر.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ» يا محمد رسلا كثيرة «فِي شِيَعِ» فرق «الْأَوَّلِينَ 10» السابقين
«وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 11» فكذلك قومك قد أساءوا الأدب معك مثلهم ، راجع الآية 30 من سور يس المارة في ج 1 ، والآية 9 من الزخرف الآتية.
أنزل اللّه هذه(3/276)
ج 3 ، ص : 277
الآية تسلية لحضرة الرسول عند ما تجرّأ عليه قومه وسلطوا عليه السفهاء والعبيد بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة رضي اللّه عنها يخبره فيها أن عادة الكفار قديما التعدي على أنبيائهم وإساءة الأدب معهم ، فلك أسوة بهم وعليك أن تصبر على أذاهم وجفاهم كما صبر من قبلك «كَذلِكَ» مثل ما سلكنا الضلال والكفر والتكذيب للرسل والاستهزاء بالذكر في قلوب فرق الأولين ، فإنا أيضا «نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ 12» من قومك لأنهم أشر وأكفر من غيرهم ، والشيعة أتباع الرجل وفرقته إذا اتفقوا على مذهب واحد وطريقة واحدة.
ومعنى السلك النفاذ وهو إدخال الشيء بالشيء كالخيط بالإبرة.
مطلب عدم وجوب الصلاح على اللّه والبروج ومواقعها ومعانيها :
وهذه الآية حجة على المعتزلة القائلين في وجوب خلق الأصلح للعبد على اللّه تعالى خلافا لاعتقاد أهل السنة والجماعة ، قال في جوهرة التوحيد :
وما قيل إن الصلاح واجب عليه زور ما عليه واجب
وقال في بدء الأمالي :
وما ان فعل أصلح ذو افتراض على الهادي المقدس ذي التعالي
وقال الواحدي : قال أصحابنا أضاف اللّه سبحانه إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار وحسن ذلك منه ، فمن آمن بالقرآن فليستحسنه ، ومن قال إنه لم يجر للضلال والكفر ذكر في هذا اللفظ ، فكيف تضيفون الضمير في نسلكه إليه ، هو قول مردود لأنه تعالى قال (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فالضمير في به عائد إلى الرسول والضمير في نسلكه عائد إلى الاستهزاء ، والاستهزاء بالرسول كفر وضلال ، فثبت صحة للقول بأن الذي يسلك في قلوب المجرمين هو الكفر والضلال ، وقد بينّا في الآية 12 من سورة يونس والآية 100 من سورة يوسف المارتين ما يتعلق في هذا البحث فراجعهما ، وإنما نسلكه في قلوبهم لأنهم «لا يُؤْمِنُونَ» أولئك الكفرة «بِهِ» بالذكر المنزل عليك ، وهو القرآن «وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ 13» التي سنها اللّه لعباده في عدم إيمان الكافرين الذين سبق في علمه أذلّا أنهم يموتون كفارا وأنهم يهلكون بعذاب منه ، لأنهم(3/277)
ج 3 ، ص : 278
يصرّون على الكفر ، وفيه وعيد وتهديد لأهل مكة بأنهم إذا لم يؤمنوا يكون مصيرهم الهلاك كالأمم السابقة ، قال تعالى «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ» على خلاف العادة ليؤمنوا بك «فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ 14» يصعدون وينظرون ما فيها من العجائب العظيمة ، والمعارج المصاعد وهي قواطع السلم الذي يصعد عليه بها كالدرج ، «لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا» حبست عن النظر وتحيّرت وأغشيت بما يمنعها من حقيقة المرأى ، أي لأنكروا ما شاهدوه فيها وجعلوه خيالا ولم يتعظوا بشيء من ذلك ولقالوا «بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ 15» من قبل محمد ، إذ موّه وخيل لنا أشياء لا حقيقة لها ، والمعنى أن اللّه تعالى يقول لو جعل لهم ذلك على سبيل الفرض وشاهدوه عيانا لما آمنوا ولقالوا قد سدت أبصارنا عن الحقيقة أو سحرنا محمد ، وأصروا على كفرهم ، وهؤلاء الذين هم في أزل اللّه يموتون على كفرهم لا ينتفعون بما آتاهم اللّه من الهدى والرشد.
قال تعالى «وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً» عظاما كالقصور العالية الفخمة في الأرض ، من حيث الاسم وإلا فلا يقاس بعظمتها ما في الدنيا كلها ، وصيرناها منازل للشمس في سيرها وهي بروج الفلك الاثني عشر ، ولكل برج منها ثلاثون درجة ، فمجموعها ثلاثمائة وستون درجة وتقطعها الشمس في كل سنة مرة واحدة كل برج في شهر ، وبها تتم دورة الفلك ، ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوما ، وتنقسم على المواسم الأربعة ، ونظير هذه الآية الآية 60 من سورة الفرقان المارة في ج 1 ، وقد ذكرنا فيهما بعض ما يتعلق في هذا البحث فراجعه ، وقد أوضحنا ما هية البروج في سورة البروج المارة في ج 1 أيضا ، ولهذا البحث صلة في أوائل سورة تبارك الملك الآتية ، أما منازل القمر فهي ثمانية وعشرون منزلة لكل برج منزلتان وثلث ، إذ ينزل كل ليلة منزلة وتقيم الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما ، وهي مواقع النجوم التي أقسم اللّه بها في الآية 75 من سورة الواقعة المارة في ج 1 كما أشرنا إليه في الآية 40 من سورة يس المارة في ج 1 أيضا فراجعها تجد ما تريد وما يخطر ببالك ، وقد نسبت العرب إليها الأنواء الممطرة التي وعدنا ببيانها قبل في الآية 21 من سورة يونس المارة ، وها نحن أولاء نبينها على التفصيل فنقول وباللّه التوفيق وهو الملك الجليل : (3/278)
ج 3 ، ص : 279
المنزلة الأولى الشرطان بفتح الشين والراء مثنى شرط بفتحتين ، وهما كوكبان نيّران من القدر الثالث على قرني الحمل معترضان بين الشمال والجنوب ، بينهما ثلاثة أشبار بالنسبة لما نراه وبقرب الجدي منهما كوكب صغير ، قد سمتها العرب كلها أشراطا ويقولون بسقوطها علامات المطر والريح والقمر يحاذيهما وبقرب الشمال منهما كوكب صغير نيّر وهما الشرطان عند بعض ، ويقال الشرطين الناطح أيضا.
وأما السرطان بالسين فهو ورم سوداوي يبتدىء مثل اللوزة وأصغر ، فإذا كبر ظهر عليه عروق حمر وخضر شبيهة بأرجل السرطان لا مطمع من برئه ، وإنما يعالج لئلا ينمو ويزداد ، أو داء في رسغ الدابة ، أو دابة نهرية كثيرة النفع لنهش الكلب ، وبحرية تحرق وتوضع بالأكحال راجع القاموس المحيط في تفاصيلها ، ويطلق على البرج السماوي.
الثانية البطين تصغير بطن ، وهي ثلاثة كواكب صغار كأنهن أنافي خفية من القدر.
الخامس على شكل مثلث حاد الزوايا على فخذي الحمل بينه وبين الشرطين قيد رمح بالنسبة لرؤيتها ، وهكذا فيما بعده ، والقمر يجتاز بها أحيانا.
الثالثة الثّريا تصغير ثروى من الثراء وهو الكثرة وتسمى النجم ، وهي ستة كواكب مجتمعة كشكل المروحة مقبضها نحو المشرق فيه انحناء من جانب الشمال ، وقد شبهها قيس بن الأسلت بعنقود عنب ، قال أحيحة بن الجلاح :
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى كعنقود ملاحية حين نوّرا
والمرصود من كواكبها أربعة من القدر الخامس وموضعها سنام الثور ، ويليه الحمل وقد يكسفها القمر.
الرابع الدبران بفتحتين سمي به لأنه دبر الثريا وخلفها وهو كوكب أحمر نير من القدر الأول على طرف صورة السبعة من رقوم ، ويسمى المجدع وموقعه عين الثور ، والذي على طرفه الآخر من القدر الثالث على عينه الأخرى ، والثلاثة الباقية وهي من القدر الثالث أيضا على وجهه وزاوية هذا الرقم على خطم النور ، وقد بسمى بقلب الثور ، وقد يكسفه القمر أيضا.
الخامس الهقعة بفتح الهاء وسكون القاف وفتح العين المهملة ، وهي ثلاثة كواكب خفقفة من القدر الخامس مجتمعة شبيهة بنقط الثاء كأنها لطخة سحابية شبهت بالدائرة التي تكون في عرض زور الفرس أو بحيث تصيب رجل الفارس أو بلمعة بياض(3/279)
ج 3 ، ص : 280
تكون في جنب الفرس الأيسر ، وتسمى الأثافي جمع أثفية ، وهي الأحجار الثلاثة التي يركب عليها القدر حين توضع تحته النار ، وهي على رأس الجبار المسمى بالجوزاء والقمر يحافيها ولا يقاربها.
السادسة الهنعة بالنون على وزن الهقعة ، وهي كوكبان من القدر الرابع والثالث شبهت بسمة في منخفض عنق الفرس وهما على رجل التوأمين مما يلي الشمال بمنكب الجوزاء الأيسر والقمر يمر بهما.
السابعة الذراع وهو كوكبان زهراويان من القدر الثاني على رأس التوأمين ويقال لهما ذراع الأسد المبسوطة ، لأن المقبوضة هي الشعرى الشامية مع فروعها والقمر يقارب المبسوطة.
الثامنة النثرة وهي الفرجة بين الشاربين حيال وثرة الأنف وهو أنف الأسد وهما كوكبان خفيان من القدر الرابع بينهما قدر ذراع ولطخة سحابية وهي على وسط السرطان وبقربهما كوكبان يسميان بالجمارين واللطخة بينهما بالمعلف تشبيها لها بالتبن وبمحنطة الأسد أي موضع استتاره ويكسف القمر كلا منهما.
التاسعة الطرف من القوس وهو ما بين السبّة والأنهرين أي قريب من الذراع من كبدها ، والأنهران العوا والسماك ، وسمي الأنهران لكثرة ما بهما من النجم ، وهي كوكبان صغيران من القدر الرابع أيضا أحدهما على رأس الأسد قدام عينيه ، والأخر قدام يده المقدمة ، والقمر يحاذي أشملهما ، ويكسف أجنبهما ، ويعنون بالطرف عين الأسد.
العاشرة الجبهية أي جبهة الأسد وهي أربعة كواكب على سطر فيه تعريج آخذ من الشمال إلى الجنوب أعظمها على طرف السطر مما يلي الجنوب ، وتظهر للرائي واحدة منفردة وثلاثة كالأثافي ويسمى قلب الأسد لكونه في موضعه ، ويسمى الملكي أيضا وهو من القدر الأول والقمر يمرّ به وبالذي يليه.
الحادية عشرة الزبرة بضم الزاي وسكرن الباء وهي كوكبان نيّران على أثر الجبهية بينهما أرجح من ذراع وهما على زيرة الأسد أي كاهله عند العرب وعند المنجمين عند مؤخره ، فزبرة الأسد شعره الذي يزبر عند الغضب في قفاه أجنبهما من القدر الثالث وأشملهما من الثاني ، وتسمى ظهر الأسد ، والقمر يحاذيهما من جهة الجنوب حتى كأنه نزلهما رأي العين.
الثانية عشرة الصرفة سميت بذلك لأن البرد ينصرف عند سقوطه ، وهو كوكب واحد على طرف ذنب الأسد ، وتسمى ذنب الأسد ، والقمر محاذبه من جهة الجنوب.(3/280)
ج 3 ، ص : 281
الثالثة عشرة العوّي بالقصر وقد تمد وهي خمسة كواكب من القدر الثالث على هيئة لام في الخط العربي تشبه القنا ثلاثة منها آخذة نحو من منكب العذراء الأيسر إلى تحت ثديها الأيسر وهي على سطر جنوبي من الصرفة ، وينعطف اثنان منها على سطر يحيط مع الأول بزاوية منفرجة ، زعمت العرب أنها كلاب تعوي خلف الأسد ، ولذلك سميت العواء ، وقيل كأنها تعوي فى أثر البرد ، ولذلك تسمى طارودة البرد أو مأخوذة من الانعطاف تقول عوى الشيء إذا عطفه ، وتطلق على سافلة الإنسان ، وتسمى ورك الأسد ، والقمر يخرقها.
الرابعة عشرة السماك الأعزل وهو كوكب نيّر من القدر الأول من حيث الضياء وهو يتفاوت ما بين الواحد والواحد والعشرين ، إلا أن البشر لا يدرك أكثر من ذوي القدر الخامس ، لأن السادس هو السها وقل من يدركه من البشر ، لأن بصره لا يتعداه ، وهو على كتف العذراء الأبسر ، قريب من المنطقة ، والقمر يمر به ويكسفه ، ويقابله السماك الرامح الذي لم يعد من المنازل ، وسمي رامحا لكوكب يقدم كأنه رمحه ، وسمي سماكا لأنه سمك أي ارتفع ، ومن قال إنه كوكبان نظر إليهما معا تسامحا والصواب ما ذكرناه.
الخامسة عشرة الغفر وهي ثلاثة كواكب من الرابع على ذيل العذراء ، ورجلها المؤخرة على سطر معوج حدبته إلى الشمال ، وقيل أيضا كوكبان والقمر يمر بجنوبهما وقد يحاذي الشمال وهو منزل خير بعد عن شرين مقدم الأسد ومؤخر العقرب ، ويقال إنه طالع الأنبياء والصالحين وسميت غفرا لسترها ونقصان نورها ، وقيل هي من كواكب الميزان.
السادسة عشرة الذّبانا بالضم وهي كوكبان نيران من الثاني متباعدان من الشمال والجنوب بينهما قيد رمح على كفتي الميزان ، وقيل إنهما قرنا العقرب والقمر قد يكسف جنوبهما.
السابعة عشرة الإكليل وهو ثلاثة كواكب خفية معترضة من الشمال إلى الجنوب على سطر مقوس يشبه شكلهما شكل المغفر ، الأوسط منها متقدم والاثنان تاليان ، وهي من الرابع والقمر يمر بجميعها ، وقيل هي أربعة كواكب برأس العقرب ، ولذلك سميت إكليلا الذي معناه في الأصل تاج الملك.
الثامنة عشرة القلب وهو قلب العقرب كوكب أحمر ونهر وسط الثلاثة التي على بدن العقرب ، على استقامة من الغرب(3/281)
ج 3 ، ص : 282
إلى الشرق ، وهو من الثاني واللذان قبله وبعده من الثالث ، ويسميان بناطين ، والقمر يمرّ به ويكسفه من المنطقة.
التاسعة عشرة الشولة بفتح الشين واللام وتسمى ابرة العقرب عند الحجازيين ، وهي كوكبان من الثاني وزهران متقاربان على طرف ذنب العقرب في موضع السحمة والقمر يحاذيهما.
العشرون النّعائم وهي أربعة كواكب من الثالث على منحرف تابع للشولة وتسمى النعائم الواردة إلى المجرّة ، والقمر يمر باثنين منها ويحاذي الباقية ، ويقرب منها أربعة أخرى من الثالث على منحرف ، وهي النعائم الصادرة من المجرة وكلها من صورة الرامي ، وسميت نعائم تشبيها بالخشبات التي تكون على البئر.
الحادية والعشرون البلدة وهي قطعة من السماء خالية من الكواكب مستديرة تقع بين النعائم وبين سعد الذابح فينزلها القمر وقد يعدل عنها فينزل بالقلادة وهي ستة كواكب صغار في برج القوس تنزلها الشمس في أنصر أيام السنة ، شبهت ببلدة الثعلب وهي ما يكنّه بذنبه ، وتسمى المفازة والفرجة أيضا تشبيها بالفرجة الكائنة بين الحاجبين وموضعها خلف الكواكب التي تسمى بالقلادة ، وهي عصابة الرامي.
الثانية والعشرون سعد الذابح وهو كوكبان على قرن الجدي بينهما قدر باع بالنظر لما نرى جنوبيهما من الثالث والقمر يقاربه ولا يكسفه ، وبقرب الشمال كوكب صغير يكاد يلتصق به يقال إنه شاته التي يريد أن يذبحها ، وقيل إنه في مذبحه ولذلك سمي بالذابح.
الثالثة والعشرون سعد بلع على وزن زفر وهو كوكبان على كف ساكب الماء اليسرى فوق ظهر الجدي بينهما قدر باع غربيهما من الثالث وشرقيهما من الرابع ، وبقرب مقدمهما كوكب صغير كأنه ابتلعه ، فلهذا سمي به.
وقيل هو كوكبان مستويان في المجرة أحدهما خفي والآخر مضيء يطلعان في آخر ليلة من كانون الثاني ويسقطان بأول ليلة من آب.
وسمي بلع لأنه حين يرى أحدهما كأنه يبلع الآخر ، وجاء في
القاموس أنهما طلعا حين قال اللّه (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) الآية 44 من سورة هود المارة ، ولهذا تقول العامة إن الأمطار فيه لا تمكث على سطح الأرض والقمر يقارب اجنبيهما ولا يكسفه.
الرابعة والعشرون سعد السعود وهو كوكبان وقيل ثلاثة على خط مقوس بين الشمال والجنوب حدبته إلى المغرب أجبنهما من القدر الخامس على طرف ذنب الجنوبي(3/282)
ج 3 ، ص : 283
والقمر يقرب منه وأشملهما من الثالث وهو مع الآخر في قول آخر من كواكب القوس ، وسمي بذلك لأنه في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيش الناس ومواشيهم.
الخامس والعشرون سعد الأخبية وهي أربعة كواكب من القدر الثالث ومن كواكب الرامي على يد ساكب الماء اليمنى ثلاثة منها على شكل مثلث حاد الزوايا ، والرابع وسطه وهو السعد والثلاثة خباؤه ، ولذلك سمي بذلك ، وقيل لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج فيه من الهوام ما كان مخبأ والقمر يقاربها من ناحية الجنوب وما قيل إنه عبارة عن كواكب مستديره فيه تسامح ، قال في القاموس سعود النجوم عشرة الأربعة المذكورة في منازل القمر وسنة ليست بمنازل وهي سعد ناشرة وسعد الملك وسعد العليم وسعد الغمام وسعد البارح وسعد مطر ، وكل منها كوكبان بينهما نحو ذراع.
السادسة والعشرون فرع الدلو المقدم ، ويقال الأعلى ، وهو كوكبان نيّران من الثاني بينهما قيد رمح أجنبيهما على متن الفرس الأكبر المجتح ، أي ذي الجناحين ، وأشملهما على منكبه ، والقمر يمرّ بالبعيد منها.
السابعة والعشرون فرع الدلو المؤخر ويسمى الأسفل وهو كوكبان نيّران من الثاني بينهما قيد رمح أيضا أجنبيهما على جناح الفرس وأشمليهما مشترك بين سرّته ورأس السلسلة شبهت العرب هذه النجوم الأربعة فيهما بقرع الدلو بفتح الفاء وسكون الراء وهو مصب الماء منه لكثرة الأمطار فيهما.
الثامنة والعشرون بطن الحوت وتسمى الرشا بكسر الراء أي رشا الدلو وهو حبله ، ويقال له قلب الحوت أيضا ، وهو كوكب نير من الثالث على جنب المرأة المسلسلة ، يحاذي القمر ولا يقاربه ، وسمي به لوقوعه في بطن سمكة عظيمة تحت نحر الناقة تصورها في العرب في سطرين عليهما كواكب خفية بعضها من السلسلة وبعضها من إحدى سكن الحوت.
هذا وإن الأربعة عشر الأولى أي من الشرطين إلى السماك تسمى شامية ، الأربعة عشر الأخيرة من الغفر إلى بطن الحوت تسمى يمانية والسنّة القمرية عبارة عن اجتماع القمر مع الشمس اثنى عشر مرة ، ويتم زمانها في ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة ، ولا يوجد شهر أقل من تسعة وعشرين يوما ولا أكثر من ثلاثين ، ولا سنة أقل مما ذكر(3/283)
ج 3 ، ص : 284
أعلاه ولا أكثر من ثلاثمائة وخمس وخمسين يوما ، وقدمنا ما يتعلق بهذا ، وفي السنة الشمسية أيضا في سورة البروج بصورة مفصلة في ج 1 فراجعها.
ولما ذكر اللّه تعالى حال منكري النبوة وكانت متفرعة على التوحيد وقال جلّ شأنه لو رأوا الآية المطلوبة من السماء لما آمنوا ولبقوا مصرين على كفرهم عقب ذلك بذكر الدلائل السماوية والأرضية ، فقال وأن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه ، فقال «وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً» هي عبارة عن أجزاء الفلك الأعظم المحدد المسمى بالفلك الأطلس وفلك الأفلاك وسماه الشيخ الأكبر قدس سره فلك البروج ويسمونه الفلك الثامن وفلك التوايت ، وقد أوضحنا ما يتعلق فيها أول سورة البروج أيضا في ج 1 فراجعها.
قال تعالى «وَزَيَّنَّاها» أي السماء بالشمس والقمر والميزان والثريا والكواكب السبعة والمحيرة وغيرها زينة بديعة «لِلنَّاظِرِينَ 16» حديدي النظر في ملكوت اللّه يستدلون بها على قدرة مكونها ليؤمنوا بخالقها ويرشدوا أقوامهم إلى الإسلام والإيمان «وَحَفِظْناها» أي النجوم ، وإنما أعيد الضمير إلى السماء لكون النجوم فيها من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه ، فالسماء المحل والنجوم حالة فيها «مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ 17» مرجوم بالشهب ملعون مطرود عنها ، كما هو مطرود من رحمة اللّه «إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ» منها استثناء منقطع أي الذي يقع منه الاستراق يعرض نفسه للهلاك.
مطلب استراق السمع والرمي بالنجوم وماهية الأرض وأن كل ما فيها له وزن خاص :
لأنه إذا تصدى ذلك فيتبعه ما يحرقه وجاء بالماضي «فَأَتْبَعَهُ» راجع الآية 172 من الأعراف المارة في ج 1 تجد معنى هذا الفعل «شِهابٌ مُبِينٌ 18» أو شعلة ساطعة من نار سمي الكوكب شهابا لما فيه من البريق كشهاب النار.
واعلم أن قوله تعالى وزيّناها يعود إلى السماء باعتبار أل فيها للجنس فتشتمل السموات السبع ، لأن الكواكب ليست بسماء الدنيا فقط بل فيها كلها يدل على هذا قوله :
زحل شرى مرّيخه من شمسه فتزاهرت لعطارد الأقمار(3/284)
ج 3 ، ص : 285
لأن زحل في السابعة والقمر في الأولى والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والزهرة في الثالثة وعطارد في الثانية ، وكل منها معها نجوم لا تعد ولا تحصى ، وإن قالوا إنهم أحصوها ، وأن قوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) الآية 5 من سورة تبارك الملك الآتية بالنسبة لما يبدو لنا وإلا فالتزيين لكل السموات ، والمراد بحفظها من الشياطين عدم قربانهم لها كما يحفظ الإنسان داره من العيون والجواسيس ، وإلا فهي محفوظة بحفظ اللّه لا قدرة للشيطان على هدمها وإفساد ما فيها وإنما يحفظها من استراقهم ما يقع فيها من الكلام الذي تتلقاه الملائكة من رب العزّة ، راجع تفسير أول سورة الجن المارة في ج 1 وما يأتي عليك الآن روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إذا قضى اللّه الأمر في السما حتى ضربت الملائكة أجنحتها خفقانا لقوله كالسلسلة على صفوان إذا فزّع عن قلوبهم (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا) للذي قال (قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) الآية 22 من سورة سبأ الآتية ، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض.
ووصف سفيان بكفيه فحدقهما ومدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مئة كذبة ، فيقال له أليس قد قال لنا كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
قال ابن عباس لما ولد عيسى عليه السلام منعت الشياطين من ثلاث سموات ، ثم منعوا من الكل عند ولادة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، والرمي بالنجوم كان موجودا قبل مبعثه وإنما زاد وشدد بعده.
وقد جاء له ذكر في الشعر الجاهلي قال بشر بن أبي خازم :
فالعير يرهقها الغبار وجحشها ينقض خلفها انقضاض الكواكب
وقدمنا في بحث أولاد الحيوانات في الآية 148 من الأعراف المارة في ج 1 أن الجحش ولد الحمار فراجعه.
وقال أويس بن حجر الجاهلي :
فانقض كالدرّي يتبعه نقع يثور تخاله طينا
بما يدل على أن الانقضاض لم يكن قبل بمجرد كوفه غير جاهلي ، وإذ كنا(3/285)
ج 3 ، ص : 286
أوضحنا ما يتعلق بهذا أول سورة الجن المارة في ج 1 وأوردنا الحديث الذي رواه ابن عباس وغيره فلا حاجة للإطالة في هذا البحث هنا ، وستأتي له صلة في سورة الصافات الآتية الآية 6 فما بعدها وفي سورة سبأ الآية 24 أيضا ان شاء اللّه «مَدَدْناها» على وجه الماء أو بسطناها بالنسبة لما نراه ، لأن النّملة إذا مشت على البيضة تحسبها مفروشة ممهدة مبسوطة وقال أهل الهيئة بعضها في الماء وبعضها خارج عنه وهو الجزء المعمور ، ولعظمها يكون بالنظر كل جزء منها ممدودا مبسوطا ، ولا منافاة بين الآية على ما قاله المفسرون وبين قولهم هذا من حيث المعنى كما ذكرنا ، لأن الكرة إذا كانت عظيمة كان كل جزء منها سطحا عظيما بالنسبة لمن فوقه «وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ» أراد وهو أعلم بالرواسي الجبال العظام الثوابت حيث ثقلها بها لئلا تتحرك قال تعالى في الآية 16 من سورة النمل الآتية (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)» والآية 22 من سورة الأنبياء الآتية أيضا بمعناها مما يدل على أنها طائفة والقرآن يفسر بعضه فلو لا تثقيلها بالجبال لبقيت مضطربة لا يستفاد منها قال ابن عباس أن اللّه لما بسط الأرض على الماء ما لت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها ، وما قاله الإمام الرازي في أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعالى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تحيد الناس عن الجادة المستقيمة ، ولا يقعون في الضلال ، لا يسوغ الذهاب إليه ، لأن الأخبار تأباه ، وكان هو رحمه اللّه لم يرض به لتصدير قوله بيجوز ، لأن العالم إذا تردد في شيء صدره
بكلمة يجوز إعلاما بعدم تحققه لديه لعدم العثور على مايجزم به فيه «وَأَنْبَتْنا فِيها» أي الأرض بما فيها الجبال لأنها منها ، وإن أحسن النبات يكون فيها فضلا عن أن أكثر المعادن تكون فيها ، وقد يوجد فيها ما لا يوجد في غيرها ، كيف لا وهي مخازن المياه ، لهذا فإن من قصر عود الضمير على الأرض فقد قصر كما أن تخصيص عود الضمير للجبال فقط غير جائز ، ولهذا فإن عود الضمير لكليهما أولى وأوفى بالمرام «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ 19» بميزان الحكمة معلوم القدر والثقل ، فكل ما ينبت أو يكون في الأرض والجبال والأودية له وزن خاص به سواء(3/286)
ج 3 ، ص : 287
كان نباتا أو معدنا ، لأن المعادن كلها موزونة ، ولا يقال إن موزون لا يعود إلى النبات ، لأن النبات لا بوزن بل يعود إليه أيضا ، ولأن ما يحصل من النبات منه ما هو موزون ، وفيه ما هو مكيل والكيل يرجع إلى الوزن.
واعلم أن هذه الآية تشير إلى ما يسميه علماء هذا العصر بالثقل النوعي ، فالإخبار به في عصر نزول القرآن من المعجزات العظام إذ لا يوجد من يعرف إذ ذاك ممن عاصر حضرة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم في مكة وحواليها بأن كل شيء يخرج من الأرض والجبال والأودية مائع أو جامد له ثقل مختص به لا يشاركه غيره فيه ، فثقل الذهب النوعي 5/ 19 والفضة 5/ 10 والنكل 28/ 9 والزئبق 59/ 12 والراديوم الذي عنصره مثل عنصر الزئبق يشبه ملح الطعام ، ولا يوجد منه في العالم كله (كما يزعمون) إلا بضع أوقيات ، وقد اهتم العلماء به لأنه يشع حرارة وضوءا لا ينطفىء ولا يبرد مهما مضى عليه من السنين ، فكأنه شمس تحتوي على كمية كبيرة منه ، ويستخرج من مادة تدعى بنسيلند توجد في مناجم الرصاص والفضة والقصدير ، وهلم جرا في بقية الأجسام والمائعات المختلفة في الوزن كما هي مختلفة بالنوع والصفة ، وهذا برهان قاطع على علائم نبوته صلّى اللّه عليه وسلم وكما يطلق لفظ موزون على ذلك يطلق على الكلام المتناسب.
قال عمرو بن ربيعة في هذا :
وحديث النوى وهو مما تشتهيه النفوس بوزن وزنا
وأبواب الشعر لها أوزان مخصوصة أبلغوها إلى ستة عشر عدا الرجز كما هو مبين في علم العروض «وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ» تنمون بها حياتكم «وَمَنْ» ولمن على تقدير الجار ، لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، وعليه فلا يكون محل من مجرورا بالعطف على الكاف من لكم فيكون المعنى ومعايش لمن «لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ 20» من العيال والخدم والعبيد والدواب والطيور والحيتان والوحوش والديدان وغيرها.
مطلب كل شيء من عند اللّه وبسط الرزق وقبضه لحكمة أرادها ومعنى الريح والرياح :
فإن اللّه تعالى يرزق خلقه كافة ، وأنتم تنتفعون من مخلوقاته تلك من غير أن(3/287)
ج 3 ، ص : 288
ترزقوها ، لأن اللّه يرزقكم وإياها ، فلا تظنوا أنكم الرازقون لها ولما خولكم منها.
وكلمة معايش لم تكرر إلا في الآية 9 من سورة الأعراف المارة في ج 1 ،
«وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ» من كل ما يطلق عليه لفظ شيء وتخصيص بعض المفسرين كلمة شيء هنا بالمطر تحكم وتقيبد لا معنى لهما ، أي لا يوجد في الكون شيء «إِلَّا عِنْدَنا» نحن إله الكل وخالق الكون بما فيه ورازقه «خَزائِنُهُ» من كل ما يحتاجه البشر والحيوان والطير والحوت والدود وهو جمع خزانة بكسر الخاء ، ومن نوادر ما قالوا لا تفتح الخزانة ولا تكسر القصعة وهي اسم للمكان والمحل الذي يحفظ فيه نفائس الأموال والحلي «وَما نُنَزِّلُهُ» من تلك الخزائن الموجودة في علمنا «إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ 21» معين لكل شيء مما خلقناه لكل منها ما يناسبها بقدر كفايته حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة وتريده المشيئة مع إمكان إنزال ما يزيد على الحاجة ، لأن خزائنه تعالى لا تنفد وإمكان ما ينقص عن الحاجة لأمر يريده ، راجع الآية 26 من سورة الرعد الآتية.
هذا وان ما يرى من كثرة الرزق عند بعض الناس فهو عبارة عن حفظه لديهم لغيرهم ، لأنهم لا يرزقون منه إلا بقدر ما قدر لهم منه مما تستوجبه المصلحة ، وما يرى من قلته على أناس فهو أيضا بتقديره تعالى لأمر يريده بهم ، لأنه يعلم أنه لو نقص على الأول وزاد للآخر لضرّ بهما ، قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) الآية 27 من سورة الشورى ، وكذلك لو قتّر على بعض عباده لبغى بعضهم على بعض ، فقد جاء في الحديث القدسي : ومنهم من إن أعنيته لبغى ، ومنهم من إن أفقرته لكفر.
ولهذا فإنه تعالى يعطي كلا ما يناسبه كي لا يبغي الفقير ولا يكفر الغني المترتب على الحكمة فقرهم وغناهم ، وما قيل إن المراد بالخزائن هنا المطر لأنه سبب الأرزاق لجميع المخلوقات ينفيه لفظ الآية ، والمطر داخل فيه لأنه مما يحتاجه الخلق ، وقد ضرب اللّه الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور ، وتطلق الخزانة على الصّندوق الحديدي الذي يخزن فيه الذهب والفضة وغيرها ، وعلى الخزانة الخشبية التي تحفظ فيها الألبسة وغيرها ، قال تعالى «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» حوامل بالسحاب ضد العقيمة لأنها تحمل السحاب في جوفها من بخار الماء ثم تدرّه كما تدر(3/288)
ج 3 ، ص : 289
اللقحة ثم تمطر ، وهو معنى قوله تعالى «فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ» بأن جعلناه لكم ولأنعامكم وأراضيكم ، ويدخل فيه جميع مخلوقاته سقيا من نتاج الرياح المذكورة «وَما أَنْتُمْ لَهُ» لهذا الماء أيها الناس «بِخازِنِينَ 22» في ذلك الفضاء الواسع بل نحن نخزنه فيه ونمنعه من الهبوط إلا على المكان الذي نريده ، وفي الزمان الذي نشاؤه ، وبالقدر الذي خصصناه ، ولو لا إمساك اللّه إياه لهبط كما ارتفع ، لأن الماء ثقيل ومن طبع الثقيل الهبوط إلى الأسفل ، وهذا هو معنى خزنه وادخاره لوقت الحاجة ، وهذا من معجزات القرآن العظيم ، لأنه يوم نزوله ما كان بشر يعلم أن الرياح تهب حبالى من بخار المياه ، وتلد السحاب في جو السماء ، وتسقينا من نتاجها الذي تخزنه يد القدرة الإلهية.
قال ابن عباس : لواقح للثمر والنبات ، فتكون كالفحل.
ولم يأت لفظ الرياح في القرآن إلا في الخير ، ولا لفظ الريح إلا في الشر حالة الإطلاق ، ولكن إذا قيدت تتبع قيدها ، قال تعالى (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) الآية 22 من سورة يونس المارة ، يدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال :
اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به.
وروى البغوي بسنده إلى الشافعي أن ابن عباس رضي اللّه عنهم قال : ما هبت ريح قط إلا جنى النبي صلّى اللّه عليه وسلم على ركبتيه وقال اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ، اللهم اجعلها ريحا ولا تجعلها ريحا.
وقال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) الآية 20 من سورة القمر المارة في ج 1 ، وقال جل قوله (أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) الآية 42 من الذاريات الآتية.
وقال عزّ قوله (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الآية 57 من الأعراف المارة في ج 1 ، والرياح اللواقح هي ريح الجنوب لما جاء في بعض الأخبار ما هبت رياح الجنوب إلا وانبعت عينا غدقة ، وأخرج بن جرير عن عبيد بن عمير قال : يبعث اللّه تعالى المبشرة فتقم الأرض قمّا ثم يبعث المثيرة فتنثر السحاب فيجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فتجعله ركاما ، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر.
ولهذا البحث صلة في الآية 16 من سورة النور في ج 3 ، وقد مرّ له بحث في(3/289)
ج 3 ، ص : 290
الآيات المنوه بها أعلاه.
قال تعالى «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي» الأجسام القابلة للحياة بإيجاد الحياة فيها «وَنُمِيتُ» من نحييه عند انقضاء أجله المقدر له بإزالة تلك الحياة التي جعلناها فيه فالحياة صفة وجودية تقتضي الحس والحركة الإرادية ، والموت زوال تلك الصفات المادية عنها «وَنَحْنُ الْوارِثُونَ 23» لما نخلق ، الباقون بعد فناء ما نخلق قاطبة ، المالكون للملك الحقيقي عند زوال الملك المجازي الذي هو في قبضتنا أيضا لأنا نحن الحاكمون في الكل أولا وآخرا.
وتفسير الوارث بالباقي نصا على حد قوله صلّى اللّه عليه وسلم اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منّا لأن الذهن يصرف معنى الوارث للمتأخر من المتقدم واللّه تعالى هو الأول والآخر قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ» ولادة وموتا «مِنْكُمْ» أيها المخلوقون «وَلَقَدْ عَلِمْنَا» أيضا «الْمُسْتَأْخِرِينَ به 24» كذلك إلى النهاية من جميع مخلوقاتنا النامية والجامدة ، ونعلم أيضا طائعهم وعاصيهم لا يخفى علينا شيء من أمرهم ، والآية عامة ، فما روي عن حمزة أنها نزلت في القتال قول لا يصح ، لأن الجهاد لم يفرض بعد ، وكذلك ما قاله الربيع أنس من أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم حرّض على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه ، وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد ، فقالوا نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد ، فأنزل اللّه هذه الآية ، لا يصح أيضا ، لأن هذه الآية مكية قولا واحدا ، وليس في مكة إذ ذاك إلا الكعبة المشرفة ، والمسجد لم يتخذ إلا في المدينة ، وكذلك القتال للكفرة لم يؤمر به إلا بالمدينة.
هذا وأن ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه من أنه كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون بالصف الأول لئلا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت أبطيه ، فأنزل اللّه هذه الآية لا يصح أيضا للسبب نفسه ، وأن شمولها لما يتعلق بالجهاد وصفوف الصلاة وغيرها بعد نزولها لا يعني أنها سبب للنزول البتة ، لأن اللفظ عام ولا يوجد ما يقيده من شيء ، ولم يسبق ذكر للجهاد والصلاة ، والعبرة دائما لعموم اللفظ إذا كان هناك سبب ، فلأن تكون العبرة لعموم اللفظ بلا سبب(3/290)
ج 3 ، ص : 291
من باب أولى ، وفي تكرير لفظ (لَقَدْ عَلِمْنَا) دلالة على تأكيد إحاطة علمه تعالى بالعباد وأحوالهم أولا وآخرا ، وأن علمه بالأولين كعلمه بالآخرين لأن الكل مدون في لوحه داخل في علمه قبل إبرازه لخلقه.
قال تعالى «وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ» يوم القيامة كلهم على ما ماتوا عليه كما أماتهم على ما عاشوا عليه.
ويجازيهم بحسب أعمالهم الدنيوية والأخروية ، روى مسلم عن جابر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يبعث كل عبد على ما مات عليه.
وتوسيط الضمير في الآية يفيد الحصر ، أي أن اللّه تعالى هو وحده يحشرهم ، وفي إضافة لفظ الرب إلى الضمير العائد لحضرة الرسول دليل على اللطف به والعطف عليه ، وقريء يحشرهم بكسر الشين من الباب السادس والأفصح الفتح على أنه من الباب الأول على ما هو في المصاحف «إِنَّهُ حَكِيمٌ» باهر الحكم بالغ منتهى الإتقان في أفعاله «عَلِيمٌ 25» واسع العلم كثيره يعلم ما يستحقه كل منهم من الثواب والعقاب.
مطلب خلق الإنسان والجان ونشأة الكون وعمران الأرض :
قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ»
آدم عليه السلام الذي هو أصل الخليقة بدليل قوله «مِنْ صَلْصالٍ» طين يابس تسمع له صوت إذا ضربته كالصلصلة «مِنْ حَمَإٍ» ضارب للسواد وهو صفة الصلصال «مَسْنُونٍ 26» متغير قال تعالى فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه الآية 260 من البقرة في ج 3 ، أي لم يتغير وهو صفة لحمأة ، فهذه القيود تعين أن المراد بالإنسان هنا أبو البشر آدم عليه السلام لا مطلق انسان لأنه خلق من الماء المعبر عنه بالنطفة الحاصلة من الزوجين وما قيل إن معناه مصور استدلالا بقول حمزة رضي اللّه عنه في مدح ابن أخيه محمد صلّى اللّه عليه وسلم :
أغرّ كأن البدر سنّة وجهه جلا النعيم عنه ضوءه فتبددا
وقول ذي الرّمة :
تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب
لا يستقيم هنا واللّه أعلم.
قال اللّه تعالى «وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ» أي أبا الجن «مِنْ(3/291)
ج 3 ، ص : 292
قَبْلُ»
خلق آدم «مِنْ نارِ السَّمُومِ» شديد الحرارة تنفذ في المسام ، أجارنا اللّه منها ، تؤيد هذه الآية أن الجن كان في الأرض قبل آدم وهو كذلك ولكن لا نعلم مبدأ خلقهم ، مما يدل على أن الأرض قديمة قبل آدم بكثير ، وقد جاء في الأخبار أنهم لما أفسدوا فيها - كما يدل عليه قوله تعالى (أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) الآية 20 من سورة البقرة في ج 3 - قرضهم اللّه تعالى ، ولم يبق منهم إلا إبليس لما كان عليه من العبادة والزهد فيما يبدو للملائكة ، فألحقه بهم مع علمه بنتيجة حاله ليقع عليه اللوم.
ثم أعلم رعاك اللّه أن هذه الأرض التي خلق اللّه أصلنا منها وقضى بعودتنا إليها وإخراجنا منها ثانيا كما مر في الآية 64 من سورة الأعراف الآية 55 من سورة طه المارتين في ج 1 قد مرّ عليها قرون كثيرة وهلك فيها أقوام لا عداد لهم ، وقد شاهدت بعيني حالها من صنوف الحياة العجائب المدهشات ، ومهما تاق الإنسان لمعرفة عمرها فلا يقدر أن يتوصل إليه ، ولا يزال عاجزا مهما بالغ في التنقيب ، لذلك لجأ الكلدانيون أولا لتقدير عمرها بحسب التخمين ، فقدروه بمليون سنة ، ثم ظهر العالم بطبقاتها زور ولستر سنة 1950 وقال إن عمرها لا يزيد على سبعة آلاف سنة ، وجاء بعده آثر فقال إن عمرها قبل المسيح بأربعة آلاف سنة أي تكون الآن قريبا من ستة آلاف سنة ، فانظر إلى هذه المباينة ، واعلم أن كل قول فيها مصدره الحدس وهو لا يغني عن الحق شيئا ، لأن هذين القولين لا يمكن أن ينطبقا على عمر الأرض بل قد ينطبقان على نشأة آدم عليه السلام فقط ، وبعد أن مضى عمر هذين العالمين وضعت على بساط البحث بين الأثريين فقدر علماؤهم أن تحسب المدة اللازمة لترسب سمك خاص من الطبقات الأرضية المنتظمة كالأرض الزراعية ، إذ يترسب فيها سنويا مقدار من الغرين بقدر سمك (ميليمتر) واحد ، فإذا كان سمك الطبقة مترا فمعنى ذلك أن هذه الطبقة استغرقت على الأقل ألف عام في تكوينها ، وقد استخدمت هذه الطريقة في أمريكا الشمالية ولو حظ أن الترسب فيها يقرب من الترسب في أجزاء كثيرة من الكرة الأرضية فقدروا عمرها على ذلك بعشرين مليونا من السنين ، ثم عيب على هذه الطريقة عدم انتظام الترسب واختلاف الحبيبات والبواعث الموجبة(3/292)
ج 3 ، ص : 293
للترسب مما يؤدي إلى خطأ كبير في التقدير ، وهو كذلك ، ثم انبعثت طريقة أخرى تتوقف على تقدير الأملاح في المحيطات ، إذ أن ماء المحيطات بخار كان غلافا للكرة الأرضية أيام انصهارها ، فلما بردت تكاثفت تلك الأبخرة وكون ماء المحيطات ولم يكن إذ ذاك ملحا بل أتاه الملح من (الصوديوم) الذي هو مادة الملح ، إذ حملته الأنهار من الأرض إلى البحر ، فإذا قررت كميّة الملح التي تضاف إلى مياه المحيطات سنويا وقدرت كمية الملح الموجودة فعلا يمكن تقدير عمر الأرض ، لأن انتفاء الشرط يؤذن بانتفاء المشروط ، وقد تعددت الأبحاث في مختلف بقاع الأرض على طرق اتفقوا عليها فظهر أن عمرها ما بين ثمانين وتسعين مليونا ، ثم اكتشف الراديوم سنة 1902 فتبين أن هذا العنصر يشع في نفسه باستمرار منتظم من غير تدافع أجزائه وتساقطها نحو المركز ، وإن هذه الأجزاء تنحل وتنحول إلى جسم آخر وهو الرصاص ، وباستخدام هذه الطريقة قدر عمر الأرض بألف وأربعمائة ألف سنة ، ولا زالت الآراء متضاربة ، ولا يزال أهلها يحاولون عبثا إدراك مبدأ الكون أي تجمد الأرض ، وقال الأستاذ رضوان بن محمد رضوان عند ما تمثل بقوله تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) الآية 4 من سورة تبارك الملك الآتية بأن عمر الأرض لا يقل عن مائة مليون سنة ، وانتقل إلى تاريخ حياة الأرض مستدلا بما كتبه الدهر على صفحات الصخور ، أو في أعماق الأرض من بقايا الكائنات الجية ، معترقا بأنه دون الحقيقة بالنظر للحوادث التي تعاقبت فبدلت آثارها ، ولمرور مصور كثيرة من غير أن تترك أثرا على سطحها ، ثم قال يعتقد الأكثرون أن الأرض كانت كتلة غازية بردت تدريجيّا فتصلّبت ثم أحاط بها نطاق من الهواء تكشف ما به من البخار ، فهطلت أمطار عزيرة كونت مياه البحار والمحيطات ، ثم بدأت الرياح والأمطار تعمل عملها في تغيير معالم اليابس باستمرار ، فكثيرا ما ارتفعت سلاسل جبال شامخات ثم تعود الرياح فتفتتها وتفذفها في البحر ، وكانت القارات أعظم اتساعا مما هي
عليه الآن ، إذ كانت تمتد شرقا وغربا أكثر منها شمالا وجنوبا أما الآن فقد تبدل الحال إذ أنمار المحيط على جوانبها فأنقصها.
وللعلماء في أصل الأرض نظريات فقد وضع العالم الألماني سنة 1755(3/293)
ج 3 ، ص : 294
نظريته السديمية فقال إن الكون نشأ من كتلة لا شكل لها ، وأن الفضاء كان يشغله سديم (هو تركيب في بعض الأجرام السماوية على شكل سحابة صغيرة) عظيم أي سحابة كبيرة مكون من مواد غازية مرتفعة الحرارة (راجع الآية 6 من سورة هود المارة حيث سمي هذا السديم عماء وتدبر معناه وقسه مع هذا) ثم انقشعت هذه السحابة تدريجيا بتركيز هذه الغارات بالجاذبية حول نقطة معينة أكثر كثافة من أجزاء السديم ، فكانت هذه النقطة فيما بعد النجوم الحارة والشموس المختلفة وتعتبر شمسنا هذه أصغرها حجما ، وقد اشتق من هذه النظرية المجملة العالم الأفرنسي لابلاس نظرية في أصل الأرض سنة 1842 فقال إن المجموعة الشمسية كانت كتلة غازية مضيئة تشغل فراغا عظيما ثم انكمشت تدريجا بسبب تشعّع حرارتها فتركت حلقات غازية انفصلت عنها الواحدة تلو الأخرى ، ثم تركزت كل حلقة منها حول نقطة معيّنة أصبحت فيما بعد كوكبا من الكواكب وبذا تكونت الكواكب الثمانية السيارة التي منها الأرض والسيارات السبع وهي زحل والمشتري والمريخ وعطارد والزهرة والقمر ، فكل واحدة من هؤلاء في طبقة أعلى من الأخرى على هذا الترتيب ، أدناها الأرض ، وأعلاها زحل ، كما مر في الآية 18 من هذه السورة ، قالوا وانفصل منها كذلك ما يقرب من ألف كوكب صغير ، فتكون الأرض إذا بحسب هذه النظرية مثلها مثل باقي الكواكب الأخرى بدأت حياتها سحابة غازية ثم بردت وتحولت مادة سائلة فتصلّبت قشرتها الخارجية ، وأنها تزداد برودة يوما فيوما وتزداد قشرتها سمكا ، وقد بقيت هذه النظرية مقبولة مدة طويلة حتى أن التحقيق العلي والمشاهدات الحسية أقاما
البرهان على عدم صحتها ، لأن قبولها يقتضي أن تكون حرارة الكرة الأرضية في تناقص مستمر والواقع يخالف هذا إذ تبين أن أقدم أنواع الكائنات التي عاشت على سطح الأرض في الأزمان السحيقة لم تكن تتحمل حرارة أكثر مما تتحمله الأحياء الحالية كما أنه ثبت أن أجزاء من الكرة الأرضية كانت تغطيها الجليد.
ولما ظهر بطلان نظرية (لابلاس) السديمية ظهرت نظرية (تشجرلن) المسماة الذرات الكوكبية أو الأرض الباردة ، فقال أن الشمس كانت أول أمرها سديما أيضا فدنت من(3/294)
ج 3 ، ص : 295
نجم أكبر منها فحدث من تأثير الجاذبية بينهما أن تفككت الأجزاء الخارجية للشمس واندلعت منها ألسنة نارية حلزونية طويلة مركبة من ذرات معدنية بينها كتل حارة كبيرة ، ثم انقشع السديم تدريجبا باجتماع الأجزاء الصغيرة حول الأجزاء الكبيرة بالجاذبية فكانت الكواكب ومنها الأرض ، ثم ظهرت نظرية الكوكبيات (لبرل) وهي تشبه النظرية السابقة إلا أن الذرات استبدلت بكوكبات صغيرة لا يزيد قطر الواحدة منها على 485 ميلا ، فهذه الكوكبيات سقطت على نواة الأرض فنشأ من الاصطدام حرارة فتكونت أرض حارة ذات قشرة منصهرة ، وبعد ذلك قل الاصطدام وبدأت الأرض تبرد بالتدريج.
ثم اعلم أن كثيرا من العلماء ينسب أصل الجوّ إلى غازات حارة أغلبها بخار الماء ثم قليل من أول وثان أكسيد الكربون وحمض الكلوروديك وبعض الآزوت ، أما الأكسجين فلم يكن حرا ، ويرجح العلماء أن انطلاق الهواء في الجو يعود إلى عوامل بركانية ، أي أن أصل الهواء عبارة عن غازات أو أبخرة لفظتها البراكين والينابيع الحارة من الأعماق البعيدة في باطن الأرض ، إذ كانت مكتومة تحت ضغط جبار في المنصهرات الباطنية ، فلما خفّ الضغط انطلقت هذه الغازات وملأت الجو وعليه قول القائل :
فبطنها محشوة بالنار وقشرها قد شق بالبخار
ولما كان سطح الأرض تعلوه سجف كثيفة مستديمة بدأت الأمطار تهطل بغزارة شديدة ولكنها قبل ما تصل إلى سطح الأرض تستحيل إلى بخار بسبب الحرارة الشديدة المنبعثة من سطح الأرض فينطلق إلى الجو ويكون سحبا يتراكم بعضها فوق بعض فتهطل الأمطار ثم تعود فتدخر دون أن تصل إلى الأرض وهكذا دواليك فلما بردت الأرض أمكن للأمطار أن تصل إلى سطحها ولكنها لم تمكث بل تتبخر ثانية وقد ظللت الحال كذلك زمنا وجيزا لا يزيد على بضع آلاف من السنين (ان الأزمان الجولوجية تعني ملايين السنين وتعد مليون سنة فترة قصيرة من الوجهة الجولوجية) ثم بدأ يتكون محيط هائل يطم الأرض بأجمعها وكانت مياهه عميقة وهنا بدأت الشمس تمد الأرض بالحرارة وترسل أشعتها خلال السحب(3/295)
ج 3 ، ص : 296
وبقيت البراكين على حالها في الثوران فتسبب عن إطلاقها المعادن المنصهرة بقوة عظيمة ومقادير هائلة أن غيرت من استواء سطح الأرض فهبطت أجزاء تجمعت فيها المياه فيما بعد وبذا تكونت أحواض المحيطات وأما الأجزاء التي لم تتراكم فوقها الحمم فكونت القارات وعلى هذا فلربما كانت الكائنات المائية هي أولى الكائنات التي ظهرت على وجه البسيطة عند ما تهيأت أسباب الحياة فنشأت في المحيطات أنواع كثيرة من الحيوانات اللافقرية البحرية وقد هاجر بعضها إلى الأنهار وتطورت مع الزمن إلى سمك المياه العذبة ولما كان الجفاف الذي كثيرا ما تتعرض له الأنهار يهدد حياتها بالخطر ، لذلك قد أخذت تهيء نفسها للعيش على اليابس فكانت منها الحيوانات الضفدعية وهذه تطورت إلى أنواع أرقى حتى ظهرت الحيوانات الندية ثم خلق اللّه تبارك وتعالى الإنسان فاستخلفه في الأرض قال تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً الآية 30 من البقرة ج 3.
فظهر مما تقدم أن كل ذلك لم يخرج عن الظن والتخمين كما ذكرنا آنفا لأن أهم الوسائل التي يستندون عليها في عمر الدنيا ومبدأ الحياة فيها هو الحفريات وهي عبارة عن العثور على بقايا حيوانات أو نباتات عاشت في الأزمنه الجولوجية القديمة التي لا توجد في الصخور وليس من الضرورة أن تكون هي البقايا الأصلية للكائنات.
وعلى الطبقات المترسبة في الأرض وهي تختلف باختلاف الهواء والمكان والزمان كما علمت فلا تدل على حقيقة راهنة وأن ما يوجد من الصور والتماثيل المنقوشة على الصخر لا يمكن أن يعرف منها الزمن بصورة يثق فيها الإنسان إذ لا يوجد تاريخ قبل التوراة بإجماع أهل العلم الحديث والقديم وعليه فان النقوش وحدها وإن أثبتت وجود ناقشيها ومهارتهم فأنها لا تثبت زمانهم والعبرة في معرفة التاريخ للزمن فضلا عن أنهم قالوا لا يوجد من الكائنات الحية التي اندثرت أجسامها إلا نحو واحد بالمائة لأن جسم الحي يتحلل بتأثير الباكتريا والفطر والديدان فيزول من الوجود وإذا لم يكن محنطا لا يتجاوز محق ومحو هيكله الصلب السبعين سنة أما الأعضاء الرخوة التي لا هيكل لها فتندثر بسرعة بحسب مادة الأرض ولا يبقى لها أثر ما وأنسب الأماكن لحفظ الحفريات هي المحيطات والبحار وأصلح الرواسب هي المواد الجيرية(3/296)
ج 3 ، ص : 297
الموجودة في البحار.
هذا بعض ما يقوله أهل العلم الظاهري في نشأة الكون وأنه قد يكون له نصيب من الصحة وقد لا يكون أما العلماء الرومانيون فلا يعتقدون صحتها اعتقادا جازما لأن الأمور التي تستند إلى الدين الحق لا يطبق عليها نظريات فرضت فرضا مصدرها الظن والتقدير والوهم لأنها لا تستند على شيء حقيقي ثابت ولا على دليل قاطع ولذلك يمكن لكل أحد أن يجادل فيها وينكرها أو يحاول على عدم إثباتها ، وكذلك القياس فيها منتف إذ لا يقاس على أقوال لم ترتكز على حقيقة واضحة فضلا عن أصحاب هذه الأقوال فإنك لو سألتهم عنها لا يجيبونك عن أنها صحيحة بضمير مطمئن لمضاربة كل نظرية منها الأخرى وتباينها بعضها مع بعض ، وعدم إجماع قائليها على مبدأ واحد كما علمت ، أما ما جاء من الإشارة إلى مبدأ لكون بالقرآن العظيم وهو قوله تعالى (أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية 70 من سورة الأنبياء الآتية وما بعدها وشبهها من الآيات الدالة على ذلك وعلى أصل الخلقة إجمالا ، وما جاء في الأخبار والأحاديث الواردة عن حضرة الرسول التي ذكرنا قسما منها في الآية 6 من سورة هود المارة وأشرنا فيها إلى المواقع الأخرى منها فلا يستطيع أن ينكره إلا من ختم اللّه على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة.
مطلب أقوال الأجانب في بدء الكون ونهايته وشيء من المخترعات الجديدة ونبذة في الروح :
وانظر ما يقوله العلامة اسحق نيوتن الفلكي الشهير صاحب القوانين المعروف (في صدد حركات الفلك) : المؤكد أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تأتي مع محض الجاذبية لان هذه القوة تدفع الاجرام نحو الشمس فقط وعليه وجب أن توجد قوة إلهية خارقة لتديرها في مداراتها.
وإلى ما يقوله اللورد (كلفن) العالم الشهير الطبيعي : (ولا بد أن يكون للأرض مبدأ وسوف يكون لها نهاية ، وهناك قوة إلهية تدبر هذا الكون وهو الخالق الأوحد ، هذا ولعل المخترعات الحديثة تظهر لنا غير هذا مما يسوق الناس قهرا إلى الاعتراف بالإله الواحد ، (3/297)
ج 3 ، ص : 298
وقد بدأت قديما وستتابع إن شاء اللّه ، فقد اخترع الترياق سنة 100 والسوائل سنة 410 ودود القز سنة 500 وطواحين الماء سنة 600 والورق سنة 700 واستخراج السكر سنة 800 وصناعة الطباعة سنة 939 وعلامات الأصوات الموسيقية سنة 1000 والمرائي من الزجاج سنة 1204 ونظارات العيون سنة 1270 والبارود والساعات الدقاقة سنة 1280 والإبر المغنطيسية سنة 1312 وآلة ضفط الهواء سنة 1340 وساعات الجيب سنة 1500 وميزان الهواء سنة 1643 وميزان السوائل سنة 1692 وغيرها كثير ، وفي عصرنا هذا اخترعت السيارات والطائرات والدبابات والراديو والهاتف واللاسلكي والقنابل والصواريخ والنفاثات والذرة والأقمار الاصطناعية وللركبات الهوائية وغيرها ، وما نعلم ماذا يلهم اللّه تعالى خلقه من المخترعات الأخرى حتى يتم مراده في قوله عز قوله (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) الآية 23 من سورة يونس المارة.
أللهم إنا نسألك اللطف فيما جرت فيه المقادير والستر والعافية ، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ 28» تقدم تفسيره في الآية 26 المارة ، وما قيل إن مسنون بمعنى مصور أو مصبوب لا قيمة له في هذا المقام ، راجع الآية 26 المارة ولا يعد هذا تكرارا لأن الآية الأولى جاءت بمجرى الاخبار ، وهذه مخاطب بها حضرة الرسول ليعلمه كيفية بدأ الخلق لأجله ، وما نجم عن مخالفة بعض مخلوقاته لأمره والثالثة الآتية حكاية عن قول إبليس يبين فيها بماذا قابل ربه تجاه إنعامه عليه ، تدبر.
«فَإِذا سَوَّيْتُهُ» عدلته وأتممت خلقه على ما هو في سبق علمي الأزلي «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» وهذا معنى قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) الآية 60 من آل عمران في ج 3 ، والنفخ في العرف إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها ، والمراد هنا واللّه أعلم تمثيل إفاضة مادية الحياة بالفعل على المادة المقابلة لها ، وليس هناك نفخ حقيقية بالمعنى الذي نعرفه ، وهذا الروح هو جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه ، ولا متصل(3/298)
ج 3 ، ص : 299
به ولا منفصل عنه ، وليس بجسم يحل بالبدن حلول الماء في الإناء ، ولا هو عرض يحل بالقلب أو الدماغ حلول السّواد في الأسود والعلم في العالم ، وقد تقدم هذا البحث مستوفيا في الآية 85 من سورة الإسراء في ج 1 «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ 29» سجود تحية لا سجود عبادة والخطاب للملائكة أو أن السجود للّه تعالى يجعل آدم عليه السلام بمنزلة القبلة لهم لما ظهر فيه من أعاجيب آثار قدرة اللّه تعالى وحكمته ، وعليه قول حسان رضي اللّه عنه :
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وفي هذه الآية دليل على جواز تقدم الأمر على وقت الفعل ، فيكون حد الأمر بكونه ملابسا للفعل به ليس على إطلاقه «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ 30» تأكيد لعدم تخلف أحد منهم
«إِلَّا إِبْلِيسَ» لأنه في الأصل لم يكن من الملائكة ، ولهذا كان الاستثناء منقطعا ، ومن قال إنه متصل لم يقل إنه من جنس الملائكة كما هو الشرط في تعريف الاستثناء المتصل ، بل لأنه كان حين الأمر الإلهي معهم ، وقد أمرهم كلهم بالسجود فسجدوا ولم يسجد هو لسابق سقائه ، فاستثني منهم على طريق التغليب ، لأن أصله من الجن ، راجع الآية 53 من سورة الكهف الآتية ، أي أنه خرج عن طاعته لأنه «أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ 31» من الملائكة الذين كان معهم حين الأمر «قال» تعالى موبخا له ومؤنبا سوء صنيعه على امتناعه «يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ 32» أخالفت أمري «قال» عليه اللعنة متقدما في حجته الواهية معتذرا عن السجود بعذره السخيف «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ 33» تقدم تفسيره أي وقد خلقتني قبله من النار والنار أفضل من الطين ، وهو قياس مغلوط ، لأن الفاضل من فضله اللّه ، وليس لأصل الخلقة أو أصل المخلوق دخل في التفضيل ، ولو أراد اللّه هداه لامتثل وما عليه أن يسجد بأمر اللّه لآدم أو غيره ، لأن القصد الامتثال لا غير.
راجع مقاييس إبليس في الآية 12 من الأعراف المارة في ج 1 ، «قال» تعالى لإبليس بعد أن أظهر عناده وعتوه وحسده لآدم أمام الملائكة كما هو ثابت في علم اللّه(3/299)
ج 3 ، ص : 300
«فَاخْرُجْ مِنْها» أي الجنة ويستلزم الخروج منها الخروج من السماء أيضا ، والخروج من زمرة الملائكة الذين كانوا يغبطونه على ما هو عليه من العبادة للّه والعلوم والمعارف التي أنتجت ذلك الغلو وانبثقت عن الجهل المفرط الراسخ في قلبه ، إذ ظن أن الفضل باعتبار المادة ، وما درى أن يكون باعتبار التحلي بالمعارف الرّبانية ، قال :
فشمال والكأس فيها يمين ويمين لا كأس فيها شمال
وما عرف أن الأدب هو المقدم الأول في الفضائل كلها وللّه در القائل :
كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب
ولما فضح اللّه سريرته على ملأ من الملائكة الذين كانوا يحترمونه ويفضلونه على أنفسهم وأبان لهم قريطه ، وعلموا أن عبادته ونشر علمه بينهم في مخالطته لهم رياء لنشر السمعة والصيت بينهم بقصد التعاظم عليهم أمره بالخروج من بين الطائعين الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به من قبله.
قال جل جلاله مبينا جزاءه الدنيوي على مخالفته هذه واحتجاجه الواهي ومقابلة عظمة ربه بما فاه به على رؤوس الأشهاد وبيّن العلّة في ذلك بقوله عزّ قوله «فَإِنَّكَ» بامتناعك هذا «رَجِيمٌ 34» طريد من الرحمة والكرامة بعيد من العطف واللطف «و أنّ عليك اللّعنة» عقوبة لك في الدنيا مني ومن خلقي مستمرة «إِلى يَوْمِ الدِّينِ 35» يوم الجزاء الذي يكون عليك فيه العذاب المهين الدائم ، ولم يجعل اللّه حدّ ابعاده عن فيض رحمته بضرب هذا الأجل كما يفهمه البعض من معنى إلى النائية ، بل جعله غاية في البعد لأنه أي يوم القيامة أبعد ما يضرب الناس المثل في كلامهم إليه من الآجال البعيدة لا أنها أي اللعنة تنقطع عنه بعد ذلك اليوم ، كلّا بل تكون في الدنيا مستمرة بلا عذاب حسّي من اللّه والناس أجمعين ، وفي الآخرة دائمة عليه أيضا مع العذاب الأكبر الباقي ، ولما عرف الخبيث أن سقط في يده ولم يبق له بدّ من تلافي عصيانه لربه ولا أمل في فيض رحمته ، أراد بحسب طويته النجسة أن يتمادى في الضلال والإضلال «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 36» أي كافة مخلوقاتك ، لأنه عارف بالبعث بعد الموت ، وأنه لا موت بعد(3/300)
ج 3 ، ص : 301
البعث ، يقصد أن لا يموت أبدا ، فينجو من العذاب الأخروي ، لأنه إذا بقي يوم البعث يكون حاله حال الخلق بعد البعث لا يموتون أبدا ، لأن هذه الحياة حياة موقته مهما طال أجلها وتلك حياة دائمة ما بعدها إلا الخلود في الجنة رزقنا اللّه إياها ، أو الخلود في النار أجارنا اللّه منها.
«قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 37» المؤخرين ولكن «إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ 38» أي موت جميع الخلق السابق علمه بأنه سيموت على كفره قال تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية 88 من القصص المارة في ج 1 وإجابته تعالى له بتأخير أجله لا إكراما له ولا لميزته على غيره ، بل زيادة في شقائه ، ولو أراد به خيرا لوفقه لطلب العفو عن جرمه وقبول توبته ، ولكن حق قوله عليه في الأزل بشقائه ، ولا راد لما قدره وقضاه.
ولما عرف عدم إجابة طلبه كما أراد وأنه تعالى سيميته على كفره الذي عاش عليه ويبعثه على ما مات عليه وانقطع أمله مما توخّاه ، صرح بما أكنه في قلبه من الغلّ والحقد لعباد اللّه ،
مطلب جهل إبليس وأن المزين في الحقيقة هو اللّه ، وأن مبنى الأيمان على العرف وخلق الأفعال :
«قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ» أي آدم وذريته ما داموا «فِي الْأَرْضِ» وقدمنا في آيات متعددة أن المزيّن في الحقيقة هو اللّه تعالى لأنه هو أقدر إبليس عليه أي أنه يزين حب الدنيا لهم مدة حياتهم وبقائهم على أرضها ، وأحبذ لهم معصيتك «وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ» في زخارفها وشهواتها حتى يضلوا طريقك السوي «أَجْمَعِينَ 39» بحيث لا أترك منهم أحدا إلا صددته عن الهدى ، وقد حدى بالملعون سائق الانتقام فأقسم على أن يجتهد في إغواء آدم وذريته من بعده لأنه السبب الظاهري في طرده وعنائه وقد جاء القسم في الآية 82 من سورة ص بلفظ (فَبِعِزَّتِكَ) لأن الحلف على ما قاله العراقيون بصفات الذات كالعزّة والعظمة والقدرة يمين ، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والسخط والعذاب ليس بيمين ، وقد حلف الخبيث بكليهما ، على أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف(3/301)
ج 3 ، ص : 302
به يكون يمينا ، وما لا فلا ، وهذه الآية حجة على القائلين في خلق الأفعال وأن حملهم إياها على التسبّب عدول عن الظاهر.
وليعلم أن في تمكين إبليس من الإغواء ردّ على القائلين بوجوب رعاية الأصلح من المعتزلة ، وردّ على زعم من قال إن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أدنى أحد منهم فقد خرج عن الفطرة البشرية ، فحينئذ الذي تحكم به الفطرة هو أن اللّه تعالى أراد بالأنظار إضلال بعض الناس ، فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقول هذا الزاعم على حد قول قائلهم :
ما حيلة العبد والأقدار جارية عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوبا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
الذي رد عليه أهل السنة والجماعة بقوله :
إن حفه اللطف لم يمسسه في بلل ولم يبال بتكتيف وإلقاء
وإن يكن قدر المولى بغرفته فهو الغريق وإن أضحى بصحراء
والسبب الذي حدى بأهل الاعتزال على هذه الأقوال هو عدم اعترافهم بأن للإنسان جزء اختياريا وهو إقدام العاصي على المعصية عن رغبة ورضى ، وأن قولهم أن ما يقع منه مقدر عليه ، ولكنه فيما يفعله طائعا مختارا لا يعلم أنه مقدر عليه ، وأنه إنما يفعله تبعا لتقدير اللّه ، فلو أن إبليس حينما امتنع عن السجود كان امتناعه تبعا لما هو في علم اللّه وقد علم ذلك وامتنع لما طرده ربه ، ولكن امتناعه كان حسدا لآدم ، لأنه بالسجود له يصير مفضلا عليه ، وأن نفسه الخبيثة تأبى أن يفضل أحد عليه ، وكذلك مقترف المعاصي لو أنه إنما يقترفها لعلمه بأن اللّه قدرها عليه أو أنه إنما فعلها تنفيذا لأمره لا لشيء آخر لما عذبه اللّه ، ولكن إنما يفعل المعصية لمجرد شهوة نفسه الخبيثة ، مع علمه أن اللّه حرّمها عليه ، فلذلك يعاقب ويعذب ، تدبر.
وهذا الملعون غلط غلطة لا تلافي لها ، إذ يجب على المحب امتثال أمر المحبوب مهما كان ، أعجز الخبيث أن يكون مثل ابن الفارض الصادق في محبته إذ يقول :
لو قال تيها قف على حجر الفضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف(3/302)
ج 3 ، ص : 303
أو عجز أن يكون مثل أحد غواته يزيد حيث قال :
قال خلفته لو مات من ظمأ وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
هذا ومن وقف على معنى قوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ ، الآية 113 من سورة الأنعام الآتية ، وقف يراعه عن البحث ولسانه عن الكلام وقلبه عن التخطر ، راجع الآيتين 12 - 18 من سورة يونس المارة والآية 108 من سورة هود والآية 100 من سورة يوسف المارات والآية 12 من هذه السورة وما ترشدك إليه في هذا البحث تجد ما يكفيك ، علما بأن المزين في الحقيقة هو اللّه تعالى لمن قدر شقاءه في الأزل ، وما إبليس وغيره إلا أسباب ظاهرة جعلها اللّه تعالى ، فأعتقد بهذا أيها المؤمن لا تحد عنه.
ثم استثنى الملعون من هو عاجز عن إغوائه لسابق سعادته في علم اللّه فقال «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 40» بفتح اللام وكسرها وتقدم معناها في الآية 26 من سورة يوسف المارة ولها صلة في الآية 4 من سورة الصافات وفي غيرهما.
مطلب عهد اللّه لأوليائه ودرجات الجنة ودركات النار وإرضاء اللّه أصحاب الحقوق بالعفو والعطاء الواسع وعزل خالد :
«قال» تعالى قاطعا أمله منهم «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ 41» حق علىّ مراعاته «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» فلا تصل إليهم قوتك ولا تنالهم وسوستك ولا يقدر عليهم إغواءك ولا يميلون إلى تزينك ، لأن الخبيث عارف عدم تأثيره في المخلصين الذي أخلصوا للّه واستخلصهم لنفسه ، ولكنه توهم أن له سبيلا على غيرهم من عباده العارفين وأوليائه الكاملين ، فبين له جل شأنه أن ليس له سبيل على عباده أيضا الذين هم من هذا الصنف غير الأنبياء وفي هذا العهد الجليل من الرب الجليل بشارة عظيمة لعباد اللّه الذين يعبدونه عبادة حقيقة خالصة لوجهه ، أما من يعبده سمعة ورباء وجهلا أو لطلب حاجة أو دفع مضرة فقد استثناهم اللّه تعالى من هذا العهد بقوله عز قوله «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ 42» المنهمكين في الغواية اختيارا منهم المنقادين لإضلالك بطوعهم(3/303)
ج 3 ، ص : 304
ورضاهم ، فلك عليهم سلطان لأنهم أتباعك الآن وأحباؤك ، ولكنك ستتبرأ منهم في الآخرة وتوبخهم على اتباعك راجع الآية 22 من سورة إبراهيم الآتية.
قال تعالى «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ 43» التابعين والمتبوعين من الناس وإبليس وجنوده ثم وصف جهنّم بأنها «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ» واحد تحت الآخر لأنها دركات كما أن أبواب الجنة الواحد فوق الآخر لأنها درجات «لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ 44» أي لكل دركة قوم أسفلها للمنافقين لقوله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، الآية 145 من النساء في ج 3 والتي فوقها للمشركين مع اللّه إلها آخر والتي فوقها للمجوس عابدي النار ، والتي فوقها للصابئين لأنهم منهم ، والتي فوقها لكفرة اليهود ، والتي فوقها لكفرة النصارى والسابعة لعصاة الأمة المحمدية وهي الطبقة الأولى أجارنا اللّه منها ، وبين كل طبقة ما لا يعلمه إلا اللّه ، وكذلك ما بين درجات الجنة.
ثم بين اللّه تعالى للمتقين عنده المؤمنين به ، فقال (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الشرك والنفاق وعبادة الأوثان المتباعدين عن الكفر والمعاصي يكونون في الآخرة الباقية دائمة النعيم «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 45» ماء عذبة غير أنهار الجنة ، لأن اللّه يتفضّل عليهم بأشياء خاصة ، لأن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي مقابلة الفرد بالفرد وأن ذلك يكون لهم بحسب مراتبهم ، ويقال لهم يوم الجزاء «ادْخُلُوها» أي الجنان المذكورة «بِسَلامٍ» من الآفات والمنغصات مسلمين بعضكم على بعض ، والملائكة تسلم عليكم أيضا «آمِنِينَ 46» من الخروج منها ومن كل منغص أو مكدر للصفاء ، لأنها دائمة لا موت فيها ولا فناء لها.
ثم وصف اللّه طهارتهم بقوله «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» كان بينهم في الدنيا وما هو بمعناه من حقد وحسد من أثر عداوة أو شحناء أو تطاول ، فتنقي قلوبهم من كل ما يؤدي إلى البغضاء قبل دخول الجنة ، لأن اللّه تعالى يحاسبهم عليها ويسترضي بعضهم مع بعض بعطائه الواسع وفضله العميم حتى تطيب أنفسهم ، بعضهم على بعض فيكونون بالجنّة «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ 48» بوجوههم ينظر بعضهم إلى بعض ، لان النظر إلى القفا أو إلى الجانب ممن يخاطب جفاء واستهتارا به ، وهم هنا منزهون عنها مطهرة قلوبهم من التحاسد على(3/304)
ج 3 ، ص : 305
علو الدرجات بحيث يوقع اللّه تعالى الرضاء في قلب كل منهم على ما هو فيه من المنزلة ، بحيث يرى نفسه راضية مطمئنة فيها فرحة مسرورة.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي بسبب ما كان بينهم في الجاهلية من الضغائن فغير سديد ، لأن الإسلام طهرهم فلم يبق في قلوبهم شيئا ، على أن عليا كرم اللّه وجهه أسلم صغيرا ولم تستول عليه خصلة من خصال الجاهلية ، مما يدل على عدم الوثوق بنزولها فيهم ، وهم رضي اللّه عنهم أولى بمن ينزل فيهم القرآن ويشملهم مضمون آياته كهذه وغيرها من كل ما فيها خير ، إلا أن الآية عامة في كل مؤمن ومؤمنة ، وفيها ردّ على من بهت سيدنا عمر رضي اللّه عنه بأنه عزل السيد خالد ابن الوليد رضي اللّه عنه بسائق العداوة التي كانت بينهما حال الصغر ، وهي أن خالدا رمى عمر على الأرض أو أنه خاف منه على الملك أن يتولاه هو فعزله عن أمارة الجيش في فتح الشام ، وحاشا عمر من ذلك ، على أن حادثة رميه كانت في الجاهلية فمحاها الإسلام إن كان لها من صحة ، وحادثة عزله عن الإمارة ما هو إلا ليعلم الناس أن النصر من اللّه تعالى يجريه على يد من شاء من عباده لا على يد خالد فقط ، لأن الناس صاروا يتقولون فتح خالد وفعل خالد ولو لا
خالد لما كان كذا ، فأراد أن يريهم خلاف ما وقر في صدورهم ، فضلا عن أن عزله كان طبقا لمراد اللّه لأن فتح الشام كان مقدرا على عبيدة بن الجراح وكان ذلك فيكون عمله هذا كرامة له من اللّه تعالى إذ توسم ذلك فيه ، وقال تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) الآية 75 الآتية ولو كان في عزله شيء مما ذكره هؤلاء المعزولون عن رحمة اللّه لما بقي في الجيش ورضي أن يكون من جملة جنوده حتى ثم الفتح على يده ، فتح اللّه له أبواب الجنة.
قال تعالى في وصفهم أيضا «لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ» ولا تعب ولا إعياء كما في جنات الدنيا التي لا تخلو من ذلك ، وأن لكل مؤمن جنّة لا يعادلها جنان الدنيا ، لأن أقل حظ أقل رجل من أهل الجنة أكثر من ملك أكبر ملك من ملوك الدنيا «وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ 48» أبدا وهذا النص قاطع بالخلود في الجنة ، ثم صدع جل شأنه بالبشارة العظيمة بقوله «نَبِّئْ عِبادِي» يا سيد الرسل «أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ»(3/305)
ج 3 ، ص : 306
لمن عصاني فندم وأناب إلي ، فإن مغفرتي الكبيرة تسع ذنوبه مهما كانت وأنا «الرَّحِيمُ 49» بمن أطاعني وتوكل علي ، فإن رحمتي تغمره وإن عظمتي تستصغر خطاياه مهما كانت «وَأَنَّ عَذابِي» لمن كفر بي وجحد نعمتي ولم يرجع إليّ «هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ 50» الذي لا تطيقه قوى المعذبين.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأدخل في خلقه كلهم رحمة واحدة.
فلو يعلم الكافر بكل الذي عند اللّه من الرحمة لم بيأس من الجنة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند اللّه من العذاب لم يأمن النار ، ولم يقل جل شأنه أنا المعذب كما قال أنا الغفور ترجيحا لجانب الوعد على الوعيد ، وذلك من عظيم فضله.
ويقوي هذا الترجيح الإتيان بالوصفين الكريمين بصيغة المبالغة ، وما أخرجه ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : اطلع علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال : ألا أراكم تضحكون ، ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر ، رجع إلينا القهقرى فقال : إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن اللّه تعالى يقول لم تقنط عبادي اني أنا الغفور الرحيم.
وتقديم الوعد يؤيد ذلك ، وفيه إشارة إلى الحديث القدسي الذي فيه (سبقت رحمتي غضبي) وقدمنا في الآية 20 من سورة يوسف ما يتعلق بهذا وفيها ما يرشدك لمراجعة المواقع التي فيها هذا البحث فراجعها.
مطلب بشارة إبراهيم وقصة قوم لوط :
قال تعالى «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ 51» الضيف الميل مأخوذ من مال إليك لينزل بك ، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر ويجمع على ضيوف وأضياف ، وهؤلاء هم الملائكة المار ذكرهم في الآية 69 من سورة هود المارة ، وقد ألمعنا إلى إقراء الضيف وآداب الضيافة فيها أيضا فراجعها «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً» عليك يا إبراهيم «قالَ» بعد أن رد عليهم السلام وقدم لهم الطعام كما مر في سورة هود المارة أيضا ورآهم لا يأكلون «إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ 52» خائفون لأن أكل الضيف طعام المضيف دليل على الأمان ، والامتناع(3/306)
ج 3 ، ص : 307
منه علامة على أنهم أعداء وهي عادة مطّردة حتى الآن عند عرب البادية ، ولديهم عادة أخرى وهي أنهم إذا جاءوا بحاجة لا يأكلون قبل قضائها أو أن يتعهد لهم يخلافها ، وثالثة وهي أن المضيف عند ما يقدم الطعام يأكل منه قبل الضيوف لقيمات ثم يقوم ويأمرهم بالأكل حتى لا يظن أن في الأكل شيئا ضارا ولمعرفة نضجه ولذته «قالُوا لا تَوْجَلْ» من شيء ولا تخف بل افرح وطب نفسا «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ 53 كثير العلم يأتيك من زوجتك العقيم سارة على ما هي عليه من الكبر واسمه إسحاق «قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ» والهرم «فَبِمَ تُبَشِّرُونَ 54» بعد هذه الشيخوخة ، على طريق الاستفهام التعجي ، أي أن بشارتكم لي على ما أنا عليه وزوجتي من الحال أعجوبة «قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ» الصدق الواضح لأنه من أمر اللّه ولا عجب فيه «فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ 55» لأن ذلك من قضاء اللّه وهو يقين فلا تيأس «قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ 56» عن طريق الهدى ، وإلا لا أحد يقنط منها البتة لأن الكل محتاجون إليها.
هذا وانه عليه السلام لم يستبعد ذلك بالنسبة لعظيم قدرة اللّه ، وإنما استبعده بالنسبة لواقع ، لأن مثله ومثلها لا يتصور أن يولد لهما ، وأن العقم وحده كاف للاستبعاد فكيف إذا ضم إليه الكبر ؟ ثم لما عرفهم أنهم ملائكة «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ 57» غير بشارتي هذه «قالُوا» إن الخطب الذي جئنا به هو «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ 58» لنهلكهم بجرمهم القبيح ولذلك عبر بالخطب لعظمته ثم استثنى فقال «إِلَّا آلَ لُوطٍ» أهله وشيعته وأتباعه المؤمنين «إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ 59» من الإهلاك ثم استثنى من أهله الناجين ما يتصور دخوله فيهم فقال «إِلَّا امْرَأَتَهُ» فهي هالكة معهم لأنا «قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ 60» الباقين في العذاب معهم في علمنا الأزلي ، هذا وقد أسندوا الفعل لأنفسهم مع أنه للّه تعالى لاختصاصهم به وقربهم منه كما تقول خاصة الملك أمرنا وقضينا وفعلنا مع أنه بأمر الملك ،
قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ 61 قال» لهم لوط حينما دخلوا عليه «إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ 62» لا أعرفكم إذ جاءوا بزي شباب حسان وكان مثلهم(3/307)
ج 3 ، ص : 308
يتحاشى عن المجيء إلى قريته لما شاع عنهم أنهم يفعلون المنكر فيمن يأتي إليهم وكان دخولهم بيت لوط دون استئذان فلهذا أنكر مجيئهم وخاف عليهم من شناعة قومه «قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ 63» يشكون به من العذاب الذي كنت تهددهم به فيكذبوك لنرقعه فيهم ، أما نحن فلا تخف علينا منهم فإنا جئناهم لهذه الغاية «وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ» اليقين الذي لا مرية فيه «وَإِنَّا لَصادِقُونَ 64» فيما أخبرناك به من أن إرسالنا لإنزال العذاب عليهم ، أما أنت «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ» سر خلفهم على أثرهم لئلا يفلت منهم أحد «وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ» يا آل لوط «أَحَدٌ» فيصيبه بعض ما ينزل عليهم من العذاب ، قالوا إنما نهاهم لئلا ترق قلوبهم على المعذبين حين ينزل بهم العذاب فيرتاعون لمشاهدته ويدهشون لشدة هوله «وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ 65» وقد أمرهم جبريل بالذهاب إلى قربة لم تعمل عمل قومه «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ» أوحينا إلى لوط «ذلِكَ الْأَمْرَ» الذي هو «أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ 66» أبهم جل شأنه هذا الأمر ثم فسره تفخيما له وتعظيما لشأنه ثم طفق جل جلاله يقص حال قوم لوط مع ضيوفه وما وقع منهم فقال عز قوله «وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ 67» يبشر بعضهم بعضا بضيوف لوط الحسان وأتوا مهرولين إلى بيته طمعا بالنيل منهم فاستقبلهم عليه السلام «قالَ» لهم يا قوم اتقوا اللّه «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ 68» بالتعدي عليهم «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ 69» فيهم ويظهر الأمر لأهالي القرى الأخرى فيصيبكم الخزي والعار لأن الضيف في حمى المضيف «قالُوا أَ وَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ» بأن لا تضيف أحدا منهم ولا تقبل غريبا في بيتك ولا تكلمنا فيما نريد أن نفعل بالناس ، وقد علموا ذلك إذ شاع أمرنا بأن نفعل
فيمن يقدم على قرانا مهما كان له من مكانة بقصد قطع أملهم من الدخول فيها
«قالَ» يا قوم إذا كنتم لا تسمعون قولي ولا تجيبون دعوتي وأصررتم على اخزائي فيضيفي فاتركوهم و«هؤُلاءِ بَناتِي» اللاتي كنتم تريدون الزواج بهن ولم أفعل ، فإني أزوجهن لكم الآن «إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ 71» ما تريدونه بأضيافي وقد تقدمت القصة مفصلة في الآية 78 من سورة هود المارة ، وقال عليه(3/308)
ج 3 ، ص : 309
السلام (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) على طريق الشك في قبولهم ، فكأنه قال إن فعلتم ما أقوله لكم وأظنكم فاعلين ، فلم يقبلوا منه وتزاحموا على الباب ، فلما رأت الملائكة أن قومه ضايقوه قالوا له إنا رسل ربك ، وأنزل فيهم العذاب كما مر في القصة هناك وفي الآية 84 من سورة الأعراف المارة في ج 1.
مطلب في كلمة عمرك والفراسة والفأل وتعبير الرؤيا :
قال تعالى «لَعَمْرُكَ» وحياتك يا حبيبي «إِنَّهُمْ» كفار قومك «لَفِي سَكْرَتِهِمْ» وغفلتهم هذه وغوايتهم وبغيهم «يَعْمَهُونَ 72» يترددون بالحيرة ويتحيرون في النيه ويخورون في الضلال ، لا يسمعون قولك ولا يقبلون نصحك ، وكيف يقبلونه وقد اعتراهم ما أزال عقولهم ، لأن العمه عمى القلب ، لهذا لم يميزوا بين الخطأ والصواب.
وقد جاءت هذه الآية معترضة بين قصة لوط عليه السلام ، وقيل إن الضمائر فيها لأهل المدينة من قوم لوط فلا تكون اعتراضية ، والخطاب في لعمرك من الملائكة إلى لوط ، ولكن أكثر المفسرين على الأول بطريق الالتفات والسياق ، والسياق يؤيد الثاني واللّه أعلم.
وما قيل إن عمرك بمعنى دينك مستدلا بقول القائل :
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك اللّه كيف يلتقيان
فالثريا شامية ما استهلت وسهيل إذا استهل يمان
لا يستقيم هنا وجاز إضافة عمرو إليه تعالى لقوله :
إذا رضيت عليّ بنو تشير لعمرو اللّه أعجبني رضاها
وقول الأعشى :
ولعمرو من جعل الشهور علامة منها يبين نقصها وكمالها
فمن زعم عدم جوازه لأن اللّه ازلي أبدي توهم أنه لا يضاف إلا فيما له انقطاع وليس كذلك.
وكلمة عمرو هذه إذا أضيفت إلى الضمير تكتب بلا واو كعمرو في حالة النصب للفرق بينها وبين عمر ، قال تعالى «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ 73» عند بزوغ الشمس «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ» على أهل قرى لوط ، والضميران الأولان عائدان على القرى نفسها لأنها هي التي جعل أسفلها(3/309)
ج 3 ، ص : 310
أعلاها وهم الذين ألقى عليهم «حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ 74» طين متحجر مرّ تفسيره في القصة المذكورة في سورة هود «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإهلاك الفظيع «لَآياتٍ» عظيمة وعبرة جليلة وعظة كبيرة «لِلْمُتَوَسِّمِينَ 75» أي المتفرسين الذين يعرفون بواطن الأشياء بسمة ظواهرها.
والفراسة على نوعين : نوع بوقعه اللّه تبارك وتعالى في قلوب أوليائه فيعلمون به من أحوال الناس ما خفي على غيرهم بإلهام من اللّه تعالى ، وهو من باب الكرامة التي خص بها بعض أوليائه ، وهي شبيهة بالمعجزة عدا دعوى التحدي الذي هو من خصائص الأنبياء ولا يجوز لأحد القول به.
أخرج البغوي في حديث غريب عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه.
والفراسة بكسر الفاء ، تقول توسمت في فلان كذا ، أي عرفت وسم ذلك فيه.
