ج 2 ، ص : 80
أي الدواهي لأنهم يستعملون هذه الكلمة بمعنى الحرمان إذا سألهم سائل ويقولونه بمعنى الاستعاذة وعند رؤية ما يخاف منه ، أي حرام عليك التعرض وقرىء بفتح الحاء وهو الأصل في اللغة إلا أنهم لما خصوه بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول عن معناه الأصلي وهو المنع ، ولما تغير لفظه عما هو عليه ، فنقل من الفتح إلى الكسر.
وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك بضم الحاء ، وكل منها جائزة على المعنى المؤدية له.
مطلب ما يؤجر عليه من العمل وما لا يؤجر :
قال تعالى «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ» عظيم عندهم كانوا يرجون ثوابه في الدنيا كصلة رحم ، وإقراء ضيف ، وإغاثة ملهوف ، ورد ظالم ومظالم ، ورحمة فقير ، ولطف بحقير ، واطلاق الأسير دون فدية منّا ، وما ضاهاها من الأعمال الحسنة التي جبل عليها العرب قبل الإسلام وازدادت به شرفا ونفوذا على غيرها حسا ومعنى «فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» 23 ذرا متفرقا بالهواء وهذا كناية عن بطلان ثواب أعمالهم وعدم مكافأتهم عليها مهما كانت طيبة حسنة كثيرة ، لأنهم عملوها حال كفرهم مشوبة بالسمعة والرياء والفخر والأنانية ولم تكن حالة الإيمان لتكون خالصة للّه تعالى ، واللّه طيب لا يقبل إلا الطيب المخلص من الطيب المخلص ، وأصل الهباء ما يرى في الظل فهو شيء وليس بشيء وقد سبقه صدقة الكافر به ، لأنها من حيث الحسّ صدقة وعمل صالح محمود ، ومن حيث المعنى لا ثواب لها ، فكأنها لم تكن ، وهكذا كل شيء لم يبتغ به وجه اللّه ، قال صلى اللّه عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ.
ولكن اللّه الكريم الذي لا يضيع عمل عامل كما جاء في الآية 195 من آل عمران في ج 2 الذي تعهد بالمكافأة على الذرة كما يأتي في سورة الزلزلة في ج 3 قد كافأهم على أعمالهم المذكورة في الدنيا بإطالة أعمارهم وسعة رزقهم ومعافاتهم حتى يلقونه وليس لهم عنده حسنة يرجون ثوابها ، كما أن المؤمنين يمحو اللّه سيئاتهم بمقابل تحملهم الفقر والمرض والذلة في الدنيا حتى يلقوا اللّه ، وليس عليهم سيئة يعاقبون عليها ، وله الحمد هذا ما مر لك أيها القارئ الكريم من حال(2/80)
ج 2 ، ص : 81
أهل النار ، أجارنا اللّه منها أمّا «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ» يوم يكون ما يكون من الشر للكافرين في الآخرة فيكون مستقرهم الذي يأوون إليه لتناول ملاذهم ، فيقولون إنه «خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا» وأشرف مقرا هذا المكان ، فيقيلون به للاستراحة من الراحة لا عن تعب ونصب لأن الجنة لا شيء فيها من ذلك «وَأَحْسَنُ مَقِيلًا» 24 ذلك المكان العالي الشان في تلك الجنان ، والقيلولة النوم وسط النهار أو الاضطجاع للراحة نام أو لم ينم ، والكلام مسوق لبيان راحتهم على طريق التشبيه بأحوال الدنيا ، وإلا فإن الجنة لا نوم فيها ولا تعب والأفضلية هنا للتقريع والتهكم لمن ذكر في الآية قبل من أهل النار كما في قوله تعالى (أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) الآية 15 المارة إذ لا يتصور أن يقال نزل أهل الجنة خير من نزل أهل النار ، كما لا يقال العسل أحلى أم الخل مثلا ، وقد يكون لمطلق الزيادة قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك وغيرهم «يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» حقيقة كما هو المستفاد من ظاهر الآية ، ولأنها تبدل بغيرها قال تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات الآية 18 من سورة إبراهيم في ج 2 وقال بعض المفسرين يطلع منها سحاب فيظهر عليها فيتبين للرائي كأنها تنشق به ، والأول أولى واللّه أعلم وأنسب بالنسبة لقوله «وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا» 25 من السماء إلى أرض الوقف ومن الملائكة حملة العرش ، قال تعالى «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» الآية 12 من سورة الحاقة في ج 2 ، مما يدل على انشقاق السماء حقيقة ، قال ابن عباس تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، ثم تشقق الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا وكذلك حتى تشقق السابعة ، وأهل كل سماء يزيدون على التي قبلها ، ثم تتنزّل الكروبيون ، ثم حملة العرش ، ومن بين الملائكة
ملائكة يحملون صحائف أعمال العباد.
وفي رواية عن ابن عباس ثم ينزل ربنا جل جلاله في ظلل من الغمام قال تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»
الآية 210 من سورة البقرة في ج 3 ومما يدل على(2/81)
ج 2 ، ص : 82
هذا قوله جل قوله «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ» أي السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلي العام الثابت صورة ومعنى ظاهرا وباطنا ، بحيث لا يزول أبدا ولا يغيب سرمدا هو ثابت «لِلرَّحْمنِ» وحده وهناك يزول ملك كل ملك ولا يبقى إلا ملك المالك الأعظم ، فينادي المنادي «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» فلا يجيب أحد فيقول العظيم الجبار الجليل الغفار الستار «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» الآية 16 من سورة المؤمن في ج 2 فيجيب نفسه بنفسه ، وفي اتصافه تعالى بعنوان الرحمانية بشارة لمن مات مؤمنا به ونذارة بعدم
التّهوين على الكافر في قوله «وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» 26 شديدا عسره بالغا شره ، وفيها إيذان بأنه يسير على المؤمنين ، إذ خصّ عسره بالكافرين الذين لا تشملهم رحمته المتناهية في ذلك اليوم العظيم المنوه به بقوله «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ» حسرة وندامة على ما فاته من عمل الخير في الدنيا لا أعظم منه لأنه يوم الحسرة ، والموقف كله يوم واحد ولكنه بالنسبة لطوله ولاختلاف ما يقع فيه من الأهوال التي تشيب الوليد يعد أياما لكل عذاب يوم ، ولكل مجادلة يوم ، ولكل محاسبة يوم ، وذلك تقديري على نسبة أيام الدنيا ، وهذه الآية عامة في كل ظالم لنفسه في الدنيا بحرمانه من الإيمان باللّه.
وقد صرفه بعض المفسرين للظالم المعروف بالظلم الموبق به عقبة بن معيط خليل أمية بن خلف الذي كان أسلم أولا فقال له أمية : وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا.
فارتدّ عن الإيمان ، وتابعه على الكفر.
وقد جاء بالآية معرفا لتخصيصه به ونزول هذه الآية فيه.
ولكن تخصيصها لا يمنع عمومها لكل ظالم كما علمت من أن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب «يَقُولُ» في ذلك اليوم العسير «يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ» في الدنيا «مَعَ الرَّسُولِ» محمد صلى اللّه عليه وسلم «سَبِيلًا» 27 إلى النجاة من هول هذا اليوم ، ليتني اتبعته ومت مؤمنا على دينه ، فأتخلص من هذا العذاب المحيط بي ، ثم طفق يدعو على نفسه بقوله «يا وَيْلَتى » يا هلاكاه على ما سلف من ارتدادي إلى الكفر ومتابعة أمية بن خلف «لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً» يريد أمية المذكور على خصوص الآية في عقبة المرتد ، وعلى(2/82)
ج 2 ، ص : 83
إطلاقها تشمل كل ظالم ومضل كائنا من كان ، لأن خصوص السبب لا يقيد الآيات «خَلِيلًا» 28 مأخوذ من الخلة بضم الخاء بمعنى المودة لأنها تتخلل في النفس وتؤثر فيها تأثير السهم في الرميّة وتأثير الدم في العروق وعليه قوله :
تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا
ثم قال هذا الضال وعزتك يا رب «لَقَدْ أَضَلَّنِي» ذلك المضل «عَنِ الذِّكْرِ» قبول القرآن الذي هو ذكر اللّه وعن الإيمان به وبمن أنزل عليه «بَعْدَ إِذْ جاءَنِي» من قبل رسولك واتبعته «وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» 29 يوقع من يطيعه في المهالك ثم يتبرأ منه ، وهذا معنى الخذول لأنه يقول يوم القيامة لا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية 22 من سورة إبراهيم كما قال في الدنيا لمن خذلهم «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ» الآية 48 من الأنفال في ج 3 وقد سمي خليله شيطانا تشبيها بفعله بجامع الإغواء في كل أو انه نسب الجنوح إلى قول خليله إلى الشيطان إذ ينسب إليه كل فعل قبيح وهو المضل لخليله فكأنما أضله فعلا ، وحكم هذه الآية عام في كل خليل أو حبيب اجتمعا في الدنيا على معصية اللّه فإنها تنقلب إلى عداوة وندامة وحسرة قال تعالى «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» الآية 67 من الزخرف في ج 2 فلينظر أحدكم أيها الناس من يخالل ، فإنه يحشر معه ، لأنه غالبا يكون على دينه ، لأن هذا الذي نزلت فيه هذه الآية بعد أن دخل في الإسلام وتمكن به اغواه صاحبه حتى ردّه عنه فهلكا جميعا قال :
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
فإذا كنت أيها العاقل لا تحب العزلة أو لا تقدر عليها فعليك بصحبة الصادقين ، قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» الآية 120 من سورة التوبة في ج 3 ، ولبحث الصحبة صلة في تفسير الآية المذكورة آنفا من سورة الزخرف ، فراجعها.
«وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ» وهذا من طريق بعث الشكوى من محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى مولاه على قومه اثر ما شاهد منهم من العتو والطغيان(2/83)
ج 2 ، ص : 84
والأعراض عن إجابة الدعوة ومقول القول «إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ» الذي أنزلته لخيرهم وصلاحهم وأمرتني أن آمرهم به وأنهاهم لمنفعتهم «مَهْجُوراً» 30 متروكا لا يلتفتون إليه ولا يؤمنون بهديه ولا ينظرون لرشده.
ومعنى الهجر القول السيء ، وذلك أنهم وصموه بالسحر والشعر والكهانة وخرافات الأولين ، فجعلوه بمثابة الهجر ، وفي هذه الآية تخويف لقريش لأن الأنبياء إذا شكوا أقوامهم إلى ربهم أو شك أن يحلّ بهم عذابه ويكدون أن لا يمهلوا
قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما جعلنا لك يا محمد أعداء من قومك «جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» أمثالهم ، وهذا كالتسلية له صلى اللّه عليه وسلم لئلا يكبر عليه ما جبهه به قومه وليصبر عليهم كما صبر أولئك الرسل على أقوامهم حتى يأتي وعد اللّه فيهم «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً» لعباده إلى ما خلقوا له «وَنَصِيراً» 31 لك عليهم.
ثم ذكر جل شأنه نوعا آخر من أباطيل المشركين فقال «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ» الذي يدعي إنزاله عليه من ربه «جُمْلَةً واحِدَةً» كالتوراة والإنجيل والزبور المنزلة على من قبله «كَذلِكَ» كمثل ما أنزلنا على من قبلك الكتب جملة واحدة لأنهم يحسنون القراءة والكتابة فلا يعزب عنهم شيء منه ويسهل عليهم تلاوته ، وبما أنك أمي فقد جمعنا لك الأمرين فأنزلناه أولا جملة واحدة من اللوح إلى بيت العزّة ، ثم أنزلناه عليك مفرقا «لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» فنقرّه به أولا بأول لنعيه وتحفظه ، لأنه نظم بديع عظيم ، ولو لم نقو قلبك بقوة منا لما قدرت على حفظه لأن القوى البشرية لا تقوى على حفظه دفعة واحدة فضلا عن أنه يتلى عن ظهر الغيب بخلاف الكتب الأخرى فإنّها تتلى بالصحف وحتى الآن لا تجد من يستظهر الإنجيل أو التوراة ، وهذا من معجزات القرآن إذ تجد الآلاف تستظهره فضلا عن أن الكتب القديمة لا تضاهيه ولا تحتوي على ما فيه وهو شامل لما كان ويكون مما فيها وفي غيرها من الصحف المنزلة على بقية الأنبياء ومما يحدث بعد إلى يوم القيامة وما يقع فيها من أحوال أهل الجنة والنار وما بعد ذلك ، ولهذا ولكونك أمّيّا أنزلناه مفرّقا ليسهل عليك تلقيه وحفظه ، وإن(2/84)
ج 2 ، ص : 85
إنزاله هكذا بحسب الحوادث والوقائع أبلغ في النفوس وأوقع بالأسماع «وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» 32 بيناه تبيانا واضحا بتثبيت وترسّل آية فاية وخمسا فخمسا وسورة فسورة ، ولو لا هذه الأسباب لأنزلناه عليك جملة واحدة ، لان هذا في مصلحتك مما هو موافق لما في علمنا فكنت من حيث الإنزال جملة كمن قبلك ومن حيث إنزاله مفرقا زيادة على غيرك من هؤلاء الكفرة على ربهم الذي لا يسأل عما يفعل وما يفعل إلا لحكمة ومن جهلهم عن مراده يعترضون عليه وليس لهم ذلك لانه ليس من خصائصهم قال تعالى «وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ» من أسئلتهم الواهية وتدخلهم فيما لا يعنيهم وما ليس لهم به علم «إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ» الواضح والجواب القاطع لتبطل به شبههم الباطلة بقول فصل لا محيد عنه ولا مرد له «وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» 33 بيانا وكشفا لأن برهانك قوي وحجتهم قاصرة ضعيفة وجوابك قاطع ، وأسئلتهم لا شأن لها وكلمة تفسيرا لم تكرر في القرآن.
ثم ذكر ما يؤول إليه أمرهم في الآخرة التي يجب أن يسألوا عنها ويعملوا لأجلها لأن مصيرهم إليها فقال «الَّذِينَ يُحْشَرُونَ» سحبا تحقيرا لهم «عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ» وأمثالهم «شَرٌّ مَكاناً» من غيرهم «وَأَضَلُّ سَبِيلًا» 34 أخطأ طريقا ، لأن جهنم دركات كل واحدة شرّ من الأخرى وأشد عذابا من التي فوقها ، كما أن الجنة درجات وكل درجة أحسن من التي تحتها.
روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف : صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم ، قيل يا رسول اللّه وكيف يمشون على وجوههم ؟ قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك.
وهذا يحتمل أنهم حينما يسحبون على وجوههم يصيبهم ذلك ، ويحتمل أنهم ينكسون نكسا فتكون رؤوسهم التي فيها وجوههم مما يلي الأرض ، والأول أولى لموافقته ظاهر القرآن ولهذا البحث صلة بتفسير الآية 97 من سورة الإسراء الآتية.
ثم شرع يقصّ على رسوله أخبار من تقدم من الرسل ، وما لا قوه من أقوامهم ليهون عليه ما يرى(2/85)
ج 2 ، ص : 86
من قومه تسلية له فقال «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» المعهود وهو التوراة «وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً» 35 معينا له لأن الوزير من يؤازر غيره ويعينه على تنفيذ ما يريده ، وإن الشريعة خاصة لموسى بدليل تخصيصه بالكتاب ، وهرون تابع له فيها اتباع الوزير لسلطانه ، «فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ» القبط الذين يرأسهم فرعون «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» التسع العظام وغيرها وأرشدهم إلى طريقنا فذهبا ، ولم يجد معهم إرشادهما نفعا وكذبوهما «فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» 36 إهلاكا هائلا
عجيبا لا يدرك كنهه البشر «وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ» قبله وهم إدريس وشيث وأتباعهم المؤمنين ثم كذبوا نوحا أيضا ، ولهذا جاء بلفظ الجمع إيذانا بأن من كذب رسولا واحدا فكأنما كذب الرسل كلها ، وهو كذلك ، ولهذا فلا مقال على مجيء الآية بلفظ الجمع بسبب أن المذكور واحد «أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً» عظيمة ليعتبروا بها هم ومن بعدهم «وَأَعْتَدْنا» هيأنا «لِلظَّالِمِينَ» منهم في الآخرة «عَذاباً أَلِيماً» 37 مبرحا شديدا غير عذاب الدنيا ، وإنما وصفه بالأليم لأن عذابه لا يقادر قدره في الشدة ، أجارنا اللّه منه «وَعاداً» قوم هود «وَثَمُودَ» قوم صالح «وَأَصْحابَ الرَّسِّ» قوم شعيب أهلكناهم كلهم لمخالفتهم أو أمرنا وعدم انقيادهم لرسلنا وإصرارهم على الكفر.
وقد تقدمت قصصهم في الآية 58 فما بعدها من سورة الأعراف المارة وسيأتي لقصصهم صلة في الآية فما بعدها من سورة هود في ج 2 «وَقُرُوناً» دمرناهم أيضا «بَيْنَ ذلِكَ» بين نوح وشعيب «كَثِيراً» 38 منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص كما سيأتي في الآية 71 من سورة المؤمن في ج 2 أيضا «وَكُلًّا» من الجاحدين والمعاندين المار ذكرهم والآتي ، لأن التنوين في كلا للعرض أي لكل منهم «ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ» في إقامة الحجة عليهم من أخبار الأولين «وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً» 39 مزقناهم تمزيقا هائلا يتعجب منه لا تتصوره عقول البشر لعدم إجابتهم الدعوة أيضا «وَلَقَدْ أَتَوْا» أي طائفة من قومك يا محمد «عَلَى الْقَرْيَةِ» التي كانت مسكنا لقوم لوط المسماة سذوما باسم قاضيها(2/86)
ج 2 ، ص : 87
سذوم ، وجاء في المثل : أجور من سذوم.
أعاذنا اللّه مما وقع عليها.
وإنما ذكر هذه القرية دون غيرها لأنها على طريقهم حين يذهبون إلى الشام وقد مروا بها مرارا كثيرة وتناقلت لهم أخبارها فهي «الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ» بالحجارة النازلة من السماء بعد أن قلبت وجعل أسفلها أعلاها «أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها» أجهلوها ألم يعلموا سبب تدميرها «بَلْ» رأوها وعرفوها وبلغهم ما وقع بأهلها ولكنهم «كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً» 40 بعثا بعد الموت ولا يتوقعون حصوله وجهدهم هذا في إصرارهم على فعل الفحشاء أسّ عنادهم وأصل عتوهم ومنشأ عذابهم وسبب إهلاكهم
«وَإِذا رَأَوْكَ» يا سيد الرسل ما «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ» هؤلاء الكفرة «إِلَّا هُزُواً» سخرية ويقولون «أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» 41 استخفافا به قاتلهم اللّه ، نزلت هذه الآية في أبي جهل وأضرابه ، إذ كانوا إذا مرّ بهم حضرة الرسول قالوا ذلك الكلام وقالوا أيضا «إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا» وقد قرب وأوشك من تنفيذ مراده بها «لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها» بتحملنا تأنيب محمد وأصحابه وتعريضهم بها وبنا ، ولكنا لم نلتفت إليهم ، فثبتنا ودمنا على عبادتها ، وإلا لصرفنا عنها بما أوتيه من بلاغة وفصاحة ولين جانب ، وهذا دليل على فرط مجاهدته صلى اللّه عليه وسلم في دعوته إلى اللّه ، ولهذا هددهم فأنزل فيهم هذه الآية وختمها بقوله «وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» إذا لم يقلعوا عما هم عليه «حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ» ال فيه للجنس ، فيشمل عذابي الدنيا والآخرة «مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا» 42 هم أم نحن بل هم حقا حقا يا أكمل الرسل «أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» بأن أطاع هوى نفسه فيما يأتي ويذر وأطلق لها العنان فلم يقيدها بقيود الشريعة ولم يصغ إلى نصح الرسل «أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» 43 تراقبه وتحفظه من عبادة ما يهواه كلا لا تقدر على ذلك «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ» الوعظ والإرشاد سماع قبول «أَوْ يَعْقِلُونَ» معنى ما يذكرون به من الحجج والدلائل كلا «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ» في عدم الانتفاع بالذكرى ، وعدم التدبر والتفكر بالمصير ، وعدم(2/87)
ج 2 ، ص : 88
صرف جوارحهم إلى ما خلقت لها «بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» 44 من الأنعام لأنها تهتدي لمرعاها ومأواها وتتقي الحر والبرد ، وتصرف الضار من النبات ، والنافع والعذاب والمالح والمر من الماء ، وتنقاد لمن يتعهدها ، وتنفر من غيره ، وتسبّح ربها بما ألهمت به من أنواع التسبيح كما سيأتي في الآية 43 من سورة الإسراء الآتية ، وهم لا يعقلون شيئا من ذلك ، مع علمهم بأن اللّه خلقهم ورزقهم ، ولم ينقادوا إليه ، ولم يتبعوا رسله.
ونظير هذه الآية ، الآية 171 من البقرة في ج 3 من حيث المعنى ، ثم طفق يذكر لهم بعض دلائل توحيده فقال عز قوله «أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» وهو ما تنسخه الشمس من طلوعها إلى الزوال والفيء ما ينسخ الشمس من الزوال إلى الغروب ، فهو عكسه ، وكل منهما متحرك بحركة لطيفة لا تدرك ، فهو من قبيل الموجود المعدوم كفلكة المروحة لا تكاد تراها وهي موجودة.
قال الإمام الغزالي في تشبيه الدنيا من حيث تلقيها بالظل :
إنه متحرك ساكن ، متحرك في الحقيقة ساكن في الظاهر ، لا تدرك حركته بالبصر بل بالبصيرة الباطنة (ص 186 ج 3 في كتاب ذم الدنيا) أي ألم تر أيها الإنسان إلى صنع ربك البديع ، إذ ليس المقصود هنا رؤية اللّه تعالى ذاته ، لأن الرؤية هنا بصرية بدليل تعديتها بإلى «وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» ثابتا دائما لا تذهب الشمس ، وفي هذا تنبيه على أن لا دخل للأسباب العادية من قرب الشمس إلى الأفق الشرقي على للقول بأن المراد بالظل ما بين طلوع الفجر والشمس أو ما بين غروبها وطلوعها ، أو قيام الشاخص الكثيف على القول بأن المراد مطلق الظل وهو الأولى على ظاهر القرآن ، وإنما المؤثر فيه حقيقة المشيئة والقدرة الإلهية وحدها «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا» 45 فلولاها لما عرف الظل ، ولو لا النور ما عرفت الظلمة ، والأشياء تعرف بأضدادها «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» 46 جدا أي أزلناه بعد ما أنشأناه بتسليط الشمس عليه شيئا فشيئا ، بصورة محسوسة فعلا غير محسوسة نظرا لدقة السير ، ذلك صنع الخالق المبدع من غير عسر عليه دلالة على توحيده ، وجاء الخطاب في هذه خاصا كما هو شأن كل خطاب مثله ، (2/88)
ج 2 ، ص : 89
بخلاف الخطاب بقوله (أَ فَلا يَنْظُرُونَ) فإنه للعام ، لأن المراد تقرير رؤيته عليه السلام لكيفية مدّ الظل بينها إلى أن نظره عليه الصلاة والسلام غير مقصود على ما يطالعه من الآيات في آثار اللّه وصنايعه ، بل مطمح أنظاره صلى اللّه عليه وسلم معرفة شؤون الصانع المجيد ، وفي هذه الآية الجليلة إشارة إلى التصوير الشمسي لأن الشمس دالة عليه وتقبضه الآلة الآخذة بسهولة عند مقابلتها لشخص الإنسان ، وهذا من أسرار القرآن التي لم يطلع عليها البشر قبل اختراع آلة التصوير ، ومن أموره الغيبية التي يطلعنا اللّه عليها ، وكم من أسرار ستظهر بعد للبشر من مكوناته وكان التصوير قبلا بطريق النحت والتجميل ، وهذه هي المنهي عنها صنعا واتخاذا.
هذا ومن دلائل توحيده قوله عز قوله «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً» غطاء ساترا لكم بظلمته كالثوب يستر لابه فيختفي فيه من أراد الاختفاء عن عيون الناس «وَالنَّوْمَ سُباتاً» لأجل الراحة لا عمل فيه للقوى الحيوانية «وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً» 47 ينتشر فيه الناس لمصالحهم ابتغاء فضل اللّه ، ويطلق النشور على الانبعاث من الموت ، كما يطلق على اليقظة من النوم ، وكذلك السبات يطلق على الموت لأن النوم أحد التوفيتين الواردة في قوله تعالى «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ» الآية 42 من سورة لزمر قال لقمان لابنه : كما تنام توقظ كذلك تموت فتنشر.
وهذا مما اتفقت عليه عامة أهل الكتب السماوية كوجود الآله والاعتراف بالرسل ، وأنكره من لا دين له كالدهرية.
ومن دلائل توحيده قوله جل قوله «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً» لعباده بنزول الغيث ولهذا فأن الإبرة المخصوصة الدالة على تقلبات الجو المسمات (بارومتر) وتشير إلى وقوع المطر خلال أربع وعشرين ساعة بسبب هذه الرياح ، وقد يقع خلالها إذا لم يتغير الجو فتبشر بها الناس.
وقريء نشرا بالنون أي ناشرات السحاب وباعثات له ، لأنها تجمعه لا من النشر بمعنى التفريق ، لأنه غير مناسب للمعنى ، إلا أن يراد به معنى السوق مجازا ، ولا محل هنا للمجاز ، فأصبحت الحقيقة «بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» أي قدام المطر على طريق الاستعارة ، بجامع الخير الكثير والنفع العام في كل من(2/89)
ج 2 ، ص : 90
رحمته وغيثه استعارة مليحة لأنه ريح فسحاب فمطر «وَأَنْزَلْنا» بعد إنزال وإثارة الغمام «مِنَ السَّماءِ» الجهة العلوية وكل ما علاك فأظلك فهو سماء «ماءً طَهُوراً» 48 في نفسه مطهرا لغيره «لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» أرضا لا نبات فيها ، وتطلق البلدة على الأرض وعليه قوله :
أنيخت فألفت بلدة بعد بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها
أي خباؤها ، راجع تفسير الآيتين 57 ، 58 من سورة الأعراف المارة ، والآية العاشرة من سورة طه الآتية.
قال تعالى «وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً» 49 من أهل البوادي والقرى وغيرهم ، وأهل البوادي أحوج من غيرهم إليه ، لأن القرى والأمصار لا تكون إلا على الماء غالبا من نهر أو عين أو مسبح أو بئر أو صهاريج وأناسيّ جمع أنيسي مثل كرسي وكراسي ، وما قيل إنه جمع إنسان أو جمع ناس فغير وجيه ، وقال سيبويه إنه جمع إنسان وعلله بأن أصله أناسين ، فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها.
وقال صاحب الخازن جمع ناسي.
وقري ونسقيه بفتح النون.
وسقى وأسقى لغتان وما جرينا عليه أوجه «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ» على أنحاء وأوقات مختلفة ، وهذا معنى التصريف واللام في لقد للقسم ، والمعنى وعزّتي وجلالي لقد قسمنا مياه الأمطار «بَيْنَهُمْ» أي الناس بحسب الحاجة على البلدان المتغايرة والأوقات المختلفة والصفات المتفاوتة ، راجع الآية 27 من سورة السجدة في ج 2 «لِيَذَّكَّرُوا» في قدرتنا كيف نرسله إلى محل دون آخر ووقت دون وقت ، مرة وابلا وأخرى طلا أي مطرا شديدا وخفيفا وطورا ديمة يداوم أياما ، وتارة طشا متقطعا كالمزن أو متصلا ، وأوانا رذاذا ، على مقتضى الحال والحاجة المحل الذي ينزل فيه ، ومع هذا «فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» 50 بنعمنا المترادفة عليهم ، وعدم التذكر بآلاءنا ولم يكتفوا بذلك حتى أسندوه إلى مخلوقاتنا ، إذ يقولون مطرنا بنوء كذا ، روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهمي أنه قال قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في اثر سماء من الليل ، فلما انصرف أي سلّم أقبل على الناس فقال(2/90)
ج 2 ، ص : 91
أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل اللّه ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر مؤمن بالكواكب ، والمراد بالأنواء مطالع النجوم في المشرق عند سقوط ما يقابلها بالمغرب ، وكانت العرب تسند بعض الحوادث كالأمطار والرياح وغيرها إلى تلك الأوقات ، ويطلق النوء على النجم أيضا إذا مال إلى الغروب وقدم في هذه الآية الأنعام على الناس لا لفضلها ، بل لأنها قنية الناس وعامة منافعهم ومعايشهم منها من تقويم الأسباب على المسببات كما قدم أحياء الأرض على إسقاء مخلوقاته لأنه السبب في حياتها
قالتعالى «وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» 51 ينذرهم بأسنا ويخوفهم عقابنا ، فما بالهم استكثروا علينا إرسالك عليهم يا خاتم الرسل ألم يعلموا أن من قدر على إرسال واحد يقدر على إرسال أكثر إذ لا يعجزنا إرسال الأنبياء الكثيرين كما فعلنا ذلك في بني إسرائيل ومن قبلهم ، ولكن قضت حكمتنا أن نختم الرسل بك ونعمم رسالتك إلى كافة الخلق وإجلالا لشأنك ، وقد حملناك ثقل إنذار العامة خلافا للرسل قبلك ، إذ أرسلناهم خاصة لأناس دون آخرين لتستوجب لدينا بصبرك عليهم واجتهادك على نصحهم وعنايتك وجدك بما عهدناه إليك ، ما أعددناه إليك من الكرامة العظيمة والدرجة الرفيعة وحسن المنقلب في دار كرامتنا «فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ» فيما يريدونك عليه من الإمساك عن كلامنا الذي نوحيه إليك لإرشادهم ، وما يندبونك إليه من اتباع دينهم المعوج ، وهذا في حقه محال إلا أن فيه تهيج وإلهاب المؤمنين على التصلب بدينهم تجاه الكفرة وتحريكهم إلى التقدم في أمر دينهم كما يدل عليه قوله تعالى «وَجاهِدْهُمْ بِهِ» عظهم بالقرآن بكل جهدك وازجرهم وأغلظ عليهم بالوعظ «جِهاداً كَبِيراً» 52 شديدا يقطع أملهم عما يريدونه من الميل إلى دينهم ويستميلهم إلى الإيمان باللّه وحده.
مطلب بيان البرزخ بين العذب والمالح :
ومن دلائل توحيده قوله «وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ» أرسل «الْبَحْرَيْنِ» في(2/91)
ج 2 ، ص : 92
مجاريهما متجاورين متلاحقين بقدرته وأهل المرج الخلط يقال مرج الأمر إذا اختلط والمرج المكان الواسع الجامع للكلأ والماء ، وفيه أنواع كثيرة من النبات ، ويسمى المرعى مرجا لاختلاط النبات فيه «هذا عَذْبٌ» حلو ماؤه «فُراتٌ» قاطع للعطش لشدة عذوبته المائلة للحلاوة «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» ضد الأول على طرفي نقيض ، والأجاج الشديد الملوحة المائل إلى المرارة ، وفي الإشارة إشارة إلى بعدها عن بعضها بدليل قوله جل قوله «وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً» حاجزا عظيما يمنعهما من التمازج.
وجاء بالفارسية كلمة (برزة) بمعنى برزخ وجاء في سورة الرحمن بينهما برزخ لا يبغيان الآية 20 في ج 3 فالتنوين في هاتين الآيتين يدل على عظم هذا البرزخ الفاصل بينهما وهو كذلك حيث يوجد بينهما مسافات كثيرة قبل التلاقي «وَحِجْراً مَحْجُوراً» 53 تنافر مفرطا كأن أحدهما يتعوذ من الآخر ، وقد ذكرنا في تفسير الآية ، المارة أنهم يستعملون هاتين الكلمتين مقام الاستعاذة عند طروء ملمة أو هجوم عدو أو وقوع نازلة أو حدوث مهم ، والمراد من إيجاد هذا البرزخ العظيم بين العذب والملح لزوم كل منهما صفته التي هو عليها ، لئلا ينقلب العذب ملحا ولا الملح عذبا ، وهو في مكانه لم يختلط بغيره مهما بقي ، وذلك من كمال قدرة اللّه لا بطبيعة الأرض ولا بطبيعة الماء ، وإلا لكان الكل عذبا أو ملحا.
وما قيل إنهما بحران متلاصقان حلو ومالح لم يشاهدهما أحد ، أو أن أحدهما في الأرض والآخر في السماء وأنهما يلتقيان في كل عام كما ذكره بعض المفسرين قيل لا يرتضي ولا ينبغي أن يقال ، لأن اللّه كلم الناس على لسان نبيه بما يفهمون ويعقلون وهو لا يعجزه جعلها كذلك ، لأنه القادر على أكثر من ذلك ، إلا أنه لا حاجة لذكر غير المعقول والجنوح إليه عند وجود المعقول المشاهد ، على أنه لا ينكر وجود عيون ماء حلو تنبع في وسط البحر وعلى شواطئه تشرب منها الناس وتذهب إليها بالزوارق كما في البحرين ، حيث يوجد نبع ماء فيه يتدفق بقوة وينساب مع ماء البحر على سطحه ويمتاز عنه بلونه ويصير كالخط المستطيل ، إلى أن يندمج فيه.
ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 14 من سورة فاطر الآتية(2/92)
ج 2 ، ص : 93
ومن دلائل توحيده قوله «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ» المني وأطلقه بعض المفسرين على الماء الذي خمّر به طينة آدم عليه السلام ولكنه لا ينطبق على المعنى لأن آدم لم يخلق من الماء وحده بل من الماء والطّين تأمل «بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً» ينسب إليه كالذكور من نوعه «وَصِهْراً» يصاهر به الغير كالإناث ، أي أنه جل شأنه قسم البشر المخلوق من النطفة للقسمين المذكورين قال تعالى «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » الآية قبل الأخيرة من سورة القيامة المارة «وَكانَ رَبُّكَ» سابقا ولاحقا «قَدِيراً» 54 على ما أراده وجعله طبق مراده ، فجعل من المني الواحد المعرفة بالماء وهو النطفة المختلطة من ماء الزوجين ذكرا وأنثى ، وقد يكونا في بطن واحدة ، وجعل النسب المذكور فيقال فلان بن فلان وفلانه بنت فلان ، والصهر للأنثى فيقال فلان صهر فلان إذا تزوج ابنته وأخته ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية الأولى من سورة النساء في ج 3 ، هذا وقد ذكر اللّه تعالى خمس آيات ، من ألم تر إلى هنا مدعمات بالدلائل على عجائب قدرته وبديع صنع وحدانيته ، ليتذكر بها من تذكر من الذين أرسل إليهم محمد إبان نزولها وبعده وإلى قيام الساعة ، وكأنها مع الأسف لم تتل عليهم ولم يسمعوا بها ولم يلقوا لها بالا لقوله تعالى «وَيَعْبُدُونَ» أولئك الكفرة مع بيان هذه الآيات المعجزات والبيّنات أوثانا يخصونها بالعبادة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» خالقهم وخالقها ومانحهم هذه النعم العظيمة «ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ» عبدوها أولا لأنها جماد لا تحس بعبادتهم لها ، ويتركون عبادة النافع الضار الإله الواحد ويجحدون وجوده «وَكانَ الْكافِرُ المتوغل بكفره «عَلى رَبِّهِ» الذي يرى آثار نعمه عليه ويحس بها عند الحاجة قال تعالى (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) الآية 67 من
سورة الإسراء الآتية ، وينسونه عند الفرج ويكون «ظَهِيراً» 55 معينا لنفسه وللشيطان على ربه اللطيف به المعطوف عليه ، وذلك أنه يتابع الشيطان بما يوسوس إليه على عبادة الصنم ويعاونه في إغوائه على معصية اللّه فيغفله وينساه حتى إذا
أدركته الشدة رجع إليه واعترف بربوبيته ، فإذا زالت تلك الشدة عنه ، (2/93)
ج 2 ، ص : 94
وأغدق عليه من المال والولد وغمره في خيره وأقر عينه ، نسى ربه وأعرض عنه ولجأ إلى أوثانه ، فلا حول ولا قوة إلا باللّه.
وهذه الآية عامة في كل كافر هذا شأنه ، وما قيل إنها نزلت في أبي جهل وإخوانه الكفرة على فرض صحته لا يخصصها بهم بل تبقى على عمومها ، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ ما لم يقيد أو يخصص ، وما قيل إن ظهيرا بمعنى مهين أخذا من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك ، ويكون المعنى حينئذ وكان الكافر مهينا عند اللّه لا خلاق له عنده ، بداعي أن فعيلا بمعنى مفعول كما ذكره الطبري ونقله عنه غيره فهو قيل غير معروف ، لأن المعروف أن ظهر بمعنى معين لا بمعنى مظهور به وهو كما ترى ، قال تعالى «وَما أَرْسَلْناكَ» يا سيد الرسل «إِلَّا مُبَشِّراً» بالثواب العميم لأهل الإيمان «وَنَذِيراً» 56 بالعقاب الجسيم لأهل العصيان المصرين على كفرهم «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الذين يقولون لك نجمع لك مالا لتكون أغنانا كما مر في الآية الثامنة «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» على تبليغكم هذا القرآن «مِنْ أَجْرٍ» لي مطلقا «إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ» بإنفاق شيء من ماله لصلة رحمه أو فقراء قومه أو غيرهم من أبناء السبيل واليتامى والأرامل إنفاقا خاصا «إِلى رَبِّهِ» يبتغي بذلك الإنفاق «سَبِيلًا» 57 طريقا طلبا لمرضاته وليوصله إلى نعيم جناته ، لأن هذا من جملة ما أوحى إلي به ربي وأمرني بتبليغه وجعل عليه الخير الكثير والأجر الكبير ، قل لهم هذا يا حبيبي «وَتَوَكَّلْ» في جميع أمورك «عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ» فهو أحق من يتوكل عليه وأوجب من يفوض الأمر إليه ، لأن من يتوكل على من يموت انقطع أمله منه بموته ، ومن يتوكل على الميت طبعا كالأصنام فهو أشر حالا وأسوأ مآلا أيضا.
أخرج ابن الدنيا في التوكل والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن أبي بثيث قال : مكتوب في التوراة لا توكل على ابن آدم فإن ابن آدم ليس له قوام ، ولكن توكل على الحي الذي لا يموت.
ولما قرأ بعض السلف هذه الآية قال لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وكيف يثق به وهو متقلّب إن لم يمت يرجع عن قوله ، فتوكل على اللّه وحده أيها العاقل «وَسَبِّحْ(2/94)
ج 2 ، ص : 95
بِحَمْدِهِ»
ليزيدك من أفضاله «وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ» ما ظهر منها وما بطن وما كان منها عن قصد أو خطأ أو إكراه أو رغبة «خَبِيراً» 58 بها لأن الخبرة معرفة بواطن الأمور ومن علم البواطن فهو في علم الظواهر أعلم.
وفي هذه الآية وعيد وتهديد فكأنه جل جلاله يقول : إذا خالفتم أمري يكفيكم علمي بما تستحقونه من العقوبة إذ لا يخفى عليّ شيء مما تفعلون أو تتصورون.
مطلب الأيام الستة ومعنى فاسأل به خبيرا :
واعلموا أن ذلك الإله العظيم القادر هو «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» زمانية بحسب تقديركم أيها الناس ، والقصد من خلقها في ستة أيام مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة هو أنه جعل لكل شيء حدا محدودا لا يتعداه ، فلا يدخل شيء من مخلوقاته في الوجود إلّا بالوقت الذي قدره لدخوله فيه ، ولفائدة أخرى هي تعليم عبادة التؤدة والتريث في الأمور والتأني بفعلها.
قال عليه الصلاة والسلام : التأني من اللّه والعجلة من الشيطان.
ولفائدة ثالثة وهي أن الشيء إذا فعل دفعة واحدة ظن وقوعه اتفاقيا ، وإذا حدث شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة.
والقول الفصل في هذا وغيره مما هو من شأن اللّه أن أفعال اللّه لا تعلل ، اقرأ قوله جل قوله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) الآية 23 من سورة الأنبياء في ج 2 ، ولا شك أن اللّه تعالى قادر على إبادة هذا الكون بما فيه علوه وسفله وإنشائه كما كان أو على شكل آخر في لحظة واحدة ، لأن أمره بذلك عبارة عن كن ، قال تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) الآية 50 من سورة القمر المارة ، راجع الآية 82 من سورة يس ، والآية 54 من سورة الأعراف المارتين ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 9 من من سورة فصلت في ج 2 ، «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» استواء يليق بذاته ويراد به الاستيلاء واللّه أعلم «الرَّحْمنُ» بالرفع بدلا من ضمير استوى «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» 59 بكل ما خطر ببالك وما لم يخطر ، قال تعالى (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) الآية 14 من سورة فاطر الآتية ، قيل الخبير هنا هو جبريل عليه السلام(2/95)
ج 2 ، ص : 96
أو من له علم في الكتب القديمة ، وعلى هذا يعود ضميريه إلى الرحمن ويكون المعنى اسأل رسولي أو من له خبرة بما أنزلته من كتاب يعلمك أفعالي بمن كذب الرسل وصدقهم ، والأول أولى وأحسن ، لأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم أولى بمن يسأل ربه وهو أعلم بربه من غيره ، راجع الآية 40 من سورة النحل الآتية ، واعلم أن فعل سأل يتعدى بعن إذا ضمن معنى التفتيش ، ويتعدى بالياء إذا ضمن معنى الاعتناء ، ويتعدى بإلى إذا ضمن معنى الطلب ، وإذا كان كذلك فلا حاجة للجري على القول بأن الباء هنا بمعنى عن لأن لك أن تجعلها بمعنى من وإلى أيضا ، وغير خاف عليك أن حروف الجر تخلف بعضها كما سننوه به في الآية 71 من سورة طه الآتية ، قال علقمة بن عبيدة :
فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب
فقد ضمن الباء هنا معنى عن ، وأمثاله كثير في القرآن والحديث والضمير راجع إلى الرحمن كما ذكرنا ، وقيل يعود إلى ما ذكر من الخلق الاستواء ، والمعنى إن شئت تحقيق ما ذكر أو تفصيله فاسأل عليما به معتنيا بصيرا عظيم الشان محيطا بظواهر الأمور وخوافيها ، عارفا بها ، يخبرك بقدرته ، ومن هذا الخبير الذي يسأله محمد صلى اللّه عليه وسلم غير ربه جلّ وعلا ؟ أي كأنه يقول له اسألني أخبرك لأن من أنشأ هذه الأجرام العظام على هذا النمط الفائق ، والنسق الرائق ، بتدبير متين ، وترتيب مبين ، في أوقات معينة مع كمال الإبداع ، لجدير بالإخبار عن ماهيتها وبيان ما أودع فيها من حكم جميلة وغايات نبيلة لا تقف على تفاصيلها العقول ، وهو أحق أن يسأل لأنه هو وحده القادر على خلقها دفعة واحدة في أقل من لحظة ، وهو جدير بأن يطلعك على جليلة أمرها ووضوح حقائقها لا غير ، قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ» لا نعرفه يا محمد من هو ، وإنما نعرف رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب ، وهذا كقول فرعون لموسى (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) الآية 23 من سورة الشعراء الآتية ، صدق اللّه بقوله (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية 118 من البقرة في ج 3 ، لأن ردّ الكفرة للأنبياء من لدن نوح إلى محمد جاء(2/96)
ج 2 ، ص : 97
على وتيرة واحدة ، وسؤالهن هذا من تجاهل العارف لأنه مذكور في الكتب المتقدمة بالعبرانية بلفظ رحمان كما ذكر موسي (موشى).
وقالوا على طريق الاستفهام الإنكاري «أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا» يا محمد ؟ كلا لا نفعل أبدا «وَزادَهُمْ» طلب السجود والأمر به «نُفُوراً» 60 عن الإيمان باللّه ورسوله وجاهروه بعدم الامتثال.
واعلم أن هذه السجدة من عزائم السجود فتجب على القارئ والسامع ، وقدمنا ما يتعلق بالسجود للّه في الآية الأخيرة من سورة الأعراف وص والنجم المارات فراجعها.
مطلب البروج وأقسامها وما يتعلق بقضاء الورد :
قال تعالى «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً» قال ابن عباس هي منازل الكواكب السيارات السبع وقد بيناها أول سورة البروج المارة وسميت بروجا تشبيها لها بالمنازل لمنازل هذه الكواكب ، ومعناها القصور ، فالأسد بيت الشمس ، والسرطان بيت القمر ، والحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والقوس والحوت بيتا المشتري ، والجدي والدلو بيتا زحل ، وهي مقسومة على الطبائع الأربع فالحمل والأسد والقوس مثلثة ناريّة ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية ، وقسمنا في الآية 38 من سورة يس المارة ما يتعلق بالمنازل مفصلا فراجعها ، ولهذين البحثين صلة في الآية 16 من سورة الحجر في ج 2 تستكمل به ما يتعلق بها ان شاء اللّه «وَجَعَلَ فِيها سِراجاً» شمسا «وَقَمَراً مُنِيراً» 61 مضيئا راجع الآية 13 من سورة الإسراء الآتية تجد تمام هذا البحث «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً» لبعضهما يعقب الواحد الآخر ويقوم مقامه بالعمل ، فإذا فات الإنسان عمله بالليل قضاه بالنهار ، وإذا فاته بالنهار أتى به بالليل ، والمراد هنا اختلافها في الزيادة والنقصان أيضا والسواد والبياض وذهاب أحدهما ومجيء الآخر دون فاصلة ، وانما جعلهما يخلف كل منهما الآخر لمقتضى الحكمة والمصلحة «لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ» في عبادة ربه فيهما وما فاته من ذكره أو نسيه في أحدهما أو لم يتمكن من إتمام(2/97)
ج 2 ، ص : 98
الأذكار المأثورة التي رتّبها على نفسه في الليل قضاه في النهار ، وكذلك بالعكس روى الطيالسي وابن أبي حاتم أن عمر رضي اللّه عنه أطال صلاة الفجر ، فقيل له صنعت شيئا لم تكن تصنعه ؟ قال إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه.
وتلا هذه الآية.
ومن التذكر المأجور عليه أن يتفكر في كيفية تسخيرهما واختلافهما وانتظام سيرهما ، ويستدل بذلك على عظمة مبدعهما ومدبرهما ، ويستفاد من ظاهر الآية أن الأوراد التي قد اعتادها السادة الصوفية بارك اللّه فيهم لها أصل في النوع مقتبس من هذه الآية المؤيدة بفعل عمر رضي اللّه عنه ، وفيهما دليل على تقننها وأن قضاء ما فات منها لازم على النفوس الطاهرة التي ترى ما التزمته على نفسها من الذكر واعتادته لازما عليها قضاؤه استنباطا من الأصول الفقهية مثل من شرع في نفل وأبطله وجب عليه قضاؤه ، مع أنه نفل «أَوْ أَرادَ شُكُوراً» 62 بأداء نوع من العبادة وردا خاصا له شكرا لنعم ربه وإفضاله عليه لانه لو استغرق زمنه كله في شكر ربه لم يؤد حقه ورحم اللّه الشيخ بشيرا الغزي إذ يقول في مقدمته منظومة الشمسية في علم المنطق :
لو أن كل الكائنات ألسنة تثني على علاه طول الأزمنه
لم تقدر الرحمن حق قدره ولم تؤد موجبات شكره
ويؤذن عطف إرادة الشكر على التذكر إرادة فعل النافلة بعد الفريضة وتلاوة الأذكار المأثورة بعدها والتفكر في بدايع صنع اللّه مما ينور القلب ويطلعه على علم ما لم يعلم.
فاغتنم أيها العاقل واستكثر من الذكر المشروع ولا تنظر لأقوال المتطفلين على الدين الذين (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) الآية 7 من سورة الروم في ج 2 أجارنا اللّه من الغفلة وحمانا من العطلة ، ووفقنا لما به الفلاح والنجاح هذا وقد قرأ زيد بن علي وطلحة وغيرهما (أَنْ يَذَّكَّرَ) بالتخفيف مضارع ذكر وهي قراءة جائزة وتؤيد ما ذكرناه ، ومما يوثقه أيضا وصف اللّه تعالى عباده بقوله «وَعِبادُ الرَّحْمنِ» الذين دأبهم ذكره وشكره العارفون به «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً» بالسكينة والوقار متواضعين(2/98)
ج 2 ، ص : 99
لا يمرحون ولا يختالون ولا يتبخترون.
راجع الآية 36 من الإسراء الآتية ، وقد أضافهم جل شأنه لنفسه للعلم بأنهم المخصوصون بإفضاله المنعم عليهم بصفة كماله ، لأن العبودية فعل المأمورات وترك المنهيات ، لا لرجاء الثواب والنجاة من العقاب الذين تقتضيهما معنى العبادة ، بل لمجرد إحسان اللّه تعالى ومطلق أمره ونهيه ، استحقاقا لذاته المقدسة «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» 63 أي ومن صفاتهم أيضا يقولون قولا يدل على المتاركة والإغضاء عند ما يجابههم السفيه وقليل الأدب والساخر والمستهزئ بما لا ينبغي أن يقال لمثلهم ، ولفظ الجاهل يدخل فيه ما ذكرنا إذ لم يرد فيه في هذه الآية من هو دون البلوغ ولا عديم العلم ، وهذا الجواب الذي علمه اللّه لخيرة خلقه على نهاية من الاستحسان أدبا ومروءة ، وأسلم للغرض ، وأوفق للورع ، ولا وجه لقول من قال أن المراد به السلام المعروف لأنه جاء في الآية 92 من سورة النساء مع أن سورة النساء مدنية وهذه مكية ولم يؤمر فيها بعد بالسلام بل هو سلام متاركة وتوديع لا سلام تحية واستقبال مثله قول سيدنا إبراهيم لأبيه (سلام عليك) الآية 48 من سورة مريم الآتية وفسره بعضهم «بسداد» أي أراد قولا من سداد القول ولينه ، وهو داخل فيما ذكرته أي أنهم يحلمون ولو تعدى عليهم ولا يسفهون وإن تسوفه عليهم ، ولا يجهلون وإن جهل عليهم ، ولا يتمثلون بقول صاحب المعلقة عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فؤق جهل الجاهلينا
وذلك لأنهم تركوا نفوسهم وأقبلوا على ربهم فلم تبق عندهم أنفة الجاهلية ، ولهذا نهي عن مخالطة الجهال بذلك المعنى لئلا يكون في عدادهم قال علي كرم اللّه وجهه :
فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى حليما حين آخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ماشاه
وللقلب على القلب دليل حين يلقاه(2/99)
ج 2 ، ص : 100
وقال الآخر :
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
مطلب إحياء الليل والآيات المدنيات وكلمات لغوية :
وهكذا كان شأنهم بالنهار ، وانظر كيف وصفهم ربهم بما يكون منهم بالليل بقوله جل قوله «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً» 64 أي أنهم يجعلون بدل النوم الصلاة ، لأنهم يتلذذون بالتشوق إلى المعبود أكثر من التذاذهم بالنوم ، والبيتوتة لا تختص بالنوم ، بل إن يدركك الليل تمت أو لم تنم وقيام الليل من السنن التي دأب عليها الصالحون ، لأنه وقت اجتماع المحب بالمحبوب ، والطالب بالمطلوب ، وإحياء الليل أنواع أفضلها إحياؤه كله بالصلاة والذكر ، ثم الاقتصار على ثلثيه ، فعلى ثلثه ، فسدسه ، فعلى ما يتيسر منه ، كما مر في آخر سورة المزمل قال الفقهاء : من قرأ شيئا من القرآن في الليل في صلاته فقد بات ساجدا.
روى مسلم عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل ، ومن صلى الفجر بجماعة كان كقيام ليله كله.
وقريء سجودا على وزن قعودا ، وهي أوفق بالنسبة لذكر قياما من حيث اللغة ، إلا إن سجدا يدل على التكثير أكثر من سجودا فهو أنسب بالمقام وأبلغ في المعنى.
ومن أراد الوقوف على الأوراد وأوقاتها وفضلها فليراجع الباب الأول من كتاب عين العلم للأستاذ الملا علي القاري رحمه اللّه ، ففيه كل ما يريده ويتصوره ، قال تعالى في وصف دعائهم «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً» 65 لازما دائما لا ينفك ، وهذا الغرام يراد منه الامتداد والاستمرار ، فيختص بالكفار أجارنا اللّه منه ، مثله مثل ملازمة الغريم مدينه ، ومعناه الجزاء بأكثر مما يستحق.
ثم وصف اللّه تعالى جهنم بقوله «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» 66 فبئس الموضع موضعها وبئس المقام مقامها وأنت الضمير لتأويل المستقر بجهنم أو لأجل المطابقة للمخصوص بالذم ، ثم وصف اللّه صدقاتهم فقال «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا» أي بأن(2/100)
ج 2 ، ص : 101
يتجاوزوا بها قدرتهم أو يعطوها لغير مستحقيها ، فإن هاتين الخصلتين من الإسراف ، فكيف بمن ينفق ماله في معصية اللّه إذا جيء به يوم يؤخذ بالنواصي ، يوم يفوز الطائع ويهلك العاصي ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ للّه ، أما نفقات الرياء والسمعة فسيأتي ذكرهما في الآية 264 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء اللّه «وَلَمْ يَقْتُرُوا» على الفقراء مما أنعم به اللّه عليهم فيعطوهم حقهم وافيا مما افترضه اللّه عليهم لهم وقريء بكسر التاء مع فتح الياء ، وبضم الياء وكسر التاء ، وبضم الياء وفتح القاف ، وتشديد التاء وكسرها وعلى كل ، فمعنى التقتير التضييق على الفقراء بمنع الحق الذي فرض لهم على الأغنياء «وَكانَ» إنفاقهم «بَيْنَ ذلِكَ» الإسراف والتقتير «قَواماً» 67 وسطا وهذا مما يدل على أن الإسراف مجاوزة الحد لأن يصل به إلى حد التبذير ، وبالإقتار التقصير عما لا بد منه حتى يصل إلى منع عيال اللّه وعياله من حقهم ، وهو أوفق لسياق الآية ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآيات 26 و31 من سورة الإسراء الآتية والآيات 260 فما بعدها من البقرة ، أخرج الإمام أحمد عن أبي الدرداء أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : من فقه الرجل رفقه في معيشته.
واعلم أن معنى هذه الآية عام في نفقة الرجل على نفسه وأهله ومن هو تحت وصايته وولايته وغيرهم ، ومعنى القوام غير الوسط العدل ، وقوام الرجل قامته ، وبكسر القاف ما أقامك من الرزق ، ومن هذا القبيل حجام بالفتح الفرس ، وبالضم المكوك ، وحصان بالفتح العفة من النساء ، وبالكسر الجواد ، والذل بالكسر ضد الصعوبة ، وبالضم ضد العز ، والطعم بالفتح الشهوة ، وبالضم الطعام ، والجرم بالكسر البدن ، وبالضم الذنب ، والسلم بالكسر الصلح وبالفتح الاستسلام ، والأرب بالفتح الحاجة ، وبسكون الراء الدهاء.
وقد بينا شيئا من هذا في تفسير الآية 17 من سورة التكوير والآية 169 من سورة الأعراف وله صلة في تفسير الآية 59 من سورة مريم الآتية ، وكلمة قوام لم تكرر في القرآن وهذه الآيات المدنيات قال تعالى «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» أي أن صفتهم في تنزيه معبودهم عدم إشراكهم أحدا معه في(2/101)
ج 2 ، ص : 102
دعائهم ووصفهم في عدم التعدي على الغير بقوله «وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» المزيل لحرمتها وعصمتها كالكفر بعد الإيمان والزنى بعد الإحصان والقصاص «وَلا يَزْنُونَ» أي أنهم مبرّءون من هذه الخبائث التي كان عليها الجاهليون وأنهم مطهرون من كل سوء ، وهذا تعريض بالمشركين الذين كانوا يعملون الكبائر القبيحة كهذه «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» كله أو شيئا منه بأن يزني أو يقتل بغير حق أو يرتد عن دينه والعياذ باللّه «يَلْقَ أَثاماً» 68 عقابا كثيرا لا يقادر قدره وقري يلق بضم الياء وتشديد القاف وفتح اللام ، وقريء ابن مسعود أيامى بالياء أي شدائد يقال إلى يوم أيام أي شديدا عظيما ، ويلقى بالألف المقصورة ، كأنه نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقرّت الألف ، وقد ذكرنا غير مرة أن هذه القراءات التي لا زيادة فيها ولا نقص من حيث الحروف جائزة ، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال قال رجل يا رسول اللّه أي الذّنب أكبر عند اللّه ؟ قال أن تدعو مع اللّه ندا وهو خلقك.