والثاني من إصابة الحدس والظن والتثبت وقوة التفكير والتأمل وما يحصل بدلائل التجارب والنظر في الخلق والخلق والأخلاق مما يعرف به أحوال الناس ، فهو من باب الحذق والفطانة فيكون هذا النوع لكل من يتصف بما ذكر ، ولذلك قالوا التوسم هو النظر من اقدم إلى الفرق واستقصاء وجوه التعريف ، قال الشاعر :
أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إليّ عريفهم يتوسم
ويقال إني توسمت بفلان خيرا وعليه قول ابن رواحة في حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم :
إني توسمت فيك الخير أعرفه واللّه يعلم أني ثابت البصر
ومن هذا القبيل الفال الذي يشتغل به بعض الناس من رجال ونساء لأنه من قبيل التوسم في أحوال الناس والأخذ مما يسألونهم عنه ، ومن هذا القبيل تعبير الرؤيا ، فإنها تحتاج للفطنة والحذق ومعرفة القياس ، راجع ما بيناه في الآية 5 من يوسف المارة ، ومن هذا السحر الذي ألمعنا إليه في الآية 52 من الشعراء المارة في ج 1 ، ومنه أيضا الإصابة بالعين التي ألمعنا إليها آخر سورة المزمل في ج 1 وفي الآية 66 من سورة يوسف المارة أيضا.
قال تعالى «وَإِنَّها» القرى المهلكة وهي سدوم وعاموراء ودومة وساعوراء وصفرة وهي التي رحل إليها ، لأن أهلها لا يعملون عمل القرى الأربع المذكورة التي وقع فيها الهلاك وتسمى في التوراة(3/310)
ج 3 ، ص : 311
(صوغره ، وبالع ، وعمودة ، وأدمة وجويم) كما هو في الاصحاح 14 من التكوين وجاء في الاصحاح 13 أنه ترك هذه المدينة خوفا من نزول العذاب فيها وصعد هو وبناته إلى الجبل وسكنوا في مغارة فيه ، وفيه أن هذه المدينة لم تقلب ، ويطلق على هذه القرى المؤتفكات أي المنقلبات «لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ 76» أي واقعة على طريق واضح لم يندرس بعد أثرها يراها الذاهب إلى الشام والآتي منها إلى الحجاز «إِنَّ فِي ذلِكَ» الأثر الباقي لهؤلاء الطغاة «لَآيَةً» عظيمة «لِلْمُؤْمِنِينَ 77» المصدقين بما ذكرنا لأنهم المنتفعون بالآيات المتعظون بالعبر «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» الغيضة وهي الأشجار الملتفة كالغابة وتسمى حرشا ، وفي لغة أهالي دير الزور (زور) ولهذا تسمى البلدة دير الزور لأنها كانت محاطة بالغابات ، وهؤلاء قوم شعيب عليه السلام «لَظالِمِينَ 78» جاحدين نعم اللّه لا يشكرونه على ما خصهم به من الأشجار المحيطة ببلدتهم فضلا عن النعم الأخرى من أموال وأولاد «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» لتكذيبهم إياه ، راجع قصتهم في الآية 84 من سورة هود المارة.
«وَإِنَّهُما» أي أهل الأيكة وأهل مدين لأنه عليه السلام أرسل إليها ولم يرسل نبي إلى قومين قبله مرة بعد أخرى ، وإن هاتين المدينتين باق أثرهما مثل قرى قوم لوط «لَبِإِمامٍ مُبِينٍ 79» ظاهر على طريق مستقيم ، وسمي الطريق إماما لأن المارة تسلكه فكأنها تتبعه كالإمام الذي يتبعه الناس «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ 80» صالحا فمن قبله لأن الحجر كانت تسكنه ثمود قوم صالح
«وَآتَيْناهُمْ آياتِنا» التي من جملتها الناقة «فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ 81 لا يلتفتون إليها «وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ 82» من خوف خرابها لقوتها ، فكذبوه أيضا وعقروا الناقة «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ 83» مع الصباح حال غفلتهم «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 84» من الأموال والأملاك من اللّه شيئا لإصرارهم على الكفر ، وإن قراهم موجودة الآن آثارها ظاهرة للعيان بين المدينة والشام.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال لما مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالحجر قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا(3/311)
ج 3 ، ص : 312
باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي.
وتقدمت القصة أيضا في الآية 62 فما بعدها من سورة هود المارة ، قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما» من المخلوقات الأخرى من نام وجامد «إِلَّا بِالْحَقِّ» لا عبثا ولا باطلا ولا لهوا بل للاعتبار والتفكر ليصدق المؤمن ويجحد الكافر ، فيثاب الأول ويعذب الثاني يوم الجزاء المعين لإبادتها «وَإِنَّ السَّاعَةَ» التي يكون فيها خرابها «لَآتِيَةٌ» حقا لا محالة ، فيا أكرم الرسل تحمل أذى قومك في هذه الدنيا الفانية ، ولا تستعجل عذابهم فهو آتيهم حتما ، وإن كل ما يلبثون فيها فهو قليل «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ 85» أي أعرض عنهم مع الحلم عليهم والصبر على أذاهم والإغضاء مع العفو عن مساوئهم معك ، وما ذكره بعض المفسرين بأن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له ، لأنها عبارة عن أن اللّه تعالى أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلم بأن يعامل قومه بالعفو والصفح الخاليين من الجزع والخوف وأن يظهر لهم مكارم أخلاقه الحسنة ، وهذه المعاملات اللينة تكون مقدمة للمعاملات القسرية عادة عند اصرار المفترح لهم على كفرهم فأي نسخ فيها رعاك اللّه ، راجع معنى الجميل في في الآية 85 من سورة يوسف المارة «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ 86» بك وبهم فلا يخفى عليه ما يجري بينك وبينهم ، لأنه خلق الخلق وعلم ما هم عليه وما هم فاعلون إلى يوم القيامة ، قال تعالى (أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) الآية 14 من سورة الملك الآتية ، وهذه الآية المدنية من هذه السورة ، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْناكَ» يا سيد الرسل «سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي» قبل هي الحواميم السبع ، وقيل الصحف السبعة التي أنزلت على الأنبياء قبله ، وقيل الأمر والنهي والبشارة والنذارة والأمثال والأخبار وتعداد النعم ، والذي عليه أكثر المفسرين هو آيات سورة الفاتحة السبع كما أشرنا
إليه في تفسيرها في ج 1 «وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ 87» المشتمل عليها بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد بن المعلى قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الحمد للّه رب العالمين هي السبع الثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيه ، وبه قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعطاء ، وناهيك بهم قدوة.
هذا وإن السبب في تسميتها سبعا لأنها سبع(3/312)
ج 3 ، ص : 313
آيات ، وتسميتها بالمثاني لأنها تثنى أي تكرر في كل ركعة من الصلاة ، وسميت قرآنا لإطلاق القرآن على بعض السورة فضلا عن السورة الكاملة ، قال تعالى (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) الآية من أول سورة يوسف المارة أي هذه السورة ، وقال تعالى أول هذه السورة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) ولم ينزل القرآن كلّه فقد عبّر بالآية الأولى بالسورة عن القرآن ، وفي الثانية بالآيات عنه بما يدل على جواز تسمية السورة والآية قرآنا ، وما قاله البعض بأن المراد من السبع الفاتحة ومن المثاني القرآن أو أن المراد بالسبع السور السبع الطوال البقرة فما بعدها حتى براءة باعتبارها مع الأنفال سورة واحدة لعدم ذكر التسمية بينهما ، أو أن المراد بها القرآن كله أقوال ضعيفة لا يعتمد عليها ، والسبب في تسميتها بالمثاني لما ذكرنا ولأنها تكرر في الأدعية أيضا ، وما قيل لأنها نزلت مرتين قيل لا قيمة له ، وقد مرّ تنيده في تفسيرها في ج 1 ، والعطف من عطف الكل على الجزء إذا أريد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين ، وأريد بالسبع المثاني الفاتحة فقط أو من عطف العام على الخاص إذا أريد به المعنى المشترك بين الكل والبعض ، وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه ، وإن أريد بها الإشباع فهو من عطف أحد الموضعين على الآخر ، قال ابن الجوزي : وسبب نزول هذه الآية أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع البرّ والطيب والجواهر ، فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل اللّه ، فنزلت.
أي اللّه أعطاكم سبع آيات خير من هذه القوافل السبع.
ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» ولا تطمح بصرك أيها الإنسان الكامل «إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ» أي هذا الذي هو من حطام الدنيا الزائل أصنافا «أَزْواجاً مِنْهُمْ» من أولئك الذين جاء منهم تلك القوافل ، وقد فرحوا بها حتى تماها بعض قومك فتتمنى شيئا منه أو مما أوتوا من غيرها من الأموال والأولاد والأملاك لأنك أوتيت النعمة الكبرى التي هي فوق كل نعمة ، فاستغن بما أوتيت عما أوتوه فكل شيء دونه ، وهذا وإن كان خطابا لحضرة الرسول فإن المراد به قومه الذين تمنوا ذلك ، لأنه عليه السلام أبعد عن أن يمد بصره إلى الدنيا(3/313)
ج 3 ، ص : 314
وما فيها لذاتها استحسانا لها وقد يلتفت إليها بالنسبة لكفرهم باللّه مع كثرة انعامه عليهم ، وقد تأول سفيان بن عيينة قوله صلّى اللّه عليه وسلم من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا ، أو ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن ، فقال أي لم يستغن به عن غيره من كل ما في الدنيا ، هذا من ضعف سبب النزول المذكور أعلا واحتج بأن السورة كلها مكية ، وهذه الحادثة وقعت بالمدينة والحال أن هذه الآية مستثناة منها ، وقد نزلت بالمدينة كما أشرنا إليه أول السورة ، ويضاهي أول هذه الآية الآية 132 من سورة طه المارة في ج 1 «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» على كفار قومك لتأخرهم عن قبول هداك أو لعدم شكرهم نعم اللّه ، فقد وقع من اتباع الرسل قبلك ما هو مثله وأكثر.
روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تغبطنّ فاجرا نعمته فإنك لا تدري ما هو لاقيه بعد موته إن له قاتلا لا يموت ، قيل عند اللّه وما هو قال النار.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه.
ولمسلم أنظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزوروا نعمة اللّه عليكم ، وجل هذا في المال الذي لا يجمع إلا بخمس خصال :
التعب في كسبه ، والشغل عن الآخرة في إصلاحه ، والخوف من سلبه ، واحتمال اسم البخل دون مفارقته ، ومقاطعة الإخوان بسببه وهو مفارقه لا محالة ، قال تعالى «وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ 88» ألن جانبك لهم وأرفق بهم ، ولا تعنّفهم على كل شيء ، ومن جملته تمنّيهم ذلك وإطماح بصرهم إليه ، لأنه من طبع محبي الدنيا «وَقُلْ» لهم يا رسولي «إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ» لكم من عذاب اللّه «الْمُبِينُ 89» لكم وقوعه إذا لم تؤمنوا باللّه إيمانا خالصا ، والموضح لكم كل ما تحتاجونه من أمر دينكم ودنياكم «كَما أَنْزَلْنا» أي أنذركم من نزول عذاب عظيم كالعذاب الذي أنزلناه «عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ 90» الذين آمنوا ببعض ما أنزل عليهم وكفروا ببعضه ، قال تعالى (فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الآية 85 من البقرة ومثلها الآية 149 من النساء في ج 3 ، أي أنهم يؤمنون بقسم من القرآن مما يوافق ما عندهم ويكفرون بما يخالفه.(3/314)
ج 3 ، ص : 315
مطلب معنى المقتسمين ومواقف القيامة وأعلال العبارة :
وهذا القول أولى من القول إن هذه نزلت بحق الذين اقتسموا القرآن من الكفرة بقولهم سورة كذا لك وسورة كذا لي وهلم جرا على طريق الاستهزاء والسخرية ، وأوفق من القول بأن هذا الاقتسام عبارة عن قول الكفرة سحر وكهانة وشعر وأساطير الأولين ، وأنسب من القول بأنها في حق الكفار الذين اقتسموا عقاب مكة أي طرقها ووقفوا عليها ليخبروا المارة بأن محمدا كاهن ساحر أو شاعر متعلم وغير ذلك ، ومما يؤيد الاول
قوله تعالى «الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ 91» جمع عضضة تقول عضت الشيء إذا فرقته ، وقيل جمع عضة وهي الكذب والبهتان والسحر أي جعلوه فرقا واجزاء ، روى البخاري عن ابن عباس في هذه الآية قال هم اليهود والنصارى جزّءوه أجزاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، قال تعالى «فَوَ رَبِّكَ» يا حبيبي «لَنَسْئَلَنَّهُمْ» أي هؤلاء المتجاسرين على الكفر بالقرآن الذين يصدقون ببعضه ويكفرون ببعضه «أَجْمَعِينَ 92 عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 93» في هذه الدنيا من هذا وغيره من جميع ما يقولونه فيك وفيّ وفي القرآن ، كما أنا نسألهم عما كانوا يقولون في الكتب الأخرى ، قال ابن عباس لا يقول اللّه لهم هل عملتم هذا لانه أعلم به منهم بل يقول لهم لم عملتم ، وقد قدمنا أن القيامة أحوالا ومواقف مختلفة متباينة منها ما يسأل فيها ويجاوب ، ومنها ما يحاجج ، ومنها ما لا سؤال ولا جواب ، ومنها سؤال بلا جواب ، ومنها سكوت مطلق ، ومنها ما يصار فيها إلى الاستنطاق من اللسان ، ومنها من الأعضاء ، ومنها ومنها ، أجارنا اللّه منها ، راجع الآية 54 من سورة يونس المارة والآية 82 من سورة النحل في ج 1 ، قال تعالى «فَاصْدَعْ» الصدع الشق والفصل قال ابن السكّيت لجرير :
هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم بالحق يصدع ما في قوله حيف
وعليه يكون المعنى فرق يا أكرم الرسل بين الحق والباطل ويأتي بمعنى انفطر وانفلق وظهر أي اجهر واظهر وامض «بِما تُؤْمَرُ» به من تبليغ دعوة ربك إلى خلقه وأعلن رسالتك إليهم «وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 94» لا تلتفت إليهم ولا تبال بلومهم ، يحكى أن بعض العرب سمع قارئا يقرأ هذه الآية فسجد ، (3/315)
ج 3 ، ص : 316
فقيل له في ذلك فقال سجدت لبلاغتها.
وكان صلّى اللّه عليه وسلم يعبد ربه وأصحابه المؤمنين خفية تحاشيا من أذى المشركين ، فلما نزلت هذه الآية خرج هو وأصحابه وأعلنوا عبادة اللّه ، ذكره عبد اللّه بن عبيدة وعبد اللّه بن مسعود ، وكان هذا بعد إسلام عمر رضي اللّه عنه الكائن في السنة السادسة من البعثة بأربع سنين تقريبا ، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف فليس بشيء ، والمعول عليه أنها محكمة لأنها لا تتضمن الإقرار على ما هم عليه أو السكوت بل طلب الإعراض فقط إلى أن يأتي اليوم الذي قدر في أزل اللّه لقتالهم ، وإذا تتبعنا أقوال هكذا بالنسخ نجد أن آية السيف وغيرها نسخت مائتي آية من القرآن العظيم ، كما ذكره السيد محمد بن أحمد الجزّي بمقدمة تفسيره ، ولكنها أقوال مجرّدة لا يعبأ بها تناقلها أناس عن آخرين دون مستند يطمئن إليه الضمير إذ لم يتكلم أحد في بحث النسخ زمن الرسول ولم يتطرق أحد لتفسير القرآن زمن الخلفاء الأربعة ولذلك وقع ما وقع من مثل هذه الأقوال التي مصدرها قبل وقال ، قال تعالى «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ 95» فلا تخف أحدا منهم ، ومن كان اللّه كافيه لا يخشى أحدا ، نزلت هذه الآية في خمسة من كفار قريش ، وهم المبالغون في إيذاء حضرة الرسول فأهلكهم اللّه جميعا وكفاه شرهم ، وهم الوليد بن المغيرة المخزومي مرّ بنبال فعلقت شظية من النبل بإزاره فمنعه الكبرياء أن يطأطئ رأسه فينزعها ، فصارت تضرب ساقه فخدسته فمرض فمات ، والعاص بن وائل دخلت في أخمصه شوكة فقال لدغت وانفخت رجله فمات ، والأسود ابن عبد المطلب عمي بدعوة الرسول عليه ، والأسود بن عبد يغوث أصابه خبال فصار يضرب رأسه بالشجر ووجهه بالشّوك حتى مات ، والحارث بن قيس صار يتمخط قيحا ولم يزل حتى مات ، وهؤلاء الخمسة الذين تفانوا في الاستهزاء والسخرية ، وقد أهلكهم اللّه في الدنيا هم «الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً
آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 96» عاقبة أمرهم الوخيمة ، وفيها تهديد عظيم لشؤم حالهم في الآخرة على كفرهم واستهزائهم بأفظع ممّا جوزوا عليه في الدنيا.
قال تعالى «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ 97» من الفحش فيك وفي ربك(3/316)
ج 3 ، ص : 317
وكتابك مما تأباه الجبلة البشرية ، فلا تلق لهم بالا وأعرض عنهم واشتغل بما يفرج انقباضك ويشرح صدرك من عبادة ربك المطلوب فعلها دائما من عباده ، قال تعالى (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) آخر سورة الإنشراح في ج 1 ، «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ» أيها الرسول واستمر على تمجيده وذكره وتنزيهه وأفزع إليه فيما ينوبك بأسباب التقرب إليه «وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ 98» المتواضعين المخبتين له أي كن من المصلين المداومين على الصلاة وعبر بالجزء الذي هو السجود عن الكل الذي هو الصلاة وهو من محسنات البديع ، كما عبر بالكل عن الجزء في قوله تعالى (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي رءوسها كما سيأتي في الآية 18 من سورة البقرة في ج 3 ، وذلك لأن الصلاة تنور الباطن فيشرق القلب وينكشف له المغيبات وينفسح الصدر فيزول ما فيه من هم وغم وكدر ، وهذا تعليم من اللّه تعالى لعباده بأن كل من أصابه حزن أو جزع من أمر ما أن يسرع للتسبيح والصلاة ، وهكذا كانت عادته صلّى اللّه عليه وسلم وهذا الأمر بهما من اللّه له مع أنه لا يفتر عنهما لاستدامة استمراره عليهما وليعلم بهما أمته.
هذا وقد صح عنه صلّى اللّه عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة «وَاعْبُدْ رَبَّكَ» وأدم عبادته لا تتركها بحال من الأحوال «حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99» الذي لا شك فيه وهو الموت ، وهذه على حدّ قوله تعالى (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) الآية 32 من سورة مريم المارة في ج 1 ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة ولا مثلها في
عدد الآي وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى اللّه عليه وسلم ما لا يخفى من اللطف به عليه السلام والإشعار بعلة الحكم أي وهي الأمور المذكورة ضيق الصدر والتسبيح والتحميد والسجود والعبادة والموت.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيرا ، والحمد للّه رب العالمين.(3/317)
ج 3 ، ص : 318
تفسير سورة الأنعام
عدد 5 - 55 - 6
نزلت بمكة بعد الحجر عدا الآيات 2/ 32 و92/ 93 و114/ 141 و151/ 152 و153 فإنها نزلت بالمدينة وهي مئة وخمس وستون آية ، وثلاثة آلاف وخمسون كلمة ، واثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا ، وتقدمت السور المبدوءة بما بدئت فيه في سورة الفاتحة في ج 1 ، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ابتدأ جل شأنه الخلق بالحمد في هذه الآية ، وختمه بالحمد ، في قوله جل قوله (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آخر سورة الزمر الآتية ، وبدأ الربع الأول بحسب ترتيب القرآن الموافق لما هو في علم اللّه بالحمد في سورة الفاتحة ، التي ذكرنا فيها معاني الحمد وما يتعلق فيه في ج 1 ، وفي المقدمة في بحث الحمد أيضا ما به كفاية عن الإعادة في موضع آخر ، وبدأ ربعه الثاني في هذه السورة ، وربعه الثالث بالحمد في سورة الكهف ، وربعه الرابع بالحمد في سورة فاطر ، كل ذلك لتعظيم الحمد لديه تعالى ولحث عباده على المداومة عليه لما فيه من الفضل الجزيل والثواب الكثير وحق التأدية لنعم اللّه تعالى ، وبين لهم كيفيته ليحمدوه بها ، وجملة الحمد هنا وفي كل موضع خبرية لفظا إنشائية معنى ، إلى أن من يقول الحمد للّه كأنما قال أحمده على الدوام والاستمرار ، وخص السموات والأرض لأنهما من أعظم مخلوقاته فيما يراه الناس ، وإلا فالعرش والكرسي أعظم بكثير ، وقد جاء في الخبر أن أرضكم هذه بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة ملقاة بفلاة ، وال فيها للجنس فتشمل جميع أفرادها ، وإذا كانت للعهد فالمعهود كلاهما أيضا ، وإذا أريد الاستغراق فكذلك فهي صالحة للجميع.
قال تعالى «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» فيها إذ خلقها بعد خلقها ، وجعل فيهما منافع جمة للعباد والحيوان والجماد ، ومنهما جعل الليل والنهار ، وفي هذه الآية رد على الثنوية القائلين بقدم النور والظلمة ، وقد أفرد النور لإرادة الجنس فيصدق على الواحد والمتعدد ، وجميع الظلمات باعتبار الإفراد يشمل ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموقع وظلمة البطن لمخالفة كل منها الأخرى ، والنور لا يختلف.(3/318)
ج 3 ، ص : 319
مطلب نشأة الكون ومبدأ الخلق وأن لكل إنسان أجلين وما يتعلق بذلك :
ومن هذا الترتيب يفهم أن خلق السموات قبل الأرض والظلمة قبل النور ، إلا أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب كما هو ظاهر.
قال تعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) وقال تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) الآية الأولى من سورة تبارك الملك الآتية ، والثانية الآية 55 من المائدة في ج 3 ، وقدمنا ما يتعلق بنشأة الكون في الآية 27 من سورة الحجر المارة وما يتعلق بمبدأه ولبحثها صلة في الآية 30 من سورة الأنبياء الآتية «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 1» يساوون به غيره من الأوثان بعد أن علموا أنه الخالق ، لذلك كله تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، وبعد أن جعل هذه المخلوقات لمنافعهم ذكرهم بأصول خلقهم علهم ينتهون فقال «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» ابتدأ خلق أبيكم آدم منه ، أخرج أبو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض (أي ألوانها) منهم الأحمر ومنهم الأبيض والأسود وبين ذلك ، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك.
وقد نزلت هذه الآية ردا على المشركين الذين ينكرون البعث بعد الموت يفهمهم فيها أن الذي يخلق من الطين بشرا ألا يقدر على إعادته بعد فنائه وإحيائه بعد إماتته ، بلى ، وهو أهون عليه ، لأن الخلق الأول على غير مثال سابق والإعادة عبارة عن خلقه على حالته الأولى ، فالذين يعملون الآن السيارات والطيارات والدبابات والقذائف والألغام وغيرها لا فضل لهم بها لأن الفضل كله إلى الذي ابتكر صنعها إبداعا بتعليم اللّه إياه ، ولهذا يقول اللّه تعالى (أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) الآية 15 من سورة ق في ج 1 ، وإنما قال ذلك لأن الخلق الثاني عبارة عن إعادة ما خلقه أولا وليس بشيء عنده ، واعلم أن ما يخلقه الإنسان هو من خلق اللّه ، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 97 من الصافات الآتية ، وإن عملهم هذا تقليد للمخترع الأول الذي ابتكر صنعها ليس إلا ، لأن الشيء بعد إيجاده يسهل تقليده والعسر كل العسر في إبداعه وتصويره وإنشائه ، ولا سواء بين الخالق والمخلوق ، لأن المخلوق يحتاج للتعب والتفكر والتدبر وما يعتمد(3/319)
ج 3 ، ص : 320
عليه من آلات ومعادن واحتياجه إلى المعونة ، واللّه تعالى يقول للشيء كن فيكون حالا إذا أراده بين الكاف والنون ، أنظر بساط سليمان عليه السلام المشار إليه في الآية 12 من سورة سبأ الآتية ، وسفينة نوح عليه السلام الملمع إليها في الآية 41 من سورة هود المارة وقس بينهما وبين طائراتنا ومراكبنا وخذ العبرة ، فإن البساط يطير والسفينة تجري بمجرد قولهما بسم اللّه وينزل البساط وترسو السفينة بمجرد قولهما باسم اللّه أيضا دون حاجة إلى رجال وآلات وزيت وكاز وغيرها ، ومصنوعات البشر تحتاج لذلك كله فضلا عن أنها معرضة للخراب وهلاك ركابها ، وصنع اللّه لا يخرب وأهلها في مأمن من ذلك «ثُمَّ قَضى أَجَلًا» لكل شيء خلقه من وقت بروزه وتكوينه ، أي وقت ولادته ووجوده ومن الولادة والوجود إلى وقت الموت والفناء «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» قضاء أيضا لهذه المخلوقات غير الأجلين المذكورين وهو من الموت والفناء إلى البعث والنشور ، ومنهما إلى دخول الجنة والنار ، فيكون لكل أجلان في الدنيا والآخرة لا يعلم مقدارهما ووقتهما إلا هو ، لأنه من جملة الخمسة التي اختص بها نفسه المقدسة المذكورة آخر سورة لقمان الآتية ، قال ابن عباس رضي عنهما في تفسير هذه الآية : لكل أحد أجلان (يريد في الدنيا والآخرة كما جرينا عليه) فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث إلى أجل العمر أي في الدنيا ، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص له من أجل العمر وزيد في أجل البعث ، مستدلا بقوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) الآية 7 من سورة فاطر المارة في ج 1 ، ولهذا البحث صلة في الآية 39 من سورة الرعد في ج 3 ، وفي الآية 4 من سورة نوح ، والآية 9 من سورة إبراهيم الآتيتين ، وبهذا قال قتادة والحسن والضحاك ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأول أجل الدنيا والثاني أجل الآخرة ، أي
بقطع النظر عن أجل البرزخ لدخوله في أجل الآخرة ، والظاهر هو ما جرينا
عليه في تفسير الآية ، ومعنى قضى قدر وحكم وكتب في الأزل ، ويراد بالكتابة ما تعلمه الملائكة ، كما جاء في حديث الصحيحين : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح(3/320)
ج 3 ، ص : 321
ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ 2» في آلهتنا وتشكون في وحدانيتنا ، مأخوذ من المرية أو تجادلون إذا كان المراء ، وقد أتى بحرف التراخي في الآيتين للاستبعاد في هذا الشك بعد أن ثبت أن الفاعل لخلق السموات وما بعدها الوارد ذكره في الآية والقادر على الإحياء والإماتة والبعث هو اللّه وحده ، ومع هذا يشكون ويجادلون «وَهُوَ اللَّهُ» الإله الواحد المعبود بحق «فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ» وهذه على حد قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) الآية 48 من سورة الزخرف الآتية «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ» في أعمالكم وأقوالكم «وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ 3» من خير أو شر في الخفاء والجهر ، وما يستحقه كل منكم من ثواب وعقاب «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم ومربيهم على يد رسولهم «إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ 4» لا يلتفتون إليها ولا يحترمونها ولا ينظرون إلى من أنزلت عليه ولا لمن أنزلها لهم ، ووصف اللّه تعالى كفار مكة بكثرة التهاون في ذلك حتى كأنهم لم يرسل إليهم رسولا ولم يظهر لهم آية «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ» المنزل إليهم وهو القرآن الذي شرفنا به نبيهم آية عظيمة على صدقه «لَمَّا جاءَهُمْ» به وتلاه عليهم «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 5» عند نزول العذاب عليهم في الدنيا بالقتل والأسر والجلاء ، ويوم القيامة بالإحراق بالنار ، وحينذاك يعرفون عاقبة استهزائهم وأخبار سخريتهم وإعلام تكذيبهم ، وفيها من الوعيد ما لا يخفى.
قال تعالى «أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» من زمن نوح إلى زمنهم ، لأن القرن هنا عبارة عن كل أمة هلكت ولم يبق منها أحد وهو المراد واللّه أعلم ، وإن كان القرن يطلق على مطلق الوقت ، والزمن ما بين عشر سنين ومئة سنة على أقوال فيه ، راجع الآية 38 من سورة الفرقان في ج 1 وهؤلاء المهلكون قد «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» جعلناها قرارا لهم ومكنّا لهم فيها وملكناهم وزودناهم بالأموال والأولاد «وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً» لتكثير خيراتهم ودوامها بتتابع الغيث على أراضيهم «وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ» زيادة في التنعيم وسقي جناتهم ولابتهاج النظر إليها ، (3/321)
ج 3 ، ص : 322
ولما أرسلنا الرسل ودعوهم للإيمان بنا وبرسلنا والوفاء بالعهد الذي أخذ عليهم في عالم الذر وترك الأوثان والتمسك بطرق الخير وترك سبل الشر والإيمان بالبعث بعد الموت (راجع الآية 172 من سورة الأعراف في ج 1) لم يلتفتوا إليهم وأنكروا عليهم دعوتهم وكذبوهم «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» لأنهم لم يراعوا حقّ نعمتنا المتوالية عليهم ولم يصدقوا رسلهم «وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ 6» بمقتضى سنتنا المطردة وهي أنا كلما أنشأنا قرنا ودعوناه للإيمان بنا فلم يؤمن أهلكناه وأنشأنا غيره ، وأنتم يا أهل مكة سيكون مصيركم الهلاك إن لم تؤمنوا بنبيكم لأنا لا نخرم سنتنا ، قال النضر بن الحارث وعبد اللّه بن أمية ونوفل بن خويلد :
لا نؤمن بك يا محمد حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه مع أربعة من الملائكة يشهدون على أنه من عند اللّه وأنك رسول اللّه ، فأنزل اللّه «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ» وظهر لهم كما أرادوا ، لأن اللمس أبلغ من المشاهدة «لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» والمقترحون خاصة «إِنْ هذا» ما هو بقرآن ولا هو مكتوب على ورق وليس بشيء وإن كنا نراه ما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 7» تخيّل علينا به ووقّه كما قالو في انشقاق القمر تعنتا وعنادا لأنهم لا ينتفعون بالآيات بسبب إصرارهم على الكفر «وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» يشهد له بأنه مرسل من اللّه لآمنا به وصدقناه.
قال تعالى «وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً» على رسولهم محمد كما طلبوا «لَقُضِيَ الْأَمْرُ» بإهلاكم لأنا لا نرسل الملائكة إلا لتنفيذ أوامرنا وإنجاز وعيدنا وقد جرت عادتنا أن كل أمة اقترحت على نبيها شيئا وآتاهم ما اقترحوه ولم يؤمنوا استأصلناهم بالعذاب ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ 8» إذ لا تقبل التوبة عند نزوله ، وإنما لم نفعل ذلك لما هو ثابت في علمنا أزلا أن منهم من يؤمن «وَلَوْ جَعَلْناهُ» ذلك الرسول «مَلَكاً» وهذا رد لقولهم لو شاء ربك لأنزل ملائكة لهداية البشر ، لأن البشر لا يهدي مثله بزعمهم الباطل «لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» على صفة المرسل إليهم ، لأن البشر لا يستطيع النظر إلى صورة الملك الحقيقية ، ولذلك حينما نرسل الملائكة إلى البشر نرسلهم بصورة البشر كما فعلنا ذلك مع داود ولوط وابراهيم وكما جاء جبريل إلى محمد بصورة(3/322)
ج 3 ، ص : 323
دحية الكلبي مرارا وبصورة اعرابي غير معروف وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة في الحديث المشهور «وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ 9» بأن نجعل الملك بصورة البشر فنوهم عليهم ونشبّه لهم فنشكل الملك بالبشر حتى يختلط عليهم الأمر فلا يعرفوه أبشر هو أم ملك ، فيظنونه بشرا ويقولوا مقالتهم هذه بأنهم لا يرضون برسالة البشر ، وتعود المسألة بحالها دورا وتسلسلا ، وإذ ذاك أيضا يقولون ما هو إلا بشر مثلكم فكيف تطيعونه ، هذا وإن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم في الحقيقة بشر ولكنه ليس مثلهم ، لأن اللّه تعالى فضله بوحيه وشرفه برسالته ، وأعطاه ميزة على جميع خلقه وخصّه بأشياء لم يطلع عليها غيره ، لهذا فإنه صار بحقيقة سامية وصفة كريمة لا يقدره إلا الذي أرسله ، وللّه در القائل :
محمد بشر وليس كالبشر محمد جوهر والناس كالحجر
وقال الأبو صيري :
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق اللّه كلهم
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
ثم شرع يسليه ربه بذكر ما وقع لإخوانه الرسل قبله مع أممهم فقال جل قوله «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» كما استهزأ بك قومك «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ» العذاب الذي لا مرد له ، وحاق بمعنى حل ونزل وتفيد معنى الإحاطة ولا تكاد تستعمل إلا بالبشر وقيل في المعنى :
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من بأس ضربة حائق
وهذه الإحاقة جزاء «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 10» فاهلكوا جميعا بسبب إيذائهم أنبيتهم ، وفيه تحذير لكفار مكة بأنهم إذا لم يقلعوا عما هم عليه من الإيذاء لحضرة الرسول فإن اللّه يسلط عليهم عذابا يهلكهم به كما فعل بغيرهم
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا» ببصركم وتأملوا ببصيرتكم على تأويل النظر بالاعتبار ، وقد يؤول السير أيضا بالاعتبار وبالشيء على الأقدام ، أي اعتبروا وانظروا «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 11» أمثالكم إذ أورثهم كفرهم(3/323)
ج 3 ، ص : 324
وتكذيبهم الدمار حتى صارت أطلال بلادهم عظة لمن يمر بها وقصتهم عبرة لمن يتفكر بها ، فيا أكرم الرسل سل كفرة قومك و«قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فإن أجابوك بأنها وما فيها ملك للّه فعليهم أن يؤمنوا به لأن المملوك تابع لسيده ، وإن لم يجيبوك فأخبرهم أنت و«قُلْ لِلَّهِ» وحده فإنهم لا يستطيعون أن يجادلوك في ذلك ، لأنهم يعرفون أن أصنامهم مملوكة لا مالكة ويعلمون أنهم وأصنامهم وما تملكه أيديهم للّه يتصرف فيه حسبما يشاء ولا يقدرون أن يقولوا خلاف هذا ، لأنهم يتحاشون عن الكذب وينتقد بعضهم بعضا به ، ومنهم من يقتلون الكاذب كقوم يونس قبل إيمانهم ، قاتلهم اللّه ولا يتحاشون عن الكفر.
ولما بين تعالى كمال قدرته بمخلوقاته أردفه بكمال إحسانه إليهم فقال «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» لعباده وهو منجز وعده بها لهم لا محالة وعليهم أن يكونوا أهلا لها ليحلّها عليهم.
مطلب في الرحمة ومعنى كتبها على نفسه المقدسة وأن الضار والنافع هو اللّه تعالى :
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما خلق اللّه الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي.
وفي البخاري :
إن اللّه كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش.
وروى مسلم عن سلمان الفارسي قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه خلق يوم خلق السموات والأرض مئة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها فى الأرض رحمة واحدة (أي وأخر التسعة والتسعين كما مر في الآية 50 من سورة الحجر المارة) فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة.
وروى البخاري ومسلم عن عمر قال : قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تبتغي (تطلب وتتحرى) إذ وجدت صببا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ قلنا لا واللّه وهي تقدر أن لا تطرحه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم للّه أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها.
راجع الآية 50 المذكورة آنفا تجد ما يتعلق بهذا البحث «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» بأنه آت بلا شك «الَّذِينَ» نصب بفعل الذم المقدر(3/324)
ج 3 ، ص : 325
ينبىء عنه «خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» باختيارهم ورضى منهم «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ 12» لشقائهم الأزلي بسوء نياتهم وخبث صنايعهم «وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» وما تحرك فيهما من إنسان وحيوان من كل نام وجامد في البر والبحر والهواء ملك للّه وحده.
وقد اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر على حد قوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) الآية 82 من سورة النحل الآتية للعلم به «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوال وأفعال وإحساس كل متحرك وجامد ونام قالا أو حالا على اختلاف لغاتهم وأصواتهم «الْعَلِيمُ 13» بما يحتاجه كل منهم وما يفعله سرا وعلانية وما يفعل به من خير أو شر والفاعل أيضا ، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة الذين يعبدون الأوثان ويدعونك لعبادتها «أَ غَيْرَ اللَّهِ» أيها الجهلة يسوغ لي «أَتَّخِذُ وَلِيًّا» وهو ولي كل شيء القادر على كل شيء كلا لا يصح ولا يستقيم لي أن أتخذ غيره أبدا ، وكيف يسوغ لي التصدي لذلك مع الإله العظيم «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» قرىء بالجر صفة للفظ الجليل ، وبالنصب على المدح أو الاختصاص ، وبالرفع على الابتداء وهو أولى بالنسبة لقوله تعالى «وَهُوَ يُطْعِمُ» جميع خلقه بما يدرّه عليهم من الرزق لكل بما يناسبه وبقدر حاجته «وَلا يُطْعَمُ» من قبل أحد لاستغنائه عن مخلوقاته واحتياج الكل إليه فهو الغني وهم الفقراء ومن هذه صفته وجب أن يتخذ إلها ووليا لا غير «قُلْ» هذا لهم يا حبيبي وقل لهم أيضا «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ» من هذه الأمة الموجودة على البسيطة وأنقاد لطاعة ربي الذي قال لي أسلم «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 14» بي أحدا غيري ولا شيئا من خلقي ، هذا ومن عطف هذه الجملة على الأمر تكلف بتحوير لفظ الفعل إذ يكون المعنى وأمرت أن لا أكون من المشركين ، لهذا فإن انقطاعها على الاستئناف وحملها على غيره صلّى
اللّه عليه وسلم من أمته كما هو الشأن في الآيات الممائلة المارة آخر سورة القصص والآية أواخر سورة الزمر أولى كما جرينا عليه أي أمرت بالإسلام وقد نهيت ونهيتم أيها الناس عن الشرك وهي رد على غواة قومه الذين كلفوه أن يكون على دينهم «قُلْ» لهم أيضا «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» بعبادة غيره خلافا لما أمرني به وكلفني بتبليغه إليكم «عَذابَ(3/325)
ج 3 ، ص : 326
يَوْمٍ عَظِيمٍ
15» لا مخلص منه لأحد «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ» أي ذلك العذاب ويتخلص من وباله «يَوْمَئِذٍ» عند حلوله في موقف القيامة المهيب «فَقَدْ رَحِمَهُ» اللّه بالنجاة منه وفاز بخير الدنيا والآخرة لأنهما حالتان واقعتان لا ثالث لهما ، إما الرحمة والجنة أو العذاب والنار «وَذلِكَ» صرف العذاب الناتج عنه دخول الجنة «الْفَوْزُ الْمُبِينُ 16» الذي لا غبار عليه «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ» أيها الإنسان «بِضُرٍّ» من كلّ ما تكرهه نفسك «فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ» وحده جل جلاله «وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ» من كل ما تحبه نفسك فكذلك لا راد له إلا هو «فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 17» ومن جملة الأشياء المقدورة دفع الضر وجلب الخير لمن يشاء ، وهذا الخطاب وإن كان خاصا بحضرة الرسول إلا أنه عام له ولأمته.
فيعلم من هذه الآية أن الضار
الحقيقي والنافع هو اللّه تعالى وحده لا دخل لأحد من خلقه به البتة ، وإن ما نراه من وجود النفع والضر بواسطة بعض خلقه هو بتقديره أيضا ، لأنه عبارة عن واسطة وأسباب ظاهرية اقتضت حكمته وجودها على أيديهم وفقا لسابق علمه الأزلي بحدوثها كذلك فسخرهم للقيام بها.
أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : كنت خلف النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ اللّه يحفظك ، احفظ اللّه تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل اللّه ، وإذا استعنت فاستعن باللّه ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه لك ، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللّه عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ، أي بما هو كائن بحيث لا يبدل ولا يغير ولو أطبقت عليه أهل السماء والأرض لأنه من كلام اللّه ، وقد قال جل شأنه (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 ، وقد زاد رزين بالحديث السابق.
(تعرّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة ، وفيه أيضا : إن استطعت أن تعمل للّه بالرضاء باليقين فافعل ، فإن لم تستطع فاصبر فإن الصبر على ما تكره خير كثير) واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب ، وإن مع العسر يسرا ، ولن(3/326)
ج 3 ، ص : 327
يغلب عسر يسرين.
ومثله في سند أحمد بن حنبل ، فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث الصحيح أمام عينيه ، ومرآة قلبه ، وشعار حديثه ، فيعمل به ويأمر به غيره ، ففيه العزّة باللّه والراحة لنفسه ، ورفع العتب عن الغير ، وفي هذه الآية الجليلة ردّ على من يرجو كشف الضر من غيره تعالى ، وعلى من يؤمل قضاء مصلحته من غيره ، وليس فيها ما يمنع الأسباب الظاهرة والتوسل بها ، بل ذلك مطلوب ، وإنما عليه بعد ذلك أن يجزم بأن ما يكون له هو المقدر عليه أو له لا غير ، وأن اللّه تعالى مجريه لا محالة سعى أو لم يسع.
قال تعالى «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» المتسلط عليهم فلا يقدر أحد أن يخرج من تحت قهره ، وهذا هو معنى القاهر لأنه عال على المقهور ، فهو جل شأنه يدبر أمر خلقه فيما يريده لا يحول دونه حائل ، ينعّم ويعذب ، ويفرح ويحزن ، ويغني ويفقر ، ويصح ويمرض ، ويعز ويذل ، ويحيى ويميت ، لا يستطيع أحد رد شيء مما قدره «وَهُوَ الْحَكِيمُ» بما يفعل بعباده «الْخَبِيرُ 18» بما يقع في ملكه ، وهذه الآية من آيات الصفات التي ألمعنا إليها في الآية 5 من سورة طه في ج 1 ، وبما في الآية 3 من سورة يونس المارة المحال التي تبحث عن آيات الصفات كهذه فراجعها ، وهي لا تقضي إثبات الفوقية بمعنى الجهة للّه ، تعالى اللّه عنها ، وإنما هي بمعنى العلو والغلبة كما ذكرنا ، على أن مذهب السلف الصالح جعلنا اللّه من أتباعهم إثبات الفوقية المطلقة للّه تعالى تحاشيا عن ضدّها لما فيها مما لا يليق بجانبه العالي كما أثبته الإمام الطحاوي وغيره بأدلة كثيرة ، روى الإمام وأحمد في حديث الأوعال عن العباس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : والعرش فوق ذلك ، واللّه فوق ذلك كله.
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن مطعم عن أبيه عن جده قوله صلّى اللّه عليه وسلم للرجل الذي استشفع باللّه تعالى : ويحك أتدري ما اللّه تعالى ؟ إن اللّه تعالى فوق عرشه ، وعرشه فوق سمائه ، وقال بأصابعه مثل (القبة) وانه ليئط أطيط الرحل الجديد بالراكب.
وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة : لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات.
وروى ابن ماجه يرفعه قال : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا(3/327)
ج 3 ، ص : 328
الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال يا أهل الجنة سلام عليكم ، ثم قرأ صلّى اللّه عليه وسلم قوله تعالى (سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) الآية 59 من سورة يس المارة في ج 1 ، فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه.
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه اللّه (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) الآية 17 من سورة الأعراف في ج 1 ، أنه قال لم يستطع أن يقول من فوقهم لأنه قد علم أن اللّه تعالى فوقهم.
وجاء فيما أخرجه مسلم من قوله صلّى اللّه عليه وسلم وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وقوله تعالى (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) الآية 43 من فصلت الآتية ولا يكون التنزيل إلا من الفوق ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ، كقوله تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الآية 10 من سورة فاطر المارة في ج 1 ، وقوله تعالى (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) الآية 158 من سورة النساء في ج 3 ، وقوله جل شأنه (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) الآية 5 من سورة المعارج الآتية والصعود والرفع والعروج لا تكون إلا لجهة الفوق ، وقد سأل أبو مطيع البلخي أبا حنيفة رضي اللّه عنهما عمن قال لا أعرف ربي سبحانه في السماء أو في الأرض ، فقال قد كفر لأن اللّه تعالى يقول (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) وعرشه فوق سمواته ، فقال قلت فإن قال إنه على العرش ، ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ، فقال هو كافر ، لأنه أنكر آية في السماء ، ومن أنكر آية في السماء فقد كفر ، فقد ثبت لك من أقوال اللّه ورسوله والأئمة من المسلمين بأنه لا مانع من إطلاق الفوقية على اللّه تعالى ، وأنه لا يجوز عليه سواها ، تدبر.
قال تعالى «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» نزلت هذه الآية في المشركين القائلين لحضرة الرسول أرنا من يشهد لك أنك رسول اللّه لأن أهل الكتاب يزعمون أن ليس لك ذكر في كتبهم ، أي عليك يا سيد الرسل أن تقول لهم اللّه يشهد بذلك ولا أعظم من شهادته فإن صدقوك فيها وإلا «قُلِ اللَّهُ» ربي وربكم ورب كل شيء هو «شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» على دعوى رسالته إليكم «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» من لدنه يا قوم «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» من سوء ما يحل بكم إذا لم تركنوا لأمره(3/328)
ج 3 ، ص : 329
ونهيه وأخوفكم عاقبة عدم إيمانكم به فهي عاقبة وخيمة «وَ» وأنذر أيضا «مَنْ بَلَغَ» أمره إليه ممن يأتي بعدكم إلى يوم القيامة.
روى البخاري عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : بلّغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.
أي مهما قلتم عن بني إسرائيل فقولوا فلا ضيق عليكم بالمنع ولا إثم في ذلك ، لأنهم كانوا في حال أكثر مما قلتم وأوسع.
وفي هذا الحديث رخصة عن جواز التحدث عنهم على معنى البلاغ ، وإذا لم يتحقق فقل لتعذر تحققه عنهم لطول المدة وعدم الضبط ، وليس في هذا الحديث ما يفهم منه إباحة الكذب في الإخبار عنهم وإنما جواز نقل الأخبار الواردة عنهم في كتبهم ، وفي بعض القصص التي لم ينص على كذبها ولم تخالف صراحة ما جاء في كتاب اللّه وحديث رسوله ، فقد أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول نضّر اللّه امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه ، فرب مبلغ أوعى له من سامع.
وعن زيد ابن ثابت قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول نضّر اللّه امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى بلّغه غيره ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه.
«أَ إِنَّكُمْ» أيها الناس الكافرون «لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى » وتقرّه عقولكم أيها الحمقاء فيا أكرم الرسل إذا أصر هؤلاء على مقالتهم هذه ولم يتعظوا بما تقدمت إليهم من النصح ولم يصغوا لكلام ربك «قُلْ لا أَشْهَدُ» أنا البتة بذلك وأكد لهم قولك هذا و«قُلْ إِنَّما هُوَ» الإله
المعبود في السموات والأرض «إِلهٌ واحِدٌ» لا إله غيره واقطع أطماعهم بقولك «وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» 19» به من الأوثان.
هذا وقد استنبط العلماء من هذه الآية استحباب قول الرجل أو المرأة أو غيرهما كل يوم : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه برئت من كل دين يخالف دين الإسلام.
وتدل هذه الآية على جواز اطلاق الشيء على اللّه لأنه اسم للموجود ، ولا يطلق على العدم ، قال في بدء الأمالي :
فسمّى اللّه شيا لا كالاشيا وذاتا عن جهات الست خالي
وما المعدوم مرثيا وشيئا لفقه لاج في ضوء الهلال(3/329)
ج 3 ، ص : 330
وقال المتكلمون (والشيء عندنا هو الموجود) وهذه الآية المدنية الأولى من هذه السورة ، قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» على يد رسلهم ولسانه من اليهود والنصارى الذين منهم من ينكر صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ورسالته في كتبهم هم أنفسهم «يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» وقد كذبوا بما قالوه من إنكارهم نعته فيها ، خصّ تعالى ذكر الأنبياء لأن الناس أشد معرفة بهم من غيرهم ومع هذا بأنهم يعرفون محمدا بما وضح من وصفه في كتبهم أكثر معرفة من أبنائهم الذين يشاهدونهم صباح مساء ، هذا قول اللّه ولا أصدق من اللّه قولا ، وقد حدث به رسول اللّه ولا أصدق منه حديثا ، قال عبد اللّه بن سلام إلى عمر بن الخطاب حين أسلم :
يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني ، فقال عمر وكيف ذلك ، قال أشهد أنه رسول اللّه حقّا بإخبار اللّه تعالى في كتابه وعلى لسان رسله ، ولا أصدق من هذا الإخبار ، أما ابني ففي مظاهر الحال ابني ولكن لا أدري ما تصنع النساء إن النساء المتزوجات قد يحملن من غير أزواجهن فلا يدري الرجل إلا ان المولود ولد من زوجته التي هي في حجره وفراشه ، فينسب إليه وقد يلحقه الشك في ذلك ، أما محمد صلّى اللّه عليه وسلم فلا مرية ولا شبهة أنه رسول اللّه حقا لما رأينا من أوصافه وعلاماته في التوراة ومعجزاته في القرآن.
ولهذا فإن الجاحدين نبوته هم «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» وباعوها بالكذب والإنكار «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ 20» به ولا يوفقون للإيمان باللّه الذي أرسله جزاء جحودهم له عتوا وعنادا.
انتهت الآية المدنية وهي كما ذكرنا في غيرها من كونها كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها ، قال تعالى منددا من نسب إليه ما لا يليق بذاته المقدسة وأنكر ما جاء به على لسان رسله
«وَمَنْ أَظْلَمُ» لا أحد أشد ظلما وأكثر بغيا وأعظم بهتا «مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» وزعم أن له شريكا أو أنه لم يرسل محمدا أو لم ينزل كتابا عليه «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة عليه ومعجزاته التي أظهرها اللّه على يديه وكذلك سائر الأنبياء ، فلا أقبح ولا أشنع ولا أفظع ممن هذه سجيته ، ولا أخسر منه صفقة ولا أشد عنادا ولا اخطأ فعلا ولا أكبر كفرا ولا أكثر بغيا ، لأنهم كذبوا على اللّه باتخاذ الشريك وكذبوه بإرسال الرسل ، وكذبوا الرسل بأنهم(3/330)
ج 3 ، ص : 331
رسل اللّه وأنه لم ينزل عليهم كتابا ، هؤلاء المشئومون أكثر الناس ظلما واللّه تعالى يقول «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 21» بالنجاة من العذاب ولا يفوزون بخير ولا ينجحون بأمل ، واذكر يا أكرم الرسل لقومك وغيرهم «يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» العابدون والمعبودون والمقترحون والمكذبون والجاحدون والمنكرون «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا» في الموقف يوم القيامة «أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 22» في الدنيا أنها تشفع لكم وعبدتموها من دون اللّه الملائكة وغيرهم من الإنسان والكواكب والحيوان والجماد فيسكتون بدليل حرف التراخي المبين بقوله «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ» معذرتهم التي يعتذرون بها لأن الفتنة هي التجربة ، ولما كان سؤالهم هذا تجربة لإظهار ما في قلوبهم من الكفر ، وسمى جوابهم فتنة لأنهم كانوا مفتونين في محبة أوثانهم التي يعبدونها من دون اللّه في الدنيا كما يفتتن العاشق بمعشوقته ، فإذا أصابته محنة من أجلها تبرأ منها بعد قضاء وطره ، ومثلهم في الدنيا كمثل بعض الأكراد والحوارنه الذين يغرون الفتيات والنساء ويخطفونهنّ ويفترسونهنّ حالا بسائق الشهوة الخبيثة ، حتى إذا أدركتهم الحكومة وحبسوا وعذّبوا أنكروا إغواءهنّ ليتخلصوا من الجزاء الشاق ، وما هو بنافعهم ، وهؤلاء الكفرة كذلك يوم القيامة حين يشاهدون العذاب والمحنة التي تحل بهم من أجل معبوديهم ، يتبرأون منهم ما يكون جوابهم بعد السكوت الطويل المستفاد من أداة التراخي «إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ 23» وحين يصرون على إنكارهم هذا ويجحدون إشراكهم تشهد عليهم جوارحهم ، ولا يقال هنا كيف يجوز تعذيب الشاهد لأن شهادة الأعضاء بمثابة الاعتراف عما اقترفت في الدنيا ، والاعتراف لا يكون مسقطا للعقوبة ، فإن القاتل إذا اعترف لا يعفى من القصاص ، وكذلك الشارب والزاني لا يعفوان من
الحد إذا اعترفا ، تدبر.
فيا أكرم الرسل «انْظُرْ» إلى هؤلاء «كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» بإنكارهم الشرك الذي كانوا يتفاخرون به في الدنيا ويحاربون الرسل بهم «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ 24» في الدنيا من وجود معبود غير اللّه إذ لم يروا شيئا أو أحدا يناصرهم أو يعترف لهم بالعبادة راجع الآية 29 من سورة يونس(3/331)
ج 3 ، ص : 332
فيما يتعلق في هذا البحث «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» حين تتلو القرآن كأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة وأمية ابن خلف والحارث بن عامر ، ويقولون لمن معهم النضر بن الحارث ما يقول محمد ؟ فيقول لهم ماأدري أراه يحرك لسانه بأساطير الأولين كما كنت أحدثكم عنه ، فقال أبو سفيان إني لأرى بعض ما يقوله حقّا ، فقال أبو جهل كلا لا تقرّ له بشيء الموت أهون علينا من إقرارك بشيء مما يقوله محمد ، فأنزل اللّه «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً» أغطية كثيفة «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يعوه ويفهموه فيعلموه «وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» ثقلا شديدا وذلك أن اللّه تعالى بشرح قلوب بعض عباده لتقبل الهدى والإيمان والرشد ويضيق بعضها حتى لا تعي شيئا من ذلك ولا تسمعه فيبقى على ضلاله «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها» لذلك السبب «حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ» فيما أنزل عليك من لدنا يا سيد الرسل «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا» الذي تتلوه علينا ليس بقرآن وليس من عند اللّه وما هو «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 25» أكاذيبهم وخرافاتهم جمع أسطورة أي أكذوبة وخرافة وَهُمْ يَنْهَوْنَ» يمنعون الناس «عَنْهُ» أي القرآن فلا يتركونهم يسمعونه ويحذرونهم من الإيمان به والتصديق بما أنزل عليه «وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ» يتباعدون بأنفسهم عن سماعه وعن المنزل عليه لئلا يراهم قومهم فيقلدونهم «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» بهذا النبي والنأي «وَما يَشْعُرُونَ 26» بأن الوبال يخصهم وحدهم ويضاعف عليهم لصدهم أنفسهم وغيرهم من سماع الحق واتباع الهدى وسلوك طريق الرشد.
مطلب لا يصح نزول الآية في أبي طالب وفي حمل الأوزار والآية العظيمة التي نزلت في حق الرسول صلّى اللّه عليه وسلم :
نزلت هذه الآية في الكفرة المذكورين أعلاه وهي عامة في كل من يتباعد عن الحق وينهى من يتقرب منه ، أما ما روي أن رءوس الكفر قالوا لأبي طالب بعد أن تذاكروا معه بشأن محمد وتعديه على آلهتهم خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمدا نقتله ، وانه قال لهم ما أنصفتموني أدفع إليكم ابني لتقتلوه وأربي لكم ابنكم ، وانه كان من جملتهم وكان ينهاهم عن أذاه ويتباعد عن الإيمان به ، فلا(3/332)
ج 3 ، ص : 333
يصح أن يكون سببا للنزول ، لأن أبا طالب توفى نصف شوال السنة العاشرة من البعثة كما أشرنا إليه في الآية 56 من القصص المارة في ج 1 أي قبل نزول هذه الآية بكثير ، وكذلك ما روي أن حضرة الرسول دعاه إلى الإيمان فقال لو لا أن تعيرني قريش لأفررت بها عينك ، ولكن أذب عنك ، وقال في ذلك أبياتا منها :
واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
فنزلت هذه الآية لما ذكرنا وان الرواية قد وقعت منه لأن له مواقف هامة في الذب عن الرسول والوقوف بوجوه صناديد قريش من أجله ، وكانت تهاب محمدا لمهابته لديهم ولقد صدق رحمه اللّه في قوله لأن قريشا لم توقع فيه أذى إلا بعد موته ولكن هذا كله قبل نزول هذه الآية حتى انه مرة كلف ابن أخيه ذات يوم أن يصفح عن التصريح بدعوته بإلحاح من عظماء قريش عليه لأنهم عرضوا عليه أمورا كثيرة من أمور الدنيا على أن يكف عن سب آلهتهم ولم يفعل فقال يا عم واللّه لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره اللّه تعالى ، وهذه القصة مفصلة في سيرة ابن هشام ، على أن هذه الآية واللائي قبلها واردة في ذم المشركين ، فلا يناسب المقام ذكر النهي عن أذيته صلّى اللّه عليه وسلم ، قال تعالى «وَلَوْ تَرى » بأكمل الرسل «إِذْ وُقِفُوا» هؤلاء المشركون الذين ينهون الناس عن الإيمان بك ويتباعدون عنه أيضا فلو رأيتهم حين يشرفون «عَلَى النَّارِ» لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه وموقفا عجيبا عظم بلاء «فَقالُوا» في ذلك الموقف الرهيب والمشهد العام «يا لَيْتَنا نُرَدُّ» إلى الدنيا فنصدق هذا الرسول وما جاء به من اللّه «وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» ورسله بعد ردنا إلى الدنيا أبدا «وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 27» باللّه وكتابه ورسوله.
ونصب الفعلين بأن مضمرة على جواب التمني أو بإبدال الواو من الفاء وجاز فيهما الرفع عطفّا على نرد وعليه فتكون الأفعال الثلاثة داخلة في التمني فيكونون تمنوا الرد إلى الدنيا وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين أو بقطع ولا نكذب ونكون عن فعل(3/333)
ج 3 ، ص : 334
نرد وعليه يكون المعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فرد اللّه تعالى عليهم بقوله ليس الأمر كما ذكروا «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» من الكفر والجحود أي إنما قالوا هذا القول لظهور كفرهم الذي نطقت به جوارحهم ولم يغن عنهم سكوتهم ولا إخفاء فظائعهم.
لا إنهم قالوه تائبين.
ومع هذا لو أجيب تمنيهم لما وفوا بوعدهم «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» أولا في الدنيا ولفعلوا فيها ما فعلوه قبلا «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 28» في قولهم هذا بأنهم إذا رجعوا إلى الدنيا يؤمنون كلا لا يؤمنون البتة لسابق شقائهم بحسب خبث طوييتهم «وَقالُوا» هؤلاء الكفرة «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها كما يقول محمد وضمير هي يعود إلى الحياة ويجوز عوده على المتأخر رتبة ولفظا قال المتنبي :
هو الج د حتى تفضل العين أختها وحتى يكون اليوم لليوم سيدا
لأن ما بعده خبر له وكذلك يجوز إذا كان ضمير الشان وقد منعه الجمهور لاشتراطه في خبره أن يكون جملة والأحسن عود الضمير إلى ما هو في الذهن أي ما هي الحياة إلا حياتنا الدنيا لا غير «وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ 29» مرة ثانية كما كانوا يقولون قبل لا محالة فلا فائدة من إجابة طلبهم على تقدير إمكانها «وَلَوْ تَرى » يا سيد الرسل «إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ» للحكم والقضاء حيث يعرضون عليه يوم الجزاء «قالَ» اللّه تعالى لهم «أَ لَيْسَ هذا» البعث بعد الموت الذي كنتم تجحدونه في الدنيا وتكذبون رسلكم إذ يخبرونكم به وتنكرون كلامي المنزل بذلك «بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه «قالُوا» إذ لم يروا بدا من الإقرار «بَلى وَرَبِّنا» إنه الحق لا شبهة ولا شك فيه «قالَ» تعالى بعد أن شهدوا على أنفسهم «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ 30» بذلك وتنكرونه إذ لا فائدة لكم الآن أأقررتم أم كذبتم ، ثم يقول الحق تبارك وتعالى على ملأ الأشهاد
«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» غبنوا وخابوا وفاتهم الثواب المؤدي إلى الجنة المنعم به على المصدقين وتلبسوا بالعقاب الموصل إلى النار إذ تمادوا في الدنيا على تكذيبهم ولم يحسوا بأنفسهم «حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» فجاة على حين غرة(3/334)
ج 3 ، ص : 335
وغفلة في وقت لا يعلمه إلا اللّه وسميت القيامة ساعة لأنها تباغت الناس بسرعة بحيث لا يستطيع القائم أن يقعد ولا القاعد أن يقوم «قالُوا» منكروا الساعة «يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا» قصرنا من العمل الصالح «فِيها» في الدنيا وفاتنا كسب هذه الصفقة إذ بعنا ما يستوجب الرضا بالسخط.
روى الطبري بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم في قوله يا حسرتنا إلخ قال : يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون يا حسرتنا «وَهُمْ» والحال أنهم «يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» أي أثقال ذنوبهم وهذا الحمل إما معنوي بحيث يتخيّلون جزاءها الثقيل فهم كالحاملين له ، وإما أن تتجسم لهم فيحملونها راجع الآية 18 من سورة فاطر في ج 1.
جاء في الأخبار والآثار : يتبع الميت ثلاث ماله ويفارقه عند خروج روحه ، وأهله ويفارقونه عند ما يوارونه بالتراب ، وعمله يبقى معه إلى يوم القيامة ، فإن كان خيرا أوصله إلى الجنّة وإن كان شرا أدخله النار.
ولهذا يقول اللّه تعالى لأهل الشر «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ 31» بئس الحمل الذي يحملونه لما فيه من الخزي والعار «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» باطل وغرور لأن اللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع واللهو الميل عن الجد والهزل ، وهذا رد لقولهم (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا) إلخ يعني أن حياة الكافرين أمثالكم لعب لا تعقبه منفعة أما حياة المؤمنين فهي تفكير وعبادة فتعقب عليهم منفعتها في الآخرة خيرا ولهذا قال تعالى «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ» من الدنيا الفانية لأنها باقية «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» اللّه ويؤمنون برسله وكتبه «أَ فَلا تَعْقِلُونَ 32» هذا أيها الكفرة فتعلمون أن الدنيا شر الذين يجحدون لقاء اللّه في الآخرة ، قال تعالى «قَدْ نَعْلَمُ» يا حبيبي «إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ» فيك ما لا يليق بحضرتك من التكذيب والسخرية «فَإِنَّهُمْ» بعملهم هذا «لا يُكَذِّبُونَكَ» وإنما يكذبون الذي أرسلك إليهم لأن تكذيبك تكذيب للحضرة الكريمة وانك صادق أمين مبجّل عند ربك «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 33» وهذا غاية في الظلم لأن تكذيب اللّه أعظم من كل ظلم وهو نهاية في الضلال.
وهذه الآية من أعظم آيات القرآن في التبكيت على الكفرة وفيها تسلية لحضرة الرسول بما يعتريه من الحزن على جحودهم آيات اللّه وإنكارهم(3/335)
ج 3 ، ص : 336
رسالته إليهم لأن اللّه تعالى يقول له لا تأس بما يقولون لك لأن هذا الذي يصمونك به هو تكذيب للذي أرسلك وأنزل عليك الكتاب الذي جئنهم به فبعد أن يتعدى تكذيبهم للحضرة الإلهية المقدسة ولم يقتصروا فيه عليك فقد بلغوا الذروة القصوى في الكفر ، فاعرض عنهم واللّه يتولى أمرك فيهم.
نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق حين قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فليس أحد يسمع كلامك غيري ، فقال أبو جهل واللّه إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة اللائي أقررنا لهم بها فإذا صدقناهم بالنبوة أيضا فماذا يكون لسائر قريش فأنزل اللّه هذه الآية.
أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن أبا جهل قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلم :
إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به ، وقال ناجية بن كعب : قال أبو جهل للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ما نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به من الدين المخالف لدين آبائنا وإذعانك أن هناك حياة أخرى نحاسب فيها على ما كان منا في هذه الدنيا.
وإنما سلى اللّه رسوله في هذه الآية لأنهم مع اعتقادهم صدقه على ما علمت من قول أبي جهل المار ذكره لا يؤمنون بما جاءهم به حسدا ، ويضاهي هذه الآية ما أنزله اللّه بحق غيرهم في قوله عزّ قوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) الآية 14 من سورة النمل المارة في ج 1 ، قال تعالى «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» من أقوامهم وأتباعهم «فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا» ألا تصبر أنت يا محمد على تكذيب قومك «وَأُوذُوا» أيضا بأكثر مما أوذيت به وانتظروا وعد اللّه بنصرتهم عليهم وبقوا متحملين أذاهم «حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا» فلك أسوة بهم فثابر على الصبر حتى يأتي الوقت المقدر لذلك «وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» التي وعد بها عباده المخلصين المنوه بها بقوله عزّ قوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) الآية 172 و173 من الصافات الآتية ، وقوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية 51 من سورة المؤمن الآتية أيضا ، وقوله تعالى (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية 21 من سورة المجادلة في ج 3 والآية 103 من سورة يونس المارة فراجعها ، ولا خلف لوعد اللّه(3/336)
ج 3 ، ص : 337
كيف وهو يأمر عباده بالوفاء ويعيب الناكثين والمخلفين ، إلا أن لوعده أجلا لا يتخطاه «وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ 34» أخبارهم التي قصصناها عليك من قبل وظفرهم بعد صبرهم فما عليك إلا الانتظار لهذا الظفر القادم «وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ» عن الإيمان بك واستعظمت ذلك ولم تركن إلى الصبر فافعل ما بدا لك «فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ» سريا ومنفذا من تحتها بدليل الظرفية فانفذ فيه «أَوْ سُلَّماً» تصعد عليه «فِي السَّماءِ» فاصعد إليها ، وفي هنا بمعنى إلى لأن حروف الجر تخلف بعضها والسلّم يذكر ويؤنث.
قال أوس في تأنيثه :
لنا سلم في المجد لا يرتقونها وليس لهم في سورة المجد سلم
وقال في تذكيره :
الشعر صعب وطويل سلّمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
أي إذا كان لك شيء من ذلك فافعل «فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ» تدل على صدقك وتمنعهم من تكذيبك فافعل ولكنك لست بفاعل ما لم نقدرك على فعله وحيث كان كذلك فما عليك إلا أن تتحمل وتصبر ، نزلت هذه الآية العظيمة في المنزل عليه صلّى اللّه عليه وسلم حين عظم عليه استهزاء قومه وتكذيبهم إياه وإصرارهم على الإعراض عن الإيمان وتاقت نفسه الكريمة أن يظهر اللّه تعالى على يده الآيات التي طلبها قومه ليسلّموا له ويؤمنوا بربه فأخبره اللّه بهذه الآية بما يقطع أمله من ذلك لأن إنزال الآيات مقدر على أوقات وأسباب لا تتعداها وكذلك الإيمان وعدمه موقت بأوقات لا يتخطاها سواء أجيب طلبهم أم لا ، ثم أخبره بما هو مراده في الأزل فقال «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى » من دون إرسالك إليهم ولكنه لم يشأ فلا تتعب نفسك وتتأذى بما تراه منهم لأن المشيئة قضت بذلك وفاقا لما هو مقدر عليهم في الأزل الذي لا يتغير ولا يتبدل ، فاعلم هذا وتبه وإياك أن يخطر ببالك ما لم يكن في مراد اللّه فإنه لا يكون «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ 35» الذين يشوبهم الجزع ويضيق صدرهم لكل بادرة فأنت على ما أنت عليه من سعة الخلق وشرح الصدر وطول البال ولين الجانب.
وإنما غلظ تبارك وتعالى لحبيبه هذا الخطاب في(3/337)
ج 3 ، ص : 338
هذه الآيات ليبعد جنابه العالي عن هذه الحالة ولا يحرص على إيمانهم إذ سبق في قضائه عدم إيمانهم لأنهم في معزل عن الإجابة لدعوته لانهماكهم في مهاوي الكفر واقتصارهم على الأقوال الفارغة وإذ زاد القول فقد نقص العمل ، واعلم أن هذه في أناس مخصوصين علم اللّه موتهم على الكفر ولهذا قال تعالى «إِنَّما يَسْتَجِيبُ» لك ويقبل دعوتك «الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» تلاوتك سماع قبول بآذانهم وتعيها قلوبهم «وَالْمَوْتى » الكفار الذين لا يصغون لقولك ولا يتعظون بوعظك «يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ» يوم القيامة فيسألهم عن عدم إذعانهم هذا «ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ 36» بعد الحساب فيجازيهم على إعراضهم قد شبههم اللّه تعالى بالموتى بجامع عدم الإجابة والإسماع في كل منهما ولأن الجاهل ميت قال الشاعر :
لا يعجبن الجهول بزيه فذاك ميت ثيابه كفن
وقال : أبا سامعا ليس السماع بنافع إذا أنت لم تفعل فما أنت سامع
إذا كنت في الدنيا عن الخير عاجزا فما أنت في يوم القيامة صانع
«وَقالُوا» أولئك الكفرة «لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» تشهد على رسالته مثل الأنبياء قبله لآمنا به فأنزل اللّه تعالى إنزاله «قُلْ» لهؤلاء الكفرة يا سيد الرسل «إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً» مثل ما أنزل على من قبلك «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 37» عاقبتها لأنهم إذا لم يؤمنوا بالآيات المقترحة يستأصلون بالعذاب دون مهلة ما كأمم الأنبياء قبلهم الذين أعطوا ما اقترحوه ولم يؤمنوا فأخذهم اللّه واللّه تعالى عالم بأن هؤلاء المقترحين لا يؤمنون وان الذين سيؤمنون منهم لم يحن وقت إيمانهم المقدر لهم وان البلاء إذا نزل عم راجع الآية 25 من سورة الأنفال في ج 3 ، على أن من يريد الإيمان عن صدق فلديه القرآن أكبر آية وأعظم معجزة وأجل برهان ولكن لا يقصدون من ذلك إلا العناد والتمادي في الضلال «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» من كل ما دب على ظهرها «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» أي أن كل جنس من الحيوان أمة مثل البشر والجن ، فالطير أمة والوحش أمة والحوت أمة والجراد أمة والديدان أمة وهلم جرا من كل ما كان من خلق اللّه بالولادة أو التوالد سواء كان على وجه(3/338)
ج 3 ، ص : 339
الأرض أو داخلها أو كان عائما في الماء أو الهواء لأنه إذا اتصل بالأرض دب عليها فالكل داخل في معنى الآية ووجه المماثلة هو أن كل حيوان يعرف خالقه ويوحده ويسبحه ويصلي له بحسبه قالا أو حالا ، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الآية 44 من الإسراء المارة في ج 1 ، وكما أن البشر مخلوق للّه فهي مخلوقة له وكما أن البشر يألف بعضه بعضا فهي يألف بعضها بعضا أيضا ، وكما يفهم بعضه على بعض يفهم بعضها على بعض ، وكما أنه يموت ويبعث فهي أيضا كذلك وقد اقتصر اللّه تعالى على ما في الأرض في هذه الآية وإن كان ما في السماء أمما أيضا مخلوقة له جل شأنه ولكنها غير مشاهدة وقد جاءت الآية بمعرض الاحتجاج والاحتجاج بالمعاين أولى منه فيما لم يعاين وفي ذكر الجناح للطائر إشارة إلى أنه تعالى سيحدث طائرا بلا جناح يتحرك بطبعه مما هو داخل في قوله تعالى بمعرض ذكر الأنعام (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) مما كان من الدواب والملك التي تركب ومما سيكون من هذا النوع بعمل البشر الكائن بتعليم اللّه إياه وإلا فما هو الموجب لتقييد الطير بالجناح ومن المعلوم أن الطائر لا يكون بلا جناح فتنبه رحمك اللّه إلى معجزات القرآن العظيم التي تظهر أولا بأول وقد ظهرت الأفلاك العظام كما وصفها اللّه بقوله (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الآية 24 من سورة الرحمن في ج 3 ، ثم السيارات ثم الطائرات ولا تزال تظهر هذه المصنوعات البشرية بما يفوق العقل تصورها راجع الآية الثانية من هذه السورة.
مطلب كل شيء في القرآن مما كان ومما سيكون والآية الخارقة لعقيدة المعتزلة :
وهنا يظهر سر قوله تعالى «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ» مما علمه البشر ومما لم يعلمه بدليل التنكير والتفريط يتعدى بعن وقد ضمن هنا معنى ما أغفلنا ولا تركنا شيئا إلا وقد أشرنا إليه في اللوح المحفوظ وألمعنا إلى بعض ما في علمنا في هذا القرآن من أمر الدين والدنيا والآخرة ، روى البخاري عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لعن اللّه الواشمات والمستوشمات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق اللّه ، فقالت له امرأة في ذلك فقال ومالي لا ألعن من لعن رسول اللّه وهو في كتاب اللّه فقالت له قرأت ما بين اللوحين (تريد القرآن كله)(3/339)
ج 3 ، ص : 340
فما وجدت فيه ما تقول قال لئن قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر في ج 3 ، قالت بلى قال فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه.
وقال الشافعي رحمه اللّه مرة في مكة سلوني عما شئتم أخبركم عنه في كتاب اللّه فقيل له ما تقول في المحرم يقتل الزنبور فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو ما استدل ابن مسعود من أن الرسول أمر بقتل الهوام المؤذية وقد أمر اللّه في كتابه بالأخذ بكلامه هذا ، وقد أخرج أبو الشيخ في كتاب الفطرة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه سبحانه وتعالى لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة راجع الآية 26 من سورة البقرة في ج 3 والآية 23 من سورة الشورى الآتية والآية 44 من سورة الأنبياء الآتية تجد ما تريده وما قاله ابن الجوزي في هذا المعنى ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه قال : أنزل اللّه في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن ، وقال الشافعي : لا تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب اللّه الهدى فيها ، وقال ابن عباس : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب اللّه ، وقال المرسى : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما إلا المتكلم به والمنزل عليه عدا ما استأثر اللّه به لنفسه «ثُمَّ إنّهم إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ 38» كما يحشر البشر ويحاسبون كما يحاسب البشر بحيث يجعل اللّه في كل منها قوة النطق والادعاء والدفاع والعفو والإصرار ثم تكون ترابا وحينذاك يتمنى الكافر لو كان مثلها لشدة ما يرى من العذاب راجع الآية الأخيرة من سورة النبأ الآتية ، روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء «وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا» الواضحة إنما كذبوا بها لأنهم «صُمٌّ» عن سماعها «وَبُكْمٌ» عن النطق بها لكونهم غارقين «فِي الظُّلُماتِ» المتكاثفة راجع الآية 40 من سورة النور في ج 3 ، أي أنهم يكونون في الآخرة كما هم في الدنيا وهي ظلمة الكفر وظلمة الجهل وظلمة الحيرة لذلك تراهم غافلين عن التأمل في آيات اللّه لاهين عن التفكير فيها ساهين عن النظر إليها وهم في معزل عن معانيها(3/340)
ج 3 ، ص : 341
لسابق شقائهم والحقيقة التي لا غبار عليها هي ما ذكره اللّه بقوله «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ» فلا يهتدي أبدا «وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 29» فيهديه للإسلام وهذا عدل منه تعالى فهو الفاعل المختار المتصرف في ملكه يفعل ما يشاء كيف يشاء كما أن أحدكم إذا هدم داره هل يسأل عنها وهل يعد مقترفا جرما كلا واللّه لا يسأل عما يفعل بل خلقه يسألون إذا تجاوزوا على أحد ، وهذه الآية دليل قاطع على عدم خلق الأفعال وإرادة المعاصي من العاصي ونفي الأصلح وأن الكفر والإيمان بإرادته تعالى والإرادة لا تتخلف عن المراد كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا لأهل العقائد الفاسدة من المعتزلة وأضرابهم الذين لما رأوا هذه الآية خارقة لعقيدتهم وعجزوا عن مقاومتها لوّوا أعناقهم فراموا رفضها وأوّلوا يضلله بيخذله ولم يلطف به ، وقالوا إن معنى يجعله يلطف به كأن اللّه تعالى عاجز أن يقول ما قالوا لو كان المراد كما قالوا وله القول الفصل أو أنه تعالى ضاق كلامه عن التعبير بما أولوه حاشا ثم حاشا ، وقدمنا في الآية 12 من سورة الحجر المارة ما يتعلق في هذا البحث فراجعها.
قال تعالى يا
سيد الخلق «قُلْ» لهؤلاء المعاندين «أَ رَأَيْتَكُمْ» أخبروني ، تقول العرب أرأيتك أي أخبرني عن حالك والمراد بهذا الاستخبار تبكيتهم والقامهم الحجر بما لا سبيل إلى إنكاره «إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ» في الدنيا كما أتى على من قبلكم من الموت الفجائي بخسف أو رجم أو غرق أو صيحة أو غيرها فصعقتم حالا دون مهلة أتدعون أحد يكشف ما حل بكم أو أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» على حين غرة «أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ» لكشف ذلك عنكم وهل تغيثكم أصنامكم إذا استغثتم بها على كشفه أجيبوني «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 40» أنها تنجيكم من ذلك فإن قالوا لك شيئا أو لم يقولوا فقل يا سيد الرسل
«بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» لا غير لأنكم تعرفون أنها لا تنفعكم في مهماتكم ولا في غيرها ولكنكم إذا دعوتم اللّه عن صدق نية وحسن عقيدة وحقيقة يقين «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ 41» لشدة الهول النازل بكم فنتضرعون إلى اللّه بادىء الرأي وتدعون أصنامكم لعلمكم بعجزها عن دفع الضر عن نفسها فضلا عن غيرها ، فإذا كان كذلك وهو كذلك أيليق بكم وأنتم تدعون العقل أن تتركوا(3/341)
ج 3 ، ص : 342
الإله الواحد الذي يلجأ إليه في المهمات وتعبدوا غيره حال الرخاء وهو جماد أو حيوان مخلوق للّه لا يتمكن من عمل شيء أما بكم من عقل يمنعكم من هذا أما تعتبرون بمن مضى قبلكم «وَ» أنت يا أكمل الرسل لا تجزع لما ترى منهم «لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» رسلا كثيرة فخالفوهم وكذبوهم وآذوهم أقوامهم مثل ما فعلت بك عشيرتك وأمتك وقد أمهلناهم ختى انقضى الأجل المضروب لهم فأصروا على كفرهم ولم يؤمنوا «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ» الفاقة والشدة والسوء «وَالضَّرَّاءِ» نقص الأموال والأنفس والثمرات والأولاد «لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ 42» لنا ويخضعون لأوامر رسلنا ويتذللون فيتوبون فنعفو عنهم ولكنهم لم يفعلوا «فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» لنا لعلنا تكشفه عنهم كما كشفناه عن قوم يونس راجع الآية 98 من سورة يونس المارة «وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ» فلم يتضرعوا لنا عنادا هذا على أن لو لا هنا نافية كما هي في الآية المذكورة من سورة يونس المارة إلا أن الجمهور على أنها أداة تحضيض بمعنى هلا كما في أكثر المواضع ، وحملوا المغني على التوبيخ والتنديم وهو يفيد عدم الشرك وعدم الوقوع بدليل أداة الاستدراك تدبر «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 43 فأعجبتهم صنايع كفرهم ومعاصيهم وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 38 من سورة الحجر فراجعها «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ» ولم يتعظوا بما أصابهم لكثافة الرّين الذي على قلوبهم وطبقات الصّدأ «فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ» من السعة والرخاء والصحة والسلامة والحياة والرياسة بدل الفقر والشدة ونقص الأموال والثمرات والذل والمهانة لنستدرجهم «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا» من الخيرات والقوة والسلطان وظنوا أن ما كان بهم لم يكن للانتقام بل للسعادة والرضاء «أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً»فجأة
وهم على أحسن حال يتمنونه لتشتد حسرتهم ويتضاعف ندمهم على ما تركوا من اللذات والشهوات لأنهم لو أخذوا حال الضيق لهان عليهم الأمر لأن كثيرا من المبتلين يتمنون الموت ليتخلصوا من بؤسهم وقد قال قائلهم :
ألا موت يباع فأشتريه فهذا الحال مما لا خير فيه
ولا تجد أحدا من المنعمين يريده بل أكره ما عليهم ذكره «فَإِذا هُمْ(3/342)
ج 3 ، ص : 343
مُبْلِسُونَ
44» آيسون كثيروا الأسف والحسرة حزنا على ما فاتهم فيها لأن المبلس المطرق رأسه أسى على ما حل به من الندم وعدم تلافي ما فرط به ، روى عامر بن عقبة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إذا رأيت اللّه يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا هذه الآية أسنده الطبري وذكره البغوي بغير سند «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم وأهلكوا عن آخرهم يقال دبر فلان القوم إذا كان آخرهم ، أي فكأنهم لم يلبثوا فيها وقد انقلب فرحهم ترحا وعزهم ذلة كما قال القائل :
ألا إنما الدنيا كظل سحابة أظلنك يوما ثم عنك اضمحلت
فلا تك فرحانا إذا هي أقبلت ولا تك جزعانا إذا هي ولت
وقيل : إذا جاءت الدنيا عليك فجد بها على الناس طرا قبل أن تتفلت
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ولا البخل يبقيها إذا هي ولت
ولكن هؤلاء كلهم جزع لأن ما هم قادمون عليه أشر مما فاتهم «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 45» على تأييد رسله وإهلاك أعدائهم ، وهذا تعليم من اللّه لأنبيائه والمؤمنين أن يحمدوه عند كفايته شر معانديهم ومناوئيهم وعند قضاء حوائجهم ، وهذا الحمد واجب لأنه بمقابلة نعمته وهكذا يجب على كل من أولاء اللّه نعمة من مال أو ولد أو صحة أو غيرها ، أما في غير مقابلة نعمه فهو مسنون في كل حال لأن نعم اللّه على العباد لا تحصى وقيل في المعنى :
نعم الإله على العباد كثيرة وأجلهنّ نجابة الأولاد
قال بعض المفسرين إن اللّه تعالى حمد نفسه بنفسه على ما فعل بهم أي لم يقصد به التعليم والأول أولى ، قال تعالى «قُلْ» يا أكرم الرس لهؤلاء الكفرة «أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ» فصرتم عميا صما بكما عميا «مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» أي بما أخذه منكم من تلك القوى فسيقولون لك حتما لا أحد يقدر على الإتيان لهم بشيء من ذلك إلا اللّه وانهم بفقدها يكونون كالجماد لأن الإنسان بغير هذه الحواس يختل نظامه ويفسد أمره وتتعطل مصالحه الدينية والدنيوية ولا يقدر على إيجادها إلا الذي(3/343)
ج 3 ، ص : 344
خلقها ، فيا سيد الرسل «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونكررها لهم ليستدلوا بها معالم التوحيد وآثار النبوة وعلائم الآخرة «ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ 46» يصدّون ويعرضون ويميلون عنها ، قال أبو سفيان عليه السلام في هذا المعنى :
عجبت لحكم اللّه فينا وقد بدا له صدفنا عن كل حق منزّل
أي أنه يتعجب كيف رحمهم اللّه وأخر عذابهم إلى أن وفقوا إلى التوبة والإيمان مع شدة إعراضهم عنه فيكون صدف هنا بمعنى أعرض وبمعنى مال وأصل الصدف الجانب والناحية ومنه الصدفة وتطلق على البناء المرتفع وجاء في الخبر أنه صلى اللّه عليه وسلم مرّ بصدف مائل (أي بناء عال مائل) فأسرع ثم بكّتهم ثالثا بقوله عز قوله «قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً» عيانا أو خفية ليلا أو نهارا «هَلْ يُهْلَكُ» فيه أحد هلاك خسارة وحرمان «إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ 47» أنفسهم وغيرهم بسبب كفرهم وطغيانهم وبغيهم كلا لا يهلك غيرهم.
مطلب من هلك بسائق غيره لا يعذب وتبرؤ حضرة الرسول من قول قومه وقوله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ) إلخ :
أما إذا كان الهلاك عاما وهلك فيه غير الظالم فإن هلاكه هذا بسائق غيره فلا يعد خسارة عليه وحرمانا بل إن اللّه تعالى يكافئه في الآخرة خيرا على عمله وخيرا على هلاكه كما أنه يجازي المضل على ضلاله وإضلاله غيره راجع الآية 25 من سورة الأنفال في ج 3 والآية 88 من سورة النحل الآتية ، «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ» المؤمنين بالثواب «وَمُنْذِرِينَ» الكافرين بالعقاب «فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ» عمله بعد إيمانه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» حين يخاف الناس «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 48» إذا حزنوا بل الأمن لهم والبشرى في الدنيا والآخرة «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» في الدنيا وأصروا على تكذيبهم حتى هلكوا فهؤلاء «يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ» بالآخرة حتما سواء سلموا من عذاب الدنيا أو عذبوا فيها جزاء «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» 49 يخرجون عن الطاعة «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» أجري عليكم منها ما تريدون «وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» لأخبركم بما تقترحون أيكون أم لا «وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي(3/344)
ج 3 ، ص : 345
مَلَكٌ»
أقوى على ما لا يقواه البشر لأفتك بكم أي لا أدعي الإلهية ولا الملكية ولا الغنى ولهذا فلا يفهم من معنى هذه الآية أن الملك أفضل من الرسول راجع الآية 30 من سورة هود المارة وإنما أنا بشر مفتقر إلى اللّه في كل أموري «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» فأعمل به وأخبركم وأدعوكم للعمل به لا غير «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» الضال والمهتدي «أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ 50» في عدم التسوية بينهما تدل هذه الآية الكريمة على أن حضرة الرسول ما كان مجتهدا في شيء من الأحكام بل كان يتبع وحي اللّه فقط فيعمل به وهو الصحيح لأنه لا ينطق عن هوى ، وسبب نزول هذه الآية الرد على الكفرة الذين يقترحون على الرسول إنزال الآيات السماوية ليصدقوه فأمره اللّه تعالى أن يقول لهم ما ذكره في هذه الآية حسما للباب ،
قال تعالى «وَأَنْذِرْ بِهِ» بما أوحي إليك من لدنا «الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ» المقرين بالبعث وخص المؤمنين مع أن إنذاره عليه السلام عام لجميع الخلق لأن الحجة على هؤلاء أولى من غيرهم ، والمراد بالحشر المحل الذي يريده اللّه تعالى لجمع الخلق وهو الموقف لا إليه ذاته جلت عن المكان فلا حجة في هذه الآية إلى المجسمة القائلين إن إلى (في إِلى رَبِّهِمْ) تفيد الغاية إلى المكان فيكون تعالى شأنه مختصا بمكان تنزه عن ذلك.
هذا ويدخل في حكم هذه الآية المجوزون للحشر سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب ، وبعض المشركين المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء كالأولين المعترفين بالبعث بعد الموت أو في شفاعة الأصنام كالآخرين المجوزين للحشر الجازمين فيه من أهل الكتاب وبعض المشركين أي المترددين بهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديثه يخافون أن يكون حقا ، وأما المنكرون للحشر رأسا والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون عمن أمر بإنذارهم هكذا ، قال شيخ الإسلام أما ما قيل إن المراد بهم المؤمنون المفرطون أو الكافرون معا بداعي أن الكل يخاف الحشر لأن الرسول مبعوث للكل فهو وجيه إلا أن سياق الكلام لا يساعده وسباقه ينافيه ومما يرد القول الأخير قوله تعالى «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ» أي اللّه «وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ» يشفع لهم(3/345)
ج 3 ، ص : 346
أو يواليهم لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن يأذن اللّه له بها قال تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الآية 255 من البقرة في ج 3 ، والكافرون ليس لهم ولي ولا شفيع لقوله تعالى (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الآية 18 من سورة غافر الآتية وعلى هذا فلا يدخلون في مضمون هذه الآية ، أما المؤمنون المذنبون فتشفع لهم أنبياؤهم والملائكة والأولياء أيضا فيدخلون في مضمونها دخولا أوليا واللّه أعلم.
هذا وإنما أمر اللّه تعالى رسوله أن يتقدم لمثل هؤلاء بالإنذار رحمة بهم «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 51» الكفر ودواعيه فيدخلون في زمرتهم ، ولما أمر اللّه غير المتقين ليتقوا أمر بتقريب المتقين إليه وأن لا يقصيهم عن مجلسه فقال عز قوله «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ» إرضاء للكفرة الذين يأنفون مجالستهم فإياك إياك أن تفعل ذلك ، وتشعر هذه الآية بالثناء على هؤلاء المذكورين فيها لمواصلتهم ذكر اللّه ومواظبتهم على عبادته صباح مساء ولذلك وصفهم بالإخلاص المستفاد من قوله جل قوله «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» ذاته المقدسة بدعائهم لا غير وهؤلاء يا حبيبي «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ» لأن حسابهم على اللّه وحده «وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ» لأن حسابك أيضا على اللّه وذلك أن المشركين طعنوا في دين هؤلاء وإخلاصهم على حد قوله تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) الآية 27 من سورة هود المارة فأخبره اللّه تعالى بأنك لا تكلف أمرهم كما هم لم يتكلفوا أمرك لأن وظيفة الرسل النظر إلى ظواهر الأمور وتفويض البواطن إلى اللّه أي ليس لك يا محمد أن تطردهم بداعي أن إيمانهم غير خالص لأنك لا تعلم ما في قلوبهم ، ولهذا حذّره بقوله «فَتَطْرُدَهُمْ» وتبعدهم عنك وهذا جواب ما عليك أي إن طردتهم وأجبت رغبة الكفرة «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ 52» نفسك بإبعادهم عن مجلسك بل عليك أن تقربهم وتدنيهم منك لمجرد تقواهم وطاعتهم لا أن تبعدهم فتظلمهم اتباعا لقول أعدائهم ، قال تعالى «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» أي اتباع الرسل قبلك ففتنة الغني بالفقير والشريف بالوضيع والصحيح بالمريض هي الأنفة منهم وبالعكس هي الحسد لأن الفقير يرى سعة الغني وخصب عيشه والمريض يرى تمتع(3/346)
ج 3 ، ص : 347
الصحيح بالعافية والراحة ، والوضيع يرى مرح الشريف وكبير جاهه وان الأشراف والأغنياء والمعافين يرون تقدم أولئك عليهم عند الأنبياء بسبب إسلامهم وإيمانهم وهم يأنفون مجالستهم فيمتنعون من الإيمان فيبقون مفتتنين ببعضهم وانهم «لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بالإيمان والقرب من الرسل «مِنْ بَيْنِنا» ونحن أفضل منهم وأقدم وأحسن لأنهم لا مكانة لهم ولا مال ولا حسب وهذا اعتراض على اللّه ولذلك رد عليهم بقوله عزّ قوله «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ 53» نعمه من خلقه بلى هو أعلم بذلك ، واعلم أن سبب المنة عليهم شكرهم وسبب حرمان الآخرين كفرهم وما منعهم أن يكونوا مثلهم إلا عدم إيمانهم باللّه وعدم شكرهم أفضاله عليهم إذ صرفوا جوارحهم إلى ما لم تخلق لها ، ثم إن اللّه أمر رسوله بإكرام المؤمنين مهما كانوا فقراء أو ضعفاء أو مرضاء بقوله جل قوله «وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا» أمثال أولئك المذكورين في الآية السابقة المتطهرين بالإيمان بنا لأنهم مؤمنون حقا «فَقُلْ» لهم يا سيد الرسل على رغم أنف أولئك المتطاولين بنعمتنا عليهم «سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» لكم أي بشرهم بقبولهم عند اللّه وعدهم برحمته وعدا مؤكدا لأن كتب بمعنى وجب وهو لا وجوب عليه وإنما قال كتب لزيادة التأكيد برحمتهم تفضلا منه وقل لهم يقول اللّه تبارك وتعالى «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ» أيها المؤمنون «سُوءاً» ذنبا «بِجَهالَةٍ» به عن غير قصد ولا يعلم ما ينشأ عنه من المضرة وما ينتج عن فعله «ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ» نفسه وتباعد عن اقتراف مثله «فَأَنَّهُ غَفُورٌ» ستار له لا يفضحه به في الدنيا ولا يعاقبه في الآخرة «رَحِيمٌ 54» بعباده التائبين لأن الذنب مهما كان إذا لم يكن تعمدا أو مضرا بالغير فهو للرحمة قريب وللعفو عنه أقرب ، وسبب نزول هذه الآيات من وأنذر ألى هنا ما روي عن سعد ابن أبي وقاص قال : كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلّى اللّه عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما فوقع في نفس رسول اللّه ما شاء اللّه أن يقع فحدث نفسه فأنزل اللّه عليه ولا تطرد إلخ الآيات أخرجه مسلم.
وجاء عن عكرمة وابن مسعود(3/347)
ج 3 ، ص : 348
والكلبي ما بمعناه ، وهذا أولى من قول من قال إن هذه الآيات نزلت في سلمان وجماعة من فقراء المسلمين لأن سلمان رضي اللّه عنه أسلم بالمدينة وهذه السورة مكية وليست هذه الآيات من
المستثنيات منها وأولى من قول من قال إنها نزلت في المؤلفة قلوبهم المنوه بهم في قلوله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) الآية 49 من سورة الكهف الآتية وهي مدنية وكان إسلام هؤلاء بعد فتح مكة وهذه الآيات التي نحن بصددها نزلت قبل الهجرة في مكة وبينهما بعد عظيم وفرق كثير قال عكرمة فكان صلّى اللّه عليه وسلم إذا رأى الذين نهى عن طردهم بدأهم بالسلام امتثالا لأمر اللّه له بذلك وقيل إن الآية الأخيرة أي وإذا جاءك إلخ نزلت في عمر رضي اللّه عنه لأنه قيل إنه قال لحضرة الرسول حينما طلب منه المشركون طرد أولئك الأبرار لو أجبتهم لما قالوا لعل اللّه يأتي بهم (وهذا الذي وقع في نفس رسول اللّه المذكور بالحديث المروي عن سعد بن أبي وقاص) ولم يعلم المضرة الناتجة عن كلامه هذا وعدم رضاء اللّه بها ثم إنه صار يبكي وقال معتذرا ما أردت إلا خيرا ولكن المقرر أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب فالقول بإطلاق هذه الآية على كل مؤمن أولى وأنسب بالمقام ويدخل فيها السيد عمر وغيره دخولا أوليا «وَكَذلِكَ» مثل ما قصصنا لك هذا وبيناه «نُفَصِّلُ الْآياتِ» بذكر أوصاف المطيعين والعاصين «وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ 55» الذين صاروا إلى النار يوم القيامة ليظهر لك الحق الذي أنت عليه وأصحابك والبطل الذي عليه أعداؤك ، وقرئ الفعل بالياء لأن السبيل تذكر وتؤنث قال تعالى (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) الآية 145 من الأعراف المارة في ج 1 وقال تعالى (يَبْغُونَها عِوَجاً) الآية 44 منها فالتذكير على لغة تميم والتأنيث على لغة الحجاز وهو بالرفع كأنه قال ليظهر الحق وليستبين سبيل إلخ وحذف المعطوف عليه من المحسنات البديعة وقرىء بنصب سبيل على المفعولية على أن يعود الفاعل لحضرة الرسول ويكون المعنى سايرهم حتى تستوضح
طريقهم وإذ ذاك تعاملهم على ما يليق بهم في الدنيا ومرجعهم إلينا في الآخرة فنعاملهم على ما عاشوا عليه «قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الأوثان كافة ، لأن أدلة العقل(3/348)
ج 3 ، ص : 349
وأدلة السمع تأبى ذلك ، وهذه الآية رد على المشركين الذين يكلفون حضرة الرسول اتباع دينهم دين آبائهم ، وقطع لأطماعهم الفارغة لأنها عبارة عن هوى أنفسهم وضلال صرف محض ولذلك نهى عنه رسوله صلّى اللّه عليه وسلم بقوله «قُلْ لا أَتَّبِعُ» في هذا ولا في طرد المؤمنين «أَهْواءَكُمْ» النفسية البحتة «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً» إن أنا فعلت أو ملت لشيء من ذلك «وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ 56» بهداية ربي وفيها إشارة إلى أنهم هم الضالون عن الهدى «قُلْ إِنِّي» فيما أنا عليه «عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» وبصيرة ظاهرة ناصعة لأني في طاعته وعبادته «وَكَذَّبْتُمْ بِهِ» على غير بيّنة تبعا لهدى أنفسكم فأشركتم به غيره ما لا يستحق العبادة وإذا دمتم على هذه ولم تقلعوا عنه فأنذركم عذاب اللّه فقالوا له ائتنا بما تعدنا به من العذاب إن كنت صادقا لنصدقك فأوحى اللّه إليه أن يقول لهم «ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» من العذاب ولا أقدر على إنزاله «إِنِ الْحُكْمُ» في إنزاله حالا أو تأخيره لأجل معلوم عنده لا يكون «إِلَّا لِلَّهِ» وحده وهو «يَقُصُّ الْحَقَّ» يبرمه وقرىء يقض والمعنى واحد لأن القضاء قول مبرم وهذه من القراءات الجائزة إذ لا تبديل فيها بالمعنى واللفظ عبارة عن تصحيف في النقط لأن الصاد أخو الضاد وقد ذكرنا غير مرة أن القراءة الغير جائزة وهي التي فيها تبديل كلمة أو حرف مباين أو زيادة أو نقص شيء من ذلك «وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ 57» بين الحق والباطل إذ لا يقع في حكمه جور ولا حيف ، يا أكرم الرسل إذا ألح عليك قومك بطلب إنزال العذاب «قُلْ» لهم «لَوْ أَنَّ
عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» لأوقعته عليكم حالا وما أمهلتكم به وقد رأيت منكم ما رأيت يدل على هذا قوله «لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» لأني بشر وقد نفد صبري عليكم لولا أن اللّه يأمرني بالصبر ولأوقعته عليكم غضبا للّه الذي قابلتم نعمه بالجحود لا تشفيا لنفسي ولكنه بيده وهو صبور لا يستفزه الغضب وهو حليم لا يعجل بالعقوبة «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ 58» أمثالكم هل تعجيل العذاب أصلح لهم أو تأخيره وهو أعلم بالوقت والمحل الذي ينزله عليكم بهما ونوع العذاب الذي تستحقونه
وما أنتم عليه من الحال «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» بفتح الميم جمع مفتح اي المخزن وعليه يكون المعنى(3/349)
ج 3 ، ص : 350
خزائن الغيب أما إذا كان جمع مفتح بكسر الميم فإنه تعالى جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المغلوقة بالأقفال فالذي يعلم تلك المفاتيح وكيفية استعمالها يمكنه أن يتوصل إلى الخزائن بها المدخرة فيها ولما كان جل جلاله عالما بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بذلك وعليه يكون المعنى المراد أن العلم بالغيب عنده وحده لا يشاركه فيه أحد ، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : مفاتيح الغيب خمسة وتلا قوله تعالى عنده علم الساعة إلخ الآية الأخيرة من سورة لقمان الآتية ، وروي نحوه عن ابن مسعود ، وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عمر مثله ، والآية عامة تشمل بإطلاقها جميع ما غاب عن العباد من آجال وأحوال وعذاب وثواب وغير ذلك «لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» وحده إذ انفرد جل جلاله بعلمه «وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» من نبات وحيوان وجواهر ومعادن ومفاوز وقفار وقرى وأمصار وجزر وأنهار مما علمه البشر وما لا يعلمه «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ» من جميع الأشجار والنبات «إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ» تسقط من كافة أصناف الحبوب مما يخصّ الإنسان والحيوان والطير والحوت «فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ» إلا يعلمها أيضا وسكت عما في ضياء الأرض لأن الذي يعلم ما في ظلماتها فهو لما في ضيائها أعلم وهو جل جلاله لا فرق عنده بين الظلمة والنور ويعلم تلك الورق قبل نباتها وبعده ومن هي رزقه وما يصير منها وما هو مقداره «وَلا رَطْبٍ» من ماء وحي «وَلا يابِسٍ» من أرض وميت أي أنه يعلم كل الأشياء لأنها إما أن تكون رطبة أو يابسة وهي إن كانت داخلة في قوله تعالى وعنده مفاتح الغيب إلا أن ذلك على طريق الإجمال وهذا على طريق التفصيل والتفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس ولذلك عد من أبواب البديع في الكلام «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ
59» ظاهر وكل شيء فيه ثابت مدون مما كان ومما سيكون قبل خلق السموات والأرض وإلى آخر الكون وما بعده في الآخرة «وَ» اعلموا أيها الناس أن ذلك الإله العظيم الموصوف بما ذكر من صفات الكمال والقدرة «هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» يميتكم فيه لأن النوم وفاة لما بينها وبين الموت من المشاكلة في زوال الإحساس(3/350)
ج 3 ، ص : 351
وغفلة الحواس الظاهرة والباطنة وفقد الشعور والتمييز «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ» كسبتم وفعلتم بجوارحكم «بِالنَّهارِ» مما يستحق الثواب ويستوجب العقاب «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» يوقظكم بالنهار بعد استيفاء أجل نومكم المعبر عنه بالتوفي ولا يفهم من هذا أن اللّه تعالى لا يعلم ما جرحنا بالليل ولا أنه لا يتوفانا في النهار لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه كما أن انتفاء الدليل لا يستلزم انتفاء المدلول وأن عدم وجود الخلق من الأزل لا يستوجب عدم وجود الخالق لتولي أمرهم في الآخرة كما كان يتولى أمرهم في الدنيا وقيل الردّ إلى من ربّاك خير من البقاء مع من آذاك «لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى» لاستيفاء أعماركم والفعل متعلق بيبعثكم «ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة «ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 60» في هذه الدنيا لا يخفى عليه شيء من أمركم حتى انه يعلم ما ترونه في نومكم وما توقعون فيه من حركات وسكنات راجع الآية 12 من سورة الزمر الآتية ،
قال تعالى «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» المتسلط عليهم بالغلبة المتعالي عليهم بالقدرة راجع معنى الفوقية في الآية 18 المارة «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» من ملائكة يسجلون أعمالكم راجع الآية 18 من سورة ق في ج 1 «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» بانقضاء أجله المبرم «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ» الرسل الموكلون بالوفاة «لا يُفَرِّطُونَ 61» في أمرنا ولا يتوانون فيه البتة.
مطلب الجمع بين آيات الوفاة وسرعة الحساب وقول الفلاسفة فيه ومعنى يذيق بعضكم بأس بعض :
واعلم أن المتوفي في الحقيقة هو اللّه تعالى فإذا حضر أجل العبد أمر اللّه الملك بقبض روحه والملك الموكل بقبض الأرواح له أعوان وكل أمرهم إليه فيأمرهم بنزع روحه حتى إذا وصلت للحلقوم قبضها هو بنفسه ، وهذا التأويل يجمع بين قوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) الآية 42 من الزمر المنوه بها أعلاه وقوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) الآية 12 من سورة السجدة الآتية وبين هذه الآية تيقظ «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» بعد استيفاء آجالهم في البرزخ وإنما قال تعالى الحق لأنهم أي الكفرة كانوا يزعمون أن مولاهم الصنم الذي اتخذوه فنبههم اللّه بأن زعمهم(3/351)
ج 3 ، ص : 352
ذلك باطل من أصله وقد أظهر لهم بطلانه وبين لهم أنه هو سيدهم ومالكهم لا غير فتنبه أيها العاقل «أَلا لَهُ الْحُكْمُ» وحده يومئذ في حسابهم على ما كان منهم «وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ 62» لا يحتاج إلى رؤية وفكر ولا يشغله حساب بعض عن آخرين يحاسب ، الخلائق كلها بنفسه محاسبة رجل واحد في أسرع وقت وأقصر زمان والمقصود منه على زعم الفلاسفة استعلام ما بقي من الدخل والخرج ولما كان لكل ذرة من الأعمال أثر حسن أو قبيح بحسب حسن العمل وقبحه إذ لا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها معارضا للبعض وبعد حصول المعارضة يبقى في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك وهو إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه فينقطع فيه تعلق النفس من البدن فعبّر عن هذه الحالة بسرعة الحساب وزعمهم هذا هو أن كثرة الأفعال وتكررها يوجب حدوث الملكات الراسخة وأنه يجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل كان يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد من تلك الأعمال أثر بوجه ما في حصول تلك الملكة وحينئذ يقال إن الأفعال الصادرة من اليد هي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فتكون الأيدي والأرجل شاهدة على الإنسان بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة من هذه الجوارح فكأن ذلك الصدور جاريا مجرى الشهادة بحصول تلك الآثار في جواهر النفس وعلى هذا فيقصد من الحساب ما ذكر آنفا وزعم من نقل هذا عنهم أنه من تطبيق الحكمة النبوية على الحكم الفلسفية ، قال الآلوسي رحمه اللّه متمثلا في هذا البيت :
راحت مشرقة ورحت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
أي أن هذا الذي تقوله الفلاسفة لا ينطبق على ما نحن فيه ولا يقرب منه إلا كقرب المشرق من المغرب وأنا أتمثل بقول الآخر :
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك اللّه كيف يلتقيان
فالثريا شامية إذا ما استهلت وسهيل إذا ما استهل يمان(3/352)
ج 3 ، ص : 353
ولا يرد هنا قولهم إن اللّه تعالى لا يتولى حسابهم بنفسه لقوله جل قوله (لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...
وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) الآية 77 من آل عمران في ج 3 ، لأن الكلام غير المحاسبة أي لا يكلمهم كما يكلم المؤمنين ولا ينظر إليهم نظرهم لأن الكلام والنظر يختلفان باختلاف المكلم والمكلم وبحالة الرضا والغضب ، تدبر.
قال تعالى «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ» ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمه الرياح «وَالْبَحْرِ» ظلماته المارة في الآية 38 وهي ثلاثة والرابعة ظلمته لأن البحر كلما عمق اشتد سواده فتراه في الساحل أبيض فإذا سرت فيه ازداد عمقه فصار أخضر فأزرق فأسود ، أي إذا ضللتم الطرق فيها وتحيرتم أأصنامكم تخلصكم من الخوف الذي يلحقكم من التيه والغرق وترشدكم إلى طريق النجاة والأمن أم اللّه الذي «تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً» جهرا وعلانية «وَخُفْيَةً» سرا في أنفسكم وتقولون حينما يشتد بكم الفزع «لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ» الشدة المؤدية للهلاك يا إلهنا الحق ومولانا الصدق «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 63» لك إحسانك علينا وإنعامك ونؤمن بك وبكتابك ورسلك «قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء الجاحدين إن أجابوك وإن لم «اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها» من تلك الظلمات المؤدية لهلاككم «وَ» وينجيكم أيضا هو وحده «مِنْ كُلِّ كَرْبٍ» لا أحد غيره «ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ 64» به غيره بعد إنجائكم وتكفرون نعمه التي أسداها لكم وتنسون لطفه بكم ، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة افعلوا ما شئتم وتحصنوا بما تصورتم فلا وزر لكم منه لأنه «هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ» فيمطركم به كما أمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل راجع قصتهما في الآية 82 من سورة هود المارة والآية من آخر سورة الفيل في ج 1 «أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» كما خسف بقارون ورفيقه المار ذكره في الآية 82 من سورة القصص في ج 1 ، وهذا مثل للإهلاك في البحر ، أما الإهلاك في البر فهو المبين بقوله عز قوله «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» يخلطكم خلط اضطراب فيجعلكم فرقا مختلفين يتعصب بعضكم لبعض ضد الآخرين منكم فتقتتلون وتتباغضون ، قال السلمي : (3/353)
ج 3 ، ص : 354
وكتيبة لبّستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي
«وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» أي يقتل بعضكم بعضا ، والبأس يطلق على الموت والسيف والشدة والمكروه كما أذاق ذلك بني إسرائيل إذ لم يقبل توبتهم إلا بقتل أنفسهم ففعلوا لأجل قبول توبتهم تخلصا من العذاب الأخروي الدائم لأنهم رحمهم اللّه عرفوا أن هذه الدنيا فانية وعذابها مهما كان عظيما فهو فان أيضا فاختاروا الدار الباقية طلبا لرضاء ربهم ففادوا بأنفسهم.
راجع قصتهم في الآية 54 من سورة البقرة في ج 3 ، جاء في الخبر عن سيد البشر أنه قال : سألت اللّه أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف.
وروى البخاري عن جابر قال : لما نزلت (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) الآية المارة قال أعوذ بوجهك (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال أعوذ بوجهك (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) قال هذا أهون أو هذا أيسر.
وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني أمية دخل فركع ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.
وأخرج عن خباب بن الأرت قال : صلى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم صلاة فأطالها فقالوا يا رسول اللّه صليت صلاة لم تكن تصليها قال أجل إنها صلاة رغبة ورهبة إني سألت اللّه تعالى ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها.
والأخبار في هذا كثيرة ولم نأت بها استدلالا على سبب النزول لأن منها ما لا يصح لعدم وقوعه إلا بعد نزول الآية بسنين وإنما أتينا بها استدلالا لإيقاع البأس بين هذه الأمة من بعضها وهو واقع لا محالة ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه ، ولهذا فإن من قال إنها نزلت في أمة خاصة لا يصح إلا إذا قيل باعتبار آخرها ولهذا قال أبو العاليه في هذه الآية : هن أربع وكلهنّ عذاب وقعت اثنتان(3/354)
ج 3 ، ص : 355
بعد موت النبي صلّى اللّه عليه وسلم بخمس وعشرين سنة يريد حادثة عثمان رضي اللّه عنه وما وقع بين علي كرم اللّه وجهه ومعاوية إذ ألبسوا شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض وبقيت
اثنتان لا بد واقعتان وهما الخسف والرجم وبهذا قال أبي بن كعب ومجاهد وغيرهما فيا أكرم الرسل «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونكررها بالوعد والوعيد والرجاء والخوف والرضاء والغضب «لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ 65» معانيها ويتدبرون مغازيها فينزجروا عما هم فيه «وَكَذَّبَ بِهِ» بهذا القرآن «قَوْمُكَ» يا محمد «وَهُوَ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه ولا أصدق منه «قُلْ» لهم إذ جرأوا على ذلك قوا أنفسكم من عذاب اللّه لأني «لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ 66» حتى أقيكم منه ولا بمنتقم حتى أجازيكم عليه ولا بحفيظ حتى أحفظكم من عذابه إنما أنا منذر مبلغ مرشد فقط ولكن عليكم أن تعلموا أن «لِكُلِّ نَبَإٍ» من أخبار القرآن «مُسْتَقَرٌّ» ينتهي إليه إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا في الوقت والمكان الذي قدر وقوعه فيه لا يتقدم ولا يتأخر ولا يتخلف ، ولا تزالون أيها الكفرة تتلبسون في حالتي التكذيب والجحود حتى يأتيكم أمر اللّه «وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 67» إذ ذاك مغبة عملكم وقساوة جزائه ، وهذه الآية محكمة بدليل وقوع التهديد والوعيد في آخرها ، وما قيل إنها منسوخة بآية السيف قيل لا يصح لأن صاحب هذا القيل فسر وكيل بعبارة (لم أومر بحربكم) وهذا المعنى أبعد من عنقاء مغرب لأن وكيلا بمعنى حفيظ ورقيب ومدافع وزعيم وحميل ومحام ليس إلا ومتى كان كذلك فإنه إنما يطالبهم بالظاهر من الإقرار والعمل لا بما تحتويه ضمائرهم بدلالة قوله (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) تدبر هذا.
مطلب النهي عن مجالسة الغواة وذم اللغو وتهديد فاعليه ومدح من يعرض عنه :
واعلم أن اللّه تعالى يقول «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا» المنزلة عليك يا سيد الرسل وهذا خطاب له ولأمته لأن الآية صالحة للعموم أكثر منها للخصوص ، وهذا الخوض هو ما يقع منهم من السخرية والاستهزاء والطعن والذم والتكذيب والإنكار بوجود الإله والنبوة والمعاد ومعناه لغة الشروع في الماء والعبور فيه ويستعار للأخذ بالحديث والشروع فيه بطريق التنقيد والتفنيد ، يقال(3/355)
ج 3 ، ص : 356
تخاوضوا وتفاوضوا في الحديث وأكثر استعماله في ذلك قال تعالى (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) الآية 45 من سورة المدثر المارة في ج 1 ، وقال تعالى (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) الآية 65 من سورة التوبة في ج 3 ، وقال تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) الآية 7 منها وأكثر استعمالها في الذم ، أي إذا رأيت أيها الإنسان الخوض من أناس ما في آيات ربك «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» واحذر مجالستهم وتباعد عنهم وإياك مقاربتهم «حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» مما يحل سماعه ويندب الاشتراك فيه فجالسهم «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ» على الفرض والتقدير الاعراض عنهم ومجالستهم بسائق الغفلة التي هي من شأن البشر أو انشغال فكرك باللّه.
هذا على أن الخطاب لسيد المخاطبين إذ لم يقع منه قط شيء من ذلك وأنّى للشيطان أن يشغل فكره وليس له عليه سبيل ولهذا عبر بان الشرطية المؤكدة بما لأنهما تفيد الشك وإذا كان الخطاب لغيره فلا مانع من وقوعه ، والنسيان مرفوع إثمه عن الناس إذا ترك حين تذكر بأن فارقهم حالا أو أنه جالسهم قبل الخوض فقام زمنه حالا وإلا فهو مؤاخذ به بلا شك ويخشى على إيمانه إذا داوم الجلوس معهم بعد الخوض وحكم كل مجلس يتعدى فيه على حدود اللّه كذلك «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 68» أنفسهم بالتجاوز على آيات اللّه وهذا نهي قاطع ألا فلينته الغافلون عنه ، نزلت هذه الآية في جماعة من المؤمنين كانوا يجالسون المشركين بأنديتهم فيقعون بالاستهزاء بالقرآن والسخرية بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم والجحود للّه فنهى اللّه رسوله والمؤمنين كافة عن مجالستهم في تلك الحالة وإنما كان الخطاب لحضرة الرسول الذي لم يجالسهم في تلك الحالات وأراد المؤمنين الذين وقع منهم ذلك ليكون المنع أبلغ والنّهي أشد ، هذا وقد مدح اللّه الذين يعرضون عن اللغو فقال جل قوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) الآية 3 من المؤمنين الآتية ، وقال عز قوله (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) الآية 55 من القصص ، وقال تعالى قوله (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) الآية 72 من الفرقان المارتين في ج 1 ، هذا مطلق اللغو فكيف بما يقع في أمور الدين وفي اللّه وكتبه ورسله إذ يجب المنع منه باليد فإن لم يستطع فباللسان وعليه حالا ترك ذلك المجلس ، فعلى العاقل(3/356)
ج 3 ، ص : 357
أن يتجنب اللغو ومجالسة أهله لئلا يعرض نفسه لما يكره في الدنيا والآخرة ، واعلم أن النسيان الذي لا يكون مبعثه انشغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية مما لم يكن في الأفعال البلاغية والعبادات جائز بالنسبة لحضرة الرسول الأعظم أما النسيان الذي في الأقوال البلاغية والعبارات فهو مستحيل عليه وكذلك السهو والخطأ في شيء من ذلك فهو ممتنع في حقه قطعا ، أما السهو والخطأ والنسيان في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ في الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة ولا ما يتعلق فيها وكل ما لا يضاف إلى وحي فهو جائز في حقه صلّى اللّه عليه وسلم إذ لا مفسدة فيه ولا يجوز عليهم أي الأنبياء أجمع خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا ولا خطأ لا في صحة ولا في مرض ولا في رضى ولا في غضب وهنا يؤول قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) الآية من سورة والليل المارة في ج 1 الذي استدل به بعض الشيعة على عدم جواز نسبة النسيان له مطلقا في كل ما يؤديه عن اللّه تعالى من القرآن والوحي لما فيه من المفسدة أما فيما عدا ذلك مما لم يؤد إلى إخلال بالدين فهو جائز وهذا هو القول الجامع بين قول أهل السنة والجماعة وبين إخوانهم الشيعة إذا فلا منافاة ولا اختلاف وهكذا الأنبياء كافة عليهم الصلاة والسلام.
هذا وإن سيرة حضرة الرسول وحالته وكلامه وأفعاله مجموعة يفتى بها على ممر الزمان ويتناولها المؤمن والمنافق والمخالف والموافق والمرتاب والمصدق فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة واحدة ولو كان لنقل عنه كما نقل سهوه في الصلاة في قصة ذي اليدين وغيرها ونومه عنها وانشغاله في حادثة الخندق وكما نقل عنه استدراك رأيه في تلقيح النخل وقوله بعد ذلك أنتم أعلم بأمور دنياكم وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك من الاعتقادات في أمور الدنيا فلم يمتنع نسبتها إليه وإلى غيره من إخوانه الأنبياء عليهم السلام ، ولهذا البحث صلة في الآية 53 من سورة الحج في ج 3 ، وفي الآية 121 من سورة طه المارة في ج 1 فراجعها ، قال تعالى «وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ» قبائح أحوال الخائضين وأعمالهم «مِنْ حِسابِهِمْ» آثامهم التي يحاسبون عليها وجزاؤهم التي يعذبون بسببها «مِنْ شَيْ ءٍ» أبدا وجيء بمن لتأكيد الاستغراق إذا كانوا متقين ذلك «وَلكِنْ ذِكْرى »(3/357)
ج 3 ، ص : 358
أي عليهم أن يتذكروا ويتعظوا وينبهوا غيرهم ويمنعوهم بما أمكن من العظة ويظهروا لهم الكراهة ليتيقظوا «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» 69 ذلك الخوض ويتركونه وينفضوا عنه حياء أو كراهية لمساءتهم ، نزلت هذه الآية لما قال المسلمون لئن كنا نقوم كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطيع أن نجلس بالمسجد الحرام ولا نطوف بالبيت وإنا نخاف الإثم إذا لم ننهاهم فبين اللّه تعالى أن لا بأس لمن يتقي أعمال الخائضين والاكتفاء بتذكيرهم على ما يدل على المنع ، هذا إذا كانوا في المسجد ولم يقدروا على منعهم أما في غير المسجد فعليهم ترك المكان الذي هم فيه إذا لم يقدروا على منعهم من الخوض ، وهذه الآية محكمة لأنها خير من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ راجع الآية 41 من سورة يونس المارة ، وغاية معناها أن كل إنسان مختص بحساب نفسه ، وما قيل إنها منسوخة بآية النساء 14 في ج 3 لا وجه له لأن تلك مؤيدة هذه ومؤكدة لها باللفظ والمعنى وهي مدنية وهذه مكية تدبر ، راجع تمحيص القول في هذا عند تفسيرها ، ومن هنا يعلم كراهة جلوس المرء في المجالس التي يقع اللهو واللعب واللغو والرفث وغيره إذا لم يستطع النهي عنه ، روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
أقول ولا ضرورة تقضي بأن يتصف الرجل بضعف الإيمان لأنه لا يقدر إلا على عدم رضاء قلبه في ذلك بل عليه أن يترك هذا المجلس على الأقل فإن بقائه مع عدم قدرته على النهي فعلا أو قولا رضاء به وبما يقع فيه والرضاء بالذنب ذنب كما أن الرضاء بالكفر كفر ، لهذا فإن الأحسن للعاقل التقي أن يتجنب هكذا مجالس سوء ويحتفظ بقوة دينه إذ يجب النهي على القادر باللسان وإن لم يسمع منه لأن العمل ثمرة الإيمان وأعلى الإيمان النهي باليد حتى إذا قتل كان شهيدا ، قال تعالى حاكيا حال لقمان (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) الآية 18 من سورته الآية إذ أمره بالصبر على ما يصيبه من جراء ذلك وإن النهي بالكلام قد ينال منه في هذا الزمن ما يفضي إلى التحمل(3/358)
ج 3 ، ص : 359
والصبر أو الإهانة والضرب فلذلك الأحسن بمقام الرجل الاعراض بالكلية ليدخل في قوله تعالى (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) الآية 73 من سورة الفرقان في ج 1 وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 53 من سورة يوسف والآية 113 من سورة هود المارتين والآية 36 من سورة الإسراء في ج 1 وله صلة في الآية 3 من سورة المؤمنين الآتية وفي الآية 254 من سورة البقرة في ج 3 على أنه يكفي في هذا الباب الآيتان المفسرتان لمن كان له قلب حي وفي هذه الآية الثالثة الذي يقول اللّه جل جلاله فيها «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً» أعرض عنهم لا تخالطهم أبدا لأنهم جهلوا معبودهم الحق ولم يعرفوا قدرته «وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بزخرفها وخدعتهم بشهواتها وأطمعتهم في الباطل إذ غلب حبها على قلوبهم فأفقدتهم الوعي ومالوا عن السداد وانهكوا في الفساد والإفساد «وَذَكِّرْ بِهِ» يا سيد الرسل خاصتك وقومك واتلوه عليهم فإن فيه حياتهم وصلاحهم لاحتوائه على علوم الأولين والآخرين وأدم قراءته عليهم مخافة «أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ» ترتهن
وتستسلم قال زهير :
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع وقلبي مبسل علقا
أي لئلا تحبس نفس «بِما كَسَبَتْ» من السوء فتهلك به وتحرم من الثواب في يوم «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ» لأن كلا مشغول بنفسه فلا قريب ولا صديق ينفع ولا شفيع إلا بإذن اللّه لمن يأذن به ويرتضيه راجع الآية 28 من سورة الأنبياء الآتية ، واعلم أن النفس الخبيثة لا مخلص لها من العذاب «وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ» تفتدي بكل فداء لننجو به من العذاب «لا يُؤْخَذْ مِنْها» ذلك إذ لا يقبل الفداء لو فرض أن هناك فداء ولكن لا فداء ولا يملك أحد شيئا لأن الملك كله للّه ، وسمي الفداء عدلا لأن الفادي يعدل المفدى بمثله «أُولئِكَ» المتخذون دينهم لهوا ولعبا المغرورون في الحياة الدنيا هم «الَّذِينَ أُبْسِلُوا» أسلموا أنفسهم للهلاك وحبسوها بالعذاب «بِما كَسَبُوا» من القبائح في دنياهم ولم يتورعوا حتى عن مجالسة الأشقياء «لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ 70» بسبب كفرهم الذي ماتوا عليه ولا وجه(3/359)
ج 3 ، ص : 360
لقول من قال إن هذة الآية منسوخة بآية السيف لأنها خارجة مخرج التهديد فهي على حد قوله تعالى (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) الآية 13 من سورة المدثر في ج 1 ، وان ما من شأنها ذلك لا يدخلها النسخ لأنها من قبيل الإخبار والإخبار لا يدخلها النسخ ولهذا فهي محكمة ، قال تعالى يا سيد الرسل
«قُلْ» لهؤلاء المشركين الذين يدعونك لعبادة آلهتهم «أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا» ونترك النافع الضار «وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا» فنرجع إلى الشرك السافل لأن العقب مؤخر الرجل يقال رجع على عقبه إذا انثنى راجعا ، أي أنرجع إلى الضلال «بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ» للإسلام أيكون هذا منا ونحن عقلاء فنصير «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ» خبطته «الشَّياطِينُ» المبثوثة «فِي الْأَرْضِ» وذهبت به في هوئها ، والهوى النزول من الأعلى إلى الأسفل على غير انتظام فصار «حَيْرانَ» تائها لا يدري ما يعمل وهذا الممثل به «لَهُ أَصْحابٌ» رفقاء «يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى» لينقذوه مما هو فيه فيقولون له ائتنا» لتنجو وهو لا يأتيهم لاستيلاء الحيرة عليه ، هذا مثل ضربه اللّه تعالى لمن يدعو لعبادة الأصنام ولمن يدعو لعبادة الملك العلام يقول فيه مثل هذين كمثل رجل في رفقة ضل عن الطريق المستقيم فطفق أصحابه ينادونه هلم إلينا لا تضل فتهلك ، وشرع الشيطان يدعوه إليه ليوغله في الحيرة فاحتار إلى أين يذهب فإن أجاب الشيطان هلك وإن أجاب أصحابه نجى وفيها دلالة على وجود الغيلان المتعارفة على ألسنة العامة قديما وحديثا المعنية بقوله صلى اللّه عليه وسلم إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان راجع الآية 29 من سورة الأحقاف الآتية وما ترشدك إليها لتثق بوجود الجن وأنهم كالإنس ، قيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه وابنه عبد الرحمن إذ كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان بعد أن صار كامل الإيمان وأن أباه يدعوه للإسلام ليكون في المسلمين إمام وإن توجه الخطاب إلى سيد المخاطبين كان تعظيما لشأن ابي بكر فعلى فرض صحته لا يمنع أن تكون الآية عامة مطلقة لعموم لفظها لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب إلا أن هذا القيل لا يوثق به إذ لم ينزل في عبد الرحمن قرآن كما سنراه في الآية 17 من سورة
الأحقاف الآتية ومما يؤيد عمومها(3/360)
ج 3 ، ص : 361
ضرب المثل فيها إذ لا يتصور الرّد في الشرك منه رضي اللّه عنه كما لا يتصور لحضرة المخاطب في هذه الآية ان يدعو أحدا أو شيئا من دون اللّه وعليه يكون المعنى أيليق بنا معشر المؤمنين ذلك على طريق الاستفهام الإنكاري أي كلا لا يليق أبدا فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء التائهين الحائرين «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى » الموصل إلى المطلوب الذي ما وراءه ضلال البته فاتبعوه أيها الناس تهتدوا فما بعده إلا الضلال فهلموا إليه لأنا الزمنا «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ» وننقاد «لِرَبِّ الْعالَمِينَ 71» لا لغيره ونخلص له العبادة وحده ونرفض ما سواه ، قال تعالى «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليكم أيها المؤمنون «وَاتَّقُوهُ» أن يراكم ذلك الرب العظيم حيث نهاكم فهو الذي بدأ خلقكم «وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 72» يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وهذا الإله الجليل الذي أنشأكم من لا شيء «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» خلقا متلبسا «بِالْحَقِّ» لا باطلا ولا عبثا «وَيَوْمَ يَقُولُ» أي اذكر يا محمد لقومك عظمته وقدرته وأخبرهم بأنه إذا أراد إيجاد شيء أو إعدامه يقول له «كُنْ فَيَكُونُ» حالا بين الكاف والنون «قَوْلُهُ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه ولا تخلّف له «وَلَهُ الْمُلْكُ» بما فيه فلا ترى في ذلك اليوم الذي تجتمع فيه الخلائق من يدعيه وكل من كان له ملك في الدنيا من الجبابرة والملوك يتنصّل عنه إذ يكون الكل للّه «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ويسمى بوفا وتسميه العامة (طواطه)
مطلب في الصور وأن آزر هو أبو ابراهيم لا غير وما وقع له مع أبيه وقومه وملكهم :
روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : جاء اعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال ما الصور ؟ قال قرن ينفخ فيه أخرجه أبو داود والترمذي وهو بلغة أهل اليمن ومن هنا اتخذه الملوك وجعلوا النداء به علامة على الجمع والطلب وغيره ، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف أنتم وقد النقم صاحب القرن القرن وحنا جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول اللّه فقال كيف نفعل يا رسول اللّه وكيف نقول قال قولوا حسبنا(3/361)
ج 3 ، ص : 362
اللّه ونعم الوكيل على اللّه توكلنا ، وهذا أحسن من تفسيره بأنه جمع صورة والنفخ فيه إحياؤها لعدم ما يؤيده ولأن جمع الصورة صور بفتح الواو ولم يقرأ بهذه القراءة إلا قتادة راجع الآية 68 من سورة الزمر الآتية تجد ما يتعلق بهذا مفصلا ، واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الكبير الفعال لذلك كله وكل شيء هو «عالِمُ الْغَيْبِ» الأسرار الخفية «وَالشَّهادَةِ» الأمور العلنية لا يخفى عليه شيء من أعمال وأقوال خلقه «وَهُوَ الْحَكِيمُ» في تدبير خلقه «الْخَبِيرُ 13» بما يصلحهم وما يفعلونه ويكتمونه لا يخفى عليه شيء أبدا «وَ» اذكر لقومك يا سيد الرسل «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ» قيل هذا لقبه واسمه تارخ مثل يعقوب وإسرائيل ، وإنما سماه اللّه بلقبه دون اسمه لأنه مشهور به أكثر من الاسم وهذا أي كون آزر أباه لا عمه أصح ما قيل في هذا من أقوال كثيرة بدليل ما أخرج البخاري في افراده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر فترة وغبرة ، فلم يبق للقول بأنه عمه قيمة ما بعد صراحة القرآن والحديث وقد ثبت أن اسمه الشائع هو آزر كما جاء نصا لا تارخ كما يقال ، ثم بين ما قاله لأبيه يقوله يا أبت «أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» من دون اللّه الواحد «إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ» السائرين على سيرتك «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 74» ظاهر لا يخفى على أحد ممن له مسكة من عقل أو ذرة من إدراك فقال له إذا نحن في ضلال قال لأنكم تعبدون حجرا وأخشابا لا تضر ولا تنفع ، وإنما ذكر اللّه تعالى حبيبه في هذه القصة توبيخا لقومه الذين يعبدون الأوثان وتعريضا للاحتجاج عليهم بها لأنهم كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام المعظم لدى كل أمة «وَكَذلِكَ» مثل ما أريناه قبح الشرك وعرفناه فيه «نُرِي إِبْراهِيمَ» جاء بالظاهر بدل المضمر إذ صرح باسمه تعظيما له ولهذا
لم يقل «مَلَكُوتَ» مبالغة ملك كالرحموت مبالغة الرحمة والجبروت والرهبوت والرغبوت مبالغة الجبر والرهبة والرغبة زيد في بعضها الواو والتاء وفي بعضها الواو فقط وفي بعضها التاء للمبالغة كما زيد في طالوت وجالوت وهاروت وماروت وأصلها الطول والجول وهار ومار أي تطلعه على ما في «السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من عجائب ولطائف وبدائع وذلك لما أراه اللّه تعالى أن أباه وقومه(3/362)
ج 3 ، ص : 363
على غير الحق انتقدهم وخالفهم فجزاه اللّه تعالى بأن فرج له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى إلى العرش والكرسي وفرج له الأرضين فنظر فيهن حتى أسفلهن ورأى ما فيهن من عجائب وبدائع أيضا ليطمئن بعلم ما فيهن «وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 75» بخالقهن إيقانا كاملا زيادة على إيقانه على حد قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية 135 من النساء في ج 3 ، واعلم أن الإيقان عبارة عن علم يحصل بالتأمل بعد زوال الشبهة لأن الإنسان أول أمره لا ينفك عن شبهة وشك فإذا كثرت الدلائل عليه وتوافقت البراهين وتطابقت الحجج صار سببا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب فيعلمه حسا كما علمه خبرا ويلمه فعلا كما تكلم به قولا ويراه عيانا كما سمعه بيانا ، قال البغوي وروي عن سلمان ورفعه إلى علي عليه السلام قال : لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر رجلا آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال تبارك وتعالى يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعو على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته وفي رواية وإن تولى فإن جهنم من ورائه وظاهر القرآن أن هذه الرؤية بصرية لا قلبية إذ لا يوجد ما يصرفها عن الظاهر الحقيقي ولا يجنح إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة تأمل قوله تعالى «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» أظلم وغطّى كل شيء بسواده لأن الجنّ في الأصل الستر عن الحاسة ولمّا أمعن عليه السلام النظر في السماء «رَأى كَوْكَباً» هو الزهراء لأنها من القدر الأول من حيث قوة نورها كالسماك الأعزل والدبرين راجع الآية 36 من سورة الحجر المارة تعلم هذا «قالَ هذا رَبِّي» يخاطب أهله وقومه ويستفهم منهم على طريق الإنكار والاستهزاء لأنهم كانوا يعبدون الكواكب وقد صنعوا لكل كوكب صنما بما يناسبه ووضعوها في بيت العبادة ليسجدوا لها ويطلبوا حاجتهم منها وكأنهم قالوا له إنه أحد الأرباب «فَلَمَّا أَفَلَ» غاب وتوارى «قالَ» لهم «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ 76» لأن حق الرب أن يكون باقيا أبدا حاضرا لإغاثة مربوبيه ثابتا لا يتغير لأن من يتبدل أو يتغير من
حال(3/363)
ج 3 ، ص : 364
إلى حال أو يغيب كهذا لا يستحق العبادة فكيف تتخذونه ربا وهو يطرأ عليه ما يطرأ على المخلوق فلو كان ربا لصان نفسه من ذلك قالوا لنا رب أكبر منه «فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً» طالعا خاطبهم أيضا «قالَ هذا رَبِّي» الذي تزعمون أنه أكبر من ذلك قالوا له نعم «فَلَمَّا أَفَلَ قالَ» لهم هذا وذاك سواء وكل منهما لا يصلح للربوبية وإني «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي» إلى الطريق القويم المؤدي إلى معرفة حقيقته وهذا على حد قوله تعالى (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) الآية 43 من سورة يس المارة في ج 1 أي لئن لم يهدكم ربكم وهو أبلغ في قبول الدعوة وهذا القول منه على سبيل إرخاء العنان مجاراة لأبيه وقومه المولعين بعبادة الكواكب لأن المستدل على فساد قول يحكيه أولا ثم يكر عليه بالابطال ثم نبه قومه بما خص به نفسه وعناهم بقوله جوابا لقسمه «لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ 77» إذا اتخذت ربا سواه لأن هذين الكوكبين لا تصلح للألوهية لأنهما مسيرتين مسخرتين فإذا اتخذتهما إلها فأنا ضال إذا يريد بهذا أباه وقومه ، قالوا له إن لنا ربا أكبر وأكبر من هذين «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ» من الزهراء والقمر حقيقة «فَلَمَّا أَفَلَتْ» كالأولين وتوارت عن الأنظار ومحي نورها ولم يبق له أثر بعد غيابها «قالَ يا قَوْمِ» هذا أيضا ليس بإله لأنه اعتراه ما اعترى الأولين لذلك أقول لكم «إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 78» في الإله الواحد الذي لا يتغير ولا يطرأ عليه ما يطرأ على خلقه مما هو قابل للتحول والانتقال فيتأثر بعوامل طبيعية وغير طبيعية وقد نبههم على خطأهم هذا فيما يعتقدون ألوهيته تدريجا وأفهمهم بأنها غير صالحة للعبادة وأرشدهم إلى النظر والاستدلال واحتج عليهم بالأقوال دون البزوغ مع أن كلا منهما انتقال وتبدل من حال
لآخر لأنه أبلغ وأظهر لكونه انتقال مع خفاء واحتجاب ، والبزوغ انتقال مع وضوح وظهور ، وقد أراد عليه السلام إبطال قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لوصرح لهم بالدعوة إلى اللّه رأسا لم يقبلوا ولم يلتفتوا إليه فمال إلى طريق استدراجهم لاستماع هذه الحجج لأنه ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان(3/364)
ج 3 ، ص : 365
باللّه وحده وموقن بأن هذه الكواكب مخلوقة لله
لا تعبد ولا يليق بها أن تعبد وقصده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطال عبادتها ولما لم يقبلوا أعرض عنهم وقال معلنا براءته مما هم عليه من الشرك وعبادة الأوثان والكواكب مبينا الأسباب الداعية إلى عدم أهليتها للعبادة ومصرحا بعقيدته بقوله «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» شقهما بعضهما عن بعض وابتدعهما الذي دل عقلاء خلقه بتغيير الكواكب في السماء والأنهار في الأرض على أنه منشئهما وقادر على طمس الكواكب في السماء وتغوير الأنهار في الأرض «حَنِيفاً» مائلا عن كل ما تعبدونه وعن كل دين لا يكون مرماه عبادة اللّه الواحد الأحد «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 79» به غيره البتة ، وما قيل إن مخاطبة إبراهيم بلفظ الضلال وغيره كانت بقصد إيذاء أبيه لا صحة له لأن مثله لا يجوز أن يقع منه مثل ذلك كيف وقد وصفه اللّه بالحلم والحليم لا يستفزه الغضب ولا يليق أن يصدر منه بل لا يجوز أن ينسب صدور الجفاء منه على أبيه بل لا يتصور إيقاعه على الغير منه ، لهذا فإن هذا القيل مردود على أن ما صدر من إبراهيم عليه السلام على أبيه لا يعد من الإيذاء ولو فرض أنه نوع منه فلا يكون محرما لأنه للّه وفي طريق اللّه ويقصد إرشاده إلى اللّه وما قصد به إلا نفعه وخيره ورشده لا إضلاله واحترامه لا إهانته ، ولا يرد عليه أن موسى عليه السلام كلم فرعون باللين والرقة كما مر في الآية 44 فما بعدها من سورة طه المارة في ج 1 مراعاة لحق التربية وإبراهيم خاطب أباه بالخشونة والغلظة ولم يراع حق الأبوة لما ذكرنا ولم يذكر صاحب هذا القيل مخاطبته لأبيه في الآية 42 من سورة مريم فما بعدها المارة في ج 1 التي هي على غاية من اللين والأدب.
مطلب القساوة المنطقية مطلوبة ، وقصة إبراهيم ، وجواز حذف حرف الاستفهام :
هذا على أن الإنسان قد يقسو أحيانا على شخص لمنفعته وأي منفعة أكبر من الهداية إلى اللّه ، هذا والأمور بمقاصدها والأعمال بالنيات قال أبو تمام :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من رحم(3/365)
ج 3 ، ص : 366
وقال المعري في هذا المعنى :
اضرب وليدك وادلله على رشد ولا تقل هو طفل غير محتلم
فربّ شق برأس جرّ منفعة وقس على شق رأس السهم والقلم
وقال ابن خفاجه الأندلسي :
نبه وليدك من صباه بزجره فلربما أغضى هناك ذكاؤه
وانهره حتى تستهل دموعه في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه
فالسيف لا يذكو لكفك ناره حتى يسيل بصفحتيه دماؤه
هذا وكون الرفق أكثر تأثيرا على الإطلاق غير مسلم لأن المقامات متفاوته يدلك على هذا إرشاده تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم في دعاء قومه فمرة يقول له (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وتارة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقال لقمان عليه السلام ضرب الوالد ولده كالسماد للزرع ، وقد أجاز الشارع ضرب الولد للتعليم ولكفه عن المساويء ، حتى ان اليتيم الذي أرضى اللّه به يجوز ضربه لهذه الغابة ، لأن المنهي عنه الضرب عبثا أو عدوانا ، قال تعالى «وَحاجَّهُ قَوْمُهُ» خاصموء في توحيد اللّه لما أظهر عيوب آلهتهم وصرح لهم بعقيدته وصدع بما أمره اللّه به «قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ» الحق الذي يجب أن يعبد «وَقَدْ هَدانِ» إلى سبيله المستقيم وتخوفوني بآلهتكم العاجزة المحتاجة لكم «وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ» بإلهي القادر القوي المستغني عن كل شيء ، وإن أوثانكم مهما بلغ أمرها لا وزن لها ولا قيمة عندي ، لأنها أحجار وأخشاب من صنع أيديكم لا تقدر أن تدفع ضرا عن نفسها ولا تضر من يعتدي عليها ولا تنفع من يلتجىء إليها ، وإني معتمد على ربّي لا أخاف من كل شيء تنصورونه أو تظنون أنه يوقع في مكروها أبدا «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللّه رَبِّي شَيْئاً» من إضراري وإذلالي فهو وحده القادر على ذلك ، وهو الذي يخاف ويخشى منه ، وهذا الاستثناء منقطع لا علاقة له بما قبله ، وإلا فيه بمعنى لكن «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» أي وسع علمه كل شيء لأن علما تمييز محول عن الفاعل ، كقولك تفقأ زيد شحما أي تفقأ شحم زيد ، فلا يخرج شيء عن علم اللّه ، ولا يصاب أحد بشيء إلا بعلمه ، فهو المحيط بكل شيء «أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ 80»(3/366)
ج 3 ، ص : 367
يا قوم فتميزون بين القادر والعاجز وتعلمون أن الضار والنافع هو خالق السموات والأرض وما فيهما
«وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ» مع علمي أن الأمن والخوف من اللّه لا من أوثانكم «وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ» من لا يصلح للإلهية وإن الإشراك أعظم ذنب ارتكب على وجه الأرض ، وإذا تدبرتم وتفكرتم علمتم أن هذا مما «لَمْ يُنَزِّلْ» اللّه تعالى «بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً» حجة ولا برهانا لأن الإشراك محض اختلاق وبهت خالص وكذب مفترى ، وانكم تجرون الأمور معكوسة فتجعلون الأمن موضع الخوف والخوف موضع الأمن «فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ» أنا أم أنتم نبئوني «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 81» علما حقيقيا يعرف به الحق من الباطل ، ولم يقل فأيّنا احترازا من تزكية النفس ومن المكابرة في الرّد عليه عتوا وعنادا ، وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 24 من سورة سبأ الآتية ، على أني أقول لكم إن الأحق بالأمن من العذاب «الَّذِينَ آمَنُوا» إيمانا خالصا «وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» بشرك ، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين وقالوا أيّنا لا يظلم نفسه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم ليس ذلك إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية 13 من سورة لقمان الآتية ، تدل هذه الآية على أن من مات لا يشرك باللّه شيئا كانت عاقبته الأمن من النار أي من الخلود فيها ، لأن العصاة لا بد وأن يطهروا من درن عصيانهم فيها ، لأن من أسلم ولم يعمل خيرا ما ثم مات فجدير أن يدخل الجنة ، لأن الإيمان يجب ما قبله «أُولئِكَ» المؤمنون الموصوفون «لَهُمُ الْأَمْنُ» من مخاوف الدنيا والآخرة «وَهُمْ مُهْتَدُونَ 82» بهداية اللّه إلى سبيل الرشد والسداد وهذا فضل من اللّه تعالى وقضاء بين إبراهيم وقومه ، إذ بين فيه الذين يستحقون
الأمن من الذين يستوجبون الخوف «وَتِلْكَ حُجَّتُنا» الإشارة إلى ما حاج به إبراهيم قومه بما صار له من الغلبة عليهم بحكم اللّه القائل «آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ» بإلهام ووحي منا وهي حجة واضحة دامغة أفحمتهم وأخرستهم لأنهم تكلموا معه عن جهل ، وهو(3/367)
ج 3 ، ص : 368
خاطبهم عن علم «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ» من عبادنا بالعلم والنبوة والحكم والحكمة «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ»
برفعة من يشاء «عَلِيمٌ 83» بمن يؤهله لهذه الرفعة ، فهو جل شأنه لا يفضل أحدا على غيره ولا يعزّ ولا يذل ولا يغني ولا يفقر ولا يصح ولا يمرض ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع إلا لحكمة ، وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون أن نمرود بن كنعان أول من وضع تاج الملك على رأسه إذ لم يعرف قبله ، وأول من دعا الناس إلى عبادته ، ولم يعرف الناس قبله غير عبادة اللّه والأوثان ، وكان له كهان ومنجمون أخبروه بأنه يولد ولد في بلده يكون هلاكه على يده وزوال ملكه ، وكان هو رأى كوكبا طلع وقاد الشمس والقمر ، فانتبه فزعا مرعوبا مما رأى ، وقصها على السحرة والكهنة والمنجمين ، فأولوها بما ذكروا له فأمر بعزل الرجال عن النساء وذبح كل من يولد ونصب حراسا على النساء والحبالى ، وكانت أم إبراهيم صغيرة لا يظن فيها الحبل ، ولما أتمت مدتها خافت على مولودها من الذبح فأخفت نفسها عن الحرس حتى إذا وضعته جعلته في نهر يابس خارج البلدة وخبأته بين الحلفاء وأخبرت زوجها بذلك ، فذهب وحفر له سريا ووضعه فيه وسدّ بابه في حجرة خوفا عليه من السباع ، وصارت أمه تتعاهده وتتردد عليه خلسة فترضعه وتنظفه وتتركه بمكانه وتعود لبيتها ، وكانت تراه يمص إصبعيه فيخرج منها حليبا وعسلا وماء ، وتراه يشب في اليوم ما لا يشبه غيره في الشهر ، وهكذا جميع الأنبياء يكون نموهم واحدا وكلامهم مع أقوامهم واحدا وطريقهم مع ربهم واحدا ، لأن إلههم واحد يرسلهم على نهج واحد ويلهمهم الحجج المتوانقة ، كما أن رد أقوامهم عليهم متشابه ، قالوا ولما كبر أخرجته أمه من الرب وجاءت به إلى المدينة وكان من يراه لا يظنه من المواليد الذين ولدوا بعد الأمر بذبح الأولاد لكبر جثته وحسن مخاطبته وفصاحة لسانه ، وهذا من أسباب حفظ اللّه له ومن يحفظه لا خوف عليه من أحد البتة ، وقد أمنت أمه وأبوه عليه لأن أحدا لا
يشك أنه ولد بعد الأمر بذبح الأولاد ، وقالوا فقال لأمه ذات يوم يا أماه من ربي ؟ قالت أنا ، قال وأنت من ربك ؟ قالت أبوك ، قال ومن رب أبي ؟ قالت له أسكت وأخبرت زوجها ، وقالت لا شك(3/368)
ج 3 ، ص : 369
إن هذا المولود هو الذي أخبر عنه الكهنة بأنه يغير الدين ويسلب الملك من الملك ، وهو المقصود في الرؤيا التي رآها الملك وعبرها له المنجمون والسحرة ، فجاء إليه أبوه وقال له يا بني إن ربي الذي سألت عنه أمك هو النمروذ ، قال ومن رب النمروذ ؟
فاطمه وقال له أسكت ، وصارا دائما يحذرانه من أن يتكلم بذلك لئلا يصاب بسوء من قبل الملك ، وحذرا من أن يفسد دينهم وبسبب هلاك الملك وضياع الملك كما أخبر الكهنة ، ثم صنع له أبوه أصناما من حجر وأعطاه إياها ليبيعها في السوق ، فأخذها وصار ينادي من يشتري ما لا يضره ولا ينفعه ، وصار يسخر ويستهزىء بها ، فلما رآه أبواه كذلك أخذا منه الأصنام وحذراه من الطعن بها لئلا تمسه بسوء أي جنون ، ووضعاه في بيت فيه صنم عظيم ليستأنس به ويتمرن على عبادته ، ورغباه بذلك ، ولما رأى إصرارهم عليه بملازمة الصنم ترك أمه وأباه وصار يتفكر في مخلوقات اللّه ويتدبر في تكوين السموات والأرض والطير والحوت والحيوان والجماد ويهزأ بما عليه أبواه وقومه من توغلهم في عبادة الأصنام والكواكب ، ولم يزل يتحمل أبويه ويرفض عبادة الصنم الذي أمراه به ويعتبر بما في الكون من آيات وعظات حتى شرفه اللّه بالنبوة ، فأراد أن يبين لهم أن هذه الكواكب والأصنام المنكبين على عبادتها ليست بشيء ولا تصلح للعبادة ، لأن الكواكب من صنع اللّه الواحد والأصنام من صنع أيديهم وأنها لا تستحق العبادة ، وكذلك الشمس والقمر والكوكب ليست بآلهة ، فاجتمع بقومه ذات ليلة وخاطبهم بما قصه اللّه علينا من الآيات المارة ، وكانت كلها في ليلة واحدة لأن القمر كان متأخرا عن أول الليل فاحتج عليهم بالزهراء إذ كانت مشرفة على المغيب ، وبعد غيابها احتجّ عليهم بالقمر ، ولما طلعت الشمس غطت نوره فاحتج عليهم بذلك على طريق التقريع والتوبيخ ، فأراهم النقص الداخل على الزهراء بغيابها وعلى القمر بتغطية نوره بالشمس حتى صار كأن لم يكن ، ولما قالوا له هذا الإله الأكبر يعنون الشمس قال مصيرها كذلك ، وعلموا أنهم إذا أنكروا عليها الأفول وقت القول فإنها تغيب حتما بالمساء ، فكتوا وبهتوا من قوة حجته ، وقد أثبت خطأهم في اعتقادهم إلهيتها ، وبين لهم عدم صلاحيتها
للعبادة ، وأن الذي يجب أن يعبد هو الذي لا يفنى ولا يغيب ، وأن الكواكب والأوثان(3/369)
ج 3 ، ص : 370
عليها علائم النقص بادية والإله لا يكون إلا كاملا من كل وجه ، وأنه عليه السلام لم يقل لهم (أ هذا ربي) بحرف الاستفهام لأن العرب تكتفي بنغمة الصوت عن حرف الاستفهام ، وأن الأنبياء كلهم يحسنون اللغة العربية ، ولم ينزل وحي إلا بها ، كما أشرنا إليه في المقدمة ، وأنهم يسقطون حرف الاستفهام لهذه النكتة ، ومثله في القرآن كثير منه (فَهُمُ الْخالِدُونَ) الآية 34 من سورة الأنبياء الآتية ، ومنه (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) الآية 10 من سورة البلد المارة في ج 1 ، ومنه (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) الآية 87 من سورة هود المارة ، ومنها (تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ) الآية 32 من سورة الشعراء المارة في ج 1 ، وغيرها كثير ، وفي أقوال العرب كثير أيضا فمنه قوله :
ثم قالوا تحبّها قلت بهرا ومنه : فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وستأتي تتمة هذه القصة في الآية 83 فما بعدها من سورة الصافات الآتية إن شاء اللّه ، وإنما فعلنا ذلك أي لم نأت ببعض القصص كاملة حذرا من التكرار لأنا إذا اكملنا كل قصة عند ذكرها يحصل تطويل وملال ، وإذا أتينا بها تدريجا كنا قد أوفينا بوعدنا من عدم التكرار إلا لحاجة ماسة وأبقينا القارئ يتشوق لإكمالها وسيأتي في الآية 288 من البقرة في ج 3 ما يتعلق ببقية قصص إبراهيم مع قومه ، ومع ربه ، ومع النمروذ قبل إلقائه في النار ، وبعد تكسير الأصنام ، فراجعها.
قال تعالى بعد أن أظهره ونجاه وأهلك عدوه وأمره بالهجرة إلى الأرض المقدسة «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ» وهبنا لإسحق «يَعْقُوبَ» حفيدا لإبراهيم بحياته ، وفي هذه الآية بشارة من اللّه بطول عمر إبراهيم بحيث يبقى حيا حتى يكبر ويزوج ابنه إسحق ويولد له ولدا ليراه «كُلًّا هَدَيْنا» إلى طريقنا المستقيم إذ جعل فيهم النبوة والكتاب «وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ» إبراهيم وولده وحفيده لأنه هو أبو البشر الثاني على القول بأن دعوته شملت كل من على وجه الأرض والغرق عمها كلها وهو القول المعتمد المناسب لظاهر القرآن والأولى من غيره راجع الآية 25 فما بعدها من سورة هود المارة وما ترشدك إليه «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» ذرية نوح(3/370)
ج 3 ، ص : 371
إذ عد يونس ولوطا وهما ليسا من ذرية إبراهيم ، أمّا «داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ» فكلهم من ذريته «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 84» كما جزينا إبراهيم وآله «وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى » من ذريته أيضا.
ومن هنا استدل بجواز النسب للأم ، ولما أنكر الحجاج كون أولاد فاطمة رضي اللّه عنها أولاد محمد صلّى اللّه عليه وسلم أفحم في هذه الآية ، إذ ذكر عيسى في عداد الأنبياء المنسوبين إلى إبراهيم ، لأن أمه منهم وألقمه الحجر وأنه سيلقمه في سقر إن لم تشمله الرحمة «وَإِلْياسَ» ابن سنا بن فتحاص بن العيزار بن هارون ، وقد أخطأ من قال إنه إدريس جد نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام «كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ 85» لرسالتي وهداية الخلق «وَإِسْماعِيلَ» أخّره مع أنه أخو إسحق إذ ذكر إسحاق وأولاده وأحفاده على نسق واحد ، ثم إسماعيل لأنه لم يأت منه ولد نبي غير محمد صلّى اللّه عليه وسلم فيكون أولى بالترتيب ، وهؤلاء كلهم من ذرية إبراهيم «وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً» من ذرية نوح وإبراهيم من ذريته أيضا ، وإنما سمي إبراهيم أبا الأنبياء لأن الأنبياء الذين جاءوا بعده كلهم من ذريته أما لوط فكان معاصرا له وهو من ذرية نوح «وَكلًّا» من هؤلاء الصالحين «فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ 86» جمع عالم وهو اسم لكل موجود سوى اللّه.
واعلم أن اللّه تعالى ذكر في هذه الآية ثمانية عشر نبيا لا بحسب الزمان والفضل ، لأن العطف جاء بالواو وهو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا ، بل ذكر أولا أصول الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ، ثم أهل الملك والسلطان وهما داود وسليمان ، ثم أهل الصبر أيوب وممن جمع بين الصبر والملك وهم يوسف وموسى وهرون ، ثم أهل الزهد وهم زكريا وعيسى ويحيى وإلياس ، ثم من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط ، قال تعالى «وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» من هنا للتبعيض إذ لم يكن كل آبائهم وأبنائهم أنبياء وصالحين ، ولم يولد لكل منهم «وَإِخْوانِهِمْ» الذين على نهجهم القديم «وَاجْتَبَيْناهُمْ» للنبوة والرسالة «وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 87» هو الدين الحق الموصل لخير الدنيا والآخرة ، وهذه الآية تدل على أن سعي الغير ينفع كما نوهنا به في الآية 39 من(3/371)
ج 3 ، ص : 372
سورة والنجم في ج 1 ومثلها الآية 20 من سورة الطور الآتية «ذلِكَ» الذي دان به هؤلاء الكرام هو «هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين قدر لهم السعادة الأبدية في الأزل «وَلَوْ أَشْرَكُوا» على فرض المحال والتقدير الباطل «لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 88» من الطاعات وبطل ثوابها ، قال تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية 65 من الزمر الآتية ، مع أن الإشراك مستحيل بحقه مقضى باستحالته أزلا ، يعني أن الأنبياء على ما هم عليه من الفضل والقرب لو فرض أنهم حادوا عن طريق الصواب لأبطل عملهم وخسروا الدنيا والآخرة واستحقوا العذاب ، فكيف بغيرهم ممن هم بعيدون عن اللّه بعيدون عن الخير «أُولئِكَ» المحسنون المهديون هم «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها» بالكتاب والحكم والنبوة أو بأحدها «هؤُلاءِ» المتلو عليهم وحينا هذا من قومك يا أكرم الرسل «فَقَدْ وَكَّلْنا بِها» الثلاثة المذكورة «قَوْماً» عظاما شرفاء وهم الأنبياء وأتباعهم الصادقون الذين قدرنا لهم في أزلنا أنهم «لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ 89» أبدا يدل على هذا قوله تعالى «أُولئِكَ» الموكلون هم «الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» ومن يهد اللّه فلا مضل له البتة «فَبِهُداهُمُ» يا سيد الرسل «اقْتَدِهْ» أثبت الهاء هنا استحسانا لإيثار الوقف ، وقرأ حمزة وعلي بلا هاء ، أمر اللّه جل أمره في هذه الآية رسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلم أن يقتفي آثار الأنبياء بأصول الدين الثلاثة التوحيد والإيمان بالنبوة والبعث بعد الموت ، فهؤلاء فيها الهدى والخير لكلل الأنبياء وأتباعهم ، وليس القصد اتباع شرايعهم لأنها مختلفة في الفروع وشريعته صلّى اللّه عليه وسلم نسختها ، وما قيل إن المراد بالموكلين هم الملائكة لا يصح ، لأن لفظ قوم لا يطلق عليهم بل هو خاص ببني آدم ، وفي هذه
الآية دليل على أن اللّه تعالى ينصر نبيه محمدا ويقوّي دينه ويجعله غالبا على الأديان كلها ، وقد جعله واللّه فتكون هذه الآية من الإخبار بالغيب ، أما تأخر نفوذ هذا الدين في هذا العصر فبسبب تأخر أهله عن القيام به وأنهم إذا عادوا إليه وتمسكوا به كما كان فإن اللّه تعالى لا بد وأن يعيد لهم الشوكة والغلبة على سائر أهل الأديان ، كيف وقد قالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الآية 47 من سورة الروم الآتية ، (3/372)
ج 3 ، ص : 373
وقال جل قولهَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)
الآية 113 من سورة الصافات الآتية وغيرها من الآيات والأحاديث المؤيدة لها قال صلّى اللّه عليه وسلم : لازلتم منصورين مادمتم متبعين سنتي ، فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم.
وسنأتي على هذا البحث عند تفسير الآيتين المذكورتين بصورة مفصلة إن شاء اللّه ، فيا سيد الرسل «قُلْ» لقومك إني «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» على تبليغكم وحي ربي وإرشادكم بقوله ونصحي لكم بما هو خير لكم في دنياكم وآخرتكم «أَجْراً» جعلا أو مالا أو شيئا آخر إنما أجري على ربي «إِنْ هُوَ» ما هو الذي أبلغكم إياه «إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ 90» ومن حق التذكير باللّه والهداية إليه أن تكون مجانا لئلا يتهم الداعي إليها بأن قصده عرض الدنيا وليتمحض عند السامع إخلاصه.
مطلب عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم والآية المدنية وبحث في النسخ :
وتدل هذه الآية على عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم ، لأن لفظ العالمين يشملها كما في الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1 ، وتدل على فضله على سائر الأنبياء ، لأنه اتصف بجميع خصالهم من احتمال الأذى ومجاهدة النفس والصبر على البلاء والمحن وقتال البغاة وإظهار المعجزات والاتصاف بالزهد والوفاء بالعهد والوعد والصدق والإخبات والنبوة والرسالة والملك ، ولهذا أمره اللّه أن يقتدي بهم جميعا إذ لم يترك خلة من خلالهم ولا خصلة من خصالهم ولا شيئا من أخلاقهم إلا اتصف بها وتأدب بتأديب ربه وزاد عليهم بالشّرف برؤية ربه وباخمس المذكورة بالحديث الصحيح الذي أثبتناه في الآية 159 من سورة الأعراف ج 1 ، وقد أسهبنا فيها البحث عن هذا فراجعها ، وهذه الآية المدنية الثالثة ،
قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» وما عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه «إِذْ قالُوا» أي اليهود «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ» وحي ولا كتاب إلى أحد من خلقه ، قال ابن عباس : قالت اليهود يا محمد أنزل اللّه عليك كتابا قال نعم فقالوا واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا فأنزل اللّه تكذيبا لهم وألزمهم الحجة بقوله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى » إليهم «و جعله نورا وهُدىً لِلنَّاسِ» من بني إسرائيل(3/373)
ج 3 ، ص : 374
فمن بعدهم حتى بعثتك ، فما هذا الإنكار والمكابرة والعناد وقل لهم يا محمد «تَجْعَلُونَهُ» أي ذلك الكتاب العظيم «قَراطِيسَ» متقطعة وأوراقا متفرقة تثبتون فيها ما يوافقكم منها فتظهرونه وهو معنى قوله تعالى «تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» منه مما لا يوافقكم إظهاره مما فيه نعت محمد وما جاء به من الأحكام في القرآن المنزل عليه وما قصصناه فيه من القصص الموجودة في التوراة «وَعُلِّمْتُمْ» بسببه من أمور الدين والدنيا «ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ» الأقدمون ، وقد أنزلناه على نبيكم جملة واحدة حاويا على ذلك كله «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المتعنتين الذين فرقوا كتابهم بحسب أهوائهم إن القرآن الذي جئتكم به أنزله «اللَّهَ» الذي أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من بعده وقد كذبتم به أيضا وجحدتم نبوته «ثُمَّ ذَرْهُمْ» بعد أن تذكر لهم هذا «فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 91» بالباطل ويستهزئون بالحق لأن اللّه طبع على قلوبهم فلا فائدة من إتعاب نفسك معهم ، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا مبرر له لأنها عبارة عن تهديد ووعيد ، وكل آية مقرونه بشيء من هذا لا يتصور نسخها ، فرحم اللّه علماء الناسخ والمنسوخ كم تغالوا في النسخ حتى على ما هو في الحقيقة محكم ، على أنه لا نسخ في كتاب اللّه هذا بالمعنى المراد من قبلهم وهو ناسخ لغيره من الكتب والصحف المتقدمة عليه ، وباق حكمه ما بقي الملوان ، وما يعبرون عنه بالنسخ عبارة عما فيه من آيات عامة ومطلقة قيدت وخصصت بآيات أخر ، وما فيه من التدريج في الأحكام مما يوافق مصلحة الخلق في الحال والمستقبل ، راجع ما بيناه في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ ، وللبحث صلة في الآية 106 من سورة البقرة في ج 3 ، كما أننا ألمعنا إلى أن كل آية قيل إنها منسوخة بما يرد ذلك القيل عند تفسيرها واللّه ولي التوفيق ، قال تعالى «وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ» عليك يا محمد «مُبارَكٌ» ميمون لمن نمسك به وهو «مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من التوراة والإنجيل والكتب والصحف الإلهية المشتملة على توحيده وتنزيهه والتبشير والإنذار «وَلِتُنْذِرَ به أُمَّ الْقُرى » أهل مكة من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه بدليل قوله «وَمَنْ حَوْلَها» من أطرافها الأربع فتشمل جميع المدن والقرى التي على وجه الأرض(3/374)
ج 3 ، ص : 375
لأنها لا بد وأن تكون بجبهة من أطرافها بعدت أو قربت ، لذلك فلا دليل فيها لمن زعم أن رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم خاصة بالعرب الذين في مكة وجوارها ، وإنما سميت أما لأنها قبلة أهل الأرض أجمع فعلا لأمة الإجابة وبالقوة لغيرهم لأن الكل أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا تأييد للرد على اليهود بأنه إذا كان اللّه تعالى أنزل التوراة على موسى ولا سبيل لإنكارها ، فلم لا يجوز إنزال القرآن على محمد وكلاهما مرسل من اللّه ؟ وفي إنكارهم إنزال القرآن إنكار الإنجيل أيضا لأنهم ينفون نزول شيء بعد التوراة من قبل اللّه على أحد من رسله وقد كفروا بعيسى عليه السلام فضلا عن إنكار كتابه ، قاتلهم اللّه وغضب عليهم ولعنهم في الدنيا والآخرة.
قال تعالى «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» البعث بعد الموت والحساب والجزاء والثواب والعقاب «يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي القرآن لأن أصل الدين الخوف من العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن باللّه «وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ 94» خص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان ، فمن حافظ عليها فهو على غيرها أحفظ ، وهذه الآية المدنية الرابعة قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» كهؤلاء اليهود المنكرين نزول القرآن والإنجيل على محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، ومن هؤلاء الظالمين مالك بن الصيف وأضرابه من اليهود «أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ» من اللّه بشرع وحاشا اللّه القائل
«وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ» كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي الذين ادعيا النبوة في زمنه صلّى اللّه عليه وسلم وعموم الآية يشمل كل من تجرأ على ادعاء النبوة بعده أيضا إلى يوم القيامة لأن اللّه تعالى ختم النّبيين به فكل ادعاء وقع أو يقع في هذا الشأن فهو زور وبهتان وإفك «وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» أي أنه قادر على مثل ذلك ، وهؤلاء كالذين قالوا كذبا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الآية 31 من الأنفال في ج 3 ، ومثله الطاعن في نبوته صلّى اللّه عليه وسلم كعبد اللّه بن أبي سرح الذي أملى عليه صلّى اللّه عليه وسلم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) إلى قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) الآية 14 من سورة المؤمنين الآتية ، فعجب من ذلك وقال إنه وقع في قلبه لزيادة تفكره فيها (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فأجراها على لسانه فقال له صلّى اللّه عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت ، فشك وقال إن كان محمد صادقا(3/375)
ج 3 ، ص : 376
فقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، وإن كان كاذبا فقد قلت كما قال ، فارتد ولحق بمكة.
وهذه الحادثة وقعت في المدينة بدليل قوله املى وقوله صلّى اللّه عليه وسلم هكذا نزلت ، أي قبل لا ان نزولها بمكة ، بل كان نزولها بالمدينة قبل إملائها عليه ، وإلا لتلاها حضرة الرسول أولا ، ثم أملاها عليه دفعة واحدة ، ويؤكد هذا قوله ولحق بمكة ، فيكون هذا سببا لنزول هذه الآية ، وذلك أن مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة الملقب بالكذاب ادعى النبوة باليمامة وزعم أن اللّه أوحى إليه ، وكان صاحب نيرجات وكهانة ، والأسود العنسي عبهلة بن كعب ذو الخمار ادعى النبوة باليمن وتبعه جماعة من قومه ، وأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أرسل إليهما وأمر بقتلهما فقتل الأسود فيروز الديلمي قبل وفات النبي صلّى اللّه عليه وسلم بيومين ، وقد أخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلم أصحابه بقتله قبل ورود خبره ، وقال لهم فاز فيروز ، وأما مسيلمة فقتله وحسني قاتل حمزة بن عبد المطلب في خلافة أبي بكر رضي اللّه عنهم ، وكان يقول قتلت خير الناس وأنا كافر يعني حمرة ، وقتلت شرّ الناس وأنا مؤمن يعني مسيلمة ، وكل هذا يؤيد أن هذه الآية مدنية كما ذكرنا أول السورة وهو الصحيح ، لأن هذه الحوادث أي قول مالك ابن الصيفي وادعاء مسيلمة والأسود كلها وقعت في المدينة ، ومن قال إن هذه الآية نزلت بمكة لم يحقق عن تاريخ هذه الحوادث ومحلها ، ولم يقف على أن هذه الآية مستثناة من هذه السورة فقال إنها مكية ، ولما لم ير بدا من نفي أسباب نزولها قال إنها من الإخبار بالغيب ، وليس بشيء ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سوارين من ذهب ، فكبرا علي وأهمّاني ، فأوحى اللّه إلي ان انفخهما فنفختهما فطارا ، (وفي رواية انفحهما بالحاء لا بالخاء من النفخ وهو الرمي والدفع والرمح تقول نفحت الدابة برجلها أي رمحت ورفست ، والمعنى قريب من الأول) فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما
صاحب صنعاء وصاحب اليمامة ، والمعنى لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم خطأ ولا أجهل فعلا ولا أقل عقلا ممن اختلق شيئا من الأشياء الثلاثة المذكورة في هذه الآية ، وهي عامة في كل من يزعم هذا الزعم إلى يوم القيامة ، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، قال تعالى «وَلَوْ تَرى » يا سيد الرسل «إِذِ الظَّالِمُونَ»(3/376)
ج 3 ، ص : 377
أمثال هؤلاء وغيرهم «فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ» سكراته وشدائده حين نزع أرواحهم «وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ» إليهم يقولون لهم توبيخا وتقريعا هلموا «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» من أجسادكم قسرا ، وهذا القول عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ، وإلا فلا حاجة لهذا القول ولو كان بأيديهم منه شيء ما فعلوه ، لأن روح الكافر ثمينة عنده فلو قدر على تأخيرها أو عدم إخراجها من جسده لحظة واحدة بما يملك في الدنيا لفعل ، ثم قال تعالى «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» المهانة والمذلة وقت الإماتة «بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» من أمثال الأقوال المتقدمة من الإنكار والتكذيب والجحود والإشراك «وَ» بما «كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ 93» عن قبولها وتأنفون من سماعها بدلا من أن تصدقوها وتؤمنوا بها ، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه ، انتهت الآية المدنية الرابعة.
قال تعالى مخاطبا جميع خلقه في موقف الحشر يذكرهم أن حالتهم هذه أول يوم ورودهم الآخرة تشبه حالتهم أول يوم قدومهم إلى الدنيا بقوله عز قوله «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى » وحدانا لا مال معكم ولا ولد ولا لباس ولا نشب «كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» في الدنيا إذ جئتم إليها كذلك ، لأن هذا الخطاب بعد البعث وهو خلق ثان «وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ» أعطيناكم في الدنيا من الأموال والأولاد والخدم والسلطة والجاه وملكناكم العقارات ومكناكم من استغلال ما في الدنيا «وَراءَ ظُهُورِكُمْ» أبقيتم كل ذلك في الدنيا الكائنة الآن وراءكم ، لأن ما الدنيا لا يكون للآخرة «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ» من الملائكة والإنس والكواكب والأصنام «الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» وأنتم في الدنيا «أَنَّهُمْ فِيكُمْ» في استبعادكم «شُرَكاءُ» معنا وكنا أخبرناكم على لسان رسلنا أنهم ليسوا بشيء وأنهم من خلقنا ومن صنع أيديكم الذي هو أيضا من خلقنا «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» بالنصب أي تقطع الوصل بينكم على إضمار الفاعل ، وقرىء بضم النون على أنه فاعل بمعنى وصلكم ، لأن البين من أسماء الأضداد فيكون بمعنى الهجر وبمعنى الوصل قال :
فو اللّه لو لا البين لم يكن هوى ولو لا الهوى ما حنّ للبين آلف(3/377)
ج 3 ، ص : 378
فقد جاء بمعنى الوصل وبمعنى الهجر فيه «وَضَلَّ عَنْكُمْ» غاب وضاع وبطل «ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 94» فيهم في الدنيا من الشفاعة والنفع وزعم هنا نعى في الباطل وقد تستعمل في الحق ، قال فيه :
تقول هلكنا إن هلكت وإنما على اللّه أرزاق العباد كما زعم
وقد مر في الآيتين 80/ 95 من سورة مريم في ج 2 ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية 57 من سورة الكهف الآتية فراجعها ، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بموعظة فقال أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة عزلا (خلقا) قال تعالى (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) الآية 104 من سورة الأنبياء الآتية.
ورويا عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول :
تحشر الناس حفاة عراة عزلا ، قالت عائشة فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك.
وفي رواية الطبري عنها قالت واسوءتاه إن النساء والرجال يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض.
مطلب الدلائل على قدرة اللّه ومنافع الخلق فيها ومعنى المستقر والمستودع وأصل الخلقة :
ثم شرع جل شأنه يعدد دلائل وجوده وكمال عظمته وقدرته وجليل حكمته بقوله عز قوله «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ» شاقه عن النبات لأن الحبة حينما تزرع يخرج من شقها الأعلى النبات الصاعد في الهواء الذي يصير فيه السنبل ومن شقها الأسفل العروق التي تغوص في الأرض ولو لا ذلك لما ثبت نبات «وَالنَّوى » عن النخل وشبهه هكذا أيضا ، وهو جل خلقه «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» كالإنسان من النطفة والفرخ من البيضة «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» كالنطفة من الإنسان والبيضة من الدجاجة عكس الجملة المعطوفة عليها ، لأن مخرج معطوف على خالق وهو بيان له ، لأن خلق الحب اليابس وإخراج الحنطة والشعير والذرة والعدس وغيرها منه ، وفلق النوى اليابس وإخراج الرطب والخوخ والمشمش والاجاص وغيرها(3/378)
ج 3 ، ص : 379
منه من جنس إخراج الفرخ من البيضة والبيضة من الدجاجة ، لأن النّامي من النبات في حكم النامي من الحيوان ، فسبحان من أخرج من الحب والنوى نباتا وأشجارا صاعدات في الهواء وعروفا وجذورا ضارية هاوية في الأرض ، وخلق من نطفة صغيرة حيوانا عظيما ، مما يدل على كمال قدرته وعظيم حكمته ، وتنبيها للغافل على أن القصد معرفته بصفاته وأفعاله وأنه مبدع الأشياء وخالقها وصانع العجائب وبارئها لا عن مثال سابق ، وأنه هو وحده المستحق للعبادة المنزه عن الشريك والمثيل تعالى اللّه عما يصفه الكفرة «ذلِكُمُ» أيها الناس الفعّال لذلك ، الخلاق لكل ما هنالك «اللَّهَ» الذي لا إله غيره «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 95» وتصرفون الحق إلى الباطل والصدق إلى الكذب ، فتعبدون الأوثان وتتركون الملك الديان ، وفي هذه الآية دليل على البعث بعد الموت باعتبار ما يشاهدونه من خلقه ليعلمهم فيه أن الذي يخلق هذه الأشياء العظيمة من تلك الأشياء التافهة قادر على بعثهم بعد موتهم ، وإنما جاء بهذا الدليل والأدلة الآتية تنبيها على أن المقصود والأصل من كل بحث عقلي أو نقلي هو معرفة اللّه تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله ، وهذا الدليل الثاني المبين بقوله «فالِقُ الْإِصْباحِ» بكسر الهمزة جمع صبح بضم الصاد ، أي مظهر نورها من سواد الليل وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح بفتح الصاد قال امرؤ القيس :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
بكسر الهمزة على الأول وقال الآخر :
أفنى رباحا وبني رباح تناسخ الأمساء والأصباح
على الثاني والأول أولى لأنه أكثر استعمالا «وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» لخلقه وراحة لهم من كدّ المعيشة إلى النوم «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» جعلهما «حُسْباناً» معينا لا ينخرم على مر العصور «ذلِكَ» العلم بالحساب الحاصل من سيرها «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ» الغالب عليهما الذي سخرهما قهرا «الْعَلِيمِ 96» بما يؤول إليه أمرهما وما ينشأ عنه من منافع للعباد والدليل الثالث قوله عز قوله «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها» إلى الطرق التي تقصدونها «فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» فإذا ضللتم الجهة المطلوبة وتحيرتم ونظرتم إليها عرفتم القبلة من الشمال(3/379)
ج 3 ، ص : 380
والشرق من الغرب فتستدلون على ما أنتم ذاهبون إليه «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ» الدالة على وحدانيتنا ومنافع خلقنا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 97» أن ذلك مما يستدل به على كمال القدرة ورأفة الرب بخلقه.