قال ثم ؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.
قال ثم ؟ قال تزني بحليلة جارك.
فأنزل اللّه هذه الآية تصديقا لقوله صلى اللّه عليه وسلم.
والأثام قد يأتي بمعنى الجزاء قال عامر بن الطفيل :
وروينا الأسنة من صداء ولاقت حمير منها أثاما
هذا وإن من يفعل هذه الأشياء «يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بحسب مضاعفته عصيان ربه وتعدد المعاصي «وَيَخْلُدْ فِيهِ» أي العذاب لأن الكفر والشرك واستحلال قتل النفس والزنى تقتضي التخليد بالنار إذا لم يتب ومات مصرا على ذلك كما سيأتي ، وقرىء فيه بإشباع الهاء بالكسر ولا يوجد في القرآن مثله وكذلك كلمة «مُهاناً» 69 أي ذليلا حقيرا مخزيا «إِلَّا» استثناء من الجنس في موضع النصب لا استثناء المؤمن قد بدل اعتبار الكفر في المستثنى منه «مَنْ تابَ» ومات على توبته «وَآمَنَ» بربه وكتابه ورسوله إيمانا صادقا «وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» فيما بينه وبين ربه وبين الناس بعد توبته.(2/102)
ج 2 ، ص : 103
مطلب تبديل الحسنات بالسيئات وشهادة الزور :
«فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» فيبدل شركهم بالإيمان ، وقتل المؤمنين بقتل الكافرين الحربيين والزنى بالإحصان والعفة ، وليس ببعيد على الملك الديان أن يبدل ما عملوه في الدنيا من السيئات بحسنات بالآخرة.
روى مسلم عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار ، رجل يؤتى به يوم القيمة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وادفعوا عنه كبائرها ، فتعرض عليه صغارها ، فيقال له عملت يوم كذا ، كذا وكذا فيقول نعم ، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبائر ذنوبه أن تعرض عليه ، فيقال له إن لك مكان كل سيئة حسنة.
فيقول يا رب عملت أشياء لا أراها هنا ، قال فلقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه ، وسبب ضحكه أن الرجل كان خائفا من كبار ذنوبه ولذلك اعترف بصغارها ، فلما رآها تبدل بحسنات أراد أن يعترف بالكبائر لتبدل أيضا «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» 70 بعباده بما يمن عليهم بذلك الفضل العميم.
واعلم أن هذا التبديل لا يكون إلا لمن اتصف بما ذكر في الآيات المارات بدليل الإشارة إليها بقوله أولئك ،
ثم عمم بعد التخصيص فقال «وَمَنْ تابَ» من ذنوبه من العاصين أجمع «وَعَمِلَ صالِحاً» تحقيقا لتوبته «فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» 71 أي يرجع إلى ربه بعد الموت رجوعا حسنا أفضل من غيره ، فالتوبة الأولى عن أمهات الكبائر وهي الموبقات السبع الثلاثة المبينة في الآية المارة وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وشهادة الزور ، والثانية عن فروعها من مقدمات الزنى ، والقتل ، والتعديات الأخر ، والمراد بهذه التوبة الرجوع إلى اللّه والندم طلبا للمجازات والمكافآت إذا أريد بهم التائبون المستثنون أو عن مطلق الذنوب إذا أريد غيرهم «وَ» من صفة أولئك العباد أيضا «الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ» خصصها بعد التعميم لعظمها عند اللّه ، ولما فيها من تضييع الحقوق وفساد الأخلاق ، لأنها لا تكون إلا بالمقابلة أو بالعصبية أو الرشوة ، وكلها مذمومة.
روى البخاري ومسلم عن(2/103)
ج 2 ، ص : 104
أبي بكر رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟
قلنا بلى يا رسول اللّه ، قال الإشراك باللّه وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال : ألا وقول الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ..
وكان عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطوف به بالأسواق.
فليتنا نفعل بعض هذا في هؤلاء الذين تجارأوا على اللّه في شهاداتهم وأتلفوا حقوق ذوي الحقوق.
اللهم سخر عبادك لاتباع الهدى وسلوك سنن الصلاح واجعلهم داخلين في قولك «وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» 72 معرضين عنه لا يلتفتون إليه ولا يلقون له بالا ، وأسرعوا عن أهله تنزيها لأنفسهم الطاهرة من أن يسمعوا كلام الغواة المتفحشين بالكلام البذيء الذي يجب أن يتباعد عنه وعلى العقلاء أن يعرضوا عن أهل اللغو ولا يجالسوهم ولا يرافقوهم حفظا لكرامتهم وهيبة لوقارهم واحتراما لمكانتهم وإهانة لهم ، أخرج ابن عساكر عن إبراهيم بن ميسرة قال : بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا ولم يقف فقال صلى اللّه عليه وسلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما ، ثم تلا هذه الآية.
فالوقوف مواقف هؤلاء والخوض معهم قد يؤدي للانخراط معهم ولذلك وصف صلى اللّه عليه وسلم ابن مسعود بالكرم لإعراضه عن اللهو ، فمن أراد أن يكون كريما عند اللّه وعند الناس فلا يقفنّ مواقف التهم.
ولا معنى لقول من قال أن هذه الآية منسوخة بآية القتال لأن الإعراض عن مثل هذا مطلوب قبل الأمر بالقتال وبعده ثم ذكر صفتهم عند ما يوعظون فقال «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» أو زجروا فيها وحذروا مخالفتها فسمعوها سماع قبول بدليل قوله «لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها» أي يسقطوا وينكبوا «صُمًّا وَعُمْياناً» 73 بأن لا يلقوا لها بالا ، بل يتلقون تلك الآيات التي ذكروا بها بالقبول ، ويعوها بالإذعان ، ويرعوها بالطاعة ، ويخروا لها سجدا وبكيا ، بآذان واعية وقلوب منكسرة وقوالب خاضعة مخبته ، لا كالكفرة الذين لا يسمعونها إذا تليت ولا يعقلونها ولا ينظرون إليها ولم يقبلوها ولم يستكينوا لربهم.(2/104)
ج 2 ، ص : 105
مطلب قرة العين وسخنها والذرية :
ثم ذكر صفة دعائهم لأنفسهم بقوله «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا» أولادهم وأولادهم واجعلهم لنا «قُرَّةَ أَعْيُنٍ» أبرارا صالحين أتقياء فائزين تقر أعيننا بهم لما هم عليه من عمل صالح وخلق كريم وذكر حسن.
واعلم أن ليس أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده وأحفاده طائعين لأوامر اللّه مطيعين له ليطمع أن يحلوا معه في الجنة فيتم سروره بهم في الدنيا والآخرة ، وإقرار العين بردها لما يرد على صاحبها من الفرح والسرور ، فتدمع دمعا باردا لشدة انشراح صدره ، لهذا يقال أقرّ اللّه عينيك.
وضدّه حمانا اللّه ، أسخن اللّه عينيك.
واسخان العين حرها لما يرد على صاحبها من الضيق والحزن فتدمع دمعا حارا لما حل به من الكرب وضيق الصدر ، قال أبو تمام :
فأما عيون العاشقين فأسخنت وأما عيون الشامتين فقرت
وقال الآخر :
نعم الإله على العباد كثيرة وأجلهن نجابة الأولاد
وقال تعالى هنا ، أعين جمعا للعيون الباهرة ، لأن لفظ العيون في القرآن العظيم كله جمع للعيون الجارية.
وقرئ ذرّيتنا بالإفراد وقرئت بالجمع قال تعالى «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» 74 يقتدى بنا في أفعال الخير اللهم اجعلنا منهم وقرّ أعيننا بأولادنا وأحفادنا يا اللّه يا اللّه يا اللّه بجاهك على نفسك ، وحرمة كتبك وحق أنبيائك ومكانة أوليائك عليك وإمام يستعمل مفردا وجمعا واختير على أئمة المطابق لما قبله لكونه أوفق للفواصل التي قبله وبعده ، والمراد هنا الجمع رعاية لمفعول جعل قال تعالى «أُوْلئِكَ» الذين هذه صفاتهم الممدوحة «يُجْزَوْنَ» من ربهم يوم الجزاء «الْغُرْفَةَ» الدرجة العالية في الجنة ، لأن الغرف تطلق على البيوت الفوقية والحجر على السفلية والبيت عليهما ، وذلك الجزاء الحسن ينالهم «بِما صَبَرُوا» على طاعة ربهم وعن شهوات أنفسهم في الدنيا هذا على أن الباء في بما سببية أو بدل صبرهم على أنها مصدرية وعليه قوله : (2/105)
ج 2 ، ص : 106
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا
وعلاوة على الجزاء الحسن الذي يعطونه ويرون ثوابه فإنهم يكرمون عليه «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» 75 من كل مكروه ولا مكروه في الجنة أي دعاء بالبقاء فيها ودعاء بالسلامة ، والسلام من اللّه وملائكته ومن بعضهم أيضا ، وهؤلاء يبقون في هذا النعيم «خالِدِينَ فِيها» أي الجنة الموصوفة بالغرفة التي هي أعلى منازلها وتسمى محل الأمن من الأكوار قال تعالى «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» الآية 78 من سورة سبأ في ج 2 «حَسُنَتْ» تلك المنزلة الكريمة «مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» 76 كرمت مقاما وقرارا وهذا بمقابل «ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» الآية 66 المارة بسياق أهل العذاب الجهنميين «قُلْ» يا أكرم الرسل إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس بها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم ، ولولاها لم يعتدّ بهم كغيرهم ، كما أن أولئك الساقطين بتلك البلايا القبيحة التي يتباعد عنها المتباعدون إنما عوقبوا عليها بما عدد من مساويهم الخبيثة ولولاها لكانوا كغيرهم منعمين ، ولهذا أكد عليهم يا حبيبي وقل لهم «ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي» ما يصنع وما يبالي بكم «لَوْ لا دُعاؤُكُمْ» إياه عند الشدائد الملمات ، ولكن لا ينفع هذا نفعا دائما إلا إذا آمنتم به وبرسوله وبكتابه ، فإذ ذاك يظهر لكم عند ربكم وزن وقيمة ويعلو قدركم وتسمو مكانتكم عنده ، لأنه لم يخلق الخلق إلا ليعبدوه ويحمدوه ويشكروا آلاءه لا لحاجة بهم - راجع تفسير الآية 56 من الذاريات في ج 2 - لأن معنى عبأ ثقل والعبء في الأصل ثقل ، والنفي منه معناه عدم الاعتناء والاعتداد والاكتراث بالشيء.
أي أيّ اعتداد يعتد بكم ربكم إذا لم يكن لكم عنده قدر ، فوجودكم لديه وعدمه سواء ، وجواب لو لا محذوف وتقديره لما اعتد بكم ، لأنه لو لا ما يقع منكم من الدعاء لكنتم والبهائم سواسية ، وهذا بيان لحال المؤمنين من هذا الخطاب العام ، أما حال الكفرة منهم فقد ذكره بقوله «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ» برسولي وكتابي أيها الكفرة وجحدتم ربوبيتي ورفضتم توحيدي وعبادتي وكذبتم بي وأصررتم على مخالفة حكمي ، ولم تقتدوا بأولئك الطائعين الصالحين من عبادي ، (2/106)
ج 2 ، ص : 107
الذين بوأتهم دار كرامتي بإنابتهم وإخباتهم لأوامري.
قالوا قرأ ابن عباس وابن الزبير وعبد اللّه «فقد كذّب الكافرون» وهذه ان صحّت عنهم فإنهم عنوا بها تفسيرا لا قراءة ، وإلا فهي قراءة لا يعتدّ بها ولا يجوز نقلها لما فيها من الزيادة على ما في المصاحف المجمع عليها.
على أن الآية تؤدي هذا المعنى دون حاجة للجنوح إلى هذه القراءة غير الصحيحة المخالفة للإجماع.
أما ما قاله بعض المفسرين من أن الخطاب لكفرة قريش خاصة ، وأن المعنى ما يعبأ بكم لو لا إرادته لدعائكم له لعبادته لما عبأ بكم ولا خلقكم ، فلا ينافي ما ذكر في تفسيرها ، لأن الخطاب فيها عام يشمل كفرة قريش وغيرهم كما يشمل المؤمنين صدرها عامة أيضا ، وقد أوضحنا هذا أعلاه ، ثم هدد الكافرين المرادين بقوله «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ» بقوله جل قوله «فَسَوْفَ يَكُونُ» عذابي لكم «لِزاماً» 77 لا يفارقكم ولا ينفك عنكم بل يحيق بكم ويلزمكم حتى يكبكم في النار ويصليكم فيها ، وهذا غاية في التهديد ونهاية في الوعيد لأن المعنى أن التكذيب لازم لمن كذب فلا يعطى التوبة كي ينال جزاءه ، أجارنا اللّه من ذلك ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن إلا
هنا وفي الآية 129 من سورة طه الآتية فقط.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تفسير سورة فاطر
عدد 43 - 35
نزلت بمكة بعد سورة الفرقان وهي خمس وأربعون آية ، وتسعمائة وسبعون كلمة ، وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا ، وتسمى سورة الملائكة وقد ذكرنا في أول سورة الفاتحة المارة ما يتعلق بأولها ، ومثلها في عدد الآي سورة ق.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ» المحمود بكل مكان ، المعبود في كل زمان ، حمد نفسه بنفسه ، جلت عظمة ذاته وقسمه تكريما لقدره ، وتعليما لعباده ، كي يمجّدوا خالقهم ورازقهم ومانحهم نعمه «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» بفتقها بعضها عن بعض ، لأن الفاطر معناه الشاق وأصل الفطر(2/107)
ج 2 ، ص : 108
الشق طولا ، تقول فطره أي شقه قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» الآية 20 من سورة الأنبياء في ج 2 راجع تفسيرها لأنها من معجزات القرآن والأمور الغيبية.
ثم تجوز فيه لكل شق ، والمعنى أنه موجد خلقهما والعوالم التي فيهما لكونهما من الممكن ، والأصل في كل ممكن العدم ليشير إليه قوله تعالى «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» الآية من آخر سورة القصص الآتية ، ونظيرتها الآية 37 من سورة الرحمن في ج 3 من حيث المعنى وقوله صلى اللّه عليه وسلم ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن ، وقد صرح بذلك فلاسفة الإسلام بقولهم :
الممكن في نفسه ليس وهو عن علته ايس
فذلك الإله الذي ابتدعها على غير مثال سابق ، وشقها بعضها عن بعض ، هو المستحق وحده للحمد.
قال ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما إني فطرتها أي ابتدأتها بالشق يعني هو الذي حفرها أولا وهو أحق بها.
وهو كذلك شرعا إذا كانت الأرض التي فيها غير مملوكة للغير وإلا فلا «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» منه إلى أنبيائه يبلغونهم أوامره ونواهيه وغيرها بالوحي والتكليم ، أما الإلهام والرؤيا الصادقة اللذان من جملة أقسام الوحي فليسا بواسطة الرسل - راجع بحث الوحي والإرهاص والفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة.
مطلب جواز إضمار الموصول ولا مجال في طلب الرزق :
وقريء فطر وجعل ماضيين ، على إضمار اسم الموصول على مذهب الكوفيين ، وأجازه الأخفش وذهب إليه ابن مالك ، وحجتهم قوله تعالى «آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» الآية 46 من سورة العنكبوت في ج 2 أي والذي أنزل إليكم وقول حسان :
أمن يهجو رسول اللّه منكم وينصره ويمدحه سواء
أي ومن ينصره ومن يمدحه ، ومثله قول الآخر :
ما الذي دأبه احتياط وعزم وهواه أطاع يستويان(2/108)
ج 2 ، ص : 109
أي الذي هواه أطاع.
ولم يجز البصريون حذف الموصول الاسمي البتة ، وان ابن مالك اشترط لجوازه أن يكون معطوفا على موصول آخر موجود ، كما هو في الآية والبيتين وما نحن فيه ليس كذلك ، لعدم وجود هذا الشرط في هذه الآية ، تدبّر.
ثم وصف اللّه تعالى ملائكته هؤلاء بكونهم «أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى » اثنين اثنين «وَثُلاثَ» ثلاثة ثلاثة «وَرُباعَ» أربعة أربعة.
واعلم أن العدد هنا ليس للتقييد ، فالآية على حد قوله تعالى فمنهم من يمشي على رجلين الآية 49 من سورة النور في ج 3 لأن من الملائكة من له ستمائة جناح كما روى عن جبريل عليه السلام ، ويوجد في الحيوانات من لها سبع وسبعون رجلا ، ولكن العمدة على أربع.
هذا ، واعلم أنه لا يستنبط من هذا أن من الملائكة من له تسع أجنحة ، وإن كان يجوز وجوده ، وعليه فلا يصح الجمع هنا بين الأصناف الثلاثة ويجزم يكون ملكا له تسعة أجنحة على رأي من ضم هذه الأعداد بعضها لبعض في سورة النساء الآية 3 في ح 3 ، إذ لا يصح أن يجمع أحد بين تسع نسوة ، راجع تفسيرها هناك تجد ما يقنعك على أن اللغة العربية تأبى الجمع في مثل هذا ، تأمل قدرة القادر فإنه «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» لم يتقيد بعدد ونوع مخصوص أو جنس من أجناس الخلق كله من حسن وقبيح ، وهذه الزيادة تتفاوت في الخلق والخلق والصوت والملاحة في العين والأنف والوجه وخفة الروح وجعودة الشعر وفلج الأسنان وطلاقة الوجه وبشاشته وحلاوة المنطق والطول وأضداد ذلك ، وفي الصنعة من خياطة وصياغة وحياكة وتجارة وحجامة ونجارة وغيرها ، وفي الصفة في الدين والفقر والغنى والمال والعلم والجهل والعقل ، وغيرها من كل شيء ، لأن الآية عامة تشمل الأوصاف الحسية والمعنوية «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 1 وهذا تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور ، أي أن شمول قدرته تعالى بجميع الأشياء مما يوجب قدرته جل شأنه على الزيادة في الخلق كله قال تعالى «ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ» رزق وصحة وولد ومطر وغيره من جميع ما يشمله معنى الرحمة «فَلا مُمْسِكَ لَها» من أحد ما البتة «وَما يُمْسِكْ» من تلك(2/109)
ج 2 ، ص : 110
الرحمة الشاملة «فَلا مُرْسِلَ لَهُ» أبدا إذ لا يستطيع أحد إمساك ما يرسل كما لا يقدر أن يرسل ما يمسك «مِنْ بَعْدِهِ» كيف يجرؤ أحد أو يقدر على شيء من ذلك «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل أحد وعمله «الْحَكِيمُ» 2 الذي لا يعمل إلا ما تقتضيه حكمته من إعطاء ومنع ووضع ورفع ، روى مسلم عن المغيرة بن شعبة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
والجد هنا الغنى والبخت أي الحظ ، فلا ينفع الغني والمبخوت حظه وغناه ، لأنها منك ، وإنما ينفعه الإخلاص والعمل بطاعتك.
أنظر رعاك اللّه ما أدعى هذه الآية إلى الانقطاع إلى اللّه تعالى ، والإعراض عما سواه والإجمال في طلب الرزق اتباعا لأمر الرسول فيه القائل : أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما كتب له منها.
فإذا علم هذا وكان من المؤمنين مال إلى إراحة نفسه وسكون باله عن التخيلات الموجبة للتهويش وسهر الليالي.
أخرج ابن المنذر عن عامر ابن عبد قيس قال : أربع آيات من كتاب اللّه إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي : هذه الآية ، وقوله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الآية 108 من سورة يونس ، وقوله تعالى (ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية 7 من سورة هود في ج 2 ، وقوله تعالى (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) الآية 8 من سورة الطلاق في ج 2.
هذا ، وبعد أن بين اللّه تعالى بأنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق كيفما يشاء أمر أهل مكة قوم نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم بشكر نعمه التي من جملتها اختصاصهم به ، فقال «يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» التي من جملتها تشريفكم بنبي منكم وجعلكم من أمته
، وأسكنكم حرمه ، وأمنكم بمنع غارات الناس عليكم ، فأنتم محميّون بحمايته ويتخطف الناس من حولكم فانظروا وتفكروا «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» غيثا ونباتا لكم ولأنعامكم.
وهذا استفهام إنكاري لإنكار التصديق وإنكار الحكم ، وهو جائز كما في المطول وحواشيه ، (2/110)
ج 2 ، ص : 111
أما قول الرضي بأن هل لا تستعمل للإنكار فإنه يريد الإنكار على مدعي الوقوع كما في قوله تعالى (أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) الآية 40 من سورة الإسراء الآتية ، والمعنى هل خالق مغاير له تعالى موجود لكم أو لغيركم ؟ كلا ، لا خالق سواه البتة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» 3 أي من أين يأتيكم البهت والافتراء والاختلاق بإنكار البعث والتوحيد مع أن اللّه يأمركم بهما ومع اعترافكم بأنه خالقكم ورازقكم ، فكيف يتوقع منكم التكذيب والإنكار ، وما سبب صدوره منكم ؟ قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا سيد الرسل فلا يهمنك شأنهم ولا يكن تكذيبهم عليك غمّة «فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» من قبل أقوامهم وفي هذه الآية تعزية لحضرة الرسول بقومه وتسلية بمن قبله من الأنبياء الكثيرين الذين كذبتهم أقوامهم وأهينوا وقوتلوا مثله ، فله أسوة بهم ، وفي قوله تعالى «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» 4 تهديد للكفار ، لأن اللّه تعالى يقول لا تعبأ بهم فمصيرهم إلينا وإنا سنجازي المكذب منهم بما يستحقه.
وفيها نعي لكفار قريش بعدم تلقيهم آيات اللّه بالقبول «يا أَيُّهَا النَّاسُ» ثقوا وتيقنوا «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ثابت واقع لا محالة لا يجوز تخلفه ، وهذا الوعد هو الملمع إليه بجملة (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بزخارفها وطول الأمل فيها والصحة في الأبدان وكثرة الأرزاق والأمن «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ» من حيث أنه غفور رحيم رؤوف كريم عطوف لطيف مما يمليه عليكم «الْغَرُورُ» 5 من النفس والجن والإنس ، فكلها تغركم وكل مبالغ في العزة والأنفة فهو غرور ، وأغر كل غرور هو الشيطان الذي يستولي على قلوبكم بوسوسته ، لغفلتكم عن ذكر اللّه في أعمالكم وأقوالكم ، فاحذروا خداعه ومكره ، ولا تلتفتوا إلى إغوائه وإغرائه ، ولا تركنوا إلى الدنيا التي يزيّنها لكم.
ثم صرح بذلك الغرور فقال «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ» قديم تأصلت عداوته فيكم ، فلا تكاد تزول حتى يزول هو وليس بزائل إلا عند الأجل الذي ضربه اللّه له ، ولستم بمدركيه لأن موعده النفخة الأولى التي لا يحضرها إلّا شرار الناس ، فاهجروه رحمكم(2/111)
ج 2 ، ص : 112
اللّه وقوا أنفسكم من عذاب اللّه ، وإذا أردتم التغلب عليه «فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا» مبين العداوة واعفوه في كل ما يوسوس به إليكم ، لأنه لا يأمر بخير ، وعليكم بطاعة ربكم الموجه لفوزكم في الدنيا والآخرة ، لأن الشيطان عليه اللعنة «إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ» أشياعه وأنصاره الذين يصغون لوساوسه «لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» 6 معه جزاء عصيانه وعداوته المتتابعة من لدن أبيكم آدم عليه السلام وهذا تنبيه على أن غاية غرضه من دعوة إتباعه إلى اتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا ، لتوريطهم باقتراف المعاصي فيستحقون معه التخليد في العذاب في تلك النار المسعرة ، فالذين يوافقونه ويجيبون دعوته هم «الَّذِينَ كَفَرُوا» باللّه ورسوله وكتابه وهؤلاء «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» لا يطيقه البشر ، راجع الآية 33 من سورة لقمان في ج 2 «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فيخالفون المغرور وأعوانه ويلجئون إلى ربهم ليعصمهم منهم ويحفظهم من دسائسهم فأولئك «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» 7 على إيمانهم الصادق وأعمالهم الصالحة ، وقد زادهم اللّه على المغفرة الأجر ، لأنهم زادوا على إيمانهم أعمالا صالحة فهم المؤمنون حقا المستحقون لكرم اللّه وإيفاء وعده بما لهم من الكرامة.
وهو وعد حقّ ثابت.
هذا ما يؤول إليه حال المؤمن ، أما ما يؤول إليه حال الكفرة كأبي جهل وأضرابه الذين هم على شاكلته إلى يوم القيامة ، الذين يستحلون دماء المؤمنين وأموالهم ويهينونهم فهم المعنيون بقوله تعالى «أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» بسبب التزيين وقد حذف الخبر وهو كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح (أي ما هما متساويان) لدلالة الكلام عليه واقتضاء النظم إياه ونظير هذه الآية من جهة عدم حذف الخبر قوله تعالى (أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ الآية 65 من سورة محمد ونظيرتها الآية 113 من آل عمران ، ومثلها من سورة الرعد في ج 3 ، وقوله تعالى (أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) الآية 123 من سورة الأنعام في ج 2 وغيرها هذا ، وإن شأن هذا الكافر المزين له سوء عمله وهو(2/112)
ج 2 ، ص : 113
أبو جهل على قول بعض المفسرين بأن هذه الآية نزلت فيه ، وهي بعمومها تشمل كل من هو على شاكلته) شأن المغلوب على عقله الحائر في أمره مسلوب التمييز ، الذي يأتمر برشد ولا يطيع المرشد ، وهو أحد الأصناف الثلاثة.
والثاني رجل ترد عليه الأمور فيسدّها برأيه ، والثالث رجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي ، وكأن أبو نواس أشار إلى الأول بقوله :
اسقني حتى تراني حسنا عند القبيح
وذلك نهاية في الضلال «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» حتى يكون كذلك فتحق عليه الكلمة فيدخل فيهم «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» فيريه الأمور على حقائقها الحسن حسنا فيتبعه والقبيح قبيحا فيتجنبه فيوفق إلى ما وعده اللّه من المغفرة والأجر فيدخل الجنة.
مطلب أصل الهدى والضلال من اللّه تعالى :
واعلم أن هذه الآية تصرح بأن الضلال والهدى من اللّه وحده لا دخل للعبد فيهما ، لأنه مقدر عليه في أصل الخلقة يؤيده قوله صلى اللّه عليه وسلم حينما قيل له ما فائدة العمل يا رسول اللّه ؟ قال اعملوا فكل مسير لما خلق له.
راجع تفسير أول سورة القلم المارة ، وتفسير الآية 17 من سورة الأنعام في ج 2 ، والآية 41 من سورة الرعد في ج 3 ، وهذا ما يحله أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة القائلين بخلافه ، إذ لا دخل للاختيار فيما اختاره اللّه ، تدبر.
ولهذا البحث تفصيل في الآيتين 77 و78 من سورة النساء في ج 3 فراجعه ، أما المصرّون على ضلالهم فهم هالكون لا محالة «فَلا تَذْهَبْ» بفتح التاء والهاء ، وقريء بضم التاء وكسر الهاء ، ونصب نفسك على المفعولية وعلى الأول رفعها على الفاعلية تدبر «نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» فتكثر غمك على كفرهم وإهلاكهم يا سيد الرسل ، دعهم فإنهم خلقوا أشرارا لعدم انتفاعهم بما وهبوا من العقل الذي أعطوه ليميّزوا فيه الخبيث من الطيب ، ويخلصوا أنفسهم من ذلك ولهذا البحث صلة في الآية 12 من سورة الشعراء الآتية ، وكلمة حسرات حال من نفس محمد صلى اللّه عليه وسلم إشارة إلى أنها كأنها(2/113)
ج 2 ، ص : 114
صارت كلها حسرات لفرط تحسره عليهم وعليه قول جرير :
شقّ الهواجر لحمهن مع السرى حتى ذهبن كلاكلا وصدورا
الكلكل ما بين الترقوتين أو باطن الزور وهو من المحزم إلى ما يمس الأرض من الحيوان إذا ربض أو من الصدر ، وعليه يكون العطف بيان والهواجر جمع هجر وهو نصف النهار عند الزوال.
والمعنى أن مشي الإبل في ذلك الوقت لم يبق منها إلا كلاكلها وصدورها ، وهذا ما ذهب إليه سيبويه في البيت ، وقال المبرد إن الكلاكل والصدور تمييز محول عن الفاعل ، أي حتى ذهب كلاكلها وصدورها وعليه قوله :
فعلى إثرهم تساقط نفسي حسرات وذكرهم لي مقام
ولكل وجهته ، وقال تعالى «إِنَّ اللَّهَ» الذي خلقهم أزلا «عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» 8 قبل أن يصنعوه وعليم بما يصنعونه بعد وما هم صائرون إليه ، وإنما أظهر صنعهم لخالقه ليعرفوه.
وهذا آخر ما نزل في أبي جهل وإخوانه في هذه السورة.
وقال الضحاك إن القسم الأخير منها نزل في عمر رضي اللّه عنه فهو الذي هداه اللّه والحق العموم فيهما وفيمن هو على شاكلتها إلى يوم القيمة ، ثم ذكر شيئا من كمال قدرته فقال :
مطلب الفرق بين ميّت وميت وأن العزة من اللّه :
«وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ» بالتشديد وقريء بالتخفيف وهما بمعنى واحد على المشهور.
وقد خصص بعضهم المخفف بالميت حقيقة والمنقل والمائت بالذي لم يمت بعد ، الذي على وشك الموت أي يكاد يموت ، واستدل بقول القائل :
ومن يك ذا روح فذلك ميّت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
وقول الآخر :
ليس من مات فاستراح بميّت إنما الميّت ميّت الأحياء
إنما الميّت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء(2/114)
ج 2 ، ص : 115
والمعوّل على الأول.
والإثارة خاصة بالرياح «فَأَحْيَيْنا بِهِ» أي الغيث الناشئ عن السحاب المثار ، وعبر عن الميّت بقوله «الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات الناشئ عن هطول الغيث عليها «كَذلِكَ» مثل هذا الإحياء للأرض يكون «النُّشُورُ» 9 للأموات من البشر حين يقومون من قبورهم فكيف يجحدون البعث بعد أن شاهدوا ما هو من نوعه ؟ روى ابن الجوزي عن أبي رزين العقيلي قال قلت يا رسول اللّه كيف يحيي اللّه الموتى وما آية ذلك في خلقه ؟ قال هل مررت بواد أهلك محلا ، ثم مررت به يهتزّ خضرا ؟ قلت نعم قال كذلك يحيي اللّه الموتى وتلك آيته في خلقه.
قال تعالى «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ» فليطلبها من اللّه لا من غيره «فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» فليعتزّ بطاعته من يربدها وليمتنع بمنعته لا بالأصنام التي يبتغي الكافرون الشرف بها ، لأن الآية نزلت فيهم قال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) الآية 91 من سورة مريم الآتية وقال في حق قليلي الإيمان (أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) الآية 138 من سورة النساء في ج 3 ولا ينافي هذا التأكيد قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 9 من سورة المنافقين في ج 3 لأنها للّه بالذات ولرسوله بواسطة قربه منه وللمؤمنين بواسطة قربهم من حضرة الرسول واتباعهم سنّته ، ولهذه الإشارة (أعيد الجار وكرر) جاء في مجمع البيان أن أنسا رضي اللّه عنه روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز ، ومن قدر فليطلبها من اللّه تعالى ، فإن الطلب منه إنما يكون بالطاعة والانقياد.
وقد تكون بالشجاعة والكرم والعلم ، فهذه الثلاثة هي مصدر العزة ، إلا أنه إذا لم يقصدها بتقوى اللّه فلا خير فيها ، إذ تكون عزّة دنيوية موقتة مصيرها إلى الذلّ الدائم في الآخرة إذا لم تنزع منه في الدنيا.
وجدير بأن ينزعها اللّه منه ، فاذا نزعت يجتمع عليه ذلان ، ولهذا قال تعالى قوله «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» بجمع أنواعه صعودا حقيقا سرا كان أو جهرا قولا أو فعلا ، لأن له جل شأنه تجسيد المعاني وكيفية صعوده من(2/115)
ج 2 ، ص : 116
المتشابه المفوض تأويله إلى اللّه ، وقدمنا ما يتعلق فيه عند تفسير الآية 30 من سورة ق المارة ، وسنوضحه ونسهب البحث فيه في تفسير الآية 8 من آل عمران ج 3 إن شاء اللّه ، وإن هذا الصعود على تأويل الخلف مجاز مرسل عن قبوله بعلاقة اللزوم ، أو استعارة تشبيهية أي تشبيه القبول بالصعود ، وعلى طريقة السلف صعود يعلم كيفية هو ، وعلينا الإيمان به «وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» إليه ويقبله جل شأنه ، وأعاد بعض المفسرين ضمير يرفعه إلى الكلم الطيب ، وضمير النصب الذي هو الهاء إلى العمل الصالح أي يرفع الكلم الطيب العمل الصالح.
ومنهم من أعاد ضمير يرفعه إلى العمل الصالح ، وضمير المفعول منه إلى الكلم الطيب وعليه يكون المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب وما جرينا عليه أولى.
قال تعالى «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ» يعملونها قصدا لأن مكر لازم لا يتعدى إلا ضمن معنى القصد أو العمل أو الكسب «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» بسبب مكرهم ذلك «وَمَكْرُ أُولئِكَ» الماكرين «هُوَ يَبُورُ» 10 في الدنيا ، ويبطل مفعوله مهما كان ، وإذا كان كذلك ففي الآخرة فساد محقق ، أما مكر اللّه فيهم فهو ثابت لا يزول ، وقد مكر بهم إذ أخرجهم من مكة بواقعة بدر فأرداهم وطرحهم في قليب بدر وسيعذبهم في الآخرة عذابا عظيما.
وأصل البوار فرط الكساد ، قال صلى اللّه عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من بوار الأيّم (كالكيس هي من لا زوج لها بكرا أو ثيبا ومن لا مرأة له كذلك) وما قيل إن هذه الآية نزلت في الذين اجتمعوا في دار الندوة لتداول المكر به صلى اللّه عليه وسلم من قتل أو حبس أو نفي ، لا صحة له ، لأنه لم يحن بعد وقت التداول فيها ، لأنها وقعت قبل الهجرة في آخر نزول القسم المكي من القرآن كما سنبينه آخر سورة العنكبوت في ج 2 إن شاء اللّه والحق أن هذه الآية عامة في كل ماكر سيء ، وسنبيّن تفصيل حادثة الندوة في تفسير الآية 30 من سورة الأنفال في ج 3 إن شاء اللّه إذ ذكر فيها هذه الحادثة صراحة ، وقد ألمع إليها قبل وقوعها بثلاث سنين في سورة الإسراء الآتية في الآية 76 كما ستطلع إن شاء اللّه.
ثم ذكر دليلا آخر(2/116)
ج 2 ، ص : 117
على صحة البعث والنشور فقال «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ» أي خلق أصلكم آدم عليه السلام بدليل قوله «مِنْ تُرابٍ ثُمَّ» خلقكم أنتم يا ذرية آدم «مِنْ نُطْفَةٍ» مكونة من ماءي الرجل والمرأة.
مطلب لكل حظّه من خلق آدم وأن العمر يزيد وينقص :
وقد شمل ضمير خلقكم في هذه الآية ذرية آدم مع أنهم لم يخلقوا في التراب باعتبار ابتداء الخلق منه في ضمن خلق آدم خلقا إجماليا ، لأن كلمتي مستقر ومستودع الواردة بعد قوله (أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) في الآية 98 من سورة الأنعام في ج 2 ، والملمع إليها في الآية 189 من سورة الأعراف المارة ، تشعر بذلك ، وعلى هذا يكون بطريق التسلسل لكل إنسان حظّ من خلق آدم كما سيأتي تفصيله هناك إن شاء اللّه «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً» ذكرانا وإناثا ، وزوج بعضكم بعضا لتوالدوا فتكثروا فيباهي بكم الأمم «وَ» اعلموا أيها الناس أنه «ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ» ما تحمله أو تسقطه قبل تمام أجله «إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ» يمد في عمره ويطيله «وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ» من سنين وشهور وأيام وساعات ودقائق وثوان ولحظات «إِلَّا فِي كِتابٍ» مدوّن مثبت عند اللّه في لوحه المحفوظ الحاوي على أعمال العباد وتقلّباتهم في أصغر من الذرة إلى ما شاء اللّه من الكبر «إِنَّ ذلِكَ» الذي تزعمونه أيها الناس من كتابة أعماركم وآجالكم وأحوالكم ومعرفة ما يزيد منها وما ينقص وما يبدل أو يغير منها جدا عليكم صعب ، لا تتمكنون من إجرائه ولكنه «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» 11 سهل لأن الكون بما فيه بمثابة شيء واحد عند اللّه القائل (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) الآية 38 من سورة لقمان في ج 2 واعلم أن زيادة العمر ونقصه يكون بالنسبة لأسباب مختلفة لا تعلم إلا عند وقوعها ، وهي ثابتة عند اللّه فلا تكون إلا بعلمه وتقديره ، مثلا جاء في الحديث الصحيح أن الصدقة تزيد في العمر وأن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار ، وقال كعب لو أن عمر رضي اللّه عنه دعا اللّه تعالى آخر أجله.(2/117)
ج 2 ، ص : 118
أي لزاد له فيه لما يعلم من أنه مجاب الدعوة ، وأن وجوده يعلي شرف الإسلام ، إلا أن هذا لا يلزم منه تغيير التقدير الأزلي ، لأن في تقديره تعالى تعليق أيضا ، وإن كان ما في علمه الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو ، فلو شاء لم يوفق المتصدق للتصدق وصلة الرحم وسائر الأعمال التي ورد في الأحاديث أنها تزيد في العمر ، على أن الأجل ينقص شيئا فشيئا من حيث لا يحس به ، لأن الإنسان لا يعلم أمده حتى يحسب ما مضى من عمره ، وقيل في المعنى :
حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منها انتقصت به جزءا
والعادّ لها هو اللّه وسنوفي هذا البحث في تفسير الآية 39 من سورة الرعد في ج 3 إن شاء اللّه تعالى في بيان ما يمحوه اللّه من أعمال وأعمار العباد وأقوالهم وأرزاقهم وما يثبته ، وأسباب ذلك ومستنداته.
قال تعالى «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ» هنيء مريء يرطب القلب ، ويشرح الصدر ، وتستريح له الجوارح ويصلح للنبات كله «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» قريب إلى المرارة يحرق القلب ، ويقطب الريق ، وتعافه النفس ، وتنفر منه ، عديم الإرواء والإنبات ، ضار غير نافع شربه للخلق والنبات ، وحتى أنه يضر في مواد البناه ، هذا مثل ضربه اللّه إلى المؤمن والكافر ، من أنهما وإن اشتركا في بعض صفات الخلقة فإنهما لا يستويان عند اللّه وكل منهما نسبة ما شبه به «وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا» من أنواع حيواناته غضا جديدا خلقه لكم أيها الناس ، وقد سماه اللّه لحما ، والسمك بالعرف ليس بلحم ولهذا قال الفقهاء من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث لعدم إطلاق اسم اللحم عليه عرفا ، كما لو حلف لا يركب دابة فركب إنسانا لا يحنث مع أن الإنسان داخل في معنى الدواب لغة ، قال تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) الآية 13 من سورة الأنفال في ج 3 وقال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية 57 منها أيضا إلا أنه لا يسمى دابة عرفا ولا يخفى أن الأيمان مبناها على العرف ، لذلك لا يحنث ، وقد سموه الآن اللحم الأبيض وأدخلوه مع الطيور لخفته ، وقال مالك(2/118)
ج 2 ، ص : 119
والنووي الحالف بالأول يحنث لظاهر الآية ، والفتوى على الأول ، لأن الحالف حينما يحلف على عدم أكل اللحم يتصور لحوم الأنعام فقط ، كما أن الحالف في الركوب لا يتصور ركوب الإنسان بل ما يطلق عليه اسم دابة حقيقة «وَتَسْتَخْرِجُونَ» من البحرين المذكورين كما هو ظاهر العطف «حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» فمن الملح اللؤلؤ والمرجان واليسر وغيرها ، ومن الحلو الصدف وعظام السمك التي يصنع منها قبضات السيوف والخناجر وأزرة الألبسة وغيرها ، وقد يوجد في بعض الصخور التي في مجاري المياه ماس ، قال تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الآية 22 من سورة الرحمن في ج 3 ، ولا يبعد أن يوجد شيء من ذلك في النهر العذب ، لأنه قد يوجد في البحر الملح عيون عذبة تخرج فيه ، فيكون منها اللؤلؤ ، ومن هذا ما هو موجود الآن في البحرين حيث يوجد فمن البحر كما صرح به الشيخ محمد خليفة في تاريخه لجزيرة العرب في ص 240 عدة عيون ماء حلو يذهب إليها بالقوارب ويستقى منها كما ذكرناه في تفسير الآية 52 من سورة الفرقان المارة وقد أخبرني السيد كامل العاص الرجل الصالح الكريم من أهالي جباة الزيت التابعة لقضاء القنيطرة (من أعمال دمشق) إذ كنت فيها ، أنه أثناء وجوده في أمريكا شاهد زمن سيره في البحر ماء حلوا منسابا فيه ويمتاز على ماء البحر بلونه فماء البحر في ذلك المكان يضرب إلى الزرقة بل إلى السواد لشدة عمقه ، والماء الحلو المنساب فيه التابع منه يضرب إلى البياض ، وهو رجل صادق واللّه لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير.
وقال بعض المفسرين إن الحلية لا تكون إلا من الماء المالح ، وأن ما جاء في آية الرحمن المارة هو على طريق التغليب وإسناد ما للبعض إلى الكل وهو غير وجيه لمخالفة ظاهر الآية وحملها على التأويل دون ضرورة ، ولأنه لو فرض أنه لم يخرج من الماء الحلو إلا الصدف لكفى ، لأنه حلية من وجه داخلة في قوله تعالى تلبسونها «وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ» أي ماءي الحلو والمالح ، كما هو مشاهد ، فلا يقال إنها خاصة بالملح أيضا إلا أن الكبار العظام خاصة في البحر والصغار منها فيه وفي الأنهر «مَواخِرَ» تمخر أي(2/119)
ج 2 ، ص : 120
تشق المياه شقا يجريها فيها مقبلة ومدبرة وذلك «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الربح بالتجارات وتزوروا البلدان الناثية والجزر وغيرها ، ولتطلعوا على مصنوعات ربكم فيها «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 12 نعمه عليكم في ذلك كله.
واعلموا أن هذا الإله العظيم «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» يدخل أحدهما بالآخر حتى يصير أحدهما بقطرنا مزائدا على الآخر أربع ساعات وكسور بصورة تدريجية ، فيبلغ النهار بالصيف أربعة عشرة ساعة ونصف تقريبا ، والليل تسعة ونصف ، وعلى العكس بالشتاء
ثم يتساويان شيئا فشيئا ، وهكذا بعيد الكرة أحدهما على الآخر إلى أن يأذن اللّه لهذا النظام البديع بالانقراض.
وفي بعض الأقطار أكثر من قطرنا وأنقص حتى يبلغ كل منهما اثنين وعشرين ساعة تقريبا «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ» منهما «يَجْرِي» في محوره المخصوص ومسافته المقدرة له ، وهكذا يستمران بسيرهما «لِأَجَلٍ مُسَمًّى» عند اللّه لا يعلم غيره «ذلِكُمُ» أيها الناس الإله العظيم القادر المبدع «رَبُّكُمْ» الحق لا البشر والملائكة ولا النجوم والحيوان ولا الجماد والأوثان فهو وحده «لَهُ الْمُلْكُ» يتصرف فيه كيف يشاء «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» من الآلهة «ما يَمْلِكُونَ» من هذا الملك وما فيه وفوقه وتحته «مِنْ قِطْمِيرٍ» 13 قدر لفافة النواة ولا أقل منه وإنما مثل به لأن كل تافه يقال له قطمير قال الشاعر :
وأبوك يخصف نعله متوركا ما يملك المسكين من قطمير
وهو على حد الذرة والنقير والفتيل وأف وما ضاهاها ونظير صور هذه الآية 29 من سورة لقمان في ج 2 والآية 27 من سورة آل عمران والآية 6 من سورة الحديد والآية 61 من سورة الحج في ج 3 ، وقدمنا في الآية 47 من سورة يس ما يتعلق بزيادة الليل والنهار وقصرهما بصورة مسهبة ، قال تعالى مندّدا بأوثانهم «إِنْ تَدْعُوهُمْ» أيها المشركون «لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» لأنها جماد «وَلَوْ سَمِعُوا» على سبيل الفرض والتقدير أو الذين من أهل السمع منهم «مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» دعاءكم لأنهم عاجزون ومملوكون للّه الذي خلقكم(2/120)
ج 2 ، ص : 121
وخلقهم ، فكيف يقدرون على شيء مما في ملكه أو يشاركونه في شيء منه في هذه الدنيا ، كلا لا يقدرون البتة «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» ترونهم «يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» فيجحدونه ولا يعترضون به حيث يضع اللّه فيها قوة التكلم تبكيتا لعابديها ، فتتبرأ منهم ومن عبادتهم «وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» 14 يعني نفسه المقدسة جلت وعظمت ، أي لا يخبرك أيها السامع بحقيقة الأمر مثلي ، أنا اللّه الذي لا يخفى عليّ شيء في سمواتي وأرضي ، ومن أصدق من اللّه راجع الآية 56 من سورة الفرقان المارة «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ» في جميع أموركم الظّاهرة والباطنة وأنتم محتاجون إليه فيها «وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ» عنكم وعن أعمالكم وعن كل ما في كونه «الْحَمِيدُ» 15 المستحق الحمد بإنعامه عليكم ، فاحمدوه واشكروه وحسن ذكر الحميد بعد الغنى لمناسبة ذكره بعد الفقر إذ الغنيّ لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما ، وهو كالتكميل لما قبله وعليه قول كعب الغنوي :
حليم إذا ما الحلم زيّن أهله مع الحلم في عين العدو مهيب
وذلك الإله الغنى الحميد «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أيها الناس فيفنيكم بلحظة واحدة «وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» 16 غيركم بلحظة أيضا يعبدونه لا يشركون به شيئا «وَما ذلِكَ» الإذهاب والإتيان «عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» 17 صعب أو ممتنع بل هين جدا.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن ما يأتي به من الخلق أبدع مما هو موجود الآن وهو كذلك لأن القادر المبدع لا يعجزه شيء ولا يرد على هذا قول حجة الإسلام (ليس في الإمكان أبدع مما كان) لان ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية في كلام ذلك الحجة بمعنى آخر تصورة بفكره الثاقب ولم يبيّنه أو لم نقف عليه ولسنا من رجاله لنرد عليه ، وسيأتي توضيح أكثر لتفسير هذه الآية عند تفسير نظيرتها الآية 27 من سورة إبراهيم في ج 2.
مطلب لا تزر وازرة وزر أخرى : (2/121)
ج 2 ، ص : 122
قال تعالى «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » أي لا تحمل كل نفس إلّا وزرها وقد مر تفسيرها في الآية 38 من سورة والنجم المارة ، وهاتان الآيتان لا يتنافيان مع الآية 88 من سورة النمل والآية 14 من سورة العنكبوت في ج 2 وهي (لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) لأن هذه في الظالمين المضلين لانهم يحملون إثمهم وإثم من يضلونهم «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ» بالأوزار في ذلك اليوم الذي يفر فيه الأخ من أخيه والأب من ابنه والزوجة من زوجها «إِلى حِمْلِها» الذي أثقلها ليحملوا منه شيئا يخففون به عنها مما جنته من الذنوب في الدنيا «لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ» إذ لم يجبها أحد ممن تستنجد به وتستغيث ، لان كلا مشغول برزره حائر في أمره «وَلَوْ كانَ» من تدعوه أو ترجوه «ذا قُرْبى » منه ، فإنه لا يجيب دعاءه ولا يحمل عنه شيئا.
قال ابن عباس يعلق الأب والأم بالابن فيقول (كل منها) يا بني احمل عني بعض ذنوبي ، فيقول لا أستطيع حسبي ما عليّ.
وظاهر الآية نص في الحمل الاختياري فيكون ردا لقول المضلين ولتحمل خطاياكم ، يؤيده سبب النزول وهو كما روى عن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعليّ وزركم فنزلت هذه الآية ، إلا أن المنفي عام وعمومه ينافي اختصاصه بالاختيار ، لأنه يعم أقسام الحمل ، جبرا أو اختيارا.
قال تعالى يا أكرم الرسل «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يروه فهم الذين تنفعهم الذكرى بوعظك وإنذارك لاولئك المشركين «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» معك ابتغاء مرضات اللّه فيصلون معك من غير أن أفرضها عليهم اقتداء بك ونأسيا بأفعالك ، وذلك أن الركعتين اللتين فرضهما اللّه على رسوله كانتا خاصتين به يؤديهما في الغداة والعشية ولم يأمر أحدا من أصحابه بفعلها لان اللّه لم يأمره بذلك وكان بعض أصحابه يفعلونها تأسيا بفعله ليس إلا ، وهذا المراد واللّه أعلم من هذه الصلاة لان الصلاة المكتوبة لم تفرض بعد كما نوهنا به غير مرة عند كل ذكر لفظ الصلاة «وَمَنْ تَزَكَّى» من أوزار المعاصي بفعل الطاعات والقربات وصلى معك هذه الصلاة من غير أن تفرض عليه قصد(2/122)
ج 2 ، ص : 123
التطهير لنفسه وتزكيتها «فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ» خاصة لأنه هو المنتفع بها.
وقرأ ابن مسعود وطلحة (أزكى) بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في ابتداء ، وهي قراءة شاذة لا عبرة بها لما ذكرنا غير مرة أن كل قراءة فيها زيادة حرف أو نقصه أو تبديله لا قيمة لقول من يقول بها «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» 18 لا إلى غيره فيجازى الدنس على رجسه والمتزكي على طهارته ، ثم ضرب اللّه مثالا آخر للجاهل والمؤمن فقال «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» 19 وللكافر والمؤمن بقوله «وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ» 20
وللجنة والنار بقوله «وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ» 21 ولمن ينتفع بدعوة الرسل ومن لا ينتفع بها بقوله «وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ»
مطلب في إسماع الموتى :
وختم هذه الآية العظيمة وكل آيات اللّه عظيمة ، بجملة فعلية تعود لكل من هؤلاء وهي «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ» إسماعه سماع قبول فيتعظ بما يسمع ويهتدي به ، أما الذين لم يشأ إسماعهم فلا تقدر يا أكمل الرسل على إرشادهم لأنهم في حكم الأموات ولذلك قطع رجاءه منهم بقوله «وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» 22 فكما أن الموتى لا يجيبون الدعوة فكذلك هؤلاء ، وهذه الجملة ترشيح للمصرين على الكفر.
ولهذا فيكون المعنى لا تحرص يا حبيبي وتجهد نفسك على دعوة قوم مخذولين ، قد سبق لهم الشقاء في علم اللّه «إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ» 23 لهم ومبلغ لا مجبر ولا مسيطر عليهم ، فمن سمع منك إنذارك سماع قبول انتفع به وأرشد ، ومن أعرض عنه فقد هلك وفسد فاتركه لا تأسف عليه.
ولا يرد على هذه مخاطبة الرسول صلى اللّه عليه وسلم قتلى بدر في القليب ، لأن المراد نفي الإسماع بطريق العادة ، وذلك على طريق المعجزة وهي خارقة للعادة ، وما يدريك أن اللّه تعالى هو الذي أمره بخطابهم على حجة التبكيت والتوبيخ والتقريع بهم ، وبأمثالهم إذ ذاك ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، وما يدريك أن اللّه أسمعهم كلامه أيضا وأعطاهم قوة الرد عليه وإسماعه جوابهم وهو على كل شيء قدير «إِنَّا أَرْسَلْناكَ» يا سيد الرسل لهؤلاء وغيرهم «بِالْحَقِّ بَشِيراً» بالوعد وإنجازه للطائعين «وَنَذِيراً» بالوعيد(2/123)
ج 2 ، ص : 124
وتنفيذه للعاصين «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» 24 من نبي أو رسول أو خليفة لهما ، وهذا عموم خص منه العرب ما بين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، إذ لم يرسل إليهم رسول ولا خليفة رسول ولم يترك لهم كتاب ، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى من سورة السجدة والآية 44 من سورة سبأ في ج 2 ، وقد مرّ شيء عنه في تفسير الآية 16 من سورة يس المارة.
مطلب عدم انقطاع آثار الأنبياء وعدم تكفير فاعل الكبيرة :
ولا يقال إن أكثر الأمم بين إبراهيم وموسى ، وموسى وعيسى ، وعيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ومن قبلهم لم يسلف فيها نذير وقد خلت من النبوة ، لأن آثار الأنبياء فيهم باقية ، وما وقع من العذاب على الكافرين منهم تنافله الخلق عن السلف ، ولم ينقطع التعبد بصحف إبراهيم وإرشاده إلى زمن موسى ، ولا بالتوراة إلى زمن عيسي ، ولا بالإنجيل إلى زمن محمد بالنسبة لأهل الكتاب ، وكذلك من قبلهم إذ دامت وصايا الأنبياء فيهم بالتناقل ، وعلى هذا لم يخل وجه الأرض من آثار النبوة إذ كلما اندرست تعاليم نبي أعقبه الآخر فيحدد عهده وينشر أوامر ربه فيهم ، وهكذا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه بعث قبل تمام اندراس أحكام التوراة والإنجيل ، فجدد ما اندرس من ذلك شأن الأنبياء قبله وبعد أن آتاه القرآن عمم أحكامه وأمر برفض ما يخالفه ، لأنه الحكم الأخير القاطع الساري على أهل الأرض إلى وقت إبادتهم ، فهو خاتم الكتب السماوية ، كما أنه خاتم الرسل والأنبياء ، وآثار إنذاره وإرشاده الحسي والمعنوي مما جاء به من عند ربه ، وما سنّه لأمته باق بتمامه إلى اليوم وبعده وإلى أن يرث الأرض ومن عليها بارئها ، وقد تعهد اللّه له بحفظ كتابه إلى اندراس هذا الكون وحتى لا يبقى من يقول لا إله إلّا اللّه.
قال عليه الصلاة والسلام : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق - وفي رواية لا يضرهم من خالفهم - حتى يأتي أمر اللّه القائل :
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 10 من سورة الحجر في ج 2 ، حتى إذا جاء أمره بخراب هذا الكون رفعه بموت أهله وعدم تعلمه ، واكتفى بهذه الآية بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرها مقرونين في أولها ، لأن(2/124)
ج 2 ، ص : 125
النذارة مشفوعة بالبشارة فدل ذكرها عليها ، قال بعضهم : إن عموم هذه الآية وقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) الآية 29 من سورة الانعام في ج 2 ، يفيد أن في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرونهم.
وهو قول باطل لا تخفى سماجته على البهائم أمثال هذا القائل.
وما نقل عن الشيخ محي الدين قدّس سره في هذا المعنى لا يكاد يصح ، وإذا كان موجودا في كتبه فهو من جملة ما دس فيها عليه من الجمل التي يبعد أن تصدر عن مثله.
قال محمود الآلوسي في تفسيره رأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر وأنا أقول إذا لم يكن كفرا فهو قريب منه ، والأولى أن لا يكون كفرا لاحتمال التأويل في ذلك وكل ما احتمل فيه التأويل لا يكفر به ، وعلى فرض أنها كبيرة ففاعلها لا يكفر راجع تفسير الآية 76 من سورة يس والآية 19 من سورة الفرقان المارتين ، قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا سيد الرسل «فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أنبياءهم وآذوهم كما فعل بك قومك وقد «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» الواضحات مثل ما جئتهم به «وَبِالزُّبُرِ» الصحف المكتوبة على الألواح المنزلة من لدنا على أنبيائهم السابقين «وَبِالْكِتابِ» الذي أنزلناه جملة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور «الْمُنِيرِ» 25 كل منها بأوضح وأفصح الدلائل على توحيدنا ومع ذلك لم يؤمنوا ، فلا تذهب نفسك حسرات عليهم.
وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقي من نكد قومه ليخفف عنه بعض همه عليهم واهتمامه بهم ، لاستعجال إيمانهم ، وإن شأنه شأن من قبله من الأنبياء مع أقوامهم ، وان له أسوة بهم في عدم قبول الدعوة وتحمل الأذى «ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بهم وبكتبهم بعقوبات متنوعة بعد إمهالهم مددا يتذكر فيها من يتذكر «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» 26 عليهم وتعذيبي لهم إنه كان شيئا عظيما لم يتصوروه ، ولم يقدر على إنزال مثله غيري أنا الإله المنتقم ممن كفر بي ، وفي هذه الآية تهديد لقريش قوم محمد صلى اللّه عليه وسلم بأنهم إذا لم يؤمنوا يحل بهم ما حلّ بغيرهم من النكال «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها» في الخضرة والحمرة والصفرة(2/125)
ج 2 ، ص : 126
وغيرها مما لا يحصر لونا وجنسا وشكلا ونوعا ، مع أنها تخرج من أرض واحدة وتسقى بماء واحد ، وتتفاوت بالنمو وتختلف بالحجم والطعم ، وتنضج بسبب واحد ، وتختلف بذلك كله ، فسبحان البالغ بالقدرة والصنع «وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ» طرق جمع جادة ، ويأتي بمعنى النهر وطريقه ، وخطط مختلفة اللون أيضا منها «بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها» لأن كل طريق على لون أرضه ، وكل لون يتشعب منه ألوان كثيرة من الزرقة والصّفرة «وَغَرابِيبُ سُودٌ» 27 يقال أسود حالك لشديد السواد تشبيها بالغراب ، كما يقال أبيض ناصع وأحمر قاني ، وما أشبه ذلك ، والغربيب أبعد لون في السواد ، وجاء في الحديث : إن اللّه يبغض الشيخ الغريب الذي يخضب شعره بالسواد ويتمادى في السّفه أو الذي لا يشيب لسفاهته وعدم اهتمامه بآخرته ، وفي مثله يقول الشاعر :
العين طامحة واليد شامخة والرجل لائحة والوجه غربيب
يريد أن شعره أسود حالك وكلمة سود بالآية بدل من غربيب المعطوفة على بيض ، وهي لم تتكرر بالقرآن «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» أيضا لأنها كلها من الأرض ، والأرض متنوعة فتتبع أصلها «كَذلِكَ» كاختلاف الأثمار والجبال.
وهنا تم الكلام فيما يتعلق بذلك.
مطلب خشية اللّه تعالى :
ثم يبدأ بقوله «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» قال ابن عباس : إنما يخافني من علم جبروتي وعزتي وسلطاني.
وقال مقاتل : أشد الناس خشية للّه أعلمهم به.
وقال الربيع بن أنس : من لم يخش اللّه ليس بعالم.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت : صنع رسول اللّه شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم ، فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخطب فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟! فو اللّه إني لأعلمهم به وأشدهم له خشية (ومعنى ترخّص أي لم يشدد فيه ، وتنزه تباعد عنه وكرهه) ورويا عن أنس قال : خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم(2/126)
ج 2 ، ص : 127
كثيرا ، فغطى أصحاب رسول اللّه وجوههم لهم خنين (بكاء مع غنة) والمراد بالعلماء هنا المخلصون العارفون باللّه العالمون بما يليق به من صفات وأفعال حق العلم والمعرفة ، لا العالمون بالمنطق واللغة والهندسة والرياضيات والكيمياء والسحر وغيرها ، لأن هذه وإن كانت علوما يطلب تعليمها لمصالح الدنيا ، إلا أنها لا تكون مدارا لخشية اللّه المنوه بها في الآية التي كلما ازداد بها العالم معرفة ازداد معرفة باللّه ، وكان أكثر خشية له من غيره.
نعم إن في علم الطب وتشريح الأعضاء والوقوف على كامل خلق اللّه ما يوجب الخشية للّه والرجوع إليه ، وجدير بالكافر أن يؤمن إيمانا كاملا لما يرى من بديع صنع اللّه في خلقه ، ولكن قليل ما هم أولئك الذين يتفكرون في ذلك.
روى الدارمي عن عطاء قال : قال موسى عليه السلام : يا رب أي عبادك أحكم ؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه.
قال يا رب أي عبادك أغنى ؟
قال أرضاهم بما قسمت له.
قال يا رب أي عبادك أخشى ؟ قال أعلمهم بي.
وصح عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : أنا أخشاكم للّه وأتقاكم له.
وقرأ بعضهم برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء ، وأول يخشى بيعظم ، وليست بشيء لأن يخشى لا يأتي بمعنى يعظم من حيث اللغة فضلا عن انها قراءة بخلاف الظاهر ، ولذلك لا عبرة بها ، وإن كان المعنى صحيحا لما فيها من التكليف دون حاجة ، والتأويل دون مستند ومعناها على الوجه الذي ذكرناه أولى وأليق «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب كامل القدرة على الانتقام ممن لا يخشاه «غَفُورٌ» 28 لمن خشيه وأناب إليه.
واعلم أنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة ، ومن كان كذلك فحقه أن يخشى ، قالوا أنزلت هذه الآية في أبي بكر رضي اللّه عنه إذ ظهرت عليه خشية اللّه حتى عرفت فيه ، وهو أحق وأولى أن تنزل فيه الآيات ، إلا أن الآية عامة ، ولا دليل يخصصها بأحد فيدخل فيها أبو بكر دخولا أوليا ، وكل من يخشى اللّه إلى يوم القيامة خشية حقيقية قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ» مع حضرة الرسول قبل أن تفرض عليهم تأسيا به «وَأَنْفَقُوا» تطوعا على الفقراء والمساكين من قراباتهم وغيرهم في سبيل اللّه ابتغاء مرضاته «مِمَّا(2/127)
ج 2 ، ص : 128
رَزَقْناهُمْ»
من فضلنا مما هو فاضل عن كفايتهم «سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ» بذلك الإنفاق «تِجارَةً» مع اللّه تعالى فقد نيل ثوابه «لَنْ تَبُورَ» 29 تكسد بل تتداول دائما ، وقد تعهد اللّه لمثل هؤلاء على لسان رسوله بقوله واعدا مؤكدا «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ» كاملة على أعمالهم هذه «وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة عظيمة ، وما بالك بزيادة اللّه أيها القارئ فهي وهو أعلم كما قال ابن عباس مما لم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم تخطر على قلب بشر «إِنَّهُ غَفُورٌ» كثير المغفرة لذنوب عباده المنفقين في سبيله «شَكُورٌ» 30 لعملهم هذا
«وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «مِنَ الْكِتابِ» هو من كلامنا الأزلى ليس بسحر ولا كهانه ولا شعر ، وإنما «هُوَ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه وقد أنزلناه «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب المتقدمة لاشتماله عليها وزيادة كثيرة لم تذكر فيها ولم تنزل على أحد قبلك ، لأنه خاتمة الكتب أنك خاتم الرسل وهو ناسخ لكل ما يخالفه مما في الكتب القديمة «إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» 31 ببواطن الأمور وظواهرها ، يحيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمرهم «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ» القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل «الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» أمتك المخلصين الجارين على طريقك ، لأننا اصطفيناهم لك من بعدهم كما اصطفيناك لهم من بعد الرسل ، قال ابن عباس يريد أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه اصطفاهم على سائر الأمم ، واختصّهم بكرامته ، بأن جعلهم اتباع سيد الرسل ، وخصّهم بأفضل الكتب ، وجعلهم خير الأمم ثم قسمهم جل شأنه أقساما ثلاثة فقال «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» وهم المرجون لأمر اللّه مثل الآتي ذكرهم في الآية 108 من سورة التوبة في ج 3 فهؤلاء إن شاء عذّبهم بعدله ، وإن شاء عفا عنهم بفضله «وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» خلط عملا صالحا وآخر سيئا وهؤلاء مقطوع لهم بالنتيجة بأنهم من أهل الجنة ، لقوله تعالى «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» الآية 104 من سورة التوبة لأن عسى فيها للتحقيق وهكذا كل عسى بالبينة للّه تعالى «وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» وهؤلاء يدخلون الجنة بغير(2/128)
ج 2 ، ص : 129
حساب ، المرادون في قوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) الآية 102 من التوبة أيضا ، كما سنبين هذا كله في محله في تفسير هذه الآيات وآخر سورة الواقعة الآتية إن شاء اللّه تعالى قال عمر رضي اللّه عنه على المنبر بعد تلاوة هذه الآية ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له ، وجاء أيضا عنه صلى اللّه عليه وسلم : السابق يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة ، وأما الظالم فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو ، ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة - رواه أبو الدرداء - وقال ابن عباس : السابق المخلص ، والمقتصد المرائي ، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها.
وقال الربيع بن أنس : الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد صاحب الصغائر ، والسابق المجتنب لهما.
فوافق هذا التأويل القرآن والحديث والأثر وقول السلف الصالح ، فتدبر وانظر لنفسك أي الدار تختار.
واعلم أن المتلبس بإحدى هذه الخصال الثلاث ، ما كان تلبسه إلا «بِإِذْنِ اللَّهِ» وأمره وإرادته وتوفيقه وقضائه وقدره «ذلِكَ» إيراث الكتب والاصطفاء لمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته «هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» 32 الذي لا أكبر منه ، إذ لم يعطه أحدا قبلهم ، فكل الأمم لم تختص بما خصت به هذه الأمة كما أن رسولها خص بأشياء لم تختص بها الأنبياء قبله ، راجع تفسير الآية 158 من سورة الأعراف المارة ، وأي فضل أعظم من هذا ، لأن السابقين منهم يدخلون الجنة فور خروجهم من قبورهم ، والمقتصدين بعد الحساب ، والظالمين بعد العذاب.
ثم بين جل بيانه بعض ذلك بقوله «جَنَّاتُ عَدْنٍ» إقامة دائمة «يَدْخُلُونَها» بمحض الفضل لا دخل للكسب فيها «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً» مرصعا فيها ، ومن هنا تعلم أهل الدنيا ترصيع الذهب بالأحجار الكريمة «وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» 23 ناعم زيادة في التنعم والترف ، ولما رأى أهل الجنة ما غمرهم به اللّه من فضله شكروه «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» الذي كنا نكابده في الدنيا خوف عاقبة هذا اليوم في عدم قبول الأعمال والمؤاخذة على ما صدر منّا.
روى البغوي عن أبي عمر رضي اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ليس(2/129)
ج 2 ، ص : 130
على أهل لا إله إلا اللّه وحشة في قبورهم ولا في نشورهم ، وكأني بأهل لا إله إلا اللّه ينفضون التراب عن رءوسهم ، يقولون الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن «إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» 34 ومن فضله وكرمه لعباده أنه يغفر الذنب العظيم ويشكر العمل القليل «الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ» وهي الجنة لأنها دائمة لا يبرح عنها أهلها ولا يفارقونها عطاء «مِنْ فَضْلِهِ» ولطفه وعطفه ، لأن العمل مهما كان كثيرا لا يؤهل صاحبه ما ذكره اللّه له هنا.
ومن تمام النعمة أنه «لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ» تعب ولا مشقة «وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» 35 كلال وملالة ولا فتور وإعياء ، ولم تكرر هذه الكلمة إلا في الآية 28 من سورة ق المارة وهذه الأحوال لا تحصل إلا بنتيجة العناء ، وهذا من جملة ما من اللّه به على عباده المؤمنين.
هذا أيها الناس حال أهل الجنة جعلنا اللّه من أهلها ، أما حال أهل النار فانظروا ماذا يحلّ بهم من المنتقم الجبار واسألوا اللّه العافية.
مطلب نذر الموت ومعنى الغيب :
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ» بعذابها «فَيَمُوتُوا» مرة ثانية ويستريحوا منه «وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» فيها بل يبقى مشتدا عليهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الفظيع الذي لا تقواه القوى «نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» 36 لآياتنا جحود لنعمنا ، مكذب لرسلنا ، ثم بين حالهم فيها أجارنا اللّه منها بقوله «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها» يتصايحون من شدّة الألم ودوامه بأصوات عالية ، ولما لم ينفعهم ولما يرد عليهم ، يعودون فيستغيثون قائلين «رَبَّنا أَخْرِجْنا» من هذا العذاب وأعدنا إلى الدنيا «نَعْمَلْ صالِحاً» كما تحب وترضى فنطيع الرسل ، ونصدق الكتب ، ونؤمن باليوم الآخر ، ونعترف لك بالوحدانية الفردة ، ونعمل يا ربنا «غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» في الدنيا قبلا من التكذيب والجحود والإشراك ، فيوبخهم اللّه تعالى بقوله «أَ وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ» في الدنيا «ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» لو أردتم ذلك لأنا أمهلناكم مدة كافية ما بين الخامسة عشرة من أعماركم إلى الستين ، فأكثر وأقل ، ولم يجدر(2/130)
ج 2 ، ص : 131
بكم ذلك الإمهال.
وقيل المراد بهذا العمر هو سن البلوغ الثامنة عشرة سنة فقط ، أو سن الكمال الأربعون سنة ، أو سن الانتهاء الستون فما فوق ، وقد ذكّرناكم على لسان رسلنا وخوفناكم سوء العاقبة فلم تتذكروا ورفضتم كتبي ورسلي وأنكرتم وحدانيتي «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» من قبل فأبيتم قبول إرشاده ، ولم تعتبروا بما جرى على من قبلكم ، ولم يؤثر فيكم ما ترون من علامات الموت ، وأصررتم على ظلمكم «فَذُوقُوا» عذاب النار التي كنتم تكذبون بها لأنكم ظلمة «فَما لِلظَّالِمِينَ» اليوم لدينا «مِنْ نَصِيرٍ» 37 يخلصهم مما هم فيه.
هذه الآية جواب من اللّه عز وجل للظالمين وتوبيخ لهم على عدم رجوعهم إلى اللّه في الدنيا مع تمكنهم منه خلال المدة التي عاشوها فيها.
أخرج الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة والنسائي وغيره عن سهل بن سعد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعذر اللّه تعالى إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة.
وعنه بإسناد الثعلبي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين.
والنذير في الآية يطلق على النبي فكل نبي نذير لأمته من بين يدي عذاب أليم ويطلق على القرآن لأن فيه من التحذير والأمر والنهي ما يكفي لمن كان له قلب ، ويطلق على الشيب لأنه نذير الموت فقد جاء في الأثر : ما من شعرة تبيضّ إلا قالت لأختها استعدي للموت.
ويطلق على كلّ واعظ آمر بالمعروف ناه عن المنكر.
ونذر الموت غير الشيب كثيرة ، منها المرض والحمى وموت الأقران والأقارب وبلوغ سن الهرم وقيل فيه :
رأيت الشيب من نذر المنايا لصاحبه وحسبك من نذير
وقائلة تخضّب يا حبيبي وسود شيب شعرك بالعبير
فقلت لها المشيب نذير عمري ولست مسودا وجه النذير
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»
مع خفائه ودقته فعلم كل شيء في العالم داخل في هذا العلم ، لأنه ظاهر بالنسبة لذلك ، لأن السرّ والعلن عنده سواء ، وهذا الغيب هو بالنسبة للملائكة والجن ، وإلا فلا غيب عليه البتة راجع الآية 26 من سورة الجن المارة «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»
38(2/131)
ج 2 ، ص : 132
والذي يعلم خفايا القلوب ، لا يخفى عليه علم غيرها وذات الصدور مضمراتها وهي تأنيث ذي الموضوع لمعنى الصحبة ، أي فمن جملة علمه تعالى يعلم أنهم بعد اعترافهم بهذا العذاب (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الإنكار والجحود والتكذيب - راجع تفسير الآية 29 من سورة الأنعام في ج 2 قال تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ» يخلف بعضكم بعضا «فِي الْأَرْضِ» كلما انقرض جيل خلفه غيره ، فالأحرى أن تعتبروا بمن سلف من الأمم الخالية ، لأن مصيركم سيكون مثلهم ، فمن آمن فله ثواب إيمانه ، وكذلك «فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» يعاقب بمقتضاه «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً» بغضا وكرها شديدا في الدنيا ، واحتقارا وذلا وحرمانا من كل خير «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» 39 في الآخرة ، وذلك هو الخسران المبين وكرر الجملة تأكيدا وإيذانا بأن مصير الكفر اقتضاءان قبيحان مرّ ان : المقت في الدنيا والخسارة في الآخرة ، فلو لم يكن الكفر مستوجبا غير هذين لكفى به شرا ، فكيف إذا كان يستوجب أشياء أخر ؟ «قُلْ» يا سيّد الرسل لهم هذا لعلّهم يرجعون إليّ قبل أن يمتنع عليهم لا يمكنهم الرجوع ، ثم يقول لهم جل قوله تبكينا وتقريعا مما يزيد في أسفهم «أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من جميع الأوثان النامية والجامدة «أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» حتى يكونوا شركاء فيها ، أروني أي جزء من أجزائها خلقوه حتى جعلتموهم شركائي في العبادة وصيّرتموهم آلهة وعبدتموهم : فإذا كانوا لم يخلقوا شيئا منها فأخبروني «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ» معي وهل خلقوا منها شيئا ، وهل يعلمون ما فيها وما مصيرها ؟ وإذا لم يكن لهم شيء من ذلك أيضا ، فأعلموني «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً» ذكر فيه أن لهم شيئا من ذلك «فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ» حتى يظنّوا بأن لهم علاقة في خلق السموات والأرض أو شركة فيها «بَلْ» ليس لهم شيء فيها أصلا ولا علم لهم بما فيهما ، وان ما اتخذوه من تلقاء أنفسهم جمادا عنادا ، وما انتحلوه من عبادة الملائكة وغيرهم(2/132)
ج 2 ، ص : 133
زورا لأنهم ، لا يقدرون على شيء من ذلك ، ولا على حفظ أنفسهم من التعدّي ولكن ما «إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً» من نفع وضرّ وخير وشر وقوة وضعف «إِلَّا غُرُوراً» 40 وخداعا في قولهم بعضهم لبعض إنها شفعاؤهم عند اللّه ، وغير ذلك.
مطلب الأرض عائمة كالسماء :
«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» فيمنعهما من الوقوع بإمساكه إياهما إمساكا قويا لا يقدر عليه الثقلان ، ولا تنصوره العقول ، ولا يكيف كيفيته أحد.
وهذه الآية الجليلة تدل على أن الأرض كالسماء غير مستقرة على شيء بل هي طائفة عائمة في الفضاء ، وأنه تعالى كما أنه يمنع السماء المبنية على غير عمد أو على عمد غير مرئية كما يأتي في الآية 10 من سورة لقمان ج 2 والآية 2 من سورة الرعد في ج 3 ، من أن تسقط أو تنخفض أو ترتفع بسبب إمساكه إياها ، فكذلك يمنع الأرض من أن تميد أو تتحرك أو تنخفض عن مستواها أو ترتفع عن مستقرها بسبب ذلك الإمساك المحكم أيضا «وَلَئِنْ زالَتا إِنْ» ما «أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» أي لا يمسكهما أحد سواه البتة ، وتفيد أيضا بأن الأرض كبقية الأجرام السماوية لا عمد تقلها ولا دسار ينظمها كما ثبت أخيرا عند علماء الفلك ، وإن زوال جرم ما من هذه الأجرام من مركزه يفضي إلى تهافتها كلّها وعدم رجوعها إلى مركزها لاستحالة تأثير قوى التجاذب فيها بعد اختلاف موازنتها وفك ارتباط بعضها عن بعض.
وسيأتي هذا اليوم لا محالة وهو الملمع إليه بقوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، الآية 1 من سورة الانفطار (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، الآية 1 من سورة التكوير ، (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) الآية 8 من سورة المعارج ، (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) الآيتان من سورة الطور ، وهذه وما قبلها وبعدها من الآيات القاطعات المشعرة بخراب هذا الكون وانقراض أجزائه ، وهذا من الأمور الغيبية التي لم يعلمها في عهد نزول القرآن أحد إلا مكوّنها ، وكم من علوم مكنونة فيه لم يطلع(2/133)
ج 2 ، ص : 134
عليها أحد «إِنَّهُ كانَ» ولم يزل «حَلِيماً» لا يعجل العقوبة على عباده علهم يرجعوا إليه رحمة بهم «غَفُوراً» 41 لما سبق منهم إذا تابوا وأتابوا ، وتشير هذه الآية العظيمة إلى أن كفر هؤلاء يكاد تهد السموات وتغور الأرض منه ، لعظمته عند اللّه لو لا أن قدرته البالغة ممسكة لها قال تعالى (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) الآية 82 من سورة مريم الآتية ، أي أن ما هم عليه من الشرك والكفر يكاد يسبب ذلك لو لا عظمة اللّه الحائلة دونه.
هذا ، ولما جاهر مشركو العرب بقولهم لعن اللّه اليهود والنصارى كيف أتتهم رسل اللّه فكذبوهم وحلفوا لو جاءهم رسول لاتبعوه ، فأنزل اللّه «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ» نبي يرشدهم إلى السداد «لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ» يعني اليهود أو النصارى أو الصابئة لانهم من أهل الكتاب أيضا ثم اختلفوا بعضهم مع بعض في التحليل والتحريم وقولهم هذا كناية عن شدة التمسك بما يدعوهم إليه ذلك النذير الذي تمنوه قال تعالى مكذبا لهم «فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ» وأي نذير كريم أمين خطير منهم معروف لديهم بالصدق ، لأنهم خلقوا قبل مبعثه «ما زادَهُمْ» مجيئه إليهم وهديه لهم وجهده عليهم لإنقاذهم مما هم فيه من الشرك والكفر «إِلَّا نُفُوراً» 42 عنه وتباعدا عن رشده ، وإيذاء له فوق ذلك ، لا لأنه لم يكن نبيا وصادقا في دعواه ، بل كان نفورهم منه «اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ» طلبا للكبرياء فيها فتعاظموا عن قبول الإيمان به عنادا لمرسله وحسدا له على ما خصّه اللّه به من بينهم ، ولامر آخر وهو «وَمَكْرَ السَّيِّئِ» أي عملهم القبيح الذي هو اجتماعهم على الكفر والإشراك باللّه واتفاقهم على تكذيب رسوله وخداعهم له وتحين المكر فيه «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» فيونعهم فيه سوء عاقبته.
وجاء في المثل من حفر لأخيه جبّا وقع فيه مكبا ، فيا ترى هل أرادوا بمكرهم هذا أن جحودهم لما جاءهم به من عند ربه خيرا لأنفسهم ؟ كلّا بل شر وأي شر لقوله تعالى «فَهَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء المخالفون لرسولنا محمدا «إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ» وهي أن كل أمة كذبت(2/134)
ج 2 ، ص : 135
رسولها حاق بها عذاب الاستئصال ، ولا محيص لها من الخلاص عنه «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ» التي أمضاها على خلقه بقضائه وقدره «تَبْدِيلًا» عن مجراها الطبيعي أبدا ولا تغييرا ، وهؤلاء قومك يا سيد الرسل إذا أصرّوا على كفرهم نزل بهم العذاب لا محالة «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» 43 عن وقتها المقدر لها في الإهلاك وغيره ، بل تقع حتما فيه وقد نال بعض هؤلاء الكفرة يوم بدر ما نالهم من العذاب قتلا وأسرا ونشريدا ، وهذا عذابهم الأدنى وسينالهم العذاب الأكبر في الآخرة راجع الآية 21 من سورة السجدة في ج 2 قال تعالى «أَ وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» فيعتبروا بأخبارهم وآثارهم وكيفية إعلاكهم وأسباب تدميرهم ؟ وهذه الآية كالاستشهاد والاستدلال على جريان سنة اللّه المبينة في الآية قبلها ، والاستفهام إنكاري ، أي لم يسيروا وينظروا أو يسمعوا بهم ، «وَكانُوا» أولئك المهلكون من الأمم قبلهم «أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» وأعظم بأسا وأجساما ، وأكثر أموالا وأولادا ، فلا يغتر قومك يا حبيبي بقوتهم وأموالهم وأولادهم ، فهم دونهم بكثير ، راجع الآية 21 من سورة غافر ، والآية 35 من سورة سبأ في ج 2 ، والآية 70 من سورة التوبة في ج 3 ، ومهما كانت قوتهم فليست عند اللّه بشيء «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ» مهما كان عظيما مما كان «فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» لأنهما وما فيهما من خلق اللّه ، ومن خلق شيئا لا يعجزه إبادته ، ولا يصعب عليه كيف يسوقه إلى قبضته «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «عَلِيماً» بذلك كله لا يحتاج الدلالة والاعانة من أحد «قَدِيراً» 44 على خلقه وجميع مكوناته ، لا يفلت أحد من قبضته ، كيف وقد قال جل قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)
الآية 67 من سورة الزمر في ج 2 ، ومن كان كذلك فلا يعجزه شيء.
قال تعالى «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا» من الآثام والمعاصي والمخالفات «ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها» أي الأرض التي يوقعون فيها المنهيات كلها من الإنس والجن وغيرهما(2/135)
ج 2 ، ص : 136
«مِنْ دَابَّةٍ» تدب عليها بما يشمل الإنسان والحيوان والحوت والطير وغيرها «وَلكِنْ» يحلم عليهم فيمهلهم علهم يتوبوا فيغفر لهم ولذلك «يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا يطلع عليه غيره «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المحتوم ولم يرجعوا إليه وبقوا مصرين على ما هم عليه ، أوقع بهم عذابه جزاء أعمالهم الخبيثة ، وإذ ذاك «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ» في ذلك اليوم كما هو الآن وقبل وبعد «بَصِيراً» 45 بمن يستحق العقوبة ممن يستحق الكرامة ، لم تخف عليه حقيقة أحد منهم.
هذا ، ولا يوجد سورة في القرآن مختومة بمثل هذه الكلمة غير هذه واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة مريم
عدد 44 - 19
نزلت بمكة بعد سورة فاطر عدا الآيتين 58 و71 ، وتسمى سورة كهيعص ، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به ، وهي ثمان وتسعون آية ، وسبعمائة وثمانون كلمة ، وثلاثة آلاف وسبعمائة حرف.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى «كهيعص» 1 كلمة مؤلفة من مبادئ أسماء اللّه تعالى الحسنى كريم وكبير ، وهاد ، ورحيم ، وعليم ، وصادق ، وصبور ، ولا يعلم معناها الحقيقي إلا اللّه والمنزل عليه هذا القرآن ، راجع تفسير المص تجد ما يتعلق بها ، وهذا الذي نتلوه عليك يا أكرم الرسل «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» 2 حينما دعا ربه بطلب الولد وأنعم عليه به بعد كبر سنه وعقر زوجته وكبرها على عقمها ، فاذكر لقومك معجزة ربهم لرسوله زكريا كيف رحمه وأجاب دعاءه «إِذْ نادى رَبَّهُ» سأله واستغاث به «نِداءً خَفِيًّا» 3 سرا بينه وبين ربه ، لأنه أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص ، ولئلا يلومه قومه إذا سمعوا منه طلب الولد من ربه مع شيخوخته وعقم زوجته ، لأنهم يرون ذلك طلبا تافها عقيما محالا ، ولا ينبغي لمثله وهو على ما هو عليه من المركز بينهم أن(2/136)
ج 2 ، ص : 137
يفعل ذلك ، لعدم معرفتهم بقدرة اللّه الذي له خرق العادات لضعف إيمانهم ، ثم ذكر صفة دعائه بقوله عز قوله «قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ» دق وضعف من الكبر «الْعَظْمُ مِنِّي» وإذا كان العظم صار كذلك ، فما بالك باللحم وغيره من قوام وجوده ؟ وزاد لفظة (مني) مع أنه لو قال عظمي لكفى بالمقصود ، لأنه أحوج في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا وهي أفصح ما يمكن أن يقال في هذا المقام وقد أخذ ابن دريد قوله :
واشتعل المبيّض في مسودّه مثل اشتعال النار في جمر الغضا
في قوله «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» 3 تمييز محول عن الفاعل ، أي اشتعل شيب الرأس ، شبه عليه السلام كثرة الشيب في رأسه في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر ، وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ففي الكلام استعارتان : تصريحية تبعية في اشتعل ومكنية في الشيب ، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول ، وإن إسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف المخاطب ، فقولك اشتعل نارا يفيد احتراق جميع ما فيه ، دون اشتعل نار بيته ، تأمل.
وما قيل إن شيبا مصدر لاشتعل لأنه بمعنى شاب ، أو حال بمعنى شائب ، غير سديد كما لا يخفى.
ثم قال عليه السلام فيما يحكيه ربه عنه «وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا» 4 بعدم الإجابة لدعوتي هذه ، بل كنت سعيدا لأني كنت مستجاب الدعوة عندك مقبولا ، فلا تخيبني الآن بما دعوتك به حسبما عودتني قبلا فأشقى ، وحاشاك إلا إدامة كرمك على عبدك.
ثم بين سبب طلبه بقوله «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ» يريد أخواته وبني عمه إذ كانوا أشرارا لا يصلحون للخلافة بعده على إقامة دين اللّه ، وخاف عليه السلام إن استولوا بعده على الخلافة أن يغيروا معالم الدين ويبدلوا ما كان عليه.
واعلم أن كل من يلي أمر الرجل من قرابته وذويه يطلق عليه لفظ مولى ، ويطلق على السيد والعبد أيضا ، ويعرف بالقرينة والخطاب قال : (2/137)
ج 2 ، ص : 138
ولن يتساوى سادة وعبيدهم على أن أسماء الجميع موالي
وحيث أن زكريا عليه السلام كان أمينا على إقامة الدين حال وجوده بما أعطاه اللّه من ملكة قال «مِنْ وَرائِي» أي بعد موتي «وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً» فضلا عن أنها عجوز «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا» 5 يلي أمر الناس من بعدي لإقامة دينك ممن يرضون بحكمه لأنه «يَرِثُنِي» النبوة التي شرفتني بها «وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» النبوة والعلم والحكمة لأنه عليه السلام بن آزر وقيل بن برخيا من أولاد هارون أخي موسى عليهما السلام وهما من سبط يهوذا أولاد يعقوب والنبوة في عقبه لأنه إسرائيل اللّه صفوته من عباده وزوجته ايساع أخت مريم بنت عمران من ذرية داود عليهم السلام ، وبما أن النبوة والملك محصوران في أولاد يعقوب ، أراد أن يكون ابنه الذي سيمنّ عليه به ربه وارثا للجهتين النبوة والملك لأن زكريا كان نبيا ورسولا لا ملكا ، ومن قال إنه أراد وراثة المال فقد أخطأ وعن الحقيقة مال ، لأن الأنبياء لا يورثون ، قال عليه الصلاة والسلام نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.
ومن البعد بمكان أن يشفق نبي من أنبياء اللّه على مال الدنيا ، وكذلك القول بأن المراد أن يلي الخلافة بعده أي شخص كان فقد زل لأنه عليه السلام أراد ولدا ذكرا من صلبه ، يؤيد هذا قوله تعالى (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) الآية 38 من آل عمران في ج 3 «وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» 6 برا تقيا أرضاه وترضاه ويرضاه خاصة خلقك ، وهذا أيضا يؤيد أن المراد بالولي ولدا صلبيا ، ومما يؤكد هذا استجابة دعوته ومناداته له على الفور من قبل ربه
مطلب في الأسماء وما يستحب منها ويجوز ويحرم :
«يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى » وهو أسم خصصناه به «لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ» في الدهور الماضية «سَمِيًّا» 7 قط تشريفا له وفيه إعلام بأن الغريب جدير بالأثرة وكان ذلك لأنه لم يكن له مثل في أنه يعص اللّه قط ولم يهمّ بمعصية قط ، وانه ولد بين شخصين هرمين ، وأنه كان حصور لا يأتي النساء مع القدرة ، لأن الأنبياء كاملين لا يعتريهم خلل ، ولم يشرب الخمر(2/138)
ج 2 ، ص : 139
مع أنه غير محرم عليه ، ولم يلعب مع الصبيان.
قالوا كانت العرب تسمي بالأسماء النادرة لهذه الغاية ، قال بعضهم في مدح قوم :
شنع الأسامي مسبلي أزر حمر تمس الأرض أهدابها
وقيل للصلت بن عطاء : كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك ؟
فقال : لأني غريب الدار غريب الاسم خفيف الجرم.
وكانت تختار الأسماء التي يتفاءل بها بعيدهم : كسعد وسعيد ومبارك ورزق ومرزوق ومسعود ومهنأ وبشير وشبهها ، ويختارون الأسماء الدالة على الغلظة والشر لأنفسهم : كغضبان وعذاب وجدعان ومرار وذباح وهامة ونمر وفهد وما أشبه ذلك.
ولما قيل لهم في ذلك قالوا إن اسماء عبيدنا لنا فنختار الأحسن ، وأسماؤنا لأعدائنا فنختار لهم ما يوقع مهابتنا فيهم ، مثل الضاري والسبع والهيثم والعادي ، أما الأسماء المطلوبة في الإسلام فهي كما قال عليه الصلاة والسلام : خير الأسماء ما عبد وحمد كعبد اللّه وعبد الرحمن وعبد اللطيف ومحمد وأحمد ومحمود وما أشبه ذلك ، وكرهوا اسم نافع ورابح وخير وشبهها لتفاؤل الشر بنفيها من قولهم لا نافع ولا رابح ولا خير في الدار إلى غير ذلك ، وحرموا التسمية بعبد الحارث وعبد العزى وعبد الدار وغيرها من اسماء الجاهلية لما فيها من نسبة العبودية لغير اللّه تعالى «قالَ رَبِّ أَنَّى» كيف «يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا»
8 يبسا وعساوة في المفاصل والعظام وصرت في حالة يأس ، وهذا الاستفهام منه عليه السلام ليس على طريق الاستبعاد ، وسيأتي توضيحه في تفسير الآية 40 من آل عمران في ج 3 إن شاء اللّه فراجعه ، إذ جاءت هذه القصة فيها أوضح من غيرها في سائر السور ، وهكذا نؤخر بيان القصص إلى السور التي هي فيها أوسع لأنها أوفى بالمقصود منها «قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ» مثل هذا الأمر الذي ترونه صعبا أولا يكون «هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» ليس بشيء كيف «وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ» يحيى يا رسولي «وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» 9 موجودا أو خلقت أباك آدم من العدم ، أفلا أخلق لك ولدا من أبوين مهما كانا(2/139)
ج 2 ، ص : 140
في الهرم ؟ وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المعدوم ليس بشيء كما هو معتقد أهل السنة والجماعة قال في بدء الأمالي :
وما المعدوم مرثيا وشيئا لفقه لاح في بمن الهلال
فما قاله الغير من أن المعدوم شيء لا قيمة له لمخالفته الإجماع.
ومفهوم هذه الآية كما قال بعض المحققين.
المراد ، ابتداء خلق البشر إذ هو واقع إثر العدم المحض المستفاد من قوله (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) لأن ما كان بعد ذلك كان بطريق التوالد المعتاد ، فكأنه قيل وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم ، ولم تك إذ ذاك شيئا أصلا ، بل كنت عدما بحتا.
وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) وقد المعنا إليه في تفسير الآية 10 من سورة فاطر المارة ، وسنأتي على توضيحه في تفسير الآية 49 من سورة الأنعام في ج 2 إن شاء اللّه ، وإنما لم يقل وقد خلقنا أباك آدم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته في إزالة الاستبعاد لقياس حال ما بشر به على حاله عليه السلام ، لتأكيد الاحتجاج وتوضيح منهاج القياس من حيث نبّه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه السلام من العدم ، لأنه أبدع أنموذج طوي على سائر آحاد جنسه ، فكان إبداعه على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه إلى آخر الدوران ، ولما كان خلقه عليه السلام على هذا النمط المساوي إلى جميع ذريته أبدع من أن يكون مقصودا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه ، وأدلّ على عظيم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته ، وكان عدم زكريا حينئذ أظهر عنده ، وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشّر به لينسب الخلق المذكور إليه ، كما نسب الخلق المذكور إليه ، كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) الآية 10 من سورة الأعراف المارة توفية لمقام الامتنان في حقه ، وقرأ الكسائي وغيره خلقناك على التعظيم ، وإنما جوز هذه القراءة لما يقصد فيها من تعظيم العظيم ليس إلا ، وإلا فالقياس عدم جوازها لما فيها من تغيير التاء بالنون وزيادة الألف ، والشرط(2/140)
ج 2 ، ص : 141
في القراءات عدم الزيادة والنقص والتغيير كما أوضحناه في بحث القراءة في المقدمة وفي مواقع أخر ستمر عليك «قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» على حمل زوجتي بما بشرتني به «قالَ آيَتُكَ» على ذلك «أَلَّا» تستطيع ولا تقدر بحسب الطبع أن «تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا» 10 كاملات متتابعات ، وجاء في آل عمران (ثلاثة أيام) الآية 41 في ج 3 وعدم استطاعتك على تكليم الناس خلال هذه المدة من غير بأس فيك كخرس أو مرض أو غيره حال كونك سوى الخلق سليم الجوارح.
روى عن أبي زيد أنه لما حملت زوجته عليه السلام أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا مع أنه يقرأ التوراة ، حتى إنه إذا أراد مناداة أحد لم يطق.
مطلب ذكر الليالي دون الأيام :
وكلمة سويا تفيد معنى آخر وهو ما ذكرناه من أن الليالي مع أيامها كاملات والعرب تتجوز أي تكتفي بذكر أحدهما عن الآخر ولهذا جاء هنا ليالي وفي آل عمران أيام ، والنكتة في ذكر الليالي هنا والأيام هناك ، أن هذه السورة مكّيّة سابقة النزول ، وتلك مدنية متأخرة النزول ، والليالي عندهم سابقات الأيام لأن شهورهم وسنيهم قمرية تعرف بالأهلّة ، ولذلك اعتبروها بالتاريخ.
وقال تعالى (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) الآية 60 من سورة يس المارة ، فأعطى السابق للسابق ، لأن هذه الآية تفيد أن الليل لا يسبق النهار من جهة لحوقه به وعدم إدراك أحدهما الآخر ، إذ يقول في صدر الآية (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) فلا حجة في الآية على نفي ذلك ، لأنه متعارف مشهور حتى إنك تقول ليلة كذا ولا تقول نهار كذا ، وتريد فيه الليل الذي يليه بخلاف ذلك.
والليالي جمع ليل على غير قياس كأهل وأهالي ، أو جمع ليلاة وتجمع على لياليل.
قال تعالى «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ» موضع خلوته وتعبده «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ» أشار إليهم بأصابعه لعدم قدرته على تكليمهم وقيل كتب لهم ذلك إذا(2/141)
ج 2 ، ص : 142
يطلق الوحي على الكتابة عند العرب قال عنترة :
كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطميس
وقد فسر ما أشار به إليهم بقوله «أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» 11 أي نزهوا ربكم عما هو من شأن كافة الحوادث صباح مساء ، ففعلوا ، قالوا فكان الحمل وكانت الولادة عند تمام مدتها ، وقال تعالى مخاطبا لذلك المولود المبارك عند ولادته «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ» التوراة ، لأنه لم ينزل بعد موسى كتاب فيه أحكام غيرها ، أما الزبور الذي أنزل على داود فيه أذكار وأمثال ، وأما الإنجيل فلم ينزل بعد حيث أنزل على ابن خالته عيسى عليه السلام الذي بعده بستة أشهر ، أي خذه أخذا «بِقُوَّةٍ» جد وحزم وعزم ، واجتهد أن تعمل به وتأمر قومك بالعمل به ، قال تعالى «وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» 12 أي النبوة التي لم تعط لمثله قبله قط ولا بعده إلا لعيسى عليه السلام ، لانها مبنية على خرق العادة ، وللّه أن يعطيها من يشاء من خلّص من عباده بمحض الفضل ، فإذا ثبت هذا وهو ثابت محقق فلا يمنع صيرورة الصبي نبيا لان نبوته على صغره أمر خارق للعادة أيضا ولا شك أن اللّه تعالى أحكم عقله وأهله لوحيه.
روى عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في ذلك إنه أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين.
وجاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أنه قال قال العلمان ليحيى بن زكريا عليهما السلام اذهب بنا نلعب ، فقال ا للّعب خلقنا ؟ اذهبوا نصلي فهو قوله تعالى (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وأكثر المفسرين على أن الحكم الذي أعطاه اللّه إياه هو النبوة ، وما ذكر أنه الفهم بسبب قراءته التوراة وهو صغير مستدلا يقول بعض السلف : من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فقد أوتي الحكم ، ليس بشيء.
قال تعالى «وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا» أعطيناه أيضا رحمة ورأفة وشفقة على أبويه وغيرهما ، لأنه نبي مرسل وهذه الصفات من مقتضيات النبوّة.
قال الحطيئة يخاطب عمر رضي اللّه عنه
تحنن عليّ هداك المليك فإن لكل مقام مقالا
أي ترحم.
ويطلق الحنان على اللّه جل شأنه ، ولا وجه لمن منع إطلاقه عليه(2/142)
ج 2 ، ص : 143
لوروده في بعض أدعيته صلى اللّه عليه وسلم حتى عده بعضهم في الأسماء الحسنى ، ولكنه بالتشديد ليس بالتخفيف كما هنا ليدل على التكثير وبعضهم لم يعده قال المنذر بن درهم الكلبي
وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف
تقول حنان ما أتى بك هاهنا أذو نسب ، أم أنت بالحي عارف
وقال طرفة :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
فكل هذا مما يؤيد أن الحنان بالتخفيف بمعنى الرحمة ، وقيل مأخوذ في الأصل من حنّ بالتشديد بمعنى اشتاق وارتاح «وَزَكاةً» أعطيناه أيضا طهارة من مقارفة الذنوب ومقاربة العيوب ، وقيل بركة ، أي جعلناه نفاعا مباركا معلما للخير.
وجاء في الإنجيل ما لفظه مبارك من الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب.
وفيه يقول السيد عيسى عليه السلام لم يقم أحد من بين المولودين أعظم من يوحنّا المعمدان.
ويحيى عليه السلام المعمدان لأنه كان يعمد الذين يسلمون على يده وأولادهم بأن يأمرهم بالاغتسال.
وهو عمّد أي غسل السيد عيسى عليهما السلام.
والتعميد بمعنى التغسيل لعة متعارفة عند النصارى «وَكانَ تَقِيًّا» 13 مطيعا مخلصا متجنبا كل ما يلهي عن اللّه ، وهذه الصفات التي أخبر اللّه بها تؤيد تشريفه بالنبوة حال صباه ، لانه لا يتحلى بها إلا الكاملون «وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ»
لأنه علم بتعليم اللّه إياه أن لا عبادة بعد تعظيم اللّه تعالى أعظم من برّ الوالدين.
قال تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الآية 21 من سورة الإسراء الآتية ، ثم نفى اللّه عنه ما قاله بعض قومه أنه خرج على غير طريقهم تجبرا عليهم وعصيانا لهم ، فقال جل قوله «وَلَمْ يَكُنْ»
ممن تحلى بهذه الصفات الحميدة الجليلة «جَبَّاراً عَصِيًّا»
14 بل كان متواضعا لين الجانب سهل المأخذ يسر المخاطبة كثير الطاعة لوالديه ، لأن نفي الصنفين الكائنين بلفظ المبالغة يثبت عكسهما له عليه السلام بلفظ المبالغة أيضا «وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا»
15 وهذا كله باق دائم له من جانب ربه في أحواله(2/143)
ج 2 ، ص : 144
الثلاث المهمة ، أي أنه لم ينله الشيطان يوم ولادته ، وإنه يحميه من فتاني القبر إذا مات ، ومن الفزع الأكبر والعذاب حين ينشر من قبره ، وهذه المواطن الثلاث أوحش ما يلاقيه الإنسان ، يوم يولد يرى نفسه خارجا مكرها من مقره فيسقط باكيا ، ويوم الموت يرى من الأشباح والآلام ما ترتعد له الفرائص وترتج لهوله القلوب ، ويوم البعث يرى مشهدا لا يوصف ما فيه من الشدة والكرب ، راجع تفسير الآية الأولى من سورة الحج في ج 3 ، وهذه البشارة الواردة في القرآن العظيم خصّت به وبالسيد عيسى عليهما السلام ، ولا أعظم منها بشارة «وَاذْكُرْ»
يا محمد لقومك وغيرهم قصة مريم بعد قصة يحيى العجيبتين «فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ»
بنت عمران التي قصتها أعجب من قصة ابن أختها يحيى «إِذِ انْتَبَذَتْ»
اعتزلت وتنحت ، وأصل النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به ، أي أنها لم تبال بنفسها حيث انفردت وتباعدت «مِنْ أَهْلِها»
ومن الناس أجمع «مَكاناً شَرْقِيًّا»
16 من دار أهلها وقريتها لتغتسل وتتخلى للعبادة ، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض ، ويؤيد هذا القيل معنى قوله تعالى «فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً»
ساترا لها لئلا يراها أحد حين اغتسالها على القول بأن ابتعادها لهذه الغاية ، أو حائطا أو جبلا على القول بأن اعتزالها كان لمحض العبادة ، ولكن لفظ الاتخاذ يؤيد الأول ويؤكده قوله تعالى «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا»
جبريل عليه السلام ، وإنما سمي روحا لأن الدين يوحى به ، لأنه واسطة الوحي وتبليغه للرسل ، والإضافة للتشريف ، أو لأنه محبوب اللّه ومقربه وأمين وحيه ، كما تقول لحبيبك أنت روحي لفرط محبتك له ، وقرىء روحنا بفتح الراء ، وإنما سمي به لانه سبب الروح للعبادة ، ولأنه من جملة المقرّبين الموعودين بالروح في قوله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) الآية 40 من سورة الواقعة الآتية ، وقرىء روحنّا بتشديد النون اسم ملك ، وليست بشيء ، ولا وجه لمن قال إن المراد بروحنا عيسى عليه السلام محتجا بقوله تعالى (وَرُوحٌ مِنْهُ) الآية 170 من سورة النساء في ج 3 ، لأنه لم يكن بعد فكيف يرسله ، وينافيه قوله تعالى «فَتَمَثَّلَ لَها»
ذلك الملك(2/144)
ج 2 ، ص : 145
المسمى بالروح فكيف يتصور أنه عيسى ولم يخلق بعد ؟ وما قيل إن ضمير تمثل يعود إلى ملك غير مذكور يأباه سياق النظم الكريم ، فكان عليه السلام حينما تمثل لها «بَشَراً سَوِيًّا»
17 كامل الخلق لئلا تنفر منه ولتستأنس بكلامه ، لأنه لو جاءها بصورته الحقيقة لما استطاعت النظر إليه لما أعطاه اللّه من بداعة الخلق والهيبة والصفة العجيبة - راجع تفسير الآية 21 من سورة التكوير المارة - وما قيل إنه تمثل لها بصورة البشر لتهيج شهوتها قيل خاطئ تتنزه عنه السيدة مريم ويكذبه قولها حين رأته أقبل عليها وهو «قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا»
18 تخاف اللّه فتباعد عني ولا تقربني ، فهذا شاهد عدل على أنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما البتة ، وقولها هذا غاية في كمال عفتها ونزاهتها عليها السلام ، مع أنه إذ ذاك كان غير محذور اختلاط النساء بالرجال ومكالمتهم فلا مانع ولا شبهة فيه ، ولم يحرم النظر على الأجنبية إلا زمن عيسى عليه السلام ، كما جاء في الاصحاح 5 من إنجيل متى ، وسنبينه في تفسير الآية
29 من سورة النور في ج 3 إن شاء اللّه.
أما الحجاب فلا ذكر له قبل عهد المصطفى محمد صلى اللّه عليه وسلم ديانة وإن كان يستعمله أكابر الناس قبلا كما سنبينه في تفسير الآية 58 من سورة الأحزاب في ج 3 أيضا إن شاء اللّه بصورة كافية شافية.
وما قيل إن (تقيا) اسم رجل شقي معروف عندهم في ذلك الزمن أو رجل صالح كيوسف النجار فغير صحيح ، وهو من مخترعات القصاص وأخبار الأخباريين وأكاذيبهم ، لأن الأول لا يجرؤ على الوصول لبنات الأنبياء والأعاظم كمريم عليها السلام ، والثاني مشهور بالعفة يمنعه دينه من الوصول إليها وغيرها.
فأجابها جبريل عليه السلام «قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ»
ليس ممن يتوقع منه الشرّ الذي توهمينه حتى تستجيري بربك مني لأني رسول الذي استجرت به واستعذت أمرني أن آتيك «لِأَهَبَ لَكِ»
بإذنه تعالى الذي أرسلني إليك ، إذ أمرني أن أنفخ في جيبك ليكون هذا النفخ سببا في حصول الولد الذي سيكون «غُلاماً زَكِيًّا»
19 طاهرا نقيا فطنا.
وأسند ضمير أهب لنفسه ، لأن اللّه أرسله بذلك ، وفعل الرسول ينسب إلى المرسل «قالَتْ» متعجبة مما سمعته «أَنَّى(2/145)
ج 2 ، ص : 146
يَكُونُ لِي غُلامٌ»
كيف يتصور ذلك «وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» 20 لأن الولد لا يكون إلا بنكاح أو سفاح ، وكلاهما لم يكن ، وهذا استفهام تعجب.
وهناك أي استفهام زكريا المار في الآية 8 استفهام استطلاع عن الكيفية والتذاذ بسماع الجواب السّار
«قالَ كَذلِكِ» إن الأمر كما ذكرت لك ، ولا أعلم غير ما أمرت به.
ولكن «قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» وإن كان مستحيلا عادة إتيان الولد من غير مس ، لأن اللّه تعالى يأتي بالمستحيل من غير حاجة إلى الأسباب ألا تعلمين أنه خلق آدم من لا شيء وخلق حواء منه ، فالذي يخلق من غير أم وأب ومن غير أم ألا يقدر أن يخلق من غير أب وهو الفعال لما يريد ؟ بلى يسهل عليه ذلك ، ثم قال لها وإن ربك قال «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ» كما جعلنا آدم وحواء قبله آيتين للخلق في زمنهما من الملائكة والجنّ ، كذلك نجعل الولد الذي سيكون منك آية لهم دالة على قدرة ربك البالغة «وَرَحْمَةً مِنَّا» لمن يؤمن به ويتبعه «وَكانَ» ابنك هذا مكتوبا في أزل ربك بأنه يكون من هذه النفخة بأمره «أَمْراً مَقْضِيًّا» 21 محكما مبرما لا يبدل ولا يرد.
فلما سمعت هذا وعرفته أنه من اللّه سكتت ، فتقدم جبريل عليه السلام وأخذ درعها من الأرض ورفعه فنفخ فيه وأعطاه إياها ، فلبسته بعد أن اطمأنت إليه «فَحَمَلَتْهُ» أحست بحمله حالا ، ولما بدأ حملها خافت أن يعرف الناس ذلك وهي مشهورة بالعفّة والطهارة ومن بيتهما ، وعرفت أنها إذا قالت من اللّه بواسطة الملك لا يصدقونها ، فصمّمت على الخروج من القرية لترى ما يرى اللّه لها «فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا» 22 بعيدا عن قربتها وأهلها لئلا يعيروها ، والباء في (به) للمصاحبة والملابسة لأنه في بطنها كقوله تعالى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) الآية 22 من سورة المؤمنين في ج 2 ، وعليه قول المتنبي في وصف الخيل :
فمرت غير ناظرة عليهم تدوس الجماجم والرؤوسا
أي اعتزلتهم «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ» الجأها أو فاجأها وجع الولادة المسمى طلقا بعرفتا «إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» الكائن في بيت لحم في فلسطين وهو يبعد(2/146)
ج 2 ، ص : 147
عن قريتها الناصرة بأربعة مراحل تقريبا ، ولذلك وصفته بالبعد في الآية لانه في ذلك الزمن يعد بعدا بعيدا ، وكان الجذع بالبرية على مستوى من أرض بيت لحم يابسا ، فاستندت إليه وتمسكت به عند شدة الطلق ، ولما رأت وحدتها وما حل بها وتفكرت بما سيصمها به قومها «قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» الأمر الذي حل بي الذي سيصيبني منه ما يصيبني «وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا» 23 لم أذكر ولم أولد ، فولدته عند ذلك ، وقد سمع كلامها «فَناداها مِنْ تَحْتِها» قائلا لها يا أماه «لا تَحْزَنِي» على وحدتك وما سيتفوه به الناس فيك ، وافرحي «قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» 24 عبدا شريفا رفيعا سيدا كريما ، ومن تأت بمثل هذا ينبغي لها أن تفرح لا أن تحزن.
وقال بعض المفسرين إن (سريا) جدول ماء جار هناك بمحل الولادة ، ومعنى لا تحزني على الطعام والشراب معتدلا بالآية 25 الآتية وهو بغير محله ، ولا طائل تحته ، إذ يبعد على مثلها أن تحزن على الطعام والشراب.
وأما الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه عن البراء من أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن السريّ ، فقال هو الجدول ، وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه ، فلم يصح ، وإذ لم يصح لا يتخذ حجة لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أفقده الاستدلال وأسقط حجيته ، وإن اطلاق السريّ على جدول الماء الجاري من حيث اللغة صحيح معروف ، وجاء في قول لبيد :
فتوسطا عرض السريّ فصدعا مسجودة متجاوزا قلامها
يصف عيرا وأتانا.
وأنشد ابن عباس :
سهل الخليقة ماجد ذو نائل مثل السري تمده الأنهار
إلا أنه غير مراد هنا وأراه غير موافق للواقع أيضا ، إذ لا يوجد هناك في بيت لحم نهر جار البتة لا في محل الولادة ولا في غيرها ، بل يوجد آبار ولعلها كانت قريبة التناول ، وكانت عينّا معينا.
أما ما جاء في الآية 50 من سورة المؤمنين في ج 2 وهي قوله تعالى (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) فهو غير مراد هنا بل هو في محل هجرة عيسى عليه السلام مع أمه كما سيأتي توضيحه هناك ، (2/147)
ج 2 ، ص : 148
حتى إن محل الولادة لا يوجد فيه ربوة وإنها الآن ينزل إليها بدرج تحت الأرض وقد شاهدته بعيني سنة 1935 في شهر مايس عند زيارتي للقدس الشريف والخليل ، وذلك المحل المبارك.
وعلى هذا واللّه أعلم أنه لم يرد ذلك المعنى بالسريّ ، وإنما معناه ما ذكرناه وهو الموافق للسياق والسباق.
وإن استعمال السريّ بمعنى السيد الكريم هو من فصيح الكلام كما أن عود الضمير في ناداها إلى السيد عيسى كما جرينا عليه أوفق وأنسب للمعنى من قول إنه يعود إلى جبريل ، لأن نطقه حال ولادته من معجزاته التي جاوبها ، وعلى هذا جهابذة المفسرين كالحسن وابن زيد وأبي حيان والجبائي ومجاهد ووهب وابن جبير وابن جرير ، ونقله الطبرسي عن الحسن يؤيده قراءة الأبوين والابنين عاصم والجحدري «من» بفتح الميم أي الذي تحتها ، وروى أن الحسن وابن عباس قرأ كذلك ، وفي الأسئلة النجمية كذلك أيضا ، ومن قال على هذه القراءة يراد به جبريل لأنه كان تحت الرّبوة التي ولدت عليها لا دليل له على ذلك ، ولا يساعده نظم التنزيل وظاهره ولا يعدل عن الظاهر إلا لأمر قسريّ ، ولا يوجد ، وأضعف من هذا قولهم إنه كان عليه السلام تحتها يتلقى الولد ، وهذا مما لا يليق بجنابه وأمانته على وحي ربه ، وعفتها وطهارتها ، ومما يتأدب عنه وعن القول به كل تقي ، هذا ، واختلف في سنّها عند الحمل وفي مدة الحمل وزمنه أيضا على أقوال ، فقيل إن سنها كان يتراوح بين العشر سنين وخمس عشرة ومدة حملها ما بين ساعة وتسعة أشهر ، والمشهور أنها ثمانية ، لهذا قالوا لم يعش مولود على رأس الثمانية أشهر غير عيسى عليه السلام ، وذلك أن جملة المنجمين يزعمون أن النطفة تقبل البرودة في الشهر الأول من زحل فتجمد ، وتقبل القوة النامية في الثاني من المشتري فتأخذ في النمو ، وتقبل في الثالث القوة الغضبية من المريخ ، وفي الرابع قوة الحياة من الشمس ، وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة ، وفي السادس قوة
النطق من عطارد ، وفي السابع قوة الحركة من القمر ، فتتم خلقة الجنين ، فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل ، فإن ولد في التاسع عاش ، لأنه قبل قوة الحياة من المشتري ، وذلك من الخرافات لأن هذه المكونات لا تأثير لها إلا(2/148)
ج 2 ، ص : 149
بإرادة اللّه تعالى ، فمن قال هذا قبل قوله كقولهم إن الثمار تنضج بتأثير الشمس ، وألوانها تكون بتأثير القمر ، وأطعمتها تكون بتأثير النجوم.