والدليل الرابع قوله جل قوله «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» نفس آدم عليه السلام إذ خلق منه حواء زوجته ومنها تناسل البشر كله ، فتنبه أيها العاقل واحذر من قول الجاهل الذي زعم أن أصل البشر القرد ، وما يزعم هذا الزعم إلا ذوو النفوس الخبيثة الشاكين في القدرة الإلهية ، واعلم أن الخلق كله من بعد آدم «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» أي أن كل نفس لها قرار في الأرض وفي الرحم ومستودع في الأرض وفي الصلب لأن النطفة لا تبقى في صلب الأب زمنا طويلا ويبقى الجنين في بطن أمه مدة طويلة «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ 98» خصهم بالفقه لأن الدلالة هنا أدق من الدلالة في الآية التي قبلها المختومة بلفظ (يعلمون) لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريف البشر بين أحوال مختلفة أدق من الاهتداء بالنجوم المتوقف معرفتها على علم الفلك ، وما جرينا عليه هنا هو ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن حبرتيما سأله عن المستقر والمستودع فأجابه بما ذكرناه ، وهو مؤيد بقوله تعالى (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) الآية 5 من سورة الحج في ج 3 ، وقال جماعة من المفسرين : إن الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض والاستيداع في الأرحام أو في القبر وجعلوا الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فاشبهت الوديعة فكأن الرجل أودعها ما كان عنده وجعل وجه الأرض مستقرا وبطنها مستودعا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني ولأن الصلب مقر طبيعي للنطفة ووجه الأرض مقر طبيعي للإنسان والرحم مستودع طبيعي للنطفة والقبر
مستودع طبيعي للإنسان وليسا بمقر طبيعي لها والأول أولى وعليه الجمهور ، قال الألوسي :
وأنا أقول لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن اللّه تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم المشار إليه في الآية 872 من سورة الأعراف المارة في ج 1 وأشهدهم على أنفسهم بأخذ الميثاق منهم وكان ما كان.(3/380)
ج 3 ، ص : 381
ردّهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء اللّه ذلك وقد أطلق ابن عباس رضي اللّه عنهما اسم الوديعة على ما كان في الصلب صريحا فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال : قال لي ابن عباس أتزوجت ؟ قلت لا وما ذاك في نفسي اليوم قال إن كان في صلبك وديعة فستخرج ، وروى تفسير المستودع في الدنيا والمستقر في القبر عن الحسن وكان يقول يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وأنشد قول لبيد :
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع
وقال سلمان بن زيد العدوي في هذا
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا فالناس مفجوع به ومفجع
مستودع أو مستقر قد خلا فالمستقر يزوره المستودع
وقال أبو مسلم الأصفهاني : المستقر الذكر والمستودع الأنثى ، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 90 من سورة مريم المارة في ج 1 والآية 4 من سورة هود المارة فراجعها تعلم أن كل إنسان مستقر من جهة ، مستودع من أخرى لأنه استقر فيه شيء ممن قبله فصار مستودعا عنده لمن بعده وهكذا من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الأرض من عليها بإرثها ولهذا قالوا إن لكل نسمة حظا من نشأة آدم عليه السلام على طريق التسلسل حسا وقد يكون معنى
مطلب نبذة فيما يتعلق بالرابطة لدى السادة الصوفية تابع لما مر في الآية 57 من الإسراء في ج 1 :
ومن هنا يعلم أن نظر المريد الصادق إلى شيخه الكامل نظر إلى وجه الصديق رضي اللّه عنه لأن شيخه كان نظر إلى شيخه فسطع على وجهه من نوره وهكذا شيخه وشيخ شيخه وهلم جرا فيصير كل منهم آخذا ومعطيا فيكون لكل حظ منه وهو مقتبس من مشكاة النبوة المستفيض من الحصرة الإلهية فنال نصيبه منه أيضا ، وعلى هذا اتخذ السادة الصوفية الرابطة فجعلوها من شروط أورادهم التي يلقنونها إلى المريد واقتبسوها من قوله تعالى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) الآية 38 من سورة المائدة في ج 3 وسنبين فيها إن شاء ما يقتضي لهذا البحث ، ومما يؤيد هذا هو قول المصلي(3/381)
ج 3 ، ص : 382
في التحيات السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه بأنه يستلزم تشخيص حضرة الرسول عند ذلك لتصح الإشارة كما سنبينه في تفسير آية المائدة المذكورة إن شاء اللّه بصورة أوضح وقد مر في الآية 57 من سورة الإسراء ما يتعلق بهذا البحث فراجعه في ج 1.
والدليل الخامس قوله عز قوله «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» جاء على الغيبة ثم التفت جل شأنه إلى التكلم فقال «فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ» عمم جل وعلا ثم فصل فقال (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ» أي النبات «خَضِراً» شيئا غضا وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبّة «نُخْرِجُ مِنْهُ» من هذا الخضر «حَبًّا مُتَراكِباً» بعضه على بعض كسنبلة الحنطة والأرز وعرنوس الذرة وشبهها «وَمِنَ النَّخْلِ» وأبدل منها قوله «مِنْ طَلْعِها» لأن النخل يخرج منها الطلع ويخرج الثمر من الطلع «قِنْوانٌ» بكسر القاف غدوق جمع قنو كصنو وصنوان ويجوز فتح القاف وضمه ، ولا يوجد في اللغة مثنى مفرد ويستوي فيه مثناه وجمعه إلا خمس أسماء : قنو وصنو ورئد بمعنى مثل وشقو وحش بمعنى الثعبان ، ولا يفرق بين جمعه ومثناه إلا الإعراب ، وقال الرازي في تفسيره إن المثنى منه بكسر النون ، وبهذا يكون الفرق بين جمعه وتثنيته بالحركة «دانِيَةٌ» لمن يجتنيها ويقطفها لأنها تثقل بالثمر فتنحني وتتدلى إلى الأسفل ، وتأتي قنوان بمعنى نائية بعيدة فتكون من الأضداد ، واكتفى بذكر الدانية عن النائية لمعلوميتها على حد قولة تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد كما سيأتي في الآية 81 من سورة النحل ، ولأن الدانية أيسر تناولا وأسهل للقطف من النائية العالية البعيدة التناول ، وهذا الفرق إنما يكون في أشجار الدنيا وثمارها ، أما الآخرة فالقريب والبعيد بالتناول سواء ، لأنك متى نظرت إلى ثمرة وأردتها صارت بين يديك ، والطلع هو الإغريضي الخارج من قلب النخلة الذي ينبثق عنه العثوق ، والعثق الذي فيه التمر بمنزلة العنقود من العنب ، والمتشعّب منه يسمى عرجون ، ويسميه أهل (عانه) شرموخ ، وهو الذي ينبت فيه التمر «وَجَنَّاتٍ» عطف على نبات «مِنْ أَعْنابٍ» متنوعة عرائش وكروم «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» أخرجناه أيضا «مُشْتَبِهاً» بعضه مع بعض «وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» أنواع كثيرة منها ما يشابه بعضه ويوافقه باللون(3/382)
ج 3 ، ص : 383
والطعم والشكل والحجم والرائحة والورق والأغصان وغير ذلك ، ومنه ما هو مباين في بعض الصفات موافق في الأخرى ، ومنها ما هو مخالف بالكلية فسبحان من أخرج من الماء الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والأشجار والثمار قال تعالى (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) الآية 5 من سورة الرعد الآتية في ج 3 ، وقيل في وصف المطر :
يمد إلى الآفاق بيض خيوطه فينسج منها للثرى حلة خضرا
وقد أجاد في هذا الوصف ، هذا ، وان اللّه جل جلاله قدم الزرع لأنه غذاء وهو مقدم على الفواكه ثم النخل على الفواكه ، لأن ثمره يجري مجرى الغذاء مع كونه فاكهة وفيه من المنافع ما ليس في غيره وعقبه بالعنب لأنه من أشرف الفواكه ، ثم الزيتون لبركته وزيادة الحاجة إليه أكلا وأدما ، ثم الرمان لأنه فاكهة ودواء ، وقد ذكر اللّه تعالى في القرآن العظيم أمهات الفواكه كهذه والتين والموز وأشار إلى البقية بلفظ الفاكهة ، كما أشار إلى بقية النبات بلفظ الأب فلم يخرج عن هاتين اللفظتين شيء مما ينبت بالأرض ، فسبحان من أودع في كتابه كل شيء وأكده بقوله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 المارة فراجعها والآية 31 من سورة عبس في ج 1 ، واحمد اللّه أن جعلك من أهل هذا الكتاب «انْظُرُوا» أيها الناس «إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» إدراكه ونضجه واعتبروا بها أيها الناس كيف أنبته حبة وأخرج منها ذلك راجع الآية 141 الآتية في هذا البحث «إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القدير الحكيم وهي عظة «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 99» بأن اللّه الذي أخرج النبات الأخضر من الحب اليابس والأشجار من النوى والفواكه الرطبة منها قادر على إحياء الموتى بعد البلى ، هذا وقد ذكر اللّه خمسة براهين مجملة وعلى التفصيل فهي أكثر وكل منها حجج ظاهرات قاطعات على دلائل العالم السفلي والعلوي على ثبوت الإلهية وكمال القدرة ، وذكر أن هؤلاء الكفرة فضلا عن أنهم لم يلتفتوا إليها ولم يتعظوا بها قد كفروا بها «وَجَعَلُوا» مع هذا كله «لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ» في ألوهيته وعبادته بالنصب على أنه بدل من شركاء وجمع الشركاء باعتبارهم أعوانا لإبليس ، وبالرفع على الحذف ، (3/383)
ج 3 ، ص : 384
فكأنه قيل من هم الشركاء فقيل الجن وبالجر على الإضافة لشركاء ، وإنما قالوا الجن من حيث لم يشاهدوهم ، لأن الكفرة أصاخوا لتسويلاتهم وانصاعوا لوساوسهم ، فكأنهم أطاعوهم طاعة المشاهد فعبدوا الأوثان انقيادا لهم ، فصاروا كأنهم جعلوهم شركاء للّه ، تعالى اللّه عن ذلك ، وعلى هذا فتكون هذه الآية نازلة في كفار العرب كما روي عن الحسن بن صالح واختاره الزجاج ، وقال الكلبي نزلت في الزنادقة ونقل هذا القول ابن الجوزي عن ابن السائب ونقله الإمام الرازي عن ابن عباس ، وادعى أنه أحسن الوجوه المنقولة في سبب نزولها.
مطلب معتقد الزنادقة والمجوس وتحقيق رؤية اللّه تعالى :
وذلك أنهم يقولون إن كل ما في الكون من خير فهو من يزدان يعني النور ، وجميع ما في العالم من الشر فهو من الظلمة يعني إبليس وهذا مذهب المجوس ، لأن الكتاب الذي زعم زردشت أنه نزل من السماء سماه (زاندا) والمنسوب إليه زندى ، ثم عرب إلى زنديق ويجمع على زنادقة ، ومنهم من يقول إن إبليس قديم ، ومنهم من يقول إنه محدث ، وكلهم متفقون على أنه شريك للّه في تدبير هذا العالم (تنزه عن ذلك) فما كان من خير فمن اللّه وما كان من شر فمن إبليس.
هذا ، وان اليزيدية الموجودين الآن في جبل سنجار على تخوم العراق يدينون بما يشابه هذا الدين ويعتقدون بالشيطان اعتقاد المجوسي بإبليس ، وقال بعض المفسرين إن المراد بالجنّ هم الملائكة ، لأن العرب عبدتهم وسمتهم بنات اللّه ، كما مرّ في كثير من الآيات الدالة على ذلك وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم أي استتارهم واختفائهم عن الأعين ، وعبر بالجن عن الملائكة للحط بشأنهم بالنسبة لمقام الإلهية ، ونقل هذا القول عن قتادة والسدي ، والقول الأول أولى لموافقته ظاهر القرآن وهو الحقيقة وخلافها مجاز ، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة ، ولا يوجد هنا صارف لمعناها كي يلجأ إليه في اعتبار المجاز ، قال تعالى «وَخَلَقَهُمْ» أي أنهم يقولون هذا القول والحال أن اللّه خلقهم ، فكيف يجعلونهم شركاء له ، تعالى عن ذلك وتعاظم «وَخَرَقُوا» اختلقوا وافتعلوا وافتروا «لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ» فاليهود تقولت بأن عزيرا ابنه والنصارى بهتت بأن عيسى ابنه ، وكفار العرب(3/384)
ج 3 ، ص : 385
زعمت بأن الملائكة بناته وكله زور محض اختلقوه كما اختلقوا الأوثان من تلقاء أنفسهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منهم بعظمة اللّه ، وإفكا مختلقا ، وكانت العرب عند ما تسمع من الرجل كذبة في نواديهم تقول اخترقها واللّه ، أي استعظاما لقول الزّور وتوبيخا للكاذب ، راجع الآية 12 المارة من هذه السورة وذكر البنات هنا مما يؤيد أن المراد بالجن الشياطين كما جرينا عليه لا الملائكة لأنه لو كان المراد بالجن الملائكة لما أتى بذكرها ثانيا لأن الملائكة لا توصف بذكورة ولا بأنوثة واللّه أعلم ثم نزه اللّه نفسه المقدسة بنفسه المنزهة عن ذلك كله فقال «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ 100» جلاله بما لا يليق بجلاله كيف وهو
«بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» قد أبدعهما ومن فيهما وكونهما على غير مثال سابق ، وهذا هو معنى الإبداع ومن كان كذلك «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ» وهو المنفرد المنزه عن الأزواج كيف «وَلَمْتَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ»
زوجة لأن الولد لا يكون إلا منها عادة ، ولا تكون الزوجة إلا من جنس الزوج حتى يتم التوالد بينهما وهو ليس كمثله شيء ، ولأن الولادة من صفات الأجسام وهو مخترعها وليس بجسم ، تعالى عن ذلك ، ومن لا يكون جسما لا يكون له ولد ، والولد لا يكون بلا زوجة عادة وهو منزه عن اتخاذها «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» ومن هذا شأنه فهو غني عن كل شيء من الصاحبة والولد والمعين وغيره ، «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 101» لأنه خالق كل شيء ، ومن يخلق فهو أعلم بما يخلق علم اليقين ، فلا يعزب عن علمه شيء ، لأنه محيط بكل شيء «ذلِكُمُ» الموصوف بما تقدم هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ» وحده لا تشركوا به شيئا ، إذ هو المستحق للعبادة لا مخلوقه الذي بيده إعدامه وإعادته ونفعه وضره «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 102» رقيب فلا تقع حركة في ملكوته ولا سكون إلا بعلمه قال تعالى منزها ذاته الكريمة عما هو من شأن البشر «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» من خلقه لا إدراك إحاطة ولا مطلق إدراك ، كما أن القلوب تعرفه بلا إحاطة «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» من جميع خلقه بحيث يراها ويحيط بها علما ، والمراد بها النور الذي به تدرك المبصرات ، فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه(3/385)
ج 3 ، ص : 386
يرى ، وهذا هو السر من الإظهار بمقام الإضمار ، وقيل المراد إن كل عين لا ترى نفسها وهو كذلك ولكن هذا ليس مرادا هنا «وَهُوَ اللَّطِيفُ» العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها ، الرفيق بعباده ، وهو عائد إلى الجملة الأولى ، لأنه يناسب كونه غير مدرك «الْخَبِيرُ 103» العالم بظواهر الأمور وخفياتها وهو عائد إلى الجملة الثانية لأنه يناسب كونه مدركا بكسر الراء على اللف والنشر المرتب ، وفي هذه الآية إشارة لرؤية اللّه في الآخرة لا نفيها كما استدلت به المعتزلة ، لأنه جل شأنه قد تمدح على عباده بذلك على طريق الإعجاز فلو لم يكن جائز الرؤية لما كان هذا التمدح واقعا لأن المعدوم لا يتمدح به ولا يلزم من عدم الرؤية مدح ، ولو لم يكن جائز الرؤية لما سألها موسى عليه السلام إذ مثله لا يسأل عما لا يجوز ، ويدل على جوازها تعليق اللّه جلت عظمته الرؤية على استقرار الجبل واستقراره جائز والمعلق على الجائز جائز ، وهذا إثبات جواز الرؤية من حيث العقل ويدل عليها من الكتاب قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية 23 من سورة القيامة المارة في ج 1 ، وقوله تعالى في حق الكفار (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) الآية 16 من سورة المطففين الآتية إذ يفهم أن المؤمنين غير محجوبين عنه ، قال الإمام مالك : لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعبر تبارك وتعالى عن الكفار بالحجاب ، وقد أجمع المفسرون على أن كلمة وزيادة وقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية 26 من سورة يونس المارة هي رؤية اللّه تعالى ، ومما يدل عليها من السنة كثير صحيح قدمناه في الآية 17 من سورة والنجم والآية 13 من سورة القيامة والآية 114 من سورة الأعراف المارات في ج 1 ، أما ما تمسك به أهل البدع والأهواء والمرجئة من أنه تعالى مستحيل الرؤيا احتجاجا بمطلع هذه الآية ولأن الإدراك
فيها عبارة عن الرؤية لا عدم الإحاطة كما درجت عليه أهل السنة والجماعة إذ لا فرق عندهم بين أدركته ورأيته وهو خطأ صريح ، لأن الإدراك الإحاطة بكنه الشيء وحقيقية الرؤية معاينة الشيء ومشاهدته لأنها قد تكون بغير إدراك ، قال تعالى في قصة أصحاب موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قالَ (كَلَّا) الآية 62 من سورة الشعراء المارة في ج 1 ، وكان قوم فرعون رأوا قوم موسى إلا أنهم(3/386)
ج 3 ، ص : 387
لم يدركوهم فنفى موسى عنهم الإدراك مع إثبات الرؤية بقوله كلا ، ومما لا شك فيه أن رؤية اللّه في الآخرة تكون من غير إدراك لاستحالة الإحاطة به لأنه منزه عن الحد والجهة والأبعاد الثلاثة والجهات الست ، قال في بدء الأمالي :
يراه المؤمنون بغير كيف وإدراك وضرب من مثال
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
أي يا قوم احذروا خسران المعتزلة من رؤية اللّه لأنهم يقولون بعدمها فجزاهم اللّه حرمانها جزاء وفاقا ، أما إذا قالوا إنه لا يرى في الدنيا فهذا مما لا جدال فيه وما وقع لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم فهو خاص به وما عموم إلا وخص منه البعض ، هذا وقد أوضحنا كيفية رؤيته تعالى وثبوتها بالصحائف المشار إليها أعلاه فراجعها ترشد لما تريده وزيادة ، قال تعالى يا أيها الناس «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ» جمع بصيرة وهو نور القلب وأبصار جمع بصر وهو نور العين ، وقد سمى اللّه تعالى آيات القرآن بصائر لأنها يهتدى بها إلى الرشد والسداد وهي بصائر القلوب الحية «مِنْ رَبِّكُمْ» لتبصروا بها حقائق الأشياء وتفقهوا مقاصدها فتعلموا المراد منها «فَمَنْ أَبْصَرَ» معانيها وآمن بها وصدق من جاء بها «فَلِنَفْسِهِ» أبصر وإياها نفع ولها عمل وتحذّر من كل سوء «وَمَنْ عَمِيَ» عنها وضل عن هداها وجهل أو تجاهل معناها ولم يستدل بها إلى الطريق المستقيم المؤدي إلى جنات النعيم «فَعَلَيْها» جنى وعمي وإياها ضر خسر وكان وبال عماه عليه ، واللّه غني عنه «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 104» إنما علي البلاغ والإنذار واللّه هو الرقيب عليكم ، وشاهد لأعمالكم وهو الذي يجازيكم عليها فلا يخفى عليه شيء منها ، وعلى هذا فالآية محكمة ، ومن قال إنها منسوخة قال في تفسيرها أنا لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ الوكيل ، وهو ليس بشيء ، وظاهر الآية لا يحتمل هذا المعنى ، وبعد أن أتم سبحانه وتعالى ما يتعلق في الإلهيّات شرح بما يدل على إثبات النبوة التي هي الأصل الثاني من الأصول الثلاثة ، فابتدأ بحكاية شبه المنكرين لها فقال «وَكَذلِكَ» مثل هذا التصريف البديع «نُصَرِّفُ» نكرر ونبين «الْآياتِ» الدالات على توحيدنا ونبوة أنبيائنا «وَلِيَقُولُوا» لك يا سيد الرسل «دَرَسْتَ» قرأت الكتب القديمة(3/387)
ج 3 ، ص : 388
وتعلمتها من الغير بطريق المباحثة والمداومة حتى حفظتها ، وجئتنا تزعم أنه من عند اللّه ، وأنا أعلم أنك لم تدرس شيئا ولم تتعلمه ، فدع قومك وخاصتك يقولوا لك ذلك ويصموك بالكذب وهم الكاذبون ، وان ما تتلوه عليهم من وحينا وتعليمنا إياك واللام هنا لام الأمر وقيل لام كي بالنظر إلى المعطوف عليه بعد ، وتهمتهم هذه لحضرة الرسول هو أنه كان عبدان من سبي الروم يسار وخيبر في مكة وكانا يأتيان محمدا لأنهما من أهل الكتاب ليسمعا منه وكانا يقرآن الكتب القديمة فظن كفار مكة أن محمدا يقرأ عليهما أو يسمع منهما وأنه يتلو ما يسمعه ويقرأه على قومه ، فأنزل اللّه هذه الآية تكذيبا لهم وردا عليهم وأين هذين من كلام اللّه وهما لا يفقهانه وقد تحدى اللّه جميع البشر على الإتيان بمثله فلم تقدر ولن تقدر.
هذا ، وما قيل إن المراد أنك علمت ما فقرأه من اليهود لا أصل له ، لأن الآية مكية ولا يحث مع اليهود في مكة ، وما قيل إن المعنى لئلا يقولوا درست لا صحة له لأنه غير مناسب للفظ ولا وجيه في المعنى ولأن حمل الإثبات على النفي تحريف وتغيير لكلام اللّه ولا يجوز فتح هذا الباب لما فيه من وضع المنفي مقام المثبت وبالعكس ، لذلك يجب اجراء كلام اللّه على ما هو عليه وعدم التطاول على ما يخل بمعناه أو يزيد في مبناه بصورة قطعية «وَلِنُبَيِّنَهُ» نوضحنّ هذا القرآن المعبر عنه بالبصائر ونكشفن ما يرمي إليه «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 105» أنه كلام اللّه منزل عليك من لدنا لم تتلقه من أحد ما ، فيا أكرم الرسل «اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» من هذا القرآن ولا تلتفت إلى تقولاتهم ، وقل إنما هو من اللّه الذي «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 106» من قومك المتخذين آلهة من دوني واتركهم الآن إلى أن يأتيك قضائي بينك وبينهم ، وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقيه من جفاهم وتعزية لما يصمونه به وإزالة لما حصل له من الحزن بنسبة الافتراء إليه على ربه تنزه عن ذلك وتبرأ القائل «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» به غيره وهذا نص بأن الإشراك بمشيئته تعالى وكذلك التوحيد والعصيان والإيمان راجع الآية 98 من سورة يونس المارة ، وذلك أن اللّه قد شاء إيمان من علم منه
اختيار الإيمان فهداه إليه فآمن ، وشاء كفر من علم منه اختيار(3/388)
ج 3 ، ص : 389
الشرك فساقه إليه فكفر وهذا كله بإرادة اللّه وتقديره ومشيئته «وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ» يا سيد الرسل «حَفِيظاً» تحفظهم من الكفر وتراقب أعمالهم وتقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وإنما أنت مبلغ لهم ما نوحيه إليك فترغبهم بطاعة اللّه وترهبهم معصيته وتبشر الطائع بثواب اللّه وتنذر العاصي بعقابه ، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل لا وجه له وغاية احتجاجه بالنسخ تأويل وكيل على زعمه (لم أومر بحربكم) وهو تأويل عندي لأن معنى وكيل ما ذكرناه في الآية 67 المارة ليس إلا ولهذا قال تعالى «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ 107» لتردهم عما قدرناه لهم كلا ولا مسيطر ولا مسلط ولا موكل من جهتهم لتدافع عنهم ، قال تعالى «وَلا تَسُبُّوا» أيها المؤمنون آلهة «الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» آلهة أخرى وهذا النهي ليس لاحترام تلك الأصنام المهانة ولا لأنه لا يجوز سبها وإنما السبب فيه ما ذكره اللّه تعالى في جواب هذا النهي بقوله «فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً» عدوانا وهاتين الكلمتين معناهما التجاوز عن الحق إلى الباطل كأنهم بقولهم ذلك تعدوا وظلموا «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منهم بعظمة اللّه وما يجب أن يذكر به وحقيقة النهي هذا هو النهي عن سب اللّه لا عن سب الأوثان لأن سبهم مباح ولكنه لما كان يترتب عليه سب اللّه وسب رسوله المتسبب عن سبّها ، نهاهم اللّه عنه درءا لهذه المفاسد ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، كما أن اجتناب المناهي مفضل على فعل الأوامر ، وسبب نزول هذه الآية أن المؤمنين كانوا يسبّون أوثان الكفار فيردون عليهم فنزلت بالمنع لتلك الغاية ، وما قيل إنها نزلت لما نزلت آية (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) الآية 99 من سورة الأنبياء الآتية قال المشركون إذ ذاك لتنتهين عن سب آلهتنا يا محمد أو لنهجونّ ربك ، لا يصح ، لأن هذه
الآية لم تنزل بعد ، وكذلك ما قاله السدي من أنه لما حضرت وفاة أبي طالب قالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل فلنأمرنه بنهي ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه فلما مات قتلوه فتوصم وصمة لا خلاص لنا منها ، فانطلق منهم أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البحتري(3/389)
ج 3 ، ص : 390
إلى أبي طالب ، فقالوا له أنت كبيرنا وسيدنا وإن ابن أخيك محمد قد آذانا وآلهتنا فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا بسوء وإنا سندعه وإلهه فدعاه فجاء فقال له يا ابن أخي قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال صلّى اللّه عليه وسلم أرأيتكم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم وأدّت لكم الخراج فقال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي ؟ قال قولوا لا إله إلا اللّه ، فأبوا وتفرقوا فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي فقال يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها ، قال هذا صلّى اللّه عليه وسلم على فرض المحال إرادة إلى يأسهم ، فقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمن إلهك ، لا يصح هذا ، لأن هذه حادثة قديمة وقعت قبل نزول هذه الآية عند وفات أبي طالب كما أشرنا إليها في الآية 56 من سورة القصص في ج 1 ونوهنا بها في الآية 26 من هذه السورة وبين وفاته ونزول هذه السورة ما يقارب السنتين ، قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان «زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» في هذه الدنيا على علاته فرأوه حسنا إن كان خيرا وطاعة أو شرا ومعصية «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 108» فيها ويجازيهم عليه فيثيب المؤمن الجنة ويزج الكافر بالنار إن شاء وقدمنا ما يتعلق في بحث التزيين والإضلال وان اللّه تعالى ليس عليه رعاية الأصلح للعبد وإنما عليه لا على طريق الوجوب تبين الطريقين له راجع الآية 12 من سورة الحجر المارة وفيها ما يرشدك إلى مراجعته من الآيات المتعلقة في هذا البحث تعلم أن المزين في الحقيقة هو اللّه «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ» هؤلاء الكفرة «جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» أشدها وأوكدها «لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها» قالت
قريش يا محمد أما أخبرتنا أن صالحا أخرج لقومه ناقة من الجبل وأن موسى قلبت عصاه حية وضرب بها الحجر فتفجر الماء منها ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ؟
قال بلى ، قالوا فأتنا به نصدقك ونؤمن ، قال أي شيء تحبون قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا موتانا نسألهم عنك ونزل لنا الملائكة ليشهدوا نبوتك ، قال صلّى اللّه عليه وسلم إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقون ؟ قالوا نعم ، واللّه نتبعنّك أجمعين ، ثم إن(3/390)
ج 3 ، ص : 391
المسلمين سألوا رسول اللّه ذلك رغبة بإيمانهم فقام صلّى اللّه عليه وسلم يدعو ربه أن يجعل الصفا ذهبا فنزل جبريل وقال ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إذا لم يصدقوك ينزل بهم العذاب فيستأصلهم دفعة واحدة وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : بل حتى يتوب تائبهم ، فأنزل اللّه هذه الآية وأمره بأن يقول لهم ما قال تعالى «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المقترحين «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» هو يأتيكم بها وليست عندي ولا لي قدرة على الإتيان بها إذا لم يشأ اللّه وأنتم أيها المؤمنون أعرضوا عن هذا ولا تقولوا إنهم يؤمنون ، واللّه تعالى يقول لكم «وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ» تلك الآيات المقترحة من عند اللّه «لا يُؤْمِنُونَ 109» بها وحينئذ ينزل بهم العذاب ويستأصلهم كما استأصل قوم صالح إذ جرت عادة اللّه أن كل أمة اقترحت على نبيها آية فأعطاها اللّه لهم ولم يؤمنوا عذبهم جميعا وأحاط بهم عقابه الذي لا مرد له خاطب صلّى اللّه عليه وسلم أصحابه الذين سألوه إنزال الآيات حبا بإيمان المشركين من قومهم بما أوحى اللّه به إليه ليرتدعوا عن ذلك لأنهم لا يعلمون أنهم يؤمنون بها إذا نزلت ولا يعلمون أنها إذا نزلت ولم يؤمنوا يحيق بهم الداب لذلك جاءت هذه الآية إخبارا بمعرض النهي وإنما لم ينزل اللّه عليهم ما اقترحوه لعلمه أن أيمانهم فاجرة كاذبة وأن إيمانهم كلهم في زوايا العدم ، ولم يحن الوقت لإيمان من يؤمن منهم ، كما أنه لم يحن أجل تعذيب من يعذبه منهم لأن أقداره تعالى مدونة في لوحه ثابتة في علمه الأزلي لا تقدم ولا تؤخر.
وهذا التفسير على قراءة لا يؤمنون بالياء وهي الأوفق للمعنى والأحسن للسياق والأليق بالسياق ، وأما على قراءة (لا تُؤْمِنُونَ) بالتاء الفوقية فيكون الخطاب للمشركين وقد مشى عليها بعض المفسرين والمعول على الأول لأن المؤمنين أحبوا نزول الآيات لما رأوا قومهم قد وثقوا الأيمان لحضرة الرسول بأنهم يؤمنون إذا نزلت طمعا بإيمانهم كما ذكرنا.
مطلب الاستفهام الإنكاري له معنيان وتمحيص لا في هذه الآية وما يناسبها :
وما في الآية استفهامية إنكارية والاستفهام الإنكاري له معنيان بمعنى لم وبمعنى لا فإن كان بمعنى لم يقال وما يشعركم انّها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم أنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك والحال بخلافه.
وإن كانت بمعنى لا(3/391)
ج 3 ، ص : 392
يقال وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ، على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون ، فلذا توقعتم إيمانهم وهذا هو المراد بالآية واللّه أعلم ، ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه ، وقال بعض المفسرين إنّ لا زائدة وهو غير سديد إذ لا زائد في القرآن وكل حرف فيه له معنى لا يؤديه غيره ، ويزعم هذا القائل أن لا هنا مثل لا في قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1 ، وقوله تعالى (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) الآية 96 من سورة الأنبياء الآتيه ، على أن لا فيهما غير زائدة كما مر في تفسير الآية الأولى وسيأتي في الثانية أيضا لأن المعنى مستقيم بوجودها كما ستقف عليه.
كما أنهم قدروا (لا) في الآية المفسرة آنفا عدد 105 لتصير لئلا يقولوا درست وفي (عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) الآية 185 من البقرة في ج 3 ، وشبهها من الآيات مع أن المعنى جار على المطلوب بدون هذا التقدير كما مر في تفسير الآية الأولى ، وما سيأتي في الثانية إن شاء اللّه ، بأن تقدير لا لا لزوم له راجع الآية 96 من سورة يوسف المارة ، وقال بعض المفسرين إن (إنّ) من انها بمعنى لعل كقولهم أئت السوق إنك تشتري لنا شيئا أي لعلك تشتري ، وقول عدي بن زيد :
أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد
أي لعلّ منيّتي ، وقول امرئ القيس :
عوجوا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خزام
أي لعلّنا ، وقول الأخر :
أريني جوادا مات هولا لأنني أرى ما تربني أو بخيلا مخلدا
وقول الآخر :
هل أنتم عائجون بنا لأنا نرى العرصات أو أثر الخيام
وهذا وإن كان مثله كثيرا لجريانه في كلام العرب إلا أن الآية لا تنطبق عليه ولا حاجة إلى الركون لما هو خلاف الظاهر ، وأما ما احتج به من أن أبي بن كعب قرأ لعلها إذا جاءت فلا عبرة به لأنها تفسير لا قراءة ، ولو فرض محالا أنها قراءة فهي شاذة ، ولم تثبت في المصاحف ولم يقرأ بها غيره ، لذلك فإن ما جرينا(3/392)
ج 3 ، ص : 393
عليه هو الأولى بالمقام والأنسب لظاهر التنزيل والأليق بسياق التأويل واللّه تعالى أعلم «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ» عن قبول الحق فنحول بينه وبين أن تعيه قلوبهم لئلا يؤمنوا «وَأَبْصارَهُمْ» كي لا يروه فيما لو كان مرثيا ولا يروا المنزل عليه على حقيقته التي جعله اللّه عليها حتى لا يصدقوه فيما يتلو عليهم من تلك الآيات ، وهذا تقرير لحكم الآية الأولى واثبات لعدم إيمانهم وذلك لما سبق في علم اللّه سوء استعدادهم الكامن في ما هيّاتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة عليهم وأوضح لهم الحجة وللّه الحجة البالغة وما ظلمهم اللّه ولكن أنفسهم يظلمون ، وإنما حال بينهم وبين الإيمان بالآيات ولم يتركهم يرونها كما أنزلت لا عند نزولها ولا بعده «كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» أي كما أنهم لم يؤمنوا بمحمد عند إراءتهم الآيات المتقدمة مثل انشقاق القمر والإخبار بالغيب والإسراء والمعراج وما وقع فيها من الآيات وغيرها ، فلو أنزلنا عليهم الآن آية حسب طلبهم لكفروا بها أيضا كما كفروا بما قبلها وكذبوا رسولهم ، ولهذا أنزل عليهم آية «وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 110» يترددون في الحيرة لا يهتدون إلى الحق لأن قلوبهم هواء منه ولا يرونه لغفلتهم عنه ، واعلم يا أكمل الرسل أن من قومك من لم يؤمن وخاصة المقترحين
«وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى » كما طلبوا منك «وَحَشَرْنا» جمعنا وسقنا «عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا» بضمتين وقرىء بضم القاف وفتح الباء وبكسر القاف وفتح الباء ، وبكسر الباء وضم القاف ، وعلى الكل معناه المشاهدة مقابلة وعيانا ، أي لو جعلنا لهم ذلك كله فواجهوا الملائكة والموتى وتكلموا معهم إلخ «ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» وهذه الجملة جوابلو التي هي حرف امتناع أي امتنع إنزال الملائكة إلخ لامتناع إيمانهم ، واعلم أن جواب لو إذا كان منفيا لا تدخله اللام ، راجع بحثها في مغني اللبيب إذ أحاطه بجميع ما يتعلق بها ، وقد وهم بعض المفسرين فقدروها وعللوا هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم اللّه المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس الأمر وعلله بعضهم بسبق القضاء عليهم بالكفر واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليق الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده ، (3/393)
ج 3 ، ص : 394
على أنه لا خفاء بأن القضاء الأزلي الذي هو سبب لوقوع الحوادث ولا فساد فيه وفي هذا المقال بحث أعرضنا عنه إذ لا طائل تحته ، وفسر بعضهم قبلا وعليه يكون المعنى لو جمعنا كل الأشياء فأحضرناها وجعلناها كفلاء بصحة ما تقول من أحقية الإيمان لم يؤمنوا وهو كما ترى وفي الحقيقة لا يستطيع أحد أن يؤمن «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» إيمانه «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ 111» ذلك ويزعمون أن الإيمان بأيديهم وهو زعم باطل وقول عاطل وهذه الآية كالجواب للمؤمنين الذين طلبوا من حضرة الرسول إنزال الآيات المذكورة حبّا بإيمان المشركين الذين اقترحوها وسبب لنزولها قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما جعلنا لك يا محمد أعداء من قومك وغيرهم «جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا» ثم بين هذا العدو بأن أبدل من لفظه قوله «شَياطِينَ» وعتات «الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» والشيطان يطلق على كل عات تمرد من الإنس والجن قال مالك بن دينار شياطين الإنس أشد من شياطين الجن ، لأن الأخير إذا تعوذت منه يهرب ، والأول يثبت ، ولذلك قدمه اللّه تعالى ، روى الطبري عن أبي ذر ما يؤيد هذا القول ، ورواه البغوي أيضا ولكن بغير سند ، وهذا القول أولى من جعل الشياطين كلها من الجن أي أن إبليس يرسل أعوانه لإغواء الإنس والجن لمخالفة ظاهر الآية وقد جاء بالخبر : قرناء السوء شر من شياطين الجن بما يؤيد ما ذكرناه لأن قرين السوء يوقع صاحبه في المهالك بما يسول له من سلوك سبل الشر وقد يقره عليها أحيانا أما شيطان الجن فيقصر عمله على الوسوسة بتحسين كل قبيح ليس إلا لقوله تعالى «يُوحِي» يسر ويشير «بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ» أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس وبعض الإنس إلى الإنس وبعض الجن إلى الجن فيفتنون بعضهم أيضا ولا يقال يوسوس الإنس إلى الجن لأنه لا يقدر أن يجري منه مجرى الدم كما يفعل الجن ذلك بالإنس قال صلّى اللّه عليه وسلم إن الشيطان يجري
من أحدكم مجرى الدم وأنّى للإنسان من ذلك ، وهذه الوساوس التي تلقى بقصد الإغراء «زُخْرُفَ الْقَوْلِ» بالنصب على أنها مفعول يوحي وهو عبارة عن القول الباطل المموه الذي ظاهره غير باطنه كالإناء المطلي ليكون «غُرُوراً» خداعا حيث يأخذونهم بما يزينون لهم من الأعمال القبيحة على غرة منهم وغفلة «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ»(3/394)
ج 3 ، ص : 395
البتة إذ لا يقع شيء دون مشيئته كما مر في الآية السابقة وهي مؤيدة لما جاء في الآية 110 المارة بشأن الإرادة لأنه تعالى قادر على منعهم من الوسوسة وقادر على حفظ عباده من قبولها من بعضهم ومن الجن أيضا ، وإنما يسلطهم امتحانا على من يشاء واختبارا لبعض عباده راجع الآية 36 من سورة الحجر المارة «فَذَرْهُمْ» اترك هؤلاء الكفرة يا أكرم الخلق ودعهم «وَما يَفْتَرُونَ 112» من القول فيك وفي ربك وكتابك فإني سأخزيهم وأنصرك عليهم «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ» تذعن وتنقاد إلى تمويه الشياطين ووساوسهم «أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» ممن سبق في علم اللّه شقاؤهم «وَلِيَرْضَوْهُ» لأنفسهم طوعا واختيارا ورغبة إذ تميل إليه قلوبهم حبا به «وَلِيَقْتَرِفُوا» من هذه الزخارف الآخذة بهم إلى قبيح العمل وسوء الفعل وخطأ القول «ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ 113» من أنواع الآثام مما يزين لهم شياطينهم من الكفر والشرك والعصيان والاستهزاء والسخرية بنا فإنا من ورائهم ، وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى ولما قال المشركون
يا محمد اجعل بيننا وبينك حكما من أعيان العرب نتقاضى إليه في أمرنا وأمرك أنزل اللّه جل إنزاله قل يا أكرم الرسل «أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً» يقضي بيننا «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ» علي «مُفَصَّلًا» فيه كل شيء من الحلال والحرام والأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار والحدود والأحكام والحوادث والأمثال ، وموضحا فيه الحق من الباطل والصدق من الكذب ، فهو وحده الحكم الحق بيني وبينكم وهو يحتوي على ما في الكتب القديمة والصحف وفيه ما لا يوجد فيها ، وهذا القول وقع بالمدينة والحكم الذي أرادوه من أحبار اليهود وأساقفة النصارى الموجودين فيها لأن هذه الآية الخامسة المدنية من هذه السورة المستثناة منها «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» من اليهود والنصارى الذين أرادهم المشركون حكما «يَعْلَمُونَ» حق العلم ويوقنون حق الإيقان «أَنَّهُ» أي القرآن المنزل عليك والذي تحدثهم به «مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» لما هو ثابت في كتبهم بالدلائل القاطعة على صحته وصدق نبوتك «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 114» الشاكين في ذلك بل أيقن وتحقق أنهم عالمون به علم اليقين فلا يخطر ببالك عدم(3/395)
ج 3 ، ص : 396
علمهم به أصلا وإنما يجادلونك به عنادا «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» يا سيد الرسل بالحكم على صدق نبوتك وكون الموحى إليك من عنده وقرىء كلمات ، وهي لسياق الآية الآتية ، على أنه قد يراد بها الجمع أيضا عند الإضافة «صِدْقاً» في قوله «وَعَدْلًا» في قضائه «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» ولا راد لحكمه ولا مغيّر لقضائه «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوال عباده «الْعَلِيمُ 115» بما يفعلونه فقد حكم اللّه جل حكمه لنبيه وهو أحكم الحاكمين بأن رسالته حق وكتابه حق وما يدعو له حق ، قال تعالى «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ» من الكفرة لأنهم الأكثر قلّلهم اللّه ولا يزال أهل البدع والأهواء والبغاة أكثر «يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» دينه السوي الذي شرعه لعباده وبعثك به وهو الطريق الذي يفوز من يتبعه «إِنْ يَتَّبِعُونَ» أي ما يتبع هؤلاء المجادلون في معتقداتهم «إِلَّا الظَّنَّ» بأن آبائهم كانوا عليه وتلقوه من آبائهم ويزعمون أنه الحق «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ 116» يكذبون في ظنهم هذا ، كما أن آباءهم كاذبون في ادعائهم أحقية دينهم ، وسبب نزول هذه الآية أن الكفرة جادلوا المؤمنين في أكل الميتة بقولهم كيف تأكلون ما تقتلون أي تذبحون ولا تأكلون ما يقتله ربكم مع أنكم تأكلون ما يقتله طيوركم وكلابكم ونبالكم والنتيجة واحدة وهذا كقولهم (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) على التسوية بينهما ، وهو جهل محض منهم لعدم علمهم حكمة اللّه تعالى فيهما وما يترتب عليهما من المضار وسنأتي على بيانه إن شاء اللّه في مطلع سورة المائدة وأواخر سورة البقرة في ج 3 قال عكرمة إن المجوس سألت المشركين عن ذلك فنزلت ، وقال ابن عباس إن اليهود سألت الرسول عنه فنزلت والأول أولى ، قال تعالى يا سيد الرسل ذرهم على غيهم هذا «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ» وهم الكفرة على اختلاف نحلهم ومللهم «عَنْ
سَبِيلِهِ» السوي العدل «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 117» وهم عباده المؤمنون وهو العالم بما يستوجبه الأول وما يستحقه الثاني «فَكُلُوا» أيها المؤمنون «مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» أثناء ذبحه ولا تأكلوا مما أمانه اللّه «إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ 118» مصدقين بها متحققين أحقيتها وهذا جواب لأولئك القائلين لما ذا لا تأكلون مما يقتل اللّه وتأكلون مما تقتلون «وَما لَكُمْ»(3/396)
ج 3 ، ص : 397
أيها الناس أي شيء عرض لكم ومنعكم من «أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» وهذا تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم اللّه دون غيره «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» في كتابه مما لم يحرم ووضحه لكم فمنه ما أنزله ومنه ما سينزله بعد ، لأنه تعالى أنزل الكتاب جملة واحدة إلى بيت العزة كما تقدم في المقدمة في بحث إنزال القرآن وقد استوفى ذكره في سورة المائدة التي هي قبل هذه السورة في ترتيب القرآن كما هو في علم اللّه وبعدها بالنزول فتلك مدنية وهذه مكية لهذا فإن بعض المفسرين قال إن هذا التفصيل المشار إليه هنا يعود إلى سورة المائدة بالنظر إلى هذا لكنه قول غير سديد لما فيه من البعد وعليه فإن المراد بالتفصيل ما ذكره في هذه السورة وما سيذكره بعد في المائدة وغيرها ، وقال بعضهم إن الضمير
يعود إلى قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية الآتية بعد بضع وعشرين آية وقد اختاره الإمام الرازي بداعي أن هذا التصور من المتأخر لا يمنع أن يكون المراد به الآن وهو وجيه لو كان عود الضمير إلى المتأخر جائز مطلقا وحيث لا فلا كما أشرنا إليه في الآية 29 المارة بأنه يمكن عوده لما يليه أما عوده لكلام بعد جمل كثيرة فلم يقل به أحد ويحتمل أن الرازي رحمه اللّه نظر إلى أن التأخير في التلاوة لا يوجب التأخير في النزول ، وعليه فلا يضر تأخر هذه الآية التي نحن بصددها لأنها من صورة واحدة تدبر.
مطلب الضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بغيرها وأن طاعة اللّه واجبة مطلقا :
واعلم أن اللّه تعالى بين لكم ، ما حرم عليكم ومنعكم من تعاطيه «إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ» بأن مستكم الحاجة «إِلَيْهِ» وأقسرتم على أكل شيء من المحرمات أو شربه من قبل الغير أو أنهككم الجوع والعطش لتناوله بحيث لا يوجد غيره ، وفي عدم التناول يتحقق الهلاك فعلا أو في غالب الظن ، فإذ ذاك يجوز تناول المحرم أكلا وشربا بقدر الحاجة الدافعة لمظنة الهلاك ، إذ يكون هذا في هذه الحالة مباحا لأنه صار من جملة ما أحله اللّه عند الحاجة ، والقاعدة الفقهية أن الضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بقدرها ولذلك قلنا بجواز تناول ما يوقع مظنة الهلاك لأن من غص(3/397)
ج 3 ، ص : 398
بالأكل ولا ماء عنده جاز له أن يسوغها بالخمر ، ومن أنهكه الجوع ولا شيء عنده جاز له أكل الميتة والدم والخنزير بقدر ما يدفع به الغصة وضرر الهلاك وفاقا للقاعدتين المذكورتين ، وليعلم أن ما يحصل للوجود من الضرر بشرب أو أكل شيء من ذلك أهون من ضرر الإتلاف والقاعدة الشرعية الثالثة هي اختيار أهون الأمرين ضررا ، هذا «وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ» فيحرّمون ويحللون كما تشتهي أنفسهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منهم بحكم اللّه وعدم معرفتهم بحقائق ما حرم عليهم غير ملتفتين إلى أسبابه لأن اللّه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا ودرأ للمضار عنا فمخالفته اعتداء عليه تعالى أولا وثانيا على النفس التي أوجب اللّه علينا محافظتها من المضار ، وجاء في الخبر : من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ 119» المتجاوزين قدر الحاجة في تناول المحرمات زيادة عن الضرورة ، هذا وليعلم أن طاعة اللّه واجبة مطلقا سواء كان المنهي عنه بسبب ظاهر أو لا لأن أحكام اللّه لا تعلل كما نوهنا به في الآية 96 من سورة يونس المارة ، قال تعالى «وَذَرُوا» أيها الناس «ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ» اتركوه وتباعدوا عنه وأعرضوا عن كل ما نهيتم عنه إذا كنتم تريدون الطهارة الحسية والمعنوية ، واجتنبوا ما يطلق عليه لفظ الإثم سرا وعلانية قليلا أو كثيرا لأن التلبس بالذنوب سرا يفضي إلى الجهر ، ومقارفة القليل منها تؤدي إلى الكثير ، ومن مال حول الحمى يوشك أن يقع فيه ثم هدد جل ثناؤه أمثال هؤلاء بقوله «إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ» أي إثم كان ومجيئه معرفا لا يمنع من عمومه لشموله جميع المنهيات الكبائر والصغائر «سَيُجْزَوْنَ» يوم القيامة إن لم تعجل لهم العقوبة في الدنيا ولم يتوبوا أو يقاصصوا ، لأن اللّه تعالى قد يغفر بعض الإثم بمقابل ما يصيب مكتسبه من البلاء «بِما
كانُوا يَقْتَرِفُونَ 120» بقدر اقترافهم منه لأن لكل إثم جزاء عند اللّه يجازيه عليه بحسبه وسبب ارتكابه إياه ، وقدمنا ما يتعلق بالإثم في الآية 32 من سورة الأعراف في ج 1.
هذا وما قاله بعض المفسرين بأن ظاهر الآية يخصص ظاهر الإثم في نكاح المحارم من زوجة الأب والابن وغيرها وباطنه في الزنى أو أن الظاهر بالزنى بأولى الرايات المعلنات البغاء ، إذ كان في الجاهلية(3/398)
ج 3 ، ص : 399
الزانيات المعلنات يضعن رايات على محلهنّ علامة على ذلك ، والباطن هو الزنى بالأخدان وهو أن يتخذ الرجل صديقة له من الأجانب فيأتيها سرا إذا كان لها زوج وعلنا إن لم يكن لها زوج أو ولي أما الخدن التي لا زوج لها ولا ولي فهي من قسم الزانيات المعلنات أو أن الظاهر طواف الرجال بالبيت نهارا عراة والباطن طواف النساء به ليلا عراة وغير ذلك أقوال لا مستند لها ولا مناسبة لها في هذه الآية التي لا يوجد ما يقيدها بشيء من ذلك ، في عامة لهذه الأشياء وغيرها من جميع الآثام كبيرة كانت أو صغيرة ،
قال تعالى «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» هذا نهي عام أيضا لا يستثنى منه إلا النسيان والخطأ والإكراه والشك في التسمية ، وذبيحة الكتابي مستثناة أيضا روي أنه صلّى اللّه عليه وسلم سئل عن متروك التسمية نسيانا فقال كلوا فان تسمية اللّه تعالى في قلب كل مسلم وقال صلّى اللّه عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت قلت يا رسول اللّه ان هنا أقواما حديثا عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فما ندري يذكرون اسم اللّه عليها أم لا قال أذكروا أنتم وكلوا ، فعلى هذا ليس لنا أن نقول انهم لا يذكرون اسم اللّه على ذبائحهم وهم أهل كتاب بل نعتقد أنهم يذكرون كيف وقد قال تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) الآية 5 من سورة المائدة في ج 3.
مطلب النهي عن كل ما لم يذكر اسم اللّه عليه والحكم الشرعي في التسمية وما هو مفعولها.
أما ترك التسمية عمدا على الذبيحة فيحرم أكلها بنص هذه الآية لأن عدم ذكرها ظاهرا عمدا ينفي تخطرها في قلبه وإن ما جاء في الخبر ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم اللّه تعالى أو لم يذكر محمول على النسيان لا على العمد لأن فيها تهاونا وعدم مبالاة وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك «وَإِنَّهُ» أي كل متروك التسمية عمدا «لَفِسْقٌ» خروج عن طاعة اللّه «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ» يسرون ويشيرون «إِلى أَوْلِيائِهِمْ» من المشركين بذلك «لِيُجادِلُوكُمْ» فيه جهلا وعنادا «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ» أيها المؤمنون في تناول شيء مما حرم عليكم دون(3/399)
ج 3 ، ص : 400
مسوغ أو أكلتم مما ذكر اسم الصنم عليه وحده أو مع اللّه «إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ 121» مثلهم ، لأن اللّه لا يقبل الشركة معه وان من اتبع غير اللّه في دينه فقد أشرك به ومن آمن به وأشرك معه غيره فقد أشرك وكفر أيضا هذا ومن أول هذه الآية بغير ما ذكرناه فقد خالف ظاهرها وكلف نفسه ما لا يعنيها وعرضها للخطأ ولا سيما وان هنا مزالق الأقدام لأنك إذا أرخيت للعنان لنفسك تبعها هواها فتسترسل في كتاب اللّه فاياك أن تتجاوز حده فاحفظ نفسك حفظك اللّه «أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً» من كان قلبه ميتا بالكفر لأن الكافر في حكم الميت «فَأَحْيَيْناهُ» بالإيمان والمعرفة «وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً» في قلبه يستضيء به طريقه بدل الكفر والضلال الكامنين فيه فصار «يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» أي بينهم آمنا منهم بما هو عليه من الإيمان الكامل «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ» ظلمة الكفر وظلمة الجهل وظلمة القلب «لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» أي ليس هذا وذاك سواء وهذا مثل ضربه اللّه للمؤمن والكافر ، لأن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فأحيي وأعطي نورا يهتدي به في مصالحه فهو في مخبأة من المهالك والكافر بمنزلة المنغمس في الظلمات يبقى متحيرا لا يعرف كيف يتخلص منها ، قال ابن عباس رضي اللّه عنه نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب رضي اللّه عنه وفي أبي جهل بن هشام لأنه قبحه اللّه أمر عقبة ابن أبي معيط بأن يرمي النبي صلّى اللّه عليه وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل فغضب وأقبل على أبي جهل وصار يضربه بالقوس فطفق أبو جهل يتضرع إليه ويقول له يا أبا يعلى أما تراه سفه عقولنا وأحلامنا وآلهتنا ، فقال ومن أسفه منكم عقولا تعبدون الحجارة من دون اللّه ، وأسلم في ذلك اليوم رضي اللّه عنه وأرضاه ، وهناك أقوال أخر بأنها نزلت في النبي صلّى اللّه عليه وسلم أو في عمر أو في عثمان وأبي جهل أو في عامة المؤمنين والكافرين والأول
أولى لنبوت واقعة إسلام حمزة فيه وهي أيضا عامة في كل مؤمن مهتد وفي كل كافر ضال ، لأن خصوص نزولها لا يقيد عمومها «كَذلِكَ» كما زين للمؤمن إيمانه «زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 122» من الكفر والمعاصي و«كَذلِكَ» مثل ما جعلنا في مكة كبراء للمكر والكيد «جَعَلْنا» أيضا «فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها» أي مجرمين أكابر(3/400)
ج 3 ، ص : 401
من اضافة الصفة إلى الموصوف وقيل إن مجرميها بدل من أكابر وقيل مفعول أول وأكابر مفعول ثاني لأنه معرفة فيتعين أنه المبتدأ بحسب الأصل ، والأول أولى ، وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم أقدر على المكر والكيد وترويج الباطل بين الناس من غيرهم ، وإنما حصل ذلك لأجل الرياسة وقد جرت سنة اللّه أن ينقاد الناس لرؤسائهم في الجاه والمال وكثرة الأنصار وأن يكون اتباع الرسل أول أمرهم ضعفاؤهم «لِيَمْكُرُوا فِيها» ليتجبروا على الناس بالمكر والخديعة والحيل والغرور والفجور وأنواع المكايد «وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ» لأن المكر يحيق بصاحبه راجع الآية 63 من سورة فاطر في ج 1 ، «وَما يَشْعُرُونَ 123» أن مكرهم يعود عليهم ويضرهم قال بعض الأفاضل ويدخل في المكر الغيبة والنميمة والكذب وترويج الباطل بين الناس والأيمان الكاذبة وغيرها «فَإِذا جاءَتْهُمُ» بلغت هؤلاء المشركين ، من آيات اللّه المنزلة على رسوله «آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ» بها وحدها ولا نؤمن «حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» من النبوة ويأتينا جبريل بالوحي من عند اللّه ، قال تعالى ردا على هؤلاء الفسقة «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» ومن هو صالح لنبوته وخلافته على خلقه فيشرفه بها وهذا مما يؤيد أنهم طلبوا النبوة لا كما قاله الغير من أنهم طلبوا نزول الملائكة
فقط لتشهد برسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
وقد نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة حين قال زاحمنا بني عبد المطلب في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان ، قالوا منّا نبي يوحى إليه واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه.
ولا مانع بأن يكون نزولها فيهما معا ، وهذا من المكر الذي تضمنته هذه الآية الشريفة السابقة.
قال أهل المعاني : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعثة مطاعين لأن الطعن يتوجه عليهم فيقال إنهم كانوا رؤساء فاتبعهم قومهم ، فكان اللّه تعالى أعلم بمن يستحقها فجعلها في محمد بن عبد اللّه وهو يتيم ويوجد من أهله من هو أقدم منه في الرياسة لقومه ولم يجعلها في المجرمين الأكابر كأبي جهل والوليد «سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» من هؤلاء المتطاولين «صَغارٌ» ذل وهوان «عِنْدَ اللَّهِ» في الآخرة غير الذي حل بهم في الدنيا «وَعَذابٌ شَدِيدٌ»(3/401)
ج 3 ، ص : 402
فيها أيضا غير عذاب القتل والأسر والجلاء في الدنيا وذلك «بِما كانُوا يَمْكُرُونَ 124» بسبب مكرهم وصدهم وطلبهم ما لا يستحقونه وتمنيهم على اللّه الأماني مع إصرارهم على الكفر واستخفافهم بالإيمان باللّه وبمن يأمرهم به «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ» للإيمان «يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» فيوسعه وينوره ويصيره مستعدا لقبوله فيؤمن.
مطلب ما يوجب ضيق الصدر والمثل المضروب لذلك من معجزات القرآن :
أسند الطبري عن ابن مسعود قال : سئل رسول اللّه حين نزلت هذه الآية عن شرح الصدر قال نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح.
قيل فهل لذلك أمارة ؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت.
«وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً» حتى لا يدخله الإيمان لأنه يشمئز من ذكر اللّه ويرتاح لذكر الأوثان ، والحرج هو المكان الضيق والغابة الأشجار الملتفة التي لا يصل إليها شيء من الحيوانات الراعية السائمة والوحشية - شبه اللّه قلب الكافر الذي لا يصل إليه الخير بالحرجة الشجرة الملتفة بجامع الضيق في كل ، وجعله بحيث لا يعي علما ولا استدلالا على توحيد اللّه تعالى والإيمان به وفي هذه الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة اللّه تعالى وإرادته من إيمان المؤمن وكفر الكافر وهو كذلك وقد ألمعنا لهذا في الآية 39 - 107 من هذه السورة وفيها ما يرشدك لمراجعة غيرهما فترى ذلك الضال «كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» وهذا تمثيل لشدة ضيق الصدر على طريق المبالغة إذ شبهه بمن يزاول ما لا يقدر عليه لأن صعود السماء بدون جناحين أو خاصة أكرم بهما وبعض البشر خارج عندائرة الاستطاعة ولهذا مثل فيه ، وفي الآية تنبيه على أن الإيمان يمتنع ممن هذا شأنه كما يمتنع عليه صعود السماء ، وقيل كأنه يكلف صعودها إذا دعي للإيمان إذ يرى أن الأرض ضاقت به ، وفيها إيذان بأمر آخر وهو أن أو كسجين الهواء ينقص فى طبقات الجو وكلما ارتفع تناقص وأن الإنسان إذا صعد لتلك الطبقة ولو بالطائرة أو غيرها من الآلات المحدثة لا بطريق الكرامة أو المعجزة يشعر فيها بعوارض الاختناق من صعوبة التنفس حتى يقارب إلى أن يترشح الدم من مسام وجوده فتضعف قواه لضعف الضربة الدموية في قلبه ، وقد يؤدي ذلك إلى الموت ، (3/402)
ج 3 ، ص : 403
وهذا من معجزات القرآن العظيم ، إذ لا يوجد زمن الرسول من يعرف هذا أو يخبر عنه حتى يضرب اللّه تعالى به المثل الذي لم يطلع عليه إلا الماهرون في علم الفلك وطبقات الجو ومن اجتاز طبقة عليا من الطيارين في هذا الزمن قرن العشرين ميلادي والرابع عشر هجري فاعتبروا يا أولي الأبصار وأجيلوا النظر في قوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) «كَذلِكَ» مثل ذلك الجعل «يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ» والعذاب الفظيع في الآخرة واللعنة المعقدة في الدنيا «عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 125» به مثل ما جعل صدورهم ضيقة عن قبول الإيمان وأصل الرجس الشيء القذر ويراد منه الخذلان وكل ما لا خير فيه وفي هذه الآية رد صريح على المعتزلة القائلين بعدم الإرادة والمشيئة كما ذكرنا في الآية 124 المارة ، قال تعالى «وَهذا صِراطُ رَبِّكَ» يا محمد «مُسْتَقِيماً» عدلا فيمن اقتضت حكمته وسنته أن يشرح صدر من شاء من عباده إرادة هدايته من شاء أن يضيق صدره إرادة خذلانه ، وهو منصوب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة لأن ذا يتضمن معناها كقولك هذا زيد قائما أي أشير إليه حال قيامه ، واعلم أنه إذا كان العامل في الحال معنى الفعل لم يجز تقديم الحال عليه فلا يجوز أن تقول قائما هذا زيد ويجوز ضاحكا جاء زيد «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ 126» بمعانيها فيتعظون بها ، وإنما ختم هذه الآية بالتذكر لأنه تقرر في عقل كل أحد أن طرفي الممكن لا يترجح على الآخر إلا بمرجح فكأنه تعالى يقول لأهل الاعتزال تذكروا ما تقرر في عقولكم أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح حتى تزول الشبهة عن قلوبكم بالكلية في مسألة القضاء والقدر وهؤلاء المتذكرون «لَهُمْ دارُ السَّلامِ» الأمان من كل خوف وكدر وهي الجنة أضافها اللّه تعالى إليه تعظيما لها بقوله «عِنْدَ رَبِّهِمْ» في الآخرة «وَهُوَ وَلِيُّهُمْ» في الدنيا والآخرة «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 126» من الخير «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ» لموقف الحساب في الآخرة «جَمِيعاً» الأنس والجن برهم وفاجرهم فيقول لهم «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ» في الإضلال حتى صيرتموهم أتباعا لكم «وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ» أولياء الجن «مِنَ الْإِنْسِ» الذين أطاعوهم وقبلوا وساوسهم «رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ(3/403)
ج 3 ، ص : 404
بَعْضُنا بِبَعْضٍ»
كما استمتع الجن بدلالتنا على الشهوات المنهي عنها وأوصلونا إليها استمتعنا بطاعتهم وإغوائهم بحيث صار بينهم القبيح والخبيث متقابلا «وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا» في الدنيا وحضرنا يوم الجزاء الذي وعدتنا به وهذا اعتراف بما كان منهم
في الدنيا من طاعة الشيطان واتباع الهوى والتكذيب بالبعث والقضاء زمن الاستمتاع وإبداء زمن الحسرة والندم على مافات ، فأجابهم اللّه بقوله «قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ» مأواكم ومنزلكم ومقركم «خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» من مقدار مبعثهم من قبورهم ومدة حشرهم وزمن حسابهم ووقوفهم إلى وقت دخولهم النار لأن الاستثناء من يوم القيامة المعنى بقوله تعالى ويوم نحشرهم أي منذ يبعثون ولا وجه لقول من قال إلا أوقات نقلهم من النار إلى الزمهرير وبالعكس ، أو كلما يستغيثون من عذاب فينقلون لغيره ، لأن هذا كله عذاب واختلاف تنوعه يكون فيما بعد يوم القيامة لا فيه ، وقال ابن عباس المستثنيون قوم سبق في علم اللّه أنهم مؤمنون وتقدم بحثهم مستوفيا في الآيتين 107 - 108 من من سورة هود المارة ، والقول الحق أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللّه تعالى في خلقه أن لا ينزلهم جنة أو نارا لأنه الفعال لما يريد «إِنَّ رَبَّكَ» يا سيد الرسل «حَكِيمٌ» فيما يفعل بأوليائه وأعدائه «عَلِيمٌ 128» بما يصيرون إليه قبل أن يلقوه «وَكَذلِكَ» مثل ما أنزلنا العذاب بالجن والإنس الذين انتفعوا وتمتعوا ببعضهم في الدنيا في عصياننا وتكذيب رسلنا وإنكار ما جاءوهم به من عندنا «نُوَلِّي» في الآخرة «بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً» في النار ليذوقوا العذاب فيها سوية مثل ما ذاقوا المعاصي في الدنيا «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 129» من الآثام وكما جعلنا المؤمنين بعضهم أولياء بعض في الدنيا ، فبعضهم كذلك أولياء بعض في الآخرة ، كذلك الكفرة بعضهم أولياء بعض في الدنيا وفي الآخرة يتبع بعضهم بعضا ونقول لهم على جهة التوبيخ والتقريع ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ»
الذين ضللتم وأضللتم في الدنياَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ»
من جنسكم ليعود الضمير إلى الأخير وهم الإنس لأن الجن لم يرسل لهم رسولا منهم ما عدا الذين سمعوا القرآن من حضرة الرسول وأنذروا به قومهم فهم رسل محمد صلّى اللّه عليه وسلم إليهم مثل الحواريين الذين أرسلهم عيسى(3/404)
ج 3 ، ص : 405
عليه السلام لبث دعوته باسمه راجع الآية 36 من سورة الأحقاف الآتية والآية 13 من سورة يس في ج 1.
هذا وإن رجوع الضمير إلى أحد المذكورين جائز في كل ما اتفق في أصله ولما اتفق ذكر الجن والإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف لأحدهما كقوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الآية 22 من سورة الرحمن في ج 3 وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب لأن ذكرهما قد جمع في قوله تعالى (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) الآية 19 منها ، والظاهر أنه تعالى أرسل إليهم رسلا منهم لأنهم مكلفون بالعبودية كالبشر الذين أرسل إليهم رسلا منهم ، وعليه فإن ما جرينا عليه تأويل على خلاف الظاهر تبعنا فيه أقوال المفسرين الأعلام ، والسائق إليه عدم العلم بإرسال رسل إلى الجن منهم من قبل اللّه تعالى وما جاء في هذه الآية صرف إلى غير الظاهر بما ذكر من التأويل المار ذكره مع أن الآية تدل دلالة صريحة لا غبار عليها أن اللّه أرسل إلى الجن كما أرسل إلى الإنس وإذا عرفت أن الجن سكنوا هذه الأرض التي أنت عليها قبل الإنس أي قبل آدم عليه السلام وذريته من بعده آلاف السنين اعترفت بجواز إرسال الرسل إليهم ، وأنهم أهلكوا بعد أن عاثوا في الأرض فسادا بعذاب من عند اللّه كما أهلكت الأقوام العاصية من البشر ، يدل على هذا الآية 30 من سورة البقرة في ج 3 فراجعها ، ولما لم يبق منهم إلا إبليس ألحقه اللّه تعالى بالملائكة لما كان عليه من العبادة والطاعة في الظاهر وشهرته بهما عند الملائكة ، قال تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 50 من سورة الكهف الآتية وضمير الجمع في قوله تعالىَ قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي»
بما حللت وحرمت وأوجبت وأبحت ووعدت وأوعدت يؤيد إرسال الرسل إليهم كغيرهم والضمير فيَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا»
أي البعث بعد الموت يؤيد إرسال الرسل إليهم منهم أيضاالُوا»
أي كفار الفريقينَ هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا»
بأن الرسل بلغونا آياتك وأنذرونا عقابك وحذرونا هول هذا اليوم ، وقد كذبناهم لأنا استبعدنا ما أخبرونا به ولم نصدق الإعادة بعد الموتَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا»
بما فيها من الشهوات المموهة المزخرفةَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
130» إذ لم يروا بدا من(3/405)
ج 3 ، ص : 406
الاعتراف ولا مناص من الهرب واعترافهم هذا لا ينافي جحدهم الشرك في قولهم (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الآية 23 المارة ، وقد مر أن
يوم القيامة طويل وأحواله مختلفة ولكل مقام مقال فإنهم إذا رأوا ما حصل للمؤمنين من الكرامة أنكروا الشرك وإذا رأوا الحساب جادلوا وإذا رأوا شركاءهم طرحوا اللوم عليهم وإذا أدخلوا النار تجادلوا مع أوليائهم ورؤسائهم وهكذا إلا أن كل ذلك لا ينفعهم ولا يخلّصهم من العذاب المتحتم عليهم وقدمنا في الآية 27 المارة والآية 83 من سورة النمل في ج 1 ، ما يتعلق بهذا البحث فراجعه
«ذلِكَ» إشارة لما تقدم في قوله تعالى ويوم نحشرهم إلى هنا «أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ» أقدموا عليه قبل ان نرسل إليهم رسولا يأمرهم وينهاهم ويرشدهم لما يأنون ويذرون «وَأَهْلُها غافِلُونَ 131» لم ينبهوا من قبل رسل اللّه أن ذلك يكون ظلما عليهم واللّه تعالى لا يحب الظلم ولا يفعله كيف وقد نهى عنه عباده أما إذا جاءهم رسول من عند اللّه وأنذرهم عذابه إن لم يؤمنوا ويقلعوا عن المعاصي ولم يفعلوا فأوقع عليهم العذاب فيكون عدلا منه لأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بعدم الامتثال لأوامر الرسل وتماديهم في الشرك والظلم ، والعدل الذي أمر اللّه به عباده هو الحق الخالص روح كل نظام وحياة كل كمال وهو الأصل الراسخ وقوام كل خير في السماء والأرض يهتدي إليه كل ذي عقل سليم ويؤيده العلم الصحيح ويؤدي إلى النظر القويم فيرتاح إليه القلب ويطمئن له الضمير وتركن إليه الجوارح «وَلِكُلٍّ» من الفريقين «دَرَجاتٌ» للمؤمنين في الجنة ودركات للكافرين في النار «مِمَّا عَمِلُوا» لكل بمقتضى عمله وسببه جزاء له وثوابا للطائعين وعقابا للعاصين «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 132» سرا وعلنا خيرا أو شرا لأن كلا من الفريقين مدون عملهما من قبل الحفظة ومسجل في اللوح المحفوظ وثابت في علمه الأزلي «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ» عنهما وعن عملهما وهو «ذُو الرَّحْمَةِ» الواسعة «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أيها الناس صالحكم وطائعكم «وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ» من خلقه أطوع وأحسن وأمثل منكم وينشئهم «كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ 133» أهلكوا قبلكم بذنوبهم.
واعلموا أيها الناس «إِنَّ ما(3/406)
ج 3 ، ص : 407
تُوعَدُونَ»
به من العذاب إذا أصررتم على كفركم «لَآتٍ» إليكم وواقع بكم لا محالة كما أن ما توعدون به من البعث والحساب على الأعمال والعقاب عليها كائن البتة «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ 134» اللّه ولا فائتين عذابه ولا مفلتين منه ، لأنه يدرككم حيثما كنتم ويدخلكم النار ، كما أن ما وعده للمؤمنين من الثواب آت إليهم ، قال تعالى لرسوله «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم التي أنتم عليها وقرىء مكاناتكم جمع مكانة بمعنى المكان وقيل على تمكنكم أي حسبما تستطيعون من الأعمال والأقوال «إِنِّي عامِلٌ» على حالتي وتمكني «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» غدا في الآخرة «مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» المحمودة أنا أم أنتم فاتقوا اللّه قبل أن يحل بكم عذابه وأقلعوا عن الظلم «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 135» بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم إذ لا يسعد من كفر باللّه ، وما قيل إن هذه الآية منسوخة لأن المراد منها ترك القتال لا وجه له بل هي محكمة وغاية ما فيها التهديد والوعيد وهي من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ ، تأمل ما قدمناه في الآيات 69 - 70 و91 - 104 من هذه السورة وهذا طريق لطيف في الإنذار جاء على حد قوله تعالى (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) الآية 81 من هذه السورة أيضا.
مطلب الأشياء التي ذم اللّه بها العرب وعدم جواز الوقف على الذكور وتخصيصهم دون الإناث بشيء :
قال تعالى «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ» خلق وبرأ «مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً» حظا وسهما ولأصنامهم مثله كما يدل عليه قوله جل قوله «فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا» بزعمهم أيضا من حيث أن اللّه لم يأمرهم بذلك ولم يشرع لهم هذه القسمة ولهذا «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ» أصناما أو غيرها «فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ» لأنه ليس له خالصا وهو جل شأنه لا يقبل الشركة ولأنهم لم يعطوه للمساكين ولم ينفقوه على الأرحام والفقراء والضيوف «وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ» لأنهم ينفقونه على سدنة الأوثان ويسمونه للّه تسمية فقط ، وهكذا كان حكمهم السيء ولهذا عابه اللّه عليهم بقوله «ساءَ(3/407)
ج 3 ، ص : 408
ما يَحْكُمُونَ
136» في هذا التقسيم المجحف إذ يؤثرون آلهتهم على اللّه واللّه أحق أن يراعى جانبه ويحفظ حقه ، فبئس القضاء قضاؤهم.
روي أنهم كانوا يعينون أشياء من حرث وأنعام للّه تعالى ومثلها لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه للّه زاكيا ناميا رجعوا فجعلوه للأوثان ، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان زاكيا ناميا تركوه لها وقالوا إن اللّه غني عنه ، قاتلهم اللّه يعرفونه غنيا وقادرا وضارا ونافعا ويعبدون غيره ويرجحونه عليه «وَكَذلِكَ» مثل ما زين لهم تجزئة أحوالهم «زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ» شياطينهم لأنهم أطاعوا وسوستهم يوأد البنات وسموا شركاء لهذا المعنى لأن الشريك قد يسمع كلام شريكه راجع الآية 31 من سورة الإسراء والآية 29 من سورة التكوير المارتين في ج 1 ، وسماعهم هذا لأوامرهم ما هو لخيرهم بل لشرهم لقوله تعالى «لِيُرْدُوهُمْ» يدمروهم ويهلكوهم «وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» يشوشوه عليهم ويخلطوا به ما ليس منه من إفكهم وما تسوله له أنفسهم ، بأن يدخلوا عليهم الشك فيه لأن العرب في الأصل كانوا على دين إسماعيل عليه السلام فلبست عليهم شياطينهم أمر ذلك الدين تدريجا ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه فيما اندرس من أمر دينهم وبقوا كذلك يصغون لوساوسهم حتى أخرجوهم عنه وحسنوا لهم ما يلقونه إليهم من الأفعال والأقوال ووضعوا لهم هذه الأوضاع الفاسدة وزينوها لهم فتبعوها «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» إذ لا يقع شيء في كونه إلا بإرادته ومشيئته راجع الآيات 125 ، 107 ، 112 المارات من هذه السورة ، وجاءت هذه الجملة تأكيدا لمثلها في الآية 112 بأن كل ما فعله المشركون وغيرهم بمشيئة اللّه تعالى خلافا للمعتزلة «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل «وَما يَفْتَرُونَ 137» على ربك وعليك من الإفك والبهت فإن ضرر افترائهم عليهم لا يضرك منه شيء وهذه الجملة على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 40 من سورة فصلت الآتية وفيها من التهديد ما لا يخفى ، وفيها دلالة على كذبهم من نسبة هذا التحريم والتحليل والتقسيم والقتل إليه تعالى عن ذلك ، ومن جملة أوضاعهم الفاسدة عدا ما تقدم ما ذكره اللّه بقوله «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ» حرام لأن الحجر معناه المنع وهم يريدون أنها لا ينتفع بها ، (3/408)
ج 3 ، ص : 409
لأنها مخصصة لأوثانهم فقط لقوله «لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ» من سدنة الأوثان وخدمهم الرجال منهم دون النساء «بِزَعْمِهِمْ» الفاسد بأن النساء لا يستحقون ذلك ويطلق الزعم على القول بالظن المشوب بالكذب «وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها» عن الركوب وهي البحائر والسوائب والحوامي الآتي ذكرها في الآية 101 من سورة المائدة في ج 3 «وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا» عند الذبح اكتفاء بذكر أوثانهم ويفترون هذا وغيره «افْتِراءً عَلَيْهِ» تعالى إذ نسبوا ذلك اليه كذبا محضا تعالت حضرته المقدسة عنه «سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ 138» من تلك النسبة بهتا وعدوانا وفي هذه الآية أيضا تهديد ووعيد لا يخفى على من له لب واع وفكر سديد «وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا» أي أن نسائهم لا يجوز لهن أكلها كأنها وقف على الذكور «وَإِنْ يَكُنْ» المولود منها «مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ» نساؤهم ورجالهم يأكلون منها على السواء فاتركهم يا سيد الرسل «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ» أي جزاء وصفهم الكذب على اللّه في هذا وغيره ، قال تعالى (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) الآية 63 من سورة النحل الآتية ونسق هذه الجملة من بديع الكلام وبليغه لأنهم يقولون وصف كلامه الكذب إذا كذب وعينه تصف السحر أي أنه ساحر وقده يصف الرشاقة بمعنى انه رشيق القامة مبالغة كأن من رآه أو سمعه وصف له ذلك بما يشرحه له قال أبو العلاء
المعري :
سرى برق العرة بعد وهن فبات برامة يصف الملالا
وهذا كله من مقتضى الحكمة «إِنَّهُ» اللّه تعالى «حَكِيمٌ» بما يفعل بعباده «عَلِيمٌ 139» بما يفعلون له ولغيره وهذا تعليل للوعد بالجزاء فإن للعليم الحكيم بما صدر عنهم لا يترك جزاءهم الذي هو من مقتضى الحكم واستدل بهذه الآية على أنه لا يجوز الوقف على الذكور دون الإناث وأنه إذا فعل ذلك يفسخ ولو بعد الموت لأن هذا من فعل الجاهلية وقد نهى صلّى اللّه عليه وسلم عن التأسي بأفعالهم أخرج البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها قالت يعمد أحدكم إلى المال فيجعله الذكور من ولده ان هو الا كما قال اللّه تعالى (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) وخالصة مصدر كالعاقبة(3/409)
ج 3 ، ص : 410
وضع موضع الخالص مبالغة أو بتقدير ذو وهو شائع في كلام العرب يقولون فلان خالص أي ذو خلوص قال الشاعر :
كنت أمنيتي وكنت خالصتي وليس كل أمر بمؤتمن
قال تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً» لخفة عقولهم وقلة إدراكهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا بان اللّه تعالى لم يرزقهم وهو الرزاق لهم ولأولادهم والحافظ لهم جميعا وذلك من سبب الوأد وهو مخافة الفقر والسبي للبنات وهاتان الجريمتان قد تقع وقد لا تقع ، فاستعجالهم على قتل أولادهم مع عدم معرفتهم العاقبة بمجرد ظنهم ووهمهم خسران لهم بازالة نعمة الولد التي هي أعظم النعم فاذا تسبب بإزالتها استوجب الذم ونقص عدده في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة وسبب نزول هذه الآية أن مضر وربيعة كانت تفعل ذلك فنعى اللّه عليهم قلة إخلاصهم له وعدم توكلهم عليه وكثرة جهلهم فيه وظاهر هذه الآية أنهم كانوا يقتلون الأولاد ذكرا وأنثى وعليه يكون السبب في قتلهم هو مخافة الفقر فقط أما مخافة السبي فلا يكون إلا بالإناث وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 59 من سورة النحل الآتية إن شاء اللّه تعالى القائل في فضح أعمالهم وتشنيع صنيعهم أيضا.
«وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ» من بعض الحروث والأنعام وغيرها زاعمين ان اللّه الذي حرم وحلل ذلك «افْتِراءً عَلَى اللَّهِ» واختلاقا من أنفسهم «قَدْ ضَلُّوا» في هذه المناسبة واقتراف تلك الأمور عن طريق الرشد والسداد «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 140» إلى الحق والصواب وقد ختم اللّه هذه الآية بلفظ الاهتداء يشير بها إلى أن الإنسان قد يضل عن الحق ولكنه يعود للاهتداء ، وهؤلاء قد توغلوا في الضلال والاهتداء لم يحصل لهم قط وانهم أهل الذم لفعلهم الأمور السبعة المارة التي هي نقمة لهم لو كانوا يعقلون ، فقد حرموا نعمة الولد بالقتل ، ونعمة العقل بالسفاهة ، ونعمة العلم بالجهل ، ونعمة التحليل بالتحريم ، ونعمة الصدق بالافتراء ، ونعمة الرشد بالضلال ، ونعمة الرجوع إلى الهدى بالإصرار على الكفر والضلال ، ومن يضلل اللّه فماله من هاد ، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام أي إلى هذه الآية ، وهذه الآية(3/410)
ج 3 ، ص : 411
المدنية السادسة
قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ» مرفوعات عن الأرض «وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ» منبسطة على وجه الأرض ، وذلك أن أشجار العنب منه ما هو منبسط على الأرض ويسمى كرما عرفا على أن هنالك أخبارا بعدم جواز اطلاق لفظ الكرم على شجر العنب ومنه ما هو مرتفع على الأعواد كهيئة السقف ويسمى عريشا ، هذا على تخصيص هذه الجنّات في الآية على العنب فقط أما إذا أطلق لفظ الجنات فإن المعروش منها كل ما انبسط على وجه الأرض وانتشر كالكرم والقرع والبطيخ والقثاء وشبهها من الأزهار غير المثمرة ، وغير المعروش كل ما قام على ساق ونسق كالنخل والموز والتفاح وأشباهه ، والزروع كالحنطة والذرة والرز وغيرها من النبات الغير مثمر أيضا ، ولكن قوله تعالى بعد ذلك «وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ» يؤيد الأول وقد جعل اللّه كلا من ذلك «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ» في الطعم كاختلاف شجره وثمره في اللون والشكل والحجم والرائحة «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً» في طعمه ولونه وشكله ورائحته أيضا «وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» في شيء من ذلك ، فيا أيها الناس «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» وهذا أمر إباحة بتناول ثمر تلك الأشجار نضجت أو لا إذ لم يقل إذا نضج فيجوز أكله عند بدو إدراكه إذا لم يضر بالصحة فإذا علم ضرره حرم أكله لأن منها ما ينفع نضيجه ويضر نيئه ومنها ما لا ، لأن القصد من خلقها والإنعام بها على عباده هو الأكل لما تشتهيه النفس منها راجع الآية 99 المارة «وَآتُوا حَقَّهُ» زكاته التي أوجها اللّه عليكم وبينها حضرة الرسول «يَوْمَ حَصادِهِ» وبعد تصفيته وجفافه وقد آذنت هذه الآية بجواز الأكل من تلك قبل إعطاء الزكاة لا لبيع وغيره.
مطلب ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وغيرها والحكم الشرعي في قدرها :
وإن الزكاة لا تجب إلا بعد الحصاد
حذرا من وقوع آفة سماوية أو أرضية على الحبوب والأثمار فيتضرر بها ، ولا زكاة وهو في السنبل والجربان والعثوق لعدم معرفة القدر الواجب ، وهذا مما يؤيد بأن المراد بالمعروشات الأعناب إذ تجب فيها الزكاة ، وكذلك ما عطفت عليها ، وبأن هذه الآية مدنية ، لأن الزكاة لم تفرض في مكة بل في المدينة وظاهر الأمر للوجوب إذ لا يوجد ما يصرفه عنه وهي محكمة سارية في كل نوع من أنواع ما تجب فيه الزكاة.
الحكم الشرعي : (3/411)
ج 3 ، ص : 412
وجوب الزكاة في جميع حواصل الزروع مما يكال أو يوزن ومن الفواكه التي تدخر فقط ، فإذا كانت تسقى بالسيح أو المطر أو الندى من كل ما يسمى بعلا فقيه العشر ، وإذا كانت تسقى بساقية أو نضح من كل ما كان بواسطة الإنسان أو الحيوان والآلات مثل المضخة والدولاب والغراف وغيرها فنصف العشر من كل ما بلغ النصاب وهو خمسة أوسق عبارة عن ثلاثمائة صاع ، لأن الوسق ستون صاعا والصاع أربعة أمداد فتكون ألفا ومئتي مد ، والمد رطل وثلث بالوزن العراقي والرطل مائة وثلاثون درهما ، وقيل مئة وثمان وعشرون درهما وثلث الدرهم ، فيكون القدر الذي تجب فيه الزكاة على الضبط خمسمائة حقه وعشر حقق ، كل حقة أربعمائة درهم ، وهذا ما يسمونه الآن قنطاران في بلاد سورية الشمالية ، لأن رطلهم حقتان ونصف وسبعة عشر درهما ، والقنطار مئة رطل ، هذا وما قيل إن هذه الآية مكية وإنها منسوخة بآية الزكاة 267 من سورة البقرة في ج 3 ، وإن الأمر فيها للندب وإن المراد بالحق هنا صدقة التطوع فقيل أضعف من قيل لا عبرة به لأن الآية مدنية وإن صرف اللفظ على حقيقته للواجب أولى من صرفه على المجاز للندب واللّه أعلم «وَلا تُسْرِفُوا» أيها الناس فتتجاوزوا الحد ، فتبخلوا فلا تؤدوا حق اللّه كاملا طلبا لترضية عيالكم وتتركوا عيال اللّه وتبخسوهم حقهم الذي فرضه اللّه لهم وهم لم يأخذوه منكم إلا بأمر اللّه ، فيكون في الحقيقة الآخذ للزكاة هو اللّه الذي من عليكم وأهلكم للصدقة وكذلك لا تكثروا بأن تعطوا زيادة على الواجب أو على قدرتكم طلبا للشهرة والصيت لأن فيه ضياع المال والحرمان من الأجر والندامة فيما بعد ، ولهذا عد إسرافا ، قال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية 29 من سورة الإسراء ، وقال تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الآية 67 من الفرقان في ج 1
فراجعها واعلم «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 141» وكل شيء لا يحبه اللّه لا خير فيه ، وسبب نزول هذه الآية أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة في يوم واحد وفرقها كلها ولم يترك لأهله شيئا ، وهذا مما يؤيد أن الآية مدنية لأن الرجل من أهل المدينة والنخل فيها ، قال تعالى «وَمِنَ الْأَنْعامِ» أنشأ لكم أيها(3/412)
ج 3 ، ص : 413
الناس «حَمُولَةً» لأثقالكم وأنفسكم إلى أمكنة بعيدة لم تبلغوها إلا بمشقة كالإبل والبغال والحمير والخيل راجع الآية 7 من سورة النحل الآتية «وَفَرْشاً» كالصوف والوبر والشعر لأن منه ما ينسج ويلبد ويدحي فيكون فراشا ، وقيل مما لا يصلح للحمل كالغنم والمعز وصغار الإبل والبغال والخيل ، وإنما سمي فرشا لدنوه من الأرض التي جعلها اللّه فراشا والأول أولى بالمقام وأنسب بالسياق أيضا «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» منها ومن نتاجها ولا تحرموا منها ما أحله اللّه لكم «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» طرقه ودسائسه مما يسوّل ويوسوس لكم فتبخلوا أو تسرفوا أو تحرّموا وتخصّصوا وتفضلوا مما ذكر في الآيات السابقة من 130 إلى 140 واحذروا أيها الناس نزعات شياطين الإنس والجن «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 142» إذ أظهر عداوته لأبيكم آدم واقتفى ذريته من بعده بالعداء.
واعلم أن لفظ عدو يأتي بمعنى أعداء قال ابن الانباري :
إذا أنا لم أنفع صديقي لوده فإن عدوي لم يضرّهم بغضي
أي أعدائي بدليل ضمير الجمع وله نظائر في القرآن منها قوله تعالى (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) فقد جعل المكرمين نعت لضيف وهو مفرد الآية 24 من سورة الذاريات الآتية ، وفي قوله تعالى (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) الآية 10 من سورة ق في ج 1 ، وقوله تعالى (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) الآية 36 من سورة النور في ج 3 ، ومنها قوله تعالى (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) الآية 93 من آل عمران ج 3 إذ أكد المفرد بما يؤكد فيه الجمع وإذا علمتم أنه عدو لكم فاتهموه فيما يلقى إليكم ولا تقروه في قلوبكم لسابق عداوته وتمسكوا بأوامر اللّه وشرعه الذي أنشأ لكم من الأنعام «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ» زوجين «اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ» ذكر وأنثى ويقال لكل منها زوج إذا كان معه من جلسه وإذا كان وحده سمي فردا.
فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الفسقة «آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ» عليكم «أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ» على طريق الاستفهام الإنكاري «أَمِ» حرم «أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ» من تلك الأنعام لأنها لا تشتمل إلا على ذكر وأنثى مثلها(3/413)
ج 3 ، ص : 414
مطلب المحرم والمحلل هو اللّه وأن أمر الرسول هو أمر اللّه والتحريم لنفع العباد والحكم الشرعي بذلك :
ولم يحرم اللّه شيئا منها «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ» صحيح عن العلم الذي أتاكم من اللّه وجاءكم رسله بتحريم ذلك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 143» بما حرمتم وحللتم تبعا لأمر اللّه ورسوله وحاشا اللّه ورسوله أن يأمرا بذلك ولكنكم كاذبون بنسبة ذلك إليهما «وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا» التحريم كلا لم يوصكم ولا حجة لكم على ذلك ولا برهان ولا دليل ثم وبخهم اللّه على ذلك بقوله «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منه وجرأة على ربه «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 144» إلى طريق الحق ولا يوفقهم إلى الرشد ، إذ لا أشد ظلما وأبعد عن السداد ممن يكذب على اللّه فينسب إليه التحريم والتحليل من حيث لم يحلل ولم يحرم ، قال صلّى اللّه عليه وسلم من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فكيف من يكذب على اللّه «قُلْ» يا أكرم الخلق لهؤلاء المفترين «لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ» آكل يأكله «إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً» حتف أنفها أو ما هو في حكم الميتة كالموقوذة والمتردية والنطيحة وغيرها الوارد ذكرها في الآية 5 من سورة المائدة في ج 3 من كل ما لم تبق فيه حياة معتبرة ويزكى زكاة شرعية وهذا عام خص منه السمك والجراد كما خص مما بعده الكبد أو الطحال لأنه متجمد خلقة وهو «أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» حال الحياة أو عند الذبح أما الذي يبقى في العروق وبين اللحم فهو عفو ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : أحل لكم دمان الكبد والطحال وميتتان السمك والجراد «أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ» قذر نجس ضار أكله يورث الجذام والدودة الوحيدة وقلة الغيرة وأمر آخر لم نطلع عليه بعد وكذلك الميتة والدم تورث أضرارا في الوجود لأن اللّه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا ، على أنه لو فرض أن لا ضرر فيما حرم اللّه فيجب علينا اجتنابه امتثالا لأمره ولا حق للعبد أن يقول لم حرّم الخالق ، ولا أن نطلب العلة بالتحريم ، لأن أفعال اللّه(3/414)
ج 3 ، ص : 415
لا تعلل وأمره مطاع جزما لأنا إذا كنا نتمثل أمر الطبيب فنمتنع عن أكل ما يحذرنا عنه ونتمثل أمر السلطان فننتهي عما ينهانا عنه فلأن نتمثل أمر اللّه من باب أولى «أَوْ فِسْقاً» ذبيحة ما «أُهِلَّ» رفع الصوت عند ذبحها بذكر ما «لِغَيْرِ اللَّهِ» بأن ذكر عليها اسم صنم أو غيره وهذا النّص في أن التحريم والتحليل لا يكونان إلا بوحي اللّه تعالى وأن المحرمات محصورة فيما حرمه اللّه نصّا في القرآن في هذه الآيات وآيات المائدة وغيرها في ج 3 ، ولا شك أن التحريم الوارد في القرآن عبارة عن خبر والأخبار لا يدخلها النسخ كما ذكرنا في الآية 135 المارة لا سيما وأن هذه الآية المكية تعضدها بالتأييد الآيات المدنيات في سورة المائدة وآية البقرة المصدرة بأداة الحصر وعددها 134 وهذه أيضا تفيد الحصر وكلها مطابقة بعضها لبعض في الحكم ، مما يدل على أن لا شيء محرم غير ما ذكر فيها ، وقد جاء تحريم بعض الأشياء بالسنّة مثل الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وغير ذلك يجب علينا أيضا الاجتناب عنها وامتثال أمر الرسول لأنه من أمر اللّه قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا الآية 7 من سورة الحشر في ج 3.
راجع الآية 37 من هذه السورة تجد ما يكفيك في هذا البحث «فَمَنِ اضْطُرَّ» اجهد لتناول شيء من هذه المحرمات وكان «غَيْرَ باغٍ» على مسلم مضطر مثله تارك لمواساته مستحل لأكل الميتة بغير ضرورة «وَلا عادٍ» قاطع طريق أو متعمد أو متجاوز قدر حاجته كما أشرنا إليه في الآية 119 المارة فهو عفو لما فيه من الضرورة الماسة وقد رخص اللّه تعالى ورسوله للمضطر تناول المحرّم بقدر الحاجة ولهذا ختم اللّه تعالى هذه الآية بقوله «فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ» لمن أخذ من هذه المحرمات قدر حاجته شريطة أنه غير باغ ولا عاد «رَحِيمٌ 145» به بمقتضى منّه ولطفه على عباده فلا يؤاخذهم على ما تفضل به عليهم من الرخص وترك العزائم عند الاقتضاء.
الحكم الشرعي : اعلم أن الحرام ما ورد النص بتحريمه سواء كان من اللّه أو من رسوله ، وقال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية
30 من سورة البقرة في ج 3 فهذه الآية مطلقة تفيد حل كل شيء على وجه الأرض وما في المياه من حيوان وعامة الطير ، وقيدت بما نص(3/415)
ج 3 ، ص : 416
اللّه ورسوله على تحريمه ، كما نوهنا به آنفا وسنتم بحثه في الآية 7 من سورة الخسر والآية 30 من البقرة في ج 3 إن شاء اللّه فراجعها ، روى مسلم عن ابن عباس قال : نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل.
وعلى هذا فإن كل ما جاء النهي بنص الشارع فهو حرام ولهذا يحرم تناول ما أمر الشارع بقتلها مما ورد في الحديث الصحيح خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وهي : الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور.
وروي عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر بقتل الوزغ ، وعن جابر أنه صلّى اللّه عليه وسلم نهى عن أكل الهرة ، وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال : نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب النملة النحلة والهدهد والصرد وهو طائر فخم الرأس يصطاد العصافير والوزغ جمع وزغة بالتحريك هو سام أبرص وابن الماء الآتي هو طير يسمى القرلي يعوم فوق الماء فإذا رأى شيئا خرّ عليه فكل ما ورد نص صحيح بقتله أو النهي عن أكله أو تحريمه فهو حرام لا يحل تناوله ، وما لم يرد فهو بالخيار إن شاء أكله وإن شاء تركه ، وقالوا ما استطابة العرب فهو طيب ، وما استكرهته فهو مكروه ، وهذا ليس مطردا لاختلاف العادات والنفوس ، فلينظر العاقل صاحب النفس السليمة ما تطلبه نفسه من غير ما ورد النص بتحريمه ، وما تعافه منها ، لأن اللّه تعالى قال أحل لكم الطيبات فما استطابه الأكثر فهو طيب ، لأن العبرة للغالب ، لأن ما تستحسنه العرب أو تستخبثه لم يدخل تحت الضبط ، وقد قدم لحضرة الرسول الضب فلم يأكله وقد أكله أصحابه بحضوره ولم ينههم عنه ، وغاية ما قاله فيه يعافه طبعي ، فيكون أكله حلالا لأنه لو كان حراما لما أقرهم على أكله ، وانما قلنا العبرة للغالب لأن من العرب من لا يستقذر شيئا ويفهم من الآية جواز الانتفاع بجلد الميتة وعظمها وشعرها لأن النهي عن أكلها فقط أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال ماتت شاة لسودة بنت زمعة ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لو أخذتم مسكها أي جلدها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت فقال عليه الصلاة والسلام ، إنما قال اللّه تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً(3/416)
ج 3 ، ص : 417
عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ)
الآية المارة وانكم لا تطعمونه ان تدبغوه فتنتفعوا به.
قال تعالى «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا» اليهود وسموا يهودا لقولهم فيما أخبر اللّه عنهم إنا هدنا إليك الآية 156 من الأعراف المارة في ج 2 وما قيل انهم لقبوا بذلك على اسم ملك صار منهم لا قيمة له لأنه إنما صار بعد أن صاروا أهلا للملك وبعد وفاة موسى عليه السلام «حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» مثل البعير والنعامة وكل ما لم يكون مشقوق الأصابع من البهائم والطير كالاوز والبط وكل ذي مخلب من الطير وذي حافر من الدواب وكل ذي ناب من السباع والأرنب وابن الماء وأراد بالظفر هنا الحافر مجازا على طريق الاستعارة «وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) التي في جوفهما وعلى الكليتين وبما أن لفظ الشحوم جاء عاما فقد استثنى منه ما هو حلال وهو ما جاء بقوله عزّ قوله «إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما» يدخل فيه الإلية لأنه مما يتعلق بالظهر ، إلا أن اليهود لا يأكلونها «أَوِ الْحَوايا» الأمعاء والمصارين والمباعر مما تحتوي عليه في البطن «أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» من الشحوم وهذا صريح في حل الإلية لأنها مختلطة بعظم وهو العصعص ، وكذلك الشحم الذي في الرأس والعين وسائر العظام فهو حلال ، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللّه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول عام الفتح ان اللّه تعالى حرم بيع الخمر ولحم الخنزير والأصنام ، فقيل يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدعن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال لا هو حرام ، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عند ذلك قاتل اللّه اليهود ، إن اللّه لما حرم عليهم شحومها جملوه (أي أذابوه) يقال أجملت الشحم وجملته إذا أذبته وجملته أكثر وأفصح «ذلِكَ» التحريم عقوبة لهم «جَزَيْناهُمْ» به وأوجبنا عليهم التحريم «بِبَغْيِهِمْ» على أنفسهم وغيرهم وأعظم بغيهم قتل الأنبياء وأقله أكل الربا «وَإِنَّا لَصادِقُونَ 146» فيما أخبرناك به يا سيد الرسل من أفعالهم
هذه «فَإِنْ كَذَّبُوكَ» في شيء من هذا أو غيره «فَقُلْ رَبُّكُمْ» أيها الناس قادر على أن يأخذهم حالا بعذاب لا يستطيعون رده ولا يتمكنون من النّجاة منه على تكذيبهم ، هذا ولكنه أي ربك يا أكرم الرسل «ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ» لا يعجل عقوبة الكافر والعاصي(3/417)
ج 3 ، ص : 418
لعظيم حلمه أما إذا أصرّ ولم يرتدع ، فلا شك أنه ينزل به عذابه الذي لا مرد له «وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ» إذا حان أجله «عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ 147» لأنه لا يوقعه بهم إلا إذا تحقق عليهم ولم يكن لهم عذر بدفعه ، ألا فلا يغتر أحد بالإمهال فإنه استدراج لا إهمال ، وان ما يدره اللّه على المجرمين من السعة والعافية والجاه والسلطان هو نقمة لا نعمة بالنسبة لعاقبتها الوخيمة مما يترتب عليها من العذاب الأليم فلا يغفلنكم أيها الناس طول الأمل عن التوبة والرجوع إلى اللّه.
مطلب في المشيئة والإرادة واختيار العبد ودحض حجج المعتزلة وغيرهم :
واعلموا أنه يوم يأتي عذابه «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» حينما لم يجدوا عذرا يعتذرون به ولا بدا من الخلاص إذ لزمتهم الحجة ولم يبلغوا الحجة «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا» أشرك «آباؤُنا» من قبل إشراكنا ولم نقلدهم بالشرك «وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ» مما ذكر على أنفسنا وغيرنا ولكن اللّه تعالى شاء ذلك كله ففعلناه تبعا لإرادة اللّه «كَذلِكَ» مثل هذا الكذب المحض «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أنبياءهم من الأمم السابقة واحتجوا عليهم بهكذا مفتريات وانكبوا عليها «حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» فكبوا على وجوههم في النار.
وفي قوله تعالى ، ذاقوا ، إيماء إلى أن لهم عذابا مؤخرا عند اللّه غير الذي ذاقوه لأن الذوق أول قربان الشيء أو أن الإذاقة في الدنيا والأشد منها بالآخرة «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ» يصح الاحتجاج به على زعمكم ذلك «فَتُخْرِجُوهُ لَنا» على أن إشراككم كان بمشيئة اللّه وأنكم فعلتموه تبعا لإرادته فإذا كان كذلك فلا شيء عليكم بل تستحقون الثواب لأنكم اتبعتم ما أراده اللّه عن علم ولكنكم فعلتم ذلك عنادا وعتوا وتبعا لشهوات أنفسكم وتسويلات شياطينكم وجهلا بمقام الإلهية المقدسة واستهزاء برسله العظام وسخرية بكلامه الجليل ولم تتبعوا في ذلك حقيقة ناصعة «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» الذي لا يغني عن الحق شيئا «وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ 148» تكذبون على اللّه وتختلقون أشياء من أنفسكم باطلة لا أصل لها في الشرائع السماوية.
وليعلم أن اللّه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا لو شاء اللّه ما أشركنا ثم ذكر عقبه قوله (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(3/418)
ج 3 ، ص : 419
وهذا التكذيب ليس هو في قولهم (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا) لأنه قول حق وصدق إذ لا يقع شيء إلا بإرادته ومشيئته بل هو في قولهم (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) ورضي ما نحن عليه كما أخبر عنهم في سورة الأعراف الآية 28 في ج 1 ، فردّ اللّه عليهم بقوله (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ثم جهلهم وأنّبهم إذ ختم الآية بقوله (أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) والدليل على التكذيب هو في قولهم (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) ورضيه منا لا في قولهم (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا) ولهذا صار قوله تعالى (كَذلِكَ كَذَّبَ) بتشديد الفعل ولو كان إخبارا عنهم بالكذب في قوله (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا) لقال كذب بالتخفيف بأن ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب ولو أنهم قالوا هذه المقالة تعظيما للّه وإجلالا لحضرته ومعرفة بحقه وبما يقولون لما عاب اللّه عليهم قولهم ذلك ، ولكنهم قالوها تكذيبا وجدلا من غير معرفة باللّه وبما يقولون ، وعليه فلا دلالة إذا في هذه الآية الكريمة لمذهب القدرية والمعتزلة ، ولا يتجه تأويلهم إياها على رأيهم بخلاف ما هي عليه من قولهم إنّ الكفار لما قالوا (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا) كذبهم اللّه ورد عليهم بقوله (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كما مر تفصيله ، وأيضا فإن اللّه تعالى حكى عن هؤلاء القوم مذهب الجبرية القائلين لو شاء اللّه منا أن لا نشرك لم نشرك ولمنعنا من الشرك ، وإذ لم يمنعنا عنه ثبت أنه مريد له وإذ أراده منا امتنع تركه لنا إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد ، والجواب عن زعمهم هذا ما قدمناه في الآية 98 من سورة يونس ، والآية 118 من سورة هود المارتين لأن أمر اللّه تعالى بمعزل عن مشيئته وإرادته لأنه مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريده ، فعلى العبد أن يتبع أمره الذي أمر به على لسان رسله وليس له أن يتعلق بمشيئته التي لا
يعلمها ، فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد عليه في فعله ، فهو جل شأنه يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به ، قال تعالى (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) الآية 7 من سورة الزمر الآتية ، ومع هذا فإنه يبعث الرسل إلى عباده يأمرهم بالإيمان مع إرادته الكفر منهم ، وإنك أيها الإنسان قد تأمر عبدك أحيانا بشيء لا تريده(3/419)
ج 3 ، ص : 420
بل تريد منه فعل غيره راجع نفسك وتفكر في هذا وتدبره تجده واقعا لا مرية فيه فعلى هذا أن كل خير يقع هو بمشيئه اللّه ورضاه وكل شر بإرادته وقضاه ، قال في بدء الأمالي :
مريد الخير والشر القبيح ولكن ليس يرضى بالنكال
ولا يخفى أن ورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع ، لهذا فإن ما قيل إنهم كانوا يقولون الحق في هذه المقالة (أي لو شاء اللّه ما أشركنا) إلا أنهم كانوا يعدّونه عذرا لأنفسهم ويجعلونه حجة لهم في ترك الايمان قول لا حقيقة له هذا وإن اللّه تعالى حكى عن الكفار انهم يتمسكون بمشيئة اللّه في شركهم وكفرهم ، وأخبر أن هذا التمسك فاسد باطل غير ثابت فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة للّه تعالى في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام واللّه أعلم.
قال تعالى يا أكرم الرسل «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» عليكم أيها الناس بإرسال الرسل وإنزال الكتب ولا حجة لكم عليه بإرادته ومشيئته «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ 149» ولكنه لم يشأ ذلك ولم يرده لأنه خلق أناسا إلى الجنة وآخرين إلى النار (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) الآية 5 من سورة القمر ج 1 فبطلت حجة المعتزلة وغيرهم لأن هذا دليل على عدم إشائته إيمان الكافر وثبت الحق وزهق الباطل لأنه جل شأنه هدى من صرف اختياره إلى طرق الهدى وأضل من صرف اختياره إلى سبل الضلال (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) الآية 24 من سورة الأنبياء الآتية ، وإن استعداد الفريقين يقتضي ما صرف كل منهما اتباعا لما قدر له في قضاء اللّه الأزلي ولا يقال حينئذ لا فائدة من إرسال الرسل كما زعم القائلون الذين حكى اللّه عنهم بقوله ، (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) الآية 164 من سورة الأعراف في ج 1 ، لأن فائدة إرسال الرسل تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشئ من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين إذ قال جل قوله جوابا للسائلين آخر تلك الآية (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) هذا وإذا تدبرت صدر الآية المفسرة وجدته دافعا لصدور الجبرية ، وإذا تأملت عجزها وجدته معجزا للمعتزلة إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة(3/420)
ج 3 ، ص : 421
والعصيان ، والثاني مثبت لنفوذ مشيئة اللّه تعالى في العبد وان جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية ، وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة والجماعة على المعتزلة ومن نهج نهجهم ، واقتفى أثرهم ، ولهذا البحث صلة في الآية 35 من سورة النحل الآتية فراجعه وقل الحمد للّه رب العالمين القائل «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المعاندين «هَلُمَّ» هذه كلمة دعوة إلى الشيء يستوي فيها المذكر والمؤنث والجمع والمفرد وفيها لغة أخرى وهي هلم للواحد وهلما للاثنين وهلموا للجمع وهلمي للأنثى والأول أفصح أي هاتوا «شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا» الذي ذكرتموه في هذه السورة وغيرها مما لم يحرمه اللّه «فَإِنْ شَهِدُوا» على زعمهم بالتحريم فشهادتهم زور وقولهم بهت وكلامهم إفك «فَلا تَشْهَدْ» أنت يا حبيبي «مَعَهُمْ» لأنهم كاذبون «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» وعليك أن تتمسك بما أوحي إليك في ذلك وتنبعه وترفض افتراءهم ، لأنهم كفرة لا يهمم الكذب ، إذ ليس بعد الكفر ذنب فليس ببعيد ان اتبعوا أهواءهم في الشهادة الكاذبة «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لا يكترثون بذلك كيف «وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 150» به غيره فيسوون أصنامهم الباطلة التي صنعوها واتخذوها بجلال الإله العظيم الجليل ومن كان كذلك استوى عنده الحق والباطل تبعا لهوى نفسه لهذا عليك باتباع الوحي وإدامة نشر الدعوة ولا يضرك فجورهم وليس لك أن تقاتلهم عليه الآن فاهجرهم هجرا جميلا حتى يأتي الوقت المقدر لاقارهم على الإيمان.
وهذه الآيات المدنيات الثلاث الأخيرة المتضمنة الوصايا العشر الموجودة في الكتب القديمة المكلف بها جميع الأمم من لدن آدم إلى يوم القيامة
قال تعالى يا محمد «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» حقا يقينا لا مرية فيه ولا زعما ولا ظنا ولا تقليدا ، وليس مما تزعمونه وتنسبونه إلى اللّه جهلا وتطاولا وتجاوبون به مكابرة وعنادا وتصرون عليه تجبرا أو عتوا ، فاعلموا أن أول وأعظم ما حرم عليكم هو «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» من خلقه ولا من صنعكم ولا تطيعوا مخلوقا في معصية وقد حرم عليكم عقوق الوالدين بعد الإشراك به وأوجب عليكم برهما فقال «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» أحسنوا إليهما إحسانا(3/421)
ج 3 ، ص : 422
كثيرا إذ لا نعمة أعظم بعد نعمة اللّه على عبده بالإيمان الذي أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الهدى إلا نعمة حق الوالدين لما لهما من حق التربية والحفظ حال الصغر ولأنهما السبب الظاهري في وجود الولد ، لذلك قرن الإحسان إليهما بعبادته وتوحيده قال تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الآية 23 من سورة الإسراء في ج 1 وقرن الشكر لحقهما بحقه فقال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية 15 من سورة لقمان الآتية وقد اسهبنا ما يتعلق بحقهما في هاتين الآيتين فراجعهما تعلم أن عقوقهما محرم كبير موجب لعقاب كبير والمحرم الثالث «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ» خوف الفقر وخشية الفاقة والإملاق هو الاقتار ، لأنا «نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» لا نكلفكم رزقهم وانكم لو علمتم انكم لا تقدرون أن ترزقوا أنفسكم فكيف تقدرون على رزقهم لأنا ضمنا لكم رزقكم قبل خلقكم أنتم وإياهم والخلق أجمع راجع الآية 23 من الذاريات الآتية ولا تقتلوهم أيضا لمظنة السبي فإنا نحفظهم لا أنتم ، ثم ذكر المحرم الرابع فقال «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ» تقدم ذكرها وبيانها في الآية 32 من سورة الأعراف فراجعها ، ولا يخفى أن النهي عن القربان يؤذن بشدة جرم الوقوع وهو أشد من التحريم ، لأنه إذا كان قربانها محرما منهي عنه ، فكيف بالوقوع فيها والعياذ باللّه ؟ ولفظ الآية شامل لكل ما يستقبح ويستفحش مادة ومعنى سرا وجهرا قليلا أو كثيرا مألوفا أو غير مألوف ، ثم أكد هذا التعميم بقوله «ما ظَهَرَ مِنْها» بينك وبين الخلق «وَما بَطَنَ» فيما بينك وبين الخالق لأنه إذا امتنع بالعلانية وفعل بالسر كان مثل الجاهلية الذين لا يرون بأسا بالسر فيكون امتناعه ليس خوفا من اللّه وحياء منه بل خجلا من العبد فيضاعف له العذاب لمخالفته أمر اللّه ويكون امتناعه رياء ، والمحرم الخامس «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» بأن ارتد عن الإسلام بعد أن دخل فيه أو قتل نفسا تعمدا أو زنى وهو محصن فيكون قتله بحق إذا ارتكبت احدى هذه الثلاث ، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك(3/422)
ج 3 ، ص : 423
لدينه المفارق للجماعة.
«ذلِكُمْ» ما ذكر من التكاليف الخمسة المارة الذكر «وَصَّاكُمْ بِهِ» بالكتب المنزلة قبلا على لسان الرسل السالفة ربكم الجبار المنتقم وأكده الآن لكمال أهمية هذه الوصية فحافظوا عليها أيها الناس «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 151» فوائدها وتعون منافعها فتستعملون عقولكم بكف نفوسكم وحبس شهواتكم عن مباشرة شيء منها وأجيبوا دعوة ربكم بالمحافظة عليها لتفوزوا برضائه وتدخلوا جنته ، والمحرم السادس هو أكل مال اليتيم لقوله تعالى «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»
له إذ لا يجوز في حال من الأحوال قربان ماله إلا في حالة واحدة وهي ما يكون له فيها الحظ والنفع كحفظه وتنميته وإصلاحه والمداومة على ذلك «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ»
راشدا ، لأن مطلق البلوغ لا يكفي بل يشترط الرشد معه فادفعوه إليه كاملا مع ربحه يعمل هو برأيه فيه ، أما إذا بلغ سفيها فيبقى المال بيد الولي أو الوصي راجع الآيتين 5 و6 من سورة النساء في ج 3 والآية 34 من سورة الإسراء في ج 1 تقف على التفاصيل المتعلقة بهذا ، وإذا كان قربانه منهي عنه فكيف بأكله أجارنا اللّه منه ، والمحرم السابع نقص الكيل والميزان لقوله تعالى «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ»
بالحق العدل ، والأمر بالإيفاء يتضمن النهي عن التطفيف والتنقيص ومعنى القسط يؤذن بعدم الزيادة كما يحرم القص ، واعلم أن الوفاء فيها من كرم الإنسان ومروءته التي يحمد عليها عند اللّه والناس ، ومن جملة الوصايا العشر المذكورة في التوراة
والملمح إليها في الإنجيل بلفظ لا تسرق لأن نقص الكيل وتطفيف الوزن سرقة فيكونان داخلين فيها وإذا كان هذا النقص منهى عنه فالسرقة من باب أولى كيف وقد جعل اللّه حدها قطع اليد راجع الآية 38 من سورة المائدة ج 3 ، وقال تعال في عدم الحرج «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها»
طاقتها لأن الوسع هو الطاقة وهو عندنا بذل الإنسان جهده في عدم قربان شيء من المحرمات ولهذا لم يأمر اللّه بالزيادة لما فيها من الحرج على البائع ونهى عن النقص لما فيه من الظلم على المشتري والضيق لحاجته ، فأمر اللّه تعالى ببلوغ الوسع في ذلك ، وما وراء الوسع عفو مع لزوم الضمان لأن للجائع الذي لا يجد شيئا وقد أشرف على الهلاك ، أكل مال غيره(3/423)
ج 3 ، ص : 424
دون اذنه ، بقصد الضمان سواء كان بطريق السرقة والغصب ، ثم ذكر المحرم الثامن فقال «وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا»
في قولكم وشهادتكم وحكمكم لأن القول يشمل ذلك كله وضدها حرام وهي الكذب وشهادة الزور والجور في القضاء وكذلك الغيبة والنميمة والسب والشتم والقذف أيضا «وَلَوْ كانَ»
المقول فيه والمشهود عليه والمقضي له «ذا قُرْبى »
ويدخل في القول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير زجر ولا شدة ولا ميل للغير ولا غضب لنفسه ويكون حنقه من أجل المنكر للّه تعالى ليكون أرجى للإجابة وأكثر تأثيرا للقبول وأدعى للامتثال ، والمحرم التاسع الغدر ونقض العهد ، قال تعالى «وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا»
لأن الأمر بالمحافظة على العهد يقتضي تحريم نقضه وهو يشمل عهد العبد مع ربه وعهده مع عباده وعهد العباد فيما بينهم والنّذر الواجب لأنه من جملة العهود أيضا والوعود ، وقدمنا ما يتعلق بهذا الشان في تفسير الآية 24 من الإسراء في ج 1 ، ولا يخفى أن الوفاء بالوعود والعهود من أخلاق المؤمن والخلف والنكث من خلق المنافق قال صلّى اللّه عليه وسلم : آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أوتمن خان «ذلِكُمْ»
التكاليف الأربعة المتممة مع الخمسة الأول تسعة «وَصَّاكُمْ»
بها الرب الجليل المنعم «بِهِ»
على من قبلكم والتي وصى بها آبائكم الأقدمين والأمم السالفة بواسطة أنبيائهم «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»
في هاتين الآيتين المتضمنة تسعة من الأمور المهمة لتأمروا بالمأمور منها وتنهوا عن المنهي عنها ، ثم بين الوصية العاشرة الجامعة لأنواع كثيرة من المحلات المانعة عن تعاطي كثير من المحرمات والتي هي نبراس يهتدى بها في الظلمات المبينة بقوله عز قوله «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً» لا عوج فيه ولا زيغ له ولا حيف فيه ولا محيد عنه لمن أراد الوصول إليّ والتنعم بجنّتي والخلاص من عذابي ، وكلمة مستقيما منصوبة على الحال بمعنى الإشارة كما أشرنا إليه في الآية 126 المارة ، لا تحيدوا عنه أبدا ليهديكم إلى الرشد ويقودكم إلى الصواب ويوصلكم إلى الدين الذي ارتضاه لكم بعد أن رضيه لنفسه المقدسة فاقتفوا أثره واعملوا به فهو الطريق السوي الذي يأخذ من اتبعه إلى السداد ويدله على سبل الخير والرشاد ، واعلم أن جميع ما تقدم في الآيتين المارتين والخمس عشرة آية(3/424)
ج 3 ، ص : 425
من سورة الإسراء من 23 إلى 38 وما قبلها وما بعدها والآيات العشر من سورة الفرقان من 165 إلى 175 المارة في ج 1 من الأوامر والنواهي ، والأحكام الشرعية داخلة في هذه الآية العظيمة ومؤذنة بان كل ما بينه الرسول الأعظم هو من دين اللّه القويم الواجب اتباعه.
ثم أكد الأمر بسلوكه والنهي عن الانحراف عنه بقوله «وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» الطريقات الصغار المتشعبات عن الطريق العام والجادة المسلوكة ، المختلفة يمينا وشمالا ، المكنّى فيها عن اتباع الأهواء الفاسدة والبدع المضلة وشهوات النفوس الخبيثة وزخارف الدنيا الدّنية التي تؤدي بصاحبها إلى الهلاك لأنها توصل المعقود ، وغايتها الضياع ونهايتها التلف كما كنّ عن الطريق المستقيم باتباع الدين الحق والمنهج الصدق الواضح المؤدي بصاحبه إلى النجاة بايصاله لمقصوده ونهايته الفوز بالمطلوب وإنما نهى اللّه تعالى عن اتباع السبل (نيات الطريق) لأن في اتباعها البعد عن اللّه ورسوله المنوه عنه بقوله «فَتَفَرَّقَ بِكُمْ» أيها المتبعون لها «عَنْ سَبِيلِهِ» السوي وتميل بكم إلى الدمار «ذلِكُمْ» المذكور في الوصايا التي وصى اللّه بها أسلافكم بواسطة أنبيائهم من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام وأوجب عليكم العمل بها «وَصَّاكُمْ بِهِ» الآن فعضوا عليها
بالنواجذ وتمسكوا بوصية ربكم «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 153» طرق الهلاك ومواقع الضّلال وتصلون إلى بغيتكم في الدنيا والآخرة روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال خط لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل اللّه ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله فقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه وقرأ هذه الآية ، هذا وإنه تعالى ضرب مثلا في هذه الآية لدينه القويم الناصع بطريق عام معبد مار بالبيداء يوصل من يسلكه إلى البلد الذي يريده فاذا سلكه أوصله إلى قصده بأمن وسلام وللأديان المعوجة الباطلة بطرق صغار متشعبة عن يمين وشمال الطريق السوي الضاربة في الصحاري لا يعلم مداها ، ولا يعرف منتهاها ، فإذا ترك الرجل ذلك الطريق المستقيم وسلك هذه الطرق تاه وتحير ووقع في حيص بيص فلا يزال يتخبط فيها حتى يهلك جوعا وعطشا وليعلم أن هذه الآيات مذكورة في الكتب السماوية كلها المنزلة على الرسل كما أشرنا إلى هذا قبل والوصايا العشر المذكورة في التوراة والإنجيل داخلة فيها(3/425)
ج 3 ، ص : 426
بدليل قوله تعالى عند ختام كل آية من الآيات الثلاث (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) أي وصى بها من قبلنا وأنزلها على رسولنا ليعمل بها هو وأمته إلى يوم القيامة ولا تزال طائفة من هذه الأمة عاملة بها حتى لا يبقى على الأرض من يقول اللّه قال تعالى «ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة الجليلة «تَماماً» للنعمة عليه وكرامة له «عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ» أي على من كان محسنا صالحا لاثقا للقيام به كائنا من كان ، لأن الذي هنا للجنس ، ولهذا قرأ ابن مسعود على الذين أحسنوا وقرأ الحسن على المحسنين وهما قراءتان تفسيريتان لأنهما مخالفتان لما في المصاحف ، وقد ذكرنا أن كل قراءة لا تطابق ما في المصاحف لا عبرة بها ولا يجوز قراءتها لعدم ثبوتها بالتواتر المطلوب في صحة القراءة وإن هكذا قرئت لا تعد قراءة وإنما هي تفسير لبعض الألفاظ القرآنية وسبك بعضها ببعض ليس إلا قال الفراء إن الذي هنا في هذه الآية مثلها في قوله :
وإنّ الذي جادت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وإنما قلنا تفسير لأن الذي تأتي بمعنى الذين على اعتبار الجنسية في القراءة الأولى مثل من تأتي للفرد والجمع ، والثانية مأخوذة من قوله (الَّذِي أَحْسَنَ) في الآية ، فقال على المحسنين وهو تفسير لا قراءة كما لا يخفى «وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» يحتاج إليه قومه في دينهم ودنياهم «وَهُدىً» من الضلال «وَرَحْمَةً» عظيمة له ولقومه شاملة من تبعه في دينه ومات عليه إلى بعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلم «لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 154» بالبعث والحساب على الأعمال والجزاء عليها لأن من أيقن بهذا خاف فانتهى عن المنكر وعمل بالمعروف ، قال تعالى «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ» إليك يا سيد الرسل «مُبارَكٌ» كثير النفع والخير «فَاتَّبِعُوهُ» أيها الناس واعملوا بما فيه يا أمة محمد من الأوامر والنواهي وحافظوا على أحكامه «وَاتَّقُوا» مخالفته وخافوا منزله «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 155» في الدنيا بالعافية وسعة الرزق وفي الآخرة بالنعيم الدائم ، واعلموا أن ما أنزلناه إليكم إلا كراهية «أَنْ تَقُولُوا» لنبيكم إذا أمركم أو نهاكم «إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا» وهم اليهود والنصارى «وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ» جمع باعتبار(3/426)
ج 3 ، ص : 427
أن ما فوق الواحد جمع على حد قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 36 من سورة النمل المارة ، ولبحثها صلة في الآية 78 من الأنبياء الآتية وما ترشد لغيرها وأن أل في الكتاب للجنس فيشمل الزبور وغيره من الصحف المتقدمة ولذلك جاء الضمير بلفظ الجمع أي عن قراءتهم «لَغافِلِينَ 156» عن ما فيها من الأحكام لأنها لم تبلغنا وليست بلغتنا ، وان هنا مخففة من الثقيلة واللام في لغافلين هي الفارقة بينها وبين ان النافية وهكذا كلما جاءت المخففة أعقبها اللام وإذا لم يعقبها فهو دليل على أنها نافية لا مخففة ، قال تعالى «أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ» كما أنزل على من قبلنا «لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» أي من الأمم قبلهم الذين أنزل عليهم الكتب والجمع هنا باعتبار الفرقة والطائفة أو كما تقدم آنفا ، وفي هذه الآية والتي قبلها إثبات الحجة على أهل مكة وقطع عذرهم لأن اللّه تعالى أنزل عليهم القرآن الكريم بلغتهم فلم يبق لهم ما يعتذرون به من أن الكتب القديمة أنزلت على من قبلهم وبلغتهم فهي خاصة بهم لأنها ليست بلغتهم كي يتعلموها ، ونظير هذه الآية الآية 42 من سورة فاطر المارة في ج 1 فراجعها ، قال تعالى «فَقَدْ جاءَكُمْ» يا أهل مكة «بَيِّنَةٌ» واضحة وحجة قاطعة وبرهان ساطع «مِنْ رَبِّكُمْ» الذي منّ عليكم بهذا القرآن الذي هو نور «وَهُدىً» لكم من الضلال «وَرَحْمَةٌ» بكم لتسلكوا سبل الرشد والسداد وترجعوا عن غيكم «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ» بعد أن جاءته على يد رسوله «وَصَدَفَ» أعرض ومال «عَنْها» ولم يلتفت إليها أي أن هذا لا أحد أشد منه ظلما البتة ومن هذا شأنه يكون داخلا في قوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ) الآية 124 من سورة طه في ج 1 ، وقال تعالى (وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) الآية 27 من سورة الزخرف الآتية ، ولهذا أعقب اللّه هذه الآية بالتهديد والوعيد فقال «سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ 157» أي بسبب ميلهم وانصرافهم وإعراضهم عما أمروا به من الحق «هَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء المكذبون ، وهذا استفهام بمعنى النفي كأن اللّه تعالى يقول لا يؤمن بك هؤلاء(3/427)
ج 3 ، ص : 428
يا سيد الرسل «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ» لقبض أرواحهم بالدنيا أو بالعذاب الأسوأ بالآخرة ، بدليل قوله تعالى «أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ» لفصل القضاء بين الناس والحكم بالجنة والنار قال تعالى (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) الآية 22 من سورة الفجر في ج 1.
مطلب آيات الصفات وعلامات الساعة وإيمان اليأس واعتبار كل الأمم من ملة الإسلام والتفرقة في الدين :
وهذه الآية من آيات الصفات من قسم المتشابه الذي ذهب السلف الصالح إلى إبقائه على ظاهره وتأوله الخلف بما يلائم المقام ، راجع الآية المذكورة آنفا والآية 18 من هذه السورة وما يرشدانك إليه وسنأتي على توضيحها عند الآية 210 من البقرة والآية 7 من آل عمران في ج 3 إن شاء اللّه «أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» من علامات الساعة كالخسف والزلزال وظهور عيسى بن مريم والدجال والتار ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ودابة الأرض راجع الآية 82 من سورة النمل في ج 1 ، «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» من علاماتها كالدابة أو الموت «لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها» إذ ذاك لأنه اضطراري للتخلص من العذاب مثل إيمان فرعون المار ذكره في الآية 90 من سورة يونس المارة ، وأن إيمان اليأس والبأس عند مشاهدة العذاب لا يقبل لقوله تعالى «لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» حضور الموت أو القتل والغرق أو وصول الروح الحلقوم «أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» إخلاصا للّه تعالى قبل اليأس فتنتفع بالإيمان وإلا فلا ، وكما لا يقبل إيمان الكافر في مثل هذه الأوقات لا تقبل توبة الفاسق ولا إخلاص المنافق ولا توبته أيضا ، راجع الآية 159 من الشعراء في ج 1 والآيتين 83 و84 من سورة غافر الآتية ، ثم هددهم ثانيا بقوله «قُلِ» يا محمد لهؤلاء المعاندين «انْتَظِرُوا» مغبة تسويفكم وإصراركم احدى هذه الآيات القاطعة لآمالكم لتعضوا أصابعكم ندما وأسفا وتتفطر قلوبكم من التحسر على ما فاتكم من زمن قبول التوبة والإيمان «إِنَّا مُنْتَظِرُونَ 158» نزول أحدها بكم وناظرون ما يحل بكم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع(3/428)
ج 3 ، ص : 429
الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها.
ولكن لا ينفعهم إيمانهم إذ ذاك ، راجع الآيات المارة والآية 18 من سورة النساء في ج 3 ، وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب اللّه عليه.
وأخرج الترمذي من رواية صفوان بن عسال المرادي قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم باب من قبل المغرب مسيرة عرضه أو قال يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة خلقه اللّه تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ، وقال حديث حسن صحيح.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : بادروا بالأعمال قبل ست : طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويّصة أحدكم وأمر العامة.
وأخرج مسلم من رواية أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل : طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض.
وروى مسلم عن أبي حذيفة بن أسد الغفاري قال : طلع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذاكرون ؟ قلنا الساعة فقال إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدجال والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وثلاث خسوف ، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو ابن العاص قال حفظت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا.
وقال في سوق العروس لابن الجوزي إن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها ارجعي من مطلعك.
والمشهور أنها تطلع يوما واحدا من المغرب فتسير إلى خط الاستواء ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعادتها قيل والكل أمر ممكن واللّه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.
روى البخاري في تاريخه وأبو الشيخ وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي اللّه عنه قال : إذا أراد اللّه تعالى أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل شرقها غربا ومغربها مشرقها.
وزعم(3/429)
ج 3 ، ص : 430
أهل الهيئة ومن نهج طريقهم أن ذلك محال ويقولون إن الشمس وغيرها من الكواكب والفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه مع قولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك التواريث على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بالفلك الأطلس إذ يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا ، والبحث في هذا طويل لا محل له هنا ومن أيقن بقدرته تعالى هان عليه تصديق هذا ومن لا فلا إذ لو ملأت له الأرض أدلة لا يصدق لأنه من الذين ختم اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وقانا اللّه من ذلك وجعلنا من الموقنين بكل ما جاء عن اللّه ورسوله إيقانا لا شك ولا شبهة ولا مرية فيه ، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ» اختلفوا فيه بينهم «وَكانُوا شِيَعاً» فرقا وأحزابا لأن الأصل هو دين إبراهيم عليه السلام الحنيف السهل فغيرت فيه اليهود وتلتهم النصارى وكل تشيع لما يرى منه وتبعه ذووه ، وزادت في الاختلاف العرب والمجوس إذ أحلوا المحرمات وحرموا الحلال وعبدوا الأصنام والكواكب والملائكة وغيرها وأعقبه اختلاف الأمم حتى الآن فصاروا أحزابا منهم باسم الدين ومنهم باسم العروبة ومنهم باسم القومية ومنهم ومنهم وهم كما أخبر اللّه عنهم (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) الآية 32 من سورة الزمر الآتية ، ولهذا قال تعالى لحبيبه إن هؤلاء الأقوام المتفرقين في الدين «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ» فأعرض عنهم وتبرأ منهم ومن أفعالهم وأقوالهم ماداموا مصرين على ما هم عليه من الاختلاف واتركهم فلست بمسؤول عنهم ، أسند الطبري عن أبي هريرة مرفوعا قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وليسوا منك ، هم أهل البدع والأهواء والشبهات والضلالة.
واقتباسا من هذه الآية (القول السائد) إن فعلت كذا فلست منك ولست مني ، روي عن الغرباض بن سارية قال صلى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل بوجهه علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل يا رسول اللّه كأن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا فقال أوصيكم بتقوى اللّه والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين(3/430)
ج 3 ، ص : 431
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة. - أخرجه أبو داود والترمذي - وعن معاوية قال : قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين فرقة ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة.
زاد في رواية : وانه يخرج من
أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ، أخرجه أبو داود.
وأراد بالتجاري هنا على قول بعضهم الوقوع في الأهواء الفاسدة تشبيها بجري الفرس والكلب ، ولا أراه سديدا بل أراد واللّه أعلم داء الكلب ، أي تتداخل بهم الأهواء كتداخل داء الكلب في الوجود بدليل ما بعده.
وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملّة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة كلها في النار إلّا ملّة واحدة ، قالوا من هي يا رسول اللّه قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي - أخرجه الترمذي - .
وفي هذين الحديثين دلالة كافية على أن جميع أهل الملل المتفرقة في المذاهب والطرق من ملة الإسلام إذ جعلهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم من أمته بنص قوله (أمتى) في الحديث الأخير فنسأل اللّه تعالى أن يجمع كلمتهم على طريق الحق ويوحد صفوفهم على الصدق ويشد أزرهم بعضهم ببعض ، وينزع الخلاف من بينهم ويوحد كلمة هؤلاء الأحزاب المتضاربة المتحزبة بعضها لبعض الآن بما يزيد عن التعصّب الكائن في الجاهلية بسبب القرابة ويسدد خطاهم إلى الهدى والصواب ويلهمهم الرشد ويزيل عنهم الحجاب ونظير هذه الآية 13 من سورة الشورى الآتية فراجعها وهذه الآية عامة محكمة وحكمها باق إلى آخر الدوران فمن قال منسوخة احتج بانها خاصة باليهود والنصارى والكفار من حيث لا دليل يخصصها بأحد من هؤلاء من كتاب أو سنة لهذا فلا عبرة بهذا القول لأن معناها عام والعام يبقى على عمومه ما لم يخصص ولا مخصص له.(3/431)
ج 3 ، ص : 432
مطلب حكاية بنكتة وعظيم فضل اللّه :
كان السيد محمود الألوسي رحمه اللّه صاحب تفسير روح البيان اجتمع بأحد متعصبي الشيعة وكان اسمه حمد وقد روى الحديثين المذكورين آنفا وجعل بدل واحدة في الحديث الأول وصلته في الحديث الثاني (فرقة) وقال إن فيها إشارة إلى نجاة الشيعة وانهم هم المرادون بالفرقة الناجية من الثلاث والسبعين ، قال والحجة على هذا أن عدد حروف فرقة بالجمل وعدد حروف شيعة سواء فكأنه عليه الصلاة والسلام قال الا شيعة والمشهور في هذا العنوان هم الشيعة الإمامية لا غير ، فأجابه على الفور دون أن يتعرض لتبديل كلمة واحدة وفرقة وملة : يلزم من هذا أن تكون كلبا وحاشاك لأن عدد حروف كلب بحروف الجمل مثل عدد حروف حمد ، فألقم الحجر ولم ينبس ببنت شفة قال تعالى «إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ» وحده في تفرقهم وتعصبهم لبعضهم ليس لك يا سيد الرسل فأنا وليهم إن شئت عذبتهم في الدنيا والاخرة وإن شئت هديتهم في الدنيا وعفوت عنهم في الآخرة ، وإن شئت عذبتهم في الدنيا والاخرة وإن شئت هديتهم في الدنيا ونعمتهم في الاخرة فاتركهم فان أمرهم اليّ في الدنيا ومرجعهم إلي في الآخرة «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ 159» لا يعزب عن علمه شيء من أعمالهم وأنه سيجازيهم عليها الشر بمثله والخير بأحسن منه قال تعالى «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ» في هذه الدنيا «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» في الآخرة وقد يضاعفه إلى سبعمئة وإلى ما لا يحصى «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ» فيها «فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» فيها وهذا من عظيم فضل اللّه على عباده إذ يفيض على الطائعين من جوده العميم ويقاصص العاصين بمقدار عصيانهم «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 160» في ذلك إذ لا يزاد في عقابهم كما لا ينقص من ثواب الطائعين ، وهذا عدل منه جلّ عدله في حق العاصي وفضل منه في حق الطائع ، على أن له تعالى أن يعذب الطائع ويرحم العاصي لأن الكل ملكه يتصرف فيه كيف يشاء ،
فإذا أراد إبلاغ ثواب الطائع إلى ما لا يحصى وعقاب المسيء إلى ما لا يطاق فعل ولا راد لقضائه ولا يسأل عما يفعل ، وهذه الآية عامة في كل حسنة وسيئة والتقدير ليس للتحديد لأن اللّه يضاعف لمن يشاء ، فالثواب فضل منه والعقاب عدل منه.
روى البخاري(3/432)
ج 3 ، ص : 433
ومسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى اللّه تعالى.
وروى مسلم عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول اللّه تبارك وتعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها وأغفر ، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة.
وهذا من أحاديث الصفات وهي كآيات الصفات التي أشرنا إليها في الآية 158 المارة من هذه السورة وفي مواضع كثيرة قبلها وفي الآية 30 من سورة ق في ج 1 وبيتنا أن السلف الصالح يتركونها على حالها والخلف الناجح يؤولونها فيقولون في مثل هذا الحديث : من تقرب إلي بالطاعات تقربت برحمتي ومن أتاني أتته رحمتي أو خيري وبركتي بحسب ما يناسب المقام ، وإذا أردت أن تقف على هذا راجع الآيات التي أشرنا إليك عنها آنفا وما تدلك عليها.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : يقول اللّه تبارك وتعالى وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة ، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
هذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها ، وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفر له ما لم يعملها ، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قالت الملائكة رب ذلك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به ، فقال
ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، فإنما تركها من جرائي.
زاد الترمذي : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 20 من سورة يوسف المارة وفيها أيضا ما يرشدك للمواقع المتعلق فيها هذا البحث فراجعها ، فنعم الرب ربكم أيها الناس هذا لطفه بكم ورأفته عليكم ، فأين المتعرض لألطافه المتطلب(3/433)
ج 3 ، ص : 434
لرحماته ، فياويل الظالمين من مشهد يوم عظيم ، ويا خسارة المفرطين من انعام رب العالمين ، فيا أكرم الرسل
«قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» موصل إلى النجاة ، ثم بين هذا الطريق بقوله «دِيناً قِيَماً» عدلا لا عوج فيه بالتخفيف وجاء في الآية الثانية من سورة الكهف الآتية قيما بالتشديد وجاء معرفا ومشددا في الآية 30 من سورة الروم الآتية والآية 37 من سورة التوبة في ج 3 «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» السوية السهلة التي ملتم عنها واختلفتم فيها أيها المشركون والمجوس وأهل الكتابين ، وقد اتبعتها أنا لكونه أي سيدنا إبراهيم كان «حَنِيفاً» مائلا عن الضلال إلى الاستقامة وعن الباطل إلى الحق وكانت العرب تسمي كل من حج واختتن حنيفا إعلاما بأنه على دين إبراهيم عليه السلام الذي كان مسلما مؤمنا «وَما كانَ» من يوم وعيه «مِنَ الْمُشْرِكِينَ 161» قط وهو الذي سمى المؤمنين به مسلمين ، راجع الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 ، نزلت هذه الآية في كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم مع أنهم يعبدون الأوثان وعبادتها شرك محض ، فرد اللّه عليهم بأن إبراهيم ما كان مشركا ولم يعبد الصنم قط ، وأنتم مشركون تعبدون الأوثان ، فادعاؤكم أنكم على دينه بهت واختلاق ، وإنما ذكرنا المجوس وأهل الكتابين مع أن الآية مكية ولا يوجد في مكة مجوس ولا يهود ونصارى وقع لهم مجادلة مع حضرة الرسول في ذلك ، بل لأنهم داخلون في معنى الآية بسبب ما هم عليه من التفرقة في دينهم وتعصب بعضهم لبعض فيشملهم إطلاق لفظها ، إذ لا مقيد لها ، تدبر.
قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل موبخا مقرعا من عاندك في توحيد اللّه أو جادلك في إثبات الشرك بوحدانية اللّه المقدسة وهو مع سفه عقله وقلة إدراكه يتوقع موافقتك لاتباع دينه الباطل «إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي» حجي وذبحي وكل عبادتي «وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 162» وحده «لا شَرِيكَ لَهُ» في ذاته ولا في شيء من صفاته جلت حضرته عما يقول الكفرة وتنزهت مما تصفه ، فإذا أردتم الخير لأنفسكم أيها الناس في الدارين فأخلصوا له الدين الذي أرسلت به إليكم «وَبِذلِكَ» الإخلاص والتوحيد والتنزيه «أُمِرْتُ» من قبل ربي عزّ وجل «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ 163» في هذه الأمة(3/434)
ج 3 ، ص : 435
لأن إسلام النبي متقدم على إسلام أمته وقومه ، وإن هذه الآية دليل على أن جميع العبادات يجب أن تؤدي على وجه التمام والكمال ، لأن ما كان للّه لا ينبغي إلا أن يكون كاملا تاما مع إخلاص ليكون مقبولا عند اللّه ، ولذلك أمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يصرح بذلك ويقول إن حياته للّه فهو يملكها ، وما كان للّه فينبغي أن يقضيها في عبادته وموته للّه على الإيمان الكامل به ، ليكون حياته حياة طيّبة ومماته ميتة طيبة ولا يقبل اللّه إلا الطيب «قُلْ» يا أكرم الرسل لمن يريد أن توافقه على طريقه المعوج ويريدك على عبادة الصنم الذي اتخذه ربا وهو جماد لا يعقل «أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ» مربي ومالك ومدبر «كُلِّ شَيْ ءٍ» وسيده لا يشاركه في ربوبيته أحد وهو الواحد في ذاته المنفرد في ألوهيته المختص بصفاته ، وأنت يا حببي بعد أن أبلغتهم ما أمرت به لا يهمك شأنهم وعدم قبولهم ، فدغهم يكون وبالهم عليهم «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ» من الأوزار «إِلَّا عَلَيْها» إثمه وعقابه كما أن ما تكسبه من الخير يكون لها أجره وثوابه ، قال ابن عباس : كان الوليد بن المغيرة يقول لكفار مكة اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم ، كما أشار اللّه إليه في قوله (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) الآية 12 من سورة العنكبوت الآتية فأكذبه اللّه تعالى بما أنزله في هذه الآية بقوله «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » وهذه الآية مكررة في الآية 38 من سورة والنجم والآية 38 من سورة فاطر والآية 88 من سورة الإسراء المارات في ج 1 والآية 7 من سورة الزمر الآتية ، أي لا يؤاخذ أحد بذنب غيره عما يرتكبه في هذه الدنيا بل يكون هو نفسه رهين بما كسب ضمين لما اقترف ، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) الآية 20 من سورة المدثر المارة في ج 1 ، وسيتبين لكم يوم القيامة المحق من المبطل والمضل من المهتدي عند
ما يصدر أمره المطاع وهو قوله جل قوله (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 60 من سورة يس المارة ، ولهذا يقول اللّه تعالى «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُكُمْ» في الموقف على رؤوس الأشهاد «بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164» من الأديان وغيرها وما كنتم تتفرقون من أجله ويتعصب بعضكم لبعض في غير الحق ويجازي كلا يحسبه(3/435)
ج 3 ، ص : 436
ويدخل المؤمن الجنة والكافر النار ، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ» لمن قبلكم من الأمم في «الْأَرْضِ» لأنكم آخر الأمم ورسولكم خاتم الرسل «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ» في المال والجاه والعقل والخلق والقوة والفضل والولد والرزق والشرف «دَرَجاتٍ» كثيرة وجعل بينكم تفاوتا عظيما كما بين العالم والجاهل والحسن والقبيح والشريف والوضيع والغني والفقير والمريض والصحيح ، وهو قادر على أن يجعلكم متساوين في ذلك كله ، ولكن فعل ما فعل بمقتضى الحكمة «لِيَبْلُوَكُمْ» يختبركم ويمتحنكم «فِي ما آتاكُمْ» من ذلك وليظهر للناس هل يصرفونه في طرق الخير شكرا لنعمته أو تضيعونه في الشر كفرا لربوبيته ليطلعوا على مناقبكم ومثالبكم حتى يصفوكم بالمزايا أو الرذائل ، وإلا فاللّه تعالى عالم بكم وبما وقع منكم ولكن ليعلم الناس من منكم يحمد على الطاعة ويذم على المعصية ، ومن يصرف نعم اللّه لما خلقت له ومن يضعها بغير موضعها فيكون الثواب والعقاب من اللّه على حسب أعمالكم ونياتكم في كل ما خولكم به ، لأن اللّه لا يعجزه أن يجعلكم سواسية في الرزق وغيره ولا ينقص من جوده مثقال ذرة وإنما لم يفعل لما تقدم من الأسباب وليعرف الناس الصابر منكم من الجازع والشاكر من الكافر «إِنَّ رَبَّكَ» يا محمد «سَرِيعُ الْعِقابِ» لأعدائه في الدنيا والآخرة إذا أراد ، وان ما ترونه من الإمهال فهو لحكمة قدرها في الأزل وان مقدوراته تعالى لا تغير عن أوقاتها ولا تبدل بغيرها «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ» لذنوب أوليائه وأهل طاعته الشاكرين نعمه «رَحِيمٌ 165» بعباده أجمع ، قال ابن عباس لما نزلت هذه السورة جملة (عدا الآيات المدنيات) ليلا بمكة وحولها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين لهم زجيل بالتسبيح والتحميد ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخر ساجدا ، قال البغوي : وروي عنه مرفوعا من قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره.
وتسمى هذه السورة المشيعة وهكذا كل سورة وآية نزل معها ملائكة غير جبريل والحفظة الأربعة الذين ينزلون معه عند نزول كل آية وسورة شاهدين وحافظين كسورة يس وآية الكرسي وآية (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) الآية 45 من سورة الزخرف الآتية ، وما لم ينزل(3/436)
ج 3 ، ص : 437
معها إلا جبريل والحفظة تسمى المفردة ، وقد ختمت سورتا المزمل والأحزاب بما ختمت به هذه السورة فقط ، هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الصافات
عدد 6 - 56 - 37
نزلت بمكة بعد الأنعام ، وهي مئة واثنتان وثمانون آية ، وثمنمئة وستون كلمة ، وثلاثة آلاف وستة وعشرون حرفا ، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به ، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «وَالصَّافَّاتِ» الملائكة المصطفين لعظمة ربهم والخيل المصطفة بالمجاهدين لطاعته ، والحيتان الصافة بالمياه بأمره ، والطيور المصطفة بالهواء بقدرته «صَفًّا» 1 باستقامة واحدة أكثر انتظاما من أهل الدنيا الذين تعلموا هذا الاحترام وغيره من الكتب السماوية ، أخرج أبو داود عن جابر بن سمرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : ألا تصطفوا كما تصطف الملائكة عند ربهم ؟ قلنا وكيف تصطف الملائكة عند ربهم ؟ قال يتممون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف «فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» بالآيات الآمرة بالحق الزاجرة عن الباطل ومعنى الزجر الدفع قال :
زجر أبي عروة السباع إذا اشفق أن يختلطن بالغنم
ويأتي بمعنى السوق الحثيث والحث «فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» 3 لآيات اللّه تعالى من القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية على الغير ، هذا إذا أريد بالتاليات الملائكة الذين وكل إليهم أمر الوحي إلى الأنبياء ، وإذا أريد الإطلاق فتعم كل قارئ لذكر اللّه تعالى والإطلاق أحسن من التقييد ، وقد أقسم اللّه تعالى بهذا الصنف من الملائكة لما لها من المزية على غيرها بما عهد لها به من ذلك وجواب القسم «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» 4 لا رب لكم غيره وهو «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ» 5 والمغارب أيضا وهي ثلاثمائة وخمسة وخمسون(3/437)
ج 3 ، ص : 438
مشرقا ومغربا ، لأن الشمس كل يوم تطلع بحسب ما نراه من أفق وتغيب في أفق أي في طرفه وجهته ، وجاء في الآية الأخرى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) 17 من سورة الرحمن باعتبار مشرقي الصيف ومغربي الشتاء ، لأنها بحسب ما نراه تبدأ بالطلوع من جهة الأفق وتبقى تتدرج حتى تنتهي لمستقر لها في جهته الأخرى ثم ترجع تدريجيا أيضا حتى تنتهي لمقرها الأول وفي الغروب هكذا دواليك ، فبهذا الاعتبار يكون مشرقين ومغربين ، وباعتبار الآية المفسرة يكون مشارق ومغارب ، وفي قوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الآية 18 من سورة الشعراء المارة في ج 1 باعتبار أن المشرق كله جهة واحدة والمغرب كذلك فلا تنافي بين هذه الآيات ووجه الجمع بينها ما ذكرناه ، وفي هذه الآية ردّ لما يقوله الكفار بوجود آلهة متعددة.
مطلب انقضاض الشهب واستراق السمع وما يحصل من الانقضاض ومعنى التعجب :
قال تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا» القربى منكم أيها الناس «بِزِينَةٍ» عظيمة بديعة يعجز عن بعضها كل من وما في الكون وهي «الْكَواكِبِ» 6 المنيرة فيها بأنواعها وأشكالها المتناسبة والمختلفة في اللون والحجم والضياء والسير والتسمية ، فهذه الجوزاء وبنات نعش والميزان والثريا ، وتلك القلادة والنثرة والبلدة والزهراء ، وأولئك الجدي وسهيل والعقرب وغيرها مرصعة على زرقة السماء الواسع العظيم.
قال :
فكأن أجرام النجوم لوامعا درر نثرن على بساط أزرق
فلا أبدع ولا أحسن من مرآها جل الإله الذي براها ، وللكواكب فوائد جمة غير الزينة والضياء لمعرفة الجهات والمواسم والتأثيرات التي أودعها اللّه فيها مما عرفه الإنسان ومما لم يعرفه «وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» 7 عات إذ يرمى منها بشهب محرقة لأجل أن «لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى » من الملائكة الذين يتلقون كلام ربهم المقدس فينقلون ما يسمعونه إلى الكهنة والسحرة فيتكلمون بها إلى الناس ويوهمونهم بأنهم يعلمون الغيب «وَيُقْذَفُونَ» أولئك المتسمعون بشهبها «مِنْ كُلِّ جانِبٍ 8» من آفاق السماء فيطردونهم طردا ويدحرونهم «دُحُوراً» فيبعدونهم عن مجالس الملائكة ، وهذا عذابهم في الدنيا «وَلَهُمْ» في الآخرة «عَذابٌ واصِبٌ 9» دائم شديد لا ينقطع ، قال أبو الأسود الدؤلي : (3/438)
ج 3 ، ص : 439
لا أشتري الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
«إِلَّا مَنْ» أي الشيطان الذي «خَطِفَ الْخَطْفَةَ» منهم بأن أخذ الكلام بسرعة زائدة «فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» بشدة قوته ، فإما يحرقه فيهلكه أو يخبله ، ومع هذا كله فإنهم يعودون لاستراق السمع الكرة تلو الكرة طمعا في السلامة من إصابة الشهب ورجاء لنيل المقصود ، ولو لا الأمل ما خاطر أحد في تجارة برا ولا بحرا ولا في زراعة بعلا ولا سقيا ولبطل عمل ابن آدم فضلا عن الشياطين.
وهنا معجزة من معجزات القرآن إذ لا يعلم أحد أن النجوم الصغار في سماء محيطنا قبل توسع علم الهيئة غير اللّه تعالى القائل
«فَاسْتَفْتِهِمْ» يا سيد الخلق «أَ هُمْ» قومك المعاندون لنا «أَشَدُّ خَلْقاً» أقوى وأعظم «أَمْ مَنْ خَلَقْنا» من الملائكة والسموات والأرض والكواكب والبحار والجبال بل هم أضعف وأحقر «إِنَّا خَلَقْناهُمْ» أي أصلهم آدم عليه السلام «مِنْ طِينٍ لازِبٍ 11» لزج يلصق باليد ويجوز أن تطلق هذه الآية على بني آدم باعتبار أنهم خلقوا من التراب لأن مادتهم المكون منها جسمهم حاصلة من التراب ومن كان أصله من تراب فهو في غاية الضعف بالنسبة للمخلوقات الأخر ومن كان كذلك لا يليق به أن يتكبر ويتعظم وينكر قدرتنا على إعادته من رميم خلقه الأول وهو تراب أيضا قال النابغة :
فلا تحسبون الخير لا شر بعده ولا تحسبون الشر ضربة لازب
هذا وليعلم أن الشهاب عبارة عن شعلة نارية تنقضّ من الكوكب لا نفس الكوكب لأن أصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم ، وعند الفلاسفة أعظم لأن صغار الثوابت عندهم أعظم من الأرض ، وهذه لا تنقض ولو انقضت لسمع لها دوي هائل ، ولم يسبق أن سمع لها صوت ، ولو فرض محالا عدم الصوت لاختلت زينة السماء بنقص ما ينقض منها ولم يكن شيء من ذلك والمشاهدة أكبر برهان ، ولا هو ايضا نور الكواكب ، لأن النور لا أذى به ولا احتراق ، فالأرض مملوءة بنور الشمس ولم ينشأ منها إلا النفع ، ولو كان المنقض منها نورا لا نتقص ضوءه وسبب انتقاص الزينة أيضا ، ولم يشاهد في شيء منها ذلك أصلا ، ولم ينقل إلينا منه شيء منذ نشأة الكون حتى الآن فثبت من هذا أن المنقض(3/439)
ج 3 ، ص : 440
شعلة نارية يخلقها اللّه تبارك وتعالى من قذف شعاع الكواكب عند وصوله إلى محل مخصوص من الجو بما أودعه اللّه فيه من الخاصية التي لا نعلمها (وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 102 من هذه السورة) فيشتعل وتأثيرا لأشعة الحرق فيما هو قابل له من الأشعة لا ينكر ، ألا ترى أن شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق ما هو مقابل له ممّا هو قابل للاحتراق ، ولو توسط بين المنظرة وبين قابل الاحتراق إناء بلور مملوء ماء.
وعليه فإن اللّه تعالى يصرف تلك الأشعة المستحيلة نارا والتي تشاهد كحبل أو رمح من نار سريع الحركة إلى الشيطان الذي يسترق السمع فيحرقه ، وقد يحدث ذلك ولو لم يوجد ثمة مسترق أيضا ، واللّه على كل شيء قدير.
وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 17 من سورة الحجر المارة وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى مما يتعلق في هذا البحث فراجعها ، قال تعالى «بَلْ عَجِبْتَ» بفتح التاء خطاب لسيد المخاطبين أي عجبت من تكذيبهم لك وإنكارهم رسالتك وجحودهم ما أنزلناه عليك وعظمة منزله على القراءة المشهورة في المصاحف المناسبة لسياق ما قبلها وسياق ما بعدها وقرأ بعضهم بضم التاء على إسناد التعجب إلى اللّه والتعجب من اللّه يحمل على تعظيم الشيء المتعجب منه ، فإن كان قبيحا ترتب عليه العقاب الشديد ، وإن كان حسنا ترتب عليه الرضاء الكثير ، وقد يكون منه تعالى على وجه الاستحسان أيضا ، فقد جاء في الحديث : عجب ربكم من شاب ليست له صبوة.
وفي حديث آخر : عجب ربكم من ألّكم بتشديد اللام وضم الكاف (ومعناه القنوط الشديد ورفع الصوت بالبكاء) وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم.
وقال الجنيد : إن اللّه تعالى لا يتعجب من شيء ولكن وافق رسوله ، أما العجب من الناس فيحمل على إنكار الشيء ويكون معناه روعة تعتري الإنسان عند رؤية ما يستعظمه ، أي أن اللّه ورسوله يعجبان من عدم اكتراثهم بذلك «وَ» الحال أنهم «يَسْخَرُونَ 12» به وبمنزله ومن أنزل عليه لغاية جهلهم بحقيقة الأمر وكنه ما اشتمل عليه «وَإِذا ذُكِّرُوا» هؤلاء الساخرون «لا يَذْكُرُونَ 13» اللّه ولا يتعظون بما نصب لهم من الآيات والأدلة على وحدانية اللّه ، ولا ينتفعون بتذكيرك لهم ، لأن دأبهم عدم الاتعاظ والانتفاع(3/440)
ج 3 ، ص : 441
«وَإِذا رَأَوْا آيَةً» باهرة جليلة أظهرها اللّه على يد رسوله مثل الإخبار بالغيب وإنزال القرآن وانشقاق القمر والإسراء والمعراج وما وقع فيها من الآيات لا يؤمنون بها ولا يكترثون بمنزلها ولا يلتفتون إلى من أنزلت عليه ، ولكنهم «يَسْتَسْخِرُونَ 14» يستدعي بعضهم بعضا لأجل السخرية والاستهزاء بها «وَقالُوا» فضلا عن ذلك «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 15» ظاهر يموه به ويخيل علينا محمد ويرينا ما لم يكن كائنا ، ويزعم أنه قرآن وما هو بقرآن ، وقالوا أيضا على طريق السّخرية «أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ 16» مرة ثانية كما يخبرنا محمد فنعود أحياء كما كنا قبل الموت كلا لا يكون ذلك البتة «أَ وَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ 17» أيضا يبعثون ، يقولون هذا على طريق الاستفهام الإنكاري لاستبعادهم الحياة بعد الموت «قُلْ» يا أكمل الرسل «نَعَمْ» تبعثون «وَأَنْتُمْ داخِرُونَ 18» صاغرون وإذا أراد اللّه ذلك «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ» صيحة «واحِدَةٌ» من السيّد إسرافيل عليه السلام بأمر ربه «فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ 19» إلى بعضهم أحياء «وَقالُوا» بعضهم لبعض بعد أن رأوا أنفسهم أحياء في الموقف المهيب (وجاء الماضي موضع المستقبل
لتحققه) وشاهدوا أعمالهم السيئة وعظيم الجزاء الذي سيحل بهم «يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ 20» الذي يدين اللّه به عباده الذي وعدنا به رسله في الدنيا وهو الحياة بعد الموت والعذاب بعد الحساب
«هذا يَوْمُ الْفَصْلِ» بين الناس الذي يظهر فيه المحسن من المسيء «الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 21» في الدنيا ولا تصدقون الرسل حين أخبروكم به ، وبعد أن اعترفوا وتحقق لهم الهلاك يقول اللّه جل شأنه لصف من الملائكة «احْشُرُوا» اجمعوا هؤلاء «الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم «وَأَزْواجَهُمْ» سوقوهم معهم من قرناء السوء الذين كانوا على دينهم وأشباههم وأمثالهم فيصنّفون طوائف الزناة والسعاة وشربة الخمر وعبدة الأوثان وغيرهم من الكفرة أصنافا ومن المغامرين وتاركي الصلاة والصوم والحج وغيرهم من عصاة المسلمين أصنافا لأن هذه الآية عامة في كل ظالم من كفرة الأمم كلها وعصاتها «وَما كانُوا يَعْبُدُونَ 22» في الدنيا من كل شيء «مِنْ دُونِ اللَّهِ» فيدخل في هذه الآية الأموال والأولاد والنساء الذين(3/441)
ج 3 ، ص : 442
توغلوا فيهم حتى ألهتهم عن عبادة اللّه ، فكأنهم عبدوها أيضا من دونه ، والواو في قوله (وَما) واو المعية أي احشروهم مع معبوديهم «فَاهْدُوهُمْ» دلوهم تقول هديته هدى إذا كان لأمر الدين وهداية إذا كان إلى الطريق كما هنا «إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ 23» طريق جهنم لأنه اسم من أسمائها ليحاسبوا هناك قريبا منها بدليل قوله «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ 24» عن أعمالهم وإنما كان حساب هذه الطائفة قريبا من جهنم لزيادة عذابهم ، إذ لو كان القصد من قوله اهدوهم أدخلوهم جهنم رأسا كما ذكره بعض المفسرين لما أمر بتوقيفهم لأجل السؤال ، لأن التوقيف يكون أولا ثم الاستنطاق ثم المحكمة ثم القضاء ثم الحبس وكل بحسب جرمه فتقدر مدة حبس العاصي وتخليد الكافر فيها ، ويبرأ البريء ، ومن هنا أخذ أهل الدنيا هذه الأحوال ، لأن اللّه تعالى ضرب لهم الأمثال مما كان من جنسها في الآخرة في الكتب القديمة وفي هذا القرآن ، وهي معلومة عنده قبل وقوعها ، ولهذا سماهم اللّه تعالى في الآية الآتية مجرمين لأن المجرم من يستحق العقاب لأنه أولا يكون مدعى عليه ثم ظنينا إذا ظهرت عليه أمارة الجرم ، ثم متهما إذا تراكمت عليه الأدلة ، ثم مجرما إذا تحقق عليه الفعلة ، ثم يحكم فيسمى محكوما والتوقيف يكون قبل الاستنطاق إذا كان هناك تحقيقات أولية ، وهي صحف الملائكة الحفظة مثلها بلا تشبيه ضبوط الدرك والشرطة ، فإنه يوقف بموجبها ثم يجري استنطاقه أحيانا أخرج الترمذي عن أبي بردة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه ماذا عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه ، وفي رواية وعن شبابه فيم أبلاه.
وله عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ما من داع دعي إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما له لا يفارقه ، وإن دعى رجل رجلا ، ثم قرأ : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ثم تقول لهم خزنة الجحيم بعد إدخالهم فيها توبيخا وتقريعا «ما لَكُمْ» أي شيء جرى لكم اليوم أيها الكفرة العتاة لم «لا تَناصَرُونَ 25» لبعضكم كما كنتم في الدنيا تتناصرون على الباطل ولا تفعلون بين إخوانكم وقومكم بالحق بل تنتصرون لقريبكم مهما كان مبطلا قبل أن تقفوا على الحقيقة ، ثم يقول(3/442)
ج 3 ، ص : 443
تعالى قوله ذهب عنهم تناصرهم وحان تخاذلهم ، فلا يتعاونون الآن كما كانوا قبلا «بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ 26» لأمري خاضعون لحكمي أذلاء منقادون لتنفيذ ما أقضي به عليهم «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ 27» فيما بينهم بعد أن انقطع أملهم في معبوديهم ورؤسائهم وتبين لهم عجزهم عن المناصرة وصاروا يتلاومون بينهم «قالُوا» الأتباع لرؤسائهم «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ» في الدنيا «تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ 28» من طريق الحلف فتقسمون لنا أن دينكم هو الحق ، وتمنعوننا عن اتباع الرسل ، وتزيفون لنا ما جاءوا به من عند ربهم حتى أقنعتمونا ، فأين الآن يمينكم وأين ما وعدتمونا به ؟ وهذا أولى من تأويل اليمين بالقوة والقهر أو بالخير والبركة ، أي كنتم تمنعوننا عن الخير وتصدوننا عن الهدى وتضللوننا عن الحق قهرا وقسرا لما لكم علينا من القوة والغلبة ، ووصفت اليمين بالقوة لما يقع فيها من البطش ، ووصفت بالخير لأنها مشتقة من اليمن أي البركة.
لأنه أنسب بالمقام وما يخطر الذهن أنه بمعنى الجهة لا طائل تحته ، وإن كانت جهة اليمين مرجحة على جهة اليسار ومشرفة عليها جاهلية وإسلاما إلا أن الإخلال الذي جاءهم من قبل رؤسائهم سواء كانوا يتكلمون معهم به من جهة يمينهم أو شمالهم فهو على حد سواء وليس مما يوجب أن يعاتب عليه في مثل هذا المقام «قالُوا» الرؤساء مجاوبين أتباعهم : ليس الأمر كما تقولون «بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 29» من الأصل وقد أصررتم على الكفر بالرسل باختياركم وطوعكم «وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» قوة قاهرة كما زعمتم وهذا مما يؤيد التفسير الأول بأن اليمين بمعنى القوة والقهر «بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ 30» فطرة متجاوزين الحد لأنا دعوناكم فتبعتمونا رضا لا كرها
«فَحَقَّ» وجب «عَلَيْنا» نحن وأنتم «قَوْلُ رَبِّنا» وعيده بالعذاب الذي هددنا به رسله في الدنيا ولذلك «إِنَّا لَذائِقُونَ 31» وباله الآن لا محالة ثم اعترضوا لهم بقولهم «فَأَغْوَيْناكُمْ» بالدنيا ودعوناكم لمعصية الرسل وطاعتنا في الضلال حقا ، والسبب : «إِنَّا كُنَّا غاوِينَ 32» ضالين وأردناكم لتكونوا مثلنا.
قال تعالى «فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ» في الآخرة يكونون «فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ 33» كما اشتركوا بالغواية في الدنيا «إِنَّا كَذلِكَ»(3/443)
ج 3 ، ص : 444
مثل هذا الفعل الفظيع «نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ 34» وإنما فعلنا بهم ذلك بسبب «إِنَّهُمْ كانُوا» في الدنيا «إِذا قِيلَ لَهُمْ» قولوا «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ 35» عنها ويمتنعون من قولها ويأنفون من سماعها عتوا وعنادا «وَيَقُولُونَ» أيضا على طريق الإنكار «أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ 36» يعنون أكرم الخلق على اللّه وأفضلهم وأعقلهم قاتلهم اللّه قد جمعوا في هذه الجملة إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة ووصم صاحبها قال تعالى ردا عليهم «بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ» من عندنا ليس كما تزعمون أنه ساحر ومجنون فهو أكمل بشر وقد آمن باللّه «وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ 37» قبله بما جاءكم به لأنهم كانوا مثله يدعون لنفى الشرك وإثبات التوحيد وقد وصفهم أمثالكم من الأمم السابقة بما وصفتم به رسولنا محمد الصادق الأمين «إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ 38» بتجرؤكم عليه أيها الكفرة «وَما تُجْزَوْنَ» في الآخرة «إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 39» في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل ولا يستثنى من العذاب الأخروي «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 40» بكسر اللام وفتحها كما مر في الآية 84 من سورة ص في ج 1 وقبلها مجادلة أهل النار بعضهم مع بعض في الآية 59 بما يشبه هذا فراجعهما
«أُولئِكَ» المخلصون المقبولون عند اللّه «لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ 41» لدينا بكرة وعشيا راجع الآية 62 من سورة مريم من ج 1 ثم أبدل فى هذا الرزق قوله «فَواكِهُ» للتلذذ ليس إلا ، لأنهم بغنى عن الأكل والشرب ، وأن حجتهم محفوظة ، لأن اللّه تكفل بتخليدها في الجنة سالمة منعمة والفاكهة تشمل جميع الثمار رطبها ويابسها ومن الطعام ما يؤكل للتلذذ لا للتقوت «وَهُمْ مُكْرَمُونَ 42» عند بارئهم معظّمون «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 43» «عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ 44» بوجوههم إلى بعضهم وهو من آداب المجالسة كما مر في الآية 16 من الواقعة في ج 1 «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ» مملوءة من الخمر الذي لم تمسه الأيدي ولم تطأه الأرجل ، وقد ذكرنا في الآية 18 من سورة الواقعة المذكورة أن لا يقال كأس إلا وهي مملوءة بالشراب وإلا فهي زجاجة أو كوب أو إبريق وهذا الخمر ليس كخمر الدنيا وإنما هو «مِنْ مَعِينٍ» 45 نهر جار أو ماء ظاهر فوق(3/444)
ج 3 ، ص : 445
الأرض يعانيه الخلق دون تكلف إلى إمعان النظر فيه ولهذا وصفها بقوله «بَيْضاءَ لَذَّةٍ» عظيمة في شربها «لِلشَّارِبِينَ» 46 منها تكمل فيها لذة الحواس الخمس ، وقاتل اللّه أبا نواس إذ يقول :
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
لأنه قصد اشتراك كافة حواسه بالمعصية ، ولأن الشارب جهرا يخشى الخجل من الناس فلا يتم به السرور ، لأنه لا يكمل إلا بالحرية المطلقة ، ولأن الشارب حينما يتناول الكأس يلمسه ويشمه وينظره ويذوقه ، فلم تبق إلا حاسة السمع ، فإذا قال له خمر عند تقديمه له كملت لذة حواسه كلها اللهم أحرم أولياءك منها في الدنيا ومتعهم بها في الآخرة وألحقنا بهم يا ربنا.
وهذه الخمرة «لا فِيها غَوْلٌ» كخمر الدنيا وهو ما يعبر عنه الأطباء بالكحول (اسبيرتو) لأنها إذا خلت منه لا تسكر كما يقولون ، ويزعمون أنهم عربوها عن الأوربيين الذين يعبرون عنها بكلمة (الكول) ولا يعلمون أنها عربية في الأصل بحتة ، وأن الأجانب أخذوها منّا وأبدلوا الغين بالكاف إذ لا توجد في لغتهم ، مطلب ما قاله داود باشا والفرق بين خمر الدنيا والآخرة ونساء أهل الجنة وكلامهم :
ورحم اللّه داود باشا والي العراق في القرن الثاني عشر هجري حينما سمع أولادا يغنون في الطريق ويقولون :
يا بو زبين حمر وامدكك بإبره كل الشرائع زلق ، من يمّنا العبرة
صاح بأعلى صوته اللّه اللّه صدقتم يا أولادي بورك فيكم حقا ، واللّه كل الشرائع زلق ، لأنها نسخت ، وأن من يأخذ بها بعد نسخها لا بد أن تزلق رجله فتؤديه إلى النار لذلك لا عبور إلى الجنة إلا باتباع شريعتنا أيها الأخوان فمن عندنا العبرة لأن شريعتنا توصل إلى الجنة وصار يصفّق طربا لذلك ، مع أن الأولاد لا يعرفون هذا المعنى ، وانما يعرفونه لما يتصورونه ، وهكذا فإن من يسمع الصوت الحسن أو ضرب الدف أو الناي أو غيرها يؤولها على ما في قلبه ويصرفها لمحبوبه وهو رحمه اللّه من الأولياء فصرف ما سمعه إلى ما هو في قلبه ، وله أخبار أخرى سنذكرها(3/445)
ج 3 ، ص : 446
فى الآية 34 من سورة المائدة في ج 3 إن شاء اللّه هذا ولا يخفى أن كل الخصال الحسنة أخذها عنا الأجانب ويا حسرتا نحن على العكس قلدناهم في المثالب وهم أخذوا عنا المناقب لأنهم يوم كنا ما كانوا شيا وإلا لما دارت رحانا عليهم واستولينا على بلادهم ولما رجعنا الآن القهقرى دارت لهم الكرة علينا وما ذلك إلا لتركنا أمر ديننا وما سنه لنا منقذنا الأعظم وسلفنا الصالح ولا علاج لاسترداد عزنا إلا بالرجوع إلى ديننا الذي فيه شرفنا وفيه قوتنا وبتركه ذلنا وخذلاننا ولا يصلح آخرنا إلا بماصلح به أولنا اللهم أرشدنا إلى طريق الصواب وألهمنا السداد واهدنا إلى الخير واجمع كلمتنا على الحق ووحد صفوفنا بجاهك على نفسك وحرمة أنبيائك وكتبك ، وأعد لنا مجدنا ومهابتنا ، إنك على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير.
واعلم أن اللّه تعالى وصف هذه الخمرة بعروها من الغول الذي هو غول العقل إذ يذهب به ولذلك نهى اللّه عن خمر الدنيا لأنها مملوءة منه فقد تذهب اللب وتوجع البطن وتحرق الحلق وتذيب الأمعاء وتخرش الرئة وتفتت الكبد وتحدث صداعا في الرأس ويعقبها القيء والعربدة والإفساد والسب والشتم وتورث السخرية والاستهزاء والتعيير وأشياء كثيرة لأنها أم الخبائث ، وخمرة الآخرة براء من هذا كله ولم يحصل منها إلا السرور والإنشراح ولهذا وصفها اللّه بقوله عز قوله (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ 47» أي لا تغلبهم على عقولهم فيسكرون منها ويفقدون الوعي ، لأن نزف بمعنى فقد وذهب ونزع ونزح ، أي أن خمر الدنيا تأخذ بعقول شاربيها ، أما هذه فلا ، قال الأبيرد اليربوعي :
لعمري لئن أنزفتهم أو حموتم لبئس الندامى كنتم آل ابجرا
وعلى هذا فلا اشتراك بين خمر الدنيا والآخرة إلا بالاسم لأن حقيقة هذه غير حقيقة تلك ويكفي خمر الدنيا سوءا نتن ريحها ودوسها بالأقدام وعصرها بالأيدي الدنسة ، وقيل فيها :
بنت كرم تيموها أهلها ثم هانوها بدوس بالقدم
ثم عادوا احكموها فيهموا ويلهم من جور مظلوم حكم
بيد ان خمر الآخرة من معين صاف لم تدنسها الأيدي وتعفسها الأرجل(3/446)
ج 3 ، ص : 447
واعلم أن العرب تعرف الغول الذي برأ اللّه تعالى خمرة الآخرة منه ، قديما قال امرؤ القيس :
رب كأس شربت لا غول فيها وسقيت النديم منها مزاجا
وتقدم ما يتعلق في هذا في الآية 19 من سورة الواقعة في ج 1 وله صلة في الآية 25 من سورة المطففين الآتية إن شاء اللّه القائل «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ» على أزواجهن فقط لأن نساء الجنة لا ينظرن لغير أزواجهن لفرط محبتهن لهم وعدم ميلهن لغيرهم «عِينٌ 48» حسان واسعات الأعين «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ 49» مستور عن النظر مصون عن اللمس كانت العرب تشبه مخدرات النساء ببيض النعام لانه يحفظه بريشه عن الغبار والريح حتى يبقى محافظا على لونه ولذلك يصفون المخدرات من النساء به فيقولون بيضة خدر في المرأة التي لم يرها أحد غير محارمها ، قال امرؤ القيس :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت في مطويها غير معجل
وكذلك يشبهون النساء بالبيض إذا تناسبت أعضاؤهن لأن البيضة وخاصة بيضة النعام أحسن الأشياء تناسبا وأشدها تقابلا ، قال بعض الأدباء :
تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى بهن اختلافا بل أتين على قدر
وإن أحب ألوان النساء عند العرب البيض المشرب خداها بحمرة ، الضارب صدغاها وجيدها بصفرة قليلة كبيض النعام فإنه ممزوج بصفار قليل ، واعلم أن النعامة تقسم بيضها ثلاثة أقسام ثلثا تقعد عليه لتفرخه وثلثا تدفنه لتقوت به أفراخها عند خروجها من البيض وثلثا تأكله أثناء قعودها على البيض ، فسبحان من ألهم كلا ما يصلحه وأحسن كل شيء خلقه وهداه لما به نفعه قال بعض المفسرين أن البيض المكنون هو الجوهر المصون في صدفه وليس هو مرادا هنا ، واللّه أعلم ، لنبوّ ظاهر اللفظ عنه ، وقدمنا شيئا من هذا أيضا في الآية 23 من سورة الواقعة في ج 1 وله صلة في الآية 56 فما بعدها من سورة الرحمن في ج 3 قال تعالى «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ 50» أثناء الشرب كعادة أهل الدنيا قال الشاعر :
وما بقيت من اللذات إلا أحاديث الكرام على المدام(3/447)
ج 3 ، ص : 448
ولكن بلا تشبيه لأنك لا تسمع بمجلس شرب منها إلا وتسمع فيه أنواعا من الشقاق والنزاع والضرب والشتم والسخرية وقد يقع فيه قتل وهم يرون ويعلمون ولا ينتهون ولا يعتبرون
«قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ 51» في الدنيا ينكر البعث وكان «يَقُولُ» لي «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ 52» لما يقوله هذا الذي يزعم أنه رسول اللّه بأنا «أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً» فبلينا «أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ 53» محاسبون مؤاخذون بما نفعل في هذه الدنيا كلا لا نصدق ، وقد جاء في الحديث العاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأماني ثم التفت هذا المتكلم وخاطب أصحابه «قالَ» رجل من أهل الإيمان لجماعة معه في الجنة «هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ 54» معي في النار لأريكم ذلك الرجل الذي كان ينكر الحشر والحساب ؟ قالوا بلى «فَاطَّلَعَ» القائل وتابعه رفاقه «فَرَآهُ» لأنه يعرفه دونهم فإذا هو «فِي سَواءِ الْجَحِيمِ 55» وسطها وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة بالنسبة للجوانب المحيطة به ثم طفق يخاطبه «قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ» قاربت وأوشكت يا قريني في الدنيا «لَتُرْدِينِ 56» تهلكني في الآخرة وتوقعني بما وقعت فيه الآن «وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي» الذي ثبتني على الإسلام والإيمان «لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ 57» معك في هذه النار التي أنت فيها.
ولم ينبه اللّه تعالى عن هذا القرين ماذا كان يعمل في الدنيا ، فإذا حمل على قرينه من الشياطين يكون قوله ذلك من قبيل الوسوسة والإغواء ، وان كان رفيقا له أو شريكا من الإنس وأخا كافرا أو عاصيا كما نص اللّه في سورة الكهف الآية 32 الآتية وهي (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) فيكون قوله على ظاهره وهو أولى واللّه أعلم كما سيأتي هناك إن شاء اللّه.