أما من نسب ذلك لها بقوة جعلها اللّه فيها وإرادته لذلك فلا بأس بقوله ، لأن اللّه تعالى يضع ما يريده من قوى فيما يريده من مخلوقاته الجامدة والحساسة ، كما يضع قوة الذبح في الموسى عند إرادة الذبح ، وكما يخلق قوة الشبع والرّي عند الأكل والشرب ، يفعل ما يشاء ويختار.
ومن أسند هذه القوى لنفس النجوم فقوله مردود عليه ويخاف عليه من سلب الإيمان والعياذ باللّه ، وقد صرفنا النظر عن الأقوال الواردة في سن مريم ومدة حملها ، إذ لا طائل تحتها ، وأحسنها القول بأن سنها كان خمس عشرة سنه ، ومدة الحمل تسعة أشهر ، لأن القول بأن حملها وولادتها في ساعة واحدة يأباه نظم القرآن ، إذ لو كان كذلك لما ذهبت من الناصرة إلى بيت لحم ، بل وضعته حالا في مكانها ، وهذا كاف لردّ هذا القول.
وأما زمن الولادة فهو وقت الزوال على ما جاء في أحسن الأقوال ، وما قيل إنه في منتصف الليل لم يثبت ولعلها أحست بالطلق في منتصف الليل وولدته وقت الزوال.
ثم قال لها عيسى عليه السلام «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا» 25 ناضجا حان قطافه ، وهذه معجزة لسيدنا عيسى عليه السلام إرهاصا لنبوته أو كرامة لأمه
لا معجزة لفقد شرطيها وهو النبوة والتحدي ، ووجه كونها كرامة أو إرهاصا لسيدنا عيسى أو كرامة لأمّه عليها السلام لأنها كانت يابسة والولادة كانت في موسم الشتاء (25 كانون الأول سنة 4004) من ولادة آدم كما قيل ، والشتاء ليس بموسم لقطف الثمر ، وفيها إشارة إلى ما يؤول إليه حاله بأنه عليه السلام (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) كما وصفت النخلة لأنه ولد في الأرض ورفع إلى السماء وأنه سيحيي الموتى بإذن اللّه كما أحييت النخلة الميتة ، وفي الأمر بالهزّ دليل على وجوب السعي لتحصيل الرزق وإلا فالذي أحيا النخلة قادر على إسقاط ثمرها دون هزّ ، وما أحسن ما قيل في هذا : (2/149)
ج 2 ، ص : 150
ألم تر أن اللّه أوحى لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه إليها ولكن كل شيء له سبب
«فَكُلِي» من هذا الثمر «وَاشْرَبِي» من الماء الموجود هناك وهذا ما حدا ببعض المفسرين على تفسير السريّ بالنهر كما أشرنا إليه آنفا «وَقَرِّي عَيْناً» طيبي نفسا ، والعرب تكنى بقرة العين أي بردها عند السرور والفرح وسخنها عند الغم والحزن ، راجع تفسير الآية 74 من سورة الفرقان المارة تجد هذا مفصلا بما يكفيك عن مراجعة غيره ، هذا وعلى ما جرينا عليه يكون المعنى إجمالا :
لا تحزنى وافرحي بولدك لأنك جئت بما يرضيك ، واتركي الحزن فإن اللّه قد أظهر لك ما يبرىء ساحنك مما كنت تتوهمينه قالا وحالا.
يؤيد هذا ما روي عن ابن زيد قال قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني ، فقالت كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة ، فأي شيء عذري عند الناس ؟ ليتني متّ قبل هذا ، فقال لها عليه السلام أنا أكفيك الكلام ، قال تعالى (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) عند ذهابك لأهلك وقريتك وأراد أحدا أن يتكلم معك في هذا الشأن «فَقُولِي» لهم «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً» عن الكلام لدلالة المقام عليه ، وكان صوم الصمت عن الكلام عندهم معروفا ومن جملة العبادات لدى الإسرائيليين ، وهو حتى الآن كذلك ، وإنما أمرها بالصمت ليتكلم هو عنها ولئلا تجادل السفهاء بنفسها لأنها مهما قالت لهم لا يصدقوها ، لأنه أمر لم يقع وهو فوق العقل ، فكان سكوتها واجبا لحفظ كرامتها.
ثم فسر الصوم بقوله قولي «فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» 26 وإنما أناجي ربي وأكلم الملك وابني هذا ، أي قولي لهم هذا الكلام واسكتي.
فطاب خاطرها وعلمت حجة قول ابنها ، لأن تكليمه إياها فوق العقل أيضا ، وإذ حصل لها اطمئنان بما سمعت من ابنها ، عنّ لها أن ترجع إلى قريتها قال تعالى «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ» إلى بلدتها النّاصرة ، فلما رأوها حزنوا لما يعلمون من صلاحها وطهارتها وأصلها ، لأنها من قوم صالحين ، وكان رجوعها إليهم حال كونها حاملة ولدها ، قالوا وكان رجوعها(2/150)
ج 2 ، ص : 151
إليهم بعد الولادة بأربعين يوما لا من غيابها لأنها تركت قريتها الناصرة بعد أن ظهر حملها وذهبت إلى بيت لحم خوفا من كلام السفهاء إلى محل لا يرونها لبعده إذ ذاك ، لأنه لا يوجد وسيلة للنقل وركوب الإبل وغيرها من الحيوان ، وبقيت هناك حتى ولدت وانقضت مدة نفاسها على أصح الأقوال المعول عليها «قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» 27 منكرا عظيما وأمرا بديعا تحتجين به ، مع ما أنت عليه من الصلاح وكريم المحتد «يا أُخْتَ هارُونَ» يا شبيهته في العفة والتقوى والورع والصلاح وطيب العنصر ، لا في النسب لأنها من نسل داود واسمها مريم واسم أبيها عمران ، وهرون أخو موسى اسم أخته مريم أيضا ، وأبوه عمران وهو من بيت الصلاح ، فمن هنا جاءت النسبة ، والعرب تقول أخو تميم وأخو تغلب لرجل منهم ، روى مسلم عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت خراسان سألوني فقالوا لي إنكم تقرءون يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ فلما قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سألته عن ذلك فقال إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم ، ولذلك شبهوها به.
وما قيل إن هرون آخر كان في بني إسرائيل فاسقا فشبهوها به قول باطل ينافيه سياق الكلام ومبناه لا مستند له ولا مناسبة ، ومن تتمة خطابهم لها ما ذكره اللّه عز ذكره «ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ» شقيا ولا زانيا «وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» 28 بل كانا عفيفين طاهرين منزهين ، وكان اسم أمها حنّة ، مشهورة بالطهارة ومن بيت العفة ، والأجدر أن يتبع الفرع أصله ، فلما ذا جئت على خلاف ضئضئك ومن أين أتاك هذا الولد ؟ وهنا انتهى كلامهم لها فكان جوابها لهم ما ذكره اللّه عز ذكره «فَأَشارَتْ إِلَيْهِ» بأن كلموه هو وأشارت إلى عيسى ليكلمهم فظنوا أنها تهزأ بهم وتسخر عليهم فغضبوا وخاطبوها بعنف «قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» 29 ولم تجر العادة أن يكلم مثله أو يتكلم ، ولا يرد على هذا أن كل إنسان كان في المهد صبيا ثم كبر وتكلم ، لأنه كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح للقريب والبعيد ، وهو(2/151)
ج 2 ، ص : 152
هنا للقريب خاصة ، لأن الكلام مسوق للتعجب ، وكلام الكبير الذي كان في المهد قبل سنين لا يتعجب منه ، فهو إيراد تافه ، كما أن القول بأن كان زائدة واه إذ لا زائد في القرآن ، وهي هنا تامة.
ولما سمع كلامهم مع أمه التفت إليهم عليه السلام وقطع رضاعه وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته على ما قالوا فقال لهم «قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ» الإنجيل لأنذركم به «وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» 30 حال صباي وإن معجزتي كلامي معكم وأنا طفل.
قال الحسن كان في المهد صبيا وكلامه معجزة له.
وقال أكثر المفسرين إنه أتي الإنجيل وهو صغير ، وكان يعقل عقل الكمل وعبر بالماضي عن المستقبل ، إما باعتبار ما سبق في أزله تعالى أو باعتبار المحقق وقوعه كالواقع.
وقيل معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا ، وهو إخبار عما كتب له في اللوح.
كما قبل لحضرة الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم متى كنت نبيا قال : كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه.
وروي عن الحسن أنه ألهم التوراة وهو في بطن أمه ، وهما كما ترى.
وبعد أن أخبر اللّه بأنه أعطاه الكتاب فلا حاجة للجنوح إلى ما جاء في الحديثين بل علينا أن نعتقد أنه كما ولد بأمر اللّه من غير أب وأنطقه وهو طفل أعطاه الكتاب وعلمه إياه بإلهام منه وهو طفل أيضا.
ومن عرف اللّه بأنه الفعال لما يريد القادر على كل شيء لا يحتاج إلى التأويل والتفسير ، وعلى العاقل أن يصدق بكل ما جاء من عنده ، وهذا طريق السلام ،
قال عليه السلام «وَجَعَلَنِي مُبارَكاً» نفاعا قاضيا للحوائج آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، أبرىء الأكمه والأبرص وأشفي المرضى بإذن اللّه وهذا هو المبارك ولا أعظم بركة من هذه البركة التي شرفه اللّه بها ، فالإله الذي يعطيه ذلك ويعطيه إحياء الموتى أيضا وخلق الطير أفلا يعطيه الإنجيل ويحفظه إياه ؟
بلى وهو على كل شيء قدير «أَيْنَ ما كُنْتُ» ليس في أرضكم وبلدكم هذه فقط بل في كل مكان حللت فيه وزمان وجدت فيه أكون هكذا معلما للخير مباركا نفاعا «وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» 31 في الدنيا لأن الآخرة(2/152)
ج 2 ، ص : 153
لا عبادة فيها ، والصلاة والزكاة عبادة تنقطع بالموت ، لذلك جعل نهايتها الحياة وهذان الفرضان تعبّد اللّه بهما كل أنبيائه وأممهم وكذلك الصوم والقصاص إلا أنها كانت مفرقة على الأنبياء على غير هذه الصفة والقدر المبين في شريعتنا ، لأن نبينا صلى اللّه عليه وسلم جاء بشريعة جامعة لما تشتت من شرائع الأنبياء قبله ، ولم تجمع الصلوات الخمس إلا له ولأمته ، فالصلاة والزكاة من حيث الأصل فرضت على جميع الأنبياء وأممهم كما يفهم من الآية 183 من سورة البقرة في ج 3 ، ولكن تختلف في الكيفية والكمية عما فرض علينا «وَبَرًّا بِوالِدَتِي» أوقرها وأكرمها وأعظمها على سائر الناس ، وفي تخصيص برّه بوالدته اشعار صريح بأنه لا والد له وإيذان ببراعتها مما رموها به ، وإشارة بطهارتها وعفافها ، ولهذا استحقت البر منه «وَلَمْ يَجْعَلْنِي» ربي الذي منّ علي بما ذكرته لكم «جَبَّاراً شَقِيًّا» 32 متكبرا عاقا عاصيا ، وفي قوله جبارا إعلام بنزاهة أمه أيضا مما وصمت به بسببه ، قال بعض العلماء لا تجد العلق أي ابن الزنا إلا جبارا.
ولهذا نفى عنه عليه السلام هذه الصفة الخبيثة «وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» 33 تقدم تفسير مثلها في الآية 15 المارة ، وقد أخبر بهذه الآية قومه بأنه عليه السلام آمن عند ربه في هذه المواطن الثلاثة التي قل من يأمن منها ، وفي بدء جوابه عليه السلام لقومه اعتراف على نفسه بالعبودية للّه ، كأنه نفت في روعه أن من الناس من يتخذه إلها فنبّه قومه مقدما بأنه عبد اللّه من جملة عيده تبرأ مما سيقوله المتوغلون في حبه واعتذارا مقدما إلى ربه ليكون حجة له عنده وحجة على الذين يتخذونه إلها فمن قومه من قنع وصدق ، ومنهم من استعظم وكذب ، ونشأ صلى اللّه عليه وسلم على أكمل الأوصاف في غاية من التواضع ونهاية في الأدب يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ولم يتخذ مسكنا له ويتصدر لقومه ويقول سلوني عن أموركم فإني لين القلب صغير النفس ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 45 فما بعدها من آل عمران في ج 3 ، قال تعالى «ذلِكَ» الذي خلقناه من روحنا على الوجه المار ذكره والذي وصف نفسه بتلك الصفات هو «عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» نبيّنا(2/153)
ج 2 ، ص : 154
ورسولنا وعبدنا لا إله ولا جزء من الإله ولا شريك معه ، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
أقول لكم هذا أيها الناس «قَوْلَ الْحَقِّ» على قراءة النصب وهي الواردة في القرآن ، وعلى قراءة الرفع يكون المعنى ان هذا الذي قلته في عيسى عبدي هو قول الحق الصدق «الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» 34 يشكون ويختلفون فيقولون الأقاويل الكاذبة فيه وهو عبد اللّه ورسوله ولد من مريم بلا أب على الوجه المار ذكره والصفة المبينة ، لا مرية فيه أبدا ، وعليه فإن ما تقوله اليهود بأنه ساحر وما يرمونه به كذب محض ، وما تقوله النصارى من أنه ابن اللّه افتراء بحت ، وما يقوله الغير من وصم أمه الطاهرة الزّكية بهت ظاهر ، وقد بين اللّه كذبهم كلهم بما تقدّم من الآيات وما سيأتي في الآيات المبينة آنفا وغيرها ، وحققه بقوله جل قوله «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ» البتة لعدم الحاجة إليه وقد نزه نفسه عنه بسورة الإخلاص المارة وفي الآية الأخيرة من سورة الإسراء الآتية وغيرها «سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً» كهذا وغيره مهما كبر وعظم عند خلقه إذ لا يعظم عنده شيء «فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» 35 حالا لا محالة وهاتان الآيتان من ذلك إلى هنا من كلام الرب عز وجل جاءتا اعتراضا بين قوله على لسان عيسى قبلها وبين قوله :
«وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ» وحده لا تشركوا به شيئا.
مطلب وصية عيسى عليه السلام وما يقوله فيه قومه :
وفي قوله هذا وقول ربه المار ذكره ردّ صريح على من قال إنه إله أو ابن الإله «هذا» الذي أخبرتكم به أيها الناس من براءة أمي وتبرؤ مما سيقال في ، وإني عبد اللّه ورسوله وإن اللّه ربي وربكم ورب العالم أجمع لا شريك له ولا وزير ولا صاحبة ولا ولد «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 36 فاسلكوه وتمسكوا به لئلا تضلوا فتهلكوا لأنه الطريق السوي الموصل إلى الخير في الدنيا والآخرة ، فمن قال بعد هذا إن عيسى ابن اللّه أو إله أو ثالث ثلاثة أو شريك مع الإله أو إن أمه لم تحمل به على الصورة المذكورة ، فقد افترى على اللّه وعلى رسوله عيسى وعلى أمه مريم(2/154)
ج 2 ، ص : 155
وأبهتهم باختلاق أقوال كاذبة انتحلها من نفسه.
فمن أذعن وصدق فقد فاز ونجا ، ومن جادل وكذب فقد هلك وخسر.
قال تعالى «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ» بدل أن يتفقوا بعد هذا البيان الكافي في وصيته عليه السلام لهم ، وهذا الاختلاف حدث «مِنْ بَيْنِهِمْ» من بين قوم الموصي لهم بالاتفاق على وصيته على أقوال اتبع كل فرقة ما سوّلت لهم أنفسهم ، فقالت النسطورية هو ابن اللّه أظهره ثم رفعه ، وقالت اليعقوبية هو اللّه هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وقالت الملكانية هو عبد اللّه ونبيه.
ولهذا قال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) الآيات 19/ 75 و76 من المائدة والآية 170 من النساء في ج 3 وسيأتي تفسيرها فيها إن شاء ، إذ كان في عهد نزول القرآن من لا يقول هذا وإلا لما خصص هذين الأمرين ، ويوشك أن يكون الآن ممن لا يقول بهما ويعيب على من يقول بهما حتى الآن.
وقالت اليهود ليس بنبي إنما هو رجل تعلم السّحر ويزعم أنه ملك اليهود ، ولذلك صاروا فرقا وأحزابا كما ذكر اللّه «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» به وقالوا ما قالوا وماتوا على كفرهم «مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» 37 مهول مخوف وهو يوم الحساب والجزاء لأنهم لا يسمعون نصائح الرسل سماع قبول ، وستراهم يوم القيامة يا أكرم الرسل في ذلك الموقف أكثر سماعا من غيرهم وأحد نظرا «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ» هاتان كلمتان تعجب من جودة سمعهم وحدة بصرهم (واللّه تعالى لا يوصف بالتعجب) والمراد منه أن أبصارهم وأسماعهم «يَوْمَ يَأْتُونَنا» في الآخرة جدير بأن يتعجب منهما لما هم عليه إذ ذاك من قوة السمع والبصر بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الصمم عن سماع ذكرنا والعمى عن أبصار آياتنا «لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ» في هذه الدنيا مغرورون تائهون وخاصة بعض المسيحيين فيما يعتقدونه في عيسى عليه السلام ، فهم «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 38 خطأ ظاهر غدا في الآخرة بل وقبلها يوم ينزل من السماء كما سيأتي في الآية 60 من سورة الزخرف في ج 2 فيعترفون بالحق الذي أنكروه الآن ويندمون على ما وقع منهم.(2/155)
ج 2 ، ص : 156
مطلب يوم الحسرة وذبح الموت :
فعظهم يا أكمل الرسل «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ» ذلك يوم الخسران والندامة ، إذ يتحسر المسيء على ما وقع منه في الدنيا ويتحسر المؤمن على تقصيره فيها أيضا لما يرى من عظيم ثواب غيره.
روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ما من أحد يموت إلا يندم.
قالوا ما ندمه يا رسوله ؟ قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد ، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع - أخرجه الترمذي - وقال أكثر المفسرين إن يوم الحسرة يوم من أيام القيامة يذبح فيه الموت استنادا على ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح (مختلط سواده ببياضه والموت لا يذبح لأنه عرض والذبح للأجسام ، إلا أن اللّه تعالى يجسمه بصورة كبش فيذبح على مشهد الخلائق فيموت ولا يرجى له حياة ولا وجود ، وكذلك حال أهل الجنة وأهلّ النار لا زوال لهما ولا انتقاص) فينادي مناد : يا أهل الجنة! فيشرفون وينظرون ، فيقول هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، ثم ينادي مناد : يا أهل النار! فيشرفون وينظرون ، فيقول هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم هذا الموت ، وكلهم قد رآه.
فيذبح بين الجنة والنار ، ثم يقول : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت ، ثم قرأ : وأنذرهم يوم الحسرة «إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ» فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ» عما يراد بهم بالآخرة لشدة انهماكهم في الدنيا ، والواو في هذه الجملة وفي قوله جل قوله «وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» 39 للحال ، أي والحال أنهم لا يصدقون أن الأمر قد فرغ منه ، وأشار بيده إلى الدنيا.
زاد الترمذي فيه : فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة ، ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار.
لزيادة ما يرى الأول من النعيم والسرور ، والآخر من العذاب والحزن ، ويعلم كل منهم أنه خالد فيما صار إليه.
ورويا عن ابن عمر أيضا قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى(2/156)
ج 2 ، ص : 157
يجعل بين الجنة والنار ، فيذبح ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة لا موت ، ويا أهل النار لا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم.
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا يدخل الجنة أحد إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن فيكون عليه حسرة.
فعلى هذا قد ثبت أن يوم الحسرة هو يوم ذبح الموت على الوجه الذي بيناه ، إذ يتحسر فيه الظالمون على ما فرط منهم ، والمنقون على تفريطهم بعدم ازدياد العمل الصالح ، فما قيل إنه يوم يقال لهم (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) الآية 107 من سورة المؤمنين في ج 2 ، أو يوم يقال لهم (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 90 من سورة يس المارة ، أو يوم (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) الآية 91 من سورة الشعراء الآتية ، أو يوم يسدّ باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها ليس لها ما يؤيدها بمقابلة الأحاديث الصحيحة التي أوردناها أعلاه ، وذلك لأن قوله تعالى اخسئوا بعد دخول النار ، وقوله وامتازوا قبل دخولها ويوم تبرز الجحيم يكون بعد الامتياز ، ويوم طلوع الشمس من أيام الدنيا لا من أيام الآخرة ، والأمل بعد باق للعاصين ، أما يوم ذبح الموت فتنقطع فيه الآمال ، ولذلك سمي يوم الحسرة إذ لم يبق أمل لأهل النار بالخروج منها ، ولذلك يتحسرون الحسرة إثر الحسرة ، وليس بنافع ، أجارنا اللّه تعالى القائل «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها» في ذلك اليوم إذ لا يبقى ملك لملك ، بل يكون الملك كله للّه ، ويرجع الملوك الغاشمون أذلاء خاضعين إليه كآحاد الناس ، بل هم أدنى لما يعلمون ما كانوا عليه في الدنيا إلا من رحمه اللّه منهم «وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» 40 ملوكهم ومملوكوهم انسهم وجنهم وطيرهم وحيتانهم ، ومنهم قومك يا محمد ، فيجازى كل بعمله.
وقرىء ترجعون بالتاء على الخطاب والأول أولى بنسق الآية ،
قال تعالى «وَاذْكُرْ» لقومك يا سيد الرسل «فِي الْكِتابِ» المنزل عليك جدك وجد الأنبياء من قبلك «إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً» كثير الصدق ملازما له في أقواله وأفعاله لم يكذب(2/157)
ج 2 ، ص : 158
قط «نَبِيًّا» 41 مرسلا بدليل قوله بعد (قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) الآية الآتية ، ثم بين قصته مع أبيه فقال «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ»
آزر وكان من عبدة الأوثان «يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ»
نداءك إذا استغثت به «وَلا يُبْصِرُ»
شخصك حين تعبده فلا يقدر خضوعك إليه وخشوعك منه «وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً»
من الأشياء البتة «يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ» والمعرفة باللّه المستحق للعبادة الذي يجيب دعاء المضطرين ويرى خضوع الخاشعين ، يثيب الطائع ويعذّب العاصي.
واعلم يا أبت أن اللّه ربي وربك ورب الخلق أجمع أعطاني شيئا عظيما «ما لَمْ يَأْتِكَ» ولا غيرك شيء منه «فَاتَّبِعْنِي» واترك ما أنت عليه من عبادة الأوثان «أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا» 43 عدلا مستقيما يوصلك إلى النجاة ويخلّصك من الضلال المؤدي بك إلى مهاوي العطب «يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ» وتطيعه فيما يزين لك من زخارف الدنيا ويوسوس في قلبك الانقياد لعبادته ويحبذ لك ما أنت عليه «إِنَّ الشَّيْطانَ» الذي ديدنه الخبث «كانَ» ولم يزل من حين امتناعه من السجود لأبينا آدم صار «لِلرَّحْمنِ» الواجب طاعته على خلقه «عَصِيًّا 44» ومن يعصه أحق أن يعصى ويلعن لا أن يطاع ويعبد ، لأن طاعة العاصي عصيان والعاصي جدير بأن تسلب منه نعم ربه انتقاما منه «يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ» إن بقيت مصرّا على عصيانك إياه وعبادة غيره «فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا» 45 يلي أمرك ويتسلط عليك ، ومن ولي أمره الشيطان تبرأ اللّه منه ، ومن يتبرأ اللّه منه فمأواه جهنم.
هذا وقد تأدب عليه السلام مع أبيه غاية الأدب وسلك بخطابه طريق الاحترام ، واستعمل بدعوته ونصحه نهاية التعظيم ، وجامله مجاملة ما عليها من مزيد ، حتى إنه لم يسمه باسمه ولم يسمه بالجهل ، مع ما هو عليه من الكفر ، ولم يصف نفسه بالعلم مع ما هو عليه من النبوة ، هضما لنفسه وإكراما لأبيه ، واكتفى ببيان أن عنده من العلم ما ليس عند أبيه شيء منه ، لشدة تعلق قلبه بصلاح أبيه أداء لحق الأبوة ورفقا به خوفا عليه من اللّه ، وهذا نهاية ما يطلب من المرشد الحريص على هداية الناس المقدر(2/158)
ج 2 ، ص : 159
من مخاطبتهم باللين واللطف وعدم تغليظ القول ، وضرب الأمثال بهم ليقبل ويؤخذ به ، وإلا عاد عليه نصحه شرا ، وعلى غيره خسرا ، وكسب عداوتهم من مودتهم.
طلب الفرق بين نور الإيمان وظلمة الكفر في خطاب ابراهيم وجواب أبيه :
كأن قائلا يقول ماذا قال آزر لابنه عند سماعه هذه النصائح الواجبة القبول ؟
أصر على عناده ، وقابل ذلك الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة بقوله له أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ» استفهام انكار على نوع من التعجب ، أنف عن عبادتها وسماه باسمه احتقارا ولم يقابله بالمثل ، فيقول يا ولدي حنانا بل هدده بقوله مقسما بآلهته «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ» عما صدر منك «لَأَرْجُمَنَّكَ» بالحجارة حتى تموت وأقول لك من الآن اذهب عني «وَاهْجُرْنِي» لا تأت إلي ولا أراك واتركني على ما أنا عليه ولا تدعني إلى ما ذكرت هجرا «مَلِيًّا» 46 طويلا أبدا ، مأخوذ من الإملاء أي الإمداد ، وكذا الملاءة بتثليث الميم ومن هذا الملوان الليل والنهار ، يريد عدم تكليمه له مادام حيا ، ونصب الظرفية كما في قول المهلهل :
فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
فانظر يا رعاك اللّه إلى الكلام الصادر عن نور المعرفة ، وإلى الكلام الناشئ عن الكفر ، وتفكر في رقة الإيمان كيف تخاطب غلظة الكفر ، وقساوة الشرك كيف تقابل لين الإيمان ، وأنعم نظرك في جواب العارف بعد تهديده من ذلك وقد طرده طردا أبديا مع تهديده بالقتل «قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ» يا أبت هنا تعلم (الدّن ينضح بما فيه) وقول عيسى عليه السلام (كل ينفق ما عنده) السلام هنا والمباركة كالذي أشرنا إليه في تفسير الآية 63 من سورة الفرقان ، وبعد هذا كله لم يقطع أمله من إيمانه بسائق الرأفة عليه من عذاب اللّه امّا لحق التربية وجزاء لواجب الأبوّة فقال عليه السلام «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي»(2/159)
ج 2 ، ص : 160
عما وقع منك تجاهه لقاء نصحي ، وأسأله أن يرزقك الإيمان به وحده وترك الشرك الذي أنت عليه «إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» 47 بليغا بالبر والإكرام إذ أنقذني من ظلمة الكفر وهداني إلى نور الإيمان ، وجعلني نذيرا لعباده من عذابه ، وبشيرا لهم بثوابه وصيّرني بهم رءرفا رحيما وعودني أن يجيب دعائي بجزيل كرمه وأفضاله علي (يقال احتفى بالرجل إذا بالغ في إكرامه واعتنى به) راجع الآيتين 95 و187 من سورة الأعراف المارة ، ثم قال مجيبا لزجر أبيه وتحذيره من البقاء معه «وَأَعْتَزِلُكُمْ» على جهة التعظيم لأن المخاطب واحد ، وفيه إشارة إلى أنه لم يزل محافظا على أدبه معه مراعيا حقه وان ما صدر منه عليه لم يؤثر في قلبه الطاهر ، وهكذا الأنبياء العارفون لا يمنعهم من القيام بالإرشاد تعدي الناس عليهم «وَ» أعتزل أيضا «ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأنها أوثان لا تضر ولا تنفع «وَأَدْعُوا رَبِّي» وحده لأن يوفقي إلى مهاجر أجد فيه من يسمع نصحي ويجيب دعوتي ويؤمن بربي «عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي» خلقه إلى عبادته «شَقِيًّا» 48 خائبا ضائعا مخذولا ، بل موفقا واجدا أهلا لعبادته ، وفيه تعريض بأنهم يدعون غير اللّه وأنهم يشقون بذلك.
واعلم أن الدعاء هنا بمعنى العبادة بدليل الآية بعدها لأنها كالمفسّرة لها ، ويجوز أن يكون على ظاهره ، لأن الدعاء من العبادة ، والعبادة مشتملة على الدعاء ، وفي تصدير الكلام بما ذكر نهاية في إظهار التواضع ومراعاة لحسن الأدب ، وتنبيه على أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل من اللّه عز وجل لا بطريق الوجوب ، وأن العبرة بالخاتمة وهي من الأمور الغيبية المختصة بعالم الغيب ، ثم هاجر عليه السلام إلى الشام فإلى بيت المقدس ، قال تعالى «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» بعد أن سمع من أبيه ما سمع وأيس من إيمانه وقومه وخاف على نفسه من القتل «وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا» 49 وهذا من ألطاف اللّه بأنبيائه وعنايته بهم وعطفه على خلّص عباده وعطائه لهم ، إذ أنه عليه السلام هاجر إلى ربه طريدا فوفقه من هاجر إليه إلى زوجة صالحة ورزقه أولادا وجعلهم أنبياء مثله ، وأنعم عليهم بما(2/160)
ج 2 ، ص : 161
أنعم عليه ، وآنسه برفقتهم ، وعوّضه عن أبيه وقومه خيرا «وَوَهَبْنا لَهُمْ» ولولديه الكريمين «مِنْ رَحْمَتِنا» أموالا وأولاد «وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ» ثناء حسنا «عَلِيًّا» 50 رفيعا مشهورا في جميع الأديان مستمرا إلى أبد الدوران ، إذ ما من أمة إلا وتلهج بالثناء على ابراهيم وولده ، فانظر عطاء الله إلى أوليائه كيف يكون بغير قدر ولا حساب ، أللهم اجعلنا من أتباعهم.
ستأتي بقية قصته مع أبيه وقومه في الآية 51 فما بعدها من سورة الأنبياء في ج 2
وَاذْكُرْ» يا سيد الرسل لقومك «فِي الْكِتابِ» أيضا قصة «مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً» أخلصه اللّه واصطفاه بعد أن استخلفه.
هذا على فتح اللام ، وعلى كسرها أخلص عبادته للّه فلم يراء بها «وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا» 51 جمع له الوصفين الشريفين وكل رسول نبي ولا عكس «وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ» من ناحيته التي تلي يمين موسى إذ لا يمين للجبل ولا شمال بل يكون باعتبار من هو عليه «وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» 52 تقريب منزلة ومكانة حتى شرفناه بمناجاتنا وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» 53 إجابة لدعائه ، وكان كبر منه سنا إذ ولد قبل أمر فرعون بذبح الأولاد من بني إسرائيل ليؤازره يعاضده في امر دعوته لقومه
مطلب في انجاز الوعد وبحث بالوعيد :
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» مع أبيه بأن انقاد لذبحه ووعده أن يصبر على الذبح وبرّ بوعده تنفيذا لأمر اللّه الذي تبلغه على لسان أبيه - كما سيأتي في الآية 143 من سورة الصافات في ج 2 - قال مقاتل وعد الحسن رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه ، فأقام ثلاثة أيام حتى رجع إليه وقال الكلبي انتظره حولا.
وسأل بعضهم الشعبي عن مثل هذا فقال إن وعده نهارا فكل النهار ، وإن ليلا فكل الليل ، وان لوقت ينتظره لوقت صلاة أخرى بعدها.
واعلم أن الخلف بالوعد مذموم وفي الوعيد ممدوح ، وقد جاء في الحديث : من وعد لأحد على عمله ثوابا فهو منجز له ، ومن أوعد على عمله عقابا فهو بالخيار ، (2/161)
ج 2 ، ص : 162
والعرب لا تعد الخلف في الوعيد عيبا بل مكرمة وعطفا ، وتعد الخلف بالوعد مذمة ونقصانا ، قال قائلهم :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف ايعادي ومنجز موعدي
وقال آخر :
إذا وعد السراء أنجز وعده وإن أوعد الضراء فالعقل مانعه
ومن هنا يفهم أن وعد وأوعد بمعنى واحد إذا صرح بالموعود به ، وإلا فإن وعد للخير ، وأوعد للشر.
ويجوز خلف الوعيد على اللّه تعالى أيضا لأنه من محض الفضل ، قال يحيى بن معاذ : الوعد حق العباد على من ضمن لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم ، ومن أولى بالوفاء من اللّه وهو الآمر به ؟ والوعيد حق اللّه على العباد فإن شاء عفا وإن شاء وأخذ.
والعفو من أسمائه تعالى وقد حبّذه لخلقه وهو العفو الرحيم ، وأولى الأمرين العفو ، ويأبى كرمه إلا أحسنهما لخلقه اه من شرح العقد للجلال الدواني مع تصرف - «وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا» 54 مخبرا عن اللّه فيما يأمر وينهى ، وقد أرسله إلى جرهم قبيلة من عرب اليمن من قحطان بن عامر بن سائح كما سيأتي في الآية 134 من سورة البقرة في ج 3 ، وقحطان أبو قبائل اليمن كلها «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ» التي تزوجها من جرهم كما يأمر قبيلتها الذين نزلوا عليه في مكة وأباح لهم الشرب من زمزم التي أنبعها اللّه كرامة له وهو رضيع حين ضاق ذرع أمه مما لحقه من العطش بعد أن كبر وشرفه اللّه بالنبوة والرسالة «بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ» بمقتضى شريعته التي تلقاها عن أبيه ابراهيم من الصحف التي أنزلها اللّه عليه ، وبما أوحاه له من الشريعة أيضا «وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» 55 عنه وقرىء (مرضوّوا) فقلبت الواو ياء لتطرفها بعد الواو الساكنة ، فاجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء بالياء وقلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء.
مطلب أول من اخترع المهن وقصة إدريس عليه السلام :
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ» أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن خيتان بن شيث بن آدم عليهم السلام ، وبينه وبين نوح ألف سنة تقريبا ، وسمي(2/162)
ج 2 ، ص : 163
إدريسا لدراسة الصحف المنزلة على آدم فمن بعده ، وهو أول مرسل بعده ، وأول من خط بالقلم ولم تكن قبله كتابة ، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة ، وهو أول من خاط اللباس وكان الناس من قبله يرتدون جلود الحيوانات ويخللونها عليهم ، وأول من نظر في علم النجوم والحساب ، قال ابن الأثير في تاريخه : إن إدريس (أخنوخ) كان خوّاء ينظر بالنجوم وأطلعه اللّه على كون طوفان يعم الأرض ، فبنى الأهرامات في مصر ليتحصن فيها من يكون زمن هذا الطوفان ، قالوا وكان بناؤها بتخلية الهواء من حجر فقط بلا كلس ولا طين ولا غيره ، وهو أول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة ، وأول من قاتل بني قابيل ، لأن قابيل ابن آدم لما قتل أخاه هابيل خرج عن طاعة أبيه وانفرد بعصيانه وأخذ أخته وهاجر عنه ، فنشأ أولاده على المعصية ، فلما بعث اللّه إدريس وجعله خلفا لآدم غزاهم واسترقهم.
فادريس عليه السلام أول مؤسس لهذه المهن المارّة ، وأول من سن الجهاد واسترقاق المغلوبين ، وستأتي قصة قابيل معه في الآية 30 من سورة المائدة في ج 3 إن شاء اللّه «إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا» 56 تقدم تفسير مثله «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» 57 بتشريفه بالنبوة والرسالة وتقريبه من اللّه برفعه إلى السماء الرابعة.
روى أنس بن مالك بن صعصعة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج - متفق عليه - واختلف في حياته وموته ، واتفق الجمهور على أنه حي ، وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس ، وثنان في السماء إدريس وعيسى اه - من بحر العلوم - على أن الخضر مختلف في نبوته ، وأكثر العلماء على أنه ولي ، ولهذا البحث صلة تأتي في الآية 16 من سورة الكهف في ج 2 إن شاء اللّه تعالى.
وخلاصة قصته عليه السلام أنه حببّ إلى الملائكة لكثرة عبادته ، فقال لملك الموت أذقني الموت يهن علي ففعل بإذن اللّه ، ثم أحياه اللّه ، ثم قال لمالك خازن النار ، أدخلني النار أزدد رهبة من اللّه ، فأدخله فيها بإذن اللّه ، ثم أخرجه منها ، ثم قال إلى رضوان خازن الجنة أدخلني الجنة أزدد رغبة في عبادة اللّه ، فأدخله فيها بإذن اللّه ، ولما أراد أن يخرجه أبى فتلاحيا بينهما ، فبعث اللّه(2/163)
ج 2 ، ص : 164
ملكا ليتحاكما إليه ، فقال الملك بعد أن أخذ ادعاء المدعي رضوان ودفاع المدعى عليه إدريس لإدريس : لم لم تخرج بأمره بعد أن أدخلك بأمره وأنت تعترف بأنك استأذنته بالدخول وأنه أمرك بالخروج فلم تفعل ؟ قال لأن اللّه قضى على كل نفس بالموت بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية 36 من سورة الأنبياء في ج 2 وقد متّ ، وقضى على كل نفس بورود جهنم بقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) الآية 74 الآتية وقد وردتها ، وقضى على كل من دخل الجنة أن لا يخرج منها بقوله : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الآية 49 من سورة الحجر في ج 2 ، ولذلك فإني لا أخرج.
فأوحى اللّه إلى الملك بأمري دخل وبأمري لا يخرج.
وجاء هذا في حديث طويل أخرجه ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، واللّه أعلم بذلك ، ولا يقال إن هذه الآيات المحتج بها نزلت على محمد ولم تكن في زمنه ، لأن اللّه قادر على إلهامه إياها ، لأنها مدونة في لوحه ، وقد يجوز أنه أشار إليها في الصحف التي أنزلها عليه.
هذا ، وان الرفعة بالمكان كما جاء في هذه الآية لا تكون معنوية بل حسية ، وظاهرها لا يحتاج إلى التأويل فيكون ، واللّه أعلم ، أن سيدنا إدريس حي خالد في جنة ربه ، نسأل اللّه أن يدخلنا فيها ونراه إن شاء اللّه ، وهذه الآية المدنية من هذه السورة المتأخر نزولها عنها.
قال تعالى «أُولئِكَ» اشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة كلهم ، وما في هذه الكلمة من معنى البعد يؤيد أن نزولها كان متأخرا إذ كان بعد بضع سنين ، وفيها إشارة اخرى إلى علو منزلة المشار إليهم ولارتفاع شأنهم عنده «الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ» أي إدريس ونوح ومن تقدمه من الأنبياء ومن حملهم في سفينته وذريتهم ومنهم ابراهيم لأنه
من ولد سام بن نوح «وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ» اسحق وإسماعيل ويعقوب المعني بقوله «وَإِسْرائِيلَ» ومن ذرية موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى المار ذكرهم ، عليهم جميعا صلوات اللّه وسلامه ، لأنهم كما شرفوا بالنبوة شرفوا بالنسب الطاهر «وَ» هؤلاء المحترمون الأكارم «مِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا» من خلقنا إلى الإيمان بنا والدعوة لخلقنا لتوحيدنا(2/164)
ج 2 ، ص : 165
ورفض ما سوانا «إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ» المتضمنة الأمر لهم بالسجود لنا والخضوع لعظمتنا والخشوع لقدرتنا «خَرُّوا» سقطوا على وجوههم إلى الأرض «سُجَّداً» لإلهيّتنا وحدها «وَبُكِيًّا» 58 خوفا منا وطمعا برحمتنا.
وقيل في المعنى
ونبكي إن نأوا شوقا إليهم ونبكي إن دنوا خوف الفراق
مطلب في السجود وما يقول فيه وكلمة خلف :
وهذه السجدة من عظائم السجود أيضا ، أخرج ابن ابي الدنيا في (البكاء) وابن جرير وابن ابي حاتم والبيهقي في (الشعب) عن عمر رضي اللّه عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال : هذا السجود فأين البكاء ؟ وأخرج ابن ماجه واسحق بن راهويه والبزار في مسنديهما من حديث سعد بن ابي وقاص مرفوعا : اتلوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا.
وقال العلماء : ينبغي للساجد أن يدعو في كل سجدة بما يناسبها ، فهنا يقول اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك ، وفي آية الإسراء الآتية يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك ، وفي آية السجدة في ج 2 اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك ، وأعوذ بك من المتكبرين عن أمرك.
وهكذا ، راجع بحث السجود في آخر الأعراف المارة ، وما ترشدك إليه ، قال تعالى «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» جاء بعدهم عقب سيء ، وكلمة (خلف) لا توجد في القرآن إلا هنا وفي الآية 168 من سورة الأعراف المارة ، وتقرأ بفتح اللام في غير هذا الموضع ، ويكون معناها أتوا بأولاد سوء ، وعلى القراءة بإسكانها كما هنا أتوا قوم سوء.
قال النضر بن شميل الخلف بالتحريك والإسكان القرن السوء ، أما الصالح فبالتحريك فقط.
وقال ابن جرير بالمدح بفتح اللام وبالذّم بتسكينها على الأكثر ، لذلك فالقراءة هنا بالتسكين لأن معناه الرّديء وعليه المثل (سكت ألفا ونطق خلفا) وبالفتح إذا قام مقام أهله ، ومن هذا القبيل النصب بالفتح التعب ، وبالسكون الشر ، والشق بالفتح الصدع في عود أو زجاجة ، وبالكسر نصف الشيء ، والسّداد بالفتح الإصابة ، وبالكسر كل شيء سددت به من قارورة وغيرها.
ولهذا البحث(2/165)
ج 2 ، ص : 166
صلة في الآية 56 من سورة المؤمن في ج 2 ، وتقدم في الآية 17 من سورة الفرقان المارة مثله وفي الآية 17 المارة أيضا فراجعها ، «أَضاعُوا الصَّلاةَ» تركوها وقرىء الفعل بالجمع وفاقا لقوله «وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ» آثروها على طاعة اللّه وانهمكوا فيها «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» 59 واديا في جهنم يرونه ، هذا الخلف السيء ويدخلونه.
أخرج ابن جرير والطبراني وغيرهما من حديث أبي أمامة مرفوعا أنه نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار.
وأخرج جماعة عن ابن مسعود أنه قال الغيّ نهر أو واد في جهنم من فيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن الغيّ السوء وعليه قول مرقش الأصغر :
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لاثما
أي سيء.
وقال ابن عباس هو واد في جهنم تستغيث وتستعيذ منه أودية جهنم كلها أعد للزاني المصرّ وللشارب المدمن ولآكل الربى المصمم عليه ، ولأهل العقوق وشهود الزور ، والزور تحسين الشيء ووصفه بغير صفته ، فهو عبارة عن تمويه الباطل وتزخرفه بما يوهم أنه حق ، ويطلق على اللهو والعناء ، قال ابن مسعود رضي اللّه عنه : الغناء ينبت النفاق بالقلب كما ينبت الماء الزرع - راجع بقية هذا البحث في الآية 72 من سورة الفرقان المارة - قال تعالى «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً» تأييدا لصحة إيمانه وتثبيتا لتوبته «فَأُولئِكَ» التائبون الموصلون توبتهم بالإيمان والعمل الصالح حتى الممات ، فإنهم «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» جزاء ثوابهم وعملهم الصالح «وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً» 60 من اجزاء أعمالهم الحسنة التي عملوها قبل توبتهم فإنها تحسب لهم ويتقاضون أجرها تماما ، فكما أن الكفر يحبط الأعمال فالتوبة تعيد ثوابه ،
ثم ذكر صفة أهل الجنة التي يدخلها التائبون وليست بواحدة بدليل قوله جل قوله «جَنَّاتِ عَدْنٍ» إقامة دائمة بدل من الجنة المقدمة التي لامها للجنس الدالة على الكثرة وهي «الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ» عنهم فلم يشاهدوها قبل وقد هيئت لهم من حيث لا يعلمون «إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» 61(2/166)
ج 2 ، ص : 167
حاصلا وأصلا لمن وعده به جزما لا خلف فيه (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) الآية 111 من سورة التوبة في ج 3 ، ومن صفة هذه الجنّة أن أهلها «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً» من فضول الكلام وما لا ينبغي أن يقال وما لا يعني القائل والسامع «إِلَّا» لكنهم يسمعون فيها «سَلاماً» من اللّه جل جلاله وملائكته عليهم ومن بعضهم أيضا ، وهذا سلام تحية وإكرام وإجلال.
مطلب في الأكل المسنون وإرث الجنة :
قال تعالى «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» 62 بمقدار طرفي النهار بالنسبة لأيام الدنيا ، إذ لا ليل ولا نهار فيها فهم في النور أبدا دائما ويعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب والنهار برفعها من قبل الملائكة الموكلين بذلك ، وأفضل العيش عند العرب ما كان في هذين الوقتين ، وكانت لهم أكلة واحدة في اليوم والليلة فمن أصاب منهم أكلتين فيها سموه الناعم فأنزل اللّه هذه الآية على عادة المتنعمين ترغيبا لعباده ، وما جاء عنه صلى اللّه عليه وسلم الأكل مرتين في اليوم من الإسراف محمول على أنهما غير العشاء ، إذ به يصير ثلاث أكلات وهو من السرف ، فلا يرد على ما جاء في هذه الآية ، راجع الآية 31 من سورة الأعراف المارة «تِلْكَ الْجَنَّةُ» الموصوفة بما ذكر هي «الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» 63 نقيا مخلصا في عبادته منفقا من فضل ماله فيعطيها أمثاله عن ثمرة أعماله ، وقيل إنهم يرثون أعمالهم الحسنة ، وقيل إنهم يرثون مساكن أهل النار فيها لو كانوا آمنوا زيادة على مساكنهم ، والسياق يناسبه راجع الآية 40 المارة والآية 43 من سورة الأعراف المارة تجد ما يتعلق بهذا ، وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :
قال يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا فأنزل اللّه على لسانه قوله «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» يا أكرم الرسل ليس لنا من أمرنا شيء «لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا» لا نملك منهما شيئا ابدا «وَما بَيْنَ ذلِكَ» أيضا هو بيده وحده «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» 64 غافلا عمّا يكون منا في جميع أحوالنا ، وذلك المالك لأمرنا وأمر خلقه أجمع هو «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما»(2/167)
ج 2 ، ص : 168
لا يجوز عليه السهو والنسيان والغفلة ، كيف وهو مدبر الكون كله بما فيه فلا تقع حركة ولا سكون فيه إلا بعلمه وأمره وقضائه وقدره ، ولذلك فلا نقدر أن نزورك إلا بالوقت الذي يأمرنا به «فَاعْبُدْهُ» يا أكرم الرسل حق عبادته جهد قدرتك «وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ» وتحمل مشاقها ومكارهها في القر والحر ، والراحة والتعب ، والضيق والسعة ، والرضاء والغضب ، والصحة والمرض حتى العطب ، وأنظر «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» 65 فيما سبق سمّي باسمه ، كلا ولا يسمى بعد ، والحمد للّه الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء وهو الرب العظيم والإله الكبير المنفرد بأسمائه وصفاته ، ويطلق السمي على الولد قال الشاعر :
أما السّميّ فأنت منه مكثر والمال مال يغتدى ويروح
وليس مرادا هنا لأن السّميّ غير المسمى قال تعالى «وَيَقُولُ الْإِنْسانُ» قيل المراد به أميّة ابن خلف الجمحي لأنه قال ما يأتي في هذه الآية استهزاء ، واللفظ عام واللام للجنس ، فيشمل كل من يقول هذا القول لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ومقول القول «أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا» 66 استفهام إنكار على طريق الاستبعاد للبعث الذي أخبر به اللّه وتكذيبا لرسوله الذي يهددهم به وسخرية بهما قال تعالى «أَ وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ» المذكور آنفا «أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ» الحالة التي هو فيها «وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» 67 فيستدل هذا الخبيث بالخلق الأول على الثاني ، لأن من قدر على الإيجاد أولا لا يعجز عن الإعادة لما أوجده ثانيا بل هي أيسر ، ثم أقسم بنفسه عزت نفسه فقال «فَوَ رَبِّكَ» يا حبيبي لنحيينّهم مرة ثانية ثم «لَنَحْشُرَنَّهُمْ» والكافرين أمثالهم ، وجملة الجاحدين لما أخبرنا به «وَالشَّياطِينَ» أيضا معهم لأن لكل كافر قرينا من الشياطين يحشر معه مقرونا به «ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا» 68 قاعدين على ركبهم لشدة ما يدهمهم من هول المطلع وموقف الحساب ، قال تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً الآية 25 من سورة الجاثية في ج 2) خائفة مترقبة ما يؤل إليه حالها ثم إن الكفرة يساقون على حالتهم تلك أذلاء مهانين لأن قعودهم على هذه الصفة دليل على(2/168)
ج 2 ، ص : 169
حقارتهم وهي بكسر الجيم والتاء ويجوز ضم الجيم «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ» طائفة غارية من الكفار «أَيُّهُمْ» كان في الدنيا «أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» 69 جرأة وتمردا وفجورا فنطرحهم فيها الأعتى فالأعتى على الترتيب الأكبر جرما والأشد كفرا.
وإنما خصّ اسم الرحمن دون سائر أسمائه الحسنى في هذه الآية والآيات المتقدمة إعلاما بأنه لا ينبغي أن يغرّ الكافر برحمته تعالى ، لأن من حل عليه قضاؤه المبرم بالعذاب لا تشمله الرحمة.
ومن درى أن الرحمة مقيدة بشروط والمغفرة أيضا كما هو مصرح في الآيات الكثيرة من هذا القرآن العظيم ، إذ لا تجد رحمة أو مغفرة مطلقة من قيد أو شرط لم يغتر بذكرها ، بل عكف على عبادة ربه وطاعته وجعل في قلبه معنى أسمائه المنتقم أيضا ، والمذل المهيمن ، الحكم العدل ، الجبار القهار ، قال تعالى «ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا» 70 من غيرهم فقدمه على غيره بالإحراق فيها ، وهذه الآية المدنية الثانية ،
قال تعالى «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» وأصلها ومقرّب إليها.
مطلب معنى الورود وأن مرتكب الكبيرة لا يخلد بالنار :
واعلم أن الورود موافاة المكان ، وقال أكثر المفسرين إنه بمعنى الدخول ، وأنكره ابن الأزرق ، وأقسم ابن عباس بأنّه سيدخلها هو وهذا المنكر ، وقال أرجو أن يخرجني بتصديقي ، وما أراه يخرجك بتكذيبك.
واحتج بالآية 98 من سورة الأنبياء في ج 2 وهي (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إلخ والآية 19 من سورة هود في ج 2 أيضا وهي (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) إلخ.
وحجة ابن الأزرق بهاتين الآيتين أيضا ، ولكن المتعارف أن الورود غير الدخول ، قال في القاموس : الورود الإشراف على الماء دخله أو لم يدخله ، ففارق معنى الدخول من الجهة الثانية «كانَ» ذلك الورود إلى جهنم لكل من البشر كما أقسم اللّه تعالى «عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» 71 لازما مبرما حقا.
قال بعض المفسرين إن في هذه الآية معنى القسم ، وهي كذلك ، ولكن بقطع النظر عما قبلها ، (2/169)
ج 2 ، ص : 170
وإلا فهي قسم كالتي قبلها ، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا يموت لأحد ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلته القسم.
وأراد به الآية المارة أي واللّه ما منكم من أحد إلا ويرد جهنم.
وروى مسلم عن أم مبشر الأنصاري أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول عند حفصه : لا يدخل النار إن شاء اللّه من أصحاب الشجرة أحد ، أو من الذين بايعوه تحتها الوارد ذكرهم في الآية 19 من سورة الفتح في ج 3 ، قالت بلى يا رسول اللّه ، فانتهرها لأنها لم تقل إن شاء اللّه ، فقالت حفصة : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) فقال صلى اللّه عليه وسلم جوابا لها ما قاله ربه : «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» الأسباب الموجبة لدخولها من الكفر ودواعيه ، ولم يصروا على ما فعلوه من المعاصي الكبيرة برحمتنا «وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» 72 بعدلنا لاختيارهم الكفر على الإيمان وإصرارهم عليه إلى الوفاة ، ولا دليل في هذه الآية لمن يقول إن الفاسق وصاحب الكبيرة يخلد في النار ، لأن المراد بالتقي المستثنى من الورود من اتقى الشرك ، لأن من آمن باللّه ورسوله يصح أن يقال له متق الشرك ولو كان مقترفا الكبائر من غير استحلال ، لأن المستحل لها كافر ، ومن صدق عليه أنه متق الشرك صح عنه أنه متق ، لأن التقى جزء من التقى من الشرك ، ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد مثبت أن صاحب الكبيرة والفاسق متق ، وإذا ثبت لك هذا وجب أن لا يخلد في النار وأنه يخرج منها لعموم هذه الآية ، وعليه إجماع الأمة من علماء التوحيد ، قال صاحب الشيبانية :
ولا يبقى في نار الجحيم موحّد ولو قتل النفس الحرام تعمدا
ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
يخرج من النار من قال لا إله إلا اللّه وفي قلبه وزن شعيرة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا اللّه وفي قلبه وزن برّة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا اللّه وفي قلبه وزن ذرة من خير.
وفي رواية من إيمان.(2/170)
ج 2 ، ص : 171
مطلب آخر الناس خروجا من النار وآخرهم دخولا في الجنة :
وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن الناس قالوا يا رسول اللّه هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال هل تمارون في القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب ؟ قالوا لا يا رسول اللّه ، قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا لا يا رسول اللّه ، قال فإنكم ترونه كذلك ، يحشر الناس يوم القيامة فيقول اللّه : من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ، ومنهم يتبع الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربّنا عرفناه ، فيأتيهم اللّه فيقول أنا ربكم ، فيقولون أنت ربنا ، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، وكلام الرسل يومئذ : اللهم سلّم سلّم.
وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان ، هل رأيتم شوك السعدان ؟ قالوا نعم.
قال فإنها مثل شوك السعدان ، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا اللّه تعالى ، تخطف الناس بأعمالهم.
وهو نبت ذو شوك معقّف تأكله الإبل وهو من أجود مراعيها.
والمراد أن كلاليب النار تقطعه حتى يلقيه بالنار فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من ينجدل (أي يهلك وينصرع) ثم ينجو ، حتى إذا أراد اللّه رحمة من أراد من أهل النار أمر اللّه الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد اللّه ، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود ، وحرم اللّه على النار أن تأكل أعضاء السجود ، فيخرجون من النار وقد امتحشوا أي أحرقوا وأكلت جلودهم وبدت عظامهم ، فيصب عليهم ماء الحياة ، فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السيل (بكسر الحاء) وهي جميع البذور وحميل السيل هو الزبد وما يلقيه الماء على شاطئه ، ثم يفرغ من القضاء بين العباد ، ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخر أهل النار دخولا الجنة ، مقبل بوجهه قبل النار ، فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار فقد قشبني (آذاني وسمّني لأن القشب السم) ريحها وأحرقني ذكاؤها (اشتعالها ولهبها) فيقول هل عسيت أن أفعل ذلك بك ، فتسأل غير ذلك ؟ فيقول لا وعزتك ، فيعطي اللّه ما شاء من عهد وميثاق ، فيصرف اللّه وجهه(2/171)
ج 2 ، ص : 172
عن النار ، فإذا أقبل به على الجنة رأى نكهتها وبهجتها (حسنها ونضارتها وزهرتها) سكت ما شاء اللّه أن يسكت ، ثم يقول يا رب قسمني عند باب الجنة ، فيقول اللّه أليس قد أعطيت المواثيق والعهود بأن لا تسأل غير الذي كنت سألت! فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك ، فيقول فما عسيت إن أعطيتك ذلك أن لا تسأل غيره ؟ فيقول وعزّتك لا أسأل غير ذلك ، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة ، فإذا بلغ بابها رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور ، فيسكت ما شاء اللّه أن يسكت فيقول : يا رب أدخلني الجنة ، فيقول اللّه تبارك وتعالى ويحك يا ابن آدم ما اغدرك ، أليس قد أعطيت العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت ؟ فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فيضحك اللّه عز وجل منه ، ثم يؤذن له في دخول الجنة ، فيقول تمنّ ، حتى إذا انقطعت أمنيته ، قال اللّه تمن كذا وكذا (أقبل يذكره ربه) حتى إذا انتهت به الأماني ، قال اللّه :
لك ذلك ومثله معه.
قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة وعشرة أمثاله ؟ قال أبو هريرة لم أحفظ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا قوله لك مثل ذلك ومثله معه.
قال أبو سعيد رضي اللّه عنه سمعته يقول لك ذلك وعشرة أمثاله.
وهذا من لطف اللّه تعالى في هذا العبد لأنه يعلم في الأزل أنه أهل للجنة بشيء من عمله لا يعرفه هو.
أنظر قوله صلى اللّه عليه وسلم : دخلت النار امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض.
وحديث البطاقة المار ذكره في الآية 7 من الأعراف ، وحديث من رأى كلبا يأكل الثرى من العطش فأسقاه.
لأن اللّه تعالى لا يضيع الذرة لعباده بل ينميها له بواسع فضله وهو لا يشعر.
وعن ابن مسعود قال :
قال صلى اللّه عليه وسلم : إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا فيها ، رجل يخرج من النار حبوا ، فيقول اللّه له اذهب فادخل الجنة ، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى ، فيقول يا رب وجدتها ملأى ، فيقول اللّه اذهب فادخل الجنة ، قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع ، فيقول يا رب وجدتها ملأى ، فيقول اللّه تعالى اذهب فادخل الجنة ، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها ، أو إن لك مثل(2/172)
ج 2 ، ص : 173
عشرة أمثال الدنيا ، فيقول تسخر بي وأنت المالك! فلقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (أضراسة وأنيابه وهي آخر الأسنان) فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة اه.
بلفظها حرفيا ، فدلت الآية الأولى على أن الكل دخلوا النار ، ودلت الثانية والأحاديث على أن اللّه أخرج منها المتقين والموحدين وترك فيها الظالمين المشركين فقط.
وقد جاء في الحديث : تقول النار للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهي.
وروي عن مجاهد في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) إلخ قال من حم من المسلمين وردها ، وفي الخبر : الحمى من قيح جهنم.
وفي خبر آخر :
الحمى كير من جهنم وهي حظّ المؤمن من النار الآية 100 من سورة الأنبياء في ج 2.
وقال خالد ابن معدان يقول أهل الجنة ألم يعدنا أن نرد النار ، فيقال :
بلى ولكنكم مررتم بها وهي خامدة.
وروى مسلم والبخاري عن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : الحمى من فيح جهنم (أي وهجها) فأبردوها بالماء.
ولهذا فإن الطبّ الحديث يرى أن يغسل أطراف المحموم بالماء البارد ، ومن كانت حمّاه برأسه يضعون على رأسه الثلج ، وهذا من الطب النبوي المحتاج إلى عقيدة راسخة كما في الآية 25 من سورة القلم ، لأن من لم يعتقد بالقرآن لا ينتفع بما فيه ، بل يكون عليه وبالا ، وسيأتي لهذا البحث في تفسير الآية 80 من سورة الإسراء الآتية بيان واضح واسع فراجعه.
هذا ، وإن مذهب أهل السنة والجماعة هو أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محالة ، ويجوز أن يعفو اللّه عنه ، وهذه الطريقة يجب التمسك بها والجنوح إليها ، فكل قول يخالف هذا باطل لا قيمة له إذ لا مستند له على الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة.
أما أقوال المخالفين فهي كيفية لا عبرة بها وسنأتيك ببعضها ، فمنهم المرجئة يقولون لا يعاقب المؤمن على ما يقترف من الذنوب كبائر كانت أو صغائر ، لأن المعصية لا تضر مع الإيمان ، قاتلهم اللّه.
وقالت فرقة أخرى إن المسلمين أهل الكبائر يكونون بمنزلة بين المنزلتين ، أي لا يقال له مؤمن لعدم دخوله في عموم المتقين ، ولا كافر لعدم دخوله في عموم الظالمين ، فيكون بين بين ، وهذا باطل أيضا إذ لا دار عند اللّه إلا الجنة أو النار ، فمن نجا(2/173)
ج 2 ، ص : 174
من النار دخل الجنة واللّه أعلم.
وهو القائل : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) الآية 185 من آل عمران في ج 3 ، راجع تفسير الآيات 7 و8 و31 من سورة فاطر المارة والآية 19 من سورة الفرقان المارة فيما يتعلق بفاعل الكبائر ، أما ما يتعلق بالرؤية المار بحثها فراجع الآية 146 من سورة الأعراف ، والآية 23 من سورة القيمة المارتين وما ترشدك إليه ، قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ» لا تحتاج إلى إثبات لأنها أعظم حجة وأدل دليل وأكبر برهان على قدرتنا وعجائب مخلوقاتنا ومبتدعات صنائعنا «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً» منزلا ومكانا وموضعا بين الناس «وَأَحْسَنُ نَدِيًّا» 73 مجلسا ومجتمعا ، لأن النادي خصّ لمباحثات في الأمور العامة ، أي إن هؤلاء الكفار عند ما تتبين لهم الدلائل وتظهر لهم البراهين على قدرتنا يعرضون عن التفكر بها والتدبر لمعانيها ، ويقبلون على التفاخر والتكاثر بالأموال والأولاد والمساكن والمجالس والتفاضل على المؤمنين بزينتهم وزخارفهم الدنيوية ، لأنهم يقولون لو كان المؤمنون على الحق لصار حالهم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا ، إذ لا يليق بالحكيم أن يوقع أولياءه بالذل والحاجة ويجعل أعداءه بالعز والراحة ، فيظهر من هذا أنا نحن على الحق بخلاف زعمهم ، وهم على الباطل ، ولهذا جعلنا أحسن منهم حالا ومكانة ومجلسا ، فأنزل اللّه ما فيه إبطال قياسهم العقيم الناشئ عن رأيهم السقيم بقوله عز قوله «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً» من هؤلاء المعجبين برياشهم وثروتهم ومجلسهم «وَرِءْياً» 74 مرأى ومنظرا منهم مهما تزينوا بأنواع الألبسة وتعطروا بأصناف الطيب «قُلْ» لهم يا أكرم الرسل إن هذه الأمتعة الدنيوية التي يعطيها اللّه تعالى بعض خلقه لا تدل على حسن
الحال وارتفاع المقام وعلو المنزلة ، لأن «مَنْ كانَ» مخلوقا للتوغل «فِي الضَّلالَةِ» واقتراف أنواع المعاصي الواردة عن طريق الهوى من الكفرة أمثالكم «فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» يمهله كي يتمادى في طغيانه إمهالا كثيرا ويستدرجه بإكثار النعم استدراجا يظن معه أن اللّه أهمله واللّه لا يهمل بل يمهل العبد إلى أن ينتهي أمره ويبلغ الغاية(2/174)
ج 2 ، ص : 175
في انتهاك الحرمات وينسى صنع ربه فيه ، فيأخذه بغتة ويقصفه على حين غفلة «حَتَّى إِذا رَأَوْا» هؤلاء المأخذون غرة «ما يُوعَدُونَ» على لسان رسلهم «إِمَّا الْعَذابَ» العاجل في الدنيا قتلا وأسرا وجلاء وذلا وموتا «وَإِمَّا السَّاعَةَ» القيامة التي عذابها أكبر وأدوم «فَسَيَعْلَمُونَ» حينذاك في إحدى الحالتين أو كلتيهما معا «مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً» هنا وعند اللّه «وَ» من هو «أَضْعَفُ جُنْداً» 75 فئة وناصرا ومغيثا يوم القيامة أهم وهم في النار ، أم نحن ونحن في الجنة ، وفي الدنيا هم في حالة الغلب والمهانة ، أم نحن في حالة النصر والعز ، بل المؤمنون في الحالتين أحسن لأنهم هم المهتدون.
قال تعالى «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» ونورا على هداهم ، ويزيد الظالمين عمى وضلالا على ضلالهم «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» من الأعمال الحسنة التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها «خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً» من حطام الدنيا الذي يتفاخر به هؤلاء الكفرة على المؤمنين «وَخَيْرٌ مَرَدًّا» 76 من ذلك ، أي مرجعا وعاقبة ، لأن عاقبة الكفر الحسرة الأبدية ، وعاقبة الإيمان النعيم المقيم ، راجع تفسير الآية 39 المارة ، وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم وعليه معنى قول حسان :
أتهجوه ولست له بكفء فشرّ كما لخير كما الجزاء
وهو تهكم بالكفرة المذكورين القائلين أي الفريقين خير إلخ.
وقرىء مقاما بالضم ، والفرق بينهما أن المقام بالفتح موضع القيام سواء أقام فيه بنفسه أو أقام فيه غيره بطريق المكث فيه أولا ، وبضم الميم موضع إقامة الغير إياه أو موضع قيامه بنفسه قياما ممتدا ، وقد سئل أبو السعود رحمه اللّه عن الفرق بينهما فقال :
يا وحيد الدهر شيخ الأنام نبتغي فرق المقام والمقام
فأجابه رحمه اللّه بلفظ :
إن أقمت فيه فهو مقام وإن أقمت فيه فهو المقام
قال تعالى «أَ فَرَأَيْتَ» يا حبيبي أعلمت هذا «الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ» وهو على كفره «لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً» 77 ما أجهله يتمنى على اللّه الأماني وهو(2/175)
ج 2 ، ص : 176
لا يعبده ويشرك معه غيره «أَطَّلَعَ الْغَيْبَ» هذا الأحمق حتى يقول هذا الكلام ويقسم عليه «أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» 78 بأن يؤتيه ذلك «كَلَّا» لم بطلع على الغيب ولم يأخذ عهدا من اللّه ، وإنما قال ذلك تكبرا وتجبرا وعتوا على اللّه القائل له ولأمثاله «سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ» من افتئاته علينا وتعاظمه «وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا» 79 فنزيده عذابا فوق عذابه بسبب قوله هذا ونطيله عليه جزاء افترائه واجترائه حتى يظل معذبا دائما «وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ» بأن نهلكه ونجعل ماله وولده إرثا لغيره «وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً» 80 لا مال له ولا ولد ولا قرابة ولا أصدقاء ، راجع الآية 48 من سورة الكهف والآية 93 من سورة الأنعام في ج 2.
روى البخاري ومسلم عن خبّاب بن الأرت أن رجلا من الأزد قال كنت رجلا قينا في الجاهلية ، وكان لي على العاص بن وائل السهمي دين ، فأتيته أتقاضاه ، وفي رواية فعلت للعاص بن وائل السهمي سيفا فجئته أتقاضاه ، فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد ، قلت لا أكفر حتى يميتك اللّه تعالى ثم تبعث ، قال وإني لميت ثم مبعوث ؟ قلت بلى ، قال دعني أموت وأبعث ، فأوتى مالا وولدا فأقضيك ، فأنزل اللّه فيه هذه الآية ،
قال تعالى «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» 81 في الدنيا يعتزون بها ويمتنعون من العذاب في الآخرة على زعمهم الباطل ، قال تعالى «كَلَّا» لا تفيدهم عزا في الدنيا ولا منعة في الآخرة وهذا زجر لهم ورد لكلامهم الكاذب.
مطلب تبرأ المعبودين من العابدين وأصناف الحشر :
ذلك لأن هذه الأوثان التي اتخذوها لذلك فإنّهم «سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ» يوم القيامة وينكرونها ويتبرأون منهم «وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» 82 حين ينطقهم اللّه ويسألهم عن ذلك فيقولون : يا ربنا عذّب هؤلاء الذين عبدونا من دونك ، وإنا نتبرأ إليك من عبادتهم ، راجع الآية 17 من سورة الفرقان المارة والآية 42 من سورة سبأ الآتية في ج 2 إذ يقولون : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) بل كانوا يعبدون الجن ، فيخيب ظنهم ويعود الأمر عليهم بالعكس ، فيكون لهم الذل والهوان(2/176)
ج 2 ، ص : 177
والخزي والعار ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين 167 و168 من سورة البقرة في ج 3 ، قال تعالى «أَ لَمْ تَرَ» يا أكمل الرسل فتخبر وتعلم «أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا» 83 أي سلطنا الشياطين على الكافرين لتهيجهم وتزعجهم وتغريهم على ارتكاب المعاصي تستفزهم لاقترافها حتى يتوغلوا فيها «فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ» يا حبيبي بإنزال العذاب ، ودعهم تحيق بهم المهالك من كل مكان حتى يأتي الأجل المعين في أزلنا لهلاكهم ، وهو حتما نازل بهم ، ولكنهم لم يستكملوا ما قدر لهم بعد «إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» 84 سنين وشهورا وأياما وساعات ودقائق وثواني ولحظات ، قال السماك : عند ما قرأت هذه الآية بحضرة المأمون العباسي قال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وقيل في المعنى :
إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها فتى يعدّ عليه اللفظ والنفس
واعلم يا أكرم الرسل أنا سنوقع بهم ما أوعدناهم على لسانك وسيذكرون هذا «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» 85 جماعات ركبانا معزّزين كما يفد رؤساء الأقوام على ملوكهم في الدنيا ليكرموهم بالخلع المعيّنة لهم والأوسمة الكريمة «وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ» المحكوم عليهم بالعذاب في ذلك اليوم الذي ينال فيه الأتقياء اعطياتهم العظيمة ويبلغون آمالهم من ملك الملوك «إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً» 86 كما تساق الأنعام ليذوقوا وبال أعماهم ، مشاة عطشا مهانين ، فيروون النار بدل الماء.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
محشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق راغبين وراهبين ، واحد على بعير واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير ، وتحشر معهم النار تقيل معهم حيث قالوا ، وتبيت معهم حيث بانوا ، وتصبح معهم حيث أصبحوا ، تمسي معهم حيث أمسوا.
وأخرج الترمذي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف : صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم ، (2/177)
ج 2 ، ص : 178
قيل يا رسول اللّه كيف يمشون على وجوههم ؟ قال الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم.
راجع الآية 34 من سورة الفرقان المارة ، وللبحث صلة في الآية 97 من سورة الإسراء الآتية.
مطلب الشفاعة ومحبة اللّه :
واعلم يا أكمل الرسل أن هؤلاء في ذلك اليوم العصيب «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ» للعصاة لا هم ولا غيرهم «إِلَّا» لكن يملكها «مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» 87 بأن يشفع لمن يريده اللّه وهم المرتضون ، قال تعالى (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآية 37 من سورة الجن المارة ، فهؤلاء يشفعون بإذن الله لمن قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه مخلصا ومات عليها.
هذا ، وقد أنكر المعتزلة جواز الشفاعة في دخول الجنة ، مع أن الأخبار والأحاديث وظاهر الآيات تكذبهم ، روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن الرجل من أمتي يشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته ، وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته ، (ومعنى الفئام الجماعة) والأحاديث في هذا الباب كثيرة وسنأتي عليها في الآية 89 من سورة الإسراء إن شاء اللّه ، وان ما عليه أهل السنة والجماعة هو أن شفاعة الأنبياء والأولياء حق واجب مفيدة ، قال في بدء الأمالي :
ومرجو شفاعة أهل خير لأصحاب الكبائر كالجبال
وقال في الشيبانية :
لكل نبي شافع ومشفع وكل ولي في جماعته غدا
وجزاء منكرها حرمانها «وَقالُوا» هؤلاء الكفرة بعد قولهم بالإشراك وانكارهم البعث والنبوة «اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً» 88 وذلك أنهم يقولون الملائكة بنات اللّه كما تقول اليهود عزيز والنصارى المسيح أبناء اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك راجع الآية 31 من سورة التوبة في ج 3 ، «لَقَدْ جِئْتُمْ» أيها الكفرة المغترون المبهتون بمقالتكم هذه «شَيْئاً إِدًّا» 89 منكرا عظيما وقولا ثقيلا ، وفعلا شديدا ، وعظمتنا إن قولكم هذا «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» لشناعته وفظاعته(2/178)
ج 2 ، ص : 179
«وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ» من هوله فتخسف «وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» 90 لعظمته فتسقط عن موضعها عليهم
«أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» 91 لما فيه من الافتئات على اللّه بما لا يليق بعظمته وجلاله ، لأن مثل هذا الكلام ينفي ملاك الإيمان وأهم أركانه وقواعده ، وأعظم أصوله وفروعه ، ولا يقال كيف تؤثر هذه الكلمة في هذه الجمادات ، لأن اللّه تعالى يقول كدت أن أفعل هذا بهذه الأجرام عند صدور هذه الكلمة غضبا مني على من تفوه بها لو لا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة ، والقادر قادر فكيف بغير الجماد ، فإنه يذوب كما يذوب الملح بالماء ، ثم نزه نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عن ذاته المقدسة فقال «وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» 92 ولا يليق بجنابه أن بوصف بذلك ، لأن الولد قد يشبه أباه ويكون للحاجة والسرور والاستعانة والذكر ، واللّه ليس كمثله شيء وغني عن كل شيء ومنزه عن كل شيء من سمات المخلوقين «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» 93 أذلاء حاضعين مملوكين يأوون لحضرته بالعبودية ويستكينون لعظمته وينقادون لكبريائه ، وفي هذه الآية إيذان بأن الوالد لا يملك ولده وأن اللّه مالك مطلق لجميع من في الكون يتصرف فيه كما يشاء ويختار ، واللّه الذي لا إله إلا هو «لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا» 94 حصرهم وأحاط بهم وعلم أنفاسهم وآثارهم بحيث لا يخرج أحد عن قبضته وقدرته ، راجع قوله تعالى : (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) في الآية 54 من سورة الأعراف المارة وآية (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) 8 من سورة الرعد في ج 3 ، «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» 95 لا مال ولا ولد معهم ولا خدم ولا حشم ، مجردين عن كل شيء كما ولدوا ، وهذه الآية مثل الآية 80 المارة وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 93 من الأنعام في ج 2 ، فيأتونه وكلهم حاجة إلى رحمته فكيف ينسبون له الولد تعالى عن ذلك «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ»
الذين نزهوا ربهم عن الشريك والولد وغيره ويعترفون بوحدانيته ونبوة أنبيائه واليوم الآخر «سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» 96 في الدنيا فيحببهم لخلقه ويحبب الخلق إليهم ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة(2/179)
ج 2 ، ص : 180
عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : إذا أحب اللّه سبحانه وتعالى عبدا دعا جبريل عليه السلام فيقول له إن اللّه يحب فلانا فأحبّه فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء إن اللّه يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغض اللّه عبدا دعا جبريل فيقول له أنا أبغض فلانا فابغضه ، فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن اللّه يبغض فلانا فابغضوه ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض.
وسيأتي لهذا البحث صلة نفيسة في الآية 68 من سورة الزخرف في ج 2.
قالوا إن هذه الآية نزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة لأنهم كانوا ممقوتين بين الكفرة فوعدهم اللّه ذلك وأنجز لهم وعده ، وسيأتي بيان ما وقع لهم مع ملك الحبشة في الآية 199 من آل عمران في ج 3 ، وإليكم أن من يجمل اللّه له ودّا في الدنيا من أجل إيمانه وعمله الصالح فإنه يجعل له ودا في الآخرة من باب أولى لأن الدنيا مزرعة الآخرة وتوادّ الآخرة بين اللّه وبين عباده أكثر من توادهم بينهم ، راجع الآية 55 من سورة المائدة في ج 2.
قال تعالى «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ» هذا القرآن العظيم «بِلِسانِكَ» يا سيد الرسل «لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ» بما لهم عند اللّه من الكرامة في الآخرة التي تضمحل عندها عزة الملوك ، وأبن عطاء الملوك في الدنيا من إكرام ملك الملوك في الآخرة «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» 97 شديدي الخصومة بالباطل ممتنعين عن الإيمان باللّه لجاجا وعنادا لم يحسبوا لعاقبتهم أمرا ولا لحسابهم عذرا «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ» من القرون الماضية بسبب إصرارهم على الكفر وفي هذه الجملة وعيد لقومه ووعد لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ضمن وعيدهم بالإهلاك وحثّ له على إدامة العمل بإنذارهم ولهذا التفت اليه وخاطبه عز خطابه بقوله وانظر يا حبيبي «هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ» من أولئك القرون الهالكة ، أي تشعر كأنهم ما كانوا «أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» 98 أقل صوت ، والركز هو الخفاء ومنه الركاز المال المدفون في الأرض ، وركز الرمح إذا غيبت طرفه في الأرض ، والمعنى أهلكناهم جميعا عن بكرة أبيهم ، بحيث لا يرى منهم أحد ، ولا يسمع لهم صوت ، لأن اللّه عز وجل أخذهم استئصالا فلم يبق منهم عين ولا أثر.
ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه اللفظة.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه عليه وسلم على سيدنا محمد وآله.(2/180)
ج 2 ، ص : 181
تفسير سورة طه
45 - 20
نزلت بمكة بعد سورة مريم عدا الآيتين 130 و131 فإنهما نزلنا بالمدينة ، وهي مائة وخمس وثلاثون آية ، والف وستماية واحدي وأربعون كلمة ، وخمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا ، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدأت وختمت به (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى «طه» اسم من أسمائه صلى اللّه عليه وسلم كما مرّ في سورة يس ، واسم للسورة ، ومفتاح أسماء اللّه تعالى الهادي ، هو الباسط المعطي ، وقال بعض المفسرين ان معناه طأها أي الأرض ، لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان يقوم إلى ربه على رجل واحدة في تهجده ، وقيل أصله يا رجل بلغة عكّ ، أو أصلها يا هذا ، فتصرفوا فيها بالقلب والاختصار ، مستدلين بقول القائل :
إن السفاهة طاها في خلائقكم لا قدس اللّه أخلاق الملاعين
أقول غير جدير بالقبول لعدم الاستناد فيها إلى شيء صحيح ، وما ذكرناه هو الأولى والأنسب ، لاستناده للحديث الذي أوردناه أول سورة يس ، يؤيده الخطاب في قوله تعالى «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى » في المبالغة في مكابدة العبادة قد يعتريك فيه التعب الشديد ، أو في هلاك نفسك في محاورة العتاة ومجادلة الطغاة من قومك من فرط الأسى والتحسر على عدم إيمانهم «إِلَّا» أي ما أنزلناه عليك يا أكرم الرسل لشقائك به ، ولكن «تَذْكِرَةً» تذكرهم به وعفة «لِمَنْ يَخْشى » 3 اللّه ويتأثر بالإنذار به لرفة قلبه ولين عريكته لينتفع به ، لا كما زعم المشركون ، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يجتهد في عبادة ربه في مكة حتى تورمت قدماه ، فلما رأى ذلك منه المشركون قالوا ما أنزل اللّه عليه الوحي الذي يزعم إلا لشقائه ، وكان صلى اللّه عليه وسلم يجهد نفسه بالعبادة من جهة ومن أخرى بدعوة قومه إلى ربه ويلح على نفسه في هذين الأمرين ، لأنهما غاية مطلبه ونهاية قصده في الدنيا ، فأنزل اللّه عليه هذه الآية ليخفف عن نفسه الشريفة ما حملها من الأعباء ، ويقتصد بالعبادة والدعوة(2/181)
ج 2 ، ص : 182
«تَنْزِيلًا» مفعول مطلق أي أن هذا القرآن نزل عليك يا محمد «مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى » 4 كما يقوله كفرة قومك من كونه سحر أو كهانة أو من خرافات الأولين أو من تعليم الغير ، بل هو من اللّه الخالق لهذين الحرمين العظيمين وهو «الرَّحْمنُ» الذي وسعت رحمته كل شيء عزت قدرته وجلت عظمته «عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » 5 استواء يليق بذاته ويراد ممنه الظهور والاستيلاء والتمكن.
مطلب العرش ومعنى الاستيلاء عليه :
والعرش لغة السرير ذو القوائم ، أما عرش الرحمن فهو شيء يليق بذاته لا يعلم حقيقته على الحقيقة إلا اللّه ، إلا أنه شيء يحمل لقوله تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الآية 15 من سورة الحاقة - في ج 2 وهذه الآية تدل على عظمته ، لأن الملك الواحد يقوى على حمل الأرض بما فيها ، فكيف إذا كانوا ثمانيه أملاك ، ومن هاهنا تعلم عظمته ، قالوا هو كالقبة فوق السموات له قوائم ، بدليل ما رواه البخاري عن أبي سعيد ، قال : جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قد لطم وجهه ، فقال يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي! فقال صلى اللّه عليه وسلم : أدعوه فقال لم لطمت وجهه ؟ فقال يا رسول اللّه إني مررت بالسوق وهو يقول والذي اصطفى موسى على البشر ، فقلت يا خبيث وعلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فأخذتني غضبة فلطمته.
فقال صلى اللّه عليه وسلم لا تميزوا بين الأنبياء ، فان الناس يصعقون وأكون أول من يفيق ، فإذا بموسى عليه السلام أخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور.
أي لم يصعق وهو فوق السموات بدليل ما رواه أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال : أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعرابي فقال : يا رسول اللّه جهدت الأنفس ، ونهكت الأموال ، فاستق لنا ، فإنا نستشفع بك إلى اللّه ونستشفع باللّه تعالى عليك فقال صلى اللّه عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول ؟ وسبّح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجهه أصحابه ، ثم قال ويحك انه لا يستشفع باللّه تعالى على أحد من خلقه ، شأن اللّه تعالى أعظم من ذلك ، ويحك أتدري ما اللّه ؟ إن اللّه تعالى فوق عرشه ، وعرشه فوق سمواته(2/182)
ج 2 ، ص : 183
هكذا وقال بأصابعه مثل القبة ، وانه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب ، أي من عظمة الرّب جل وعلا وهيبته ، وهو منزه عن الثقل والخفة وسائر أوصاف خلقه ، وهذا مما يدل على عظمته ايضا.
وقد روى أبو ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه سمعه يقول ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض.
وجاء في خبر آخر : إن أرضكم هذه بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة ملقاة في فلاة ، هذا وقد وصفه اللّه تعالى في قوله جل قوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية 256 من البقرة في ج 3 ، ووصفه بالمعظم في آيات ، وناهيك بذلك.
هذا ، وقد روى عن أبي شيبة في كتاب صفة العرش ، والحاكم في مستدركه ، وقال على شرط الشيخين ، عن سعد بن جبير عن ابن عباس قال : الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره الا اللّه ، وبما أن من هذه من آيات الصفات التي جرى السلف على ظاهرها دون تأويل أو تفسير ، ومشى الخلف على خلافه ، فقال بعضهم إن العرش كناية عن ملك اللّه وسلطانه ، وهو غير سديد لمنافاته ظاهر القرآن والحديث ، لأنه إذا كان كما قيل فكيف نقنع بقول اللّه (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) إلخ الآية المذكورة آنفا ، وقوله تعالى (يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) الآية 18 من سورة المؤمن في ج 2 ، أيقال يحملون ملكه وسلطانه ؟
كلا ، وهل كان موسى آخذا بقوائم الملك والسلطان في الحديث المار ؟ كلا وما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن جابر قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ رضي اللّه عنه ، فهل يقال اهتز ملكه وسلطانه ؟ كلا لا يقال شيء من ذلك أصلا لأن ذلك أمر معنوي لا يحمل ولا يمسك ولا يهتز لذلك فلا يقوله من له أدنى مسكة من علم أو ذوق ، فإن صاحب هذا القول على فرض صحته أراد به تنزيه اللّه تعالى على طريقة الخلف من كل ما يدل على المكان ، لأنه جل ذكره لا يحويه مكان ، ولكنه لم يصب الهدف ، وإن ما قاله أهل الكلام من أنه مستدير محيط بالعالم ، وأنه فلك من الأفلاك أو الفلك الأطلس أو الفلك التاسع ، فليس بصحيح ، لأن قولهم مبني على(2/183)
ج 2 ، ص : 184
الحدس والظن ، كيف وقد ثبت أنه له قوائم وأنه محمول وممسوك ، والفلك التاسع عندهم متحرك بحركة متشابهة وهو لا ثقيل ولا خفيف كما يزعمون ، وقد جاء في صحيح مسلم في حديث جويرية بنت الحارث ما يدل على أن له زنة هي أثقل الأوزان ، ولأن القرآن نزل بلغة العرب ، والعرب لا تفهم منه الفلك وما جاء في خبر أبي ذر عن جبير بن مطعم المتقدم ذكره من أنه مثل القبة ، لا يستلزم أن يكون مستديرا محيطا كما قالوا ، وهؤلاء القوم مازالوا قبلا والى اليوم والى أن ينفخ في الصور لا يقدرون على حصر الأفلاك بأنها تسعة ، وان التاسع أطلس ولا كوكب فيه ، وانه غير الكرسي علمت قال امية بن الصلت :
مجّدوا اللّه فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا لايناله طرف عين وترى حوله الملائك صورا
جمع اصور وهو المائل العنق لنظره إلى العلو ، والشرجع العالي المفرط بعلوه ، واستوى بمعنى استولى على اكثر أقوال المفسرين أوضحناه في الآية 54 من الأعراف المارة ، ودللنا عليه بشواهد كثيرة اتباعا لغيرنا ، الا أنه مع شواهده لا يطمئن له الضمير ، كما أن ما جاء أنه بمعنى العلو والارتفاع في رواية البخاري ، أو أنه بمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) الآية 44 من سورة هود ، وبقوله تعالى (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) الآية 13 من الزخرف في ج 2 ، ممنوع ، لأنه مستحيل على اللّه تعالى ، وذلك لأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وهو محال في حقه تعالى ، ولأنه لا يقال استولى على كذا إلا إذا كان له منازع فيه : وهذا في حقّه تعالى محال أيضا ، وإنما يقال استولى إذا كان المستولى عليه موجودا قبل ، والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه له ، وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات ، فلا يبقى إلى تخصيص العرش بالذكر فائدة ، لذلك فالأولى أن يفسر بما فسرناه هنا من أنه استواء يليق بذاته كما هو الحال في آيات الصفات ، من المجيء ، واليد ، والقبضة ، وغيرها ، لأن(2/184)
ج 2 ، ص : 185
القانون الصحيح وجوب حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره ، إلا إذا قامت الأدلة القطعية على وجوب الانصراف عن الظاهر ، ولا داعي للتأويل بما قد يوجب الوقوع في الخطأ وزلة القدم.
وانظر ما قاله السلف الصالح في هذا الباب.
روى البيهقي بسنده عن عبد اللّه بن وهب أنه قال كنا عند مالك بن أنس ، فدخل رجل فقال يا أبا عبد اللّه قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) فكيف استواؤه ؟ قال فأطرق مالك وأخذته الرّحصاء (العرق الذي يحصل من أثر الحمى) ثم رفع رأسه فقال الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ، ولا يقال كيف ، وكيف عنه مرفوع ، وأنت رجل سوء صاحب بدعه ، أخرجوه ، فأخرج الرجل ، وفي رواية سمي بن يحيى قال : كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال : يا أبا عبد اللّه ، الرحمن على العرش استوى ، فكيف استواؤه فأطرق مالك رأسه حتى علته الرحصاء ثم قال الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول والايمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال : الاستواء غير مجهول (لم يقل معلوما تأدبا ، وكان مالك أخذ هذه الجملة عنه رضي اللّه عنه إن لم نقل أنها من توارد الخاطر) والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.
وأخرج اللالكائي في كتاب السنة عن طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإقرار به ايمان ، والجحود به كفر.
وجاء من طريق ربيعة بن عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى ربنا على العرش ؟ فقال الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، وعلى اللّه تعالى إرساله ، وعلى رسوله البلاغ ، وعلينا التسليم ، وروى البيهقي بسنده عن أبي عينية قال كل ما وصف اللّه تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه.
قال البيهقي والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة واليه ذهب أبو حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن بن الفضل الجبلي ، ويدل عليه مذهب الشافعي ومشى عليه من المتأخرين أبو سليمان الخطابي ، وأهل السنة يقولون في الاستواء على(2/185)
ج 2 ، ص : 186
العرش صفة لحمله بلا كيف ، يجب على الرجل الايمان به ويكل العلم به إلى اللّه ، وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيفية وعبد اللّه بن المبارك وغيرهم من علماء أهل السنة أن هذه الآيات التي فيها الصفات المتشابهة تقرأ كما جاءت بلا كيف ، هذا والذي ذهب اليه الإمام الرازي أن الاستواء بمعنى الاستيلاء ، والاستيلاء بمعنى الاقتدار ، وهو كما ترى وأقوال السنة وبعض العلماء في هذا الباب لا تحصى ، وقد قدمنا غير مرة بأن طريقتنا في هذا التفسير الجليل حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره ، إلّا إذا لم نتوصل لفهمه وورود الدليل القاطع النقلي والعقلي يصرفه عن ظاهره ، فإنما نعدل عنه ضرورة ونرجع إلى التأويل بما نقتبسه أولا من القرآن لأن في بعضه تفسيرا لبعض ، ثم في الحديث لأن قول الرسول شرح له ، ثم إلى أقوال الأصحاب الكرام الخزامى الذين قال بحقهم صلى اللّه عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.
لأنهم يغرفون من مشكاة النبوة ثم لأقوال أتباعهم من السلف الصالح ولأقوال العلماء المفسرين له الأمناء عليه الأتقياء الذين نور اللّه قلوبهم بمعرفته قال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ) الآية 284 من سورة البقرة في ج 3 ، وقال تعالى (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) الآية 19 من سورة الأنفال في ج 3 أيضا وقال تعالى (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) الآية 64 من سورة الكهف في ج 2 وقال جل قوله (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) الآية 74 الآتية وهذا ما عليه السلف الصالح والخلف الناجح والاقتداء بهم أسلم ، والأخذ بقولهم أحكم ، واللّه أعلم الذي «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى » 6 التراب الرطب الذي يظهر بعد حفر وجه الأرض ، فإن اللّه تعالى مالك لجميع ذلك وما فوق السموات أيضا ، ومتصرف فيه كيف يشاء ، ولم يبق غير ذلك الا المالك «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ» يا سيد الرسل أو تسر به على حد سواء «فَإِنَّهُ» مولاك ومالك أمرك «يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى » 7 منه مما يخطر ببالك أو تتصوره في قلبك فيما بعد قبل تخطره وتصوره لأن السر موجود في صدرك أو لأن السر ما تسره للغير حالا ، وهذا(2/186)
ج 2 ، ص : 187
مما لا يعلمه غيرك ، لأنه لم تتفوه به أو ما أسررته لنفسك ، والأخص ما ستسره فيما بعد ، ولا تعلمه الا بعد أن يحوك في صدرك ، لأن اللّه يعلم أنه سيحدث في سرك قبل أن تحس به ، والأول أولى.
تشير هذه الآية بأن الجهر ليس لإسماعه تعالى بل لفرض آخر من تصوير النفس بالذكر ، ومنعها من الاشتغال بغيره قطعا للوسوسة ، وهذا أولى من قول من قال إنه نهى عن الجهر كقوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الآية 204 من الأعراف المارة لان غايته الإرشاد وهضم النفس بالتضرع إلى خالقها ، وهذا المالك الجليل والعالم العظيم هو «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى » 8 الدالة على معنى التقديس والتحميد والتبجيل لتعظيم الربوبية والأفعال التي هي نهاية في الحسن من الأسماء التي فضلت على سائر الأسماء ، واللّه تعالى واحد في ذاته وان افترقت عبارات صفاته ، وفيها رد على قول الكفرة القائلين حينما سمعوا حضرة الرسول يقول يا رحمن.
إنك تنهانا عن تعدد الآلهة وتدعو آلهة متعددة.
فأجابهم بأن الإله واحد وهو المعني بقوله لا إله إلا هو وإن له أسماء أخر ، هنّ صفاته جل شأنه وعظمت صفاته ، قال صلى اللّه عليه وسلم :
إن للّه تسعة وتسعين اسما من أحصاها وفي رواية من حفظها دخل الجنة وكلها موجودة في القرآن صراحة ، ويوجد اسم آخر له مكنون في غيبه وعلمه يعلمه الراسخون في العلم وهو اسمه الأعظم الذي لا يرد من دعاه به ، وهي هو اللّه لا إله إلا هو 1 الرحمن 2 الرحيم 3 الملك 4 القدّوس 5 السلام 6 المؤمن 7 المهيمن 8 العزيز 9 الجبار 10 المتكبر 11 الخالق 12 البارئ 13 المصور 14 الغفار 15 القهار 16 الوهاب 17 الرزاق 18 الفتاح 19 العليم 20 القابض 21 الباسط 22 الخافض 23 الرافع 24 المعز 25 المذل 26 السميع 27 البصير 28 الحكم 29 العدل 30 اللطيف 31 الخبير 32 الحليم 33 العظيم 34 الغفور 35 الشكور 36 العلي 37 الكبير 38 الحفيظ 39 المغيث 40 الحسيب 41 الجليل 42 الكريم 43 الرقيب 44 المجيب 45 الواسع 46 الحكيم 47 الودود 48 المجيد 49 الباعث 50 الشهيد 51 الحق 52 الوكيل 53 القوي 54 المتين 55 الوليّ 56(2/187)
ج 2 ، ص : 188
المجيد 57 المحيي 58 المميت 59 المحصي 60 المبدي 61 الباقي 62 المعيد 63 الحي 64 القيوم 65 الواجد 66 الماجد 67 الواحد 68 الأحد 69 الصمد 70 المقتدر 71 القادر 72 المقدم 73 المؤخر 74 الأول 75 الآخر 76 الظاهر 77 الباطن 78 الوالي 79 المتعالي 80 البر 81 التواب 82 المنتقم 83 العفو 84 الرؤوف 85 مالك الملك 86 ذو الجلال والإكرام 87 المقسط 88 الجامع 89 الغني 90 المغني 91 المعطي 92 المانع 93 الضار 94 النافع 95 النور 96 الهادي 97 البديع 98 الوارث 99 الصبور 100 المرشد واعلم أن بعضهم لم يعد المعطى من الأسماء الحسنى ، لذلك بلغت هنا 100 وبحذفه تبقى 99 وسنأتي على معانيها في محالها كل في موضعه إن شاء اللّه من آيات الذكر الحكيم ، فمن هذه الأسماء الدالة على المعاني الحسنة ما يستحقه اللّه تعالى بحقائقه كالقديم قبل كل شيء والباقي بعد كل شيء ، والقادر على كل شيء ، والعالم بكل شيء ، والواحد الذي ليس كمثله شيء ، ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها ، كالغفور والرحيم والشكور والحليم ، ومنها ما يوجب التخلق به كالكرم والعفو والصبر والستر ، ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال كالسميع والبصير والمقتدر والرقيب ، ومنها ما يوجب الإجلال كالعظيم والجبار والمتكبر والجليل.
واللّه جل شأنه له أسماء غير هذه لا تعد ولا تحصى لأنه له في كل شيء اسم كما أن له في كل شيء آية على وحدانيته وعلى كل أحد حجة في معانيها ، وقد سبق أن بينا في الآية 179 من سورة الأعراف المارة شيئا من هذا فراجعه.
قال تعالى «وَهَلْ أَتاكَ» يا سيد الخلق «حَدِيثُ مُوسى » 9 في بداية نبوته وما لاقاه من قومه عند إرساله إليهم.
مطلب فوائد تكرار القصص :
والقصد من تكرار هذه القصص ونحوها طورا باختصار ، وتارة بإسهاب ، ومرة بتوسط ، أمور : (1) التفنن بالبلاغة لأن إفادة المعنى بالموجز منها بوجه أبلغ كإفادته بصورة مطنبة من نوع الإعجاز والتحدّي (2) تسلية حضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم(2/188)
ج 2 ، ص : 189
بإطلاعه على ما قاسته الأنبياء قبله من أقوامهم ليهون عليه ما يلاقيه من قومه (3) أن تكون العاقبة بالنصر والظفر لحضرته كما كانت للأنبياء الذين يعلم بقصصهم على طريق البشارة (4) إعلام قومه بأن ما يوحى اليه هو من الإخبار (بالغيب) وانه من اللّه حق لأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يفارقهم ليظن به أنه تعلم أو سمعه من الغير (5) أن يعلم حضرة الرسول أن الصبر على الشدائد وتحمل الأذى هو من شأن الأنبياء كلهم لا من خصائصه وحده.
هذا ، وقد سبق أن بيّنا فوائد التكرار وأسبابه في الآية 17 من الأعراف المارة فراجعها ، واعلم أن قصة السيدين موسى وهرون مع قومهما وقصة آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة تكررت في المكي والمدني من القرآن العظيم ، أما قصص سائر الأنبياء فلم تكرر إلا بالمكي منه على التفصيل وقد يأتي ذكرها في المدني في بعض السور إشارة وإلماعا بسائق تعداد ما وقع للأنبياء مع قومهم وسياق تعداد فضائلهم وما منحهم اللّه من الكرامات ، وسنأتي على بيان هذا ان شاء اللّه عند ذكر كل قصة «إِذْ رَأى ناراً» حال مجيئه وأهله من مدين بلدة شعيب عليه السلام وذهابه إلى مصر لزيارة أمه وأخيه «فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا» مكانكم هذا لا تبرحوه ، وكان الوقت ليلا وشتاء باردا «إِنِّي آنَسْتُ» أبصرت ما يؤنس به ورأيت هناك «ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ» شعلة تستدنؤن بها ، وقد جمع الضمير لأنه كان مع أهله ولد وخادم أو على طريق التفخيم كقوله :
وإن شئت حرمت النساء سواكم «أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» 10 نهتدي به إلى الطريق لأنهم ضلّوه بسبب ظلمة الليل ، وكأن اللّه تعالى أنطقه بهذا اللفظ إلى التوصل للهدى الحقيقي الذي هو سبب تشريفه بالنبوة العظمى والرسالة الكبرى ، وكان كذلك لأنه عليه السلام لما قضى الأجل إلى عمه السيد شعيب كما سيأتي ذكره في الآية 49 من سورة القصص الآتية فما بعدها ، وتزوج ابنته وبقي مدة بعد زواجه بها ، استأذنه بالرجوع إلى مصر بلده ومسقط رأسه فخرج بأهله ونعمه ، وأخذ يمشي بهم على غير الطريق المسلوكة ليلا لئلا يتعرضه أحد لعدم أمن الطريق ، وكانت امرأته في شهرها(2/189)
ج 2 ، ص : 190
لا يدري أتضع ليلا أم نهارا ، فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن بالنسبة له ، لأن الجبل لا يمين له ولا شمال ، فأخذ امرأته الطلق وولدت ، فجمع حطبا وصار يقدح زنده (وتسميه العامة زنادا ويقال أورى إذا قدح ، وصلد إذا لم يقدح) فلم يور فنظر إلى جهة الطور ، فإذا هو بنور ظنه نارا ، وما أحسن هذا الضلال إذ كان فيه الهدى ، وكان ابن الفارض رحمه اللّه ألمع إلى هذا بقوله :
ما بين ظال المنحنى وظلاله ضل الميتم واهتدى بضلاله
وما أحسن هذا الجناس والمقابلة بين ظال وضل وظلاله وضلاله
«فَلَمَّا أَتاها» أي النار التي رآها عن بعد ليقتبس منها فنأت عنه ، فنأى عنها ، فدنت إليه ، فوقف متحيرا ، إن أقدم إليها تأخرت وإن تأخر عنها دنت منه ، فعند ذلك «نُودِيَ» من قبل حضرة القدس «يا مُوسى 11 إِنِّي أَنَا رَبُّكَ» وهذا هو الإرهاص بعينه ، راجع معناه في بحث الوحي في المقدمة ، وذلك لأنه لم يتنبأ بعد حتى تظهر له الخوارق على طريق التحدي الذي هو من شأن النبوّة ، فوقف ولم يعلم ما يفعل ، فأمره ربه بقوله «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» لتباشر رجلاك الأرض المقدسة فتصيبها بركة الوادي الذي هو فيه إذ انتشر فيه نور الإله ، وإجلالا لنور تلك الحضرة المقدسة ، إذ لا يليق أن يخوض ذلك النور وهو متنعّل.
وما قيل إنها كانتا من جلد حمار ميت فغير ثابت ، وما استدل به على هذا في الحديث الذي أخرجه الترمذي بسنده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : كان على موسى عليه السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبّة صوف وكمة صوف (أي قلنصوة صغيرة) وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار.
ولم يذكر فيه أنه ميت والرواية التي فيها لفظة ميت غريبة لم تثبت ، وأنه عليه السلام خلعهما حالا وطرحهما وراء الوادي ، يدل على هذا قوله عز قوله «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» 12 فإن هذه الآية جاءت تعليلا لذلك الأمر ، إذ لا ينبغي أن يداس هذا الوادي المقدس بنور الإله من قبل أحد ما وهو متنعل «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ» من قومك ومن الناس أجمعين ، لأن أشرفك بنبوتي ورسالتي وأرسلك لهداية خلقي «فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى » 13(2/190)
ج 2 ، ص : 191
إليك فيما يتعلق بأمرها ، قال وهب بن منبه : قال موسى عليه السلام بعد أن وطنه ربه بما تقدم من النداء والأمر والاصطفاء رب إني اسمع كلامك ولا أراك ولا أعلم مكانك ، فأين أنت رب ؟ فقال يا موسى أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي» وحدي فأنا المستحق للعبادة وأرفض ما سواي ، فإنهم خلقي وصنع خلقي.
مطلب جواب إمام الحرمين عن المكان ورفع الأيدي إلى السماء :
يروى أن إمام الحرمين - رفع اللّه درجته في الدارين - نزل ضيفا عند بعض الأكابر ، فاجتمع عنده العلماء فقام واحد من المجلس وقال له : ما الدليل على تنزيه اللّه تعالى عن المكان وقد قال (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) ؟ فقال : الدليل عليه قول يونس عليه السلام في بطن الحوت فتعجب الحاضرون ، والتمس صاحب البيت بيان ذلك ، فقال الإمام إن في الباب فقيرا عليه ألف درهم أدّها عنه وأنا أبيّن لك ذلك ، فقبل ، فقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما عرج به إلى ما شاء اللّه من العلى قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
ولما ابتلى يونس بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الآية 87 من سورة الأنبياء في ج 2 ، فكل منهما خاطب الإله بقوله أنت خطاب الحضور ، فلو كان هو في مكان لما صح ذلك ، فدل هذا على أنه جلت قدرته ليس في مكان بل هو في كل مكان بآثاره وصفاته وأنواره ، لا بذاته ، كما أن الشمس في كل مكان بنورها وظهورها لا بوجودها وعينها ، ولو كان في كل مكان بالمعنى الذي أراده بعض الجهلة لقيل أين هو ، كان قبل خلق هذه العوالم ، ألم يكن له وجود متحقق ؟ فان قالوا لا ، فقد كفروا ، وإن قالوا بالحلول والانتقال فكذلك ، لأن الواجب لا يقارن الحادث إلا بالتأثير والفيض وظهور الكمالات فيه ، لكن لا من حيث أنه حادث مطلقا ، بل من حيث أن وجوده مستفاض منه ، ولعلك تقول أيها المعترض لما ذا ترفع له الأيدي نحو السماء إذا لم يكن فيها ، فاعلم أيها(2/191)
ج 2 ، ص : 192
العاقل هداك اللّه لتوفيقه وأرشدك لسلوك طريقه ، أن معنى رفع الأيدي إلى السماء هو طلب الاستعطاء من الخزانة التي نوه بها في قوله عز قوله (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية 23 من الذاريات في ج 2 ، وقوله جل قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) الآية 21 من سورة الحجر في ج 2 أيضا ، وإن الذي استوى على العرش هو مظهر الصفة الرحمانية ، ومن أثبت له مكانا بالمعنى المعلوم فهو من المجسمة ، واللّه منزه عن الجسم اه بتصرف عن روح البيان.
هذا ولما سمع موسى عليه السلام هذا النداء المتكرر والأمر بالاستماع عقبه الأمر بالعبادة ، علم بإلهام اللّه إياه أن ذلك لا يكون ولا ينبغي أن يكون إلا من اللّه ، وأيقن به ، وتأهب لمقام الهيبة والجلال لاستماع الأمر العظيم الذي أمره به ، واعترف له بالعبودية وأصغى لما يكون بعدها من الأمر ، قال تعالى «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» 14 خاصة لأني ذكرتها في الكتب القديمة وأمرت اخوانك الأنبياء بإقامتها فأقمها مثلهم.
هذا ، ومن قال إن المراد بهذا الأمر ، إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها ، أي اقضها ، لا وجه له ، لأن الصلاة لم تفرض عليه بعد حتى يعلمه ما يتعلق بها.
مطلب فضل الصلاة الفائتة :
ان ما احتج به هذا القائل في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذلك.
وتلا قتادة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) وفي رواية عن أبي هريرة أنه صلى اللّه عليه وسلم نام عن صلاة الصبح فلما قضاها قال : من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها.
وفي رواية إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها ، فإن اللّه عز وجل قال (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) لا يصح دليلا على ما نحن فيه لما قدمناه ، وإنما يصح دليلا لنا إذا قدر مضافا محذوفا أي لذكر صلاتي ، وقد ظن هذا القائل أن الحديث لو لم يحمل على هذا لم يصح التعليل به ، وهو من بعض الظن ، لأن التعليل صحيح من غير أن يحمل الحديث على الآية ، وأنه عليه السلام أراد بهذا الحديث أنه إذا(2/192)
ج 2 ، ص : 193
ذكر الصلاة انتقل من ذكرها إلى ذكر ما شرعت له ، وهو ذكر اللّه تعالى المأمور به في هذه الآية ، فيحمله على إقامتها لاشتمالها على الذكر ، وقد صادف هذا البحث حادثة غريبة عن التفسير المبارك مناسبة للمقام فأحببت ذكرها ، وهي اني كنت في المحكمة في الساعة الرابعة من يوم الخميس 1 جمادى الآخرة سنة 1357 واشتغلت كعادتي في هذا التفسير وأجهدت نفسي في مطالعة التفاسير في آية الاستواء المارّة ولم أحس بأني لم أصل الظهر إلا عند كتابة هذه الأحاديث ، وكان العصر يؤذن فتفاءلت بها بأن اللّه تعالى لم يؤاخذني وتسليت بما وقع لحضرة الرسول يوم الخندق ويوم الأحزاب ، وإلى سليمان في حادثة الخيل وقد ألمعنا إليها في الآية 33 من سورة ص المارة ، لأنه لم يفتني والحمد للّه وقت قط ، فمقت وصليت الظهر ثم العصر واستغفرت اللّه تعالى من هذه الغفوة ، ثم عدت لما أنا فيه قال تعالى «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ» لا محالة لأن خراب الكون متوقف عليها ، وجاء بذكر الساعة هنا لأن قوم موسى الذي أمره اللّه في هذه الآية بدعوتهم للايمان ينكرونها ، لأن فرعون وقومه القبط يعبدون الأوثان ، ولأن الاعتقاد بوجودها من أصول الدين ومتعلق آمال الموحدين ، جعلها اللّه في الدرجة الثالثة إذ ذكرها بعد توحيده وإقامة الصلاة لذكره ، وأكدها بحرف التوكيد ، وكأن موسى عليه السلام تشوف ليعلم وقت مجيء الساعة لأن من أرسله إليهم ينكرونها أسوة بمن تقدم من الكفرة أمثالهم فقال تعالى «أَكادُ أُخْفِيها» حتى عن نفسي فكيف أظهرها لك أو أظهرك عليها وكيف يعلمها مخلوق وهي من خصائص الخالق ، وهذا جري على عادة العرب المنزل عليهم هذا القرآن بلغتهم ، إن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان السر قال كدت أخفيه عن نفسي ، ويؤيد هذا التفسير الذي اخترته على غيره قوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث الذين يظلهم اللّه تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها (عن نفسه) حتى
لا تعلم شماله ما تنفق يمينه - مبالغة في الإخفاء - وبه قال ابن عباس وجعفر الصادق ، أما ما جاء في مصحف أبيّ ومصحف ابن خالويه وعبد اللّه بزيادة (فكيف أظهرها) فليس من القرآن وإنما هو من تفسيرهم لهذه الآية إذ كانوا يكتبون بهامش مصاحفهم أو بين(2/193)
ج 2 ، ص : 194
سطوره ما يقفون عليه من بعض الكلمات التي يتلقونها من حضرة الرسول أو مما اجتهادهم لمعناها ، ومن شواهد قوله :
أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر
وقبل إن خبر كاد محذوف تقديره آتي بها على حد قول صائبي الرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل ثم استأنف وقال وليتني وليس بشيء ، وما جرينا عليه أو هذا ، وقد ذكرت غير مرة أن كل قراءة فيها زيادة حرف أو نقصه على القرآن الذي بأيدينا لا عبرة بها ، ولا تجوز قراءتها لأن هذا القرآن هو بعيد أنزله اللّه لا زيادة ولا نقص فيه.
واعلم يقينا أن كل ما نقل عن بعض العلم القراء زيادة كلمة أو حرف على ما في القرآن هي شروح وتفاسير كتبها القائلون بها على هوامش مصحفهم ليس إلا ، إذ لا يجوز أن يقال في بعض المصاحف زيادة أو نقص على بعضها قطعا ، والقول به حرام راجع تفسير الآية 19 من سورة الحجر في ج 2.
وبحث القراءات في مطلب الناسخ والمنسوخ في المقدمة المارة.
قال تعالى «لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى » 15 تعمل في هذه الدنيا إن خيرا فخير وإن فشر «فَلا يَصُدَّنَّكَ» يا رسول «عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها» من قوم فرعون وغيرهم الجاحدين وجودها المتوغلين في الغفلة المعنيين بقوله «وَاتَّبَعَ هَواهُ» بما تسول له نفسه من النزغات الشيطانية واللذات البهيمية والشهوات الخسيسة فتصده عن الإيمان بها «فَتَرْدى » توقع نفسك في الردى والهلاك ، لأن إغفالها إغفال تحصيل ما ينجي من هولها.
ثم أراد جل شأنه أن يريه آية على رسالته فقال «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى » 17 وهذا سؤال لتقرير الحكم منه أن يوقفه أولا على ماهية ما بيده وينبهه على ما يريد بها وما سيظهره له بها من العجائب ، حتى إذا صيّرها لا يهوله أمرها ، ويوطن نفسه عليها ، وليعلم أنها معجزة له وبرهان على نبي «قالَ هِيَ عَصايَ» أضافها لنفسه لأنها بيده.(2/194)
ج 2 ، ص : 195
مطلب عصا موسى وإعطاء محمد من نوع ما حدث للرسل وأعظم :
قيل كان للعصا شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة ، أخذها من بيت شعيب عليه السلام ، وقيل إنها من آس الجنة وقد هبط بها آدم عليه السلام.