ثم يقول أهل الجنة لسدنتها من الملائكة عند رؤيتهم ذلك النعيم المقيم حرصا على بقائهم فيها وخوفا من حرمانهم منه «أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ 58» بعد هذا وهل إنا لا نموت «إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى » التي أحيانا اللّه بعدها ونعمتنا في هذه النعمة الجليلة «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 59» بعدها يقولون هذا على طريق التحدث بالنعمة لأنهم يعلمون أنهم لا يموتون ولا يعذّبون(3/448)
ج 3 ، ص : 449
وأنهم فيها خالدون بإخبار اللّه تعالى إباهم بواسطة ملائكته أو أنه كان سرورا منهم بدوام النعم لا على طريق الاستفهام ، وعلى هذا فإن الملائكة تقول لهم بل أنتم مخلدون فيما أنتم فيه فيقولون جميعا «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 60» الذي لا فوز فوقه ولا سعادة بعده ولا أفضل ولا أجل منه ثم يقولون لبعضهم
«لِمِثْلِ هذا» الذي نحن فيه من الخير «فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ 61» لا للشهوات الدنيوية الدنيئة الفانية قال :
إذا شئت أن تحيا حياة هنيئة فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
لأن زوال النعم عذاب لا يقابله عذاب ولا يعدل الفرح الذي يحصل منه عند وجود النعم شيئا أبدا وهنا انتهى كلام أهل الجنة ، قال تعالى «ذلِكَ» المشار إليه من قوله تعالى لهم رزق معلوم إلى هنا «خَيْرٌ نُزُلًا» أيها الناس «أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ 62» التي هي نزل أهل النار وهي شجرة مرة خبيثة الطعم يكره أهل النار على أكلها فيزّقمونها على مضض زيادة في تعذيبهم «إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً» كبيرة ومحنة عظيمة وبلية خطيرة «لِلظَّالِمِينَ 63» المتوغلين في الظلم الحريصين على فعله ، ثم وصفها اللّه تعالى فقال «إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ 64» في قعرها وأسفل شيء فيها وترفع أغصانها إلى دركات النار وثمرها المعبر عنه بقولها «طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ 65» في البشاعة والقباحة ، واعلم أنه مما لا شك فيه أن أحدا لم ير الشياطين على صورتهم التي خلقهم اللّه عليها لأنه خارج عن طوق البشر وكذلك الملائكة إلا أنه استقر في النفوس حسن الملائكة وقبح الشياطين فصاروا يشبهون كل حسن بالملائكة وكل قبح بالشياطين فيقولون للرجل الطيب كأنه ملك وللخبيث كأنه شيطان ، قال امرؤ القيس :
أتقتلني والمشرفيّ مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فقد شبه سنان الرمح بأنياب الغول من حيث لم يره وقد شبه اللّه ثمر تلك الشجرة برءوس الشياطين لأنها في تقدير البشر قبيحة جدا ، وهي كذلك في الوهم والخيال ووجه الشبه وجامعه وجود النفرة في كل والكراهية لهما «فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها» رغما عنهم لأنه من جملة العذاب المقدر لهم «فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ 66»(3/449)
ج 3 ، ص : 450
قسرا رهبة من الملائكة الموكلين بعذابهم إذ يلجئونهم إلى أكله بالضرب المبرح الذي لا يقاس بضرب أهل الدنيا وناهيك أن هذا من البشر وذاك من الملائكة الغلاظ الشداد «ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ 67» ماء شديد الغليان يقطع الأمعاء ومعنى الشوب الخلط والمزج تقول شاب اللبن إذا مزجه بالماء والضمير في عليها يعود للشجره أم تلك الثمرة لأنهم يتناولونها منها «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ» بعد الأكل من الشجرة والشرب من الحميم لأنهما بمكان آخر عن مقرهم المنوه به بقوله «لَإِلَى الْجَحِيمِ 68» ولذلك جاء العطف بالتّراخي ومن هنا أخذ أهل الدنيا تخصيص محل للأكل من دورهم على حدة وخصّصوا لدوابهم مرعى خارجا عن دورهم ، قال تعالى في وصفهم أيضا «إِنَّهُمْ أَلْفَوْا» وجدوا «آباءَهُمْ ضالِّينَ 69» فثبطوهم على ضلالهم «فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ 70» يسرعون ويهرولون بشدة منكبين على عمل آبائهم ولم يصغوا لنصّاحهم ولم يتعظوا بمن سلف من الأمم المعذبين بل قلدوا آباءهم طائعين مختارين ، لذلك عذبوا معهم
«وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ» أي كفار مكة ومن حولها «أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ 71» من الأمم الخالية إذ لم يهتد منهم إلا القليل «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ 72» ينذرونهم بأسنا ويخوفونهم عذابنا ويحذرونهم يومنا هذا فلم يمتثلوا ولم يرتدعوا فأهلكناهم بإصرارهم على الكفر «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ 73» الدمار والتتبير الذي عمهم «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 74» له والذين استخلصهم لذاته راجع الآية 40 المارة فإن هؤلاء على المعنيين بمعزل عنهم لأنهم في الخيرات رافلون يتمتعون في النعيم «وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ» لتدمير قومه بعد أن أيس من إيمانهم بإعلامنا إياه بذلك وبإنجاء أهله مما ينزل بهم من العذاب فأجبناه وعزتي وجلالي يا حبيبي يا محمد إنا نحن إله الكل «فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ 75» لأوليائنا عند حلول الضيق بهم واللام هذه واقعة في جواب القسم المحذوف المقدر كما ذكرناه والمخصوص بالمدح محذوف أيضا وقد قدّرناه كما بيناه في هذه الآية «وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ» كلهم إلا زوجته الكافرة وابنه كنعان المتمنع عن دخول السفينة مع أبيه لإصراره على كفره ، ولذلك استثنيناهما من الانجاء بقوله تعالى (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها(3/450)
ج 3 ، ص : 451
ما أَصابَهُمْ)
الآية 81 وبقوله (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) الآية 67 من سورة يونس وهود المارتين «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ 76» وهو الفرق العام الذي أهلكنا به قومه ولا أعظم منه «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ 77» إلى آخر الدوران فكل الناس الموجودين على وجه الأرض منهم ولهذا سمي أبا البشر الثاني ، وقال من قال ان الطوفان عم الأرض كلها ولم يبق من البشر على سطح البسيطة إلا ذرية نوح عليه السلام ، وان المراد واللّه أعلم بالباقين على هذا ، هم أهل السفينة ، إذ لم يثبت بصورة قطعية أن الطوفان عم على الأرض كلها لا سيما وأنه عليه السلام لم يرسل أولا إلى أهل الأرض كافة ولم يثبت خبر وصول دعوته وهو في جزيرة العرب جزيرة ابن عمر إلى الصين وغيرها من أقطار الأرض ونص الآية لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه في السفينة وأولاده الثلاثة سام أبو العرب وفارس والروم ويافث أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وحام أبو القبط والسودان والحبشة أما كنعان الذي غرق مع قومه فلم يثبت له نسل وقد وردت أحاديث في أولاده المذكورين أخرجها الترمذي وابن مسعود واحمد والطبراني وابن المنذر وأبو يعلى وابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب وابن مردويه عن أبي هريرة والخطيب في تالي التلخيص والزارعة أيضا ، وقدمنا ما يتعلق بها في الآية 73 من سورة يونس والاية 44 من سورة هود المارتين «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 78» ثناء دائما وهو قولنا «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ 79» فهو يتردد على ألسنة الأنبياء والأمم في زمنه إلى قيام الساعة «إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا الجزء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 80» ونكرمهم بمثل هذه الكرامة
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 81» المستحقين للثناء الدائم المستمر ولذلك أجريناه عليه «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ 82» كفار قومه وإنه وزوجته المذكورين إذ حل عليهم العذاب راجع تفصيل القصة في الآية 44 فما بعدها من سورة هود المارة «إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ 82» لأنه نهج نهجه وسار سيره وتبع دينه وشيعة الرجل أتباعه المقتفون أثره ، قالوا وكان بينهما الفان وستمئة وأربعون سنة ، ولم يكن بينهما نبي إلا هودا وصالحا ، وأرى أن هذا وما قدمناه من نسل(3/451)
ج 3 ، ص : 452
أولاد نوح لا يجوز القطع به ولا إنكاره ، بل نكل فيه العلم إلى العليم الواحد إذ لا طائل تحته ولا يتعلق فيه حكم ولا حد فمثله كمثل بقية الأخبار والقصص والأمثال ، إذ لا آية تنص على ذلك ولا حديثا صحيحا يستند إليه ، لهذا فالأحسن في مثله أن لا يصدق بصورة قطعية ولا يكذب تكذيبا محضا ، هذا ومن قال إن ضمير شيعته يعود إلى سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم لا مستند له وليس بسديد لأن القاعدة وجوب عود الضمير إلى أقرب مذكور ولا أقرب من نوح ولأن لفظ شيعة لا يقال للمتأخر على المتقدم قال الكميت الأصيفد بن يزيد :
ومالي إلا آل أحمد شيعة ومالي إلا مذهب الحق مذهب
ومعلوم أن آل محمد ومذهب الحق متقدمان عليه لا متأخران ، ولم يأت ذكر محمد صلّى اللّه عليه وسلم في هذه الآيات فلا محل للقول بذلك ، قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام مذكرا رسوله محمد به فكأنه قال واذكر لقومك «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ 84» من الشك في الوحدانية والريب في البعث والمرية في النبوة «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ 85» استفهام توبيخ وتقريع لأنه رآهم يعبدون الأصنام والكواكب ، وقد أراده على ذلك ، فأبى وقال «أَ إِفْكاً آلِهَةً» أي تختلقون أشياء وتسمونها آلهة والإفك أسوء الكذب وآلهة بدل من الإفك «دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ 86» قدم المفعول للاعتناء به ، لأن المقصود الاعتراف به أو إنكاره «فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ 87» أن يفعل بكم إذا لقيتموه غدا وأنتم تعبدون غيره ، أخبروني أيها القوم ، وقد شاع قوله هذا لهم حتى بلغ ملكهم فأرسل إليه أن غدا عيدنا فاحضر معنا لزيارة الآلهة ، لأن هذه التشريفات التي تعارفها الناس في الأعياد والأيام الرسمية قديمة اقتبسها الأواخر عن الأوائل ، ولهذا السبب لما طلب فرعون من موسى تعيين يوم للمباراة مع السحرة عين لهم يوم العيد ، راجع الآية 59 من سورة طه في ج 1 ، فلما جاءته دعوة الملك استشعر هطول الفرصة لحصول ما عسى أن يكون سببا لتوحيدهم ، وأراد أن يعتذر عن الحضور على وجه لا ينكرونه عليه «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ 88» تأمل نوعا من التأمل في أحوالها وهو في نفس الأمر على طرز تأمل الكاملين في(3/452)
ج 3 ، ص : 453
في خلق السموات والأرض وتفكرهم في ذلك ، إذ هو اللائق به عليه السلام ، لكنه أوهم قومه أنه يتفكر في أحوالها من حيث الاتصال والتقابل ونحوهما من الأوضاع التي تدل بزعمهم على الحوادث ليترتب عليها ما يتوصل به إلى غرضه الذي سيكون وسيلة إلى إنقاذهم مما هم فيه فقال «إِنِّي سَقِيمٌ 89» مريض ، وأراد بذلك مرض القلب من كفرهم وعنادهم وتمسكهم بعبادة الأوثان ، أي اني لا أستطيع حضور التشريفات.
مطلب في العدوى وقسم من قصة ابراهيم وتأثير الكواكب وغيرها وكذب المنجمين :
وكانوا يعتقدون العدوى كالمتوهمين وضعاف اليقين من أهل هذا الزمن ، لأن العدوى وإن كانت حقيقة إلا أنها بقدر اللّه وقد حذر الشارع من الاختلاط بالمخدومين لقذارتهم للعدوى ، لأن الذي لا توجد فيه قابلية العدوى لا يعدى ولو أكل وشرب ونام مع المريض ، وهذا ثابت لا ينكر وحذر أيضا الشارع من الدخول على البلد الذي فيه الطاعون لئلا يلزم من قدر عليه أن يصاب بذلك الوباء ، فيقال له لم دخلت القرية الموبوءة حتى أصبت ، وحذر أيضا من الخروج منها لئلا يلام هو إذا أصيب غيره بسببه ليس إلا ، ويكفيك قول الرسول الأعظم للأعرابي حينما قال له بعد أن سمع منه حديث لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا غول وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد.
إنا نرى الجمل الأجرب يختلط بالإبل فيجربها (من أعدى الأول) تدبر هذا هداك اللّه وأزال وساوس قلبك وما تتخيله من الوهم المقضى إلى الأمراض والعلل لضعف قلوبهم «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ 90» تباعدوا عنه خشية العدوى فتركوه وذهبوا ، فأخبروا الملك بمعذرته وبهذه الوسيلة تخلص من اجابة الدعوى لزيارة الأوثان وقدمنا ما يتعلق في مبادئ هذه القصة في الآية 83 من سورة الأنعام المارة تبعا لذكر اللّه إياها هناك كما أتينا على قسم منها هنا للسبب نفسه وسيأتي تمامها في الآية 51 فما بعدها من سورة الأنبياء الآتية إن شاء اللّه القائل
«فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ» بعد أن ولوا عنه وكانوا ذهبوا إلى آلهتهم ووضعوا الأطعمة أمامها لتعود إليها بركتها وليأكلوا بعد رجوعهم من المراسيم المعتادة في الأعياد «فَقالَ» ابراهيم للأوثان «أَ لا تَأْكُلُونَ 91» من هذا(3/453)
ج 3 ، ص : 454
الطعام الموضوع أمامكم لتحل عليه بركتكم كما يزعمون فلم يردوا عليه فقال «ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ 92» نزلهم بخطابه منزل العاقل تهكما واستهزاء وتقليد القومة ، ولما لم ير أحدا عندها لأنهم لم يعودوا من المراسم بعد «فَراغَ» ذهب ومال وأصل الروغان ميل الشخص في جانب وهو يريد غيره ليخدع من خلفه وأقبل متعليا «عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ 93» حتى كسرها كلها وترك الفاس عند كبيرها وخرج «فَأَقْبَلُوا» قومه من المعايدة ومحال مراسم العيد إلى زيارة الأوثان «إِلَيْهِ» المعبد الذي كان عند الآلهة المذكورة «يَزِفُّونَ 94» الملك والرؤساء ويمشون خلفهم على تؤدة أخذا من زفاف العروس في موكب عظيم ، وقيل جاؤوا مسرعين حيث أخبروا بما وقع على الآلهة والأول أولى وان كان اللفظ يحتمل المعنى الآخر لأن زف تأتي بمعنى أسرع أيضا ، إلا أن المعنى يأباه لما يأتي في سورة الأنبياء إنهم لم يعلموا من كسرها وانهم سألوا فأخبروا بأنه فتى يقال له ابراهيم ، قالوا ولمّا دخلوا على المعبد ورأوا ما هالهم أمره ولما أحضروا ابراهيم وسألوه وقالوا نحن نعبدها ونعظمها وأنت تكسرها ولما ذا فعلت هذا «قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ 95» بأيديكم من الحجارة والأخشاب «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 96» منها ومن غيرها وفي هذه الآية دليل قاطع على أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى ، وبعد الأخذ والرد معه اتفقوا أن يكون جزاؤه الأحراق بالنار كما سيأتي بيانه في الآية المذكورة آنفا من سورة الأنبياء الآتية بصورة مفصلة «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ
97» النار للشديدة الالتهاب للتي بعضها فوق بعض ففعلوا وأبى اللّه لأن من كان حافظه لا يسلط عليه أحد ولا يقدر على مضرته أحد قال تعالى «فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ 98» الأذلين الخائبين المقهورين بجعل كلمتهم السفلى وإبطال كيدهم وبقاء كلمة اللّه تبارك وتعالى كما كانت هي العليا بنصرته عليهم وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم وبهذا يعلم أن النار لا تأثير لها إلا بخلق التأثير فيها من اللّه تعالى إذ لو كان لها تأثيرا بنفسها وطبعها لحرقته ولكن المؤثر الحقيقي هو اللّه تعالى وقال إبراهيم لقومه بعد خروجه من النار وإياسه من إيمانهم «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ 99» إلى ما فيه خلاص فأرشده اللّه(3/454)
ج 3 ، ص : 455
إلى أرض الشام ثم إلى الأراضي المقدسة ولما استقر به الحال سئل ربه الولد ليكون خليفة له في أرضه فقال «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ 100»
فأجاب اللّه دعاءه بقوله «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ 101» كامل الخلقة والخلق لولاية عهده ولارشاد الخلق لخالقهم كي يعبدوه واعلم أن هذه الآية انطوت على أربع بشارات حمل زوجته وأن الحمل ذكر وأن يبلغ الحلم وأنه يكون حليما ومن عظيم حلمه ما قص اللّه عنه بقوله «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» وصار يقدر على المشي والشغل «قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى » وهذه المشورة من إبراهيم عليه السلام لابنه إسماعيل ليعلم ما عنده فيما نزل به من البلاء ليختبر صبره على أمر اللّه وعزيمته على طاعته لا يرجع لأمره ورأيه ، لأنه جازم في تنفيذ ما أمر به في رؤيا لان رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق ، فإذا رأوا شيئا فعلوه ، وإنما كان الأمر بالمنام لأنه في نهاية المشقة وغاية الشدة على الذابح والمذبوح فكان كالتوطئة «قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ 102» على تنفيذ أمر اللّه وإنما علق قوله بالمشيئة على سبيل التبرك لا غير ، إذ لا حول عن المصيبة إلا بعصمة اللّه ولا قوة على الصبر عليها إلا بتوفيق اللّه.
واعلم أن هذه الآية الوحيدة التي استدل بها بعض الأصحاب والتابعين على أن الذبيح هو إسحاق ، إلا أن الآيات غيرها تدل على أنه إسماعيل عليهما السلام وهو الصحيح كما سيأتي في القصة.
هذا وأن بعض الناس أنكر أن يكون للكواكب تأثيرا في هذا الكون غير الضياء في المواقع التي تطلع عليها ، وهذا فيه تفريط إذ بعضهم زعم أن لها تأثيرا في السعد والنحس وسعة العيش وضيقه وطول العمر وقصره ، وهذا فيه إفراط ، وبعضهم قال إن لها تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القليل العرض.
ومزاج مائل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذلك مزاج أهله ، إذ تكون أجسامهم ضعيفة وألوانهم سودا وخضرا كالنوبة والحبشة وأن يكون البلد الكثير العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذلك مزاج أهله حيث تكون أجسامهم عبلة وألوانهم بيضا وشعورهم شقرا كالترك والصقالبة ، ولها أيضا تأثير في نمو النبات واشتداده ونضج ثمره وتلوينه(3/455)
ج 3 ، ص : 456
وطعمه بإشراق الشمس والقمر وبعض الكواكب ، وهذا مما يدرك حسا ولا يكاد ينكر ، ولا بأس في نسبة هذا إلى الكواكب ولكن على معنى أن اللّه تعالى أودع فيها هذه القوة المؤثرة لا بطبعها ولا بتأثيرها بإرادة نفسها كالإحراق بالنار والارواء للماء ، فإن اللّه تعالى لو لم يجعل فيهما تلك القوى لما حصل في النار إحراق ولا من الماء إرواء كما علمت في حال إبراهيم عليه السلام ، إذ لم تؤثر فيه النار كما أنها لم تؤثر في السندل الذي يفرخ فيها ، وكذلك السكين لا تقطع إلا بتأثير اللّه تعالى ولذلك لم تذبح إسماعيل بعد معالجة أبيه له في ذبحه ، وهذا قول وسط معتدل وخير الأمور أوسطها وعلى هذا السلف الصالح ، وقال به الشيخ إبراهيم الكوراني في جمع الأسباب والمسببات ، وعليه بعض الماتريدية ، هذا وأن المنجمين يكذبون وإن صدقوا في بعض الأحيان على ما جاء في الحديث الشريف وقد دلت عليه التجارب على كذبهم أكثر من صدقهم ، فمن كذبهم ما أجمع عليه حذافهم سنة سبع وثلاثين بأن عليا كرم اللّه وجهه حينما توجه لصفين يقتل ويقهر جيشه وبالعكس فقد انتصر ولم يتخلص منه أهل الشام إلا بالحيلة التي دبرها لهم عمرو بن العاص حينما حملهم على حمل المصاحف على رءوس الرماح وقولهم بلسان واحد إنا الرجوع إلى حكم اللّه وهي كلمة حق أراد بها بطلا حتى أقسر علي على قبول التحكيم وكان ما كان ، وكذلك أجمعوا على قهره عليه السلام لما خرج لقتال الخوارج حيث كان القمر بالعقرب ، لأنهم يزعمون أنها منزلة نحس لا يقع فيها إلا الشر ، فقال نخرج ثقة باللّه وتوكلا عليه ، فانتصر انتصارا باهرا وكذبهم اللّه.
وأجمعوا أيضا سنة ست وسنين على غلبة عبد اللّه بن زياد على المختار بن أبي عبد خليفة إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار في أرض نصيبين ومعه سبعة آلاف فقهره وقتله وقتل من عسكره ثلاثه وسبعين ألفا ولم يقتل من أصحاب المختار سوى مائة نسمة ، وأجمعوا أيضا يوم أسّست بغداد سنة مائة وست وأربعين على أن طالعها يقضي أن لا يموت فيها خليفة فقتل فيها الأمين والواثق والمتوكل والمعتضد والناصر وغيرهم ، وهناك أمور أخر في كذبهم لا تحصى حتى أنهم سنة 1920 ميلادية أشاعوا بأنه سيطلع نجم مذنب عظيم قد يلطم ذنبه كرة الأرض فيخرب قسما(3/456)
ج 3 ، ص : 457
عظيما منها ، ولم يقع شيء من ذلك ولما قتل الأمين في شارع باب الأنبار قال بعض الشعراء في تكذيبهم :
كذب المنجم في مقالته التي كان ادعاها في بنا بغدان
قتل الأمين بها لعمري يقتضي تكذيبهم في سائر الحسبان
ومن هذا القبيل الإبرة الدالة على حدوث الأمطار والهواء والعواصف وغيرها ، فإنها قد تختلف أيضا باختلاف الجوّ ، فلا يقع ما تشير إليه ، لأن تبدل حالة الجو التي هي بيد مالك الملك ومقلّب الأحول تحول دون ذلك إذ لا يستطيع مخترع الأبرة وغيره والعالم أجمع أن يبقى الجو على حالته حينما أشارت إليه الأبرة حتى يقع ما أشارت به ، بل إذا أبقاها اللّه تعالى يقع وإلا فلا ، وهذا محسوس مشاهد.
واعلم أن ما احتج به أهل الهيئة من أن اللّه تبارك وتعالى قد فخم من قدر النجوم يحلفه بها تارة ومدحه لها أخرى في القرآن العظيم لا يفهم منه أن اللّه تعالى إنما عدد ذكرها في مواضع كثيرة في القرآن لأن لها تأثيرا ، كلّا ، بل لعظمها وكونها دالة على إلهيته ، واللّه تعالى ذكر الأنبياء في القرآن أكثر من غيرهم ، فهل يقال إنما ذكرهم لما لهم من التأثير بذواتهم المقدسة ، كلا وانما لعظم مقامهم عنده وتعظيما لشأنهم عند أقوامهم ، لأنهم الواسطة لهداية البشر حتى أنهم مع جلالة قدرهم لا يملكون الشفاعة لأنفسهم وأولادهم وأزواجهم إلا بإذن اللّه القائل «فَلَمَّا أَسْلَما» خضع الأب وابنه لأمر اللّه وانقادا لتنفيذه وعزما على اجرائه عزما جازما باشره الأب «وَتَلَّهُ» أي جرّه «لِلْجَبِينِ 103» بأن صرع الأب ابنه على الأرض وألصق جبينه بها ووضع السكين على حلقه وأمرها إمرارا قاسيا يقصد ذبحه دون تعذيبه بامرارها كثيرا ، ولكنها لم تذبح رغما لشدة حزّها على محل الذبح منه بقوة وجلادة إطاعة لأمر اللّه ، وكان قبل حدها حرار حتى رآها أنها تقطع حلقوم الجمل بامرارها عليه مرة واحدة ، وهذا دليل قاطع على أن المؤثر الحقيقي في كل شيء هو اللّه تعالى لأن السكين الحادة لا يعقل أنها لا تقطع اللحم كما أن النار لا يعقل أنها لا تحرقه ، ولكن اللّه تعالى إذا لم يضع فيها قوة الذبح لا تذبح وكذلك لا تحرق ولما رأى الخليل عليه السلام عدم تمكنه(3/457)
ج 3 ، ص : 458
من إمضاء عزيمته في تنفيذ أمر ربه ، وقد بذل وسعه بفعل ما يفعل الذابح بالمذبوح فكأنه ذبحه بلا ريب وأن المانع الذي جعله اللّه لا يكون مدار القول بعدم إنفاذ ما جزم به ، وصبر الولد على الألم الذي قاساه في إمرار السكين لا يقاس به صبر وتسليمهما لإمضاء هذا الأمر لا يقابله تسليم ولهذا فان اللّه العالم بانقيادهما لأمره انقيادا جازما حال دون ذلك ، وأظهره ليطلع عليه الناس ، لأنه عالم بما يقع منهما ، ولذلك وهب لهما من فيض جوده كبشا وجعله فداء لصفيه إسماعيل وجزاء لخليله إبراهيم عليهما السلام فخاطبه بقوله «وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ 104» كف عن ذبح ابنك لقيامك بما أمرت به وأنك حقا «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» وعملت بالجزم فقبلنا فعلك وان ابنك سلّم وانقاد لأمرنا فقبلنا منه خضوعه دون جزع أو ضجر وقد أظهرنا للناس إنابتكما هذه ليعلموا أن أحدا لا يقدر على ما ابتليتما به «إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا العفو الذي عفونا به عن ذبحك ولدك ومثل هذا الفداء الذي فديناه به جزاء الصبر والامتثال منكما «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 105» أمثالك وأمثال ابنك ، قال تعالى «إِنَّ هذا» الامتحان الذي اختبرنا به إبراهيم وابنه وقاما به بنية خالصة وصدق محض «لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ 106» الظاهر الذي تبين به حقيقة الإخلاص «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ 107» في الجثة والقدر بنسبة المفدى «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 108» من بعده ثناء مستمرا إلى يوم القيامة وهو «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ 109» من اللّه وملائكته ورسله وعباده كافة «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن الدائم «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 110» في الدنيا والآخرة
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 111» الكاملي الإيمان «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ 112» لعبادتنا وخلافتنا في الأرض لإرشاد خلقنا زيادة في جزائه الحسن.
مطلب من هو الذبيح وأنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس وأن الفرع السيء والأصل السيء لا يعد عيبا ومعنى خضراء الدمن وبقية القصة :
وهذه الآية مما تدل على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام دلالة كافية ، لأنه بعد أن قص اللّه تعالى علينا الابتلاء بالذبح وتنفيذ أمره فيه وفدائه له ذكر(3/458)
ج 3 ، ص : 459
إسحق كما ستقف عليه بعد قليل «وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ» ابنه الثاني من السيدة سارة بنت عمه والأول إسماعيل من الجارية هاجر «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما» ذرية إبراهيم وإسحق قالوا أخرج من صلبهما الف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليهم السلام «مُحْسِنٌ» لنفسه ولغيره أنبياء وأولياء «وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ 113» بين ظلمه بتعديه حدود اللّه أي أن من ذريتهما كفرة ظلمة عصاة أيضا ، ومن هنا يعلم أنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس ، فقد يكون الأب نبيا والولد كافرا كنوح عليه السلام وابنه كنعان ، وإبراهيم عليه السلام وأبيه آزر.
وفيها تنبيه على أن الخبث والطيب لا يجري أمرهما على العرف والعنصر ، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر وأن العقب السيء لم يعد عيبا ولا نقيصة على أصله وإنما ينحصر في النّاقص والعيب بالمعيب ، كما أن الأصل لا يعد عيبا على الفرع من حيث الكفر وغيره ولا ينطبق هذا على قوله صلّى اللّه عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فان العرق دساس فإن هذا خاص بمن ضرب على أصلها بفاحشة خشية أن يقتص منها عنده لقوله صلى اللّه عليه وسلم من زنى زني به ولو بحيطان داره أي لا ينجو من القصاص البتة ألا فليتق اللّه من أراد أن يحافظ على عرضه وأن الشرف يكون فيمن كان آباؤه إسلاما أكثر فهو أشرف ممن آباؤه إسلاما أقل.
وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون هي أنه لما بشر ابراهيم بالولد قال هو ذبيح اللّه فلما شب قيل له أوف بنذرك ، فأخذ سكينا وتعجيلا واستصحب ابنه وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو سبع سنين وقال له لنذبح قربانا حتى بلغ به المذبح من منى قال له يا أبت أين القربان ؟ قال يا بني أمرت بذبحك وكان ليلة رأى ليلة الثامن من ذي الحجة ، فلما أصبح تروى أي تفكر هل رؤياه هذه من اللّه أو من الشيطان فسميت ليلة التروية ثم رآها ثانيا ليلة التاسع منه فعرف أنها من اللّه حقا فسميت ليلة عرفة ثم صمم على نحره ليلة العاشر فسميت ليلة النحر.
فاستسلم الغلام لأمر اللّه وقال يا أبت أفعل ما تؤمر وأشدد رباطي لئلا أضطرب واكفف ثيابي لئلا تتلطخ بالدم فتراه أمي فتحزن فينقص أجرها واستحد الشفرة وأسرع بمر السكين على حلقي ليهون علي الموت وأقرئ أمي مني السلام وأوصها(3/459)
ج 3 ، ص : 460
بالصبر والاستسلام ، فقال إبراهيم نعم العون أنت يا بني على تنفيذ أمر اللّه ، ففعل به ما ذكره وقبله وبكى كل منهما ، ثم أضجعه ووضع السكين على حلقه وأمرّها بشدة وسرعة فلم تذبح ، فحدها ثانيا وثالثا وأراد الذبح بعزم وحزم فلم تذبح ، قالوا وقد ضرب اللّه تعالى بصفحة من نحاس على حلقه لئلا يحس بإمرار السكين ولا يبعد هذا على اللّه ، إلا أن الحق الحق أعلم أنه تبارك وتعالى لم يرد ذبحه فلم تؤثر السكين فيه لأنه لم يودعها قوة الذبح إذ ذاك وهذا أبلغ في القدرة من خلق النحاس ، قالوا ولما رآه إسماعيل أنه لم يذبحه ظن أن ذلك من شفقته عليه فقال يا أبت كبني على وجهي لئلا تدركك الرحمة علي برؤية وجهي فتمنعك الرأفة والرقة عن تنفيذ أمر اللّه ، والحال لا يوجد شيء من ذلك ، لأن طاعة اللّه عنده أحب إليه من ابنه ونفسه والناس أجمعين ، ولكن اللّه تعالى لم يرد ذبحه وهذا مما يؤيد ما ذكرناه غير مرة بأن الأمر غير الإرادة راجع الآية 148 من سورة الأنعام المارة ، ففعل أيضا ما أشار به عليه ابنه ووضع السكين على رقبته وجرها كالعادة فلم تذبح ، ولما شدد بالجر بها انقلبت على قفاها ، فعلم اللّه كما هو عالم من قبل صدق عزيمته وانقياد ابنه لأمره ففداه بكبش من الجنة وهو الذي قربه هابيل ابن آدم عليه السلام.
مطلب الحيوانات والجمادات التي تحشر وتبقى ورمي الجمار والحكم الشرعي في الأضحية :
وهذا الكبش وحمار عزير وكلب أهل الكهف وعصا موسى وناقة صالح تحشر وتبقى في الجنة كما جاءت بها الأخبار ، أما غيرها من الحيوانات والجمادات عدا التي عبدت من دون اللّه فستكون ترابا واللّه أعلم.
قال ابن عباس لو تمت ذبيحة إسماعيل عليه السلام لصار على الناس ذبح أولادهم سنة ولكن اللّه لطف بعباده ففداه ولهذا صارت الأضاحي سنة أو واجبة على اختلاف فيها بين المذاهب.
قالوا وتعرض الشيطان لإبراهيم في المشعر محل الذبح في منى فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة فتعرض له الشيطان أيضا فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب ، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب ، فصار الرمي منذ ذلك الزمن(3/460)
ج 3 ، ص : 461
عادة للحاج إلى ظهور البعثة النبوية ، فجعل من سنن الحج ، وهو واجب في مذهب الشافعي ، وفي تركه نسك وعدد الحصى التي يرمي بها سبعون حصاة سبع يوم العيد وثلاث وستون أيام التشريق الثلاث كل يوم واحد وعشرون لكل موقع من مواقع الرمي سبع ، وفي رواية أخرى أن ابراهيم عليه السلام بعد بناء البيت أخذ جبريل عليه السلام يريه مناسكه ويعلمه ما ينبغي لعبادة اللّه وحده وإذا بإبليس عليه اللعنة تمثل له في مواطن الجمرات فقال له جبريل كبر وارمه سبع حصيات ففعل.
فعلى المسلم أن يستشعر هذا بقلبه ويبعد عنه بلسانه عند الرمي فهي حركة صغيرة تعبر عن عاطفة كبيرة يستعين بها أثناء عبادته في درء نزعات الشيطان واخلاص العبادة للرحمن ، وقال الغزالي في الاحياء فليقصد برمي الحجار الانقياد للأمر وإظهار الرق للعبودية وانتهاض الامتثال والتشبه بإبراهيم عليه السلام ، وما قيل إن محل الرجم قبر أبي رغال قيل كاذب لأنه ليس في هذه الأمكنة وقبره معروف في محل واحد والرجم في ثلاث محال فلو كان لكان الرجم في مكان واحد وقدمنا ما فيه في سورة الفيل ج 1 فراجعه ، قالوا ولما ذبح الكبش قال جبريل اللّه أكبر فقال إسماعيل لا إله إلا اللّه واللّه أكبر فقال ابراهيم اللّه أكبر وللّه الحمد فصارت سنة عند الذبح وفي الحج وبعد الصلوات في العيد من زمن ابراهيم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، الحكم الشرعي : وجوب الأضحية على كل من ملك النصاب عند أبي حنيفة ، ومن نذر أن يذبح ابنه لربه ذبح شاة استدلالا بهذه القصة وقال بقية الأئمة بسنيتها ، هذا وقال أهل الكتابين وبعض علماء الإسلام أن الذبيح هو اسحق وبه قال عمر وابن مسعود والعباس من الأصحاب ، ومن التابعين سعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي وقول لابن عباس إذ كانت هذه الرؤيا بالشام ، وإنه ذهب به إلى النحر في منى وفداه اللّه كما مر في القصة ، وقال عبد اللّه بن سلام وأبو بكر وابن عمر وابن عباس من الأصحاب ، ومن التابعين الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وفي رواية عن عطاء بن أبي رباح ويوسف بن ماهك عن ابن عباس والمقوس أنه إسماعيل ، وحجة القول الأول أن اللّه تعالى قال وبشرناه(3/461)
ج 3 ، ص : 462
بغلام حليم فلما بلغ معه السعي أمر بذبح من بشر به وليس في القرآن أنه بشر بغير اسحق ، وقال تعالى في سورة هود وبشرناه بإسحاق وقال تعالى في هذه السورة وبشرناه بإسحاق نبيا بعد قصة الذبح بما يدل على أنه تعالى إنما بشره بالنبوة لما تحمل من المشقة في قصة الذبح وأن أول الآية وآخرها يدل على أنه اسحق وقد مر في سورة يوسف أن يعقوب لما كتب الكتاب لعزيز مصر كتب من يعقوب بن اسحق ذبيح اللّه بما يدل على أنه هو الذبيح ، وحجة القول الثاني أن اللّه تعالى ذكر البشارة بإسحاق في السور الأخر غير هذه بعد الفراغ من قصة الذبح ، فقال تعالى (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) بما يدل على أن الذبيح غيره ولقوله في سورة هود (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فكيف يأمره بذبح اسحق وقد وعده بأنه سيأتي منه حفيد له اسمه يعقوب ، وقال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) الآية
74 من سورة الأنبياء الآتية ، وكرر معناها في سور أخرى فلو كان المذبوح اسحق لما بشره ربه بأن يكون له حفيد منه وهذا القول وحده كاف الدلالة على أن الذبيح إسماعيل إذ لو كان الذبيح اسحق لحصل الشك لسيدنا إبراهيم بصحة الرؤيا لأن اللّه وعده بأنه سيتزوج ويأتي له ولد اسمه يعقوب فكيف يأمر بذبحه ؟ هذا وأن وصف إسماعيل بالصبر دون اسحق يدل على أنه هو الذبيح لما فيه من المناسبة الصريحة ولأنه وصف بصدق الوعد بقول تعالى (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) الآية 153 من سورة مريم المارة في ج 1 حيث وعد أباه بالصبر والموافقة على ذبحه والامتثال لأمر ربه حين قص عليه رؤياه وقد وفى بذلك ، وهذا كله يدل دلالة كافية على أن الذبيح هو إسماعيل ويؤيد هذا أن قرني الكبش كانتا معلقتين على الكعبة في أيدي ولد إسماعيل ، وبقيت كذلك ، إلى أن احترقت زمن ابن الزبير ، قال الشعيبي رأيت قرني الكبش موطنين في الكعبة ، وقال ابن عباس والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وان رأس الكبش لمعلق بقرنين في ميزاب الكعبة وقد وحش أي يبس.
وقال الأصمعي سألت أبا عمر بن العلاء عن الذبيح أإسحاق أم إسماعيل ، فقال يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان اسحق بمكة إنما كان إسماعيل ، وان اليهود تعلم ذلك ، ولكن يحسدونكم معشر العرب(3/462)
ج 3 ، ص : 463
على أن يكون أباكم ويدعون أنه اسحق لأنه أبوهم.
والقول الفعل ما جاء عن خاتم الرسل أنه قال أنا ابن الذبيحين يعني جده إسماعيل وأباه عبد اللّه ، لأن عبد المطلب كان نذر لأن بلغ عدد بنيه عشرة ليذبحن أحدهم وهو آخرهم ، وقد حقق اللّه له ذلك وبادر بذبحه ثم تحاكم إلى الأزلام فوضع عشرة من الإبل وابنه فوقع على ابنه ثم وضع عشرين وضرب الأزلام فوقعت على ابنه وهكذا حتى بلغت ماية من الإبل فوقعت عليها ففداه بها وذبحها كلها ، ولذلك صارت دية الرجل مائة من الإبل من ذلك اليوم وأقرها الإسلام ، وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد :
إن الذّبيح هدين إسماعيل نص الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خصّ الإله نبيّنا وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت في أمته فلا تنكر له شرفا به قد خصه التفضيل
قال تعالى «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ 114» بالنبوة والرسالة والنّصر «وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما» المؤمنين «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ 115» وهو الاستعبار من فرعون وقومه القبط ولا كرب أعظم من الرق والأسر «وَنَصَرْناهُمْ» جمع الضمير باعتبار أن النصر لهما ولقومهما المؤمنين بهما على القبط وملوكهم أجمع وإلا ففيه دلالة على أن الجمع يكون على ما فوق الواحد كما سيأتي في الآية 78 من سورة الأنبياء الآتية «فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ 116» عليهم بنصرتنا لهم «وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ 117» البليغ في بيانه المستنير في هدايته وهو التوراة ، والإتيان لموسى خاصة ولما كان هرون يعمل معه فكأنه أوتيه لأنه مرسل مثله وقد كذب اليهود بإنكار رسالته وشوهوا التوراة بتحريفها وشطب ذلك منها وغيره مما يتعلق برسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم «وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 118» الموصل من تمسك به إلى الجنة في الآخرة فكل من سلكه بإحسان ومات على ذلك إلى بعثة عيسى ابن مريم فهو ناج وكل من تمسك بالإنجيل إلى بعثه محمد فهو ناج إذا مات قبل البعثة أو صدق بها وآمن بمحمد وإلا فهو هالك «وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ 119» ثناء حسنا دائما ما تعاقب الجديدان وهو «سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ 120» في الدنيا والآخرة
«إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الذي جزيناهما به(3/463)
ج 3 ، ص : 464
«نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
121» على عملهم من عبادنا أجمع «إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 122» بنا المخلصين لنا
مطلب قصة إلياس عليه السلام وقسم من قصة لوط عليه السلام :
قال تعالى فيما قصة على نبيه أيضا بعد تلك القصص «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 123» إلى أهل بعلبك وهو إلياس بن يس وقيل ابن بشير وهو ضعيف جدا بل هو ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون عليه السلام بن عمران وما قيل إنه إدريس ضعيف أيضا ومخالف للظاهر ولا مستند له إلا الظن وهو لا يغني شيئا في الاستدلال على الحق إذ بين إدريس وإلياس قرون كثيرة لأنه من آدم وإلياس من نوح وإدريس لم يبعث بعد إلى أهل بعلبك فهو قول مخالف للنص تدبر ، وراجع الآية 85 من سورة الأنبياء الآتية بشأن نسبه «إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» وكانوا من بني إسرائيل ولذلك أضيفوا إليه «أَ لا تَتَّقُونَ 124» اللّه وهو في الجملة وما بعدها مقول قوله عليه السلام «أَ تَدْعُونَ» باستغاثتكم وتطلبون في حوائجكم وترجون في مهماتكم «بَعْلًا» هو اسم صنم لهم يعبدونه وقد أول بعضهم تدعون بيعبدون وهو هنا خلافه الظاهر كما ترى في هذه الآية وإلا فانه يأتي دعى بمعنى عبد ، ويصح المعنى في مواضع كثيرة راجع الآية 48 من سورة مريم في ج 1 وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ 125 فلا تسألونه وهو خالقكم والصنم من خلقكم الذي هو من خلق اللّه أيضا لأن العبد مخلوق للّه وصنعه مخلوق للّه أي انكم بفعلكم هذا تتركون «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ» وهذه كلها بالنصب صفة لأحسن الخالقين المتقدم «آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ 126» هو أحق أن تلجأوا إليه في أموركم وهو أحرى بأن يجيبكم لأن هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ولا يعقل ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم فكيف ترجون منه ما تأملون فلم يصغوا «فَكَذَّبُوهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يعبئوا بنصحه ولم يعتنوا به قال تعالى مهددا لهم على استخفافهم «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ 127» يوم القيامة فنحاسبهم ونجازيهم على كفرهم بالنّار التي لا يسلم من عذابها «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 128» له الذين استخلصهم
لعبادته «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 129» ثناء مستمرا ما بقي الملوان وهو(3/464)
ج 3 ، ص : 465
«سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ 130» أي الياس وقومه كما تقول ، المحمديين واليسوعيين والموسويين ، وهذا مما يؤيد أن أباه يسن كما ذكرنا لا بشر
«إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 131» في الدنيا إحسانا في الآخرة جزاء إحسانهم ومثل ذلك الجزاء الحسن نجزي نبينا الياس «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 132» بنا المصدقين لرسلنا.
وخلاصة قصته على ما قاله الأخباريون هو أنه لما مات حزقيل عليه السلام كثر الفساد في بني إسرائيل وعبدوا الأصنام فبعث اللّه تعالى لهم الياس نبيا وكان الأنبياء بعد موسى يبعثون بتجديد أحكام التوراة وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل فأصاب سبطا منهم بعلبك ونواحيها وهم الذين بعث إليهم الياس وكان ملكهم اسمه آجب ، قد ضل وأضل وأجبرهم على عبادة الأصنام ، وكان لهم صنم يسمى بعلا مصوغا من الذهب بطول عشرين ذراعا وله أربعة أوجه وقد فتنوا به وجعلوا له أربعمائة سادن وسموهم أنبياء ، وكان الشيطان يدخل ويتكلم بما يضللهم فيحفظونه السدنة ويأمرون الناس به وصار الياس عليه السلام ينهاهم عن عبادته ويأمرهم بعبادة اللّه فلم يذعن لدعوته إلا الملك فإنه آمن به واسترشد برشده وكان له زوجة جبارة يستخلفها عند غيابه فاغتصبت جنينه من رجل كان يتعيش بها فلما عارضها قتلته فأمر اللّه الياس أن يخبر الملك وزوجته بان اللّه غضب عليهما باغتصابهما الجنّة وقتل صاحبها لأن الملك لما لم يردعها عدّ راضيا بفعلها وأن يخبرهما بأنهما إذا لم يردا الجنة لورثته يهلكهما فيها ولا يتمتعان بها إلا قليلا فأخبرهما الياس فاشتد غضب الملك عليه وقال له يا الياس ما أراك تدعو إلا إلى الباطل ، وهمّ بقتله فهرب الياس وارتد الملك عن الإيمان ورجع إلى عبادة الأوثان وبقي الياس مستخفيا بين الجبال سنين وهم يتحرونه ولم يقفوا على أثره ، فضاق صدره عليه السلام ، وسأل اللّه أن يميته ، فقال تعالى له ما هذا وقت إعراء الأرض منك ، لأن صلاحها بك ، فقال يا رب أعطني ثأري من بني إسرائيل ، قال ما تريد ، قال اجعل خزائن المطر بيدي ثلاث سنين ، فإنه لا يذلهم إلا هذا ، فأعطاه اللّه ذلك ومنع عنهم المطر فهلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الياس ، وهو لم يزل مستخفيا وقد عرف قومه أن البلاء جاءهم بسببه ، فمر ذات يوم بعجوز منهم فضافها فأخرجت له
قليلا(3/465)
ج 3 ، ص : 466
من الدقيق والزيت ، فأكل ودعا لها بالبركة فلم تحس إلا وقد ملئت جربانها دقيقا وخوابيها زيتا ، فاطلع الناس عليها وعلى ما عندها من الخير ، فقالوا لها من أين لك هذا ، قالت ضافني رجل فقدمت إليه ما عندي من دقيق وزيت فأكل ودعا لي بالبركة ، ومنذ فارقني رأيت أجربتي ملئت دقيقا وخوابيّ زيتا ووصفته لهم فعرفوه ، وطفقوا يطلبونه يمينا وشمالا شرقا وغربا فلم يجدوه ، ثم انه أوى إلى بيت عجوز أخرى لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب وكان مريضا فدعا له فعوفي بالحال وآمن به ، ثم إنه لما رأى ما حل بقومه من الضيق والضنك رقّ لهم ورأف بهم فأظهر نفسه إليهم مفاديا بها طلبا لإيمانهم به ورجوعهم إلى عبادة اللّه وتركهم الأوثان بعد أن آنس منهم الركون إليه والالتجاء إلى ربه ، وقال لهم قد هلكتم وهلك كل شيء بخطيئتكم فأخرجوا أصنامكم واستسقوا بها ، فإن مطرتم فذلك كما تقولون وإلا فيتحقق لديكم أنكم على باطل فتنزعون عن عبادتها ، ثم إني أدعو اللّه ربي فإذا أفرج عنكم آمنتم به وتركتم الأوثان ، قالوا لقد أنصفت فخرجوا وأخرجوا أصنامهم ، ودعوا فلم يستجب لهم ، ولم يزالوا حتى أظهروا عجزهم وعجز آلهتهم ، وكلفوه بأن يدعو هو إلهه ، فشرع عليه السلام يدعو واليسع يؤمن على دعائه وقد انتهت المدة التي منع اللّه بها السماء أن تجرد عليهم حسب طلبه السابق ، فأغاثهم اللّه تعالى غيثا جلل أراضيهم كلها ، فحييت واخضرت ودبت الحياة بمواشيهم وترعرعوا وتنفسوا من ألم القحط وتروحوا من الجدب لكثرة ما أفاض اللّه عليهم من الخير الذي أدرّ الضرع وأكثر الزرع ، فنكثوا بعهودهم ونقضوا وعدهم وأصروا على كفرهم ، لأن النعم التي غمرتهم أنستهم ما كانوا عليه من الشدة وصاروا يسخرون بنبيهم كلما يدعوهم إلى الإيمان ويطالبهم بالوفاء بالعهد ، وقد أيس من إيمانهم فدعا اللّه أن يريحه منهم ، فأجاب اللّه دعاءه وقال له أخرج
إلى موضع كذا لمكان عيّنه له وما جاءك فاركبه ولا تخف ، فخرج هو واليسع وإذا بفرس من نار دنت منه فوثب
عليها فانطلقت به في الهواء فناداه اليسع بماذا تأمرني فألقى إليه رداءه فاستدل به على استخلافه فلبسه ورجع يدعو الناس إلى طاعة ربه واقتفى آثار دعوة الياس عليهما السلام ، قالوا وان اللّه تعالى قطع عن الياس الحاجة إلى الطعام والشراب(3/466)
ج 3 ، ص : 467
فصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا وكأنه لهذه الحكاية قال بعض المفسرين إنه إدريس عليه السلام لما أشار إليه في الآية 57 من سورة مريم بقوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) في ج 1 ، مع أن إدريس كان رفعه على غير هذه الصورة راجع قصته في الآية المذكورة ، على أن القصص كلها ما لم تستند إلى آية أو حديث لا عبرة بها.
هذا ، وقد سلط اللّه على الملك المرتد وقومه عدوا لهم فأرهقهم وقتل الملك وزوجته ارببل في الجنة التي غصبتها كما أخبرهم نبيهم الياس ، وقد نبأ اللّه اليسع وبعثه إليهم فآمنوا به ، قال تعالى «وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 133» من قبل إلى طائفة من عبادنا فتغلبوا عليه وأرادوا البطش بأضيافه فاذكر يا محمد لقومك «إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ 134» من الإهلاك الذي حل بقومه «إِلَّا عَجُوزاً» هي زوجته واعلة لأنها على دين قومه وليست من عشيرته لأنه غريب عنهم كما تقدم راجع الآية 78 من سورة هود المارة وتطلع على تفصيل قصته في الآية 79 من سورة الأعراف في ج 1 «فِي الْغابِرِينَ 135» الباقين في العذاب «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
136» تدميرا فظيعا فلم نبق منهم أحدا «وَإِنَّكُمْ»
يا أهل مكة «لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ»
عند ما تسافرون إلى الشام «مُصْبِحِينَ
137» نهارا «وَبِاللَّيْلِ»
أيضا إذ ترون منازلهم وآثار أطلالهم بذهابكم وإيابكم صباح مساء «أَ فَلا تَعْقِلُونَ
138» كيف كانوا وما حل بهم من العذاب حتى دمروا وأهلكوا بسبب كفرهم وتعندهم مع نبيهم فاتعظوا لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العذاب لأنكم متقمّصون بالأعمال السيئة التي أهلكوا من أجلها من الكفر والتكذيب والاستهزاء ، ولو أنهم آمنوا بنبيهم وصدقوا بما جاءهم به لما أهلكوا ، قال تعالى «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
139» إلى أهل نينوى من قبل اللّه تعالى فدعاهم للإيمان فلم يقبلوا ، واذكر لقومك قصته يا محمد «إِذْ أَبَقَ»
هرب من قومه حين رفع اللّه عنهم العذاب غضبا عليهم أو حين استبطأ نزوله بهم وقد نفذ الوقت الذي وعدهم به خوفا من أن يصموه بالكذب فقر منهم «إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
140» المملوء ، قالوا لما وصل إلى البحر كان معه زوجته وولداه فجاء المركب فقدم امرأته ليركب بعدها فحال بينهما الموج وذهب المركب وتركه وجاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر ، ثم جاء ذئب وأخذ(3/467)
ج 3 ، ص : 468
ابنه الآخر وبقي فريدا ، فجاء مركب آخر فركبه ، فقال الملاح إن فيكم عاصيا عبدا آبقا من سيده إذ لا موجب لوقوف المركب غير هذا ، فانظروا من هو ، فاقترعوا لمعرفة ذلك الآبق فيما بينهم ، فوقعت القرعة على يونس ، فقالوا له بعد الاعتراف بأنه آبق من سيده وعنى بذلك ربه لا بد من رميك في البحر ، لأن العادة المطردة عندنا كذلك ، ولئن يغرق واحد خير من أن يغرق الكل ، فاستسلم فأخذوه وزجوه بالماء ،
وذلك قوله تعالى «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
141» المغلوبين في القرعة «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ 142» فعل فعلا يلام عليه بالنسبة لمقامه وذلك على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين لأنه لم يفعل على رأيه ما يعاقب عليه «فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ 143» لنا المكثرين لذكرنا الراجعين لأمرنا «لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ» لبقي في جوف الحوت «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 144» من قبورهم الأموات هو وقومه وغيرهم ، وكان تسبيحه عليه السلام كما ذكر ربه في الآية 87 من سورة الأنبياء الآتية (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وهذا هو الذي نجاه ، وكان عليه السلام يديم ذكر ربه قبل ذلك لا يفتر عنه أبدا ولهذا عده اللّه من المسبحين ، وجاء في الحديث اذكروا اللّه في الرخاء يذكركم بالشدة «فَنَبَذْناهُ» أجبنا دعاءه وأخرجناه من بطن الحوت وقذفناه «بِالْعَراءِ» الأرض الخالية من النبات والشجر «وَهُوَ سَقِيمٌ 145» عليل البدن من حرارة بطن الحوت ، جاء في الخبر أن الملائكة لما سمعت تسبيح يونس عليه السلام قالوا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وقالوا غريبة لأنهم لم يسمعوا بشرا يذكر اللّه فيها قبل ، وإنما يسمعون الحيتان والديدان وغيرها وهو يختلف عن ذكر البشر ، فقال تعالى ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر ، قالوا ربنا ذلك العبد الصالح الذي كان يصعد عمله الصالح إليك كل يوم وليلة ؟ قال هو ذاك ، قال فيشفعون له ، فأمر اللّه الحوت فقذفته بأرض نصيبين من قاعدة ربيعة وهي مجاورة لديار بكر ويليها من جهة الشرق الشمالي ديار مضر ويسمونها الآن جزيرة ابن عمر ، وهذا مما يدل على أن المراد بالبحر هو دجلة التي تصب في البحر بعد اختلاطه بالفرات بالقرنة قبل البصرة ، فعلى هذا(3/468)
ج 3 ، ص : 469
يكون ركوبه في نهر دجلة الواقع عليها بلد نينوى التي بعث لأهلها وقد التقمه الحوت الذي أمره اللّه بأن يأتي من البحر إلى محل ركوبه وسبح به حتى أدخله البحر وطاف به ما شاء اللّه من البحار حتى ألهمه ذلك التسبيح العظيم فعاد به إلى قرب المحل الذي التقمه من أرض نصيبين قالوا وذلك بعد ثلاثة أيام ، قال تعالى «وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ 146» القرع الطويل غير الكوسا وغير المحزق الذي يسبح عليه وهو معروف ، والحكمة من اختيار اللّه تعالى لهذه الشجرة دون غيرها لأنها سريعة النبات والنمو ولأنها لا يقف الذباب عليها فضلا عن الإظلال ، وكان خروجه عليه السلام مثل الفرخ الذي لا ريش له إذ هري لحمه من سخونة بطن الحوت وكل شيء يؤذيه إذا لمسه ، لذلك لطف اللّه به فأنبت عليه هذه الشجرة ، قالوا وكانت هناك وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها صباح مساء وبقي حتى اشتد لحمه وجمد عظمه وثبت شعره ، فنام ذات ليلة تحت ظلالها ، فلما استيقظ وجدها يابسة فحزن لما فاته من ظلها ودفع الذباب عنه فجاءه جبريل عليه السلام وقال له أتحزن على شجرة يا يونس ولا تحزن على مئة ألف من أمتك قد تابوا وأسلموا ، وذلك قوله تعالى «وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ 147» في نظر الرائي أي إذا رآهم أحد يقول هؤلاء مئة ألف وأكثر لأن الإرسال كان قبل أن يصيبه ما أصابه فذهب إليهم «فَآمَنُوا» به وكان إيمانهم باللّه تعالى عند معاينتهم العذاب بعد أن تركهم راجع القصة في الآية 97 من سورة يونس المارة ، قال تعالى «فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ 148» انقضاء آجالهم فيها حسبما هو مقدر في علمنا ، هذا وإنما لم يختم اللّه تعالى قصتي لوط ويونس عليهما السلام بالسلام كما ختم القصص قبلهما لأنه ختم هذه السورة بالسلام على جميع المرسلين وهما من جملتهم وقد سبق بحث لهذه القصة في الآية 49 من سورة نون في ج 1 فراجعها ، ثم التفت جل
جلاله إلى رسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلم وخاطبه بقوله «فَاسْتَفْتِهِمْ» عطف على قوله أول السورة (فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) وذلك بعد أن بين اللّه معايبهم بإنكار البعث طفق يبين مثالبهم مما نسبوه إليه تعالى فقال سلهم يا محمد «أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ» اللاتي يستنكفون عنهن ويقتلونهن خشية العار أو نفقتهن «وَلَهُمُ الْبَنُونَ 149»(3/469)
ج 3 ، ص : 470
الذين يرغبون فيهم ويتفاخرون ويتباهون وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ) الآية 11 من سورة والنجم المارة في ج 1 ، وقوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) الآية 57 من سورة النحل الآتية
، أي كيف يليق بقومك يا حبيبي أن ينسبوا لي ما يكرهون ولأنفسهم ما يحبون وأنا المنزه عن ذلك كله «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ 150» على ذلك حتى يسمونهم بنات «كلا» يا أكرم الرسل ليسوا بأولاد اللّه بل عباده وهم من أشرف الخلق وأقدسهم عن النقائص ولم يشاهدوا خلقهم ولم يعلموا به ولم يكن لي بنات ولم يولد لي شي ء
«أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ 151» «وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 152» في زعمهم ونسبتهم ولم نخلقهم إناثا ولم يشاهدوا خلقهم فهم مبرأون عما وسموهم به لأنهم لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة لأنهم لا شهوة لهم «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ 153» اختارهن عليهم وأنتم تعدون الأنوثة من أخس صفات الحيوان أيليق بكم هذا «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 154» على اللّه هذا الحكم الجائر الذي لا ترضونه لأنفسكم وهو جهل صادر منكم بذات الربوبية الأقدس «أَ فَلا تَذَكَّرُونَ 155» بمقامه الجليل وترتدعون عما تتقولون ، وهذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع أي لا يكون شيء من ذلك جائز البتة «أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ 156» على زعمكم هذا كلا لا دليل ولا حجة ولا برهان ولا أمارة بذلك فإن كان عندكم به شيء «فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ»
الذي فيه هذا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
157» بقولكم ، قال تعالى «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» إذ قالوا إن اللّه تعالى تزوج من الجن وهم حي على حدة منهم إبليس عليه اللعنة.
مطلب في الجن ونصرة اللّه تعالى أنبياءه وما يستخرج من الآية :
أخرج ابن الياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال : قال كفار قريش الملائكة بنات اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك فقال لهم أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه على سبيل التبكيت فممن أمهاتهم ؟ فقالوا بنات سروات الجن أي أشرافهم.
ورواه أيضا ابن أبي حاتم عن عطية وقال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس ، وقيل إن المراد بالجن الملائكة وسموا جنا لاستتارهم.(3/470)
ج 3 ، ص : 471
والحق أن الجن فصيلة على حدة لقوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) الآية 27 من سورة الحجر المارة ، وقد نسب اللّه تعالى إليهم إبليس بقوله (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 50 من سورة الكهف الآتية ، وقدمنا ما يتعلق بالجن في الآية الأولى من سورة الجن في ج 1 فراجعه تعلم أن خلقهم كان قبل آدم وألمعنا لهذا البحث في الآية 28 من سورة الحجر المارة بأنهم ليسوا من الملائكة وأنهم سكنوا الأرض قبل آدم وأفسدوا فأهلكهم اللّه وشتتهم راجع الآية 30 من سورة البقرة في ج 3 ، قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ» بتعليم اللّه إياهم «إِنَّهُمْ» قائلي هذا القول «لَمُحْضَرُونَ 158» في الآخرة بالموقف العظيم ومزجوجون في نار الجحيم ، فلو كانوا مناسبين اللّه أو أصهاره أو شركاءه تعالى اللّه عن ذلك كله لما عذبهم ، وقد أخبر واخباره حق بأنه محاسبهم على إفكهم هذا ومعاقبهم عليه ومجازيهم على بهتهم في النار ، ثم إنه نزه نفسه المنزهة بقوله «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ 159» حضرة الربوبية ويفترون عليه من نسبة الولد والزوجة لذاته المبرأة عن ذلك ، ثم أخبر جل إخباره بأن كلا من الجن والإنس القائلين بحق اللّه ما لا يليق محضرون ومحاسبون على ما تفوهوا به ونائلهم جزاء عملهم القبيح «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 160» عملهم إليه منهما فهم ناجون وإن إخلاصهم يوصلهم الجنة ويتنعمون بها واعلموا أيها المشركون
«فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ 161» من دون اللّه «ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» على الذات المقدسة بما تصمونها به «بِفاتِنِينَ 162» مضلين ومفسدين أحدا من خلقه ، وأعاد بعض المفسرين ضمير عليه إلى ما فيكون المعنى ما أنتم بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة «إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ 163» حذفت الياء من (صال) وجعلت الكسرة دالة عليها لالتقاء الساكنين على كونه مفردا لأن معناها هنا يدل على المفرد ، أما كلمة (صالُوا) الواردة في الآية 59 من سورة ص المارة في ج 1 فقد حذف منها النون للاضافة وللالتقاء الساكنين فيها أيضا لأنه بلفظ الجمع ولهذا لم يكتب هنا بالواو لأنه بلفظ المفرد وقرىء بضم اللام قراءة شاذة على أنه معنى من جمع أي لا يفعل هذا الفعل المنهي عنه إلا من سبقت له الشقاوة من علم اللّه وقدر له دخول النار.
هذا ، وقد جاء في هذه الآيات(3/471)
ج 3 ، ص : 472
من الإخبار بسخط اللّه العظيم على هؤلاء الكفرة المتجارئين على اللّه والإنكار الفظيع لأقاويلهم الكاذبة والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وسخافة أفهامهم مع الاستهزاء بعقولهم والسخرية بأشخاصهم ما لا يخفى على المتأمل.
ثم حكى اللّه عن ملائكته فقال «وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ 164» عند اللّه وهذا اعتراف منهم بالعبودية له جل شأنه وقد تمثل بهذا القول سيدنا جبريل عليه السلام ليلة الإسراء عند مفارقته لحضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم حينما صعد للقاء ربه كما مر في الآية الأولى من الإسراء في ج 1 وقال له في مثل هذا المكان يترك الخليل خليله أو الحبيب حبيبه ، فأجابه (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي في القرب والمعرفة والمشاهدة لا يمكن أن يتعداه خضوعا لعظمة الإله وخشوعا لهيبته وتواضعا لجلاله.
هذا ، ومن قال إن المراد بالجنّة هنا الملائكة جعل هذه الجملة من قولهم على الاتصال بكلامهم السابق إلى من قوله سبحان اللّه عما يصفون إلى قوله تعالى «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ 165» حول العرش في عبادة ربنا كصفوف الإنس في الصلاة أمامه وقوله «وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ 166» له العابدون ولسنا المعبودين ولا منسوبين لحضرته بالمعنى الذي ذكره قومك يا محمد «وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ 167» «لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ 168» وذلك أنهم يقولون قبل نزول القرآن على رسولهم محمد لو أن عندنا كتابا من كتب الأقدمين مثل اليهود والنصارى «لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 169» له العبادة واتبعنا ما فيه وانقدنا لأوامره ونواهيه ولما أتاهم هذا الكتاب الجامع لكل الكتب والذي فيه أحسن الذكر على لسان أكمل البشر «فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 170» غب كفرهم وعاقبة أمرهم ، وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) الآية 156 من سورة الأنعام المارة ، ويقرب منها بالمعنى (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ) الآية 133 من سورة طه في ج 1 ،
قال تعالى «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ 171» التي وعدناهم بها عند ما نرسلهم لهداية الأمم وهي قوله جل قوله (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية 21 من سورة المجادلة(3/472)
ج 3 ، ص : 473
في ج 3 وحروفها بحساب الجمل عن السنة الشمسية 1958 «إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ 172» على من خالفهم وناوأهم لأنهم جندناَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
173» على غيرهم من جميع الأخبار ، واعلم أن حروف هذه الآية المباركة بحساب الجمل 1360 وحروف الأولى 644 فيكون مجموع حروف هاتين الآيتين 172/ 173 بحسب السنة الشمسية أيضا 2004 وحروف الآية 173 وحدها على حساب السنة القمرية 1360 والآية 103 من سورة يونس المارة 1468 أيضا فنسأل اللّه تعالى تحقيق وعده بنصرة الإسلام وإكمال عزهم ورفع رايتهم على سائر الأمم من الآن حتى يتم كماله فيها وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ، وقد سمى اللّه هاتين الجملتين كلمة لا نتظامهما في معنى واحد فكانتا في حكم الكلمة على حد قوله تعالى (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) الآية 100 من سورة المؤمنين الآتية وهي إشارة إلى قوله (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا) وهي كلمات لا كلمة وعليه تعبيره صلّى اللّه عليه وسلم عن لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه بكلمة أيضا.
هذا ، ولا يقال إن من الأنبياء من لم ينصر وقد يغلب ويقتل أيضا لأن النصر إذا لم يكن في الدنيا فهو في الآخرة محقق لكافة الرسل والعبرة في الدنيا للغالب في النصرة الفعلية أما في المحاججة فلا شك أن النصرة لجميع الأنبياء كما هو معلوم من قصصهم التي قصها اللّه علينا ، قال تعالى يا أكرم الرسل «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ 174» إلى مدة يسيرة فقد قرب نزول العذاب بهم إذ طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وهذا من قبيل التهديد والوعيد فمن قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف فقد هفا لأنها من الأخبار وكل ما كان فيه تهديد ووعيد لا يتطرقه النسخ «وَأَبْصِرْهُمْ» إذا حل بهم ما يوعدون به من العذاب «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ 175» وقوعه فيهم وسوف هنا للوعيد لا للتبعيد تدبر.
ولما هددهم حضرة الرسول بذلك قالوا : ومتى يكون ما توعدنا به يا محمد ؟
فقال تعالى مجاوبا لهم عن نبيه «أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ 176» كفرة قومك وهذا استفهام على طريق التوبيخ بسبب استعجالهم ما فيه بؤسهم وشقاؤهم «فَإِذا نَزَلَ» العذاب «بِساحَتِهِمْ» فناء دورهم والساحة المكان المتسع أيضا العرصة الكبيرة أمام الدور «فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ 177» بئس الصباح صباحهم وساء(3/473)
ج 3 ، ص : 474
المساء مساؤهم ، روى البخاري ومسلم عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم غزا خيبر فلما دخل القرية قال : اللّه أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ، قالها ثلاثا ، وقد فتح اللّه عليه ففتحها ، قال تعالى «وَتَوَلَّ عَنْهُمْ» يا حبيبي «حَتَّى حِينٍ 178» انقضاء الأجل المقدر لنصرتك عليهم «وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ 179» كررت هذه الجملة تسلية لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم على تسليته الأولى وتأكيدا لوقوع الوعد إلى تأكيده الأول وقيل لا تكرار لأن الآية الأولى في عذاب الدنيا وهذه في الآخرة والأول أولى ، ثم نزه ذاته الكريمة ثانيا وهي أهل للتنزيه في كل لحظة فقال «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ» الغلبة والعظمة والقدرة والجبروت «عَمَّا يَصِفُونَ 180» هؤلاء الكفرة ربهم وخالقهم ومالك أمرهم ومربيهم مما لا يليق بجنابه العظيم هذا
«وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ 181» جميعهم من آدم إلى محمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 182» على إهلاك الأعداء ونصرة الأولياء ، وفي هذه الآية تعليم لعباده بأن يختموا كلامهم بحمد ربهم في الدنيا لأنه خاتمة كلام أهل الجنة وقد ختمت سورة الزمر الآتية بمثل هذه الآية ، وجاء في سورة يونس المارة الآية 10 (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة لقمان
عدد 7 - 57 - 31
نزلت بمكة بعد الصافات عدا الآيات 27 ، 28 ، 29 فإنهن نزلن بالمدينة وهي أربع وثلاثون آية ، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة وألفان ومئة وعشرة أحرف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الم» 1 تقدم ما فيه قال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه إن للّه في كل كتاب سرا وسر القرآن في أوائل السور ، ونقل عن علي كرم اللّه وجهه أنه كان يقول يا كهيعص يا حمعسق كأنه بعدها من أسماء اللّه واللّه أعلم بما فيه.
وفيه من مفاتح أسماء اللّه الحسنى اللّه(3/474)
ج 3 ، ص : 475
العادل المنتقم راجع أول سورة يونس المارة وما ترشدك إليه «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا أكرم الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» 2 المثبت فيه كل ما كان وسيكون بأنه كائن بمقتضى الحكمة البالغة التي لا تنخرم وقد أنزلنا عليك يا سيد الرسل هذه الآيات لتكون «هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» 3 الذين يعملون الحسنات لأنفسهم ولغيرهم الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» 4 بأنها حق واقع لا محالة بلا شك ولا ريب «أُولئِكَ» المتصفون في هذه الصفات كائنون «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» بطرق الصواب السداد «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 5 الفائزون بكل مطلوب الناجحون بمقاصدهم الناجون من كل سوء الظافرون بآمالهم وما يبتغونه من الدنيا والآخرة ، قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» بأن يستبدل الزّمر والغناء والمعازف وشبهها بكلام اللّه تعالى ويختارها عليه وذلك أن البيع معاوضة شيء بشيء فهو استبدال معنى عبّر عنه بالشراء «لِيُضِلَّ» الناس بغير علم ولا هدى «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» العدل السوي أي انه ما شرى ذلك إلا ليصد الناس عن دين اللّه الذي هو الطريق المستقيم والأمر القويم «وَيَتَّخِذَها» تلك الطريقة الحقة «هُزُواً» يسخر بها ويحمل الناس على الاستهزاء بها «أُولئِكَ» الذين هذه حالتهم «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» 6 عند اللّه يذلهم به ويخزيهم «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ» الذي هذا شأنه «آياتُنا» المنزلة على رسولنا ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويزجر الذين يضلون أنفسهم وغيرهم بها «وَلَّى» أدبر بظهره معرضا عنها و«مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» لأنه لم يلتفت إليها بقلبه ولا بقالبه «كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» ثقلا يمنعه عن السمع ولا وقر بها «فَبَشِّرْهُ» يا سيد الرسل على
طريق التهكم إذ وضع بشره بدل أنذره وخوفه «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» 7 في الدنيا والآخرة.
مطلب تحريم الغناء وبيع الغانيات ورواسي الأرض :
نزلت هذه الآية بالنضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر في الحيرة فيأتي بأخبار العجم ، قيل إنه جاء بأخبار كليلة ودمنة معربة (وهي معروفة) إلى الحجاز وصار(3/475)
ج 3 ، ص : 476
يحدث بها قريشا ويقول لهم إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة ، ويشتري لهم القينات والمغنيين ويجمعهم إليه صباح مساء ليسمعهم تلك الأساطير والغناء من القيّنات والزمر والمعازف من المغنين لئلا يجتمعوا إلى محمد ويسمعوا كلام اللّه ، ومن هذا يعلم كثافة جهله لأن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم يأتيهم بشيء قديم لا يعلمه العرب ولا العجم ولا آباؤهم من المغيبات والأحكام والقصص والأخبار والأمثال والحدود مما لم يكن في قرنهم الذين هم فيه ولا الذي قبله ، أما أخبار الأكاسرة وما في كليلة ودمنة فهي أمور واقعة في قرنهم وزمنهم وأخبارها متناقلة فيما بينهم غير خافية على آبائهم الموجودين معهم ومثل هذا لا يعد غيبا ولا معجزا ولا يصح أن يتحدى به لأن كثيرا منهم من يحسن نظم مثله بخلاف آيات اللّه التي هي من الغيب ولا يقدر أحد أن يأتي بمثلها لأنها مما يعجز عنه البشر ، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا يحل تعليم المغنيات (الغناء) ولا بيعهن (ليغنين) وأثمانهن حرام وفي مثل هذا نزلت (وَمِنَ النَّاسِ) الآية وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث اللّه تعالى له شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت - أخرجه الترمذي - ولفظه عن أبي أمامة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا خير في تجارتهن وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت (وَمِنَ النَّاسِ) الآية إلخ.
وجاء عن أنس رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من استمع إلى قينة صبّ في آذانه الآنك (الرصاص المذاب) يوم القيامة.
ولا شك أن الغناء مفسدة للقلب منفذة للمال مسخطة للرب وكلما أشغل عن ذكر اللّه تعالى فهو لهو ولغو واللّه تعالى يقول :
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) الآية 3 من سورة المؤمنين الآتية ، وقال تعالى :
(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) الآية 32 من الفرقان المارة في ج 1 ، وفي مدح اللّه تعالى الذين يعرضون عن اللغو ذم للذين يتوغلون به ، هذا وأن الأحاديث كالأساطير والأضاحيك من كل ما لا يعتد به ولا خير فيه من الكلام ويستعمل في قليل الكلام وكثيره لأنه يحدث شيئا فشيئا محشوّ بالكذب فسماعها من اللغو(3/476)
ج 3 ، ص : 477
المنهي عنه شرعا والنضر المذكور قتله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد واقعة بدر ، وقد عرف من مغزى هذه الآية ومعنى الأحاديث المارة ذم الغناء صراحة وقد تضافرت الآثار وكلم العلماء والأخيار على ذمه سواء كان برفع الصوت أو خفضه في كل مكان وزمان ، أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال :
إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه الشيطان فقال تغنّه ، وإن كان لا يحسن قال تمنّه ، وذلك ليشغله عن ذكر اللّه تعالى.
وأخرجا أيضا عن الشعبي قال عن القاسم بن محمد إنه إذا سئل عن الغناء قال للسائل أنهاك عنه وأكرهه لك ، فقال السائل أحرام هو ؟ قال انظر يا ابن أخي إذا ميز اللّه تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء ، يريد أنه يجعله في الباطل إذ ليس بحق ليكون مع الحق ، وما بعد الحق إلا الضلال ، ويكفي في ذمه أنه من الشيطان كما مر في الحديث السابق من أن الشيطان يوسوس له فيه ، حتى انه إذا عرف أنه لا يحسنه وسوس له بالتمني لما يخطره بباله ، فالغناء من أهواء النفس ، والتمني رأسمال المفلس.
وأخرجا عنه أيضا قال : لعن اللّه تعالى المغني والمغني له.
وجاء في السنن عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الغناء ينبت النّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.
وقال يزيد بن الوليد الناقص : يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وانه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء ، فإن الغناء داعية الزناء وإنما سمي ناقصا مع أنه أعدل ملوك بني أمية عدا عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه لأنه يعد من جملة الخلفاء الراشدين لنقصه أعطية الجند ويسمى عمر الأشج لشجة فيه ، ولذا يقال أعدل ملوك الأمويين الأشج والناقص.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه تعالى حرم القيناء وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأت الآية المارة.
الحكم الشرعي : قال القاضي أبو الطيب والقاضي عياض والقرطبي والماوردي نقلا عن الإمام أبي حنيفة إنه حرام ، وقال في التتارخانية إن التغنّي حرام في جميع الأديان ، وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب ، وعده صاحبا الهداية والذخيرة(3/477)
ج 3 ، ص : 478
من الكبائر ، ويستثنى منه التغني بالأعياد والأعراس ومن يغني لنفسه لدفع الوحشة وما كان فيه وعظ وحكمة ، ويدخل فيه ما يفعله بعض أهل الطرائق بحضور الولدان المرد والنساء وهو أشد حرمة ، لأن الذي يراه من مثلهم يظن جوازه من قبل المشايخ الذين أسسوا هذه الطرق وحاشاهم من ذلك وإنما يجوزون ما كان للّه وفي اللّه وإلى اللّه من القصائد والأشعار المملوءة نصحا وزجرا عن المناهي والملاهي وترغيبا للتوغل بذكر اللّه ومحبة أحبابه وفعل الخير من مجالسهم المباركة ، أما غير هذا فهو دخيل عليهم من ذوي الأهواء الفاسدة ولهذا قال مالك رضي اللّه عنه إنما يفعله (أي الغناء المؤدي للهو واللغو وغيره) عندنا الفساق ، ومن أخذ جارية وظهرت مغنية فله ردّها بالعيب وأجمعت الحنابلة على تحريم الغناء.
والقول الوسط :
إذا لم يكن في الغناء مفسدة كشرب الخمر والنظر إلى الأجنبية والمرد وقول الزور ومما يرغب إلى الشهوات الدنيئة فهو مباح ، وعلى كل حال تركه أولى لأنه يشغل عن ذكر اللّه في الدنيا ويكون في الآخرة مع الباطل في وزن الأعمال.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» زيادة على إيمانهم في الدنيا «لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ» 8 في الآخرة جزاء أعمالهم الحسنة «خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» وهو لا يخلف وعده «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» 9 الذين يهين أعداءه بغلبته القاهرة ويعزّ أولياءه بحكمته البالغة وهو «الذي خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ» في هذه الجملة قولان صحيحان فمن قال إنه لا عمد لها البتة وقف على قوله (عَمَدٍ) ، ومن قال إن لها عمدا غير مرئية وقف على قوله «تَرَوْنَها» أي إن لها عمد عظيمة ولكنكم لا ترونها أو هي بلا عمد كما ترونها وكل بليغ في القدرة والآية محتملة للوجهين واللّه قادر على الأمرين لا يعجزه شيء ، وجيء بهذه الآية كالاستشهاد على عظيم قدرته وكمال عزته وبليغ حكمته التي هي ملاك العلم وإتقان العمل وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال مادة الشرك وتبكيت أهله «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ» جبالا شامخات ثوابت «أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» لئلا تتحرك وتضطرب بكم أيها الناس فجعلها ساكنة فيما ترون من نعم اللّه عليكم ومن تمام النفع بها لأنها لو خلت من هذه الثوابت لمادت بالمياه المحيطة بها الغامرة(3/478)
ج 3 ، ص : 479
لأكثرها وبالرياح العواصف التي تقتضي الحكمة هبوبها وهذا مبني على كونها كروية كما ذهب إليه الغزالي وأكثر الفلاسفة ، وإلا فلو كانت بسيطة لما أثرت فيها الرياح والمياه على فرض عدم وجود الرواسي.
هذا ولا دلالة في الآية على انحصار حكمة اللّه بإلقاء الرواسي فيها لسلامتها من الميد بل إن لذلك حكما أخرى لا نعرفها وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الاستدارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس وغيره وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 19 من سورة الحجر المارة.
واعلم أن هذه الآية الكريمة تشير إلى ما عبر عنه الجغرافيون بالقشرة الباردة أيضا لأن الرواسي هي الصخور الجامدة في أديم الأرض فانظر رعاك اللّه هل كان في زمن نزول القرآن على حضرة الرسول الأعظم من يعرف أو يعلم أن الأرض كانت مائرة ثم برد ظهرها فتكونت قشرتها ، كلا ثم كلا ، ولكنه من غيب اللّه تعالى أجراه بواسطة أمينه جبريل عليه السلام على لسان محمد رسوله صلّى اللّه عليه وسلم راجع الآية 27 من سورة الحجر المارة أيضا.
واعلم أن الأفرنج لم يتوسعوا في معلوماتهم هذه إلا بعد نزول القرآن لأنهم يعرفونه من عند اللّه وأن ما فيه حق وصدق لذلك تدبروا فيما لا تسعه عقول الآخرين وتفكروا فيما تبحّ فيه أقوالهم وتعجز عنه أفعالهم وأعمالهم هذه التي صار الآن يضرب بها وبمعلوماتهم وموضوعاتهم الأمثال فيما هو من أمور الدنيا ولوازمها ونحن تقهقرنا عن ذلك ولا حول ولا قوة إلا باللّه ، قال تعالى «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ» من جميع انواع الدواب والدابة تطلق على ما دبّ على وجه الأرض وفي بطون المياه من إنسان وحيوان وطير وحوت ووحش وحشرات وغيرها «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً» على تلك الأرض «فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ» وصنف «كَرِيمٍ 10» حسن كثير النفع
«هذا» الذي تشاهدونه أيها الناس وما قص عليكم من المخلوقات كلها «خَلْقُ اللَّهِ» الذي يدعوكم لعبادته رسولكم محمد بن عبد اللّه أسوة بمن تقدمه من الرسل الكرام «فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» من شركائكم الذين هم في غاية السفالة وأنتم تعبدونها وتتخذونها آلهة فإنها لم تخلق أو ترزق شيئا «بَلِ الظَّالِمُونَ»(3/479)
ج 3 ، ص : 480
عاجزون عن جواب الحق لا يعترفون لنا بذلك لأنهم عن معرفتنا «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 11» ظاهر يمنعهم من الاعتراف بنا لا يستطيعون إخفاءه.
مطلب من هو لقمان وحكمه ووصاياه وبر الوالدين :
ثم شرع يقص على رسوله من علم غيبه ليقصه على قومه فقال تعالى قوله «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ» هو ابن باعوراء بن ناحود بن تارخ آزر والد إبراهيم عليه السلام ، وقيل إن لقمان هذا الذي يقص اللّه تعالى علينا أخباره عبد حبشي ، وقيل إنه أسود زنجي ، وقيل السود أربعة : لقمان وبلال ومهجع مولى عمر بن الخطاب والنجاشي ملك الحبشة الكائن زمن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ورضي عنهم وسيأتي ذكره في الآية 69 من المائدة في ج 3 واتفق الحكماء على أن لقمان كان حكيما لا نبيا قال في بدء الأمالي :
وذو القرنين لم يعرف نبيا كذا لقمان فاحذر عن جدال
وقالوا إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود عليه السلام وتلمذ لألف نبي وتلمذ له ألف نبي وكان مفتيا وقاضيا في بني إسرائيل قبل ظهور داود وهذا من خصائصه ومقتضيات شرع من قبله أما في زماننا هذا وشريعة من قبلنا من هذه الأمة الإسلامية عدم جواز الجمع بين الإفتاء والقضاء في رجل واحد لأن الإفتاء غير القضاء قالوا ونودي في المنام هل نجعلك خليفة بين الناس فقال إن خيرني ربي قبلت العافية ولم اختر البلاء وإن عزم فسمعا وطاعة فإن فعل بي ربي أعانني وعصمني ، فقالت له الملائكة وهو لا يراهم ولم يا لقمان ؟ قال إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان إن عدل فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، وذل الدنيا المؤدي إلى الجنة خير من شرفها الموصل إلى النار ومن اختارها على الآخرة فتنته ولم يصب نعيم الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه وبلاغته وكثير معناه فنام وانتبه وإذا هو يتكلم بالحكمة وهي الإصابة بالرأي والحنكة في الأمر وشيء يجعله اللّه تعالى في القلب فينوّره فيدرك فيه كما يدرك الناس بأبصارهم بل إدراك البصيرة آكد وأحق وأصدق لأن ما يدرك بالبصر يحتمل الخطأ وما يدرك بالبصيرة لا يحتمله ، وقالوا إنه تكلم باثنى عشر بابا من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم ، (3/480)
ج 3 ، ص : 481
وقالوا إن سيده قال له اعطني أطيب مضغتين من الشاة فأعطاه القلب واللسان ، ثم قال له أعطني أخبثهما فأعطاهما إياه أيضا ، فسأله عن ذلك ، فقال لا شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا.
ومن حكمه ليس مال كصحة ، ولا نعيم كطيب النفس ، وشر الناس الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.
وقوله لابنه إن الدنيا بحر عميق غرق فيه كثيرون فاجعل سفينتك فيها تقوى اللّه وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على اللّه ، لعلك تنجو ولا أراك ناجيا.
أي لأن النجاة بيد اللّه يهبها لمن يشاء من عباده ممن يوفقه للعمل الصالح.
ولهذا قرن العمل الصالح مع الإيمان في أكثر آي القرآن حتى كأن الإيمان بلا عمل لا ينفع كالعمل بلا إيمان.
وقدمنا أن الإيمان وحده كاف للنجاة إذا شاء اللّه له الخلق والأمر.
ومن حكمه قوله : من كان له من نفسه واعظ كان اللّه له حافظا ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده اللّه عزا ، والذل في طاعة اللّه أقرب من التعزز في المعصية ، وضرب الوالد لولده كالسماد للزرع.
وقال يوما لابنه لا تطلب الإمارة حتى تطلبك فإن طلبتك أعنت عليها وإذا طلبتها وكلت إليها ، يا بني زاحم العلماء بركبتيك وانصت لهم بأذنيك ، فإن القلب يحيا بنور العلم كما تحيا الأرض بماء السماء ، يا بني لا تضحك من غير سبب ولا تمش من غير أرب ، ولا تسأل عما لا يعنيك ، يا بني لا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما تركت.
وله حكم أخرى كثيرة أفاضها اللّه عليه من نور معرفته ولهذا أعطاه الحكمة ومن يعطها فقد أعطي خيرا كثيرا.
وكررت كلمة الحكمة بالقرآن سبع عشرة مرة في معان بالغة تكرمة لمن أوتيها فيا فوز من كانت الحكمة رائده في كل أحواله ، ويا سعادة من عامل الناس بها بأقواله وأفعاله.
قال تعالى لعبده لقمان «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» صنيعه بك ولطفه عليك ، وإن هنا مفسرة بمعنى أي لأن في إتيان الحكمة معنى القبول ولهذا فسرت بالشكر فإذا علم الإنسان أمرين أحدهما أهم من الآخر فإذا اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وإن أهمل الأهم كان مخالفا للعلم ولم يكن من الحكمة ، وقد أمره ربه بشكر نعمه وبين فائدتها بقوله «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» إذ يعود نفعه إليها بازدياد النعم ورضاء المنعم «وَمَنْ كَفَرَ»(3/481)
ج 3 ، ص : 482
نعم اللّه عليه فلم يؤد شكرها أو استعملها في معصيته فيرجع وبال كفره عليه «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ» عنه غير محتاج لشكره «حَمِيدٌ 12» حقيق بأن يحمد نفسه بنفسه وإن لم يحمده أحد قمين بأن يحمده خلقه على السراء والضراء والشدة والرخاء ، وجدير بأن يشكر ولو لم ينعم عليه «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ» بتقوى اللّه والإحسان لخلقه أي اذكر يا محمد لقومك ما قاله لقمان لابنه من النصح «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره بل اعبده خالصا باعتباره الإله الواحد الذي لا رب غيره «إِنَّ الشِّرْكَ» باللّه تعالى يا بني واتخاذ آلهة من دونه للعبادة أو إشراك غيره معه في أعمالك الصالحة «لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13» لا أعظم منه أبدا لكونه وضع الشيء في غير محله ، وهذا إشارة إلى التكميل لأن أعلى مراتب الإنسان الكمال في نفسه والتكميل لغيره ، فقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) إيماء إلى الكمال وإرشاده لابنه بما ذكر رمز إلى التكميل وكان رضي اللّه عنه أول ما بدأ بالإرشاد ابنه وبالأهم وهو الشرك إذ غلّظه بالوصف تحذيرا من قربانه ، وهذا أيضا من الحكمة لأن الأقرب أولى بالمعروف والأعظم وزرا أوجب بأن ينهى عنه أولا.
ومن حكمته أنه كان صحب داود عليه السلام وكان يشغله بسرد الدروع فيشتغل ولا يسأل عنه لما ذا هو ، فلما نظمها داود ونسجها ولبسها قال لقمان نعم لبوس الحرب هذا ، وقال الصمت حكمة وقليل فاعله ، فقال داود بحق سميت حكيما يا لقمان.
ثم قال له ذات يوم كيف أصبحت يا لقمان ؟ قال أصبحت بيد غيري ، فصعق داود لقوله هذا ، وفي سكوت لقمان وعدم سؤاله داود عن صنع السرد أي الزرد وهو الحلق الذي تنسج منه الدروع إعلام إلى أن اتباع أمر النبي لازم فيما يعقل وما لا يعقل إظهارا للانقياد والخضوع له والتعبد للّه الذي أرسله.
قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ» أن يبرهما ويحسن إليهما مؤمنين كانا أو كافرين «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً» بتعب ومشقة وضعف أوهن جسمها ثقله «عَلى وَهْنٍ» لأنه يتتابع عليها ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف الولادة وضعف الرضاع فيحل بها شدة بعد شدة ومشقة بعد مشقة من تعاهده ومراقبته ليل نهار وتنظيفه صباح مساء وانشغال قلبها عنده في كل لحظة «وَفِصالُهُ» فطامه عن الرضاع(3/482)
ج 3 ، ص : 483
الذي يكون «فِي عامَيْنِ» تعانيه به وهن أيضا ، والعامان لمدة الرضاع هي غايتها ، قال تعالى (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) الآية 233 من سورة البقرة ، وسنبين تفصيله هناك إن شاء اللّه القائل للإنسان «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» فكما أني خلقتك فهما سبب في نشأتك ولهما حق التربية عليك كما لي حق
الخلق ولهذا فإن من لم يشكرهما لم يشكر اللّه ، وبما أن حقهما ينقطع في الدنيا وحقه باق قال «إِلَيَّ الْمَصِيرُ 14» في الآخرة لا لغيري فإذا أحسنت لي بالعبادة ولهما بالإحسان وشكرت نعمتنا أثبناك وإلا عاقبناك ، واعلم أيها الإنسان أنك مكلف بالإحسان لوالديك «وَإِنْ جاهَداكَ» حملاك وأقسراك «عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي» شيئا «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» من أصناف الأوثان وكلفاك أن تعبدها معي أو من دوني «فَلا تُطِعْهُما» في هذا إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ومع هذا فعليك أن تديم الإحسان إليهما إذ يفهم من ظاهر الآية وجوب طاعتهما في كل شيء عدا الإشراك باللّه مكافأة لعظيم حقهما ، ومما يؤيد هذا قوله جل قوله «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» ولا يمكن مصاحبتهما في الدنيا بالمعروف والحسنى إلا بطاعتهما فيما يأتيان ويذران ومعاملتهما بجميل الخلق والحلم احتمال الأذى والصفح عن غلطتهما وادامة البر والصلة لهما ولمن يوادهما ولو كانا كافرين ، ومن البر إرشادهما بالمعروف إلى دين الحق والدعاء لهما بالتوفيق إذا لم يفعلا ، وعلى كل تجب طاعتهما إلا في الإشراك فالأمر بطاعتهما عام خص منه الشرك فقط وما هو معصية كما مر ، وقدمنا ما يتعلق بهذا بصورة مفصلة في الآية 24 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعه ففيه كفاية ، وقد ذكر اللّه تعالى مشقة أمه دون أبيه لأن مشقة الأب عبارة عن الكسب والنصب في سبيله والتألم والسهر لما يؤذيه مما قد تشاركه فيه الأم وتنفرد هي بذلك الوهن العظيم وإنّ ما ينفرد به الأب لا يعد شيئا بالنسبة لما تنفرد فيه الأم مدة حمله ورضاعه فضلا عن ولادته التي لا يضاهيها وهن.
ثم أمر اللّه هذا الإنسان الذي خلقه وصوره وأحسن خلقه وهداه النجدين بقوله «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» الأنبياء فمن دونهم الأمثل فالأمثل وتخلق بأخلاقهم في الدنيا في ذلك كله وغيره ، فيها إشارة إلى اتباع الشيخ(3/483)
ج 3 ، ص : 484
الكامل من السادة الصوفية ، تأمل وراجع الآية 38 من سورة المائدة في ج 3 والآية 120 من التوبة في ج 3 والآية 51 من الإسراء في ج 1 ، «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» جميعا في الآخرة أنت وأبواك وولدك والخلق كلهم «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 15» في الدنيا إذ لا يخفى عليّ شيء من عملكم السري والجهري الخالص والمشوب ، وسأجازي كلا بحسبه.
وقد جاءت هاتان الآيتان معترضتين بين وصية لقمان لابنه على سبيل الاستطراد لما فيهما من المناسبة لما قبلهما ولما فيهما من النهي عن الشرك الذي هو أعظم المنهيات.
قال بعض المفسرين إن المراد بهاتين الآيتين أبو بكر رضي اللّه عنه لأنه حينما أسلم جاء إليه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ، فأنبوه على إسلامه وصار يأمرهم بالإيمان ويحذرهم من البقاء على الشرك ولم يزل بهم حتى أسلموا بإرشاده ، نقلا عن ابن عباس رضوان اللّه عليهم أجمعين.
مطلب قوة إيمان سعد بن أبي وقاص وآداب المشي والمكالمة ومعاملة الناس :
وقال بعضهم إنها نزلت في سعد ابن أبي وقاص لأنه لما أسلم قالت له أمه :
لتدعن هذا الدين أو أترك الأكل والشرب والاستظلال حتى أموت فتعير فيّ وبقيت ثلاثة أيام لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل وهو يراجعها ويتلطف بها ويقطع أملها من الرجوع عن الدين الحق ، ولم تفعل وأصرت على ما عزمت عليه ، فقال لها : واللّه لو كان لك مائة نفس وخرجت واحدة تلو الأخرى ما تركت ديني ، فلما رأت ذلك منه عادت فأكلت وشربت واستظلت بعد أن أيست من رجوعه عن دينه رحمه اللّه ورضي عنه وحشرني معه لم تأخذه رحمه اللّه الأنفة الجاهلية التي كانت قريب عهد به لصلابته في دينه الذي اعتنقه حديثا كأنه كان قديما متلبسا به وشدة عزمه وحزمه ورغبته في الدين الحق ومن يهده اللّه فلا مضل له أبدا ، على أن هذه الآية عامة تحتمل هذين السببين وغيرهما.
قال تعالى حكاية عن عبده لقمان «يا بُنَيَّ إِنَّها» أي الخطيئة التي تعملها «إِنْ تَكُ» في الصغر والقلة «مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» أو أقل وإنما ذكر اللّه هذه الحبّة لأنها أكثر ما تكون في أقوال العرب يضربون بها الأمثال عند المبالغة في قلة الشيء ، وهذه الآية جواب عن قول ابن لقمان لأبيه يا أبت إذا أخطأت ولم يرني أحد هل أحاسب عليها أم لا ؟ فأجابه بما ذكر اللّه(3/484)
ج 3 ، ص : 485
وزاده تأكيدا بقوله «فَتَكُنْ» هذه الحبة «فِي صَخْرَةٍ» أي في بطنها ووسطها «أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ» بأن يستخرجها ويحاسب صاحبها عليها ويعاقبه من أجلها وهو يعلم ذلك ويعلم ما هو أدق منه ، هذا إذا عملها ، أما إذا كانت نية وحزما وعزما فقط فإنه يحاسبه عليها ولا يعاقبه ، وإن كان امتناعه عن فعلها مخافة اللّه فإنه يثاب عليها كما سيأتي تفصيله في الآية 284 من سورة البقرة في ج 3 «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» أيها الإنسان بعباده يعطف عليهم «خَبِيرٌ 16» بمكان وزمان الخطيئة التي تصدر من عبده وكذلك جميع ما يقع في كونه قليلا كان أو كثيرا ليلا أو نهارا «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ» لربك «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ» غيرك «عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ» من الأذى وتحمل سوء أخلاق غيرك ولا تقابل أحدا بما يكره «إِنَّ ذلِكَ» الذي أمرتك به كله هو «مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 17» المقطوعة المتحتمة على البشر تشير هذه الآية إلى أن هذه الأمور الأربعة مأمور بها كل الأمم وهو كذلك إذ لا تخلو أمة من التعبد بها قال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية 6 من سورة الزمر ، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية 14 من سورة الشورى الآتيتين ، لأن المرسل الشارع واحد والمرسلين على طريقة واحدة والمرسل إليهم مختلفون فهم الذين يغيرون ويبدلون في الشرائع ، قال تعالى «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ» وجهك من اطلاق الجزء وإرادة الكل «لِلنَّاسِ» فتعرض به أنفة منهم وتكبرا عليهم بل قابلهم به كله بطلاقة وبشاشة ولين جانب وعطف ولطف وموعظة حسنة «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» خيلاء تعاظما على الناس وبطرا أو تعجبا وفرحا وأنانيّة بنفسك الخبيثة «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» 18 على الناس
بما يراه لنفسه من المناقب عليهم هذا وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بقوله تعالى (وَلا تُصَعِّرْ) إلخ أي لا تذلل نفسك من غير حاجة فتلوي عنقك لا يناسب ما بعدها وأن تأويله بميله عن الناس أولى بالمقام لأنه من فعل المتكبرين المنهي عنه ، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما :
وكنا إذا الجبار صعر خدّه أقمنا له من ميله فتقوما(3/485)
ج 3 ، ص : 486
وسياق ما قبله النهي عن أفعال المتجبرين وكذلك سياق ما بعده وهو قوله «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ» توسط وليكن بين الهرولة والتبختر وأن يكون تؤدة بالسكينة والوقار لأن الهرولة تذهب بهاء المؤمن والتبختر من الكبر وكلاهما مذموم راجع الآية 37 من الإسراء في ج 1 ، وقوله تعالى «وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» ما استطعت وكلم الناس بقدر ما يسمعون ففيه الوقار لك والكرامة لمن تكلمه وكانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به قال شاعرهم :
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرداء جهير النعم
فجاء الإسلام بذمه لأن خفض الصوت أوقر للمتكلم واحفظ للأدب وأدمث للخلق وأبسط لنفس السامع وأدعى لفهمه ويكفي فيه ذما قوله تعالى «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ» أقبحها وأوحشها وأمجّها للطبع «لَصَوْتُ الْحَمِيرِ 19» وذلك لأنه أشبه بأصوات أهل جهنم من حيث أوله زفير وآخره شهيق ولزيادة علوه يكاد أن يصرع سامعه القريب.
فترشد هذه الآية الكريمة إلى أن رفع الصوت غاية في الكراهة ومخالف للآداب وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ويكره أن يكون جهيره ، راجع الآية الأخيرة من سورة الإسراء في ج 1 تعلم أن كل هذا يؤيد ما جرينا عليه من أن المراد بالتصعير الإعراض عن الناس بالوجه تجبرا ، قال تعالى «أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغيرها والبحار والأنهار والمعادن والدواب وغيرها فكل ما فيها مسخر لمنافعكم أيها الناس «وَأَسْبَغَ» أتم وأكمل وأفاض «عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» لتدركوها بحواسكم الظاهرة والباطنة المتقدمة في الآية 5 من سورة يوسف المارة ، ومن النعم الظاهرة حسن الصورة واعتدال القامة وكمال الأعضاء والنطق بجميع الحروف والرزق والمال والجاه والأولاد والخدم والأمن والأدب والعافية التي هي أساس لكل نعم وكل نعمة دونها ليست بنعمة ، ومن النعم الباطنة العقل والفهم والفكر والمعرفة والخلق الحسن والتروي في الأمر وعدا ذلك نعم كثيرة ظاهرة وباطنة أنعم اللّه بها على عباده لا يحصيها العبد ولا العد(3/486)
ج 3 ، ص : 487
قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) الآية 18 من سورة النحل ومثلها الآية 24 من سورة إبراهيم الآتيتين فراجعهما ، ثم طفق جل شأنه يذكر بعض أحوال المتنطعين فقال «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وأبي بن خلف وأضرابهم الذين كانوا يجادلون حضرة الرسول في صفات اللّه تعالى وهم جهال في اللّه لا علم لهم يستدلون به على جلال صفاته «وَلا هُدىً» يهتدون به إلى الصواب ليعرفوا عظيم قدرته وجليل هباته «وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ 20» يسترشدون به إلى أوامره ونواهيه ليعرفوا الحق من الباطل ومن كان كذلك ليس له أن يجادل في شيء من آيات اللّه فضلا عن ذاته المقدسة ، أما أهل العلم والهدى والكتاب فإنهم لا يجادلون في ذلك لكمال يقينهم وصدق إيمانهم وقوة دينهم وشدة عقيدتهم فيه ، وهؤلاء الفسقة
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» واتركوا هذا الجدال المجرد عن أدلة عقلية صحيحة أو نقلية صريحة لأنها غير مستندة إلى كتاب أو اقتداء برسول «قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ» في هذا الجدال والمراء «ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من التقاليد المتناقلة ، قال تعالى «أَ وَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ» أي آباءهم الذين كانوا يقتفون آثارهم «إِلى عَذابِ السَّعِيرِ 21» أي أيتبعونهم ولو كانوا كذلك ؟! وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الآية 170 من البقرة في ج 3 بعد قوله حكاية عنهم (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) والواو هنا حالية والاستفهام للتعجب «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ» نفسه من اطلاق الجزء وإرادة الكل وإنما صح لأن الإقبال بالوجه إقبال بالكل «إِلَى اللَّهِ» بأن يفوض أمره إليه ويخلص بقلبه وقالبه لجلاله «وَهُوَ مُحْسِنٌ» في أعماله وأقواله «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ» توثق على أتم حال «بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى » القوية من الشدة في الحبل المتين المأمون الانقطاع أي اعتصم بعهد اللّه الذي لا ينقض ووعد اللّه الذي لا يخلف بخلاف عهد ووعد الكفرة الذين لا يهمهم النكث فيه والخلف له لعدم تقيدهم بدين صحيح يرجعون إليه ، مثل اللّه تعالى حال المتوكل عليه المخلص له بحال المتدلي من علو أو المترقي إلى فوق المحتاط لنفسه من الوقوع بأن يتمسك بأمتن(3/487)
ج 3 ، ص : 488
عروة من عرى الحبل «وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» 22 لا لأحد سواه وله فيها الأمر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد «وَمَنْ كَفَرَ» بعد إبداء هذه الدلائل الناصعة والإرشاد الصريح «فَلا يَحْزُنْكَ» يا سيد الرسل «كُفْرُهُ» لأن وباله عائد عليه وهو وأضرابه «إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» في الآخرة ، جمع الضمير باعتبار معنى من حيث تصلح للجمع والافراد «فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في الدنيا ويحاسبهم عليه ويجازيهم بمقتضاه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 23» دخائلها فما بالك بغيرها إذ هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، تأمل فيما حكاه اللّه عن لقمان في مخاطبته لابنه تعلم بعض معلومات اللّه في خفايا الأمور ، قال تعالى وهؤلاء «نُمَتِّعُهُمْ» في هذه الدنيا «قَلِيلًا» مدة آجالهم المقدرة لهم فيها في علمنا وهي مهما كانت ، قليلة «ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ» نلجئهم في الآخرة فنردهم ونسوقهم سوقا عنيفا «إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ 24» قاس شديد فظيع لا يقادر قدره ولا تطيقه الأجسام ، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» فقلت يا سيد الرسل لعبدة الأوثان «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» فإنهم حتما «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» وحده خلقها وبرأ ما فيها فيا أكرم الرسل «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» على إلزامهم الحجة بالإقرار على دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها الجاحد المكابر «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 25» أنهم ملزمون بهذا الإقرار حتى إذا نبهتهم لم ينتبهوا له.
وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 7 فما بعدها من سورة العنكبوت الآتية إن شاء اللّه «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبمن فيهما كيف شاء «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عن جميع عباده وكل مكوناته «الْحَمِيدُ 26» في ذاته وصفاته وأفعاله.
مطلب الآيات المدنيات وسبب نزولها والحكمة من تأخيرها :
وهذه الآيات المدنيات الثلاث وسبب نزولها أن اليهود قالوا يا محمد بلغنا أنك تقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الآية 85 من الإسراء في ج 1 أتعنينا بهذا أم قومك فقط ؟ قال كلا عنيت ، قالوا ألست تقول وتتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء يريدون الآية 145 من الأعراف في ج 1 والآيات 43 فما بعدها من المائدة في ج 3 قال صلّى اللّه عليه وسلم هي من علم اللّه قليل وقد آتاكم اللّه بما إن(3/488)
ج 3 ، ص : 489
عملتم به انتفعتم (يعني القرآن) قالوا تزعم هذا وأنت تقول (مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) الآية 269 من البقرة في ج 3 ، لأن هذه الحادثة وقعت بالمدينة بعد نزول سورة البقرة وهي أول ما نزل فيها فكيف يجتمع علم قليل مع خير كثير فأنزل اللّه تعالى «وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» مدادا حبرا يكتب فيها كلها «ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» إذ لا نهاية لها «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجزه شيء منيع لا يغلبه غالب «حَكِيمٌ 27» لا يخرج أمر عن حكمته وهذه ماهية علم اللّه وقد آمنت بها لأنه كما أنه لا يعرف كنه ذاته أحد فلا يعرف ملاك علمه أحد ولا يحيط علم الخلق كلهم بمعلوماته وهذه الآية أبلغ من آية الكهف 108 الآتية المتقدمة عليها في النزول لأنها مكية وهذه مدنية فراجعها فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، قال تعالى «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ» أيها الناس بالنسبة لقدرة الخلاق «إِلَّا كَنَفْسٍ» أي خلق وبعث نفس «واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لأقوالكم «بَصِيرٌ 28» بأعمالكم فاحتفظوا أن يراكم حيث نهاكم «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» يدخله ويدبحه فيه «وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» أيضا بصورة مستمرة «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ» منهما «يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده دائبا إلى يوم القيامة راجع الآية 13 من سورة فاطر في ج 1 والآية 5 من سورة الزمر الآتية «وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 29» لا يخفى عليه شيء من أعمالكم كلها ولقائل أن يقول ما هو السبب في تأخير هذه الآيات عن سورها ولم تنزل معها المكية في مكة والمدنية في المدينة ؟ فنقول إن تأخيرها لأمر اقتضته الحكمة الإلهية ، لأن اللّه رتب الأسباب على مسبباتها ، وقد سبق في علمه الأزلي
أن يكون السؤال عنها والواقعة المنبئة عنها في المكان والزمان الذي قدره لها أزلا فأخر تنزيلها لوقتها ، لأن لكل شيء أجلا ولكل أجل كتاب وقد ذكرنا غير مرة أن أفعال اللّه لا تعلل وأن ما جاء عنه وعن رسله مما لم نعقله لقصر فينا يجب أن نعتقده ونعمل فيه ولا نسأل عن السبب إذ علينا الامتثال والإيمان والتسليم وإلا إذا ترددنا وشككنا أو توقفنا فلسنا بمؤمنين ولا مسلمين ، تدبر هذا(3/489)
ج 3 ، ص : 490
وسلم تسلم.
واعلم أن كل ما خطر ببالك فاللّه فوق ذلك ويكفيك أنه لا يسأل عما يفعل ، راجع بحث نزول القرآن في المقدمة تعلم أن «ذلِكَ» الإله القادر على خلق السموات والأرض وما فيهما المدبر أمرهما والمسخر ما فيهما من أجرام مولج الليل في النهار وبالعكس ومجري الكواكب في أفلاكها بانتظام والجاعل ما فيها منه ما هو مستقر وما هو سائر في محوره وما هو جار في غيره وما هو طالع وما هو آفل الذي جعل في هذا العكس والطرد والاختلاف والاتفاق والسير والقرار الجاعل فيها منافع مخصوصة منها ما اطلع عليه البشر ومنها ما لم يطلع عليه تعلم أيها القارئ المتدبر «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» وأن ما يوقعه في ملكه هو الحق وأنه الإله الذي لا إله غيره المستحق للعبادة المستجيب للدعاء «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هو الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ» في صفاته «الْكَبِيرُ 30» السلطان في ذاته العظيم الشأن المتعال في أسمائه الحسنى ونظير هذه الآية الآيتين 7/ 63 من سورة الحج في ج 3
«أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ» عليكم أيها الناس «لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ» العجيبة الدالة على كمال قدرته «إِنَّ فِي ذلِكَ» السير على الهواء المجرد مع عظمها وثقل حمولتها «لَآياتٍ» بديعات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» على أوامره وتحمل ابتلائه «شَكُورٍ 31» لنعمائه في سرانه وضرائه ، وهذان الوصفان من أكمل سمات المؤمن لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر ، وإنما ذكر اللّه تعالى هذين الوصفين بعد ذكر الفلك لأن الراكب فيها لا يخلو عنهما كما لا يخلو من الاستدلال على قدرة اللّه وعظيم نعمته على خلقه.
قال تعالى «وَإِذا غَشِيَهُمْ» الكفرة المذكورين أثناء ركوبهم البحر «مَوْجٌ كَالظُّلَلِ» بارتفاعه إذ يصير فوقهم كالظلة يظل من تحته كالسحاب والجبل الشاهق ورأوا الموت بأعينهم بأن تحقق عندهم الغرق «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وينسون أوثانهم التي يشركونها في عبادته حالة الرخاء والأمن وذلك لعلمهم أنه لا ينجيهم من الشدائد إلا هو «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ» وأمنوا الغرق الذي كان محيقا بهم «فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» متوسط في حاله لانزجاره في الجملة عدل فيما عاهد اللّه عليه ، ومنهم من لم يوف بعهده ولم يعتبر بما أراه اللّه من الخوف والأمن وهو المعنى بقوله تعالى(3/490)
ج 3 ، ص : 491
«وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ» غدار نكاث للعهد نقّاض للوعد «كَفُورٍ 32» جحود لتلك النعمة كما هو جحود لغيرها من قبل ولم يذكر في هذه الآية السابق بالخيرات لأن الأصناف ثلاثه ، راجع الآية 32 من سورة فاطر في ج 1.
وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنهما ، وما قيل إنها نزلت في عكرمة ابن أبي جهل حين هرب عام الفتح إلى البحر وقد أمّن رسول اللّه الناس إلا أربعة ، إذ قال صلّى اللّه عليه وسلم اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة.
وهم عكرمة هذا وعبد اللّه ابن حنظل ومقيس بن حبابة وعبد اللّه بن أبي صرح ، وأنه لما ركب البحر جاءهم ريح عاصف فقال أهل السفينة أخلصوا للّه ربكم فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ، فقال عكرمة لئن لم ينجني في البحر الإخلاص للّه الواحد فما ينجيني في البر غيره ، اللهم إن عافيتني مما أنا فيه لآتين محمدا وأضع يدي بيده ولأجدنّ عفوا كريما ، فسكن الريح فرجع إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه رضي اللّه عنه لا يصح ، لأن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة وعكرمة أسلم سنة الفتح فبين نزول هذه الآية وحادثة إسلام عكرمة سنتان وإن ما نزل بعد الهجرة يكون مدنيا وعكرمة بعد إيمانه ذلك لا يسمى (مقتصدا) بل كامل الإيمان لأنه جاء طائعا راضيا مختارا إلى حضرة النبي وآمن به إيمانا خالصا وعمل بإيمانه ومات عليه ، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ» فلا يفيده شيئا ولا يغنيه من عذاب اللّه فتيلا «وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» حذف شيء من الأول لدلالة الثاني عليه على حد قوله :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وذلك لأن كل إنسان يقول فيه نفسي نفسي فلا شفقة ولا خلة ولا شفاعة إذ ذاك إلا لمن ارتضى فإذا كان هؤلاء ينقطع بينهم المودة ولا أشفق من الوالد على ولده ولا أعظم حجة منه له ولا حق أكبر من حق الوالد على ولده ولا أوجب حرمة عليه منه ولا طاعة له إلا للّه ومع هذا لا يلتفت أحدهم للآخر فغيرهم من باب أولى وذلك لشدة الهول واهتمام كل امرئ بنفسه قال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الآية 18 من سورة عبس المارة ج 1 ، وهذا مما وعد(3/491)
ج 3 ، ص : 492
اللّه به عباده «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» كائن لا محالة في ذلك اليوم الذي يكون فيه المشاححة بين الناس كما أن وعده في غيره حق أيضا «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ» أيها الناس هذه «الْحَياةُ الدُّنْيا» لأنها فانية فلا تنخدعوا بزخارفها وتمويهها «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ 33» الشيطان الذي أوقعه في البلاء غروره وكل ما يغر الإنسان من مال أو جاه أو شهوة فهو غرور لأنها كلها من طرق الشيطان التي يزينها للناس فهو أخبث الغاوين فلا يرجيكم بالتوبة ويمنيكم بالمغفرة ، وإنه يدس لكم السم في الدسم لأن الإنسان لا يدري متى يباغته أجله وإذ ذاك يندم ولات حين مندم وتكون ممن سقط في يده راجع الآية 5 من سورة فاطر في ج 1 في هذا البحث ، فعلى العاقل أن يسرع في التوبة ويجتهد في العبادة كي يلاقي ربه على حالة مرضية ، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه فلربما جاءه الموت وهو يتلبس بحالة سيئة والعياذ باللّه فيندم من حيث لا ينفعه الندم واللّه تعالى وإن أمهل عبده فإنه لا يهمله وقد يستدرجه من حيث لا يعلم.
مطلب الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى :
«إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها في أي سنة وشهر ويوم وساعة ولحظة من ليل أو نهار «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» في الوقت والزمان والمكان الذي يريده ويقدره له بقدر معلوم عنده «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» هل ذكر هو أم أنثى تام الخلق أم ناقصه أو زائد فيه ، احمر أو أسود أو ما بينهما من الألوان حين قذف النطفة من الرجل في رحم المرأة كما يعلم أجله ورزقه وشقيا أو سعيدا وما يعتريه من تكوينه إلى موته وإلى بعثه وحشره وإلى دخوله الجنة أو النار وما بعد ذلك ، فالأشعة الحديثة عجزت عن معرفة الولد بعد كمال خلقه في بطن أمه أهو ذكر أم أنثى واللّه تعالى أخبر أنه يعلم ذلك كله وهو نطفة في الرحم لم يكوّن بعد كما يعلم ما وراء ذلك من الحالات التي تعتوره إلى ما شاء اللّه والبوصلة المحدثة لمعرفة نزول المطر المشار إليها في الآية 102 من سورة الصافات المارة لا تدل إلا على ترطيب الجو المستفاد منه مظنة نزول المطر خلال أربع وعشرين ساعة على الأكثر ولا يمكن بوجه من الوجوه أن يعرف منها وقت نزوله على الضبط البتة ، (3/492)
ج 3 ، ص : 493
لأن اللّه تعالى قد يحدث في الجو ما يسلب منه تلك الرطوبة التي دلت عليها الإبرة من تأثير الرياح أو غيرها فلا ينزل المطر لذلك فلا تتعارض هذه الإبرة وغيب اللّه تعالى ، لإنه مما اختص به فالبشر مهما بلغ من العلوم والمعارف عاجز أن يعلم شيئا من الغيب المبين في هذه الآية.
وبمناسبة هذا كان أخبرني ذات يوم السيد جميل بك السلاحوار من أهالي حلب بأن أذهب إلى الدار لأنه ستصير اليوم عواصف قوية ، فقلت له من أين عرفت هذا ؟ قال من الإبرة الموجودة لدي فقلت له لا يكون شيء إن شاء اللّه ، فقال لا بد من كونه ، ثم تفرقنا ولم يقع شيء طيلة اليوم والليلة ، فصادفته في اليوم الثاني وقلت له أين ما أخبرتني به من العواصف البارحة ، فقال يا أخي إنه أمر محقق ولكن حدث في الجو تبدل حال دون وجودها واللّه على كل شيء قدير ، فقلت له من الآن فصاعد لا تجزم بشيء من هذا فإن اللّه تعالى يغير الأحوال ، فقال آمنت باللّه وصدقت.
وإن ما يعدّه أهل هذا العصر من العلوم المحدثة بزعمهم قد تكون قديمة لأنهم لم يطلعوا على كل ما اطلع عليه الأوائل من العلوم فمن ينظر إلى فنّ الهندسة وصنع الأبنية القديمة والأصباغ والنقوش والتصوير والتصبير يعلم أن الأواخر لم يبلغوا بعد ما بلغه الأوائل لأنهم حتى الآن عن معرفته عاجزون وهناك تحنيط الأموات لم يقفوا على أجزاء تركيبه ومرض السرطان لم يقفوا على توقيفه مما يدل على أن جل الأشياء قديمة والناس يتأسون بآثارهم ويقتفون مآثرهم فما عثروا عليه برعوا.
به وما لم يعثروا عليه فسيعثرون عليه بعد لأن الدنيا لم تكمل بعد راجع الآية 24 من سورة يونس المارة «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً» من خير أو شر «وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» في سهل أو جبل في قرية أو بادية في بحر أو نهر ولا تدري بأي أرض تدفن ولا كيفية موتها هل بحرق أو تردي أو غرق أو افتراس أو غير ذلك ، وهذان الأمران وأمر الساعة لم يتطرق إليها بحث ما بوسائل معرفتها من أهل العلوم العصرية البتة ولما يتطرق واللّه أعلم.
لأن نهاية عقول العالمين فيها عضال وغاية سعي الساعين فيها ضلال ولهذا فإن كل ما بذله ويبذله البشر لمعرفة هذه الأمور الخمسة على الحقيقة غايته العجز لأن ما اختص اللّه به لنفسه لم يطلع عليه عباده ، (3/493)
ج 3 ، ص : 494
لذلك فإن نتيجة البحث فيها عقيمة ، وعاقبتها وبال إذ قد تؤدي إلى اختلال العقل أو الانتحار لأن لكل علم أصولا تحده ولا حد لعلوم اللّه ، وإذا تدبرت في قوله تعالى (عِنْدَهُ) وكلمتي (وَما تَدْرِي) (وَما تَدْرِي) علمت أنهما تشيران إلى أن هذه الثلاثة لا يحوم حول حماها البشر وإن الاثنين الآخرين وهما نزول الغيث وما في الأرحام قد يتطرق إليهما لأن العلم فيهما لا ينافي علم اللّه ولكن لا يقف على ما فيهما على الحقيقة فلا يبلغون مداهما مهما توغلوا فيهما كما هو في علم اللّه ، وإذا تأملت قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ» الإله العظيم المبدع هو وحده لا غير «عَلِيمٌ» في هذه الأشياء
الخمسة وغيرها «خَبِيرٌ 34» بتفصيلاتها وأزمان حدوثها وقد علمت أنها من خصائصه لا دخل لخلقه فيها فسلم تسلم واعتقد ترشد.
واعلم أن كل ما خطر ببالك فاللّه فوق ذلك ، وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء الحارث بن عمرو بن حارثة ابن حفصة من أهل البادية فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فما تلد ولقد علمت بأي أرض ولدت فأخبرني بأي أرض أموت ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية.
ويوجد في القرآن سورتان مختومتان بلفظ (خَبِيرٌ) هذه والعاديات فقط ، هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة سبأ
عدد 8 - 58 - 34
نزلت بمكة بعد لقمان إلا الآية 6 فإنها نزلت بالمدينة وهي أربع وخمسون آية ، وثمنمئة وثلاثون كلمة ، وألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء ويختار «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» كما لذاته المقدسة في الدنيا إلا أن الحمد في الدنيا يكون سنة دائما ويكون واجبا بمقابلة النعمة وليس هو في الآخرة كذلك(3/494)
ج 3 ، ص : 495
لأنها ليست بدار تكليف وإنما يكون الحمد فيها سرورا بالنعم وتلذذا بما يناله أهلها من الشهوات قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية 75 من سورة الزمر الآتية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 34 من سورة فاطر في ج 1 ، وفيه الآيتان من سورة النمل (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ) 15 الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ) 60 فهو الحقيق بالحمد الجدير بالشكر الخليق بالمدح دنيا وأخرى «وَهُوَ الْحَكِيمُ» بتدبيرهما وما فيهما كما أحكم أمرهما وأمر من فيهما «الْخَبِيرُ 1» بما كان وسيكون فيهما «يَعْلَمُ ما يَلِجُ» مقدار ما يدخل ويتغلغل ويكون «فِي الْأَرْضِ» من المطر والنبات والمعادن والكنوز والبذور والأموات وغيرها «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات والعيون وأنواع المعادن والكنوز وغيرها لأن منها ما هو داخل ومنها ما هو خارج «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من أمطار وثلوج وصواعق وبركات وغيرها «وَما يَعْرُجُ فِيها» من أقوال وأعمال وملائكة وطيور ومن اختصه من خواص خلقه كإدريس والياس واليسع وعيسى ومحمد عليهم السلام وأرواح الأنبياء والشهداء والصالحين راجع الآية 57 من سورة مريم وأول سورة الإسراء في ج 1 والآية 132 من الصافات المارة والآية 56 من المائدة الآتية في ج 3 «وَهُوَ الرَّحِيمُ» بإنزال ما يحتاجه خلقه وادخاره لمنافعهم «الْغَفُورُ 2» لما يقع منهم من السوء والمعاصي لسعة حلمه وعظيم عفوه وكبير عطفه «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» مع هذا كله «لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» فأقسم جل قسمه وأكده باللام والنون ثم خصه بما يدل على زيادة التأكيد بقوله لحبيبه «قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» الساعة المقدر إتيانها في علمه وقد وصف حضرته المقدسة بقوله «عالِمِ الْغَيْبِ» الذي من
جملته الساعة وذلك لأنهم أنكروا البعث واستبعدوا وعد اللّه فيه واستبطأوا تنفيذ تهديده ولذلك جاء الجواب بهذا القسم العظيم وأكد علمه للغيب كله بقوله جل قوله «لا يَعْزُبُ» يغيب ولا يبعد «عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ» المثقال «وَلا أَكْبَرُ» منه «إِلَّا» وهو مدون «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» لكل شيء الذرة فما فوقها من نام وجامد وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ عنده(3/495)
ج 3 ، ص : 496
الجامع المانع وهو وما فيه في علم اللّه تعالى ، كلا شيء راجع الآية 61 من سورة يونس المارة ثم بين سبب إتيان الساعة بقوله عز قوله «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في الدنيا جزاء حسنا في الآخرة «أُولئِكَ» المؤمنون ذوو الأعمال الصالحة «لَهُمْ» فيها عند ربهم «مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم وستر لعيوبهم «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ 4» في جنات النعيم «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا» قصد إبطالها وتكذيبها ويحسبون كونهم «معجزين» لنا ، كلا ، لا يظن هؤلاء المفسدون أنهم يفوتوننا ولا ينالهم عقابنا لأنهم في قبضتنا ولا ملجأ لهم غيرنا وقرىء مُعاجِزِينَ ويعزب بكسر الزاي والضم أفصح «أُولئِكَ» الساعون بذلك لا ينجون منا وإن مرجعهم إلينا «و لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ» هو أشد كل عذاب وأسوأه ويطلق على الموت ولذلك وصفه بقوله «أَلِيمٌ 5» لا تقواه قواهم وهذه الآية المدنية المستثناة من هذه السورة.
مطلب أصول الدين التي لا يتطرق إليها النسخ والآية المدنية وما وقع من هشام وزين العابدين :
قال تعالى «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من مؤمني أهل الكتاب وأصحاب حضرة الرسول ويدخل في هذه الآية علماء هذه الأمة وخواصها الموجودون حين نزولها ومن بعدهم إلى يوم القيامة أي يعتقدون بأن «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» الذي لا مرية فيه كما يروا كتبهم حقا لأنها منزلة من لدنا «وَ» يرون أيضا أنه «يَهْدِي» يدل ويرشد «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ» الغالب لكل شيء «الْحَمِيدِ 6» لعمل عباده المحمود منهم كما أن كتبهم أيضا تدل على طريق اللّه وتحت الناس على سلوكه لأن الكل منه ولأن مبلّغيها أنبياؤه ورسله ، فجميع الكتب السماوية لا تختلف قيد شعرة في أصول الدين الحق التي هي التوحيد والنبوة والمعاد ، لأن من أنكر أحدها فليس من أهل الكتاب ، وأما الفروع ففيها اختلاف لأنها معرضة للتبديل والتغيير بحسب المصلحة والزمن والمكان لأن النسخ الوارد لا يتطرق إلا للفروع ويحول حول تلك الأصول البتة ، وكونه في العبادات من صفاتها ، وفي المأكولات من أصنافها وأجناسها ، وفي ضروب الملبوسات وأنواعها(3/496)
ج 3 ، ص : 497
والحلي والزينة وتعلقاتها ، وأنواع المعاملات وتفرعاتها فقط ، وإنما أدخلنا أصحاب الرسول وخواص هذه الأمة في هذه الآية مع أنها في أهل الكتاب نزلت لأن لفظ أوتوا العلم يشملهم وهم متصفون بما احتوت عليه ، وفّق اللّه هذه الأمة للتمسك بها وإرشاد الزائغين عنها وأدام النفع بعلمائها وصلحائها إلى يوم القيامة وهم ملح الأرض لا خلا الكون منهم.
انتهت الآية المدنية وهي كغيرها معترضة بالنسبة لما قبلها وبعدها وهذا من كمال بلاغة كتاب اللّه وفصاحته «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بعضهم لبعض في تقرير إنكار البعث فيما بينهم عطف على الآية الثالثة فما بعدها «هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ» يعنون محمدا صلّى اللّه عليه وسلم عبروا عنه بلفظ النكرة تجاهلا وهو عندهم العلم المفرد قال الأبوصيري :
خفضت كل مقام بالإضافة إذ نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
كيف لا وهو أعرف المعارف وأشهر من الشمس في رابعة النهار وهكذا آله المقتفون أثره ومن هذا ما وقع لهشام بن عبد الملك حين أراد أن يستلم الحجر الأسود ولم يتمكن لازدحام الناس عليه ممن يعرف كونه الملك ومن لا يعرفه ولما جاء حينذاك زين العابدين وأراد استلامه انشق له الناس صفّين احتراما له حتى مشى بينهم على هينة واستلم فقال هشام تجاهلا من هذا فأجابه الفرزدق فورا :
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء اللّه قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
إلى آخر قصيدته الرنانة التي سارت بها الركبان ولم يبال بسلطانه تجاه آل البيت الذين أوجب اللّه محبتهم علينا ، قالوا وكانت امرأته معه فقالت له واللّه هذا هو الملك والشرف لا ملكك وسلطانك ، وهكذا كانت الشعراء تصدع بالحق ولا تخشى الملوك فماذا تراهم لقاء غيرهم وأين شعراؤنا الآن منهم فقد تبدل كل شيء ولا حول ولا قوة إلا باللّه الذي «يُنَبِّئُكُمْ» أيها الكفرة ويقول لكم ذلك الرجل إنكم «إِذا مُزِّقْتُمْ» قطعتم وفرقت أوصالكم وفتتت «كُلَّ مُمَزَّقٍ» بحيث صرتم ترابا ورفاتا وهباء «إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ 7» فتنشئون كما كنتم ، وهذا بزعمهم أعجوبة غريبة لا يمكن أن تكون ولا تعرف من قبل.
ثم تساءلوا بينهم(3/497)
ج 3 ، ص : 498
ما ترون «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فيما يقوله هذا الرجل «أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» وصار بحيث لا يعي ما يقول ولا يدرك مغزى كلامه مما يلقى على لسانه من الوهم والخيال فيظنه حقيقة ، فرد اللّه عليهم بقوله «بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» أمثالكم الذين يستعظمون على الخالق الأول إعادة ما خلقه بعد أن أماته ، هم المختلة عقولهم الكذبة في هذه الدنيا الذين سيكونون غدا بالآخرة التي يجحدونها «فِي الْعَذابِ» الشديد «وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ 8» عن الحق الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون رسل اللّه الذين جاؤهم به «أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» المحيطة بهم وهما في قبضتي «إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفناها بقارون وصاحبيه «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً» قطعا «مِنَ السَّماءِ» كما اسقطنا على أصحاب الأيكة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخسف والإسقاط وما في السماء والأرض من آيات وعبر «لَآيَةً» عظيمة وعظة مؤثرة «لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ 9» خاشع خاضع لإلهيّتنا كافية بأن يستدل بها على قدرتنا الكاملة وعظمتنا الجليلة.
مطلب مميزات داود وسليمان ومعجزات القرآن وكيفية موت سليمان عليهم السلام :
قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» الملك والكتاب مع النبوة والرسالة ولم تجمع لنبي قبله ، وزدناه على ذلك حسن الصوت حين يتلو الزبور الذي أنزلناه عليه ، ولقد خصصناه بفضل آخر على إخوانه المرسلين بأن «قلنا يا جِبالُ أَوِّبِي» سبّحي اللّه واذكريه «مَعَهُ وَالطَّيْرَ» سخرناها له أيضا وأمرناها بأن تسبح معه فكان عليه السلام إذا سبح ربه سبحت معه الجبال والطيور والخلائق بدوي يبهر العقول والأسماع فيالها من نعمة عظيمة «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ 10» خاصة له أيضا ليعمل منه لبوسا للحرب ولم يلنه لأحد قبله ، ومع هذه النعم العظام كان عليه السلام يتنكر ويمشي في قومه ويسألهم عن نفسه ليعرف عيوبه ولا عيب فيه وإنما يفعل ذلك تعليما لأمته ، فقيض اللّه له ملكا في صورة بشر فقال له عند ما سأله نعم العبد لولا خصلة واحدة قال وما هي قال إنه يأكل من بيت المال هو وعياله ، فتنبه وسأل ربه أن يغنيه عنه ، فعلمه صنعة الدروع التي تقي لا بسيها تأثير(3/498)
ج 3 ، ص : 499
ضرب السيف والرمح بمشيئة اللّه تعالى ، وإلا فلا واقي من قدر اللّه ، وهو أول من نسجها واتخذها آلة للحرب ، وكانت قبل صفائح فصار يعمل منها وببيعها ويأكل هو وأهله من ثمنها ويتصدق بالفضلة وأوحى إليه تعالى
«أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ» ألهمه ربه كيفية عملها ، وقيل إنّ (أَنِ) هنا مفسرة لألنا له الحديد ليعمل دروعا واسعة ، من السبوغ بمعنى التمام والكمال فغلب على الدروع وقيل في المعنى :
لا سابغات ولا جاءوا بأسلتة تقي المنون لدى استيفاء آجال
وتجمع على سوابغ كما في قوله :
عليها أسود ضاربات لبوسهم سوابغ بيض لا تمزقها النّبل
والسرد خرز ما خشن وغلظ قال الشماخ :
فظلت سراعا خيلنا في بيوتكم كما تابعت سرد العنان الخوارز
واستعير لنظم الحديد والنظم اتباع الشيء بالشيء من جنسه فيقال للدرع مسرودة لأنه توبع فيها الحلق بالحلق قال :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبّع
ثم علمه اللّه تعالى كيفية نسجها فقال «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أمره ربه بالتقدير عند نسج الدروع لئلا تكون المسامير رقاقا رفيعة فتفلت ولا غلاظا كبارا فتكسر الزرد ثم خاطبه وآله بقوله «وَاعْمَلُوا» آل داود «صالِحاً» فيما يتعلق بأمور دينكم ودنياكم لا في عمل الدروع خاصة لعموم الخطاب ، ولم يخلق الإنسان إلا لأن يعمل صالحا وأوله عبادة اللّه ثم صيانه النفس من مشاق الدنيا والآخرة ثم الأدنى فالأدنى حتى الحيوان ، يؤيد هذا قوله «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 11» لا يخفى علي شيء فلو كان خاصا بالدروع لما احتاج إلى هذه المراقبة المؤكدة ، هذا وقد ظهر أن الحكمة من إلانة الحديد هو تعلمه هذه الصنعة التي هي من لوازم الجهاد الذي هو أحد أركان الدين.
قال تعالى «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ» سخرها له كما سخر لأبيه داود ما ذكر «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» عند ما تسير به وبحاشيته على البساط ، قالوا كانت تسير من دمشق إلى إصطخر صباحا فيتغدى فيها ويستريح ثم تسير من إصطخر إلى كابل مساء فيبيت فيها وهذه مسافة شهرين على(3/499)
ج 3 ، ص : 500
الأقدام والإبل وهو يقطعها في ساعتين أو ثلاث ساعات من أول النهار وآخره على أكثر تعديل إذا كان يسير سيرا وسطا بريح ليّنة ، وعليه فإنه عليه السلام يقطع مسافة شهر بساعة واحدة أو ساعة ونصف على بساطه بقصد النزهة فإذا حزبه أمر فيمكنه أن يقطع تلك المسافة وأكثر بطرفة عين بالريح العاصف كما جيء له بعرش بلقيس من اليمن إلى الأرض المقدسة بلحظة واحدة وهذا مما يعجز عنه البشر لأن الطائرات الحديثة مهما عظمت لا تقطع هذه المسافة بطرفة عين ، وكذلك القطارات مهما عظمت لا تقدر أن تفله وتنقله بمثل هذه المسافة بالنظر لوصفه المار ذكره في الآيتين 23 - 42 من سورة النمل المارة في ج 1 ، ولهذا البحث صلة في الآية 81 من سورة الأنبياء الآتية ، فانظر رعاك اللّه قبل اختراع الطائرات هل كان أحد يصدق إمكان اجتياز مسافة شهرين بغدو ورواح ومسافة كل منهما تقدر بساعة أو ساعة ونصف إذ تقدر مسافة كل منهما من ثلاثة أميال إلى خمسة على أكثر تعديل لأن الغدو ، والرواح يطلق كل منهما على ساعة واحدة أو ساعة ونصف راجع كتب اللغة تجد أن الغدو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والرواح آخر ساعة من النهار بما يقابل الغدو ، على أنا لا نعلم ماذا يحدث بعد لأن اللّه علم الإنسان ما لم يعلم وسيخلق لنا ما لم نعلمه لأن عمل البشر من خلقه ولو لا أن يقدرهم عليه لما استطاعوا عمله تدبر معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات المشيرة إلى هذه الحوادث والوقائع الكائنة والتي ستكون راجع الآية 38 من سورة الأنعام المارة.
قال تعالى «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» هو النحاس قال تعالى (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) الآية 92 من سورة الكهف الآتية ، أي انه تعالى أذاب له النحاس كما ألان الحديد لأبيه «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ» كل شيء يأمرهم به فيذعنون له قسرا لأن اللّه تعالى هددهم بقوله «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا» الذي أمرناهم به وهو لزوم طاعته فيما يأمر به سليمان وينهى وأن ينقادوا له وأن الذي يمتنع أو يحاول «نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ 12» قالوا وكل اللّه بهم ملكا فمن أمره سليمان منهم فامتنع ضربه بسوطه فيحترق واللّه قادر على أكثر من ذلك فصاروا «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ(3/500)
ج 3 ، ص : 501
كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ»
فالمحاريب اسم للقصر العظيم يحارب صاحبه غيره بحمايته وهو اسم مبالغة لمن يكثر الحرب ويطلق على المكان الذي يقف فيه الإمام قال ابن حيوس :
جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في محرابه
والقدور معلومة والجفان الأواني التي يوضع فيها الطعام وانظر إلى قول الأعشى في ذلك :
نفى الذمّ عن آل المحلق جفتة كجابية السيح العراقي تفهق
وقول الأفوه الأودي :
وقدور كالربى راسية وجفان كالجوابي مترعة
أي ملأى بالطعام ووصف القدور بأنها راسيات لعظمها لأنها لا تنقل من محلها بل تبقى على الأثافي لكثرة الطبخ فيها وثقلها وشبه الجفان أي القصاع بالجوابي التي تسقى بها الأنعام لكبرها أيضا ولأن الطعام فيها دائما للضيفان كما أن الحياض يبقى فيها الماء وإنما ذكر الجفان قبل القدور مع أن القدور مقدمة عليها إذ يطبخ فيها أولا ثم يصب في الجفان بمناسبة ذكر المحاريب التي تطلق على ما ذكر وعلى الدور والمساجد التي فيها المحاريب من إطلاق الجزء وإرادة الكل وعلى الخلوات المتخذة للعبادة ، وأما التماثيل فهي عبارة عن صور من رخام ونحاس وزجاج وذهب وفضة ، قالوا انهم جعلوا منها ما هو على صور الملائكة وصالحي البشر وما هو على صور الطيور والحيوانات وغيرها إذ كان مباحا في شريعته وهذا مما يخالف شريعتنا ومنسوخ بها ، فيا هل ترى ماذا يقول الذين ينكرون الجن في هذه الآيات القاطعات التي لا تقبل التأويل إذ صرحت بأنهم يعملون للبشر ما ذكره اللّه تعالى في هذه الآية ويسخّرون لأمرهم ، وقد مر أول سورة الجن وفي الآيتين 17 و38 من سورة النمل في ج 1 ما يؤيد هذا وله صلة في الآية 29 من الأحقاف الآتية والآيات المبينة في هذه السورة ، لهذا فلا قول لهم إلا الجدال بآيات اللّه التي لا يجادل بها إلا الذين كفروا راجع الآية 4 من سورة غافر الآتية.
قالوا ومن جملة ما صوروا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه وطواويس وعقبان ونسورا على درجه إلى عرشه ، وقالوا إذا صعد إليه بسط الأسدان ذراعيهما وإذا جلس عليه ظلله النسران وقامت تلك(3/501)
ج 3 ، ص : 502
الطيور الأخر على الدرج فيها به من أراد الدنو منه مهما كان غير الهيبة التي تحصل له من الجنود المصطفين شمال يمين والشياطين القائمين حول قصره ليل نهار وغير الهيبة التي كساها اللّه تعالى إياه فضلا عن وقار النبوة ودهشة الرسالة وبهاء الجمال وعظمة الملك والسلطان ، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء ، قالوا ومن جملة ما شيدوا له من الأبنية العظام مدينة القدس وجعل لها اثنى عشر بابا على عدد الأسباط ، وكان بناؤها بالرخام والصفائح والبلور ثم بنوا له ما ذكرناه في الآية 15 من سورة النمل في ج 1 والبيت المقدس الواقع تحت الجامع القائم الآن وكان أبوه داود عليه السلام شرع فيه ولم يكمله كما أن الجامع الأموي بدمشق شرع فيه الوليد بن عبد الملك وبعد وفاته أكمله أخره سليمان لهذا قالوا إن سليمان بن عبد الملك بدأ ملكه بخير وهي إكمال البيت المقدس وختمها بخير وهو استخلافه عمر بن عبد العزيز وهذه صدفة لأن داود عليه السلام توفي قبل إكمال القدس أي جامعه وأكمله ابنه سليمان على النحو الموجود الآن تحت الجامع القائم ومواقفه غريبة وكان قديما مبنيا مرصوفا بالجواهر والذهب والفضة ولكن لما هدمه بختنصر أخذ جميع ما فيه راجع الآية 6 من سورة الإسراء ج 1 ، قال تعالى «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» لنعمنا هذه عليكم «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ 13» لنعمتي قالوا كان عليه السلام قسم ساعات الليل والنهار عليه وعلى أهل بيته للعبادة فلا تمضي ساعة إلا ويقع فيها عمل صالح للّه تعالى منه أو من أفراد عائلته ، قال تعالى «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ» بانتهاء أجله المقدر أمتناه وترك ما خولناه إياه وراء ظهره من الملك والسلطان الذي لم يكن لأحد قبله ولا بعده ، ألا فلا يغتر أحد بهذه الدنيا فمهما أوتي منها لم يؤت مثل داود وسليمان ، ومهما عاش فيها لم يعش مثل نوح والخضر عليهم السلام ، فليستعمل العاقل عقله ويتق ربه فما بعد التقوى زاد نافع إلى المعاد.
قالوا كان عليه السلام يتجرد للعبادة السنة والسنتين والشهر والشهرين في بيت المقدس ويدخل معه شرابه وطعامه وكان كل يوم ينبت في محرابه شجرة فيسألها عن اسمها ومنافعها فيقلعها ويأمر بغرسها إن كانت للأكل أو الدّواء أو لغيره حتى نبتت الخرنوبة ، فسألها فقالت نبت لخراب مسجدك ، قال عليه السلام ما كان اللّه ليخربه(3/502)
ج 3 ، ص : 503
وأنا فيه فنزعها وغرسها في حائطه ، وقال اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم يزعمون أنهم يعلمون شيئا منه ويفخرون به على الإنس ، وقام يصلي في محرابه على عادته ، فمات عليه السلام وهو متكىء على عصاه ، فبقي قائما عليها وهو ميت بإرادة اللّه تعالى وتثبيته وهو الفعال لما يشاء القادر على كل شيء.
وكان لمحرابه كوى تنظر الجن إليه منه فيرونه قائما فيدأبون على أعمالهم الشاقة التي أمرهم بها ووكل عليهم ملائكة يراقبونهم غير الذين وكلهم من قومه ويحسبونه حيا ولا ينكرون عدم خروجه لأنهم يعلمون أنه ينقطع للعبادة المدد المبينة أعلاه ولذلك بقوا بعد موته زمنا يعملون ما يأمرهم به الموكلون عليهم من الإنس ولا يقدرون أن يخالفوهم خوفا من الملك الموكل عليهم المار ذكره في الآية 11 وبقي وبقوا هكذا حتى أكلت عصاه الأرضة فسقط على الأرض فعلموا بموته لأن سقوطه لم يكن على هيئة العبادة التي كان يتعبد بها ، وهذا معنى قوله تعالى «ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» عصاه تقرأ بالهمز وعليه قوله :
ضربت بمنسأة وجهه فصار بذاك مهينا ذليلا
وبدون همز وعليه قوله :
إذا دببت على المنساة من هرم فقد تباعد عنك اللهو والغزل
قال تعالى «فَلَمَّا خَرَّ» سقط على الأرض «تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ» ظهر لهم الأمر بأنهم لا يعلمون شيئا مما كانوا يزعمونه من أمر الغيب وتبين لقوم سليمان جهلهم به أيضا ولهذا رد اللّه عليهم بقوله «أَنْ لَوْ كانُوا» أي الجن «يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ» لعلموا بموته وتركوا العمل الشاق ولما استقروا على الذل والمشقة و«ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ 15» لنفوسهم من الموكلين عليهم من الإنس والملائكة ، وظهر لدى العام والخاص كذبهم في ادعائهم علم الغيب ، والمراد بالجن هنا الكفرة منهم لأن المؤمن لا يكون مهانا في ملك نبيه راجع الآية 14 من سورة النمل والآية 24 من سورة ص في ج 1 فيما يتعلق بعظمة ملك داود وسليمان عليهما السلام ، قال تعالى «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ» بن يشجب بن يعرب بن قحطان «فِي مَسْكَنِهِمْ» مأرب من أرض اليمن «آيَةٌ» دالة على وحدانية اللّه تعالى كافية لمن اعتبر وهي(3/503)
ج 3 ، ص : 504
«جَنَّتانِ» على شفير الوادي ، يشعر بهذا قوله عز قوله «عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ» من الوادي وكان لكل منهم في جهة اليمين بستان وفي جهة اليسار بستان ولهذا يمنّ اللّه عليهم بقوله «كُلُوا» يا آل سبأ «مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ» هذه النعمة العظيمة واعملوا بطاعته فإن مأرب «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ» كثيرة النبات لطيب أرضها ليست برطبة ولا يابسة ولا سبخة ولا محجرة ولا يوجد فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا شىء من الهوام الضارة حتى أن الرجل إذا دخلها وكان في ثيابه قمل أو برغوث يموت من طيب هوائها والخاصيّة التي أودعها اللّه فيها «وَرَبٌّ غَفُورٌ 16» ربكم يا آل سبأ يعفو عما يقع منكم إن شكرتم وآمنتم «فَأَعْرَضُوا» عن دعوة أنبيائهم ولم يقبلوا نصحهم ولم يراعوا حق هذه النعم المسبلة عليهم بل كذبوهم ، قال وهب كانوا ثلاثة عشر وذكره ابن عباس ولم أقف على أسمائهم ، وقد ذكّروهم نعم اللّه وحذّروهم عقابه وأنذروهم عذابه فلم ينجع بهم وقالوا ما نعرف للّه علينا نعمة فقولوا لربكم يحبس عنا المطر وسائر نعمه قال تعالى فحق عليهم القول «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ» قال ابن عباس كان لهم سد بنته السيدة بلقيس على وادي المياه وجعلت له أبوابا وبنت دونه بركة فجعلت لها اثنى عشر مخرجا يفتحونها عند الحاجة لسقي جنبيتهم وكانت وجهت إليها مياه السيول فإذا جاء المطر احتبس من وراء السد فيمتلأ ذلك الوادي العظيم بما يزيد على حاجتهم سنريا ، وكانت قسّمته بينهم بنسبة حاجة كل منهم وبقوا ينتفعون به في حياتها وبعد موتها مدة كثيرة على حسب وضعها ، فلما طغوا وجابهوا أنبياءهم بما ذكر آنفا وقالوا لهم إن كان ما تقولونه حقا فافعلوا وإنا لسنا بحاجة إلى إرشادكم ولا نخاف من تهديدكم ووعيدكم ، وكان قولهم هذا موافقا لأجل الانتقام منهم في قدر اللّه الذي قدره عليهم وكفروا هذه النعم بغيا وعتوا سلط
اللّه تعالى الخلد على السد فثقبه فطغى الماء على جنتيهم فأغرقهما وأخرب أراضيهم وأغرقها وفاض الماء على دورهم فأخربها فمزّقوا كل ممزّق وندّ منهم من ند وصار يضرب بهم المثل عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبا وتفرقوا أيادي سبا «وَبَدَّلْناهُمْ» بسبب كفرهم بجنتيهم ذاتي الفواكه الطيبة والخيرات الكثيرة «جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ(3/504)
ج 3 ، ص : 505
خَمْطٍ»
حريف حامض ومرّ وكل شجرة ذات شوك سمي ثمرها خمط «وَأَثْلٍ» شجر الطرفاء وشجر آخر يشبهه أعظم منه «وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ 17» وثمره يسمى النبق ويغسل بورقه بدلا من الصابون كورق الخطمي والأسنان وقد أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم بأن يغسل الذي وقصته ناقته بماء وسدر زيادة في التنظيف «ذلِكَ» الفعل الذي فعلناه بهم والتبديل الذي بدلناه جزاء «جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ 18» بلى ولا نجازي الشكور بل ننعم عليه ، وهذا استفهام تقريري لا يجاب إلا ببلى وحقا إنه تعالى لا يجازي بأسوأ المجازات إلا الأكثر كفرا لأن كفور والكلمات التي على وزنه كشكور وغفور وغرور وعقور من أسماء المبالغة ، قال تعالى «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها» بالأشجار والأنهار والقرى أي قرى الشام وبيت المقدس «قُرىً ظاهِرَةً» متواصلة لا تنقطع الواحدة تلو الأخرى ، قالوا كان بين سبأ والشام أربعة آلاف قرية عامرة لا
تقطع الواحدة حتى ترى الأخرى «وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ» بحيث جعلنا بين كل قرية وقرية مرحلة صغيرة تقدر باعتبار مشي الأقدام والإبل بأربعة فراسخ أي بريد واحد ، وقد اختلف في تقديره فمنهم من قال ساعة ونصف ، ومنهم من قال ساعة واحدة ، وعلى كل فالفرسخ ثلاثة أميال والميل ألف باع والباع أربعة أذرع بذراع العامة وهذه على أكثر تعديل تكون ستة ساعات بسير الأقدام والإبل وأربعة بسير البغال والخيل وتقطع بساعتين أيضا ، وقلنا لهم «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ 19» من الجوع والعطش والعدوان فبطروا وجحدوا هذه النعم وسئموا الراحة التي عزّ طلبها على غيرهم ولم يصبروا على السعة والعافية التي يتوق إليها كل مخلوق «فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» فهو أجدر أن نشتهيها ونتزود للسفر إليها من الزاد والراحلة ، فعجل اللّه لهم الإجابة «وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» بهذا الدعاء وطلب المشقة بطرا ففعلنا بهم ما فعلنا «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» لمن بعدهم يتحدثون بشأنهم وعبرة يعتبرون بهم وعظة لغيرهم «وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» بأن فرقناهم وبدّدناهم في البوادي والقفار وشتتنا شملهم فذهب الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة والأوس والخزرج إلى يثرب(3/505)
ج 3 ، ص : 506
وآل خزيمة للعراق ولحقت فرقة منهم إلى الشام فنزلوا على ماء يدعى غسّان فسموا الغساسنة ، وهم فرقة من الأزد ومنهم بنو جفنه رهط الملوك «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور في قصتهم «لَآياتٍ» عظيمات وعبر جسيمات ودلائل باهرات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» عن لذات المعاصي وعشاق الطاعات «شَكُورٍ 20» نعم اللّه عليه قلّت أو كثرت وسجية المؤمن الصادق الصبر على البلاء والشكر على النعماء فإذا ابتلي صبر ورضي وإذا أعطي شكر وتصدق.
مطلب تصديق ظن إبليس وبحث نفسي في قوله تعالى ماذا قال ربكم :
«وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» على أهل سبأ ومن حذا حذوهم وحقق ما كان يتوفاه منهم وظفر بما يأمله من طاعتهم له وعصيانهم للّه تعالى يا ويلهم «فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» باللّه إيمانا كاملا مخلصين العمل لحضرته ، وفريقا انهمكوا في لذاتهم وركنوا إلى شهواتهم وانقادوا لوساوس الشيطان فعصوا اللّه وفسقوا واختاروا العمى على الهدى لأن الخبيث عليه اللعنة لما طلب إنظاره من اللّه تعالى ما كان متيقنا إتمام ما وعد به من إضلال العباد بل قال لأغوينهم ولأظنهم على سبيل الظن فلما اتبعه وأطاعه فريق منهم فقد صدق ظنه في هؤلاء خاصة وفي أمثالهم عامة بطوعهم ورضاهم واختيارهم بدليل قوله تعالى حكاية عنه وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية 22 من سورة ابراهيم الآتية أي أنه لم يقهرهم ويلجئهم لطاعته قسرا لأنه لم يشهر عليهم سلاحا سيفا ولا سوطا وإنما وعدهم ومنّاهم وموّه عليهم الحق وزخرف لهم الباطل ورغبهم بالشهوات وحسن لهم القبيح وأغراهم بالتسويف وغرهم بطول الأمل فانكبوا عليه وصفقوا لديه واقتفوا أثره ومالوا بكليتهم إليه ولو شاء اللّه لمنعه من ذلك وحال بينه وبينهم ومنعهم من الانقياد إليه
«وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ» ليجبرهم على طاعته «إِلَّا» إنه لم يفعل ذلك ويحجزهم عنه «لِنَعْلَمَ» وهو عالم من قبل ويظهر ما هو في علمه لخلقه «مِنْ» منهم «يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ» على رضى منه فيصدق بوجودها بطوعه واختياره «مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ» برضاه ورغبته فينكر وجودها ووقوعها ومما يؤيد أن المراد بالعلم في هذه الآية علم الوقوع(3/506)
ج 3 ، ص : 507
والظهور بين الناس وأنه تعالى شأنه عالم بذلك أزلا قوله جل قوله «وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ 21» فمن كان رقيبا على كل شيء لا يغرب عن علمه شيء وما قدره على خلقه من بعض معلوماته قال تعالى قد يعلم ما أنتم عليه الآية الأخيرة من سورة النور في ج 3 (وقد) هنا تفيد التقليل أي أن الذي أنتم عليه أيها الناس جزء من بعض معلوماته قال تعالى «قُلِ» يا محمد لكفار قومك الذين حبس عنهم الغيث «ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم آلهة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ليكشفوا عنكم ما نزل بكم من القحط والجدب ليظهر لهم عجزهم وتيقنوا أنهم «لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» لأنهما وما فيهما وبينهما ملك للّه وحده ولا يقع فيهما شيء إلا بأمره «وَما لَهُمْ» لتلك الأوثان التي يزعمونها شريكة للّه «مِنْ شِرْكٍ» في أمر من أموره لا فيهما ولا في غيرهما البتة «وَما لَهُ» وما للّه «مِنْهُمْ» من آلهتهم «مِنْ ظَهِيرٍ 22» يعاونه على تدبير ما يقع بينهما من خير أو شر «وَ» اعلموا أيها الناس أن اللّه تعالى يقول «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ» لأحد ما من الأوثان والملائكة وكافة الخلق «إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» فيها فقط وهذا تكذيب لقول الكفرة بأن الأوثان تشفع لهم عند اللّه مع أنه في ذلك اليوم يتجلى الجبار على خلقه فيأخذهم الخوف والوجل برّهم وفاجرهم «حَتَّى إِذا فُزِّعَ» كشف الفزع «عَنْ قُلُوبِهِمْ» وذهب الحزن عنهم من هيبة كلام العرب جل جلاله في ذلك اليوم المهول أي عن المشفوع لهم والشافعين لأن المستشفعين يتثبّتون بأذيال الرجاء من الشافعين النائمين على قدم الالتجاء إلى باب ذي القدرة والعظمة مستأذنين من حضرته الشفاعة لعصاة المؤمنين ، أما الكافرون فهم بمعزل عن هذا ويبقون منتظرين خائفين لا يدرون بماذا يجابون في ذلك الوقت العصيب وقد غشيهم الفزع ومما يدل على هذا قوله
تعالى (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) وقوله جل قوله (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) الآيتين من آخر سورة عمّ الآتية فالكل إذا ينتظرون كلمة من رب العزة ليتباشروا في إطلاق الناس بالشفاعة حتى أزيل وحتى هنا للغاية ولا غاية بلا مغيا وتكييف المغيا هنا كأن قيل كيف(3/507)
ج 3 ، ص : 508
يمكن استحصال الإذن في ذلك الموقف ، العظيم للشافعين ، وكيف يكون حال المستشفعين ؟ فقيل يقفون منتظرين وجلين خلف سرادق العظمة والهيبة والجلالة لا يدرون ماذا يوقّع لهم الملك الأعظم على رقعة سؤالهم منه ، حتى إذا ذهب الخوف عن قلوبهم فتكون هذه الجملة هي الغاية.
وما ذكرناه من حصول الإذن هي المغيا.
والفزع عبارة عن انقباض النفس ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف مثل الجزع إلا أنه لا يقال فزعت من اللّه بل خفت وهو من الاضداد تقول فزعت بمعنى خفت وفزعت بمعنى أزيل عني الفزع وفعله يتعدى بعن كما في هذه الآية وبمن إذا كان بمعنى الخوف.
«قالُوا» المشفوع لهم للشافعين «ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا» الشفعاء قال اللّه «الْحَقَّ» أي أذن بالشفاعة وكل قوله حق ويؤذن بهذا قوله جل قوله «وَهُوَ الْعَلِيُّ» على عباده لا يرد سؤالهم «الْكَبِيرُ 23» عن أن يخيب أملهم وهذا من نتيجة كلام الشافعين اعترافا بعلو عظمته عن أن يرد أيديهم صفرا وجليل كبريائه عن أن ييأسهم من فيض رحمته ، وما جرينا عليه من هذا التفسير لهذه الآية العظيمة هو المناسب لسياق التنزيل وسباق اللفظ الجليل مما تقدمها.
أما من فسرها على نزول الوحي واستشهد بما رواه البخاري ومسلم فقد قال إذا قضى اللّه الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه صلصلة على صفوان ، وبما أخرج أبو داود عن ابن مسعود إذا تكلم اللّه تعالى بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجرس السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم يقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق فيقولون الحق.
فهذه الأحاديث وشبهها لم تثبت أن الرسول قالها في معرض هذه الآية والقائلون بهذا لم يبنوا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ولم يبحثوا عن الغاية بشيء ، ولم يتعرفوا للمغيا ليركن إلى بعض ما قالوه ، ولذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأوفق وإن ما مشى عليه أكثر المفسرين هو بالنظر إلى ظاهر اللفظ ومطابقته لهذه الأحاديث فنزلوا تفسير الآية عليه كما ساقوا مثل هذه الأحاديث في مسألة استراق السمع ، راجع بحثه في الآية 18 من سورة الحجر المارة وعلى هذا مشى السيد محمود الألوسي في تفسيره روح المعاني إذ نظر إلى مطابقة المقام الموافق(3/508)
ج 3 ، ص : 509
لظاهر الكلام وظهر له ما قاله غيره في هذا المقام بأنه نظر إلى ظاهر اللفظ فعدل عن أقوالهم ، والحق يقال إنه بمراحل كثيرة في الحسن والمطابقة للواقع وموافقة التنزيل ومناسبة الآي.
عما قاله غيره ، ولهذا اخترنا قوله أيضا بما زدنا عليه من التصرف ومن أراد زيادة التفصيل في هذا البحث فليراجع تفسير هذه الآية في ص 139 فما بعدها من ج 7 من تفسيره المذكور وقد مشى عليه صاحب روح البيان السيد إسماعيل حقي والإمام النسفي وجار اللّه الزمخشري من قبله واللّه أعلم وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
قال تعالى «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فإن لم يجيبوك يا محمد بأن الذي يرزقنا هو اللّه فبادرهم أنت و«قُلِ اللَّهُ» الذي يرزق أهل السموات والأرض من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها وقل لهم أيضا إذا لم يقلعوا عن محاججتك على طريق الإرشاد في المناظرة «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً» لفظ هدى يعود للضمير الأول على حضرة الرسول «أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 24 ولفظ الضلال يعود إلى الضمير الآخر العائد للكفرة على سبيل اللف والنشر المرتب ، وهذا الكلام على جهة الإلزام والإنصات في المحاجة كما تقول لمجادلك أحدنا كاذب لا على طريق الشك ، لأن حضرة الرسول يعلم حقا بأنه ومن اتبعه على هدى من اللّه وأن من خالفه وجحد ما جاء به في ضلال وهو من قبيل التعريض ليكون أوصل للغرض وأوفى بالمقصود من غير تصريح بتعنيف الخصم وهذا شأن المنصف المهذب وعليه قول حسان :
أتهجوه ولست له بكفء فشرّ كما لخيركما الفداء
وإن ما جرينا عليه من قول من قال إن أو هنا بمعنى الواو أي إني لعلى هدى وإنكم على ضلال لأن اختلاف حرف الجر قد أدى بالمطلوب لأن المهتدي مستعل فأدخل عليه على المفيدة للاستعلاء والمضل منغمس في الظلمة فأدخل عليه في المؤدية لذلك ، وإنما قلنا إن هذا شأن المنصف في المجادلة لأنه لو قال لهم رأسا أنتم ضلال مبطلون لأنماظهم وصيرهم إلى العناد وجرأهم للمقابلة فيردون عليه بأغلظ رد لما هم عليه من السفاهة ، ولفات الغرض المقصود من استجلابهم لما يريده منهم من سلوك سبيله ، والعقل يحكم بأن تكون المناظرة على الوجه الأحسن للانقياد وطريقة اللف والنشر(3/509)
ج 3 ، ص : 510
المرتب من بديع الكلام وفصيحه وكثيرا ما تستعمله العرب في أقوالها وتستعذبه قال امرؤ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
ومنه قوله :
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
فيظهر لك من هذا أن اعتبار «أو» بمعنى الواو في هذا الموضع ، فيه بعد ومخالفة للظاهر ، ولا يجوز بالمفسر والمؤول أن يركن إلى وضع حرف مكان آخر أو كلمة مكان غيرها إذا لم يكن جريها على ما هي عليه.
هذا ثم أتى بما هو أدخل في الانصاف وأبلغ في القبول فقال جلّ قوله «قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا» أي لا تؤاخذون به على فرض صدوره منا ، وهذا مجاراة لمثل كلامهم إذ لا إجرام في الحقيقة «وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ 25» بل كل يسأل عما عمل وفي إسناد الإجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه ومحظور والعمل للمخاطبين وهو مأمور به مشكور غاية في حسن المخاطبة ونهاية في الإنصاف في طيب المكالمة ودلالة بالغة على كمال الأخلاق وعلو الآداب ، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الحسن من حيث ذكر الأجرام المنسوبة إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقيق وذكر العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك ، وزعم بعضهم أن هذا من باب المشاركة وأن هذه الآية منسوخة بآية السيف وليس بشيء لأنها من باب التعريض الغير مضر وهي خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما أشرنا إليه غير مرة ، ثم ختم المكالمة بالتبري عن عمل شيء من نفسه وتفويض الأمر فيما يتعلق بينه وبينهم إلى ربه فقال ما قال له ربه «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا» نحن محمدا وأصحابه وبينكم أيها المشركون «رَبُّنا» نحن وأنتم يوم القيامة فيحاسبنا على أعمالنا «ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا» يقضي ويفصل ويحكم حكما «بِالْحَقِّ» لا ميل ولا حيف ولا جور فيه «وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ 26» بما يفتح لأنه يحكم بين خلقه بما هو الواقع الموافق لنفس الأمر أما حكام الدنيا فغاية العدل في أحكامهم الاعتماد على البينات وهي لا تخلو من زور وكذب وكتم للحقيقة خاصة في زمننا هذا ، وفي تسمية القضاء بالفتح إشارة(3/510)
ج 3 ، ص : 511
إلى وجه فصل الخصومات فتحا تشبيها لما حكم فيه بأمر مغلق كما يشبه بأمر متعقد في قولهم حلال المشكلات ، قال تعالى «قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ» بربي الواحد الأحد «شُرَكاءَ» من أوثانكم هل تقدر أن تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر ؟ قل لهم يا حبيبي «كَلَّا» لا تفعل شيئا من ذلك لأنها مفتقرة إلى من يصلحها ويحفظها من التعدي ، وإذا كانت كذلك فكيف تصلح أن تكون آلهة ، وكيف يليق بكم أن تعبدوها «بَلْ» القادر على فعل ذلك كله والمستحق للعبادة «هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ 27» فيما يفعله ويدبره «وَما أَرْسَلْناكَ» يا سيد الرسول لهؤلاء الكفرة خاصة «إِلَّا كَافَّةً» أي رسالة عامة «لِلنَّاسِ» أجمعين على اختلاف مللهم ونحلهم وألوانهم ولغتهم فكن لمن أطاعك منهم «بَشِيراً وَنَذِيراً» لمن عصاك «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 28» عموم رسالتك لمن على وجه الأرض عربهم وعجمهم فيحملهم جهلهم بذلك على مخالفتك فعرفهم هذا وعظهم ودارهم وتلطف بهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم.
وهذا من قبيل تقديم المعذرة لأن من هو في علمه كافر لا ينفعه النصح ومن هو في أزله مؤمن لا تستهويه الضلال.
مطلب عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم ومجادلة الكفرة فيما بينهم :
وهذه الآية تدل صراحة على عموم رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم لعامة الخلق راجع الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1 فيما يتعلق في هذا البحث.
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل (وأهل الكتاب لا تصح صلاتهم إلا في كنائسهم) ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة (أي العامة وإلا فكل نبي يشفع بأمته وأهل الخير يشفعون بمن يأذن اللّه لهم من خلقه خاصة) ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ، أي بداية ونهاية بخلاف رسالة سيدنا نوح راجع الآية 74 من سورة يونس المارة تجد أولها خاصة وآخرها عامة ، وكان من الأنبياء من يرسل إلى أهل بلده خاصة ومنهم من يرسل إلى أهله فقط(3/511)
ج 3 ، ص : 512
وخص محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بعموم الرسالة إلى الناس كافة.
قال تعالى «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 29» فيما تقولون وتهددونا به ، وهذه الآية في ترتيب القرآن لم توجد في أوله حتى سورة يونس ومنها إلى الأنبياء وفيما بعد مكررة كثيرا.
قال تعالى ردا عليهم يا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء المستبطئين سخطنا عليهم المطالبين بنزول ما توعد به من العذاب «لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ 30» فميعاده في الدنيا الموت إذا لم يباغتكم غيره قبله وفي الآخرة البعث ، وهاتان الساعتان المقدرتان لموتكم وبعثكم لا يمكن بوجه من الوجوه تقديمهما لحظة ولا تأخيرهما عما هو مقدر في علمنا الأزلي وإنكم بعد البعث سترون ساعة الحساب وساعة الحكم وساعة الدخول في النار لا محالة وسيشدد حزنكم عند ما تشاهدون المصدقين الطائعين يدخلون الجنة ومغبّة ما حكاه اللّه عنكم في قوله
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» قولا غير ما ذكر من الاستبطاء واشنع منه وهو قولهم جرأة على ربهم «لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ» المنزل عليك يا محمد «وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف أيضا ، قال تعالى تفظيعا لشأنهم في الآخرة وما تؤول إليه حالتهم الخاسرة «وَلَوْ تَرى » يا حبيبي «إِذِ الظَّالِمُونَ» أنفسهم بهذه الجرأة على اللّه في ذلك الموقف العظيم وأمثالهم وقد تخلى عنهم أربابهم المزيفون العاجزون «مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» الحقيقي وقد تجلى عليهم باسمه المنتقم لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه ، ولو تراهم يا أكمل الرسل حين يتلاومون على سوء صنيعهم في الدنيا إذ «يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ» فيوقع كل منهم الملامة على الآخر «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» في الدنيا وهم الأتباع الوارد ذكرهم في الآية 164 من سورة البقرة في ج 3 للذين استكبروا وهم الرؤساء الآتي ذكرهم في الآية 11 من سورة إبراهيم الآتية «لَوْ لا أَنْتُمْ» منعتمونا في الدنيا عن الأيمان بالرسل «لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ 31» بهم ولنجونا من هذا البلاء ولم يمسسنا سوء في هذا الموقف «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ» كلا لا صحة لهذا لأنا لم نصدكم(3/512)
ج 3 ، ص : 513
ولم نمنعكم عن الإيمان بالرسل «بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ 32» باختياركم ورغبتكم وقد رضيتم بالإشراك وآثرتم الكفر على الإيمان بطوعكم «وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» اعلم أن كلمة مكر هذه مضافة لمضاف محذوف وهو الضمير الذي يعود إلى الرؤساء وبحذفه أضيف لما بعده إضافة المصدر لمفعوله وعليه يكون المعنى صدنا مكركم بنا أيها الرؤساء واحتيالكم علينا وتزيين آلهتكم المزعومة لنا وتظاهركم مظهر الصادق حتى ظننا بكم أنكم على خير «إِذْ تَأْمُرُونَنا» ليل نهار صباح مساء «أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ» الواحد ونكذب الرسول الذي يأمرنا بعبادته ورفض ما سواه وأنتم تأمروننا بتكذيبهم أيضا «وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً» أمثالا على ما كان عليه آباؤنا وآباؤكم الأقدمون ، فلما سمعوا هذا منهم وقد صارحوهم به على رءوس الأشهاد سقط في أيديهم جميعا «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ» بينهما إذ ظهر ، خطأوهما ، وقيل إن فعل أمر من الأضداد فيأتي بمعنى أضمر كما مر وبمعنى أظهر ولهذا قال بعضهم إنهم أظهروا الندامة لبعضهم وعدلوا بهذا الفعل عن حقيقته إلى المجاز بحسب الظاهر وبعضهم أجراه على ظاهره كما جرينا عليه دون حاجة للعدول وهو أولى إذ لا وجود لصارف يصرفه عن حقيقته وإنما أسروا الندامة أسفا على ما فات لعدم الفائدة من إظهارها وقد بهتوا «لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» أحاق بهم لقوله تعالى «وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا» التابعين والمتبوعين وزجرا في جهنم جزاء كفرهم فانظروا «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ 33» في الدنيا من كفر وعصيان وسخرية ، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» من الرؤساء والقادة إلى الرسل «إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ 34» هذه الآية كتسلية لحضرة الرسول
مما مني به من قومه من التكذيب بما جاءهم به والاستهزاء بحضرته العالية وإن ما قاله فيه أهل مكة قاله الأمم السالفة لأنبيائهم وزيادة ، راجع الآية 118 من سورة البقرة في ج 3 إذ لم ينفرد هو وحده بذلك كما أن قومه لم يبتدعوا تلك الأقوال والأفعال الشائنة بل إنهم قلدوا من قبلهم ليهون عليهم ما يلاقيه منهم «وَقالُوا» أيضا أولئك المترفون الذين غرّهم المال والجاه والولد متبجحين على المؤمنين وغيرهم(3/513)
ج 3 ، ص : 514
«نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً» من أتباع الرسل المساكين ولو لم يكن ما نحن عليه من الدين مرضيا لما منحنا اللّه هذه النعم المترادفة ولهذا نقول لكم «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 35» في الآخرة أيضا إذا كانت هناك آخرة كما تزعمون لأنا لسنا مذلولين في الدنيا ، قال تعالى ردا عليهم «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المغبونين بما لديهم من حطام الدنيا «إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء وليس سعة الرزق دليل على الرضى كما زعمتم كما أنه ليس في ضيقه امارة على الغضب «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 36» ذلك ومنهم من تجبّر واعترض على اللّه تعالى في البسط على أناس والضيق على آخرين كابن الراوندي إذ قال :
كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصيّر العالم النحرير زنديقا
أي كافرا نافيا للصانع العدل الحكيم قائلا لو كان له الوجود لما كان الأمر كذلك فلا حول ولا قوة إلا باللّه وهو في هذا القول البذيء يعني نفسه والقائل بقوله لا كل عالم فالعالم العاقل هو من يقول :
ومن الدليل على القضاء وحكمه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والأكثر الذي عليه الناس الآن فيما قبل وبعد واللّه أعلم عدم الاجتماع بين العلم والمال غالبا قال الشافعي رحمه اللّه :
فمن أعطى الحجى حرم الغنى ضدان يفترقان أي تفرق
وذلك لحكم أرادها اللّه تعالى ولتتفرق الفضائل بين خلقه فمن فاته العز بالمال خلفه العز بالعلم وبالعكس :
رضينا قسمة الجبار فينا لنا علم وللأعداء مال
فإن المال يفنى عن قريب وإن العلم يبقى لا يزال
اللهم اجعلنا مع هؤلاء مع الكفاية ولا تجعلنا من أولئك ولا من الذي يقول :
أعطيتني ورقا لم تعطني ورقا قل لي بلا ورق هل تنفع الحكم
قال ردا عليهم أيضا «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ» أيها الناس «بِالَّتِي(3/514)
ج 3 ، ص : 515
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى »
أي تقريبا مرضيا واسم الموصول واقع على الأموال والأولاد جميعا لأن جمع التكسير يستوي فيه عقلاؤه وغير عقلائه في حكم التأنيث ولأن المجموع منها بمعنى جماعة فلذلك صح الإفراد فيه والتأنيث «إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ» هم المقربون عند اللّه الحائزون على رضانا لا المتولون الجاهدون أنفسهم بجمع الحطام فمثل هؤلاء المؤمنين الذين دعموا إيمانهم بالأعمال الصالحة «لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا» فيضاعف لهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة وإلى ما شاء اللّه «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ» الطبقات العالية من الجنان يسكنون منعّمون «آمِنُونَ 37» من كل هائل وشاغل في مقعد صدق عند مليك مقتدر «وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي» إبطال «آياتِنا» ويفسدون في الأرض معاندين لنا يحسبون أنفسهم «مُعاجِزِينَ» لا نقدر عليهم فائتين من عذابنا سابقين قدرتنا «أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ 38» من قبل ملائكتنا لا يجديهم ما عولوا عليه ولا ينفعهم ما أمّلوه «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» في وجوه البر والخير وصلة الرحم «فَهُوَ يُخْلِفُهُ» من فضله الواسع «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ 39» لأن رزق السلطان جنده والسيد مملوكه والرجل عياله من رزق اللّه تعالى أجراه على يدهم ، وقد يكون في رزقهم منّ ولا منّ في رزق اللّه.
وهذه الآية بخلاف الآية الأولى لأنها كانت ردا على الكفرة وهي عامة وخالية من الضمير بعد كلمة (يَقْدِرُ) ومن كلمة (لِمَنْ يَشاءُ) وهذه خاصة ومقيدة بلفظ من عباده وبالضمير ولشخص واحد باعتبارين والضمير فيها وإن كان بموقع المبهم إلا أن الآية الأولى خالية منه وذكره بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة التخصيص فلا تكرار لأنها مساقة للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقرب إليه تعالى بالإنفاق والأولى مساقة للرد على الكفرة.
روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال اللّه تبارك وتعالى يا ابن آدم أنفق أنفق عليك.
وعنه : ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا.
وعنه : ما نقصت صدقة من مال وما زاد اللّه عبدا بعفو إلا عزّا وما تواضع أحد للّه إلا رفعه.
قال تعالى(3/515)
ج 3 ، ص : 516
«و يوم نحشرهم جميعا» المستضعفين والمستكبرين وأوثانهم «ثمّ نقول للملائكة» لأنهم من جملة المعبودين على غير علم منهم ولا رضى «أَ هؤُلاءِ» الكفرة «إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ 40» في الدنيا استفهام تقريع وتبكيت
«قالُوا سُبْحانَكَ» لم يوالونا ولم نوالهم وإنا وإياهم من جملة عبادك «أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ» فنتبرأ إليك يا ربنا مما يفترونه علينا ويلصقون بنا ما ليس لنا به علم ولا حق والحق يا سيدنا إنهم لم يعبدوننا «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ» الشياطين الذين زينوا لهم عبادتنا فعبدونا طاعة لهم وخيّلوا لهم صورنا فصورونا على ما شاءوا من حيث لم يروننا وصاروا يعبدون تلك الصور بزعمهم أنها صورنا ، ولهذا صار «أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ» بأولئك الشياطين «مُؤْمِنُونَ 41» مصدقون أنها صور الملائكة.
مطلب ليس المراد بالجن هنا الملائكة ران إسماعيل لم يترك كتابا ، ومخاطبة حضرة الرسول الناس كيف كانت :
هذا وما قيل إن المراد بالجن هنا الملائكة قول غير سديد لمخالفته ظاهر القرآن وعدم مناسبته للواقع ولأن اللّه تعالى عبّر عن الملائكة في مواقع كثيرة بلفظ الملائكة وعن الجن بلفظ الجن فالعدول عن المعنى الموضوع للفظ عدول عن الحقيقة المرادة منه ، هذا وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية 158 من الصافات المارة فراجعه ، ومنه ومن هنا تعلم أن ليس المراد بالجن هنا والجنة هناك الملائكة ، بل الشياطين كما ذكرناه «فَالْيَوْمَ» أيها العابدون والمعبودون «لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» ويدخل في هذه الآية الملائكة دخولا أوليا لأن السياق ينوه عنهم ليعلم عابدوهم على رءوس الأشهاد ظهور عجزهم وقصورهم وخيبة رجائهم بشفاعتهم بالكلية فغيرهم من المعبودين من باب أولى.
«وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» عطف على قوله تعالى (ثم نقول للملائكة) إلخ ، ويراد بالظالمين هنا الكفرة منهم بدليل قوله تعالى «ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 42» لأن الظالمين المؤمنين لا يكذبون بالبعث ولا عذاب الآخرة ويؤيده قوله تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا» الذي يتلوها يعنون محمدا صلّى اللّه عليه وسلم(3/516)
ج 3 ، ص : 517
«إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ» من الآلهة «وَقالُوا ما هذا» الذي يزعم أنه كلام اللّه «إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً» مختلق من قبله «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ» القرآن المجيد المنزل بالحق «لَمَّا جاءَهُمْ» على لسان الرسول الحق «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 43» لأنه يفرق بين المرء وزوجه والوالدة وولدها والأخ وأخيه ، وهذا على زعمهم لما يرون أن المؤمن يترك زوجته وأمه الكافرتين والأب يهجر ابنه وأخاه الكافرين والابن أباه والأخ يعرض عن أخته وأخيه بسائق إيمانهم وقوة يقينهم مع مراعاة حقوقهم والانفاق عليهم وطاعتهم فيما عدا الشرك ، راجع الآية 15 من سورة لقمان المارة لا بما يزعمونه ، قال تعالى «وَما آتَيْناهُمْ» هؤلاء الكفرة «مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها» قبل كتابك هذا يا سيد الرسل «وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ 44» ينذرهم بأس اللّه ويخوفهم عذابه ويحذرهم مما هم عليه لأن إسماعيل عليه السلام لم يتجرد للنذارة ويقاتل عليها قومه ولم يترك لهم كتابا يتدارسونه بينهم بعده كأهل الكتابين ويتبعون ما فيه ولم يرسل إليهم رسول بعده يأمرهم وينهاهم ويبلغهم أحكام دينهم إلا محمد عليه الصلاة والسلام «وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الرسل أيضا مثلهم كثمود كذبت صالحا وعاد كذبت هودا وأصحاب الأيكة شعيبا «وَما بَلَغُوا» قومك هؤلاء «مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ» أي المكذبين الأقدمين لرسلهم السابقين من القوة وطول العمر والنعم والأموال والأولاد «فَكَذَّبُوا رُسُلِي» وجحدوا آياتي على كثرة انعامي عليهم مادة ومعنى «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ 45» للمكذبين السالفين وكيف كان عقابي لهم على تكذيبهم كان شيئا عظيما فلو رأيتموه يا أهل مكة لرأيتم أمرا فظيعا وقد قصصناه عليكم أفلا تتعظون بهم وتخافون سوء عاقبتكم وأن يحل بكم ما حل بهم
من العذاب ، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهم «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أي لا أرشدكم بخصلة واحدة هي ملاك الأمر وقوامه وهي «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى » اثنين اثنين «وَفُرادى » واحدا واحدا «ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» فيما بينكم وبين أنفسكم فتتناظروا وتتحاوروا ثم يعرض كل منكم نتيجة فكره على صاحبه حتى إذا ظهر لكم يقينا من النور الذي يحصل من(3/517)
ج 3 ، ص : 518
مصادمة أفكاركم أنه «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» كما تزعمون بادىء الرأي وتعلمون حقا أنه من أكملكم وأعقلكم وأرحمكم و«إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ 46» تعجز عنه قواكم ليس إلا وعرفتم أنه لا يريد إلا نجاتكم منه آمنتم به وصدقتموه إن كان لكم عقول تنتفعون بها ، لأنكم ما جرّبتم عليه كذبا طيلة هذه المدة ، ومن كان لا يكذب على الناس فهو أجدر أن لا يكذب على اللّه ، لا سيما وقد علمتم أنه من أحسن قريش أصلا ، وأزكاهم قولا وأعلاهم حسبا ، وأصدقهم لهجة ، وأوزنهم حلما ، وأحدهم ذهنا وأرضاهم رأيا ، وأذكاهم نفسا ، وأشرفهم نسبا ، وأجمعهم لما يحمد عليه ويمدح به ، وأبعدهم عما يلام عليه ، وهو أرجحهم عقلا ، وأوضحهم خطابا ، وأقواهم حجة ، وأوفاهم برهانا ، وأكملهم كتابا ، وأنصحهم بيانا ، وأعدلهم دليلا ، يظهر لكم من هذه الخصال التي لا تنكرون شيئا منها إذ أجمعت كلمتكم على تسميته بالأمين.
إنكم مخطئون بما تصمونه به من الجنون والسحر والكهانة واعلموا أن إلحاحه عليكم بالإيمان ما هو إلا حبا بكم وحرصا عليكم من أن ينالكم غضب اللّه وخشية من إيقاع عذابه بكم ليس إلا ، فيا حبيبي يا محمد «قُلْ» لهم «ما سَأَلْتُكُمْ» على هذا النصح والإرشاد «مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» هذا جواب شرط محذوف تقديره أي شيء سألتكم من جعل عليه فهو لكم ، والمراد منه في السؤال رأسا ، كقولك لصاحبك إن أعطيتني شيئا فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا فما هنا شرطية واقعة مفعولا لسألتكم «إِنْ أَجْرِيَ» على التبليغ في الإنذار ما هو «إِلَّا عَلَى اللَّهِ» وحده لا عليكم «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 47» ومن جملة الأشياء التي هو شهيد عليها عدم طلبي جعلا منكم على نصحكم وإنما أرجو عليه ثوابا من اللّه الذي أرسلني إليكم «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ» فيرسل الوحي من السماء إلى رسوله على لسان أمينه جبريل عليه السلام ، ومعنى القذف الرمي بشدة والدفع بالقوّة ، ويراد منه هنا الإلقاء والتنزيل ، وهو موافق للمعنى المراد لأنه من العلي الأعلى إلى عبده «و هو عَلَّامُ الْغُيُوبِ 48» خفيات الأمور وبواطنها «قُلْ جاءَ الْحَقُّ» الذي لا أحق منه وهو القرآن الذي جاء بالتوحيد والإسلام «وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ» بعد(3/518)
ج 3 ، ص : 519
ظهور الحق ووضوحه بشيء يقبل بل يذهب ويضمحل ولم يبق له إبداء أمر ما ابتداء «وَما يُعِيدُ 49» فلم يبق له إعادة أي فعل ثانيا وهذا المعنى مأخوذ من الهلاك وهو الموت فإن الحيّ إذا مات لم يبق له إبداء شيء ولا إعادته كما تقول لا يأكل ولا يشرب وتريد أنه ميت ، قال عبيد بن الأبرص :
أقفر من أهله عبيد فاليوم لا يبدي ولا يعيد
وقال بعضهم إن المراد بالباطل هنا إبليس أي انه لا يبدي لجماعته خيرا ولا يعيده لهم وانه لا يخلق أحدا ابتداء ولا يعيده إذا مات لأن الباطل هو الصنم الذي لا ينفع ابتداء ولا يضرّ انتهاء وما جرينا عليه أليق بالمقام وأنسب بالمقال واللّه أعلم.
ولما قال الكفرة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم قد ضللت بتركك دين آبائك أنزل اللّه ردا عليهم بما فيه تقرير الرسالة أيضا بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الزائغين الطائشين «إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي» ويكون وباله عليها لأن النفس الكاسبة للشر الأمارة بالسوء تنال جزاءها ، وهذا من باب التقابل لمثل كلامهم وإلا فالضلال عليه محال ولذلك جاء بأن التي هي للشك ونسب الضلال للنفس لأنها مجبولة على السوء «وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» من الحق الذي شرفني به والتوفيق الذي منحني إياه «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالي مجيب لدعائي «قَرِيبٌ 50» مني ومن خلقه أجمع لا يخفى عليه شيء من أحوالنا فيجازي الضال منا ويثيب المهتدي إذا شاء ،
ثم التفت إلى حبيبه وخاطبه بقوله عزّ قوله «وَلَوْ تَرى » يا حبيبي «إِذْ فَزِعُوا» هؤلاء الضّلال عند بعثهم من قبورهم وقد غشيهم الخوف والوجل وأخذتهم الدهشة وصاروا بحالة لا يعلمون ما يفعلون ولا يعون ما يتكلمون ولا يعرفون ما يشاهدون ولا يدرون أين يذهبون ، وإذ ذاك «فَلا فَوْتَ» لأحد منهم من اللّه ولا نجاة من عذابه ولا مهرب من عقابه ولا خلاص من حسابه «وَأُخِذُوا» من قبل ملائكة العذاب «مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ 51» من الأرض من تحت أقدامهم أو من الموقف الذين هم عليه وسيقوا إلى جهنم وزجّوا فيها جماعات ووحدانا لرأيت أمرا مزعجا أهابك مرآه وشيئا فظيعا وددت أن لا تراه «وَقالُوا» وهم في العذاب وقد عرفوا أن عقابهم هذا بسبب عدم الإيمان بك(3/519)
ج 3 ، ص : 520
وبكتابك وبربك «آمَنَّا» الآن «بِهِ» بذلك كله وطلبوا العودة إلى الدنيا ليقروا بإيمانهم لديك ، ولكن فاتهم هذا إذ تركوه وراءهم «وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ» لهذا الإيمان في الآخرة وقد فات وقته في الدنيا ولا يمكن العودة إليها ليتمكنوا من تناول ما يريدونه «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ 52» عنها إذ لا بعدا أبعد مما بين الدنيا والآخرة وكان تناول الإيمان في الدنيا قريبا منهم فأهملوه ، والتناوش هو التناول عن قرب بسهولة قال الراجز :
فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
وقال بعضهم إن التناوش أرادوا به الرجوع إلى الدنيا واستدل بقول الأنباري :
تمنى أن تؤوب إلي مي وليس إلى تناوشها سبيل
أي رجوعها ، وعليه فلا مانع من تأويل التناوش هنا بالتئاول أيضا ويصح المعنيان أي كيف يتمكنون من تناوش الإيمان «وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» في الدنيا لمّا كان ذلك ممكنا وقد جحدوه بطوعهم ورضاهم في الدنيا «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ» أي يقولون رجما بالغيب بأن محمدا كاذب وأن اللّه لم ينزل كتابا عليه وأن للّه شركاء وأن الأوثان التي يعبدونها تنشفع لهم وأن لا بعث ولا حساب ولا عقاب وأن الملائكة بنات اللّه وأن محمدا ساحر كاهن وأنه لا جنة ولا نار وقولهم هذا «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» 53 عن الصدق وهو ناشىء من جهلهم باللّه ومن مجرد ظنهم الفاسد ووهمهم الخائر ، والمراد بهذه الآية تعظيم ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم على ما هو عليه من الصدق والأمانة ولأن كفرهم بشيء لا يعلمونه كالبعث بعد الموت وما بعده من أمور الآخرة وقد غرتهم الدنيا بشهواتها «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» الآن من الرجوع إليها ليؤمنوا ويصدقوا بما جاءهم به نبيهم ويوحدوا اللّه ويتوبوا مما كانوا عليه ويعملوا صالحا ليتمتعوا بالجنة ذات النعيم الدائم كغيرهم من المؤمنين ، وقد أنهكهم الندم على ما فاتهم في الدنيا من الإيمان الذي سبب حرمانهم من النعيم وأوصلهم إلى عذاب الجحيم ، واللّه تعالى يعلم أنه لو أجاب طلبهم لما فعلوا ، قال تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 28 من الأنعام المارة ، لهذا لم يجب طلبهم وفعل بهم فعلا فظيعا «كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ»(3/520)
ج 3 ، ص : 521
نظرائهم من الكفار إذ لم يقبل طلب أحد منهم ولا إيمانه ولا توبته ولا تأخير العذاب عنه «مِنْ قَبْلُ» في الدنيا حال يأسهم منها ولم يؤخر اللّه عذابا نزل على أحد ولم يقبل توبته حال اليأس أو البأس إلا قوم يونس في الدنيا راجع الآية 98 من سورته المارة تقف على الأسباب الداعية لذلك.
أما في الآخرة فلا يجاب طلب أحد ما من ذلك كله أبدا لأنهم جنوا على أنفسهم بإضاعة الفرصة بالدنيا وقد أخبروا فيها من قبل أنبيائهم أن لا مجال في الآخرة بقبول شيء من ذلك البتة حيث «إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ» من وجود هذا اليوم ولم يصدقوا الرسل به بل كانوا في ريب «مُرِيبٍ 54» لشدة إنكارهم وجحودهم وعدم التفاتهم إلى نصح الرسل واتهامهم لهم بالكذب فكان جزاؤهم اليوم على أفعالهم في الدنيا لا دافع له ولا مؤخر وقد جف القلم به فتقطع أفئدتهم من سماع هذا الكلام ويكثر صياحهم في النار وحسرتهم على تفريطهم.
هذا ، ولا يوجد سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه ، هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
تفسير سورة الزمر
عدد 9 - 59 - 39
نزلت بمكة بعد سورة سبأ عدا الآيات 52 و53 و54 فإنهن نزلن بالمدينة ، وهي خمس وسبعون آية والف ومئة واثنتان وسبعون كلمة ، وأربعة آلاف وتسعمئة وثمانية أحرف وتسمى سورة تنزيل ، ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ، ومثلها في عدد الآي الأنفال فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : هذا «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر مقدر وبالنصب على أنه مفعول لفعل مقدر أي اقرأ هذا التنزيل الذي ينزل عليك يا محمد من قبل ربك من القرآن المدون في اللوح المحفوظ الثابت في أزلنا والذي قدر قديما إنزاله عليك «مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 1» الذي يجري أمره وينفذ نهيه بمقتضى الحكمة بلا مدافع ولا ممانع ، واعلم يا سيد الرسل «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» هذا «الْكِتابَ بِالْحَقِّ»(3/521)
ج 3 ، ص : 522
الصريح الواضح وبمقتضاه «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ 2» من شوائب الشرك والرياء ، وهذا مما يراد به غيره صلى اللّه عليه وسلم من أمته لأنه لا شك بإخلاصه وبعده من الإشراك ولا مانع بأن يخاطب الأمير ما يراد به من الجند لأن الملك لا يولي أميرا إلا وهو يعتقد حزمه وأمانته وقد يحذره الهرب والخيانة أمام جنده ليكون أبلغ إمضاء فيهم «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» من كل شائبة الكامل الذي لا أكمل منه «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» سخفا بعقولهم يقولون «ما نَعْبُدُهُمْ» لذاتهم «إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى » يتمكنون به من الشفاعة لهم مع أنهم شابوا عبادة اللّه بعبادتهم ، فاتركهم يا حبيبي الآن ولا تتعرض لهم بأكثر من النصح والترغيب «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» وبين معبوديهم عند ما يأمرك بقتالهم وقسرهم على الإيمان كما يفصل بينك وبينهم يوم القيامة وحذف الثاني بدلالة الأول عليه قال النابغة :
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليالي قلائل
أي بين الخير وبيني وقال بعض المفسرين بينهم وبين المخلصين بالعبادة للّه ويقرّب المعنى الأول قوله جل قوله «فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» لأنهم يوم القيامة يجحدون عبادتهم ويتبرأون منهم ويصير بينهم الرد والبدل في تكذيب بعضهم راجع الآية 41 من سورة سبأ والآية 44 من سورة الصافات والآية 130 من سورة الأنعام المارات والاختلاف على القول الثاني يكون في أمر التوحيد وأمر الشرك وادعاء كل صحة ما اتصف به ونتيجة حاله في إدخال المؤمنين الجنة والمشركين النار والكل جائز.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ» بقوله إن الأصنام تشفع له أو تقربه من اللّه لأنه كذب محض ولذلك وصفه بقوله «كَفَّارٌ 3» كثير الكفر وإنما دحضه بلفظ المبالغة لأنه كفر من وجوه : جحود وحدانية اللّه واثبات الشريك له واتخاذه ربا دونه ، ومن كان هذا شأنه فالهداية لا تناله لأنه غير قابل لها واللّه تعالى لا يفيض القوابل إلا بحسب القابليات كما يشير إليه قوله عز قوله (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) الآية 50 من سورة طه في ج 1 وقوله (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الآية 84 من سورة الإسراء ج 1 أيضا وقولهَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
الآية 33 من سورة النحل(3/522)
ج 3 ، ص : 523
الآتية لسيىء استعداده على قبول الضلال وعدم استعداده لقبول الهدى ختم عليه بذلك لأنه خلقه كذلك.
قال تعالى (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) الآية 7 من الشورى الآتية وهذا من الأزل ، لأنه حينما خلق الخلق قال هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : كل ميسر لما خلق له تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
فهو الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) الآية 7 من سورة السجدة الآتية ، وهو الذي لا يسأل عما يفعل.
قال تعالى «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» كما يزعمون ، تعالى عن ذلك «لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ» لا منازع له ولا معارض ولكنه لم يرد فامتنع أن يقال اتخذ ولدا «سُبْحانَهُ» تنزه عن ذلك وتقدس عما لا يليق به «هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ» في ملكه المبرأ عن انضمام الأعداد والمتعالي عن التجزي والولاد «الْقَهَّارُ 4» لكل شيء المحتاج إليه كل شيء ، وهذه مسوقه لتحقيق الحق الذي هو تنزيهه جل شأنه عن ذلك وإبطال القول بأن الملائكة بناته ، ويدخل فيه ما نسبه أهل الكتابين من بنوّة عيسى وعزير عليهما السلام مضاهاة للعرب الذين نسبوا بنوة الملائكة إليه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا وتقدس تقديسا عظيما ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا ، ومن هذا الباب نعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه مطلقا ، وحاصل معنى الآية واللّه أعلم :
لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ.
لكن لا يجوز على الباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض المكنات على بعض ، وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الإلهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ، ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله (لَاصْطَفى ) تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه تنزه عن ذلك ، فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم واثبات الملزوم دون صعوبة.
واعلم أن اتخاذ الولد يقتضي التبعيض وانفصال شيء من شيء ويقتضي المماثلة أيضا بين الولد والوالد ، هذا وإن الوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعيض والانفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواطى الحكم ، وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية(3/523)
ج 3 ، ص : 524
سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه الجبائي وأضرابه من قدماء المعتزلة وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية ، أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه.
هذا ويفهم من لفظ القهار الذي ختمت به هذه الآية الزجر والتهديد لأولئك المتخذين إلها غير اللّه الناسبين إليه الولد ، وفائدة هذا الزجر والتخويف ليرتدعوا عن القول بذلك وإنما اقتصر على التهديد فقط مع أنهم يستحقون أكثر منه لأن علاج الرجل المصر على بطله أن تأتي له بما يزيل الإصرار عن قلبه حتى يسمع الدليل ويعيه فيفضي إلى المقصود ، ولهذا فإن الطبيب يتقدم إلى المريض أولا يسقى بشيء منضج ليفتت ما في أمعائه ثم بالحقنة لإخراج تلك الفتات التي كانت متحجرة فيها ثم بالمسهل لإفراغ تلك الأمعاء وتطهير المعدة مما كان فيها إذ لو أعطاه المسهل رأسا لما نفعه بل قد يضره لأن المواد الفاسدة اليابسة لا يؤثر عليها وإذا لم تخرج هذه لا يتيسر لمسهل التطهير بل قد لا يتيسر له الخروج أيضا فتمتلىء الأمعاء فتتلاشى ويحصل الموت بالأجل المقدر على هذا ، فإجراه التهديد أولا يجري مجرى المنضج والتفتيت واسماع الدليل بعده يجري مجرى الحقنة وقبول ذلك يجري مجرى المسهل تدبر.
قال تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» خلقا مشتملا على الحكم والمصالح بالعدل والصواب «يُكَوِّرُ» يلف ويغيّب ويغشي «اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ» إذا طرأ عليه ، إذ يضمحل فيه ولا يبقى له أثر «وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ» إذا حدث عليه فيفعل فيه ما فعل فيه التكوير هو اللف واللّي يقال كار العمامة وكوّرها على رأسه إذا لفها ولواها شبه سبحانه تغيب أحدهما بالآخر بشيء ظاهر غشيه ما غيبه عن الرؤية بحيث يلبسه مكانه لاشتماله عليه ، ومن قال إن المعنى يحمل أحدهما على الآخر فتحصل الزيادة والنقصان فيهما فقول لا يتجه هنا بل يكون في تفسير قوله تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآية 13 من سورة فاطر المارة في ج 1 ، ونظيرها في الآية 27 من آل عمران والآية 6 من سورة الحديد في ج 3 ، ولا يخفى أن الإيلاج غير التكوير(3/524)
ج 3 ، ص : 525
لفظا ومعنى «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» عنده وسيبقى هذا الجريان مستمرا حتى إذا أراد خراب هذا الكون فرطه ، وكما أن هذا الجريان لأجل معين فهو لمكان معين وبطريق معروف أيضا لا يزيغ عنه قيد شعرة وبانتظام تام على مر الأعوام فسبحانه من مدبر مبدع علام ، فانتبهوا أيها الناس لهذا الإله «أَلا هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب كامل القدرة لا مثيل له «الْغَفَّارُ 5» كثير المغفرة واسع الرحمة عظيم الفضل كثير الإحسان لمن تفكر واعتبر بمصنوعاته ، كما أنه قاصم الرقاب ومهلك ألباب من لم يتعظ ويتدبر بآياته ومبتدعاته فهو الإله الواحد العظيم الذي «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» حواء رضي اللّه عنها لأنه خلقها من ضلعه فهو من تراب وهي من عظم ولحم ودم وسائر الخلق من النطف والتكوين سبحانه نوع خلقه أربعة أنواع متقابلة ، خلق آدم بلا أب ولا أم وحواء من أب بلا أم وعيسى من أم بلا أب وبقية البشر من أب وأم «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» لما كانت الأنعام لا
تعيش إلا بالنبات ، والنبات لا يقوم إلا بالماء ، والماء ينزل من السماء ، قال تعالى (وَأَنْزَلَ) أي أحدثها وأنشأها بأسباب نازلة من السماء كالأمطار والثلوج وأشعة الكواكب الناشئ عنها العشب الذي تقتات به الحيوانات ، وهذا على حد قوله تعالى (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الآية 26 من الأعراف في ج 1 ، لأن اللباس نفسه لم ينزل من السماء وإنما أنزل الماء فأنبت القطن وغيره من كل ما ينسج والنبات الذي غذى متنه الحيوان الذي يحصل منه الصوف والشعر والوبر وغيره وأنعش دود القز وشبهه الذي يحصل منه الحرير وغيره فاتخذت الألبسة منها ، وقال بعضهم معنى (أَنْزَلَ) قضى وحكم وقسم ، وأراد بأن قضاء اللّه تعالى وقسمه يوصف بالنزول من السماء لأنهما مدونان باللوح المحفوظ وكل ما يقع في الكون فهو نازل مما هو مكتوب فيه ، وهو كما ترى «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» تقدم بيانها في الآية 143 من سورة الأنعام المارة «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» أنتم وأنعامكم وغلب في الخطاب من يعقل على من لا يعقل لشرفه عليه.
واعلم أن مخلوقات اللّه تعالى ما يكونه تكوينا فيكون بنفسه من غير البطن وهذا داخل في لفظ الخلق ويكون(3/525)
ج 3 ، ص : 526
خلقه تدريجا حتى يكمل فيدخل في قوله تعالى خلقا من بعد خلق أما الإنسان وقسم من الحيوان فيكون «خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» في الرحم المشتمل عليه البطن من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم وعظم «فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وهي الجلدة الرقيقة التي تشتمل على الجنين «ذلِكُمُ» أيها الناس الذي يفعل هذه الأشياء وغيرها مما لا يطيق على جزء بعضه أعظم البشر ولو كان بعضه لبعض ظهيرا هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ» كله وحده «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» الذي لا يستحق العبادة غيره فهو المعبود الحق «فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 6» أي كيف تعدلون عن الحق إلى الباطل بعد أن اتضح لكم.
ولهذا البحث صلة في الآية 12 من سورة المؤمنين الآتية والآية 4 من سورة الحج في ج 3 ، واعلموا أيها الناس أنكم «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ» وأنتم محتاجون إليه «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» لأنه يؤدي بهم إلى النار ، ولذلك ينهاهم عنه ويرضى لهم الإيمان المؤدي إلى الجنان ولذلك يأمرهم به ، والرضى بالشيء مدحه والثناء عليه واللّه تعالى قد ذم الكفر وقبحه وحبذ الإيمان ومدحه ، والفرق بين الإرادة والرضى ظاهر وإن إرادته منهم لا يعني أنه أمرهم به أو رضيه عنهم ، راجع الآية 149 من سورة الأنعام المارّة وما ترشدك إليه تقنع «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (يقرأ باختلاس ضم الهاء حتى يرضه لا بالإشباع) لأن في الرضا نجاتكم من العذاب وفوزكم بالجنة ، ويفهم من هذه الآية أن اللّه تبارك وتعالى أراد بالشكر هنا الإيمان لمجيئه بمقابلة الكفر ، غير أنه إذا فسر الكفر فيها بكفران النعمة والشكر بشكرها أولى لأن الآية عامة وابقاء اللفظ على عمومه أولى من تخصيصه بدون صارف يصرفه عن عمومه ولكن لم أر من قال به ولذلك قدمنا ما عليه الجمهور والاتباع خير من الابتداع «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » تقدم تفسيرها في الآية 18 من سورة فاطر والآية 38 من سورة والنجم في ج 1 والآية 164 من سورة الأنعام المارة «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» في الدنيا ويجازيكم عليه دون حاجة إلى سؤال أو اعتراف أو شهود «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 7» ومن كان عالما بخفيّات الأمور(3/526)
ج 3 ، ص : 527
وسرائرها فهو بعلانيتها وظواهرها أعلم «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ» من كل ما يتضرر به الإنسان أو يتألم منه مادة ومعنى «دَعا رَبَّهُ مُنِيباً» راجعا خاضعا خاشعا مستغيثا «إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ» أعطاه وأعاره وراعاه ومعنى خوّله جعله ذا خول أي عبيد وإماء وخدم وأصله تعهد الشيء والرجوع إليه مرة بعد أخرى والمحافظة عليه وأطلق على العطاء «نِعْمَةً مِنْهُ» تفضلا منه لا لغرض ولا لعوض «نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» وهو الضر وترك الدعاء أيضا بكشفه ، ولم يكتف بهذا الصدود عن ذلك المنعم بل مال إلى الافتراء عليه «وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا صيرها آلهة معه ولم يقتصر على ضلاله بل عمد «لِيُضِلَّ» غيره «عَنْ سَبِيلِهِ» الحق القويم ، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهذا الكافر وهو على ما قيل عتبة
بن ربيعة أو حذيفة المخزومي «تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا» في هذه الدنيا الفانية لأنها بالنسبة للآخرة قليل ومهما عاش بها ابن آدم أو ملك منها فهو قليل وقد تهون بعين المؤمن إذ يرجو عند ربه خيرا منها وتعظم بعين الكافر لكونه صفر اليدين في الآخرة إذ يقال له فيها «إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ 8» أجارنا اللّه منها ، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه ومن قال بأنها نزلت في أحد المذكورين فقوله لا يخصصها لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ كما أن قوله تعالى «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» عامة أيضا في كل من كان ديدنه ذلك.
وما جاء أنها نزلت في أبي بكر أو عمر أو عثمان رضي اللّه عنهم وكلهم أهل لأن ينزل فيهم قرآن وأن يوصف بما في هذه الآية لا يخصصها أيضا «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» استفهام إنكاري أي لا يستوون عند اللّه وعند عقلاء الأمة لأن العالم من ينتفع بلبّه لقوله تعالى «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ 9» بآيات اللّه والجهال لا قلوب لهم حيّة تعي ذلك فلا يتذكرون ولا يذكرون.
مطلب في الخوف والرجاء والتعريض بالهجرة لمن ضاقت به أرضه :
يستدل من هذه الآية أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى اللّه تعالى لأنه أضيف في هذه الآية الحذر في مقام الخوف للنفس الإنسانية ، وأضيفت الرحمة(3/527)
ج 3 ، ص : 528
في مقام الرجاء إلى الحضرة الربانية ، ويؤيد هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت (أي محتضر) فقال له :
كيف تجدك ؟ قال أرجو اللّه يا رسول اللّه وأخاف ذنوبي ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه تعالى ما يرجو وآمنه مما يخاف - أخرجه الترمذي - فيجب على المؤمن أن يكون دائما بين الخوف من عقاب اللّه بالنظر لتقصيره تجاهه والرجاء لرحمته بالنظر لواسع فضله ، وفي حالة الصحة يرجح الخوف على الرجاء ، وفي حالة الشدة يغلب الرجاء على الخوف ، ولا ينبغي أن يبالغ في الرجاء فإنه إذا جاوز حده يكون أمنا واللّه تعالى يقول (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الآية 99 من سورة الأعراف المارة في ج 3 ، ولا يبالغ في الخوف فإنه إذا جاوز حده يكون يأسا وقال اللّه تعالى (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) الآية 87 من سورة يوسف المارة ، وافتتح اللّه تعالى هذه الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات وهو البداية في سلوك طريق اللّه السوي والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية لبلوغ المقصد العلي فإذا حصلا للإنسان دل ذلك على كماله وفضله ، قال تعالى «قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ» بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فإن «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» العمل بعد الإيمان والتقوى «فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» عظيمة في الآخرة لا مثيل لها ولا توصف لأنها من قبل من ليس كمثله شيء «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» لا تضيق بكم فإذا رأيتم جورا في قسم منها فاتركوه وانزلوا غيره ، وهذه أول آية عرّض اللّه بها إلى رسوله بالهجرة من مكة لأنها ترمز إلى أنه إذا لم يتمكن الإنسان من فعل الإحسان الذي أمره ربه به في وطنه فليهجرها ويهاجر إلى غيرها من بلاد اللّه تعالى مما يمكنه إجراء ما أمر به من العبادة كما فعل الأنبياء والصالحون من قبل إذ تركوا أوطانهم التي أهينوا فيها لأجل اللّه وتوطنوا غيرها ، فلا عذر لكم بأن
لا تحسنوا في أعمالكم وأقوالكم بسبب بقائكم بأرض يمنعكم أهلها من ذلك ، واصبروا على مبارحة دياركم ومفارقة تعلقاتكم من أهل ومال وجاه ونشب وعشيرة «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ» عند اللّه الذين صبروا من أجله «بِغَيْرِ حِسابٍ 10» بشيء كثير(3/528)
ج 3 ، ص : 529
لا يعرف حسابه ولا يهتدي إليه حاسب ، وذلك لأنهم صبروا على الجلاء طاعة للّه تعالى وطلبا لازدياد فعل الخير ولئلا يفرطوا بأوقاتهم دون أن يقدّموا للّه تعالى بها حسنات ، قال علي كرم اللّه وجهه : كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابر فإنه يحثى له حثيا.
وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما يذهب به أهل البلاء من الفضل.
وهذه الآية عامة مطلقة محكمة ولا تزال كذلك إلى آخر الزمان ، وما جاء من الآثار بأنها نزلت في سيدنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة لأرض الحبشة لا يقيدها ولا يخصصها لما تقدم آنفا في الآية 8 و10 ، وعلى هذا فإنه يجب على كل من لم يتمكن من القيام بأمر دينه كما ينبغي في بلدة ما أن ينتقل إلى غيرها لإقامة شعائر دين اللّه كما هو مفروض عليه ولا عذر له بالتفريط لأن اللّه تعالى لم يضيق عليه ولم يقسر خلقه على الإقامة في بلد واحد بل وسع عليهم بالنقلة وجعلهم بالخيار ، فأي قرية أراد الإقامة فيها لأمر دينه ودنياه أيضا فله ذلك وجاء في الخبر عن سيد البشر أن من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة.
فعلى العاقل البصير المتفكر أن لا يصغي لوساوس الشيطان من تخويفه بضيق العيش قال تعالى (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) الآية 100 من سورة النساء في ج 3 ، ولهذا البحث صلة واسعة في تفسيرها وفي الآية 55 من سورة العنكبوت الآتية إن شاء اللّه القائل
«قُلْ» يا سيد الرسل «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ 11» وحده لا لغيره ولا تكرار في هذه الآية لأن الأولى خطاب من اللّه إلى رسوله ، وهذه أمر من اللّه إليه بأن يفهم قومه غاية عبادته وأن يقول لهم أمرت بالإخلاص لعبادته فأخلصوا أنتم العبادة إليه «وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ 12» من هذه الأمة كما كان جدي إبراهيم عليه السلام راجع الآية 163 من سورة الأنعام المارة والآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 ، فاتبعوني وأسلموا للّه تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة ، «قُلْ» يا سيد الرسل «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» في هذه الدنيا بعدم تبليغكم ما أمرني به «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 13» وهو يوم القيامة الذي لا أعظم منه هولا ، (3/529)
ج 3 ، ص : 530
وقدمنا في الآية 15 من سورة الأنعام نظير هذه الآية وانها نزلت حين قال كفار قريش لحضرة الرسول ما حملك على ما أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها ليجتمع عليك فخذك وعشيرتك ومن والاهم فأنزل اللّه هذه الآية وفيها مزدجر عظيم لمن ألقى السمع لمعناها وكان له قلب يعي مغزاها لأنه صلّى اللّه عليه وسلم مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته وعلو مقامه ومنصبه خائف حذر من هول ذلك اليوم ووجل مما يكون فيه فكيف بنا يا ويلنا إن لم يرحمنا اللّه ، ثم أكد عليه ربه بقوله «قُلِ» لقومك الذين يريدونك على دينهم الباطل لا أتبع أهواءكم وإنما أعبد «اللّه مُخْلِصاً لَهُ دِينِي 14» لا أرغب في عبادة شيء غيره وإن ما يعبده آبائي وقومي باطل وإنكم على ضلال باتباعهم ، أخبر اللّه سبحانه في هذه الآية أنه صلّى اللّه عليه وسلم يخص اللّه وحده بعبادته ويخلص لجلاله دينه ، وفي الآية الأولى أي الثانية بالنسبة للآية التي بصدر هذه السورة أنه مأمور بالعبادة والإخلاص للّه تعالى فلا تكرار أيضا لأن الكلام أولا واقع في نفس الفعل وإتيانه ، وثانيا فيما يفعل الفعل لأجله ، ولهذا رتب عليه قوله جل قوله «فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ» ففيه الخسار العظيم والوبال الشديد عليكم ، وهذه الجملة فيها تهديد ووعيد وليست من باب الأمر بل من باب التبليغ والزجر يدل عليه قوله عز قوله «قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» فهولاء الكاملون في الخسران الجامعون لوجوهه وأسبابه باختيارهم الكفر ورضاهم به وقد وصف اللّه تعالى خسرانهم بغاية الفظاعة بقوله سبحانه تنبيها لاجتنابه «أَلا ذلِكَ» الخسران المزدوج «هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ 15» لأن أهله استبدلوا الجنة بالنار والدرجات بالدركات في الآخرة كما استبدلوا الطاعة بالعصيان والتصديق بالجحود في الدنيا ثم بين
نوعا من هذا الخسران فقال «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ» أطباق وأعطية «مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» فراش ومهاد ، وهذا من باب اطلاق اسم الضدين على الآخر لأن الظلل لا تكون من تحت بحال من الأحوال لمعلوميتها كما تقول (خرق الثوب المسمار) برفع الثوب ونصب المسمار لمعلوميته أيضا إذ لا يكون الثوب خارقا للمسمار بحال ما البتة.(3/530)
ج 3 ، ص : 531
مطلب المراد بالتخويف للمؤمنين والأخذ بما هو أحسن وأنواع البشارات للمؤمن :
«ذلِكَ» العذاب الشديد «يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ» المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتخويف ، فإذا سمعوا ما نعى اللّه من حال الكفار في الآخرة الذين رجحوا الباطل على الحق وأهلكوا أنفسهم وأهليهم الذين اتبعوهم على ما هم عليه اشتدّ وجلهم وأكثروا من إخلاصهم لربهم وبالغوا في توحيده وداوموا على طاعته وأكثروا من تمجيده ، ولهذا فإنه تعالى قد شرفهم بإضافتهم لذاته المقدسة فناداهم حرصا عليهم «يا عِبادِ فَاتَّقُونِ 16» واجعلوا خشيتي نصب أعينكم ولا تتعرضوا إلى سخطي فقد حذرهم نفسه بعد أن خوفهم ناره التي وعدها لعصاته ، وقال بعض المفسرين إن التخويف خاص بالكافرين طلبا للإيمان به ، ولكن ما جرينا عليه أولى لئلا يختلف المراد من الجملة الثانية عن الأولى إذ لا شك أن المراد بالثانية المصدرية (يا عِبادِ) المؤمنين خاصة كالآية الأولى ونظيرها الآية 41 من سورة الأعراف في ج 1 ، وقال بعض المفسرين : المراد بالآية المؤمنون والكافرون ، وهو وجيه لولا إضافة التشريف والاختصاص لجنابه المنيع ، وهناك قول بأن الإضافة لا تختصّ بالمؤمنين فقط وإن كان فيها ما فيها من التشريف الذي يختص به المؤمنون غالبا لأن الكل عباده وقد استدل صاحب هذا القول بقوله تعالى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) الآية 5 من سورة الإسراء في ج 1 ، وهم ليسوا بمؤمنين وقد بينا المراد بها فراجعها ، قال تعالى «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها» تباعدوا عن عبادتها لأن أن وما بعدها في تأويل المصدر والطاغوت مبالغة الطغيان راجع الآية 74 من الأنعام المارة ، فتجافوا عنها «وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ» رجعوا بكليتهم إليه وتركوا تقليد آبائهم بعبادتها عن رغبة وإخلاص فهؤلاء «لَهُمُ الْبُشْرى » من قبل رسلهم بالجنة عن إيمانهم ومن قبل المؤمنين بالثناء عليهم بالأعمال الصالحة في الدنيا وتبشرهم الملائكة بثوابها
عند موتهم فتقرّ أعينهم وفي قبورهم أيضا تبشرهم بالأمن من عذابها وفي الموقف عند بعثهم تتلقاهم بالبشارة بالخلاص من هوله وفزعه وبعد الحساب تبشرهم بالفوز والنجاة وعند الصراط تبشرهم بالسلامة وعند دخول الجنة تبشرهم بالدرجات العالية ، اللهم اجعلنا منهم.
ثم خاطب حبيبه بقوله يا سيد(3/531)
ج 3 ، ص : 532
الرسل «فَبَشِّرْ عِبادِ 17» ثم خصّهم بقوله «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» مطلق عام في كل قول ولا وجه لتخصيصه بالقرآن العظيم كما ذكره بعض المفسرين بلا دليل يستند إليه «فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» مدحهم اللّه جلّ مدحه لتمييزهم بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم ما هو واجب فعله وما هو مندوب اختاروا الواجب ، وإذا اعترضهم مكروه ومباح اختاروا المباح ، وكذلك يختارون ما هو أكثر ثوابا ، فيتركون الانتقام لأنفسهم ممن ظلمهم مع القدرة عليه ويركنون للعفو عمن تعدى عليهم مطلقا ، ويختارون العفو على القصاص ، ويميلون إلى التصدق بالفضل عن الصدقة المفروضة ، وهكذا يميلون إلى الأحسن عند اللّه ولو فيه هضم حقهم.
وليعلم أن ما أمر اللّه به ورسله كله حسن وقد يكون فيه أحسن بحسب التفاضل بالعمل به من حيث كثرة الثواب وإذلال النفس كما في العفو عن القصاص والتصدق بالفضل وتكرار الحج والإكثار من صلاة النّفل وذكر اللّه والأخذ بالعزيمة وترك الرخص وما أشبه ذلك راجع الآية 145 من سورة الأعراف في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا ، وما هو موافق لشرعنا من الشرائع القديمة ، وما هو مخالف له ، وله صلة في الآية 42 من سورة الشورى الآتية وفي الآية 55 من هذه السورة أيضا.
هذا ، وما قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما من أن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد حينما جاءوا على أبي بكر رضي اللّه عنهم جميعا وأخبرهم بإيمانه وآمنوا كلهم لا يخصصها فيهم بل هي عامة في كل محتسب تائب نائب إلى ربه.
واعلم أن هؤلاء السبعة والسادة عمر وعلي وعامر بن الجراح هم العشرة المبشرون بالجنة الفائزون بخير الدنيا والآخرة ، وقد سألت اللّه أن يحشرني مع سعد بن أبي وقاص عند تفسير الآية 14 من سورة لقمان المارة والآن أوكد رجائي من ربي بذلك «أُولئِكَ» الموصوفون هم «الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ» إلى طريقه المستقيم فوحدوه وعبدوه ومجدوه كما ينبغي لذاته المقدسة «وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ 18» القلوب الواعية المنتفعون بعقولهم ، قال تعالى «أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ» بنص قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية 120 من سورة هود المارة وقوله في الحديث
القدسي : (3/532)
ج 3 ، ص : 533
(هؤلاء إلى النار ولا أبالي) ممن اختاروا الكفر على الإيمان والضلال على الهدى فاستحقوه ، أيقدر أحد أن ينجيهم منه كلا «أَ فَأَنْتَ» يا حبيبي تقدر «تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ 19» كلا لا تستطيع ذلك البتة لدخولهم في حكمه الأزلي ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، قال ابن عباس يريد به أبا لهب ولكن الآية عامة كما ترى يدخل فيها كل من حقت عليه كلمة العذاب من جميع الكفار لأنها مسوقة في أضداد الموصوفين بالآية المتقدمة التي حكمها عام أيضا ، قال تعالى «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ» هذا استدراك بين ما ليشبه النقيضين والضدّين وهم المؤمنون والكافرون وأحوالهما ، والمراد بالمتقين هنا الموصوفون بتلك الخصال العالية والأخلاق السامية «لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ» جمع غرفة وهي العلّية «مَبْنِيَّةٌ» بعضها فوق بعض «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لتمام الزينة وكمال النظارة لا لحاجة الشرب لأن أهل الجنة لا يكلفون السقيا منها فإذا أرادوا الشرب ناولهم الخدم ما يشتهون من أنواع الأشربة ، وهذا الذي ذكر من الإكرام للمتقين هو «وَعْدَ اللَّهِ» لهم بذلك على لسان رسلهم وعدا مؤكدا «لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ 20» الذي وعده عباده وحاشاه من ذلك وهو الآمر عباده بإنجازه.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من الغرب أو المشرق لتفاضل ما بينهم ، فقالوا يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين.
قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» بحسب ما نرى راجع الآية 44 من سورة هود المارة «فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ» أنهارا وعيونا وجداول وبركانا تخرج من عروق الجبال والأرض كعروق الجسد في الحيوان التي تجري فيها الدماء «ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ» بالماء النازل على وجه الأرض أو بالمستقر بالبرك والعيون والجاري في الجداول والأنهار إذا سقى به الأرض بالدلاء والنواعير والآلات الحديدية والسيح وغيره «زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» أخضر وأسود وأزرق وأبيض وأحمر وأصفر وما بين ذلك من الألوان ، لأنك إذا مزجت بعضها ببعض يظهر منها ألوان أخر(3/533)
ج 3 ، ص : 534
لأن أصل الألوان أربعة : أبيض وأسود وأحمر وأخضر ، فإذا مزجت الأبيض مع الأحمر صار أخضر وهكذا «ثُمَّ يَهِيجُ» يثور والمراد بالهيجان هنا واللّه أعلم أن يجف وييبس وهذا من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا تم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته وانه بعد تلك الألوان البهية المختلف أزهارها «فَتَراهُ مُصْفَرًّا» إذ تحيل لونه الكواكب والأرياح بما يضع اللّه فيها من التأثير وهو الملك القدير الذي أنبته من لا شيء «ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً» هشيما مفتتا بعد ما كان يهتزّ بالأرض الرابية به المزدهرة بنوّاره «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإنزال والإدخال والإخراج والإنبات والألوان والجفاف والتفتيت «لَذِكْرى » عظيمة وعبرة كبيرة وعظة جسيمة «لِأُولِي الْأَلْبابِ 21» المنتفعين بعقولهم المستدلين بها على كمال قدرة الإله العظيم وفي إعادة هذا الزرع بعد يبسه وفتاته دليل على البعث بعد الموت ، قال تعالى «أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» فاهتدى به «فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» وبصيرة ويقين من أمره وهذا ليس كمن طبع اللّه على قلبه فقسى وضل والعياذ باللّه فتاه في ظلمات الجهل «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» والقسوة جمود وصلابة في القلب ومما يزيدها كثافة الغفلة عن ذكر اللّه تعالى ومما يصقلها وينورها دوام ذكر اللّه ، وإذا كانت النفس خبيثة الجوهر لا يزيدها سماع ذكر اللّه إلا كدورة لتراكم الرّين عليها وتلبد الصدأ ، وإذا كانت طيبة الجوهر فذكر اللّه يصقلها ويرققها ويلينها لطهارتها ونظافتها وذلك كالشمس فإن حرارتها تعقد الماء ملحا وتلين الشمع الجامد وقد تذيبه بالنظر لجوهر كل وقابليته ، هكذا ذكر اللّه وتلاوة كتابه إذا سمعها الكافر إزداد قلبه قساوة وجحودا وإذا سمعها المؤمن ازداد قلبه لينا ورقة وفناء في اللّه بحسب جوهر كل وقابليته ، يؤيد هذا قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ...
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآية 114 فما بعدها من سورة التوبة في ج 3 فراجعها «أُولئِكَ» قساة القلوب «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 22» لا خفاء عليه ، إذ حقت عليهم كلمة العذاب ، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الفريقين فيها ، وما جاء أنها نزلت في أبي بكر الصديق وأبيّ بن خلف الزنديق أوفي حضرة الرسول الكامل وأبي جهل العاطل(3/534)
ج 3 ، ص : 535
أو في علي وحمزة وأبي لهب وولده لا يقيدها عن إطلاقها ولا يخصصها عن عمومها ، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، فيدخل فيها من شرح اللّه قلبه للإسلام من المشار إليهم وغيرهم وقساة القلوب المذكورون وأضرابهم دخولا أوليا وتشمل كل من على شاكلة الفريقين المرضي عنهم وعليهم والمغضوب عليهم من ساعة نزولها إلى قيام الساعة ، وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية 125 من سورة الأنعام المارة ففيها ما يشفي الغليل ويكفي النبيل ، قال تعالى «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» هو القرآن لأنه فاق ما تقدمه من الكتب والصحف كلها فضلا عن الأحاديث النبوية من جهة اللفظ ، لأنه أفصح وأجزل وأبلغ في كل كلام ، ومن جهة المعنى لأنه منزه عن التناقض والاختلاف ، ومن جهة المضمون لاشتماله على كل ما أنزل اللّه عن الأنبياء السالفين ، ومن جهة الإعجاز لأن اللّه تعالى تحدى بسورة منه الإنس والجن ومن جهة الأخبار بالغيب لأنه أخبر عما وقع قبل نزوله وأشار لما يقع بعد ، ولفظ الحديث في الآية كناية عن أنه كلام محدّث به لا بمعنى أنه مقابل للقديم ، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام اللفظي لا لكلام اللّه الأزلي الخالي عن الصوت والحرف ، لأن كلام اللّه قديم كذاقه
والكلام في هذا يجر إلى الكلام بخلق القرآن وعدمه وقد عقدت له مطلبا خاصا في المقدمة فراجعه.
وقد يطلق لفظ الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة فقد جاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في سبب نزول هذه الآية أن قوما من الصحابة قالوا يا رسول اللّه حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت.
ثم وصف قوله أحسن الحديث لكونه «كِتاباً مُتَشابِهاً» في وعظه وحكمته وإعجازه وآياته ليصدق بعضه بعضا وكونه «مَثانِيَ» يثنى بالتلاوة ويكرر فيه الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار والأمثال والأحكام «تَقْشَعِرُّ» ترجف وتضطرب وتتحرك «مِنْهُ» من سماعه والنظر إليه «جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» عند سماع آيات العذاب والوعيد والتهديد ، والاقشعرار هو تقبض الجلد تقبضا شديدا عند عروض خوف شديد ودهوم أمر هائل بغتة فيقال اقشعر جلده وقف شعره وقلوبهم أيضا تقشعر بدليل قوله «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» عند سماع آيات الرحمة.(3/535)
ج 3 ، ص : 536
مطلب في الصعق الذي يحصل لبعض الناس عند تلاوة القرآن وسماع الذكر :
روي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا اقشعر جلد المؤمن وفي رواية العبد من خشية اللّه تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها.
وروي عن عبد اللّه ابن عروة بن الزبير قال لجدته أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهم كيف كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم اللّه عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قال فقلت لها إن أناسا اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه ، قالت أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم أي أنها استنكرت ما سمعته.
وروي أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا ؟ قالوا إنه قرىء عليه القرآن أو سمع ذكر اللّه فسقط ، قال ابن عمر إنا لنخشى اللّه وما نسقط ، يريد انتقادهم.
وقال ما كان هذا صنيع أصحاب محمد قال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ القرآن من أوله إلى آخره (أي بحضوره على تلك الصفة) فإن رمى بنفسه فهو صادق.
وقال عبد اللّه بن الزبير : جئت أمي فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون اللّه تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية اللّه تعالى فقالت لا تقعد معهم.
ثم قالت رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشى من أبي بكر وعمر.
وقال قتادة في هذه الآية : إن اللّه نعت أولياءه بالقشعريرة والبكاء واطمئنان القلب إلى ذكر اللّه ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم ، إنما هذا من أهل البدع ، وإنما هو من الشيطان.
وقال ابن جبير الصعقة من الشيطان.
واعلم أن هذه الأخبار وأمثالها تنعى على السادة الصوفية صعقهم وتواجدهم وضرب رءوسهم بالأرض وأيديهم بعضها ببعض عند سماع القرآن وبأثناء الذكر والقصائد الإلهية والمحمدية وما هو منها في ذكر بعض الأكابر من العارفين ، وعذرهم في ذلك حسبما تقوله مشايخهم لضعف القلب عن تحمل الوارد من معاني الآيات والأذكار وأوصاف الكاملين وما وقع منهم أو عليهم ، فإن من يقع منه ذلك ليس في الكمال والمناقب كأصحاب رسول اللّه والتابعين في الصدر الأول لضعف قوة تحملهم ، وهو دليل نقصهم عن مراتب الكمال ، لأن(3/536)
ج 3 ، ص : 537
السالك لطريقهم إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك ، ويقولون ليس في هذه الآية وشبهها أكثر من اثبات الاقشعرار واللين وليس فيها نفي اعترائهم حالة أخرى ، بل في الآيات إشعار بأن المذكور فيها حال الراسخين الكاملين لقوله تعالى (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية.
وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك ومن حمل الأمر على غير الكاملين أجاز وقوعه من غيرهم ومتى ما كان الأمر ضروريا فلا اعتراض على من يتصف به وإنا نرى وقوع هذا كله من بعض المريدين لا منهم كلهم ولم نر هكذا أحوالا من مشايخهم بما يدل على أن الوصول لدرجة الكمال تحول دون ذلك أما ما يقع من بعض المتصوفة رياء وسمعة باختياره وقصده فذلك هو الذي تعوذت منه أسماء رضي اللّه عنها وقال فيهم قتادة وابن جبير وغيره ما قالوه آنفا ، وقدمنا في الآية 43 من سورة المزمل ج 1 ما يتعلق بها فراجعه ، وله صلة في الآية 31 من سورة الرعد في ج 3 وفي مراجعة هذا وذاك تعلم أن الصعق له أصل صحيح في الشرع فسلم له وإياك أن تعترض على هؤلاء السادة فإن لحومهم مسمومة واللّه تعالى ينتصر لهم لأنهم أولياؤه ، وقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال :
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وإن اللّه جلت عظمته لم يطلب محاربة أحد من عباده عدا صنفين هؤلاء وأكلة الربى إذ يقول جل قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ) الآية 280 من سورة البقرة في ج 3.
هذا وقد يكون من هؤلاء السادة من لا ناصر له إلا اللّه وقد حذر حضرة الرسول من ظلم من لا ناصر له ، وروي عنه أنه قال : اشتد غضب اللّه على من ظلم من لا يجد ناصرا غير اللّه ، وروى الطبراني في الكبير والضياء في المختار وابن أبي عاصم والخرائطي في مساوئ الأخلاق أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول اللّه وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين «ذلِكَ» الحديث الحسن هو «هُدَى اللَّهِ» وقرآنه المنزل على رسوله من اللوح المحفوظ وكلامه الأزلي «يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ» هدايته إلى دينه القويم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ» من قساة القلوب «فَما لَهُ مِنْ هادٍ 23» يهديه البتة ، قال تعالى «أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ(3/537)
ج 3 ، ص : 538
الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ»
بالأعمال الصالحة التي قدمها في دنياه كمن هو آمن منه كلا ليس سواء لأن غير المتقي ظالم وفي ذلك اليوم يهلك الظالمون بدليل قوله عز قوله «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ» من قبل خزنة جهنم «ذُوقُوا» هذا العذاب جزاء «ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 24» في الدنيا من الآثام ، قال تعالى يا أكمل الرسل لا تحزن على ما ترى من قومك فقد «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» رسلهم كما كذبوك هؤلاء «فَأَتاهُمُ الْعَذابُ» من عندنا بعد إصرارهم على الكفر بغتة «مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 25 على حين غفلة وساعة غرة من حيث لا يخطر ببالهم وقوعه وفي حالة لا يتوخون بها حدوثه «فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ» الذل والهوان «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» وأشد وأعظم «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 26» ذلك علما يقينا لآمنوا واعتبروا من قبلهم ولما عبدوا ما لا يعقل ولا يبصر ولأخلصوا عبادتهم للإله الواحد ولما مسهم السوء.
قال تعالى «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» يحتاج إليه الناظر في أمور الدنيا والدين «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 27» ولم يتذكروا لأنهم لم يشغلوا حواسهم فيما خلقت لها فطمس اللّه عليها وحرمهم فوائدها وجعل هذا القرآن «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «غَيْرَ ذِي عِوَجٍ» مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف وأنزله على خير رجل منهم ومن جنسهم «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 28» الكفر والتكذيب وقدم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية لأن الإنسان إذا تذكر وعرف الشيء ووقف على فحواه اتقاه واحترز منه واجتنبه ، قال تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) متنازعون بخدمته يتجاذبونه بينهم لسوء أخلاقهم وقلة آدابهم (والشّكس السيء الخلق) «وَرَجُلًا» عبدا مملوكا أيضا «سَلَماً لِرَجُلٍ» خاصا له وحده «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» أي لا يستويان في الصفة والحالة ، لأن الاستفهام هنا إنكاري لا يجاب إلا بالنفي «الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 29» أن اللّه تعالى وحده هو المستحق للعبادة وهذا مثل ضربه اللّه تعالى للكافر الذي يعبد آلهة متعددة فلا يعلم أيهم يرضى منه وأيهم يسخط والمؤمن الذي يعبد اللّه وحده فهو على بينة من أمره.
وليعلم أن إيراد المثل في(3/538)
ج 3 ، ص : 539
القرآن هو للتذكر والاتعاظ به والمراد بضربه لتطبيق حالة عجيبة بأخرى شبهها وجعلها مثلها ، وعليه يكون المعنى أن اللّه تعالى يقول لرسوله اضرب لهم هذا المثل واسألهم أي هذين أحسن وأحمد «إِنَّكَ» يا سيد الرسل «مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 30» نزلت هذه الآية في كفرة قومه صلّى اللّه عليه وسلم الذين كانوا يتربصون موته ليتخلصوا منه قاتلهم اللّه ، كيف وهو إنما أرسل رحمة لهم وكان يجهد لنفسه ليخلصهم من عذاب اللّه ؟
يقول اللّه تعالى له لا يتمنوا لك يا حبيبي الموت فكلهم ميت ولا شماتة في الموت لأنهم مثلك يموتون كما تموت ولا سواء لأنك تلاقي ربك في جنته وهم يلاقون العذاب بناره والميت بالتشديد والتخفيف من حل به الموت وأنشد أبو عمرو :
تسألني تفسير ميت وميّت فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميّت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
راجع الآية 9 من سورة فاطر في ج 1 لتستوفي هذا البحث ، قال تعالى
«ثُمَّ إِنَّكُمْ» أيها الناس بركم وفاجركم «يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ 31»
مطلب الخصومة يوم القيامة وضمير صدق به ومراتب التقوى :
لما نزلت هذه الآية قال الزبير يا رسول اللّه أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان منا في الدنيا ؟ قال نعم ، فقال إن الأمر إذا لشديد.
رواه عبد اللّه بن الزبير وأخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم حنين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا.
وعن إبراهيم قال لما نزلت هذه الآية قالوا كيف نختصم ونحن اخوان فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا.
وقال ابن عمر : كنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين وقلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت بأنها فينا نزلت.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :
من كانت عنده مظلمة لأخيه عن عرض أو مال فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم(3/539)
ج 3 ، ص : 540
قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنبت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذت من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.
واعلم أن من الناس من يموت فيخلص الناس من شره ، ومنهم من يموت فتبكيه الناس أجمع ، فاحرص أيها العبد أن تكون الثاني.
قال أبو الحسن الأسدي : مات رجل كان يعول اثني عشر ألف إنسان فلما حمل في النعش على أعناق الرجال حصل له صرير فقال رجل في الجنازة :
وليس صرير النعش ما تسمعونه ولكنه أعناق قوم تقصّف
وليس فنيق المك ما تجدونه ولكنه ذاك الثناء المخلّف
قال تعالى «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ» فأضاف له شريكا فجعل له بنين وبنات «وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ» الأمر الذي هو الصدق نفسه وهو ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم الصادق المصدوق «إِذْ جاءَهُ» على لسان نبينا وأميننا من لدنا فانتبهوا يا قوم «أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ 32» أمثال هؤلاء بلى فيها منازل كثيرة لهم أجارنا اللّه منهم ومنها «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ» الوحي الحق من عندنا «وَصَدَّقَ بِهِ» آمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ومن تبعه مؤمنا وهذا المراد من ضمير به كما هو المراد في قوله تعالى (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الآية 54 من سورة البقرة في ج 3 أي هو وقومه ، وهذا التفسير أولى وأنسب بالمقام لأن الأوجه في العربية أن يكون جاء وصدق لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي وهو غير جائز في العربية ويستدعي أيضا إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر له وهذا بعيد أيضا في النصيح ، وقال بعض المفسرين إن ضمير به يعود إلى أبي بكر رضي اللّه عنه ، وعليه يكون المعنى والذي جاء بالصدق يعني محمدا وصدق به يعني أبا بكر كما قال أبو العالية والكلبي وجماعة ويروونه عن علي عليه السلام وقال السدي وجماعة أيضا : إن ضمير به يعود إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم وضمير جاء إلى جبريل عليه السلام.
وقال مجاهد وجماعة : إن ضمير به يعود إلى علي كرم اللّه وجهه وضمير(3/540)
ج 3 ، ص : 541
جاء إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال آخرون : إن ضمير جاء يعود إلى محمد وضمير به إلى المؤمنين.
فهذه خمسة أقوال كل منها في المعنى صحيح لكن ما جرينا عليه هو الموافق لسياق الآية واللّه أعلم.
«أُولئِكَ» محمد وأتباعه الذين اقتفوا أثره وماتوا على متابعته «هُمُ الْمُتَّقُونَ 33» العريقون في التقوى ، وجاءت هذه الجملة بالجمع مع أن ما قبلها مفرد باعتبار دخول الأتباع تبعا ، ولا يخفى أن مراتب التقوى متفاوتة ولحضرة الرسول أعلاها وأوفاها ومن بعده أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الأرقاء يلال ثم الأمثل فالأمثل رضي اللّه عنهم أجمعين ، أو أنّ الموصول واقع صفة لموصوف محذوف تقديره الفريق أو الفوج الذي جاء بالصدق وصدق به فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى ، أو أن اللام في والذي للجنس فيشمل الرسل والمؤمنين اجمع ، يؤيد هذا قراءة ابن مسعود (والذين جاؤا بالصدق وصدقوا به) ولكنها قراءة شاذة ، إذ لم يتابعه أحد من القراء عليها لما فيها من زيادة الواو ، وما قيل إنه قد يستعاض عنها بإشباع الضمة يجوز لو كان الأصل مضموما أما والأصل جاء مفتوحا فلا ، وما قيل إن النون محذوفة من الذي والأصل الذين واستشهدوا بقوله :
إن الذي جاءت يفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم مالك
قال أبو حبان ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من المثنى كان الضمير مثنى أيضا كما قال :
ابني كليب إن عمي اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا
فلو فرض جواز حذف النون أيضا لا يصح كما علمت ، وعليه فالأصح هو الذي جرينا عليه على ما هو في المصاحف وقراءة أبي صالح وعكرمة ابن سليمان ، وصدق مخففّا أي جاء وصدق به الناس بأنه أداه إليهم كما جاءه ، فالضمير والموصول فيها عائدان لحضرة الرسول كما ذكرنا أيضا ، وهناك قراءة أخرى (وَصَدَّقَ) على البناء للمفعول مشدّد أي صدقه الناس به وهي أيضا تؤيد ما قلناه ، وقد ذكرنا غير مرة أن لا عبرة للقراءة المخالفة لما في المصاحف المدونة من لدن عثمان رضي اللّه عنه حتى الآن وإلى الأبد إن شاء اللّه ، فكل قراءة لا يوافق رسمها رسم ما في المصاحف(3/541)
ج 3 ، ص : 542
لا عبرة بها البتة أما ما كان موافقا بالحروف ومختلفا بالحركات مثل قراءة (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) الآية 46 من سورة هود المارة و(خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) الآية 11 من سورة الحج ج 3 على الفعلية فهما أو المصدرية في الأولى والفعلية في الثانية والحالية والصفة أيضا فلا بأس فيها «لَهُمْ» لهؤلاء الذين مر ذكرهم من الخير والكرامة «ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ» الجزاء الحسن العظيم هو «جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ 34» في أفعالهم وأقوالهم «لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا» في الدنيا «وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ 35» في الآخرة ويتجاوز عن سيئاتهم.
وليعلم أن إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفصيل كما تقول الأشبح أعدل بني أمية ويوسف أحسن أخوته.
هذا ولما كثر تهديد المشركين لحضرة الرسول وتجاهروا له بالعداء وخاف أصحابه أن يبطشوا به ، إذ لم يبق من أقاربه من يقف بأعينهم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رحمها اللّه أنزل اللّه جل شأنه ما يثبت به قلوب أصحابه وينفي عنهم ذلك الرجل قوله عز قوله «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» محمدا عن الناس أجمع أعداءه وغيرهم وقادر على حفظه من أذاهم بلى وهو القادر على كل شيء ، وقرىء عباده أي جميع الأنبياء كافة وذلك أن أقوامهم قصدوهم بالسوء أيضا فكفاهم اللّه شرهم وكافأهم بالحسنى ، والقراءة هذه جائزة لما علمت أن المد والإشباع جائز ، وهذا الاستفهام يجاب ببلى ، لأن همزة الاستفهام الإنكاري إذا دخلت على كلمة النفي أفادت الإثبات فيكون حكم الاستفهام فيها تقريريا كما هنا ولا يجاب إلا ببلى وإذا دخلت على الإثبات أفادت النفي ، فيكون الاستفهام إنكاري ولا يجاب إلا بلا كما في قوله تعالى (أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ) الآية 10 من سورة إبراهيم الآتية ، ومما يدل على أن الضمير في عبده يعود لحضرة الرسول خاصة دون عباده الآخرين على القراءة الأخرى قوله جل قوله «وَيُخَوِّفُونَكَ» يا سيد الرسل «بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» أي الأوثان وذلك لقول الكفرة يا محمد إن لم تكف عن شتم آلهتنا أصابك الخبل والجنون بسببها ولقد ضلوا بقولهم هذا مع ضلالهم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ 26» يهديه ولا ينفعه الهدى لأنه مكبوب عند اللّه ضال من الأزل «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ» أبدا(3/542)
ج 3 ، ص : 543
لأنه ثابت في علم اللّه أنه مهتد ولا مبدل لما في علمه «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ» غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع «ذِي انْتِقامٍ 37» من أعدائه ينتصف منهم لأوليائه ، وهذا الاستفهام مثل الاستفهام السابق أي بلى هو كذلك ، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» يا سيد الرسل أي هؤلاء الذين يخوفونك بأوثانهم وقلت لهم «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» لظهور الأدلة على ذلك ووضوح البراهين لما تقرر عقلا وجوب انتهاء جميع الممكنات إلى واجب الوجود فإذا أجابوك ولا شك أنهم مجيبون بأن الذي خلقهن هو اللّه وإلا فأجبهم أنت بأنه هو الذي خلقهن وما فيهن فإنهم لا يعارضونك في ذلك «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من هذه الأوثان «إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ» فيسكتون خشية الكذب لأنه معيب في كل زمان عند كل ملة حتى ان قوم يونس عليه السلام كانوا يقتلون الكذاب ، راجع الآية 97 من سورته المارة ، ثم قل لهم أيضا «أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ» فيسكتون أيضا لعلمهم أنها لا تكشف ضراء ولا تمسك رحمة ولا تفعل شيئا أبدا «قُلْ» بعد اعترافهم هذا لعجز آلهتهم عن فعل شيء من ذلك بدليل سكوتهم الذي هو بمثابة الإقرار «حَسْبِيَ اللَّهُ» هو كافيني منهم ومن أوثانكم وبالنصر والظفر عليكم
كما وعدني به ، عليه وحده توكلت و«عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ 38» لا على غيره فقد خاب وخسر من توكل على غيره ، ثم أشار إلى تهديدهم فقال «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم التي تتمكنون عليها من عدواني وتكذبي والمكانة بمعنى المكان واستعيرت عن العين للمعنى كما استعير هنا وحيث للزمان مع أنها للمكان «إِنِّي عامِلٌ» على مكانتي أيضا حذف من الثاني بدلالة الأول كما يحذف أحيانا من الأول بدلالة الثاني راجع الآية 33 من سورة لقمان المارة وان عمله صلّى اللّه عليه وسلم هو دأبه على نصحهم وإرشادهم ليس إلا «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 39» غدا إذا لم تؤمنوا وتصدقوا «مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ» في الدنيا «وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ 40» في الآخرة لا يتحول عنه أبدا أنا أم أنتم وقد ختم هذه الآية بالوعيد الشديد كما بدأها بالتهديد بما خبىء لهم من العذاب الأليم وهي قريبة في المعنى من الآيتين 54/ 55 من سورة سبأ المارة وفيها ما فيها فراجعها.(3/543)
ج 3 ، ص : 544
مطلب الروح والنفس ومعنى التوفي والفرق بينه وبين النوم وان لكل واحد نفسين :
قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ» الذي لا أحق منه «فَمَنِ اهْتَدى » به فانما يهتدى «لنفسه» إذ يعود فائدة هداه لها «وَمَنْ ضَلَّ» شرد عن طريق هداه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» لأن وبال ضلاله عائد عليه «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ 41» لتجبرهم على الهدى وتحفظهم من الضلال ، وإنما الفاعل لذلك هو «اللّه الذي يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ» الأرواح راجع الآية 85 من سورة الإسراء في ج 1 تجد معنى النفس والروح وماهيتها وما يتعلق فيهما وهل هما شيء واحد أم لا بصورة مفصلة تكفيك عن كل مراجعة «حِينَ مَوْتِها» عند انقضاء آجالها «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ» يتوفاها «فِي مَنامِها» لأن النوم موت خفيف ، إذ يقطع اللّه تعالى تعلقها بالأبدان أي تعلق التصرف فيها عنها ظاهرا وقطع تعلقها بالأبدان بالموت عبارة عن قطع المتعلق بها ظاهرا وباطنا وإنما سمى كل منهما توفّيا لأنه بمعنى القبض فيهما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الآية 60 من سورة الأنعام المارة ، إذ لا تميزون ولا تتصرفون فانتم والموتى سواسية من هذه الحيثية ، راجع تفسير هذه الآية أيضا لتعرف الفرق بين الموت والنوم المبين في قوله عز قوله «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ» فلا يردها إلى أجسادها حتى يوم البعث «وَيُرْسِلُ الْأُخْرى » الناثمة التي لم يحن أجلها بعد فيبقها بالحياة متمتعة «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده حتى انقضائه «إِنَّ فِي ذلِكَ» القبض والإرسال من قبل الملك الفعال «لَآياتٍ» عظيمات دالات على كمال قدرة الإله الواحد على البعث «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 42» بمعناها ويعقلون مغزاها.
واعلم أن لكل إنسان نفسين نفس بها الحياة تفارقه عند الموت فتزول الحياة بزوالها ، ونفس بها التمييز تفارقه عند النوم ويبقى معها التنفس في الجسد فقط دون تصرف أو تمييز.
فيعلم من هذا أن هناك نفسا وروحا فتخرج النفس عند النوم وتبقى الروح ويخرجان معا عند الموت ، ومن قال إن الروح هي التي تخرج عند النوم والنفس هي الباقية في الجسد مع شعاع الروح وبها يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت إلى جسدها بأسرع من لحظة ، استدل بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : (3/544)
ج 3 ، ص : 545
إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
وقد أوضحنا هذا البحث بصورة مسهبة في تفسير الآية 85 من الإسراء في ج 1 فراجعها أي ما يتعلق بالرؤيا فعليك بمراجعة الآية 5 من سورة يوسف المارة ففيها ما ترشدك إلى ما تريد ويكفيك عن غيره ، قال تعالى «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ» بلا إذن منه ولا سلطان لهم به عليه «شُفَعاءَ» يشفعون لهم عندنا بزعمهم ، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الجهلة أتتخذونها شفعاء بادى الرأي «أَ وَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً» من أمرها ولا من غيرها «وَلا يَعْقِلُونَ 43» ماهيتها كما لا يعلمون عبادتكم لهم ولا يفقهونها أتتخذونها عبثا وجهلا «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء الضلال إن هذه الأوثان لا يصلحون للشفاعة لعدم علمهم بها وإن الشفاعة الحقيقية المرجو نفعها هي «لِلَّهِ» وحده لا يملكها أحد دونه ولا يقوم بها أحد إلا بإذنه وإلا لمن يرضاه اللّه فتكون «الشَّفاعَةُ» كلها «جَمِيعاً» له وحده كذلك «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده لا يشاركه فيهما أحد ولا يرزق من فيهما غيره وإن ما يملكه الناس من أجزاء الأرض فهو استعارة لأجل مسمى عنده «ثُمَّ إِلَيْهِ» أيها الناس كلكم وما تملكون «تُرْجَعُونَ 44» في الآخرة ثم بين تعالى بيانه سفه لكفرة بقوله جل قوله «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ» نفرت واستكبرت وانقبضت وأنفت «قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» كأبي جهل والوليد بن المغيرة وصفوان وأبيّ وأضرابهم لأن الآية عامة واكفهرّت غمّا وغيظا فظهر على أديم وجوههم غبرة وقترة وعلى عيونهم ظلمة من عظيم انقباض أرواحهم.
وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) الآية 46 من الإسراء في ج 1 فراجعها «وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» كاللات والعزى وغيرهما من الأوثان «إِذا هُمْ» أي أولئك المشمئزين «يَسْتَبْشِرُونَ 45» فرحا لافتتانهم بها فتنبسط وجوههم وتتهلل ويعلوها البشر لكثير ما ملئت قلوبهم من السرور والابتهاج بذكرها فيا حبيبي «قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وصف(3/545)
ج 3 ، ص : 546
نفسه جلت
وعلت بكمال القدرة ثم نعتها بكمال العلم فقال «عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» السر والعلانية «أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ» المؤمنين والكافرين «فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 46» من أمر دينك وتوحيدك.
يفيد هذا الأمر الإلهي العظيم جنوح حضرة الرسول إلى الدعاء والالتجاء إليه تعالى مما قاساه من نصب قومه في دعوتهم له وما ناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد وبيان حالهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة ، وفيه تسلية له ومعلومية جهده وجده وبذل وسعه وسعيه عند ربه وتعليم لعباده كلهم بالالتجاء إليه فيما يهمهم وما لا يهمهم ، ودعاؤه بأسمائه الحسنى ، لأن أسماءه تعالى توقيفية ، فلا يجوز تسميته بغيرها راجع الآية 8 من سورة طه في ج 1 تجد ما سمى اللّه به نفسه ورسوله منها.
سئل الربيع بن خيثم عن قتل الحسين رضي اللّه عنه فتأوه وتلا هذه الآية ، وعليه فإذا ذكر لك أيها القارئ شيء مما جرى بين الأصحاب رضوان اللّه عليهم ، فاقرأ هذه الآية فإنها من الآداب التي ينبغي أن تحفظ.
روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : سألت عائشة رضي اللّه عنها بأي شيء كان نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام الليل ؟ قالت :
كان إذا قام الليل افتتح صلاته قال : اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من منقول وغيره «وَمِثْلَهُ مَعَهُ» وطلب منهم به فداء أنفسهم من عذاب اللّه «لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهذا من ضرب المحال حيث لا يقبل الفداء ، ويستحيل أن يكون لهم شيء من الأرض باستحالة وجود مثله لأن أحدا يوم القيامة لا يملك مثقال ذرة وإنما هذا من قبيل زيادة التحسر والتأسف والندم والأسى لما يشاهدونه من الأهوال المحيطة بهم المشار إليها بقوله الفصل «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ» العالم بخفايا الأمور أشياء «ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ 47» بها ولا يظنونها ولا تخطر ببالهم أنه نازل بهم ولا يتوقعونه لأنه فوق التخمين والحسبان وحديث النفس.
ونظير هذه الآية التي أوعد بها الكافرون ما وعد اللّه به المؤمنين هي قوله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ(3/546)
ج 3 ، ص : 547
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)
الآية 17 من سورة السجدة الآتية ، ومن هذا القبيل قوله صلّى اللّه عليه وسلم في صفة ثواب أهل الجنة : فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
هذا وبعد أن أظهر اللّه لهم أنواع العقاب عن سيئات لم يكونوا يتصورونها أنها مستحقة للعذاب أظهر لهم عقابا أشد عن سيئات يعلمونها فقال جل قوله «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» من الشرك به وتكذيب رسله وجحد ما جاؤهم به وبان لهم خيبة ظنهم بشفاعة الأوثان فذهلوا من فظاعته «وَحاقَ» أحاط «بِهِمْ» من كل جوانبهم سوء «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 48» في الدنيا فيفعلونه ولا يلقون له بالا إلا السخرية والاستهزاء.
قال تعالى «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ» من مرض وفقر وشدة «دَعانا» وحدنا لإزالته «ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا» بعد إجابة دعائه وإزاحة بلائه «قالَ» هذا جواب إذا ولذلك فلا يحسن الوقف على كلمة (مِنَّا) بل على «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» من اللّه بأني أهل له كما قال قارون قبله راجع الآية 78 من سورة القصص في ج 1 وقد ذكر الضمير هنا في أوتيته مع أنه عائد للنعمة بالنظر للمعنى ، أي شيئا أو قسما من الإنعام «بَلْ هِيَ» النعمة التي أوتيها مع كفره وعصيانه «فِتْنَةٌ» نقمة لا نعمة في الحقيقة بل هي استدراج وامتحان ليختبرك أيها الإنسان أتشكرها فتكون نعم حقيقية أو تكفرها فتكون نقمة بحتة ، وما قرىء بل فتنة وفاقا لضمير أوتيته ليست بشيء ، لما فيها من نقص كلمة هي ، ولا يجوز نقص شيء من كتاب اللّه «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 45» أنها فتنة وبلاء ومحنة.
وجاء العطف بالفاء لأن قوله (فَإِذا مَسَّ) إلخ مسبب عن قوله (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ) إلخ ، وقد وقع أول هذه السورة مثله إلا أن العطف كان بالواو فيكون غير مسبب عما قبله كما هنا وهذه الآية عامة.
وما جاء أن المراد بالإنسان هو حذيفة بن المغيرة فعلى فرض صحة نزولها فيه لا يقيدها لأن سبب النزول لا يكون سببا للقيد في الآيات العامة ، قال تعالى إن هؤلاء الكفرة لم ينفردوا في هذه المقالة وإنما «قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» مثل قارون وأضرابه «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 50» من متاع الدنيا ولم يأخذوا معهم منه شيئا للآخرة البتة
«فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ(3/547)
ج 3 ، ص : 548
ما كَسَبُوا»
أي عقابه ووباله وخسف بهم وبأموالهم راجع الآية 78 من سورة هود المارة من قصة قوم لوط «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ» قومك يا محمد الذين قالوا مقالتهم تلك «سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» أيضا إذا أصروا عليها ولم يتوبوا حتى ماتوا ، فيحين الأجل المقدر لإنزال العذاب بهم مثلهم «وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ 51» لنا ولا يستطيعون الإفلات منا ، فلا يفوتهم عذابنا ، لأن قدرتنا غير عاجزة عنهم ، ولا مهرب هناك.
وهذه الآيات المدنيات الثلاث ، قال تعالى «أَ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء بلى إنهم يعلمونه ولكن لا يعرفون حكمته «إِنَّ فِي ذلِكَ» البسط والتقتير لآيات دالات على حكمتنا «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 52» بنا ويعون مرادنا وذلك أن اللّه تعالى يعطي من يشاء لا لكرامته وتقواه وعلمه ، ويحرم من يشاء لا لإهانته وعصيانه وجهله ، وقيل في المعنى.
كم من أديب فهيم عقله مستكمل العلم مقل عديم
ومن جهول مكثر ماله ذلك تقدير العزيز العليم
فمن علم أن هذا التقسيم جاء من اللّه على وفق الحكمة ومقتضى المصلحة علم فساد قول ابن الراوندي المار ذكره في الآية 36 من سورة سبأ المارة وبطلان قول من قال إن السعد والنحس بسبب النجم الطالع عند ولادة الإنسان السعيد أو المشئوم ، لأن الساعة التي ولد فيها السلطان والمثري ولد فيها أناس كثيرون فلم لم يساعدهم الحظ بمقتضى طالعهم كما صار لذينك ، وقيل في المعنى :
فلا السعد يقضي به المشتري ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء وقاضي القضاة تعالى وجل
قال تعالى «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» بتغاليهم في المعاصي وإفراطهم في اللذات وتفريطهم بأمور الآخرة وإعراضهم عن ربهم «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» التي وعدها التائبين من عباده الراجعين إليه وغيرهم ، فهي واسعة لأكثر ما تتصورونه ولا تضيق عما أنتم عليه وغيركم «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» بالعفو عنها عدا الشرك لورود النص باستثنائه ، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ(3/548)
ج 3 ، ص : 549
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)
الآيتين 48/ 116 من سورة النساء في ج 3 «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53» بعباده يغفر ما كان منهم ويكشف ما يهمهم ويستر ما يشينهم صغرت هذه الذنوب أو كبرت فهي في جنب عفو اللّه لا شيء.
مطلب آيات الرجاء وعظيم فضل اللّه وما جاء عن بني إسرائيل وحرق الموتى :
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : إن أناسا من المشركين أكثروا من القتل والزنى والشرب وهنك الحرمات كلها فقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن الذي تدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا لما عملناه كفّارة فنزلت الآيات 68 فما بعدها من سورة الفرقان المارة في ج 1 ، وهي (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قال يبدل شركهم إيمانا وزناهم إحصانا ، ونزلت هذه الآية المفسرة أيضا - أخرجه النسائي - وعنه قال : بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة رضي اللّه عنه يدعوه إلى الإسلام رغبة بنشر دين اللّه وشفقة على عباده مع أنه قاتل عمه وأعز الناس عليه يومئذ لشدة حرصه على إقامة هذا الدين جزاه اللّه عنا خيرا ووفق أمته لاتباعه ، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب ، وأنا قد فعلت ذلك كله ؟
فأنزل اللّه (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) الآية من سورة الفرقان أيضا ، فقال وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك ؟ فأنزل اللّه آيتي النساء المذكورتين آنفا ، فقال وحشي أراني بعد ذلك في شبهة ، فلا أدري أيغفر لي أم لا ؟ فأنزل اللّه هذه الآية المفسرة ، فقال وحشي نعم فجاء وأسلم وحسن إسلامه.
وهذه الحادثة أولى بأن تكون سببا للنزول لأنها مدنية والحادثة مدنية فتكون أليق بسبب النزول من تلك ، وإن ما بعدها يجوز أن يكون سببا للنزول لأن الآية الواحدة قد تكون لحوادث كثيرة متوافقة ، وهو ما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : نزلت في عياش ابن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل اللّه من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا (الصرف التوبة والنافلة والعدل الفدية والفريضة) قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به في الدنيا ، فأنزل اللّه هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب(3/549)
ج 3 ، ص : 550
بيده وبعث بها إلى عياش ورفقائه فأسلموا جميعا وهاجروا ، فقال ابن عمر كنا معشر أصحاب رسول اللّه نرى أو نقول ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) الآية 34 من سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلم في ج 3 ، فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا ، فقلنا الكبائر والفواحش ، قال لكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا هلك ، فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك ، وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئا من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له.
وعن أنس رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : قال اللّه تعالى عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة.
- أخرجه الترمذي - والعنان بفتح العين ما بدا لك من السماء ، واعنانها نواصيها ، والقراب بضم القاف الملء أي بملء الأرض ، واللّه أكرم وأكبر من ذلك ، وقدمنا ما يخص هذا في الآية 160 من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية 31 من سورة الشورى الآتية فراجعها ففيها ما يثلج الصدر من عظيم فضل اللّه وكذلك الآية 20 من سورة يوسف المارة أيضا والآية 70 من سورة الفرقان والآية 5 من سورة والضحى والآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 «وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ» إسلاما كاملا وانقادوا لأوامره انقيادا تاما وتباعدوا عن نواهيه تباعدا بعيدا وأخلصوا له التوبة إخلاصا صحيحا حال كونكم خاضعين خاشعين «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ 54» إذا حل بكم ومن ذا الذي ينصركم من اللّه أيها الناس كلا لا أحد ، انتهت الآيات المدنيات.
واعلم أن الآية الثانية منها عدا 53 صرحت برجاء الرحمة من عشرة وجوه : 1 إن المذنب عبد والعبد محتاج لرحمة سيده وإفاضة إنعامه عليه ، 2 إنه أضافه إليه ومن يضفه لذاته الكريمة يؤمنه من عذابه ، 3 إن الإسراف الذي نسبه إليه ضرر وهو أكرم من أن يجمع ضررين على عبد ، 4 إنه لم ينهه عن القنوط إلا ليؤمله بالرجاء ، 5 أضاف الرحمة لأعظم أسمائه الحسنى(3/550)
ج 3 ، ص : 551
فتكون أعظم أنواعها لذلك العبد ، 6 إنه أضاف الغفران لذلك الاسم العظيم لتأكيد المبالغة في إيفاء الوعد بها ، 7 إنه أكد ذلك الغفران ليكون عاما مطلقا يشمل هذا العبد وغيره ، 8 إنه وصف ذاته بالرحيم مرة أخرى إشارة إلى تحصيل موجبات تلك الرحمة ، 9 إن هذين الوصفين يفيدان الحصر ، والحصر يفيد الكمال ولا تكون الرحمة كاملة إلا إذا عمت ، 10 إنه وصف نفسه فيها بالغفور وهو لفظ يدل على المبالغة بالمغفرة ولا تكون إلا إذا عمت أيضا.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهبا فسأله فقال هل لي من توبة ؟
قال لا ، فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت فضرب صدره تخوفا فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى اللّه تعالى إلى هذه أن تقرّبي وإلى هذه أن تباعدي ، وقال قيسوا ما بينهما فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له. - لفظ البخاري - ولمسلم : فدلّ على راهب فأتاه فقال له إن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا هل له من توبة فقال لا فكمل به مئة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل صالح فقال إنه قتل مئة نفس فهل من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناسا يعبدون اللّه تعالى فاعبد اللّه معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى اللّه إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي (يعني القرية التي جاء منها والقرية التي ذهب إليها) وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم ، فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة.
ورويا عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان رجل أسرف على نفسه ، وفي رواية لم يعمل خيرا قط ، وفي رواية لم يعمل حسنة قط ، فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فاحرقوني ثم اطحنوني ثم ذرّوني في الريح فو اللّه لأن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا قط ، فلما مات فعل به ذلك ، فأمر اللّه الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ، ففعلت فإذا(3/551)
ج 3 ، ص : 552
هو قائم ، فقال ما حملك على ما صنعت ؟ قال خشيتك يا رب ، أو قال مخافتك يا رب ، فغفر له بذلك.
ولعل المجوس وبعض الهنود ومن نحا نحوهم الذين يحرقون موتاهم أخذوا ذلك من هذه القصة ، لأن هذا الرجل الذي ذكره حضرة الرسول لم يكن من أهل زمانه بل ممن تقدم من الأمم ، وقد بقوا على عادتهم تلك ولم تبلغهم الدعوة ، أو بلغتهم فلم يتبعوها وبقوا على ما هم عليه حتى الآن ، وقد استحسنها من لا خلاق لهم من الدين بحجة أنها أقطع لجراثيم الموتى من أن تنتقل ذراتهم إلى الأحياء ، ولم يعلم أن في هذه إهانة للمؤمن ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : كرامة الميت دفنه ، وفي القبور مانع من انتشار الذرّات لأنها تحت الأرض بقامة وبسطة يد ، وكيف يركن قلب المؤمن إلى حرق ميته وهو أعز الناس عليه ، وفي دفنه ذكرى له على مر الأيام بالخير إن كان من أهل الخير فيعملون بعمله ، وإن كان من أهل الشر فيجتنبون عمله ، فيكون خيرا نشا عن شر.
وعنه أيضا قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول كان في بني إسرائيل رجلان متحابان أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنبه فيقول له اقتصر ، فوجده يوما على ذنب ، فقال اقتصر فقال خلّني وربي أبعثت علي رقيبا ، فقال واللّه لا يغفر لك اللّه ، أو قال لا يدخلك الجنة ، فقبض اللّه روحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال الرب تبارك وتعالى للمجتهد أكنت على ما في يدي قادر ؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة ، وقال للآخر اذهبوا به إلى النار.
قال أبو هريرة تكلم واللّه بكلمة أوبقت دنياه وآخرته - أخرجه أبو داود.
وقال زيد بن أسلم : يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال انطلقوا به إلى النّار ، فيقول يا رب فأين صلاتي وصيامي ، فيقول اللّه اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي من رحمتي.
وعنه أيضا أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ويشدد على نفسه ويقنط الناس من رحمة اللّه ثم مات فقال أي رب مالي عندك ؟ قال النار ، قال يا رب فأين عبادتي واجتهادي ؟
فقيل له إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا ، فأنا اليوم أقنطك من رحمتي.
وقال مقاتل : قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة اللّه ولم يرخص لهم في معاصي اللّه عز وجل.
وعليه فلا ينبغي للواعظ والخطيب(3/552)
ج 3 ، ص : 553
أن يقتصر على الوعيد ويترك الوعد لأنه ربما قنط الناس فيدخل فيما ذكر ، قال صلّى اللّه عليه وسلم يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا.
أي يسروا على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة ، لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة ويرغب في العبادة ، وبشروا بفضل اللّه وعظيم ثوابه ، وسعة رحمته ، وشمول عفوه ، وجزيل عطائه ومغفرته ، ولا تعسروا في كل الأوقات ولا تنفروا عباد اللّه بما تشددون عليهم من الزجر والوعيد فيقنطوا أو ييأسوا ، فتتسببوا في إضلالهم «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ».
أمر اللّه عباده باتباع الأحسن بعد أن أمرهم بالتقوى ووعدهم بالمغفرة إعلاما بأنه تعالى يريد منهم ما هو أكثر ثوابا وأعظم أجرا ، وقد ذكرنا ما يتعلق بالأحسن في الآية 18 المارة من هذه السورة وبينا فيها ما يراجع بذلك ففيه كفاية.
مطلب اتباع الأحسن وما هو الحسن والأحسن معنى ومقاليد السموات والأرض :
ولا يخفى أن الأحسن يكون في الأوامر والإرشادات إلى خير الدارين والأحكام والحدود وإصلاح ذات البين لا في القصص والأخبار والعبر والأمثال بما وقع من الأقدمين ، هذا من جهة ، ومن أخرى فإن أحسن ما أنزل اللّه من الكتب السماوية وأجمعها وأفضلها هو هذا القرآن المجيد لقوله تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية 24 المارة ، وعليه فيكون المنزل ثلاثة أصناف : ذكر جل شأنه في القرآن الأحسن يؤثر على غيره ويؤخذ به ، والأدون منه لئلا يرغب فيه ، والقبيح ليجتنب ، ولهذا يجب على الخلق كافة اتباع ما في القرآن من الأحكام الحسن منها والأحسن ، لأنه ناسخ لما تقدمه مما يخالفه منها ، وعليه فإن الخطاب في هذه الآية عام لكل الأمة ، لأنه أنزل للأمة أجمع ، وقد أمر صلّى اللّه عليه وسلم بدعوة من على وجه الأرض كلهم ، فمن أجاب فهو من أمة الإجابة ، ومن أبي فهو من أمة الدعوة ، فهلموا عباد اللّه لإجابة دعوة ربكم «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ 55» بأن يفاجئكم على حين غرة وأنتم غافلون فتعتذرون ولا يقبل منكم ، قال صلّى اللّه عليه وسلم :
إياكم وما يعتذر منه ، وهو «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ» حين ترى أهوال القيامة(3/553)