واعلم أن زيادة التاء قبل الياء لحن ، قالوا أول لحن وقع في العرب (هذه عصاتي) ثم بيّن ما يروم بها عفوا فقال «أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها» أي أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه «عَلى غَنَمِي» فترعاه ، وهذا معنى الهش «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى » 18 كحمل الزاد وشد الحبل عند استقاء الماء من البئر وقتل الهوام ومحاربة السباع وتعليق الثوب بها للاستظلال تحتها وغيرها ، ولكنه عليه السلام لم يعلم المأرب الأعظم الذي يريده اللّه تعالى بها وهو معجزته العظيمة التي يرفع اللّه بها شأنه ، ويهدي بها قومه «قالَ أَلْقِها يا مُوسى » 19 لأريك ماذا أريد بها مما لا يقع ببالك بما يؤول إليه عزّك وسلطانك وإنقاذ قومك وإرشادهم «فَأَلْقاها» ليرى الذي يريده ربه منها «فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى » 20 تمشي بسرعة وقد سماها اللّه ثعبانا في الآية 107 من الأعراف المارة ، وجانّا في الآية 10 من سورة النحل الآتية ، والحية تطلق على الصغيرة والكبيرة ، لأنه أول ما ألقاها رآها بنظره صغيرة ، ثم انتفخت حتى صارت كأعظم ثعبان ، تلقف الحجر وتبلع الشجر وتلقم ما تراه ، فترعب من لا يعرف الرعب ، فخاف منها وتباعد عنها موليا إذ رأى ما لم يكن بالحسبان ، فأراد ربه أن يوطنه ويؤمنه
«قالَ» يا موسى إرجع إليها وادن منها «خُذْها وَلا تَخَفْ» منها ، لأنها حجة لك على صحة دعوتك عند ما يطلب منك برهانا لتقوية دعوتك على عدوك ، أما وقد أطلعناك على ما ينجم من إلقائها فاعلم يا رسولي أننا بمطلق مناداتك لها (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى ) 21 التي كانت عليها قبل الإلقاء ، فأخذها ، فعادت كما هي عصا ، ثم نبهه على آية أخرى برهانا على نبوته أيضا بقوله «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ» اجعلها تحت إبطك ، والجناح لغة اليد والعضد والإبط والجانب ، وهو حقيقة في الطير ثم توسع فيه فأطلق على اليد ، وسمي جناحا لأنه يجنح بالطائر فيميله إذا طار ، ثم أخرجها «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص(2/195)
ج 2 ، ص : 196
والسوء يطلق على العيب ، والبرص لا اعيب منه ، وهو بياض شديد يضرب إلى الحمرة أعيا الأطباء زواله ، فأدخل يده اليمنى تحت إبطه الأيسر وأخرجها فإذا هي تبرق بياضا ناصعا مع أنها سمراء ، فقال له انظر هذه «آيَةً أُخْرى » 22 على صدق دعوتك إلى القبط وقومك ، وهاتان الآيتان توطئة «لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى » 23 الدالة على عظمتنا ، راجع الآية 129 من الأعراف المارة وما بعدها ، تقوية لجنانك وتكريما لجنابك ، فتقابلهم بالجزم والعزم لأنك مستند إلينا في دعوتك ، فلا تخش تهويلهم فإنهم مغلوبون ، ولا يخفى أن كل آية آتاها اللّه رسله ، فقد أعطى من نوعها رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأعظم ، وقد قال في حقه (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) الآية 18 من سورة النجم المارة ، ووجه أفضليتها ، أن معجزاته عليه السلام هذه كانت في الأرض ومعجزة محمد صلى اللّه عليه وسلم في السماء ، والفرق بينهما كالفرق بين الأرض والسماء ، ويقابل معجزة اليد في الأرض نبع الماء من إصبعه في غزوة تبوك فقد شرب الجيش منه ، ورمي التراب في وجوه القوم في غزوة أحد فانهزموا ، وتسبيح الحصى في يده ، وذر التراب على رؤوس شبان المشركين يوم أحاطوا به ليقتلوه فخرج من بينهم ولم يروه ، وسنأتي على تفصيل هذا كله وغيره في موضعه إن شاء اللّه في القسم المدني.
هذا ، وبعد أن شرفه اللّه بالنبوة وقوى عزمه بما منّ عليه من تلك المعجزات ، وشحه بالرسالة العظمى وقال له «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى » 24 وبغى وتجاوز الحد في التّمرد وحتى ادعى الإلهية بطرا ، ودعته نفسه الخبيثة إلى هذا التجبّر والتكبر الذي لم يسبقه به إلا أخوه نمرود ، الآتية قصّته في الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2 ، وفرعون علم لملك مصر واسمه الوليد بن الريان ، ولما رأى موسى فضل ربه عليه وعطفه ولطفه به استمطر خيره ، وطلب من فيضه ما ألهمه به «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» 25 وسّعه لتحمل مشاق سيئي الأخلاق وإملائه معرفة بك وعرفانا منك لأجابهه بقوة سلطانك وعظمة قهرك «وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» 26 بالوصول إليه وسهل لي كل صعب ألاقيه في طريقي إليه وفي مقابلتي له «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي 27 يَفْقَهُوا قَوْلِي» 28 لأعبّر عما في جناني بطلاقة وفصاحة لمن أرسلتني إليهم(2/196)
ج 2 ، ص : 197
ولأبلغ رسالتك على الوجه الأتم الأكمل ، وسبب حصول هذه العقدة على ما قيل ان موسى عليه السلام لما كان في حجر فرعون حال صغره لطمه ، وأخذ بلحيته فتطيّر منه وهم بقتله فمنعته زوجته آسيا رحمها اللّه قالت له أتركه فإنه لا يعقل ، وجربه إن شئت ، فقال كيف وقد فعل ما فعل ؟ فقالت على رسلك وانظر ، فوضعت في طست جمرا وتمرا وياقوتا وقدمته له ثم أشارت إليه أن يأخذ أحدها فأراد أن يأخذ الياقوت ومد يده إليها فحرفها جبريل عليه السلام إلى الجمر فأخذ جمرة ووضعها في فمه فحرقت لسانه وسببت هذه العقدة فيه ، فلما رأى فرعون ذلك تركه إذ ظهر له ما قالت آسيا رحمها اللّه.
واعلم أن هذه ليست من العيوب المستحيل وجودها في الأنبياء لأن ثقل اللسان قد لا ينقص قدر الإنسان ولا يخل في أمر التبليغ وليس فيه ثغرة ، بل قد تكون مما يستعذب في بعض الاشخاص ولا سيما في حضرة السيد موسى عليه السلام ، وما قيل إن هرون أفصح منه ، فمن هذه الجهة ، وإلا فهو على غاية من الفصاحة والبلاغة ، وقول فرعون (وَلا يَكادُ يُبِينُ) الآية 53 من سورة الزخرف في ج 2 تمويه على قومه ليصرفهم عنه ليس إلا ، وقد ذكروا أنه كان في لسان المهدي المنتظر
مجيئه حبسة ، وقد جاء في فضله ما لم يحصره القلم ، لأن فصاحة الذات لا يقاومها إعراب الكلمات ، وفي هذا قال :
سر الفصاحة كامن في المعدن لخصائص الأرواح لا في الألسن
وقال الآخر :
لسان فصيح معرب في كلامه فياليته في موقف الحشر يسلم
وما ينفع الإعراب ما لم يكن تقى وما ضرّ ذا التقوى لسان معجم
والمراد باللسان الآلة الجارحة نفسها ، وفسره بعضهم بالقوة الناطقة القائمة فيه ، والفقه العلم بالشيء والفهم له ، وقال الراغب هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد ، فهو أخص من العلمقال تعالى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي» 29 يعاونني في أعباء ما كلفتني به ، فالوزر بكسر فسكون ، بمعنى الحمل الثقيل.(2/197)
ج 2 ، ص : 198
مطلب الوزير والوزر دائرة بلطف اللّه بموسى واجابة مطالبه : ؟ ؟
وسمي القائم ببعض الأمور الملكية وزيرا لأنه يحمل عن الملك بعض ثقلها ، أما الوزر بفتحتين فراجع معناه في الآية 11 من سورة القيمة المارة ، ثم بيّن الوزير الذي يريده بقوله «هارُونَ أَخِي 30 اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي» 31 قوّ به ظهري وأحكم به قوتي ليساعدني على مهمتي «وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» 32 الذي شرفتني به ، وهو الرسالة ليقوم مقامي عند غيابي في إرشاد من أرسلتني إليهم ، ويعاضدني في حضوري عند دعوتي إليهم ، هذا وإن موسى عليه السلام أول من طلب هذا الطلب من ربه فأجابه :
وإذا سخر الإله سعيدا لأناس فإنهم سعداء
«كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً» 33 أنا وإياه ليل نهار «وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً» 34 وهذه غاية للأدعية الثلاثة في هذه الآية ، لأن انضمام فعل هرون لعمل موسى مكثر له ومؤيد «إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً» 35 عالما بأحوالنا مشاهدا لها وإن ما دعوتك به مما يصلحنا ويقوينا ، لإنفاذ أمرك ويسهل علينا تبليغ رسالتك ، فأجابه جلت إجابته بقوله «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى » 36 كله فقد أزلنا العقدة من لسانك ونبأتا أخاك هرون وجعلناه معاونا لك تتقوى به كما طلبت ، وهذا دليل كاف على رسالة هرون عليه السلام ، فلا وجه لمن نفاها لأن السؤال معاد بالجواب قال تعالى «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى » 37 قبل هذه المنن الثلاث بلا سؤال منك ، إذ لم تكن إذ ذاك مميزا إذ كنت في بدء رضاعك ، وقد خافت أمك من اطلاع قوم فرعون عليك فيأخذونك ويقتلونك ، ثم بين تلك المنة بقوله عز قوله «إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى » 38 بأن ألهمناها وأنت جنين حينما كانت خائفة من وضعك أن يكون نصيبك نصيب أمثالك من القتل ، حين ولادتك ، لأن فرعون كان يقتل المولودين أمثالك ، ما يحفظك به منه ، فأشرنا لها «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ» بعد أن ولدته وقد حفظناك من شرطة فرعون ، لعلمنا بأن أمك لا تزال قلقة من أجلك ، والتابوت(2/198)
ج 2 ، ص : 199
هو الصندوق ، واليم البحر بالسريانية والعبرية والعربية ، وكل نهر كبير يسمى يمّا كالنيل ودجلة والفرات وغيرها ، وقد أعلمناها بأنا حافظوه مما تخاف عليه ، ونتيجة هذا الإلقاء وهو «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ» لأنا أمرنا البحر أن لا يأخذه بل يطرحه على الشاطئ قريبا من فرعون «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ» وهو فرعون إذ يمر قسم من النيل في داره ، وكان ذلك ، ولما رأى فرعون ذلك التابوت رسا في ساحله ، أمر الجواري بإخراجه ، فأخرجوه ففتحه فإذا فيه غلام ألقى اللّه محبته في قلبه ، بحيث لم يتمالك نفسه وعقله من فرط محبته له ، وذلك قوله تعالى «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» وأنساه اللّه في تلك الساعة أمره بقتل الأولاد ليتم مراد اللّه فيه ، وأمر بتربيته في حجره ، قال تعالى «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» 39 ترّبى بمرأى مني عند عدوك وعدوّي ، وإني مراقبك ومراعيك كما يراقب ويرعى الرجل الحريص شيئا بعينه ، ولكن شتان بين مراعاتي ومراعاة عبدي ، واذكر يا موسى ترادف منني عليك «إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ» مريم بنت عمران وهذه التي شبهت بها مريم أم عيسى عليه السلام في الآية 28 من سورة مريم المارة ، لما بين الاثنتين من الشبه في العفة والطهارة والكرامة والمحتد وعلو النّسب والحسب ، وذلك أن أمك بعد أن طرحتك في اليم ضاق ذرعها ، فأرسلتها لتعرف خبرك لشدة ما حل بها من الخوف عليك ، فوجدتك في بيت فرعون يتحرون لك ظئرا ، فألهمناها أن تتطفل بالكلام «فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ» يقوم بإرضاعه وتربيته كما تريدون ، وذلك لأنه أبى قبول ثدي المرضعات اللاتي أحضرنهن له ، كما سيأتي في الآية 12 من سورة القصص ، فقالوا لها نعم ، فأحضرت لهم أمك ، فأخذت ثديها وأعماهم اللّه ربك عن التحقيق عنها فلم يعلموا أنها أمك وهذه أعظم منة عليك وعليها «فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ» على فراقك ولتربيك في حنوها ، إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم ، إلا رأفة ربك على عباده ، ورأفة الرسول على أمته ، «وَ» من جملة ألطافي عليك ، أنك بعد أن كبرت «قَتَلْتَ نَفْساً» من قوم فرعون سنأتي قصته في الآية 69 من سورة القصص(2/199)
ج 2 ، ص : 200
الآتية «فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ» الذي لحقك بسبب قتله ، وآمنّاك من القصاص «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» في الوقوع من محنة إلى أخرى ، لأنك ولدت في السنة التي يذبح بها فرعون المواليد ، ثم ألقيت في البحر تخلصا من القتل ، ثم التقطك عدوك الذي قتل الألوف ليحظى بقتلك ، ثم حرمنا عليك المراضع حتى أحضرنا لك أمك فربتك في بيت عدوك ، ثم لطمت فرعون وأخذت بلحيته حتى هم بقتلك ، فنجيناك بما ألهمنا آسية زوجته ، ثم قتلت القبطي انتصارا لرجل من قومك ، ثم هاجرت إلى مدين خوفا من فرعون وآله «فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ» اسم لجد القبيلة ، سميت باسمه وهي واقعة على بحر القلزم محاذية لمدينة تبوك الواقعة بين الشام والمدينة على بعد ست مراحل منها ، وقيل هي في كورة مصر أو بين دمشق وفلسطين ، وقد شدّدنا هذا التشديد ، وامتحناك
هذا الامتحان ، وغفرنا لك ما وقع منك في الدنيا ، وسنثيبك الثواب العظيم في الآخرة ولتعلم بأنا منجوك وناصروك من جميع محن الدنيا ، وهذا من نعمتنا الجزيلة عليك تمهيدا للنعمة الكبرى التي هي الرسالة المؤيدة بالآيات العظام والتي يؤول أمرها إلى دار السلام ، فنزلت عند نبيّنا شعيب ، فزوجك ابنته وأكرم مثواك «ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى » 40 وهو بلوغك رشدك وأشدك وهو سن الأربعين المقدر في علمنا تتويجك فيه بالرسالة ، وكان مكثك عنده ورعيك لأغنامه وتزويج ابنته انتظارا لهذا الوقت والموعد والمكان الذي خصّصته لك لتلقّيها
«وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» 41 خاصة فقد اخترتك لتنفيذ أمرى ، وأهلتك لتلقي وحيي ، وجعلتك قائما بحجتي.
مطلب لا صحة لما ورد من أن اللّه لم ينبىء نبيا إلا بعد الأربعين :
قالوا كان عمره عليه السلام حين هاجر اثنتي عشرة سنة ، وبقي راعيا عند شعيب عشر سنين ثم تزوج بنته في هذه السن ، وبقي بعد زواجه ثماني عشرة سنة ، ثم أخذها وسافر إلى مصر بعد إكمال الأربعين ، وهي السن التي يتمكن معها أمثاله من تحمل خطاب اللّه تعالى ، عدا يوسف عليه السلام فإنه نبىء في البير لثماني عشرة سنة من عمره ، كما جاء في الآية 22 من سورته في ج 2 ويحيى في السابعة من عمره سمي نبيّا(2/200)
ج 2 ، ص : 201
في الآية 12 من سورة مريم المارة ، وعيسى نبيّء في المهد كما تشير إليه الآية 30 من سورة مريم أيضا ، فيكون عمره واللّه أعلم إذ ذاك أربعين يوما ، أي حين مغادرتها بيت لحم محل ولادته ، ولهذا فإن ما ورد في الحديث بأن اللّه تعالى لم ينبىء نبيا أو يرسل رسولا إلا بعد الأربعين سنة من عمره لا صحة له لمخالفته نص القرآن كما هو مبين في الآيات المشار إليها ، قال تعالى بعد أن أجاب طلبه وعدد نعمه عليه «اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ» إلى فرعون وقومه (بآياتي) التي أظهرتها لك والتي سنظهرها بعد علامة على رسالتك «وَلا تَنِيا» تقصّرا أو تفترا أو تنأخرا «فِي ذِكْرِي» 42 بل داوما عليه حال دعوتكما له ومجداني بما يليق بجلالي واذكرا عظمتي» وعزتي وكبريائي وصفاتي الجليلة واسمائي الحسنى وأفعالي الجميلة عند تبليغ الرسالة فرعون لكما عليها وهذا ملاك ذكر اللّه «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى » 43 على عبادي وتجبر عليّ ولكن عند ما تكلمانه تقدما اليه بالنصح وتلطفا به وتعطفا عليه «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» من غير تعسف ولا عنف وقد أجدر بالقبول من جهة ، ومن اخرى جزاء حق تربيته لأحدكما وإكراما لمقامه بين قومه ، وفائدة أخرى وهي «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ» في وعظكما ويتأمل معناه عله يذعن للحق الذي أمرتماه به «أَوْ يَخْشى » 44 عاقبة الأمر فيسلم لكما على رغبة فيما يراه ورهبة مما يتوقعه ، وإنما ذكر اللّه رسوله بهذا وأمرهما بالتراخي وعدم الغلظة دفعا للحجة وتقديما للمعذرة ، وإلا فهو عالم أنه لا تنفعه الذكرى لأن إرسال الرسل إلى من يعلم أنهم لا يؤمنون لالزام الحجة عليهم ، وقطع طرق المعذرة لهم راجع الآية 144 من الأعراف المارة ولمعناها صلة في الآية 134 من هذه السورة ، هذا ، وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ (فَقُولا لَهُ) إلخ فبكى وقال إلهي هذا رفقك بمن قال أنا الإله ، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله «قالا
رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا» فلا يقبل منا ويعجل عقوبتنا قبل إتمام الدعوة إليه لأن الفرط هو ما يتقدم الشيء «أَوْ أَنْ يَطْغى » 45 علينا فيتجاوز الحد ويقول في شأنك مالا ينبغي أن يقال وهو أعظم من التفريط بحقنا والافراط بما يقع منه علينا(2/201)
ج 2 ، ص : 202
«قالَ لا تَخافا» من هذين الأمرين ولا من غيرهما «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ» دعاء كما فأجبيه «وَأَرى » 46 ما يراد بكما إن كان خير فأمضيه وان كان شرا فأمنعه «فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» إليك أمرنا أن نقول لك «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» بالأشغال الشاقة كحفر الآبار وقطع الأشجار ونقل الأحجار والخدمة الشاقة وغيرها «قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ» عظيمة «مِنْ رَبِّكَ» تثبت صدقنا ، وهذا إيذان بأن دعواه الربوبية زور ، إذ لا ربّ إلا اللّه ، وتنويه بكذب دعواه إياها أمام قومه ، لذلك سكت عن هذه الجهة ، لأنه يعرفها ، وقال لها ما هي الآية ، فأخرج له موسى يده لها شعاع كالشمس ، فأعرض عنهما ولم يلق لهما بالا ولم يلتفت لتلك الآية ، فقالا له «وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى » 47 الذي يأتيه من ربه وليس المراد سلام التحية ، إذ لا محل له هنا بل سلام المتاركة المار ذكره في الآية 42 من سورة مريم أي الأمن من العذاب في الدارين لمن يهتدي بالهدى ثم قالا له «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا» من قبل اللّه الذي أرسلنا إليك «أَنَّ الْعَذابَ» في الآخرة «عَلى مَنْ كَذَّبَ» باللّه ورسوله وكتبه «وَتَوَلَّى» 48 أعرض عن ذلك «قالَ» فرعون بعد أن رآهما جاهرا بذلك وعلم أن قومه أصغوا لقولهما «فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى » 49 إضافة إليهما لغاية عتوه ونهاية طغيانه.
وخص موسى لأنه علم أنه الأصل وهرون تابع له «قالَ رَبُّنَا» ربي ورب أخي وربك ورب الناس أجمع «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجونه من أمر دينهم ودنياهم «ثُمَّ هَدى » 50 كلا
إلى ما يحتاج إليه وما خلق له ، وألهم كل واحد كيفية نفعه وقيل أن خلقه بمعنى صلاحه ، أي أعطى اليد البطش ، والرجل المشي ، والعين النظر ، والأذن السمع ، واللسان النطق ، ثم هدى كلا إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح والأخذ والعطاء.
وقيل أعطى كل شيء خلقه أي اعطى الرجل زوجة من جنسه ، وهكذا كل حيوان ، وألهم كلا كيف يأتي زوجته ، والأول أولى.
«قالَ فَما بالُ» حال وأصل البال الفكر ، (2/202)
ج 2 ، ص : 203
يقال خطر ببالي كذا.
أي فكرت به ، ثم أطلق على الحال التي يعتريها وهو مفرد لا يثّنى ولا يجمع ، وشذّ قولهم بالآت ومن هذا قول بعض الناس عند خروجه من مجلسهم ، خاطركم أي أبقوني في بالكم لا تذكروني الّا بخير ، أي إذا كنت رسولا وتدعي وجود إله غيري أخبرني عن أحوال «الْقُرُونِ الْأُولى » 51 التي كانت تعبد الأصنام وتنكر البعث ، لأنا على طريقتهم ، وهذا على طريق المحاجّة معهما «قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» لأنه عليه السلام لم يعلم شيئا عن أحوالهم ولم يعلمه ربه أخبارهم والتوراة لم تنزل بعد عليه لذلك رد العلم إلى اللّه وأكده بقوله إن أخبارهم كلها مدوّنة «فِي كِتابٍ» عند ربي «لا يَضِلُّ رَبِّي» شيئا منها «وَلا يَنْسى » 52 ما يستحقونه من ثواب وعقاب ، ونظير هذه الآية في المعنى الآية 45 من سورة الكهف في ج 2 ، فهو «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» فراشا ومنه المهد السرير للطفل ، فهي مهد الأحياء والأموات «وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» طرقا بين الأودية والجبال كما في السهل ليتيسر لكم المشي فيها «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» فيه حياة كل شيء لكمال المنافع.
ثم التفت من الخطاب إلى التكلم فقال «فَأَخْرَجْنا بِهِ» بذلك الماء «أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» 53 مختلف اللون والطعم والرائحة والشكل والمنفعة «كُلُوا» أيها الناس ما تشهون منها «وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ» مما يصلح لها منه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي ذكرته لكم «لَآياتٍ» عظيمات «لِأُولِي النُّهى » 54 العقول تنهاهم عن عبادة غير الإله الواحد ، وعن جحود البعث والنبوة ، وتأمرهم بالإيمان بذلك.
وسمى العقل نهى لأنه ينهى صاحبه عما يضره مادة ومعنى ، وعقلا لأن يعقل صاحبه عما نهى اللّه ورسوله ، وحجى لأن يحاجج به ويدعم حجته لإلزام الخصم ، وإدراكا لأن يدرك به الحسن من القبيح والضار من النافع ، وحجرا لأنه يحجر صاحبه عن الوقوع في المهالك ، والحجر بمعنى المنع.(2/203)
ج 2 ، ص : 204
مطلب لكل نفس حظ من نشأة آدم ، وقبر الإنسان من محل الذرة التي خلق منها :
واعلموا أن هذه الأرض التي فيها منافعكم في الدين «مِنْها خَلَقْناكُمْ» أي خلقنا أصلكم آدم ، لأنه من ترابها ، أو لأن النطفة من الأغذية والأغذية من الأرض ، فيشمل خلقكم منها أيضا أو من ضمن خلق آدم ، لأن كل فرد من البشر له حظ من خلقه ، لأن فطرته لم تقتصر عليه فهو أنموذج منطو على فطرة سائر البشر انطواء الجنس على أفراده انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل ، فكان خلقه منها خلقا للكل ، يشهد عليه قوله تعالى «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» الآية 98 من ج 2 ، راجع تفسير الآية 9 من سورة مريم المارة في هذا البحث.
وقيل إن اللّه تعالى إذا أراد تكوين النطفة من الرحم أمر الملك الموكل بذلك أن يأخذ ذرة من التراب الذي تدفن فيه فيذرها في النطفة فتخلق منها ومن التراب قال تعالى (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) الآية الأخيرة من سورة لقمان في ج 2 ، لأنها لا تدري من أي ذرة من ذرات الأرض تكونت ، وقيل في هذا المعنى :
إذا ما حمام المرء كان ببلدة دعته إليها حاجة فيطير
وقال الآخر :
مشيناها خطا كتبت علينا ومن كتبت عليه خطا مشاها
وأرزاق لنا متفرقات فمن لم تأته منّا أتاها
ومن كانت منيّته بأرض فليس يموت في أرض سواها
ومن علم أن اللّه قادر على كل شيء لا يستبعد هذا لأن العقائد لم تقتصر على المحسوسات وليس كل ما يقوله العقل جائزا على اللّه ، تدبر قول ابن الفارض رحمه اللّه :
واني وان كنت ابن آدم صورة فلي منه معنى شاهدا بأبوتي
«وَفِيها نُعِيدُكُمْ» نقبركم إذا متم كما أن من تأكله الطيور والوحوش والحيتان ومن يموت حرقا وغرقا تضمه الأرض ايضا لا يفلت منها أحد ، لان مصير الكلّ التراب وهو من الأرض حيث تنظم تلك الذرات الطائرة والمأكولة إليها ، ثم(2/204)
ج 2 ، ص : 205
يعيدها اللّه إلى جسمها يوم البعث المذكور بقوله تعالى «وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى » 55 بعد الموت والاندراس نحييكم للحساب والجزاء ، قال تعالى «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها» المبينة في الآية 106 فما بعدها من الأعراف المارة التي أظهرها اللّه على يد موسى عليه السلام ، وما قص عليه من آيات الأنبياء قبله التي أهلك بها أقوامهم بإلهام من اللّه تعالى بعد ما وقع منه في الآية 52 المارة لأنه لم يكن يعلم شيئا عنها ولم يخبره بها ربه ، ودام يدعو فرعون وقومه عشرين سنة ولم ينجع به ، حتى أراه آية انفلاق البحر ، ولما لم يرتدع أغرقه ومن معه فيه.
مطلب معجزات موسى وأدب الرسل مع أقوامهم :
ولسيدنا موسى آيات أخر مع قومه بني إسرائيل أولها انفلاق البحر الذي نجاهم اللّه من الغرق فيه وأغرق أعداءهم ، ثم ضربه الحجر وانفجاره اثنتي عشرة عينا من الماء ورفع الجبل فوقهم لما أبوا الأخذ بأحكام التوراة والمن والسلوى والغمام في أرض التيه ، وإحياء الميت في قضية البقرة ، وخسف الأرض بقارون ، وآيات أخرى كثيرة نأتي على ذكرها في تفسير الآية 101 من سورة الإسراء الآتية إن شاء اللّه قال تعالى «فَكَذَّبَ» فرعون ما أريناه من الآيات «وَأَبى » 56 عن الايمان برسولنا وأصر على كفره «قالَ» محاججا لموسى ومنددا به «أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى » 57 وتتغلّب على مصر وما فيها ، ويكون لك ملكها ؟ كلا لا نتابعك «فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ» ندفع به الذي جئتنا به من اليد والعصا لأن هذا كان بعد إراءته هاتين الآيتين ، ولهذا قال «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً» أجلا وميقاتا نتقابل به ونتبارى «لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» 58 غير هذا المكان عدلا سويا كبيرا لا يحجب الناظرين عما يقع فيه ليشهدوا بما يروا فيظهر الأمر للناس كلهم وإذ ذاك يعلم الغالب أنحن أم أنتم فضرب موسى طلبه ورضي بحكمه و«قالَ مَوْعِدُكُمْ» على جهة التعظيم أو لأن الخطاب له ولملأه ، والأول أولى بأدب الرسل لأنهم لا يقابلون(2/205)
ج 2 ، ص : 206
إلا بالأحسن ولأن الخبيث يعظم نفسه بكلامه فيقول نحن ولم يقل لموسى أنتم مع أنه أولى منه بالتعظيم من جهة ولأن الخطاب له ولهرون بل قال أنت راجع خطاب سيدنا إبراهيم مع أبيه في الآية 45 فما بعدها من سورة مريم ومخاطبة الأنبياء مع أقوامهم في الآية 58 فما بعدها من سورة الأعراف المارتين «يَوْمُ الزِّينَةِ» العيد حيث يجتمع فيه القريب والبعيد من الحاضرة والبادية ولقب بالزينة لأن الناس يتزينون فيه عادة كل بحسبه وقدرته «وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» 59 أي والوقت الذي يجتمعون فيه من ذلك اليوم ضمان لانه أبعد عن الريبة وأبين للحق حتى لا يقول الناس كان الوقت ليلا فلم نر الغالب أو الوقت حرا فلم نتمكن فيه من الحضور ، فرضي فرعون بما ذكره موسى «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ» بعد الموافقة على الموعد والمباراة «فَجَمَعَ كَيْدَهُ» سحرته الذين يريد بهم كيد موسى «ثُمَّ أَتى » 60 بهم ممتّعين بأدواتهم في الموعد والمكان صباحا واجتمع الناس وجاء موسى وأخوه وتداول مع السحرة وباشر بنصحهم
«قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ» ما هي هذه العصي والأخشاب والحبال التي جئتم بها لتقابلوا عظمة اللّه تعالى ارجعوا «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بهذه الأشياء وإنّ شعوذتكم وأخذكم أبصار الناس بدمدمتكم لا تغنيكم شيئا من أمر اللّه الذي هو معي ، وإن لم تنتهوا «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» عظيم لا تقدرون أن تتخلّصوا منه يعدمكم فيه ويهلككم ، لأن سحركم بمقابلة آياته بهت وافتراء «وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى » 61 على اللّه الكذب وخسر ، فانظروا ما أقول لكم وتداولوه بينكم لئلا يحلّ عليكم عذاب اللّه إن أصررتم على ذلك ، وقد أعذر من أنذر.
ولما سمعوا منه ما سمعوا تداولوا بينهم وتذاكروا بشأنه وماهيّته ولم يتفقوا «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» قال بعضهم ما هذا بساحر ولا قوله قول ساحر ولا هو معتمد على السحر ، وقال آخر كلا إنه ساحر ومن عادة السحرة التمويه بالكلام وادعاء ما ليس عندهم تهويلا ، ثم كثر اللغط بينهم «وَأَسَرُّوا النَّجْوى » 62 أخفوها بينهم وهي عبارة عن الإقدام لمباراته أو الإحجام عنها ، ثم اتفقوا على مناظرته على أنه إذا كان ساحرا غلبناه بكثرتنا ، وإن كان(2/206)
ج 2 ، ص : 207
ما معه من السماء فلنا أمر آخر ننظر به ، وكلمة أسرّ ، من الأضداد ، بمعنى أخفى وأظهر ومثلها أودعت بمعنى دفعت الوديعة وقبلتها ، وأطلبت بمعنى أحوجته إلى الطلب وأسعفته بما طلب ، وأفزعت بمعنى أحللت فيهم الفزع وأخرجتهم إلى الفزع ، وأشكيت بمعنى أحوجتهم للشكاية ، ونزعت عن الأمر الذي شكوني به وهكذا كثير ، وبأثناء المناجاة «قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى » 63 أي شريعتكم الحسنة الفضلى التي لا أمثل منها ، تبعا لقول فرعون الآنف الذكر وإظهارا لطاعته في أمرهم به ، وإن هنا مخفّفة من الثقيلة وأسمها ضمير الشان ، وعلى هذا المصاحف ، وقرىء (إن هذين) إلخ بأعمال إنّ و(إِنْ هذانِ) إلخ على أن إن بمعنى نعم كقوله :
ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنّه
وقرىء إن بمعنى ما النافية ، وعليه فتكون اللام في (لساحران) بمعنى إلا ، كالتي في الآية 104 من الأعراف المارة ، أي ما هذان إلا ساحران ، قراءات أربع أرجحها الأولى على قراءة عاصم ورواية حفص وابن كثير والخليل ، ثم قال بعضهم لبعض بعد انتهاء النجوى ومراجعة فرعون «فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا» واحدا على قلب واحد ومقصد واحد ، لأنه أهيب لكم بأنظار المجتمعين ، ولا تتفرقوا بالرأي والإقدام «وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى » 64 على خصمه فإنه يربح ويفوز بالمرتبة العظمى من الملك ويكسب حمد الناس أجمع ، وهذا من جملة ما تشاوروا به ، ولما أجمع أمرهم على المقابلة «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» ما لديك أولا لنلقي عليه ما يبطله «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى » 65 ما لدينا ثم تلقي أنت ما تراه مبطلا لعملنا ، وقد استعملوا مع موسى الأدب بتفويض الأمر إليه ، لأنه حين المداولة شكّوا في كونه ساحرا مثلهم ، وظنّوا أن ما عنده من اللّه فاختاروا تقديمه احتراما له ، ولكن اللّه تعالى ألهمه بأن يتقدّموا بما عندهم أولا ليظهر اللّه سلطانه بقذف الحق على الباطل ليمحق إفكهم ويزهق باطلهم ويعلي شأن رسوله على الناس ، ولو ألقى هو أولا ثم ألقوا بعده لما ظهر للناظرين شيء(2/207)
ج 2 ، ص : 208
له شأن ، بل لبقيت عصاه حية كما هي عليه ، وبقيت عصيهم وأخشابهم وحبالهم على ما هي عليه أيضا ، لأنها لا تؤثر في عصا موسى ، ولقال الناس إن كلا من الطرفين أتى بشيء عجيب ولكن لم يغلب أحد الآخر ، وإذا أراد اللّه أمرا هيأ أسبابه ووفق إليه أحبابه «قالَ بَلْ أَلْقُوا» ما عندكم فألقوه «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ» وإلى الناس أجمع «مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى » 66 فرأوا الأرض امتلأت حيات وروابي ، وأخذوا أعين الناس بما صاروا يدمدمون ، حتى بهت الكل مما رأوا وتطاولت أعناق فرعون وملئه «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى » 67 من أن يلتبس على الناس الأمر فيصدقوا بعمل السحرة ويشكوا في أمره ، لأن ما جاءوا به من جنس معجزة موسى من جهة العصا وزيادة عليها الأخشاب والحبال التي صارت كالجبال ، فأوحى اليه ربه بأمره «قُلْنا لا تَخَفْ» مما تصورته ورآه الناس من عمل السحرة «إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى » 68 القائمة بالعلو عليهم ، الظافر الغالب حسبما هو مقدر في أزلنا «وَ» لأجل أن يعلم الناس والملك واتباعه غلبك عليهم وصدقك ويؤمنوا أن ما جاء به السحرة شعوذة لا قيمة لها ، لأنها زائلة ، وان ما جئت به هو من عند اللّه لا سرية فيه ، وليذهب من قلوب الناس ما تصوروه وما القى من الخوف في قلبك خشية ميل الناس إليهم وتصديقهم ، ولاظهار إخفاقهم «أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ» عصاك لم يسمها تعظيما لها وليعلمه أنها أعظم مما جاءوا به كله ثم بشره ليزداد طمأنينة بقوله «تَلْقَفْ ما صَنَعُوا» من الإفك الذي سحروا به أعين الناس ، فتلتقم الزئبق الذي دسوه فيها حتى أروهم الحبال والعصي حيات ، والأخشاب جبالا وتبتلعه ، وأكّد له هذا على طريق الحصر بقوله عز قوله «إِنَّما صَنَعُوا» من إراءة الجبال حيات والأخشاب جبالا هو «كَيْدُ ساحِرٍ» حيله ومكره لا حقيقة لها ، وكل عمل يقوم به الساحر غير دائم «وَلا
يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى » 69 أينما أقبل وحل فتكون عاقبته الخسران والخيبة ، فألقاها فكان ما كان كما أخبر اللّه ، فعجب الناس وذهب بهم العجب أقصاه إلى حد لم يخطر ببال ، ولم يتصوره أحد ، ورأى السحرة ما هالهم أمره ، (2/208)
ج 2 ، ص : 209
وتيقنوا أن هذا من قبل اللّه ، وأن موسى ليس بساحر ، فلم يسعهم إلا أن وقعوا على الأرض خاضعين للّه مخبتين كما أخبر عنهم بقوله عز قوله «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً» على الأرض وبلسان واحد «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى » 70 وانقدنا لأمرهما ، وأخر موسى رعاية لسجع الآي ، على أن الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا أي برب موسى وهرون ، كما مر في سورة الأعراف في الآية 122 التي ذكرنا فيها هذه القصة إلا انها كررت هنا بأوسع مما هناك.
مطلب قوة الإيمان وثمرته :
قال جار اللّه الزمخشري سبحان اللّه ما أعجب أمرهم.
قد القوا حبالهم وعصيهم والجحود ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة بالشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! فذهب الغيظ بفرعون أقصاه «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» بالايمان به ولهذا أقول «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» وأنتم تلاميذه فيه «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» اليد اليمنى مع الرجل اليسرى وبالعكس مبالغة في الضرر «وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» جزاء عملكم هذا ، وفي هنا دالة على الاستعلاء لأن حروف الجر تخلف بعضها كما قدمناه في تفسير الآية 104 من سورة الأعراف المارة «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً» نحن فرعون ملك مصر أم موسى وهرون الذين آمنتم بهما «وَأَبْقى » 71 أدوم هددهم بهذا لأنهم خذلوه خذله اللّه وعلى أمل أنهم يرجعون عن إيمانهم «قالُوا» بلا خوف ولا جزع «لَنْ نُؤْثِرَكَ» مهما كنت وملكك فلا نفضلك ولا نختارك أبدا «عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ» الواضحات على صدق موسى وأخيه «وَالَّذِي فَطَرَنا» لا نفعل ذلك ولا نرجع عن إيماننا حيث تبين لنا أنك مبطل بدعواك الربوبية وأن إله موسى هو الإله الحق الذي لا رب غيره لهذا الكون وقد اقسموا على أحقية موسى لأنهم رأوا الحق معه وقد حلت بهم الهداية ومن يهد اللّه فلا مضل له ، وجواب(2/209)
ج 2 ، ص : 210
القسم مقدم عليه وهو لن نؤثرك ويجوز العطف على ما جاءنا وعليه يكون المعنى لن نختارك على ما جاءنا ولا نختار عبادتك على عبادة الذي خلقنا والاول اولى قيل انهم لما سجدوا كشف اللّه عن بصيرتهم قرأوا منازلهم في الجنة لذلك صارحوه بقولهم «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» به من تعذيبنا لنلحق بربنا ، فإنك «إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا» 72 الفانية التي لم يبق لنا بها رغبة ولم تعد تخالج قلوبنا رهبة مما فيها من العذاب بعد أن رأينا من إله موسى ما رأينا «إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا» السابقة «وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ» أيضا لعله يغفره لنا لأنا عرفنا موسى ليس بساحر حين المناظرة معه قبل المباراة ، وذلك أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى قائما ، فأراهموه ، فرأوا عصاه تحرسه ، فقالوا لفرعون إن الساحر إذا نام بطل سحره فهذا ليس بساحر ، وأرادوا الامتناع عن مناظرته ، فأكرههم عليها ، ولقد تناجوا فيما بينهم وتنازعوا ولم يلقوا له بالا ولم يؤثر فيهم تهديده ، فقالوا «وَاللَّهُ خَيْرٌ» ثوابا وأعظم عقابا منك «وَ» خيره «أَبْقى » 73 وأدوم من خيرك لأنه باق ، وخيرك وشرك زائل ، والخير الباقي خير من الفاني ، والشر الفاني أهون من الباقي وهذه الجملة بمقابلة «أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى » قال الحسن رض اللّه عنه سبحان اللّه لقوم كفارهم أشد الكافرين كفرا ثبت في قلوبهم الإيمان بطرفة عين ، ولم يتعاظم عندهم أن قالوا لفرعون في أبهته «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» في ذات اللّه ، واللّه ان أحدهم (يريد أهل زمانه) اليوم ليصحب القرآن ستين عاما ثم يبيع دينه بشيء حقير.
هذا قوله رضي اللّه عنه في زمنه قبل الف ومئتى سنة وكسور ، فكيف بأهل زماننا هذا الذي عمّت فيه البلايا وكسرت به الرزايا ، وقل فيه الحياء ، وازداد فيه العناء وكثر فيه الشقاء ، فالتّقي يعاب ، والشقي يهاب ، وصاحب الحق مقصور ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العظيم ، ثم أنظر رعاك اللّه كيف تنورت بصائرهم إذ قالوا له «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً» بما اكتسبه من أعمال قبيحة في هذه الدنيا «فَإِنَّ لَهُ» في الآخرة جزاء إجرامه «جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها» فيستريح من عذابها «وَلا(2/210)
ج 2 ، ص : 211
يَحْيى »
74 حياة طيبة تركن نفسه إليها ، تقدم نظيرتها من الآية 13 من سورة الأعلى المارة «وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً» في الآخرة «قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ» في دنياه علاوة على إيمانه «فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى » 75 ثم بين هذه الدرجات بقوله «جَنَّاتُ عَدْنٍ» خلود دائمة كثيرة «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» أبدا لا تحول لهم عنها وذلك الجزاء الحسن عند اللّه «جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» 76 في دنياه وتطهر من الشرك والمعاصي.
عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء.
وفي رواية : كما ترون الكوكب الدريّ ، وان أبا بكر وعمر منهم وأنعما.
يقال فلان أحسن من فلان وأنعم أي أفضل ، يعنى أن أبا بكر وعمر منهم وازداد تناهيا
الى الغاية فهما أهل لهذا ، انتهى ما حكى اللّه عن هؤلاء السحرة البررة أهل التقوى وأهل المغفرة الذين أصبحوا كفارا وأمسوا أبرارا ، قال تعالى «وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى » بعد أن حصل له اليأس من إيمان فرعون لعدم تأثير تلك الآيات العظام فيه وهي المار ذكرها في الآية 129 فما بعدها من سورة الأعراف بعد آيتي العصا واليد المارتين قلبها ، ثم بين ذلك الإيحاء بقوله عز قوله «أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل واترك فرعون وقومه لأنه مصر على الكفر «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً» لا ماء فيه ولا طين بمجرد ضربك يكون كذلك ، ثم سر أنت وإياهم فيه (لا تَخافُ دَرَكاً) من فرعون وقومه إن يلحقوكم «وَلا تَخْشى » 77 غرقا فيه أنت ولا قومك ، فامتثل أمر ربه وامر بني إسرائيل فتهيأوا وسار بهم إلى جهة البحر (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) حين بلغه أمرهم ولكنه لم يلحقهم حتى دخلوا البحر كلهم ، فدخله على أثرهم هو وجنوده فصار بنو إسرائيل يخرجون من الطرف الآخر والقبط يدخلون من طرفه الأول ، لذلك بقي منفرجا حتى لم يبق من بني إسرائيل نسمة فيه ، ولم يبق أحد من قوم فرعون خارجه ، لأن بني إسرائيل لما لحقهم القبط بقوا سائرين في البحر وتعقبهم القبط حتى توسطوه ليتم(2/211)
ج 2 ، ص : 212
مراد اللّه ، فأطبقه عليهم دفعة واحدة ، وذلك قوله تعالى ، «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» 78 كلمة تهويل لكيفية الفرق الذي أصابهم فعلاهم وغمرهم بأمواجه وزبده الناشئ من شدة تلاطم أمواجه بسبب انهيار المياه بعضها على بعض التي كان اللّه أوقفها كالجبال الشامخة ، حيث شق منها اثنى عشر طريقا لكل سبط طريق كما سيأتي بيانه في الآية 60 فما بعدها من سورة الشعراء الآتية ، لذلك ، بقي منفرجا على حاله ولم ينطبق شيئا فشيئا.
قال تعالى «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى » 79 نفسه ولا قومه الصواب وأكذب اللّه قوله «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» كما سيأتي في الآية 29 من سورة المؤمن من ج 2 ، ونجى اللّه موسى وقومه وصدق له وعده بإهلاك عدوه وإعلاء كلمته ، ثم شرع يعدد نعمه على بني إسرائيل فقال «يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ» فرعون وقومه الذين استرقوكم وأذلوكم «وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» حيث وعد اللّه موسى أنه يأتيه في ذلك المكان المبارك والبقعة المقدسة لينزل عليه التوراة ، وإنما نسب المواعدة إليهم لأن منافعها لهم إذ فيها عزهم وفوزهم وشريعتهم ومعالم دينهم «وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى » 80 راجع ماهيتها في الآية 160 من سورة الأعراف المارة ،
وقلنا لهم حينما طلبوا منا في التيه أكلا وشربا «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» من لذاته وحلاله واشربوا من الماء الذي انبعته لكم من الصخرة وتظللوا بالغمام الذي سخرناه لكم من دون كسب ولا تعب ، ولذلك سماه اللّه طيبا إذ لم تتطرق اليه الشبهة «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» فتتجاوزوا الحد الذي سننّاه لكم فتبطروا بسبب هذا الرزق الطيب المبارك فتكفروا بنعمته بعدم الشكر والرضاء أو تتقووا فيه على المعاصي فيزول عنكم «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي» عقوبتي لعدم تقديركم فضلي «وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى » 81 في النار وهلك هلاكا لا نجاة بعده «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ» كثير المغفرة كما إني شديد العقوبة على الكافر عظيم العفو «لِمَنْ تابَ» من الشرك والمعاصي «وَآمَنَ» بي وبرسولي وكتابي «وَعَمِلَ صالِحاً» بأداء ما فرضته عليه(2/212)
ج 2 ، ص : 213
والشكر بما أنعمت به عليه «ثُمَّ اهْتَدى » 82 بقي مستقيما على الحق شاكرا للنعم حتى الوفاة ، ثم ان موسى عليه السلام أمر قومه بالدوام على عبادة اللّه وأوصى أخاه هرون بمراقبتهم على النحو المبين في الآية 143 من سورة الأعراف المارة واختار جماعة من أشراف قومه ليذهب بهم إلى مناجاة ربه وتلقي التوراة الشريفة حسبما أمره بذلك وتقدمهم على أن يأتوا بعده على أثره ، ولما وصل وناجاه ربه بقوله «وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى » 83 وقد اخترتهم بأمرى ، وأمرتك أن تأتي بهم معك لأشرفك بكتابي «قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي» مقبلين إليك يا رب «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ» فقد مر عليهم يا «رَبِّ لِتَرْضى » 84 عليّ زيادة على رضاك وكان تقدمه عليهم بسائق شدة شوقه إلى مناجاة ربه ، وأمرهم أن يتبعوه دون توان ، وهذا هو الميقات الأول الذي ذكره في الآية 143 من سورة الأعراف المارة ، ولا ميقات غير هذين ، وقال بعض العلماء إن المواقيت أكثر من اثنين وأوصلها بعضهم إلى ستة ، ولكن لم أقف على ما يثبت ذلك ، لأن المواقيت التي عينها اللّه لموسى هي عبارة عن ميقات تلقي التوراة وميقات طلب المغفرة عن الذين عبدوا العجل فقط ، أما المواقيت التي ناجى بها ربه عفوا فقد تزيد على ذلك ، وسيأتي لهذا البحث صلة عند ذكر الآيات التي فيها ذكر الميقات إن شاء اللّه ، وبينما سيدنا موسى ينتظر تشريفه بكلام ربه من أجل التوراة ، وقد مضت ايام ولم تأت جماعته الذين اختارهم للحضور معه ، إذ باغته ربه بقوله جل قوله «قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» بسبب استعجالك ذلك «وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» 85 موسى بن ظفر وكان منافقا مظهرا للإسلام ، وهو من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة الموجود بقاياهم الآن في جبل نابلس ، قيل إنهم أربعون بيتا لم يزيدوا ولم ينقصوا حتى الآن حيث صاغ لهم عجلا وزعم أنه آلهتهم وأمرهم بعبادته راجع
كيفية صياغته وإضلالهم به في الآية 148 من سورة الأعراف المارة ، وإضافة الإضلال إلى السامري من قبيل اضافة الأشياء إلى مسبب في الظاهر ، أما في الحقيقة فإن الموجد لها في الأصل هو اللّه تعالى وحده.
ثم أمره اللّه أن يعود إليهم وينقذهم مما هم فيه ، (2/213)
ج 2 ، ص : 214
لأنهم عكفوا على عبادته ولم يصغوا ، لقول هرون ونقبائهم ، قال تعالى حكاية عن حال موسى عليه السلام بعد أن أنزل عليه التوراة الشريفة وأسمعه ما أسمعه من أمر قومه «فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً» شديد الغضب على ما فاته من كلام ربه وعلى ما وقع من قومه ، وكان حاملا صحف التوراة كما تفيده الآية 151 من سورة الأعراف المارة ، ولما وصل «قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً» بإنزال الكتاب عليكم ، قيل كانت ألف سورة وكل سورة ألف آية ، يحمل أسفارها سبعون جملا إلا أن ظاهر القرآن يخالفه ويفيد أن موسى حملها ، بدليل قوله (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) في الآية المارة وقوله (أَخَذَ الْأَلْواحَ) في الآية 152 من الأعراف أيضا.
ثم قال موبخا صنيعهم «أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ» بمفارقتي حتى فعلتم ما فعلتم ، ألم أترك عندكم من تسترشدون به ، أعصيتم أمره ، واشتد غضبه حتى ألقى الألواح على الأرض ، وزاد في تقريعهم فقال «أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي» 86 الذي أعطيتمونيه بأنكم تبقون على ديني حتى أرجع من ميقات ربي «قالُوا» الذين عبدوا العجل «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا» باختيارنا لأن السامري غلب على أمرنا بكيده ولو أنا ملكنا أمرنا لما خالفناك ، وان الذي يفتن لا يملك نفسه «وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً» أثقالا هو الحلي الذي استعرناه «مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ» القبط
حين خرجنا من مصر فعدها السامري علينا أوزارا وجمعه منا ، وأوقد نارا وألقاه فيها ، وبقينا ننتظرك حتى تحضر فنرى رأيك فيه ، ولم نعلم ما يكنّه لنا ولا ما يؤول إليه أمر الحلي «فَقَذَفْناها» في تلك النار تبعا لأمره «فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ» 87 ما معه في النار أيضا على زعمنا أن ما ألقاه من الحلي ، ولم نعلم أنه من تراب وطء فرس جبريل عليه السلام الذي كان احتفظ به قبلا لهذه الغاية «فَأَخْرَجَ لَهُمْ» للقائلين المذكورين «عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» صراخ وذلك بعد أن صاغ العجل من الحلي وضع فيه ذلك التراب «فَقالُوا» للسامري وجماعة من بني إسرائيل الذين انقادوا إليه «هذا» العجل الذي ظهر لكم من من حلي القبط «إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى »(2/214)
ج 2 ، ص : 215
الذي ذهب إليه «فَنَسِيَ» 88 غفل موسى عنه هنا ، وذهب إلى الطور بطلبه ، قال تعالى مبكتا قلة عقولهم «أَ فَلا يَرَوْنَ» يا موسى هؤلاء الجهلة العتاة «أَلَّا يَرْجِعُ» أن العجل الذي صاغه لهم السامري لا يرجع «إِلَيْهِمْ قَوْلًا» إذا كلموه ، ولا يجيبهم إذا دعوه «وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا» بدفعه عنهم «وَلا نَفْعاً» 89 بجلبه إليهم فكيف يعتقدون إلهيته «وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ» عبادتهم له عند ما أرادوا العكوف عليه حال وجودك في المناجاة «يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ» بإضلال السامري لكم بأنه إله فأعرضوا عنه فإنه ليس بشيء بعد «وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ» الذي هو أهل لأن يعبد وخص الرحمن من أسمائه تعالى ليستميلهم عنه ويعلمهم انهم إذا رجعوا يغفر لهم ما فرط منهم (فَاتَّبِعُونِي» على دين الحق دين موسى ، واتركوه فإنه ليس بإله ولا يليق أن يكون إلها «وَأَطِيعُوا أَمْرِي» 90 فيما نهيتكم عنه ، تأمل أيها القارئ هل ترى أحسن من هذا الوعظ ؟ بدا بزجرهم ، ثم دعاهم إلى معرفة اللّه ، ثم إلى معرفة النبوة ، ثم إلى اتباع الشرع.
وانظر كيف قابلوه
«قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى » 91 فاعتزلهم هرون ، والذين لم يشتركوا معهم في العبادة وقد سبب هذا الحادث تخلف الوفد الذي انتقاه موسى بحضور إنزال التوراة ، بعد أن أخبر اللّه موسى بهذا الحادث رجع إلى قومه حاملا التوراة ، فسمع صراخهم ، فقال هذا صوت الفتنة التي أخبرني بها ربي ، ورأى أخاه هرون واقفا مع جماعته بعيدا عنهم ، فألقى التوراة وبادر فأخذ شعر رأسه بيمينه وشعر لحيته بشماله «قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ» من المجيء إليّ واخباري بما فعلوا «إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا» 92 عن الهدى وعبدوا العجل ولم يصغوا لنهيك «أَلَّا تَتَّبِعَنِ» حالا فتعلمني بفعلهم «أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي» 93 بوجوب القيام بما يعلمهم ؟ وهذا أمر عظيم كان يجب عليك أن تتداركه قبل كل شي ءالَ يَا بْنَ أُمَّ»
يستعطفه ويسترحمه ليكف عنه ، ولم يقل يا بن أبي لما قاست أمه من الهم والغم والخوف بسببه ، فيحمله على العطف عليه فقال تلطف بي تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي»
لأني لم آل جهدا بنصحهم وصدهم ، فقد أمرتهم(2/215)
ج 2 ، ص : 216
وزجرتهم فلم يقبلوا منيِ نِّي خَشِيتُ»
إن تركتهم على ما هم عليه وأتيتكَ نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ»
لأنهم صاروا حزبين حزبا معي وحزبا مع السامري وبقيت معهم خوفا من أن تقول لي تركتهمَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي»
94 تراعيه وتعمل بوصيّتي فيهم ، لأني رأيت من المصلحة بقائي بينهم حتى لا يتقاتلوا من من أجل عبادته ، وأن لا يلحق من لم يعبده إلى من عبده.
فلما رأى موافقة قوله للواقع وانه لم يقصر في مهمته ، تركه ، وأقبل على السامري «قالَ فَما خَطْبُكَ» الخطب هو الأمر العظيم الذي يكثر التخاطب فيه وهو مقلوب الخبط ففيه اشارة لعظم خبط السامري في الأمر ، أي ما حملك على ما فعلت «يا سامِرِيُّ» 95 أصدقني «قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» علمت شيئا لم يعلمه بنو إسرائيل «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ» فرس «الرَّسُولِ» جبريل لأني رأيت المحل الذي يدوسه يخضر حالا ، فعلت أن لذلك شأنا ، وهذا هو الذي أشار اليه عن بني إسرائيل في قوله ما لم يبصروا به أي لم يفقهوه ولم يلقوا له بالا «فَنَبَذْتُها» أي تلك القبضة في جوف العجل الذي صنعته من حليّ القبط التي كانت مع بني إسرائيل جمعتها وألقيتها في حفرة لحضورك ، كي ترى رأيك فيها ثم عنّ لي أن أصوغها عجلا ، ففعلت ثم طرحت فيها ذلك التراب فدبت فيها الحياة وصرخ فقلت لهم هذا هو إله موسى الذي ذهب اليه فعكفوا عليه وصاروا يسجدون له كلما صاح ، وكان ما كان على النحو الذي تقدّم في القصة في تفسير الآية 48 من الأعراف «وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» 96 وزينته ولم يسبقني على ذلك أحد بل من اختراعي هذا ما أخبر به عدو اللّه السامري من صياغة العجل فمن أين جاز اليهود تحريفه ونسبته إلى هرون ، وحاشاه ، كما جاء في الإصحاح 22 من التوراة في فصل الخروج ، لأن اللّه أخبرنا بأن هرون براء من ذلك ، وان السامري معترف به ، واللّه أصدق القائلين.
وهذا من جملة التحريف الذي أوقعه اليهود وأخبرنا اللّه عنه في القرآن «قالَ» موسى بعد أن سمع قوله «فَاذْهَبْ» من بيننا «فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ» ما عشت «أَنْ تَقُولَ» لمن يريد أن يقربك(2/216)
ج 2 ، ص : 217
ولم يعرفك «لا مِساسَ» لا تمسني ، وذلك أن موسى عليه السلام حرم على الناس ملاقاته ، ومكالمته ، ومبايعته ، ومخالطته ومقاربته ، فصار يهيم بالبرية مثل الهوام ورماه اللّه بداء عضال عقام ، فكان إذا لمسه أحد أو لمس أحدا صمّا جميعا ، ولذلك نهى عن مقاربته ولمسه وهذه عقوبته في الدنيا وهي عقوبة وحشة جدا لا أعظم منها ، لأن الناس تحاموا عنه بالكلية وتقذروه قال «وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ» في الآخرة فستوافيه حتما وتذوق العذاب الأكبر على فعلتك هذه «وَانْظُرْ» أيها الخبيث المضل «إِلى إِلهِكَ» الذي صنعته «الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً» أنت ومن تبعك وداومتم على عبادته ، وأصل ظلت بلامين حذفت الثانية تخفيفا وقرأت بكسر الظاء بنقل حركة ما بعدها إليها أي أقسمت على عبادته «لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ» نذريه أمامك وأمامهم «فِي الْيَمِّ نَسْفاً» 97 لتعلموا أنه ليس بشيء ويظهر لكم ضلالكم فيه ثم شرع يوضح لهم الدين الحق فقال «إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ» وحده الذي يجيب دعاءكم ، ويدفع ضركم ، ويجلب لكم الخير «الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» خالق الكون وما فيه ، ومالك أمر الخلق
، المحي المميت المستحق العبادة والتعظيم ، لا معبود سواه ، ولا رب الا إياه ، الذي أنجاكم من الغرق وأغرق أعدائكم بآن واحد ، الذي «وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» 98 أي وسع علمه كل شيء ، لأن علما تمييز محول عن الفاعل والى هنا ما يتعلق بالميقات الاول.
مطلب من اين عرف جبريل السامري :
وهنا فائدة وهي أن لك أن تقول من أين عرف السامري جبريل حتى وقع منه ما وقع ؟ فأذكر لك ما قاله السيد إسماعيل حقي في تفسيره الكبير روح البيان وهو أن أم السامري حملته سنة قتل الأولاد من قبل فرعون كسيدنا موسى عليه السلام ، ولما وضعته خافت عليه الذبح فوضعته في غار وأطبقت عليه ، وتركته فيه ، فأمر اللّه جبريل عليه السلام أن يغذيه بأصابعه لبنا وعسلا وسمنا حتى نشأ(2/217)
ج 2 ، ص : 218
وصار من قوم موسى ، واسمه موسى بن ظفر السامري وصار يظهر الإيمان بموسى ويبطن الكفر به حسدا له ، ويرى جبريل حينما يأتي اليه لأنه يعرفه حق المعرفة لتوليه تربيته ، فانظر رعاك اللّه إلى هذا الذي رباه جبريل أقرب المقربين إلى اللّه من الملائكة ، والى موسى الذي رباه فرعون اكفر الكافرين باللّه ، تقنع قناعة تامة أن لا حول للعبد عما قدره اللّه له أزلا ، وقيل في هذين :
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيّرت عقول مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل
والحكمة من تربيته إظهار ما وقع منه مما هو مقدر في الأزل الذي هو غيب عما سوى عالم الغيب ، ليعلم الناس أن لا مضل لمن هداه اللّه ، ولا هادي لمن أضلّه ، وان ما يختص به بعض البشر من الأمور الدنيوية لا قيمة لها ولا تأثير لها في محو ما هو مكتوب ، ولا إثبات ما هو ممحو ، جفت الأقلام ورفعت الصحف بما هو كائن إلى يوم القيامة - راجع تفسير أول سورة نون المارة - قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما قصصنا عليك عجبا من أمر موسى وقومه والسامري مع قومه في غيابه «نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا أكرم الرسل «مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ» من أحوال الأمم الخالية وأنبيائهم والحوادث التي جرت بينهم «وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً» 99 كتابا فيه ذكر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، فهو جدير أن تتذكر به وتذكر به قومك ، وحقيق بأن يتفكر في معانيه من يتفكر ، ويعتبر فيها من يعتبر.
واعلم يا حبيبي أن «مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ» ولم يتعظ بما فيه فيأتمر بما أمر وينتهي عما نهى «فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً» 100 عظيما وإثما كبيرا
«خالِدِينَ فِيهِ» الذين أعرضوا عما فيه دائمين في عذابه «وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا» 101 ما حملوا به أنفسهم وأثقلوا به ظهورهم من جزاء الإعراض عن هذا القرآن حتى استحقوا الخلود بالنار عقوبة لهم ذلك العذاب العظيم والتوبيخ الأليم يكون لهؤلاء المعرضين عن ذكر اللّه «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» النفخة الثانية بدليل قوله تعالى «وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ» أمثال هؤلاء «يَوْمَئِذٍ(2/218)
ج 2 ، ص : 219
زُرْقاً
102 عيونهم وأبدانهم من هول وخوف ما يلاقونه من الشدائد ، لأن النفخة الأولى تكون للموت لا للحشر ، فلا وجه لقول من قال إن المراد بها الأولى ، وكلمة زرقا لم تكرر في القرآن «يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ» يتشاورون سرا عن مدة مكثهم في الدنيا ، فيقول بعضهم لبعض «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً» 103 من الليالي في برزخكم ما لبثتم غيرها ، استقصروا مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ أي القبر بعد الموت إلى البعث بالنسبة لما عاينوه من هول البعث ، قال تعالى «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ» في مشاورتهم عن مدة لبثهم وما يسرونه وما هو أخفى منه ومن غيره من جميع أحوالهم ، راجع الآية 7 المارة من هذه السورة «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً» أحسنهم قولا وأوفاهم عقلا ، وأوفرهم حسّا ، وأكبرهم رأيا ، وأكثرهم إدراكا «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» 104 ما لبثتم غيره ، قصر في عينه ما مضى في جنب ونسبة ما استقبل ، لأن ما دهمهم من الأهوال أنساهم مدة لبثهم فيها وإن ذلك ما بين النفختين إذ يرفع العذاب عنهم ، قال ابن عباس سأل رجل من ثقيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الجبال كيف يكون حالها في الآخرة ، فأنزل اللّه «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ» بعد هذه النفخة العظيمة التي تميت الخلق أجمع قبلها عدا ما استثنى اللّه ويراد بها النفخة الأولى ، «فَقُلْ» يا حبيبي لهذا السائل «يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» 105 يقلعها ويذريها بالهواء «فَيَذَرُها» يجعل أمكنتها «قاعاً صَفْصَفاً» 106 مستوية ملساء لا نبات فيها ولا غيره «لا تَرى فِيها عِوَجاً» انخفاضا وأودية وحفرا ومغاور «وَلا أَمْتاً» 107 ارتفاعا ولا صخورا ولا روابي ، والعوج بكسر العين هو ما لا يرى بالبصر بل بالبصيرة ، لأنه عبارة عما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المسافة الهندسية المدركة بالعقل ، فألحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك ، وبالفتح هو ما يدرك
بالبصر كعوج الجدار والعود ، وقيل لا فرق بينهما ويطلق كل منهما على الآخر حسيا كان أو معنويا.
والأمت هو التنور والشقوق في الأرض ومطلق الميل ، وله معان كثيرة غير هذه في اللغة ، وأطلقه بعضهم على الرابية وأسنده لابن عباس رضي اللّه عنهما «يَوْمَئِذٍ» يوم يكون النفخ والخسف(2/219)
ج 2 ، ص : 220
يخرج الناس من أجداثهم مهرولين «يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ» الملك الذي يدعو الناس إلى موقف الحشر فيسلكون وراءه طريقا «لا عِوَجَ لَهُ» فلا يزيغون عنه قيد شعرة يمينا ولا شمالا ولا يلوون على شيء أبدا تراهم كلهم سراعا مستوين «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ» هناك وذلت الأنفس وخضعت الجوارح «لِلرَّحْمنِ» الذي وسعت رحمته من في السموات والأرض «فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» 108 أصواتا دقيقة رقيقة في غاية الخفاء ، وتراهم من شدة الفزع وهيبة الموقف قد سكنت أصواتهم وضعفت قوتهم «يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم المهيب يلتمسون من يلوذون به ليشفع لهم ولكن «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ» لأحد ما ، من أحد ما «إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» 109 بذلك فهذا الصنف الجليل يشفع بإذن اللّه لمن يأذن له بشفاعته فالذي يأذن هو اللّه الذي «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» ما تقدم من أعمالهم الشافعين والمشفوع لهم وما تأخر وما استهلكوه في حياتهم وما خلفوه لاولادهم فانه جل وعلا يحاسبهم على ذلك كله لأنه محيط بهم كمحاسبة رجل واحد مثل طرف العين وهو عالم بما وقع منهم على الانفراد «وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» 110 أي لا يحيط علم الشافعين والمشفوع لهم بمعلومات اللّه الشاملة كما في الآية 98 المارة
«وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ» خضعت وذلت الخلق أجمع ، وهذا من إطلاق الجزء وارادة الكل ، ويسمى الأسير عانيا لذلته ، ومعنى القيوم القائم على كل نفس بما كسبت في دنياها لأنه حيّ حياة أبدية لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه وهم سائرون تحت مراقبته في هذه الدنيا ، ويوم القيامة يختص بالملك والقهر فتظهر إذ ذاك على الوجوه علائم السرور وإمارات الشرور «وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» 111 في ذلك اليوم الذي يقول اللّه فيه على ملأ الأشهاد لمن الملك اليوم ؟ فيسكت جميع الخلق ويحجبون حتى من التنفس فلا يستطيع أحد أن يحرك شفتيه ، ثم يقول ملك الملوك عزّت قدرته وتعالت عظمته : للّه الواحد القهار الآية 16 من سورة المؤمن في ج 2 ويقول جل قوله «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» باللّه(2/220)
ج 2 ، ص : 221
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في دار دنياه «فَلا يَخافُ ظُلْماً» من أحد ولا نقصا من ثوابه على عمله الصالح ولا زيادة في عقابه على عمله السيء «وَلا هَضْماً» 112 لشيء مما يستحقه من الخير أو الحسن ، بل يأخذه وافيا مضاعفا «وَكَذلِكَ» عطف على كذلك نقصّ أي كما أنزلنا على الرسل قبلك كتبا مقدسة «أَنْزَلْناهُ» هذا القرآن عليك وجعلناه «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك ليفهموه ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق البشر منزلا من ربهم «وَصَرَّفْنا» كررنا «فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ» بالأمور المخوفة كما كررنا فيه من الوعد بالأشياء المفرحة «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» الشرك ويجتنبون المحارم «أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» 113 يجدوا لهم ما يوقظهم من غفلتهم ويزيد في اعتبارهم عند سماع أسباب إهلاك من قبلهم اعتبارا يؤدي إلى التقوى ويرغب في الطاعة والاقتصار على التمسك بما أحل لهم والسلوك إلى توحيد اللّه «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ» عما يقول الجاحدون علوا كبيرا ، ثم التفت إلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم إذ علم وهو عالم من قبل أنه يبادر جبريل عليه السلام حين يلقي اليه الوحي فيقرأه معه قبل أن يفرع من قراءته عليه لشدة حرصه على حفظه ، وقال «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ» حين انزاله عليك فتقرأه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» من قبل أميننا جبريل بل اصطبر حتى يفرغ من تلاوته عليك ، ثم أقرأ أنت «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» 114 به وفهما بمعانيه وحفظا بمبانيه ، وذلك أن اللّه تعالى تكفل له بحفظه راجع الآية 67 من سورة القيامة المارة والآية 10 من سورة الحجر من ج 2 وإنما فعل حضرة الرسول هذا مع علمه بتكفيل اللّه تعالى له بحفظه وقراءته زيادة في حرصه عليه خشية النسيان عند الحاجة لبعض الآيات ، ولهذه المناسبة ذكره اللّه تعالى ما وقع لآدم عليه
السلام بقوله «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ» عهدنا لقومك في عالم الذّر الذي نقضوه ولم يحافظوا عليه بأن لا يأكل من الشجرة التي عيّناها له فأكل منها إنه نسى العهد الذي أخذناه وغفل عنه بتقديرنا عليه من الأزل ، وأما(2/221)
ج 2 ، ص : 222
أنت يا حبيبي فلا تخش النسيان لما نوحيه إليك لأنك محفوظ منه في هذا الشأن كما هو ثابت لك في الأزل ، وفي هذه الآية إشارة إلى قوله تعالى «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ» الآية 113 المارة ، أي أنا كررنا الوعيد لهؤلاء الجاحدين ذلك العهد لعلهم يرجعون اليه ، فلم يفعلوا ولم يلتفوا اليه ونسوه.
هذا وما قيل إن في هذا غضاضة في مقام آدم عليه السلام إذ جعلت قصته مثلا للجاحدين ، قيل لا مبرر له ، إذ لا يشترط أن يكون المشبه كالمشبه به من كل وجه ، ألا ترى أن الأصحاب لما قالوا لحضرة الرسول كيف نصلي عليك يا رسول اللّه قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل إبراهيم إلخ ...
، فهل يتصور أن إبراهيم أفضل من محمد وأن آل إبراهيم أفضل من آل محمد ؟ كلا ، لهذا فلا معنى لهذا القيل وقائله ، والتفسير على هذا الوجه هو الموافق لنفس الأمر لمناسبة السياق والسباق واللّه أعلم «فَنَسِيَ» آدم ذلك العهد وأكل من الشجرة ، وقيل في المعنى.
يا أكثر الناس إحسانا إلى الناس يا أحسن الخلق إعراضا عن الناس
نسيت وعدك والنسيان مغتفر فاغفر فأول ناس أول الناس
هذا وأن النسيان لا يوأخذ عليه بشريعتنا قال صلى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي ثلاث الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
ولعله هو من خصائص هذه الأمّة بدليل قوله رفع بما يدل على أن الأمم قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم يؤاخذون على ذلك كله ، وأن هذه الآية خصت بالعفو عنها ، إذ ما عموم إلّا وخصص ، وقد خص الأنبياء بالمؤاخذة على أشياء لم تؤاخذ بها أممهم ، ورحم اللّه القائل حسنات الأبرار سيئات المقربين «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» 115 ثباتا وحزما على ما عهدنا به اليه ، ولو صبر عما نهى عنه لكان من أولي العزم ولكن لم يرد اللّه منه ذلك ، بل أراد ما وقع كما وقع «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى » 116 عن السجود راجع قصّته في الآية 11 من الأعراف المارة (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حسدا منه على ما أنعمنا به عليك فتحذر منه «فَلا يُخْرِجَنَّكُما(2/222)
ج 2 ، ص : 223
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى »
117 أنت وزوجك وذريتك إذ يكون عيشك من كد يمينك وعرق جبينك ، فتزرع وتحصد وتطحن وتعجن وتخبز بعد أن كنت في غنى عن هذه الأتعاب ، ومن ضمن شقائك شقاء ذريتك من بعدك وزوجتك معك ، لأن شقاء الرجل شقاء لأهله وسعادته سعادتهم ، أسند جل شأنه الخروج إلى اللعين بسبب وسوسته لهما وقبولهما منه وإلا ففي الحقيقة هو الفاعل وحده ، وانما يؤاخذ الفاعل على ما نهي عنه بقصده ورغبته وبما أوتي من عقله بلزوم اجتناب القبيح وعمل المليح ، كما بيّنه في الآية 122 الآتية ، ثم بين فوائد بقائه في الجنة بقوله عز قوله «إِنَّ لَكَ» يا آدم مادمت في الجنة «أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى » 118 بل تأكل ما تشتهي وتلبس ما تريد بلا تعب ولا مشقة «وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى » 119 بل تشرب أنواع الأشربة اللذيذة وتستظل بظل دائم لا ترى وهج الشمس ولا حرها ، يقال ضحى الرجل إذا برز في الضحى فأصابته الشمس ، قال عمرو بن ربيعة في هذا :
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر
يخصر أي يبرد ، فهذه الأمور التي يدور عليها كفاف الإنسان مؤمنة لكما ، فلما ذا أخرجتما أنفسكما إلى مباشرتها بالتعب والمشقة بسبب عدم صبركما عما نهيتما عنه! «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ» ثم بين صفة هذه الوسوسة بقوله «قالَ» إبليس يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ» التي من يأكل منها لا يموت بل يخلد في الجنة «وَمُلْكٍ لا يَبْلى » 120 ولا يفنى زيادة على التخليد فيها أبدا فراق لهما ذلك وقالا بلى فما هو ؟ قال تأكلان من هذه الشجرة ولم يزل يحسّن لهما أكلها حتى أغراهما وغرهما
«فَأَكَلا مِنْها» مع كون علمهما بعداوة إبليس لهما بإخبار اللّه تعالى لهما نسيانا وغرورا من إبليس الذي القي الوسوسة لهما وأقسم بأنه ناصح لهما ولم يريدا بعملهما ذلك مخالفة أمر اللّه حقيقة ، لأن الحقيقة هي طبق مراد اللّه أزلا ومن تأمل هذا عرف أن لا دافع لقضاء اللّه.
فعجل اللّه عقوبتهما على هذه المخالفة الظاهرة لما أمرهما اللّه به «فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما» حال أكلهما بدليل العطف بالفاء(2/223)
ج 2 ، ص : 224
فأزيل عنهما لباسهما الساتر لهما فظهرت عورتهما فاستوحشا منظرهما «وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» بقصد سترهما إذ استبشعا ما رأياه من عورتهما ، ولم يكن لهما ما يسترانها إلا أوراق الجنة.
مطلب معصية آدم والحكم الشرعي فيها ومعنى القضاء والقدر.
«وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ» على هذه الصورة «فَغَوى » 121 ضل عن طريق الحق وأخطأ الصواب بمخالفته هذه فخسر الجنة والخلد فيها في الدنيا ، أمّا الآخرة فمضمونة له ، وكذلك خسر الملك الذي غرّرهما به إبليس مدة حياتهما وصار حالهما من الراحة إلى التعب ، ومن الصفاء إلى الكدر ومن الرفاه إلى الهم ، ومن الفراغ إلى الشغل ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن الصحة إلى المرض ، واعتراهما ما يعتري أهل الدنيا وفارقهما ما يعترى أهل الجنة.
الحكم الشرعي : قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال عصى آدم ولا يجوز أن يقال عاص لمن اعتاد المعصية لا لمن لم يعتدها ، كالرجل يخيط ثوبه فيقال خاط ثوبه ولا يقال له خياط.
وقد أجمع العلماء على أن ما وقع من آدم قبل النبوة بدليل قوله تعالى (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ) تجاوز عما وقع منه «وَهَدى » وفقه للهداية بأن علمه كلمات كما يأتي ذكرها في الآية 27 من البقرة في ج 3 وهي من حيث المعنى مثل هذه الآية ، إلا أن العطف جاء هنا يثم الدالة على التراخي ، أي اصطفاه نبيا بعد ما وقع منه ذلك ، وهناك بالفاء الدالة على الفور أي أنه تاب عليه حالا ، وعلى كل فالتوبة بعد وقوع المخالفة والنبوة بعدها ، وما جاء على غير هذا لا قيمة له ولا عبرة به روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احتج آدم وموسى «أي جادل وخاصم يقال حاججته جادلته فغلبته» فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة! فقال آدم أنت اصطفاك اللّه بكلامه وخطّ لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره اللّه علي قبل أن يخلقني بأربعين عاما ، فحج آدم موسى.
وفي رواية لمسلم : قال آدم بكم وجدت اللّه كتب التوراة قبل أن أخلق ، قال موسى بأربعين سنة ، قال وهل وجدته(2/224)
ج 2 ، ص : 225
فيها وعصى آدم ربه ؟ قال له نعم ، قال فهل تلومني على أني عملت عملا كتبه اللّه عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ قال رسول اللّه فحج آدم موسى عليهما السلام.
قال أبو سليمان الخطابي : يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر من اللّه على معنى الأجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدّره ، ويتوهم بعضهم أنه حجّ آدم موسى من هذه الوجهة ، وليس كذلك ، وانما معناه الإخبار عن تقدم علم اللّه بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم وصدورها على تقدير منه وخلقه لها خيرها وشرها.
والقدر أسم لما صدر مقدارا عن فعل القادر ، والقضاء في هذا معناه الخلق ، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم اللّه فيهم لهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وممارستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم ارادة واختيار ، لأن الزاني لا يزني إلا وهو راغب للزنا مختار فيه ، والشارب لا يشرب إلا وهو راغب فيه ، وهكذا ، فكيف يكون ذلك جبرا.
أخزى اللّه المعاندين إذا فالحجة انما تلزمهم من هذا الوجه والملامة تلحقهم عليها منه ، وجماع القول في هذا أن القضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمثابة البناء ، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ، وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن اللّه تعالى قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها ، فكيف يمكنه أن يرد علم اللّه فيه وأن يبطله بعلّة ذلك ، وإنما كان تناوله الثمر من الشجرة سببا لنزوله إلى الأرض التي خلق إليها ، وأنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى وأوقع لائمة موسى على نفسه ، ولذلك قال أتلومني على أمر قدره اللّه علي قبل أن أخلق بأربعين عاما ومن هنا حصل الاختلاف في عصمة الأنبياء.
مطلب في عصمة الأنبياء ووقتها فيهم :
واعلم أن خبط القول فيها على ما قاله الإمام فخر الدين الرازي يرجع إلى أربعة أقسام : الأول ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز في حقهم البتة.
الثاني ما يقع بالتبليغ فكذلك ممتنع في حقهم(2/225)
ج 2 ، ص : 226
حتى الخطأ والنسيان فضلا عن التعمد على الصحيح ، لأن الآية أجمعت على عصمتهم من الكذب ومواظبتهم على التبليغ والتحريض ، والا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ولا خطأ ولا نسيانا ، ومن الناس من جوز سهوا لأن الاحتراز منه غير ممكن وليس بشيء ولا عبرة ولا قيمة له.
الثالث ما يقع بالفتيا فقد أجمعوا أيضا على أنه لا يجوز قطعا خطاهم فيها ونسيانهم وسهوهم سواء ، فعدم جواز العمد من باب اولى ، وما أجازه بعضهم على طريق السهو لا صحة له ، لأن الفتيا من قسم التبليغ بالنسبة إليهم ، إذ لا فرق في وجوب اتباعهم في أفعالهم وأقوالهم.
الرابع ما يقع من أفعالهم.
قال الإمام الفخر والمختار عندنا أهل السنة والجماعة أنه لم يصدر منهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين تنبأهم ، لأن الذنب لو صدر عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة ، إذ قد يجوز حفظ البعض منها من اقتراف الذنب واسناد هذا إليهم غير جائز ، لأن درجتهم غاية في الرفعة والشرف ، ولو جاز صدوره منهم لأدى إلى عدم قبول شهادتهم ، ولوجب الافتداء بهم فيما صدر منهم وهو محال ، فيكونون وحاشاهم أقل حالا من عدول الأمة ، وهذا أيضا غير جائز ، لأن معنى النبوة والرسالة أن يشهد على اللّه أنه شرع هذا الحكم مثلا ، وهو يوم القيامة شاهد على الكل ، راجع الآية 40 من سورة النساء في ج 3 والآية 89 من سورة النحل في ج 2 تجد ما يتعلق في هذا البحث مفصلا ، وهذا ما عليه اجماع أهل السنة والجماعة ، أما ما قاله بعض المعتزلة بجواز صدور الكبائر منهم ، وما قاله بعضهم بمنع الكبائر وجواز صدور الصغائر منهم فقط على جهة العمد فلا عبرة به إذ لا مستند لهم به من الكتاب والسنة ، فضلا عن أنه مخالف لهما فضلا عن عدم اتفاقهم عليه ، لأن منهم الجبائي قال بعدم جواز صدور الكبيرة والصغيرة منهم موافقا لقول أهل السنة والجماعة ، الا أنه زاد إلا على جهة التأويل كما وقع لآدم عليه السلام من أكل الشجرة على أنها غير المنهي عنها إما لمظنّة الخلد وإما لملك ، ومنهم من جوز وقوعها سهوا وخطأ لا فرق عنده بين الكبيرة والصغيرة ، ومنهم(2/226)
ج 2 ، ص : 227
من منع وقوع الكل سهوا وخطأ وتأويلا ، وهو قال الشيعة ، فاذا علمت هذا فاعلم أنه قد ثبت ببديهة العقل ان لا شيء أقبح بمن رفع اللّه درجته وأعلى مقامه وائتمنه على وحيه ، وجعله خليفة في عباده وبلاده ، يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحا لغرضه.
واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة اللّه ، فلو لم يطيعوه هم لدخلوا تحت قوله تعالى «أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» الآية 44 من سورة البقرة ، وقد قال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» الآية 88 من سورة هود في ج 2 ، وقال تعالى «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» الآية 90 من سورة الأنبياء في ج 2 واللفظ للعموم فيتناول الكل ويدل على ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه ، فثبت لك من هذا ومما سيأتي في تفسير الآيات الآنفة الذكر أن الأنبياء كلهم فاعلون لكل خير تاركون كل شر ، وهذا ينافي صدور الذنب منهم ، كيف وقد قال تعالى (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) الآية 55 من سورة الحج في ج 3 ، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) الآية 33 من آل عمران ج 3 وقال في حق موسى (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) الآية 143 من الأعراف المارة وقال تعالى «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) الآيات 46 فما بعدها من سورة ص المارة) وهذه الأدلة القاطعة تدل على وصفهم بالاصطفاء والأخيرية صراحة وذلك كله ينافي اقتراف الذنب مهما كان بعد النبوة لا عمدا ولا سهوا ولا نسيانا ولا خطأ قال في بدء الأمالي :
وان الأنبياء لفي أمان عن العصيان عمدا وانعزال
وأن من خالف هذا الإجماع وتمسك بظاهر بعض الآيات كالآية المفسرة وقال بصدور الذنب منهم على طريق التأويل أو غيره فإن كلامه إنما يتم إذا أثبت بالدلائل أن ما وقع من آدم عليه السلام كان حال النبوة أو بعدها ، وذلك(2/227)
ج 2 ، ص : 228
محال قطعا لا دليل فيه ولا حجة له البته حتى لا يوجد نقل صحيح يستند إلى دليل والقاعدة إذا كنت ناقلا فصحة النقل ، وإلا فكلامك مردود عليك.
وإذا كان كذلك وهو كذلك فلم لا تقول إن ما وقع من آدم كان قبل النبوة ، وأن اللّه تعالى قبل توبته وشرّفه بالنبوة والرسالة ، فتطمئن وتنفي الشك من النفوس الخبيثة وتروضها على الطهارة والفضيلة وتنزه الأنبياء العظام عما لا يليق بمكانتهم ، فتحصل رضاء اللّه تعالى ، لأن رضاء الأنبياء في رضائه ، ولا توقع نفسك بسبب الوهم والشك بالهلاك بسبب ما تصمهم به مما ليس فيهم ، فتستوجب سخط اللّه باختيارك ورضاك ؟ قال القاضي عياض قد أخبر اللّه بعذره فقال «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» أي نسي عداوة إبليس له فقبل نصحه ونسي ما عهد اليه بشأنها وشأن الشجرة ولم ينو المخالفة ولم يستعملها ، ولكنه اغتر بحلف إبليس وظن أن أحدا لا يحلف باللّه كذبا وتأول أن المأكول منها غير المنهي عنها وإذا قلت حينئذ (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم ، فلو لم يكن لهم ذنوب فكيف يتوبون ويستغفرون ، فأقول بما أن درجة الأنبياء في الرفعة والعلوّ والمعرفة باللّه وسنة عباده وعظيم سلطانه وقوة بطشه مما يحملهم على شدة الخوف منه جل جلاله أو الإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم ، وأن تصرفهم بأمورهم ما لم ينهوا عنه ولم يؤمروا به وقد أتوه على وجه التأويل والسهو ، وقد تزودوا من الدنيا وأمورها المباحة ، فأوخذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها ، فهم خائفون وجلون على أنها تسمى ذنوبا بالإضافة إلى سمو منصبهم وعلو مكانتهم ، ومعاص بالنسبة لكمال طاعتهم وتمام انقيادهم إلى ربهم ، لأنها ذنوب كذنوب غيرهم التي يأتونها رغبة بلا تأويل ، وحاشاهم من ذلك ، وحاشاهم مما هنا لك.
هذا ، وقد اختلف في وقت العصمة : قالت الشيعة انهم معصومون من وقت الولادة ، وقالت المعتزلة من وقت البلوغ ، وقال أهل السنة والجماعة من وقت النبوة ، وقال بهذا القول الهزيل واليافعي من المعتزلة ، وهذا هو قول الحق الوسط وخير الأمور(2/228)
ج 2 ، ص : 229
أوساطها «قالَ» لآدم وزوجته حواء بعد أن انتهى أمد مكثهما في الجنة وحان أمر إقامتهما في الدنيا على أثر ما وقع منهما «اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً» انحدروا إلى الأرض لأن الهبوط معناه الانحدار من العلو إلى السفل على طريق القهر كهبوط الحجر ، وإذا استعمل في الإنسان فعلى طريق الاستخفاف به «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» بالتحاسد في الدنيا والاختلاف بالدين وفي أمر المعاش وإنما جمع ضمير بعضكم مع أن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن العداوة نشأت في ذريتهما لا فيهما ، وما قيل أن الخطاب لهما ولإبليس ينافيه قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» من كتاب ورسول وهذا الهدى إلى ذريتهما لأن إبليس مقطوع بعدم هدايته وعدم إتيان الهدى اليه بكتاب او رسول ، لأن اللّه تعالى حذر رسله منه وأمرهم أن يحذروا أممهم منه «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ» من كافة خلقي «فَلا يَضِلُّ» في دنياه «وَلا يَشْقى » 123 بآخرته وإبليس محروم ومقطوع له بالشقاء بالدنيا ومجزوم بعذابه في الآخرة ، قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
ولهذا البحث صلة في الآية 34 فما بعدها من سورة البقرة في ج 3 ، قال تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي» أي الكتاب المعبر عنه بالهدى الذي فيه ذكره ، وأعرض عن الرسول المذكر به «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً» في هذه الدنيا «ضَنْكاً» ضيّقة وضنك وصف يستوي فيه المذكر والمؤنث ، قال ابن عباس كل ما أعطي لعبد في هذه الدنيا قل أو كثر ولم يتق فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة ، وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة في الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكا لأنهم
يرون أن اللّه ليس بمخلف عليهم ما ينفقونه ، وينسون ما أنعمه عليهم ابتداء وقد ولدتهم أمهاتهم مجرّدين فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم باللّه.
وقال ابن جبير : يسلبه القناعة حتى لا يشبع فمع الدين التسليم والقناعة والتوكل فتكون حياتهم طيبة ، ومع الاعراض الحرص والشح فعيشته ضنك ، وحالته مظلمة ، كما قال بعض الصوفية لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته ، وتشوش عليه رزقه ولهذا قال تعالى «وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ(2/229)
ج 2 ، ص : 230
الْقِيامَةِ أَعْمى »
124 فاقد البصر لأنه يحشر على وجهه فلا يرى ببصره ما يراه غيره ، لأنه منكوس ، وإلا فإن اللّه تعالى يعيد للأعمى بصره يوم القيامة ، وكذلك مقطوع اليد والرجل وغيرها من القلعة بحيث يحشر كاملا كما ولد ، ونظير هذه الآية الآية 32 من سورة الفرقان المارة والآية 97 من سورة الإسراء الآتية ، قال بعض المفسرين فاقد الحجة جاهل بوجود الحق كما كان في الدنيا إذ يطلق على الجاهل في الأمر أعمى لأنه لا يعرف المخلص مما يقع فيه ، كما أن الأعمى لا يعرف الطريق إلى مبتغاه ، قال عليه الصلاة والسلام من لا يعرف اللّه في الدنيا لا يعرفه في الآخرة ، الا أن سياق الآية يؤيد التفسير الأول لموافقته لظاهرها وعليه المعول إذ لا يعدل عن الظاهر إلا عند إمكان التفسير به «قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى » اليوم في الآخرة «وَقَدْ كُنْتُ» في الدنيا «بَصِيراً» «قالَ كَذلِكَ» مثل ما فعلت بنا في الدنيا فعلنا بك في الآخرة حيث «أَتَتْكَ آياتُنا» فيها «فَنَسِيتَها» ولم تعمل بها ولم تتبع من أتاك بها «وَكَذلِكَ» مثل نسيانك هذا لآياتنا في الدنيا «الْيَوْمَ تُنْسى » 126 في الآخرة من خيرنا ، ولهذا حرمناك الآن نعمة النظر فيها جزاء وفاقا ، فتركك الآن على عماك الذي كنت عليه في الدنيا لأنك لم تستعمل نعمة النظر فيها بآياتنا ومكوناتنا ، فتعتبر وتؤمن بل حرفتها لغير ذلك «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الواقع بالمقابلة «نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ» في دنياه ولم يستعمل جوارحه فيما خلقت لها بل صرفها إلى المعاصي ولم ينتفع بالنعم التي خلقت لها «وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ» أما من آمن بها واستعمل جوارحه وحواسّه فيما خلقت لها ، فأولئك لم ننسهم من الرحمة ولم نحرمهم من الخير ، بل نرفعهم إلى الدرجات العلى مثل السحرة المار ذكرهم في الآية «70» من الأعراف والآية 73 من هذه السورة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى » 127 من عذاب الدنيا وأعظم مهما رأيتموه شديدا ، وأدوم لأن عذاب الدنيا له نهاية ولا نهاية لعذاب الآخرة فضلا عن فظاعته التي لا تكيف ، فان قلت قد ورد وان اللّه تعالى يري الكافر مقعده في الجنة ثم يدخله النار ليزداد عذابا على عذابه وحسرة على حسرته ، فمن يحشر أعمى لا يرى ذلك فيكون بحقه(2/230)
ج 2 ، ص : 231
أقل عذابا وحسرة ، قلت لأن اللّه تعالى يرد عليه بصره حتى يريه مقعده ذلك ، ثم يسلبه منه ، وكذلك الأصم والأبكم ، قال تعالى «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ» أي لا أسمع ولا أبصر منهم يوم يأتونه ، راجع الآية 38 من سورة مريم المارة والآية 3 ، من سورة الكهف في ج 2 ، وقال ابن عباس إن الكافر يحشر أولا بصيرا ثم يعمى ، فيكون الإخبار بأنه كان بصيرا إخبارا مما كان عليه أول حشره ، لانه لو لم يردّ عليه بصره كيف يقرأ كتابه ؟ كما يأتي في الآية 14 من الإسراء الآتية ، ولا يخفى أن ذلك اليوم يوم طويل تختلف فيه أحوال الكفار فمرة يجادلون وأخرى يشكون ، وطورا يعمون ، وتارة يبصرون أجارنا اللّه من ذلك ، قال تعالى ملتفتا إلى كفار مكة «أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» وقرىء بالنون أي ألم يبين لهم هذا القرآن «كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ» الماضية وهم الآن «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» إذا سافروا للشام إذ يمرون بالحجر ديار ثمود وقريات قوم لوط ولا يتفكرون فيما كان عليهم أهلها ، وكيف صار تدميرهم ، وسببه «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» واضحات موجبة للاعتبار «لِأُولِي النُّهى » 128 العقول السليمة يتعظون بها حيث كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة ، فلما عصوا رسلهم أهلكهم اللّه «وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي الوعد بتأخير العذاب ليؤمن من يؤمن منهم ويصر من يصر على كفره وفق ما هو مقدر في الأزل بالتقدير المبرم الذي لا يبدل ولا يقدم ولا يؤخر «لَكانَ لِزاماً» حتما نزوله بهم حالا لا ينفك عنهم أبدا ، وكلمة لزام لم تكرر في القرآن إلا هنا وآخر سورة الفرقان ، وهي بمعنى
لازم وصف به للمبالغة ، وهكذا يؤتى بالمصادر بدل اسم الفاعل بقصد المبالغة «وَأَجَلٌ مُسَمًّى» 129 بالرفع عطف على كلمة في (ولو لا كلمة) أي لو لا كلمة سبقت بتأخير عقوبتهم وضرب أجل لوقوعها اما بانقضاء أعمارهم أو بحلول يوم القيامة لما تأخر عنهم العذاب ، بل لنزل بهم حالا ، ولكن حال دون ذلك تلك الكلمة والأجل اللذان لا يتبدلان ، وهنا فيه المقدم والمؤخر وفيه مظنة الغلط لمن لا يعلم ذلك ، وهو من أنواع البديع المستحسن وجوده في الكلام البليغ الفصيح ، قال تعالى مخاطبا رسوله(2/231)
ج 2 ، ص : 232
صلى اللّه عليه وسلم «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» فيك وفي كتابك وربك ، إلى أن يأتي ذلك الوقت المقدر لإيقاع العذاب فيهم في الدنيا ، وسترى عذابهم الأكبر يوم القيامة «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى » 130 هذه الآية والتي بعدها نزلتا في المدينة ، ولهذا فسرت بالصلوات الخمس ، فصلاة الصبح قبل طلوع الشمس ، والعصر قبل غروبها ، وآناء الليل أول ساعاته المغرب والعشاء ، وأطراف النهار صلاة الظهر ، لأنها تدخل أول الزوال وهو انتهاء طرف النصف الأول وابتداء طرف النصف الثاني وهي بينهما ، لذلك قال وأطراف النهار ، وقرىء ترضى بضم التاء أي تعطى الثواب الذي يرضيك به ربك ، وبالفتح ترضى ما يعطيكه من الثواب وترضي نفسك بالشفاعة بالآخرة وبالظفر وانتشار دعوتك بالدنيا ، والآناء جمع أني وهو الوقت ، ولذلك فسر بالساعات في قوله تعالى (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) الآية 54 من سورة الأحزاب في ج 3 ، أي وقته
قال تعالى «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» فتطيل النظر بها إعجابا واستحسانا وتمنّيا يا حبيبي إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» من قومك وغيرهم بالأموال والرياش والأثاث والأنعام والأولاد وغيره ، لأن ذلك لا قيمة له عندنا ولذلك لم نزودك منه لكونه «زَهْرَةَ» أي بهجة وزينة وزخرف «الْحَياةِ الدُّنْيا» الفانية بما فيها لأنه من جملة الغرور الذي حذرناك منه ، ولذلك لم نجعل لك ميلا إليها لانها ليست بشيء يركن اليه ، وإنا إنما أعطيناهم ذلك «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» لا لغير ذلك ، بل نريد أن نمتحنهم ونختبرهم ابتلاء من عندنا ليزدادوا إثما بكفرانها فيستوجبوا العذاب الشديد «وَرِزْقُ رَبِّكَ» الذي رزقه في الدنيا بالنسبة لما بترتب عليه من الثواب في الآخرة وما أنعم به عليك من النبوة والرسالة وما وعدك به من فتح البلاد وارشاد العباد ، وانقياد الأمم للايمان بك ، وما أدخره لك من الأجر لقاء دعوتك لهم وصبرك على أذاهم ، وقناعتك بالقناعة من الرزق ، وتجملك يحسن الخلق ولين الجانب «خَيْرٌ» لك مما أعطيناهم من النعم الدنيوية التي لا قيمة لها مهما كانت كثيرة «وَأَبْقى » 131 أدوم لأن ما أعطاكه باق لا يزول في الدنيا والآخرة ، وما(2/232)
ج 2 ، ص : 233
أعطيناهم فان معذبون عليه فيهما ، هذا ، والدليل على نزول هاتين الآيتين في المدينة ما قاله أبو رافع نزلت هذه الآية حينما نزل ضيف برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبعثني إلى يهودي استلف منه له دقيقا فلم يفعل إلا برهن ، فأرسل معي درعه الحديدي فرهنته عنده ، وقال صلى اللّه عليه وسلم : واللّه لئن باعني أو أسلفني لقضيته واني لأمين في السماء وأمين في الأرض لأن مكة لا يهود فيها.
فثبت أنهما مدنيتان قال أبيّ بن كعب : من لم يعتزّ باللّه تقطعت نفسه حسرات ، ومن اتبع بصره ما في أيدي النّاس بطل حزنه ، ومن ظن أن نعمة اللّه عليه في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه ، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم انظروا إلى من هو دونكم في أمور دنياكم وفي رواية : انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر أن لا تزدروا نعم اللّه ، وفي رواية نعمة ربكم.
أما في أمور الآخرة فينبغي للعاقل أن ينظر إلى من هو فوقه ويقتفي أثره ، فهو أجدر لأن يكون من أولياء اللّه ، وقد نظم هذا في بيتين قال :
من شاء عيشا رغيدا يستفيد به في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظرن إلى ما فوقه أدبا ولينظرن إلى من دونه مالا
ولهذا فان المتقين تردّدوا في وجوب غض النظر عن ابنية الظلمة ، وعدد الفسقة ، في ملابسهم ومراكبهم قال الحسن لا تنظروا إلى دقدقة (جلبة الناس وأصوات حوافر دوابهم) هماليج (الذين لا مخ لهم أو المذللين المنقادين) الفسقة ، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية في تلك الرقاب لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالنظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها.
ومعنى هذا الخطاب هو أن اللّه تعالى يقول لحبيبه محمد صلى اللّه عليه وسلم استمر يا حبيبي على ترك ذلك كله ، واعلق بالك بما هو عند اللّه ، واترك ما سواه ، ويراد به غيره صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه أبعد من أن تمتد عينه لشيء من تلك الزخارف ، وجاء الخطاب له لأنه أكثر تأثيرا لانقياد أمته إليه ، وأعظم إلهابا في الصدور لمتابعته ، كيف وهو القائل : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه اللّه.
وكان صلى اللّه عليه وسلم شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زهرتها ، لهذا يكون المراد به أمته ، مثل قوله تعالى «لَئِنْ أَشْرَكْتَ» الآية 65 وما بعدها من سورة الزخرف(2/233)
ج 2 ، ص : 234
في ج 2 قال تعالى «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ» الركعتين المفروضتين عليه خاصة ليمرن أعمامه وأولادهم وأصهاره وبناته عليها ، إذ نفث في روعه أنها ستفرض صلاة على الكل أشد منها ، ولهذا خصّ الأمر بأهله بما يشمل زوجاته ، ولو كان المراد بها الصلاة المفروضة لما خصّ أهله بها ، بل لأمره بأمر العامة بها لأن التكليف بها عام ، لهذا لم يرد بها الصلاة المكتوبة لأنها لم تفرض بعد ، ولا ينافي هذا المعنى ما أخرجه ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ» كان صلى اللّه عليه وسلم يجيء إلى باب علي كرم اللّه وجهه صلاة الغد ثمانية أشهر يقول الصلاة رحمكم اللّه تعالى «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» الآية 22 من الأحزاب في ج 3 لأنه من أصهاره والمراد بأهل البيت هم أعمامه وأولاد عمه وبناته ، وزوجاته تبع لهم ، لأن الزوجات غيرهن لا يعدون من أهل الرجل لابتعادهن عنه بالطلاق ، أما زوجات النبيّ فلا طلاق عليهن راجع الآية 51 من سورة الأحزاب في ج 3 أيضا ، ولا ما جاء عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية ، لانه لا يبعد أن ذلك كان قبل فرض الصلاة مطلوب منه عند كل حادثة ومأمور بها.
انظر ما بعد هذه الآية «وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» داوم أنت عليها وتحمل مشاقها لان الصبر مجاز مرسل عن الداومة والتحمل ، لأنهما ملارمان معنى الصبر ، وفيه اشارة إلى أن من رعاية الصلاة والمحافظة عليها بصورة جدية حقيقة مشقة على النفس ، ولذلك أمر بالصبر عليها «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» لنفسك وأهلك بل نسألك عملا لأنا «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» وإياهم ونكفيك مؤنة الرزق في الدنيا ، لأن من كان في عمل اللّه كان اللّه في عمله ، ففرغ بالك لعمل الآخرة وما تحتاجه من الدنيا فهو مضمون لك قال تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون الآية 23 من الذاريات في ج 2 «وَالْعاقِبَةُ» المحدودة «لِلتَّقْوى » 132 لأهلها قال تعالى «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» الآية 83 من سورة القصص الآتية ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، والمتقون هم أولياء اللّه وهو وليهم ، راجع الآية 18 من سورة الجاثية في ج 2 ، كان عروة(2/234)
ج 2 ، ص : 235
ابن الزبير إذا رأى ما عند السلاطين قرأ هذه الآية ثم ينادى الصلاة الصلاة يرحمكم اللّه.
وكان بكر بن عبد اللّه المزني إذا أصاب أهله شيء من خصاصة قال قوموا فصلوا ، بهذا أمرنا اللّه ورسوله.
وعن مالك بن دينار مثله ، وهذا كله لا يؤيد أن هذا الأمر في هذه الآية في الصلوات الخمس ولا مانع من أن يستدل بها بعد نزول فرض الصلاة.
على الصلاة عند كل حادثة ، ثم طفق يندد في أهل مكة بعد سماعهم هذه الآيات وعدم اتعاظهم بها بقوله جل قوله «وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ» مثل موسى وعيسى لأن أممهما كلها اقترحوا آية عليهما أجابوهما ، وكذلك من قبلها مثل صلح وهود عليهما السلام حتى إذا أجاب طلبهم هذا وأظهر اللّه لهم على يده ما اقترحوه استدلوا على صحة نبوته وصدق رسالته قال تعالى مجيبا لهم على لسان رسوله «أَ وَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى » 133 وهو القرآن المنوه به فيها المحتوى على ما في التوراة والإنجيل والزبور وعلى كل ما في الصحف الأولى المنزلة على إدريس وابراهيم من قبلهم وبعدهم من الآيات البينات فضلا عن فصاحته وبلاغته وما فيه من أخبار الأمم السالفة وما اقترحه عليهم من الآيات وسبب إهلاكهم ، فآية القرآن هذه فيها كل آية وهو نفسه آية كافية لمن أراد أن يعتبر لانه أم الآيات وأسس المعجزات وقيل المراد بالبينة هو محمد صلى اللّه عليه وسلم إذ جاء ذكره في الصحف الاولى والكتب أيضا قال تعالى «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ» هؤلاء المقترحين طلب نزول الآيات «بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ» أي أرسال محمد إليهم أو إنزال القرآن عليه الدال على صدقه المغني عن أي آية «لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» يدعونا لعبادتك وتوحيدك لنهتدي بهذه «فَنَتَّبِعَ آياتِكَ» المنزلة معه أو على يده «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ» بعذاب الدنيا بالأسر والقتل والجلاء «وَنَخْزى » 131 في عذاب الآخرة من هوان وافتضاح ، فيا أكمل الرسل «قُلْ كُلٌّ» منا ومنكم «مُتَرَبِّصٌ» ينتظر العاقبة التي يؤول إليها أمره «فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ» غدا إذا جاء أمر اللّه بانقضاء الاجل المضروب لعذابكم في الدنيا والأخرى «مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ» العدل المستقيم «وَمَنِ اهْتَدى » 135(2/235)
ج 2 ، ص : 236
أنحن أم أنتم ولا شك أن محمدا وأصحابه وأتباعه هم أهل الطريق العدل المهتدون بهدى اللّه وستقول لهم قول القائل :
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار
مطلب الاحتجاج على اللّه ورده :
واعلم أن اللّه تعالى قطع المعذرة بالإمهال والإرشاد فله الحجة البالغة روى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يحتج على اللّه ثلاثة الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول ، وتلا هذه الآية والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلا انتفع به ، ويقول الصغير كنت صغيرا لا أعقل ، فترفع لهم نار ويقال أدخلوها فيدخلها من كان في علم اللّه أنه سعيد وينكل عنها من كان في علم اللّه أنه شقي ، فيقول اللّه إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتوكم.
فقد أراهم اللّه من هذا أنهم لو أرسل إليهم الرسول ، ولو أمهلوا للبلوغ ، لما دخلوا في طاعة اللّه لأن النفس الخبيثة أزلا تبقى على خبثها ولهذا البحث صلة في الآية 15 من سورة الإسراء الآتية فراجعه.
وهناك ثلاثة آخرون (1) الملك يقول يا رب شغلتني بمصالح عبادك ففاتني ما كنت تريده من عمل صالح.
فيؤتى له بسليمان عليه السلام إذ لم يشغله ملكه وهو أوسع ملكا في الأرض عن عبادة اللّه.
(2) المريض يقول يا رب لو عافيتني ما سبقني أحد بما يرضيك فيؤتى له بسيدنا أيّوب عليه السلام إذ لم يمنعه مرضه وهو أشد مرضا عن عبادة اللّه.
(3) الفقير يقول يا رب شغلني الكدّ في المعيشة عن عبادتك ، ولو أغنيتني ما فاتني أحد بما تريده فيؤتى له بسيدنا عيسى عليه السلام إذ لم يشغله فقره عن عبادة اللّه والدعوة اليه ، وهو أفقر الناس ، فلا عذر إذن لأحد أبدا.
وروي عنه أيضا أنه لا يقرأ أهل الجنة من القرآن الا سورة طه ويس ، وانظر أيها القارئ ما أشد مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها ، لأنها بدأت بخطاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأنه لم ينزل عليك هذا القرآن لتحمل تعب الإبلاغ وأنهاك نفسك ، وحيث بلغت فلا عليك الا أن يقبلوا منك ، وعليك الإقبال على طاعة اللّه وختمت بما هو في معناه بأمره بالتقوى وعدم الاكتراث بالدنيا والصبر على الذين لا ينجع بهم الإنذار ، وأن المخالف سيندم من حيث لا ينفعه الندم.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/236)
ج 2 ، ص : 237
تفسير سورة الواقعة
عدد 46 - 56
نزلت بمكة بعد سورة طه عدا الآيتين 81 و82 فإنهما نزلتا في المدينة ، وهي ست وتسعون آية ، وثلاثمائة وثمان وسبعون كلمة ، وألف وسبعمئة وثلاثة أحرف ، وقد أشرنا أول سورة التكوير عن السور المبدوءة ب (إذا) ، روى البغوي بسنده عن عبد اللّه بن مسعود قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا.
وكان أبو ضبّة لا يدعها أبدا ، أخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول.
وجاء في كتاب الأوراد للرفاعي رحمه اللّه أن قراءتها تكون بعد صلاة المغرب وأنها أمان من الفقر.
وسنأتي في آخرها على ما يتعلق في هذا البحث.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى : «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» 1 قامت القيامة الكبرى ، ووصفت بالوقوع لأن قيامها يكون غفلة بسرعة ، كسقوط الشيء من العلو ، وجاءت بلفظ الماضي لأنها محققة الوقوع لا محالة ، ووقوع الأمر عبارة عن نزوله ، تقول وقع به ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقبه ، وإذا منصوبة باذكر المقدّرة ، أي اذكر يا محمد لقومك كيفية قيام القيامة التي «لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» 2 أي أنها حين تقع لا تجد نفسا إذ ذاك إلا وتصدق بوقوعها بخلاف أهل زمانك ، الآن الذين ينكرون وجودها ، «خافِضَةٌ» لأقوام كانوا رفيعين في الدنيا متعالين على الناس تخفضهم إلى دركات جهنم بحسب أعمالهم الخبيثة «رافِعَةٌ» 3 لأناس كانوا وضيعين في الدنيا أذلاء مخبتين ترفعهم إلى أعالي درجات الجنان جزاء أعمالهم الحسنة.
واعلم يا سيد الرسل أن امارة قيامها «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا» 4 اضطربت اضطرابا هائلا قويا فهدم كل بناء عليها «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» 5 فتّت فتا دقيقا «فَكانَتْ» على عظمها وشموخها «هَباءً مُنْبَثًّا» 6 غبارا متفرقا كالذر الذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من الكوة إلى الأرض(2/237)
ج 2 ، ص : 238
«وَكُنْتُمْ» أيها الناس حينذاك «أَزْواجاً ثَلاثَةً» 7 صنفين في الجنة وواحدا في النار ، وكل ما كان بعضه من بعض أو يذكر بعضه مع بعض يسمى زوجا ، وإلا فأصناف وأنواع وأحزاب ، ثم بينها بقوله عزّ قوله «فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» جانب اليمين الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم فيؤخذ بهم إلى ذات اليمين وهي الجنة ، وهذا الزوج الأول الذي يتعجب المتعجب من سعادتهم لكثرة ما يفيض اللّه عليهم من كرمه وإحسانه ، ينبئك عن ذلك قوله تعالى «ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» 8 أي شيء عظيم هم عليه من السعادة الدائمة بما لا يتصوره المتصورون ، وهذا التعجب تعظيم لشأنهم وتفخيم لقدرهم لأنهم كانوا في الدنيا ميامين مباركين ، فجوزوا بالآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، يتعجب مما أعطاهم ربهم المتعجبون ، ويتنافس فيما أفاض عليهم من كرمه المتنافسون «وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» جانب الشمال الذين يأخذون كتبهم بشمالهم ويساقون لذات الشمال وهي النار أجارنا اللّه منها ، وهذا الزوج الثاني الذي يتعجب المتعجب من شقائهم لعظيم الغضب الذي يحل بهم من عقاب اللّه وانتقامه ويخبرك عن عظم هوله قوله جل قوله «ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» 9 شيء فظيع هم عليه وخطب كبير ألمّ بهم ، بلغ منتهى الفظاعة ، وهذا التعجب بليغ من سوء حالهم في الشقاء الذي لم يتصوره العقل وتحقير وتوبيخ لهم ، لأنهم كانوا في الدنيا مشائيم أدنياء ، ثم نوه بالزوج الثالث الذي هو الأول في المرتبة وقد أخره في الذكر لأنه تعالى ذكر أوائل هذه السورة القيامة وأهوالها ترهيبا للمسيء ليرجع عن إساءته وترغيبا للمحسن ليزداد في إحسانه ، فقدم أصحاب اليمين ليرغب السامعون ، وثنى بأصحاب الشمال ليرهبوا ، وثلث بهذا الصنف الذي تتطاول إليه الأعناق ، وتصيخ لما خصصوا به الأسماع ، ليتشوقوا إليه منوها بفضلهم بقوله «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» 10 الأول مبتدأ والثاني خبره ،
أي إلى الجنة ، لأنهم كانوا يتسابقون بأعمال الخير في الدنيا
«أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» 11 لجوار اللّه وكرامته الكائنون غدا «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» 12 بلا حساب ولا عتاب(2/238)
ج 2 ، ص : 239
يدخلونها رأسا ، وهؤلاء هم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ، ليجتهد (اللام هنا لام كي) أصحاب اليمين في التقرب لدرجتهم وليحزن أصحاب الشمال لبعدهم عنهم ، وهؤلاء السابقون منهم «ثُلَّةٌ» جماعة كثيرة لأن التنوين يدل على التكثير كقوله :
وجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيّار من السيل مزبد
«مِنَ الْأَوَّلِينَ» 13 من لدن آدم إلى زمن محمد صلوات اللّه وسلامه عليهما «وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» 14 من بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة ، لأن أمته بالنسبة لمن تقدمها من الأمم قليلون جدا ، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال : كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قبة نحوا من أربعين ، فقال :
أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قلنا نعم.
قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قلنا نعم.
قال : والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة.
وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة مسلمة ، وما أنتم من أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض ، ثم طفق يبين ما أعده في تلك الجنان لهم فقال «عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ» 15 منسوجة بالذهب موشاة بالجواهر المنيرة «مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» 16 على السرر مع أحبابهم ، ينظر بعضهم لوجوه بعض عند التخاطب والقعود ، وهذا من أحسن أوصاف حسني العشرة صافي الوداد ، مهذّبي الأخلاق ، والعكس بالعكس ، لأن من لا ينظر إليك عند ما تخاطبه لم يبال بك ، ومن لا تنظر إليه عند مخاطبته لم تحترمه ولا تعبا به ففيها سوء خلق وقلة أدب وعدم محبّة من الطرفين ، هذا ومما أعدّ لهم فيها أيضا خدم كثيرون بدليل قوله عز قوله «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» 17 في سن الشبوبة لا يهرمون ولا يموتون خلقهم اللّه في الجنة لخدمة أهلها لا يتجاوزون حد الوصافة.(2/239)
ج 2 ، ص : 240
مطلب معنى المخلدين ومصير أولاد المشركين وآداب الأكل :
واعلم أن لفظة (خلد) كما تدل على البقاء والدوام حقيقة تدل على التسوّر ، أي لبس السوار باليد والقرط بالأذان ، وعليه يكون المعنى مسورون مقرطون ، ولو أراد اللّه تعالى معنى البقاء والدوام لقال خالدين كما قال في أهل الجنة ولا تجد في القرآن كله مخلّدين غير هذه ، ولهذا أقول واللّه أعلم إن المراد بمخلدين المعنى الأخير ، لأن الخادم إذا كان مزينا بالحلي يكون أنضر بعين المخدوم ، ولهذا تجد أهل الدنيا يزينون عبيدهم بأحسن اللباس والسلاح المذهب ، ولم يصف الحور العين بالتخليد لأن حسنهن أغناهن عنه ، والغانية من اكتفت بحسنها عن التزين بالحلي ، أي أنهم ليسوا كالحور العين من هذه الحيثية ، وما قيل إن الولدان أطفال المؤمنين لا يتجه لأن اللّه تعالى قال : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية 21 من سورة الطور الآتية في ج 2 ، فذراري المؤمنين مع آبائهم في الجنة يخدمون ، وهذا حكم اللّه فيهم ولا راد لحكمه ، وما قيل إنهم أولاد الكفار الذين ماتوا قبل سن التكليف لا يصح أيضا ، وقد اختلفت أقوال العلماء فيهم ، فمنهم من قال إنهم في الجنة وهو الأقرب ، لأن اللّه تعالى لا يعذب قبل التكليف ، وإذ لم يعذبوا فهم ناجون ، والناجون من أهل الجنة ، لأن الأمر يدور بين الجنة والنار ، فمن زحزح عن النار فقد دخل الجنة ، راجع الآية 45 من سورة الأعراف المارة ، ولهذا البحث صلة في الآية 184 من آل عمران في ج 3 ، ما لم يكونوا من الذين سبق ذكرهم في تفسير الآية الأخيرة من سورة طه المارة ، ومنهم من قال إنهم من أهل النار تبعا لآبائهم وهو بعيد ، لأن اللّه أكبر من أن يعذب من لم يكلفه ، وهم لم يبلغوا حد التكليف كيف وقد قال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) الآية 27 من سورة والنجم المارة وقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية 15 من سورة الإسراء الآتية ، وإذا كان من لم تبلغه الدعوة والمجنون
الكبير يسقط عنهم التكليف فيدخلون الجنة على ما هم عليه ، فكيف بالطفل الذي لا يعقل شيئا ، ومنهم من توقف فيهم(2/240)
ج 2 ، ص : 241
وفوض أمرهم إلى اللّه ونعم المفوض إليه ، فإنه أكرم من أن يعذبهم «بِأَكْوابٍ» متعلق بيطوف وهي الأواني التي لا عرى لها ولا خرطوم كالأقداح المستديرة «وَأَبارِيقَ» الأواني ذات العرى والخراطيم وهي معروفة ، وسميت أباريق لبريق لونها وصفائها إذ يرى باطنها من ظاهرها «وَكَأْسٍ» هو الإناء المملوء شرابا وإلا فلا يسمى كأسا بل قدحا أو زجاجة «مِنْ مَعِينٍ» 18 نبع عين ظاهرة كثير ماؤها لا ينضب لأنها ليست من عمل البشر ، وهؤلاء الذين يشربون هذا الشراب «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها» لا يصيبهم صداع في رأسهم بسبب شربها كخمرة الدنيا القبيحة «وَلا يُنْزِفُونَ» 19 ولا تذهب عقولهم بسببها ، ومعنى نزف الرجل ذهب عقله بالسكر ، وقرىء بكسر الزاي ، أي لا ينغذ ذلك الشراب مهما شربوا منه ، فيكون الفعل من انزف ينزف بمعنى فني ونفد وخلص ، وهذه التي يقول فيها ابن الفارض رحمه اللّه :
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي بها لطريق العزم من لا له عزم
إلى أن قال فيها :
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له فيها نصيب ولا سهم
بخلاف خمر الدنيا والعياذ باللّه فإنها مهلكة للجسم والعقل ، مدنسة للشريف والكيف «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ» 20 من أحسن أنواعها وأفضله ، ومن هنا اقتبس جواز الانتقاء في أكل الفواكه سواء كانت مما يليه أو لا بخلاف الأكل فإنه لا يجوز إلا مما يليه ، فالتناول من أمام الغير ممنوع لقوله صلى اللّه عليه وسلم : وكل مما يليك.
ولهذا بسنّ في كل الأحوال أن يأكل الرجل مما يليه ، وإلا فقد أساء الأدب وصار شرها مخالفا لنهي الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهذا هو الحكم الشرعي في الأكل
«وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» 21 ويخطر في بالهم أكله ويتمنونه من جميع أصناف الطيور ، فإنه يحضر أمامهم حالا على الصّفة التي يريدونها من أنواع الطهي «وَحُورٌ عِينٌ» بيض واسعات الأعين وهي في الصفاء «كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ» 23 المخزون(2/241)
ج 2 ، ص : 242
في صدفه المصون من أن تلمسه يد لامس أو تقع عليه شمس أو هواء مما يكسف لونه مثل الدرّة حين تخرج من صدفتها ، وهذا كله يكون في تلك الجنات التي فيها النعيم الذي لا يقادر قدره إلا الذي خلقه للمقربين «جَزاءً» لهم في الآخرة «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 24 في الدنيا من الطاعات والخيرات «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً» من فضول الكلام «وَلا تَأْثِيماً» 25 من قول أو فعل فاحش يؤتثم به «إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» 26 على بعضهم من بعضهم ومن الملائكة ، ثم شرع يصف ما لأصحاب اليمين عنده فقال «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ 27 فِي سِدْرٍ» هو شجر النبق له ثمر صغير يشبه التفاح في الطعم والرائحة إلا أن ورقه مدور ، وفيه شوك لم يوجد في التفاح ، وهو موجود في البوادي أكثر منه في المدن والقرى ، وورقه يقوم مقام الأشنان كالخطمي بالنظافة.
هذا هو الذي في الدنيا ، أما الذي في الآخرة فهو «مَخْضُودٍ» 28 من الشوك وثمره عظيم وشجره كبير «وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ» 29 متراكم بعضه على بعض ويمتاز عن طلح الدنيا بالحجم والرائحة وعدم الغلاف ، إذ لا فضول في فواكه الآخرة ، كما أن أهلها لا فضول لهم ، فهي وأهلها مبرأون من كل دنس ورجس وقذر ، والمراد به الموز ، وهو والتين أشبه بفاكهة الآخرة إذ لا فضول فيهما ، «وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» 30 منبسط دائما لا تنسخه شمس ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرأوا إن شئتم وظل ممدود
«وَماءٍ مَسْكُوبٍ» 31 مصبوب في الأكواب مهيأ للشرب موضوع بين أيديهم لا يحتاجون إلى كلفة الغرف والصبّ كلما فرغت آنيته ملئت «وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ» 32 لأنها «لا مَقْطُوعَةٍ» كفاكهة الدنيا حتى تنفذ في موسمها «وَلا مَمْنُوعَةٍ» 33 من قبل أحد يحول دون قطفها ولا هي تابعة للبيع والشراء لأن أثمار الجنة أدي ثمنها في الدنيا وهي لا تحتاج للتناول بل غصنها نفسه يميل لطالبها ليقطف منها ما يريده ومتى ما قطف صار مكانه ، لهذا وصفت بأنها غير مقطوعة وغير ممنوعة «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» 34 عالية ويكنى بها عن(2/242)
ج 2 ، ص : 243
النساء الحسان المتعليات عليها بدليل قوله «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ» خلقناهن وأبدعناهنّ «إِنْشاءً» 35 جديدا بخلاف ما كن عليه في الدنيا ، وذلك أن العرب تسمي المرأة فراشا ولباسا على طريق الاستعارة ، والقرآن جاء بلغتهم ، وعلى هذا يكون المعنى مرفوعة بالفضل والجمال والأدب والصون على نساء الدنيا ، واللّه جل شأنه يشير بذلك إلى نساء المؤمنين ، المؤمنات أصحاب اليمين لأنهن لأزواجهن الأخيرين في الدنيا «فَجَعَلْناهُنَّ» بعد أن كنّ ثيبات صيّرناهن «أَبْكاراً» 36 كنساء الجنة عذارى كأنهن لم يطمثن «عُرُباً» حسنات التبعل متحببات لأزواجهن «أَتْراباً» 37 مستويات في السن أمثالا في الخلق عمر الواحدة ثلاث وثلاثون سنة.
مطلب نساء أهل الجنة والذين يدخلونها بغير حساب :
جاء عن معاذ بن جبل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاث وثلاثين.
وعليه فمن كانت عند موتها دون هذا السن أبلغت إليه ، ومن كانت فوقه ردت إليه ، لأنه سن الكمال في النساء ، كما أن الأربعين سن الكمال في الرجال ، ومما يدل على هذا ما رواه البغوي بسنده عن الحسن قال : أتت عجوز إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه أدع اللّه أن يدخلني الجنة ، فقال : يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز (وهذا من جملة مزحه صلى اللّه عليه وسلم إنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا) قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن اللّه تعالى قال (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ) إلخ قال عجائز تركن الدنيا عمشا رمضا فجعناهن أبكارا إلخ.
وهذا الخير الكثير المار ذكره كله «لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» 38 وعشرة أمثاله نسأل اللّه أن يجعلنا منهم «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ 39 وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» 40 تقدم تفسير مثله ، وقد روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن دويم قال :
لما أنزل اللّه عز وجل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) بكى عمر رضي اللّه(2/243)
ج 2 ، ص : 244
عنه فقال يا نبي اللّه آمنا برسول اللّه وصدقناه ، ومن ينجو منا قليل ؟ فأنزل اللّه (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمر فقال قد أنزل تعالى فيما قلت ، فقال رضينا عن ديننا وتصديق نبينا ، فقال صلى اللّه عليه وسلم من آدم إلينا ثلّة ، ومنا إلى يوم القيامة ثلة ، ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا اللّه.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط تصغير رهط وهو دون العشرة وتستعمل للأربعين كما مر في الآية الأولى من سورة الجن المارة ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع إلي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ، ولكن أنظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم ، فقيل انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم ، فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، ثم نهض فدخل منزله فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، قال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول اللّه ، وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا باللّه ، وذكروا أشياء ، فخرج رسول اللّه عليهم فقال ما الذي تخوضون فيه ؟ فأخبروه فقال : هم الذين لا يرقون ولا يسترقون (أي لا يقرأون على الناس ولا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم من تعاويذ وغيرها لأنهم متوكلون على اللّه تاركون الأسباب لمسببها) ولا يتطيرون (يتشاءمون من شي ء) وعلى ربهم يتوكلون في كل أمورهم.
فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول اللّه أدع اللّه أن يجعلني منهم ، فقال أنت منهم ، فقام رجل آخر فقال يا رسول اللّه أدع اللّه أن يجعلني منهم ، فقال سبقك بها عكاشة.
وليعلم أن الآية الأخيرة غير ناسخة للأولى ، لأن الأولى في السابقين الأولين ، وهم قليل بالنسبة للأمم قبلهم ، ولذلك قال تعالى وقليل من الآخرين ، والآية الثانية في أصحاب اليمين وهم كثير ، ولذلك قال وثلة من الآخرين ، وما جاء في بكاء عمر وحزنه في الحديث السابق المروي عن عروة والحديث الذي رواه أبو هريرة في معناه وزاد فيه فنسخت ، وقليل من الآخرين أي منهم ، فيكثرهم الفائزون(2/244)
ج 2 ، ص : 245
في الجنة من الأمم السوالف ، ولذلك حزن عمر رضي اللّه عنه وقال له صلى اللّه عليه وسلم ما قال مما أذهب حزنه ، لأن الحديث لا ينسخ القرآن كما نوهنا به في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ ، على أنه ليس فيه نسخ كما زعم بعضهم ، وإذا صح ما جاء في حديث أبي هريرة من قوله فنسخت (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان عمر ، أي بذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الآية غير السالفين ، فتدبر.
ثم بدأ يشرح أحوال الأشقياء حفظنا اللّه منهم ومما هم صائرون إليه فقال عز قوله «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ» 41 فيه تهويل من عظيم ما هم صائرون إليه من شدة العذاب ، لأنهم يومئذ يكونون «فِي سَمُومٍ» أشد الرياح حرا يكاد حرها يدخل في مسام الأديم «وَحَمِيمٍ» 42 ماء متناه في الحرارة والغليان يعطونه إذا اشتد عطشهم فيزيد ببلائهم أجارنا اللّه من ذلك «وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ» 43 دخان بالغ من السواد أقصاه ، ثم وصفه بأنه «لا بارِدٍ» لأنه ناشىء عن دخان حار «وَلا كَرِيمٍ» 44 لأنه لا ينفع من يأوي إليه ليستظل به لأن كرم الظل الاسترواح به من وهج الحر ، وإنما صيّرهم اللّه إلى هذه الحالة السيئة بسبب «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ» الوقوع في هذا العذاب في دنياهم «مُتْرَفِينَ» 45 بنعم اللّه وقد تقووا بها على معصيته فاستعملوها لغير ما خلقت لها «وَكانُوا» مع ذلك في دنياهم أيضا «يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» 46 يداومون على الذنب الذي يتحنث منه ويتأثم به ، يقال بلغ الغلام الحنث أي زمن ما يكون مؤاخذا به على عمله السيء ويعد عليه إثما إذ قبل البلوغ لا يعتد به ولا يعاقب عليه ، وقد وصفه بالعظيم ليعلم أن المراد منه الشرك باللّه ، إذ لا أعظم منه ذنبا «وَكانُوا يَقُولُونَ» بعضهم لبعض فضلا عن ذلك «أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» 47 استفهام إنكار وسخرية باللّه ورسله الذين أخبروهم بالبعث بعد الموت الذي ينكرونه وخوفوهم عاقبته ويقولون أيضا «أَ وَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» 48 يبعثون أيضا ، زيادة في الاستهزاء ، وقد جاء هنا العطف على المضمر من غير تأكيد في الضمير المنفصل كما في نحو (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الآية 35 من البقرة في ج 3 ، ومثلها(2/245)
ج 2 ، ص : 246
في الآية 68 من الأعراف المارة في قوله (نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الآية 35 من سورة النحل في ج 2 ، وإنما جاز ذلك لوجود الفاصل وهو الاستفهام ، كما جاز الفصل بلا في الآية الأخيرة وفي الآية 147 من سورة الأنعام ، وهي (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) لتأكيد النظر بلا المذكورة.
مطلب صحة العطف على الضمير من غير تأكيد :
فلم يبق من حاجة لذكر نحن في الآيتين الأخيرتين ، لأن الضمير المنفصل إنما يجب الإتيان به لصحة العطف إذا لم يكن هناك استفهام ولا نفي مؤكد كما في آية النحل وهاتين الآيتين أي الآية المفسرة وآية الأنعام ، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لقومك المقتفين آثار أولئك الكفرة والجاحدين المقلدين لهم بإنكار البعث «إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» 49 من جميع الخلق طائعهم وعاصيهم وعزة اللّه وجلاله وعظمته ونواله «لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» 50 عند اللّه وواقفون بين يديه للحساب والجزاء
«ثُمَّ» يقال لهم من قبل الملائكة الموكلين بتبليغهم وسؤالهم من قبل اللّه «إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ» عن طرق الهدى «الْمُكَذِّبُونَ» 51 بهذا اليوم «لَآكِلُونَ» في جهنم زيادة على تعذيبكم فيها «مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» 52 شديد المرارة وهو نبت فيها أشبه بالحنظل في أرض الدنيا ، «فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ» 53 رغما عنكم لأن ملائكة العذاب يقسرونهم على أكله والشرب من الحميم أيضا ، ليزيدوا في تعذيبهم كما تعلف الدواب المربوطة قسرا من قبل أهل الدنيا «فَشارِبُونَ عَلَيْهِ» عند شدة عطشكم «مِنَ الْحَمِيمِ 54 فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» 55 الإبل المصابة في داء الهيام فإنها لفرط ظمئها لا تزال تشرب حتى تهلك ، لأنها لا تروى قال الشاعر :
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضي عليها هيامها
ومن كان شربه والعياذ باللّه الماء المغلي كيف يروى ؟ وهذا بعض عذاب أهل النار ، إذ يسلط عليهم الجوع فتضطرهم الملائكة لأكل الزقوم ، ويسلط عليهم العطش فتضطرهم أيضا لشرب الهيم «هذا» أيها السائل «نُزُلُهُمْ» ما يقدم إليهم في جهنم أول دخولهم(2/246)
ج 2 ، ص : 247
فيها ويلجئونهم على تناوله تكرمة لهم على حد قوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية 21 من آل عمران في ج 3 ، وقوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية 49 من الفرقان في ج 2 ، على طريق التقريع والاستهزاء (والنزل) هو أول ما يقدم للضيف عند قدومه ثم بعد استراحته يقدم له الطعام والشراب ، وأهل النار أول ما يقدم لهم ذلك ثم يأتيهم والعياذ باللّه ما لم تتخيله أذهانهم من العذاب «يَوْمَ الدِّينِ» 56 الجزاء الذي ينالونه فيه على أعمالهم وفي قوله تعالى (نزلهم) تهكم فيهم وسخرية بهم لأنه إذا كان هذا أول عذابهم فما ظنك فيما بعده ؟ أجارنا اللّه وحمانا ، وقيل في المعنى :
وكنا إذا الجبار في الجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
بتخفيف الزاي بدل ضمه ، وهي قراءة أيضا ، وهذا وما يأتي وإن كان المخاطب به كفار قريش فهو عام في جميع الكفرة المنكرين للبعث المكذبين الرسل ، ثم بادر يخاطبهم على طريق الإلزام والتبكيت بقوله جل قوله «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ» كما تعلمون من نطفة وخلقنا أباكم من تراب «فَلَوْ لا» هلا «تُصَدِّقُونَ» 57 أن من يخلق ابتداء من غير شيء بطريق الإبداع ، ألا يقدر على إعادة ما خلقه ثانيا على نمط الأول ؟ بلى وهو أهون عليه ، وكل شيء عنده هين «أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ» 58 من النطف في أرحام النساء «أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ» أي لجنين المكون من تلك النطفة فتصيرونه بشرا سويا «أَمْ» نَحْنُ الْخالِقُونَ» 59 له منها بل هو هو ، فيا أيها الناس تدبّروا هذا واعلموا أنا «نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ» أي أجله كما قدرنا الحياة في الرحم والدنيا والبقاء في البرزخ فمنكم من يموت في بطن أمه ومنكم من يموت طفلا وصبيا وشابا وكهلا وشيخا وهرما ، بمقتضى تقديرنا الأزلي لآجالكم «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» 60 عن شيء نريده بل الغالبون أبدا في كل شيء ، ولا يفوتنا شيء ، ولا يقع في الملك والملكوت شيء ما إلا بمقتضى تقديرنا ، واعلموا أيها الناس أنا نحن القادرون (الرفع بعد نحن على البدلية ، والنصب على الاختصاص) تأمل هذا واعلم أن من يعرف العربية فقد لا يغلط أحدا حيث يجد له طريقا وخاصة ما بعد أن وكان)
«عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ»(2/247)
ج 2 ، ص : 248
فنغير صفاتكم هذه التي أنتم عليها من الخلق والخلق ، أو نذهبكم وناتي بدلكم أشباهكم من الخلق الآخر «وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ»
61 من الصور خلقا جديدا لا يشبه خلقكم الذي أنتم عليه ، مما لم يكن في حسبانكم «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ» أيها الناس «النَّشْأَةَ الْأُولى » وكيفيتها من العدم لا من شيء سابق ولا مثال متقدم «فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ» 62 بأني قادر على النشأة الثانية لأنها على مثال سابق ، ومن كان قادرا على الإنشاء من لا شيء فهو أقدر على إعادة ما أنشأه بعد هلاكه ، والبون شاسع بين الوجود والعدم «أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ» 63 في الأرض وتبذرون فيها من أنواع البذور «أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ» فتنبتونه وتنشئونه وتصيرونه زرعا قائما على سوقه ، وتجعلون فيه الحب «أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» 64 الفاعلون لذلك كله وانكم لم ولن تفعلوا شيئا غير أقدارنا لكم على طرح الحب في الأرض ، فإذا شئنا أنبتناه وإذا شئنا لم ننبته ، وأنا «لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً» هشيما مكسرا تبنا ناعما لا قمح فيه عفوا بلا سبب أو نسلط عليه شيئا من الآفات الأرضية كالسوس والجراد والسمائية كالحر والبرد ، أو نغرقه بالماء ، أو نحرقه بصاعقة فنتلفه بما نشاء «فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ» 65 تتعجبون فيما نزل فيه وتندمون على تعبكم عليه وانفاقكم المال لأجله ، وتتلاومون على زرعه أو التقصير في مراعاته.
وأصل التفكه التنقل بصنوف الفواكه ، ثم استعبر للننقل بالحديث ، وكني فيه هنا عن التعجب والندم والتلاوم ، أو عن اتلافه وحرمانكم منه ، هذا وإذا أريد المعنى الظاهر من تفكهون فيكون ويجعلكم تقتصرون على أكل الفواكه فقط وتعدمون لذة القمح الذي لا يغني عنه شيء بحيث لا تعافه النفس مهما أدمن عليه بخلاف غيره من الأطعمة ، وعند ما يجعله اللّه كذلك تقولون «إِنَّا لَمُغْرَمُونَ» 66 ذهب مالنا بغير عوض وتعبنا بغير أجر وأملنا دون حظوة وتقولون «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» 67 من ربح زرعنا الذي كنا نأمله لا حظ لنا فيه «أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ» 68 منه أنتم وأنعامكم ودوابكم وتغتسلون منه وتغسلون ثيابكم وأوانيكم «أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ» السحب واحده مزنة قال الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقلت ابقالها(2/248)
ج 2 ، ص : 249
«أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ» 69 له بقدرتنا إذ ننزله لكم بقدر حاجتكم إليه على أنا «لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً» شديد الملوحة مرا لا يشرب ولا ينفع الزرع ، فتهلكون عطشا وتنلف زروعكم وأشجاركم ، لأنا قادرون على اتلافكم بأنواع شتى ، فلو سكنا عنكم الهواء ساعة لهلكتم جميعا «فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ» 70 نعم اللّه عليكم التي من جملتها تأمين ضرورياتكم وما تصلحون به مأكولكم
وما تتقون به شدة الحر المنوه عنه بقوله «أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ» 71 تقدحون لها الزناد فتتقّد فتستضيؤن بها وتنضجون طعامكم عليها «أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها» التي توقد منها أو شجر المرخ والعقار المار ذكره في الآية 80 من سورة يس المارة «أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ» 72 لها بل نحن أنشأنا شجرها لنفعكم و«نَحْنُ جَعَلْناها» أي تلك النار لكم في الدنيا «تَذْكِرَةً» لنار الآخرة الكبرى ليتعظ بها من له عقل كلما رآها ، فيذكر عذابها ويرتدع عما نهي عنه ، ولذلك عممنا الحاجة إليها «وَ» جعلناها «مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ» 73 المسافرين والفقراء الذين ينزلون (القواء) الأرض القفرة وللأغنياء المقيمين أيضا ، إذ لا غنى لأحد عنها ، إلا أن المسافر أشد حاجة لها من غيره ، لأنه بوقدها للتدفئة ولهروب الهوام عنه لأنها لا تقربه ما دامت النار عنده خشية منها ، وإلا افترسته حالا وفيها منفعة أخرى وهي اهتداء الضال بها والاستضاءة بها ليلا وللطبخ والخبز ، وتسخين الماء ليلا ونهارا ، وكونها تذكرة لنار الآخرة لا يقتضى أن تكون مثلها وقد ذكرنا في الآية 135 من سورة طه المارة أن المشبه لا يكون كالمشبه به من كل وجه.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ناركم هذه الذي توقدون جزء من ستين جزءا من نار جهنم ، قالوا واللّه إن كانت لكافية يا رسول اللّه ، قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها.
أعاذنا اللّه منها ولو أن نارنا هذه مثل تلك لما انتفعنا بها أبدا ، لأن أجسامنا هذه لا تطيق مقابلتها ، ولأن ما يوضع عليها للنضج يحرق حالا ، لأنها تذيب الحديد وتفتت الحجارة حالا ، ولكانت نقمة علينا لا نعمة لنا.
ثم التفت جل شأنه إلى حبيبه صلى اللّه عليه وسلم وقال له «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ»(2/249)
ج 2 ، ص : 250
74 نزه عما يقول هؤلاء الظالمون من اتخاذ الآلهة من دونه وانكار إعادة خلقه بعد الموت ومن سائر ما يصمونه به من الولد والشريك والصاحبة ، ثم أقسم قائلا «فَلا أُقْسِمُ» تقدم البحث فيه مفصلا أول سورة القيامة فراجعه ففيه بحث نفيس «بِمَواقِعِ النُّجُومِ» 75 مساقطها عند غروبها بالنسبة لما نرى قال ابن عباس النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها على النبي صلى اللّه عليه وسلم وعليه مشى الشيخ الأكبر وقال يا لها من أوقات! وقد أخرج النسائي وابن جرير والحاكم والبيهقي في الشعب أنه قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثم فرق في السنين.
وفي لفظ ثم نزل من سماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ هذه الآية ، ويستحيل على هذا القول عرد الضمير في «وَإِنَّهُ» للقرآن بالنظر إلى ما يفهم من مواقع النجوم حتى يعد كأنه مذكور أي وأن هذا القسم الذي ذكره اللّه بعد أن فرغ من ذكر البراهين المسكة الآنفة الذكر التي يخرس عندها كل بليغ ويحجم عنها كل فصيح «لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» 76 لأن في سقوط النجوم بالنسبة لما نراه زوال أثرها ودلالة على وجود مؤثرها الدائم وقد استدل الخليل عليه السلام بأقوالها على صانعها جل جلاله ، كما سيأتي في الآية 76 فما بعدها من سورة الأنعام في ج 2 ، وفي هذه الآية دالة على جواز الفعل بين الصفة والموصوف بكلام آخر ، لأن عظيما هنا جاء صفة لقسم ، واللّه تعالى يقول هو عظيم جدا لو تعلمون ما يترتب عليه من المصالح فضلا عن أنه وقت قيام المجتهدين المبتهلين إلى اللّه ، وآن نزول رحمته ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ، وجواب القسم في قوله تعالى «إِنَّهُ» أي المنزل عليك يا سيد الرسل «لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ» 77 لما فيه من النور والهدى والبيان والعلم والحكم والحكمة ، لأن الفقيه يستدل به والحكيم يستمد به والأديب يقتبس منه والأريب يتقوى به ، والمتعلم يستفيد منه ، وكل عالم يطلب أصل علمه من فيضه ، ليس بسحر ولا كهانة كما(2/250)
ج 2 ، ص : 251
يقولون ، بل هو مثبت عند اللّه «فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ» 78 محفوظ مصون «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» 79 الملائكة المقربون والسفرة الكرام البررة.
ولا هنا نافيه والضمير يعود للأقرب وهو الكتاب أي اللوح المحفوظ ، فلو أريد عوده للبعيد وهو
القرآن لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء والهاء ، وعلى قول من أعاد الضمير للقرآن وهو ضعيف جدا فيراد منه الإنسان أي لا يمسه منهم إلا المتطهرون ، والصواب الأول وعليه المعول ، وبه قال أكثر المفسرين والعارفين.
مطلب مس المصحف والحديث المرسل والموصول :
وأما المنع من مس المصحف لغير المتطهر فقد ثبت بالحديث الآتي لا بنص هذه الآية ، وعليه يشمل أهل الدنيا فلا يمسه منهم إلا المتطهرون المتوضئون بالطهارة الحيّة ، وعليه فتكون (لا) هنا بمعنى النهي (الحكم الشرعي) المنع من مسه أو مس حرف منه لغير المتوضئ ، ويحرم على المحدث أن يمسه بدون غلاف ، ولا بأس بمس غير المكتوب منه ، وقال الشافعي رحمه اللّه لا يجوز حمله لغير المتوضئ ولو كان بغلاف ولا يجوز مس شيء منه سواء كان فيه كتابة أم لا.
روى مالك في الموطأ عن عبد اللّه بن أبي بكر بن عمر بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهرين أخرجه مالك مرسلا - المرسل أحد أقسام الحديث وهو ما سقط منه الصحابي بعد ذكر التابعي وهو من قسم المقبول ، وقد احتج به مالك وأبو حنيفة ، وهو موصولا ، والموصول ما اتصل سنده بحضرة الرسول بغير انقطاع وهو صالح للاحتجاج به بلا خلاف - وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بهذا والصحيح فيه الإرسال أيضا ، وروى الدار قطني بسنده عن سالم عن أبيه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يمس القرآن إلا طاهر.
والمراد بالقرآن المصحف سماه قرآنا على قرب الجوار والاتساع ، كما روى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو كما أشرنا إليه ، في المقدمة وأراد به المصحف ، اما المحفوظ بالصدر فلا لأن القصد حفظه عن الامتهان بسبب.
لمس غير(2/251)
ج 2 ، ص : 252
المتطهر ، أما ما هو محفوظ بالصدر فهو في أمن من ذاك ، وله أن يقرأه عن صدر الغيب ما لم يكن جنبا ، وهذا القرآن الموصوف بما تقدم «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» 80 منزل تنزيلا على اتساع اللغة إذ يقال للمقدور قدر وللمخلوق خلق فليس بمفترى من قبل محمد ، ولا تعلمه من قبل الغير ولا هو من خرافات الأولين كما زعم كفرة قريش ، وهذه الآية كالرد ضمنا على هؤلاء المتقولين بذلك
«أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ» الحديث الشيء الجديد وإن نزوله بالنسبة للمنزل عليهم جديد ، لذلك سماه حديثا ، وإلا فهو كلام اللّه القديم القائم بذاته المقدسة مبرأ عن الحدوث كذاته المنزهة عنه «أَنْتُمْ» يا أهل مكة ويا كفار العرب أجمع «مُدْهِنُونَ» 81 متهاونون بهذا القرآن مكذبون به ، لأن من كذب بالشيء فقد تهاون فيه ، ومن قال أن معنى مدهنون منافقون لا يتجه لأن الآية مكية ولا نفاق فيها ، وإنما حدث النفاق في المدينة ولم يكن في مكة إلا المكايدة والمجاهرة بالعداوة والمكابرة في الحق وعلى الحق ، وكانوا متسلطين لا يحتاجون إلى النفاق ولا يعرفونه ، ولم تكن كلمة النفاق مستعملة عندهم ، أما من قال إن هذه الآية والتي تليها مدنيتان كما أشرنا إليه أول السورة ، فيتجه قوله بأن معنى مدهنون منافقون ، ويريد بذلك قولهم للمؤمنين آمنا به ، ولإخوانهم المنافقين إنا مستهزئون ، كما قصه اللّه في الآية 18 من سورة البقرة في ج 3 ، ومعنى الإدهان الجري في الظاهر على خلاف الباطن ، وقد حدث النفاق بالمدينة «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ» أيها الكفرة على القول بأنها مكية ، وعلى أنها مدينة تجعلون شكر رزقكم أيها المنافقون المتلونون أي حظكم ونصيبكم من هذا القرآن «أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» 82 به ولا تصدقونه وتجحدونه ولا تشكرونه ، قال الحسن : خسر عبد لا يكون حظه من كتاب اللّه إلا التكذيب انتهت الآيتان المدينتان على قول ، وقال في الإتقان أن آية (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) مدينة وهو قول ضعيف لم بعضده ما يقويه لذلك لم نستثنها مع هاتين الآيتين ، قال تعالى «فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ» النفس أو الروح عند الموت «الْحُلْقُومَ» 83 مجرى الطعام والشراب «وَأَنْتُمْ» يا أهل المحتضر «حِينَئِذٍ» حين بلوغ الحلقوم(2/252)
ج 2 ، ص : 253
«تَنْظُرُونَ» 84 ذلك لما تشاهدون من حال المحتضر فقط ، وإلا لا يمكن أن تبصروا شيئا ماديّا ، لأن الروح من أمر اللّه لا تشاهد ولا يسعكم إلا البكاء ، لأنه لا يمكنكم دفع ما حل به ولا تأخيره ولا صرفه أبدا «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ» ولو أنكم معه «وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ» 85 قربنا منه ولا تعلمون كيف نقبض روحه ولا ترون أملاكنا المحيطين به ، لأنكم لا تفقهون معنى الروح ولا تعقلونه ، لكونه من خصائص الإلهية ، وأنتم لا ترون إلا شخوص بصره نحو السماء عند خروج روحه هذا إذا كان الخطاب لمن حضر المحتضر ، وإذا كان الخطاب له يكون المعنى وانكم أيها المحتضرون ترون منزلتكم في الجنة أو النار حين خروج روحكم ، ولذلك تشخص أبصاركم نحوها ونحن عندكم ومعكم ، ولكن لا تبصرون وجودنا «فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ» 86 مجزيين على تقصيركم ، يقال وإنه إذا ثبت عليه الجرم والأولى أن يكون معناه غير مربوبين ، وإن السلطان للرعية إذا ساسهم وتعبدهم ومنه قولهم للعبد مدين وللأمة مدينة قال الأخطل :
ربت وربا في حجرها ابن مدينة تراه على مسحاته يتركل
أي يضرب مسحاته برجله لتدخل في الأرض.
لعمدتم «تَرْجِعُونَها» إلى جسدها بعد خروجها منه «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 87 في دعواكم أن الميت ميت بالطبع ولا بعث ولا حشر ولا نشر ولا جزاء ، ولكنكم لا تقدرون على ردّ أرواح الموتى بما تستمدونه من الرقى والطب مهما كان الراقي عارفا والطبيب حاذقا ، لا يقدرون على شيء من ذلك ، وإذا تحقق عجزكم عن هذا فاعلموا وتيقنوا أن الأمر منوط باللّه وحده الذي خلقكم وأماتكم ، هو يحييكم ثانيا ، ويجعلكم أصنافا ثلاثة «فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ» 88 السابقين المار ذكرهم ووصفهم في الآية 10 فما بعدها «فَرَوْحٌ» له واستراحة «وَرَيْحانٌ» يحيط به وهو المعروف عندنا ، ولكن أين هذا من ذاك «وَجَنَّةُ نَعِيمٍ» 89 له يتنعم فيها ما زال في برزخه إلى أن ينقله اللّه منه إلى الجنة الدائم نعيمها ، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال لم يكن من المقرّبين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصنين من(2/253)
ج 2 ، ص : 254
ريحان الجنة فيشمها ثم يقبض.
وأخرج ابن جرير أيضا عن الحسن أنه قال :
تخرج روح المؤمن من جسده في ريحانة.
ثم قرأ هذه الآية «وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» 90 السالف ذكرهم أيضا ونعتهم
«فَسَلامٌ لَكَ» يا صاحب اليمين «مِنْ» اخوانك الكرام «أَصْحابِ الْيَمِينِ» 91 وسلام لك يا أكرم الرسل بهم لا تخف عليهم فهم في أمن من العذاب فلا تهتم بشأنهم وستراهم على ما تحب من السلامة ، وانهم يسلمون عليك في دار فضلك «وَأَمَّا إِنْ كانَ» ذلك الميت والعياذ باللّه «مِنَ» أصحاب الشمال «الْمُكَذِّبِينَ» الجاحدين رسالتك وكتابك وربك «الضَّالِّينَ» 92 عن هداك المائلين عن رشدك يا سيد الرسل المنحرفين عن الصواب «فَنُزُلٌ» لهم مهيء في جهنم «مِنْ حَمِيمٍ 93 وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» 94 يحرقون فيها ، مرّ تفسير مثله «إِنَّ هذا» الذي ذكر مما قصه اللّه عمن حضره الموت وما قبله «لَهُوَ» وعزّتي وجلالي «حَقُّ الْيَقِينِ» 95 الثابت الذي لا شك فيه وهو العلم المتيقن عين اليقين ونفسه.
مطلب الفرق بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين :
ولأهل المعرفة في عين اليقين وحق اليقين وعلم اليقين فقط عبارات شتى ، فاليقين عندهم رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان ، وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء بربه علما وشهودا وحالا لا علما فقط ، فإذا كان علما فقط فهو علم اليقين ، فعلم كل عاقل بالموت علم اليقين ، فإذا عاين الملائكة فهو علم اليقين ، وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين ، والإيقان هو العلم الذي يستفاد بالاستدلال ، ولذا لا يقال اللّه موقن «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» 96 إن كنت موقنا عازما وتقدم تفسير مثله وكرر تأكيدا قال علي الجهني لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال صلى اللّه عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال اجعلوها في سجودكم أخرجه أبو داود - وأخرج الترمذي عن حذيفة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم ، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ، وما أتى على آية رحمة إلّا وقف وسأل اللّه ، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ.
قال الترمذي حديث صحيح.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : (2/254)
ج 2 ، ص : 255
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان فى الميزان ، حيبتان إلى الرحمن : سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم.
هذه أحاديث لا يقال فيها شيء إلا أن ما قاله الجهني وأخرجه أبو داود عن حذيفة ، ومثله الذي أخرجه عن عقبة بن عامر لا يصح ، لأن سورة الأعلى وهذه السورة نزلتا في مكة قولا واحدا قبل فرض الصلاة ، ويوشك أنه سمع هذا منه صلّى اللّه عليه وسلم بعد فرضها ، ففيه تجوز من حيث سبب النزول ، إذ كثير من الآيات يستشهد بها لمناسبة حادثة مع أنها نزلت قبلها بكثير ، ولا مانع من ذلك ، إلا انه لا ينبغي أن تجعل سببا للنزول ، تأمل هذا ، واعلم أن كثيرا من الشواهد تأتي بغير موضعها لعدم الدقة في معرفة ترتيب نزول السور وتواريخها والمشي على ظاهر ترتيب القرآن ، وجلّ من لا ينسى ، وعزّ من لا يخطىء ، على أنه يجوز أن حضرة الرسول قرأ هاتين الآيتين في المدينة فلما أتى على آخرهما قال ما قال ، لأنّ جميع ما نزل في مكة تلاه في المدينة بعد وصوله إليها ليعلمه أهلها ، وعليه فلا يقال إن ذلك نزل في المدينة والقول بالنزول مرتين ممنوع إذ لا قول فيه معول عليه كما بيناه أول سورة الفاتحة المارّة ، أما الحديث الثاني الذي أخرجه الترمذي فلا مقال فيه لأنه لم يذكر فيه ما ذكر في الحديث الأول ، وهو قوله لما أنزلت إلخ ، ولم يعين تاريخا ، ولا شاهد فيه على النزول ، ولذلك قال في آخره حديث صحيح.
هذا ، وروي أن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه دخل على ابن مسعود في مرض موته فقال ما تشتكي ؟ فقال ذنوبي.
فقال ما تشتهي ؟ قال رحمة ربي ، قال أفلا تدعو لك الطبيب ؟ قال الطبيب أمرضني ، قال أفلا نأمر بعطائك ؟ قال لا حاجة لي فيه ، قال ندفعه إلى بناتك ؟ قال لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة ، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا - راجع أول هذه السورة تجد ما يتعلق بهذا البحث ، هذا وقد ختمت سورة الحافة الآتية في ج 2 ، بمثل ما ختمت به هذه السورة فقط.
واللّه أعلم وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.(2/255)
ج 2 ، ص : 256
تفسير سورة الشعراء
عدد 47 - 26
نزلت بمكة بعد الواقعة عدا الآيات 197 ومن 224 إلى آخر السورة ، فإنها نزلت بالمدينة وهي مائتان وسبع وعشرون آية ، وألف ومائتان وتسع وتسعون كلمة ، وخمسة آلاف وأربعون حرفا ، ويوجد في القرآن سورة القصص مبدوءة بمثل ما بدئت به هذه فقط ، أما سورة النمل فهي بغير ميم لا نظير لها في القرآن ، إلا أنه يعبر عن هذه السور الثلاث بالطواسيم ، كما يعبر عن السور السبع الآتية في ج 2 بالحواميم ، وآل حاميم ، لأنها مبدوءة بلفظ حم.
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»
قال تعالى : «طسم» 1 القول في معناه كالقول في معنى الم وبقية الحروف المقطعة ، وعلى القول بأن هذه اللفظة قسم من اللّه تعالى ، فيقال إنه أقسم بطوله وسنائه وملكه ، وعلى القول بأنها مفاتيح بعض أسمائه تعالى فهي مفتاح اسمه السلام والمالك والمحيي وشبهها ، والصحيح أنه رمز بين اللّه ورسوله ، راجع بحث الفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة «تِلْكَ» أي هذه الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 لكل شيء الظاهر إعجازه لكل أحد الدال على صحة نبوتك «لَعَلَّكَ» يا حبيبي «باخِعٌ نَفْسَكَ» البخع أن يبلغ الذابح البخاع وهو عرق مستبطن الفقار أو أقصى حد الذبح ، ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن لا في سورة الكهف الآية 6 في ج 2 ، ولعلّ للإشفاق وتقال للتعطف على من تحبه إذا رأيته مبالغا بأمر يؤثر عليه مادة أو معنى شفقة عليه ، أي مالك متلف نفسك من أجل «أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» 3 أي لا تفعل هذا بسبب عدم إيمان قومك بل تريث عليهم وتمهل على نفسك وارفق بها من أن تهلكها حسرة وأسفا وجهدا «إِنْ نَشَأْ» نحن إله السموات والأرض إيمانهم قسرا إجابة لاستعجالك «نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً» عظيمة تلجئهم إلى الإيمان حالا «فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها» للخوف من تلك الآية المهولة «خاضِعِينَ» 4 منقادين إلى الطاعة لا ينفكون عنها أبدا ، فلا ترى منهم من(2/256)
ج 2 ، ص : 257
يميل إلى عصيانك ولكنّا لا نفعل ذلك لأن الإيمان الجبري لا عبرة به ، ولو كان له قيمة لآمن يوم القيامة جميع الخلق لما يشاهدون من الأهوال ، ولآمن كل من في الدنيا حين يقع في يأس أو بأس ، فاتركهم الآن ، لأن شأنهم شأن أمثالهم الكفرة من أمم الرسل السالفة ، راجع تفسير الآية 8 من سورة فاطر والآية 171 من سورة الأعراف المارتين «وَ» هؤلاء «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ» قرآن يتذكرون به «مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ» إنزاله عليك وتلاوته عليهم بحسب الحاجة والواقع مما هو أزلي في علمنا «إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» مولين لا يلتفتون إليه ، وهكذا كلما جدد اللّه لهم ذكرا ليتعظوا به ، جددوا له كفرا وإعراضا «فَقَدْ كَذَّبُوا» بك يا حبيبي وبما أنزلناه عليك كما كذب الأولون أنبياءهم وكتبهم ، فلا يهمنك تكذيبهم وإعراضهم «فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا» أخبار وعواقب «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 6 عند ما يمسهم عذاب الدنيا بالجلاء والأسر والقتل وعذاب الآخرة بالخزي والهوان والإحراق يعلمون نتيجة استهزائهم وعاقبة تكذيبهم ، ثم ضرب مثلا لمنكري البعث بعد أن هددهم بما تقدم فقال جل قوله «أَ وَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» 7 محمود كثير المنفعة بعد أن كانت لا شيء فيها قبل إنزال الغيث «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإنبات لأنواع الحبوب والأزهار والأب لقوت الإنسان والحيوان والطير والحيتان «لَآيَةً» كافية على قدرتنا لإحيائكم بعد الموت وعلى وجوب إيمانكم بنبيئنا وكتابنا :
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأهداب هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن اللّه ليس له شريك
والمراد بهذا النبات هو النرجس ، ممن كان له عقل سليم عرف بمجرد تأمله وتفكره في ذلك عظمة القادر فآمن به وصدق رسوله وكتابه ، وهؤلاء قليل «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» 8 لتوغلهم بالكفر وتماديهم في الضلال «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب القوي القادر على الانتقام منهم «الرَّحِيمُ» 9 بأوليائة يقيهم شر أعدائه وينصرهم عليهم ويهلكهم عند يأس أنبيائه من إيمانهم «وَ» اذكر لقومك(2/257)
ج 2 ، ص : 258
يا سيد الرسل «إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى » من الشجرة كما مر في الآية 12 من سورة طه فقال له «أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» 10 أنفسهم بالكفر وبني إسرائيل بالعسف ،
ثم بين هؤلاء القوم بقوله اعني «قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ» 11 عقوبة اللّه فيؤمنوا به ويتركوا الإسرائيليين ، وقد ذكرهم اللّه في هذه القصة علهم ينتبهوا من سباتهم فيخافوا العاقبة فيؤمنوا به «قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ 12 وَيَضِيقُ صَدْرِي» بتكذيبهم «وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» بسبب العقدة العائقة عن الفصاحة في النطق ، وتقدم في الآية 28 من طه أنها في قوة التكلم لا في الجارحة نفسها وقد بينا هناك ماهيتها وسببها «فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ» 13 يعينني على التبليغ بمهابته وقوة نطقه «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ» بقتل القبطي منهم «فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» 14 به قصاصا ، وستأتي قصته مفصلة في الآية 14 من سورة القصص الآتية ، «قالَ كَلَّا» لا يقتلونك ولا يضربونك أبدا فأنا حافظك منهم (نذكر بأن كلمة كلّا هذه المفيدة للزجر والردع كررت في القرآن العظيم ثلاثا وثلاثين مرة منها ما يجوز الوقف عليها ومنها ما لا يجوز) «فَاذْهَبا» اليه أنت وأخوك لأني آزرتك به حسب طلبك متلبسين ومتقوين «بِآياتِنا» التي هي النبوة والرسالة وبرهانهما اليد والعصا وهما أول ما أعطيهما موسى عليه السلام «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» 15 ما تقولانه له وما يقوله لكم ، وقد أجراهما في الخطاب مجرى الجماعة تعظيما لشأنهما وجريا على لغة العرب المنزل هذا القرآن عليهم وإليهم ثم قال لهماَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا»
لهِ نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
16 إليك لم يئن الضمير هنا لأن معنى رسول هنا مرسل اللّه ورسالته ، فإن كان بمعنى مرسل فلا بد من التثنية ، وإن كان بمعني الرسالة وهو كذلك هنا فيكون وصفا والوصف يستوى فيه الواحد والجماعة ، وهو معروف عند العرب قال كثير :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بشيء ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة وقال العباس بن مرداس صاحب علم حضرة الرسول ، دفين دمشق ، وقد سميت المحلة باسم (سنجقدار) صاحب العلم باللغة التركية وأداة النسبة فيها(2/258)
ج 2 ، ص : 259
فارسية ، وضريحه أمام الجامع المسمى بجامع السنجقدار هناك وهو معروف تغمده اللّه برحمته ورضي عنه :
ألا من مبلغ عنى خفافا رسولا بيت أهلك منتهاها
أي رسالة بدليل تأنيث الضمير وهذا أظهر من الأول ، وما قيل إن المراد بالرسول هنا موسى فقط ، لأن هرون كان ردء له أي تبعا ، يأباه سياق الآية بعد وسياقها قبل مما لا يخفى ، أما من قال إنهما كالرسول الواحد لاتفاقهما واعتمادهما في الشريعة فله وجه ، وما جرينا عليه أوجه ، وقال لهما قولا له يا فرعون إن اللّه ربّنا وربّك أمرنا أن نبلغك «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» 17 فذهبا اليه وبلغاه فعرف فرعون موسى ، لأنه نشأ في بيته ، ولقد خاطبه ف «قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً» الوليد من قرب عهده بالولادة وكان كذلك حين صار إلى فرعون كما مر في الآية 38 من سورة طه المارة «وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ» 18 تحت رعايتنا وبينّت في الآية 21 من سورة طه مقدار هذه السنين وما بعدها «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ» من قتلك أحد رجالنا وهي حادثة معروفة لم ننسها بعد «وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» 19 لنعمتي يا موسى وحق تربتى ، وتأتينا الآن بلا خوف ولا جزع وتزعم أنك رسول اللّه إليّ «قالَ فَعَلْتُها إِذاً» أي ذلك الوقت وأقر بالقتل ثقة بقول اللّه له حين قال آنفا (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ، قالَ كَلَّا) ثم قيد فعل القتل بما يدفع كونه قادحا بالنبوة بقوله : «وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» 20 الجاهلين لأنه كان دون الثالثة عشرة من عمره ، ففي هذا السن لا يؤاخذ على الجريمة وهو كذلك ، أي ذلك وقع من زمن صباوتي قبل استكمال عقلي فضلا عن أني لم أتعمد قتله ، لأني وكزته بيدي بقصد الارتداع من التعدي على الإسرائيلي ، ولم أعلم أن تلك الوكزة تفضي لموته «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ» ان تقتلون به مع أني لا أستوجب القتل ، ولكن علمت أنكم لا تفرقون بين المستحق من غيره خاصة في بني إسرائيل ، لأنكم لا تدينون بدين سماوي وإن شريعتكم بحسب هوى أنفسكم ، لذلك هربت منكم ، وإني حقيقة تربيت في بيتك ولك عليّ حق التربية وأعترف بنعمتك علي ، ولهذا أوصاني ربي أن أستعمل معك اللين جزاء لحقك ، (2/259)
ج 2 ، ص : 260
ومن حق تربيتك لي وجوب إرشادي إليك مكافئة لك ، راجع الآية 43 من سورة طه ، ثم أعلم أن اللّه تعالى علم نيتي فغفر لي جريمة القتل لأني فعلتها عن غير قصد حال صغري ،
ثم تلطف بي وعطف علي «فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً» وأهلني له ، وأوله بعضهم بالعلم أي أزال عني الجهل ، وبعضهم بالنبوة ، وظاهر القرآن يؤيد الأول وعليه المعول «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» 21 إليك وإلى قومك وإلى بني إسرائيل «وَتِلْكَ» التربية «نِعْمَةٌ تَمُنُّها» تمن بها من باب الحذف والإيصال «عَلَيَّ» وجدير أن تجازى بها خيرا لو لم يكن ذلك بسبب «أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» 22 قومي وأذللتهم وذبحت أولادهم خوفا على ملكك ، ولو لا هذا لما جعلت بين يديك ولم أكن في مهد تربيتك لأني صرت إليك بسبب ذلك ، وعبّد بمعنى ذلل واتخذ عبدا ، ولهذا المعنى قال موسى «تَمُنُّها» على طريق الاستفهام الإنكاري ، وجاز فيه حذف حرف الاستفهام على حد قول عمر بن عبد اللّه ابن ربيعة :
لم أنس يوم الربيع وقفتها وطرفها من دموعها غرق
وقولها والركاب وافقة تتركني هكذا وتنطلق
أي أتتركني ، فيكون المعنى ، أتمني على تربيتي وتنسى جنايتك على بني إسرائيل الذين اتخذتهم عبيدا وعاملتهم بالقسوة ولم تقم لهم وزنا ، وقد قتلت المئات منهم حرصا على ملكك ولم تراقب من أعطاكه ، وقد منعك اللّه من قتلي لتكون نهايتك على يدي ، وانك لو لم تسفك تلك الدماء وتتركني لما صرت إليك وصار لك هذا الفضل علي ولربّاني أبواي «قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» 23 سؤال عن الجنس أي أي شيء هو ، ولما كان اللّه منزها عنه عدل موسى على جوابه إلى ذكر أفعاله تعالى وآثار قدرته المعجزة «قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» 24 بأنه خالق ذلك ، فاعلموا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته ، فيكفي خلق هذه الأشياء دليلا عليه إن كنتم تعرفون الشيء بالدليل ، وإذا كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي اليه النظر الصحيح ، لنفعكم هذا الجواب ، ولكن أين الإيقان من فرعون وجماعته ، وقال أهل المعاني كما توقنون(2/260)
ج 2 ، ص : 261
هذه الأشياء التي تعاينونها ، فأيقنوا أن إله الخلق هو الذي خلقها وأوجدها ، فتحيّر فرعون من جواب موسى والتفت إلى قومه «قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ» من ملئه وأشرافهم «أَ لا تَسْتَمِعُونَ» 25 جواب موسى ، اسأله عن ماهية ربه فيجيبني عن آثاره ، فلما سمع كلامه زاده بيانا «قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» 26 فإن لم تستدلوا عليه بآبائكم فاستدلوا عليه بأنفسكم ، وإنما قال هذا موسى لأن فرعون ادعى الربوبية على أهل عصره فقط فاغتاظ فرعون إذ عرّض به موسى أمام قومه وجعله من جملة المربوبين ، وهو يزعم أنه إله لهم فصار يندد بموسى أمامهم ليموه عليهم «قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» 7 2 بظنه وجود إله غيري وإعطائه الجواب على خلاف السؤال ، فالذي لا يفهم وجوه الإجابة على مقتضى السؤال كيف يدعي الرسالة لمن يزعم أنه إلهه ، ثم زاده بيانا بالعظمة «قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» 28 أجوبتي الدالة على أفعال ربي وصفاته ، ولا جواب لسؤالكم إلا ما ذكرته ، فإذا عقلتم تلك الأجوبة عرفتم الحقيقة.
ولما رأى فرعون شدة عزم موسى وقوة حزمه وأنه لا يجارى بالمناظرة وأن أجوبته مبنية على حكم بالغة عدّده بقوله «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» 29 والسجن عند فرعون أشد عذابا من القتل ، لأنه يأمر بإلقاء السجين في هوة تحت الأرض لا يبصر فيها ولا يسمع ، وإنما أقسم وتوعد لانه خاف أن يستميل قومه بما ذكر من البراهين على إلهه وبالحجج القاطعة على أسئلة فرعون الدافعة لحجته ، وليظهر لقومه أنه قادر على إفحام هذا الرسول وقتله ، وليبين لهم أن لا إله غيره ، كما يذكره لهم ، ولما سمع كلامه موسى ورأى ان بلغ فيه الغضب مبلغه خاطبه «قالَ أَ وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ» 30 ظاهر يدل على رسالني وإثبات ما قلته لك أتسجنني ايضا ؟
وهذا سكون إلى الإنصاف وإجابة للحق ، ومن أكمل أخلاق البشر الحسنة وأحاسن الآداب الكريمة ، فركن فرعون لقوله حتى زال ما به
«قالَ» ما هو هذا الشيء الذي تأتيني به «فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 31 في قولك وإلّا سجنّاك ، وإنما قال له هذا خشية من انتقاد قومه له الذين تطاولت أعناقهم إلى(2/261)
ج 2 ، ص : 262
ما سيجيء به موسى «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ» 32 ظاهر لا ريب فيه ، روي انها ارتفعت قدر ميل في السماء ثم انحطت مقبلة إلى فرعون ، فالتجأ لموسى وقال له بحق الذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها فعادت عصا كما كانت ، ولما ركد ما بفرعون وقومه من الفزع ، قال يا موسى هل لديك آية غير هذه ؟ قال نعم «وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» 33 قيل صار لها شعاع يغشى البصر فعند ذلك «قالَ» فرعون «لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» 34 فائق به لأنه أرانا عصاه حية ، ثم أرانا سمرة يده بياضا ناصعا ، وإنه بهذه الشعوذة يا قومي «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» التي ملكتموها بدمائكم «بِسِحْرِهِ» هذا الذي رأيتم مدعيا أنه رسول لآله السموات والأرض وما فيهما ، وأنا لا أعلم أن لذلك إلها غيري وأنتم تعلمون أني إلهكم «فَما ذا تَأْمُرُونَ» 35 أن أعمل به وهو من عرفتم حين كان تحت تربيتي ولما شب قتل رجلا منكم وهرب خوفا من أن أقتصّ به منه ، قال لهم هذا على طريق التنفير منه لما بهره من سلطان المعجزة الذي أنساه دعوى الربوبية ، فحط نفسه لاستمالة قومه بقتله ، ولكنهم ظهروا بمظهر أرقى ومزية أعلى مما دعته اليه نفسه الخبيثة ، فأجابوه بما حكا اللّه عنهم «قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ» أخرهما لا تعجل بقتلهما ولا تعاقبهما حتى يظهر كذبهما إلى الخاص والعام من النهي ، لئلا يسيء عبيدك فيك ظنّهم ، فيقولوا يقتل على غير بينة ، قال كيف ، قالوا اختبرهما وامتحنهما فإذا ظهر كذبهما تصير معذورا بقتلهما ، فلا يقولون انك قتلتهما بغير ذنب ، وهذا رأي سديد ونصح صحيح ، ولهذا قال سعيد بن جبير للحجاج لما استشار جماعته بقتله وصوبوا رأيه ، قال له : وزراء أخيك فرعون احسن من وزرائك ، لأنهم أشاروا عليه بما يمنع الناس من ذمه.
هذا ، ولما قيل إلى سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم أقتل عبد اللّه بن أبي بن سلول قال لا ، لئلا يقال إن محمدا يقتل أصحابه ، بما يدل على ان وزراء فرعون كانوا على نهاية من التدبير والسياسة للرعية والصدق لملكهم والخوف عليه من سوء السمعة ، فيا ليت وزراء الإسلام يغارون دائما على البلاد والعباد ويصونون كلهم ملكهم مما يشوبه ، ثم قالوا له «وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ(2/262)
ج 2 ، ص : 263
حاشِرِينَ»
36 شرطة يجمعون العارفين بالسحر وأمرهم «يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» 37 منهم ما هو بالسحر ، ثم تأمرهم أن يتباروا مع موسى وأخيه ، وإذ ذاك يظهر لقومك كذبهما فتقتلهما بلا لوم عليك ولا تهتم بأمر آخر ، فاستصوب رأيهم ولم يرده مجازاة لهم ، لأنه يعلم ان لا فائدة منه لما يعلم من حقيقة موسى ، فبعث الحاشرين «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» 38 هو يوم عيدهم ، وتقدمت القصة مفصلة في الآية 56 من سورة طه المارة فراجعها «وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ» 39 لننظر ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة فنادى مناديه في الناس ان اجتمعوا فاجتمعوا وقال لهم على طريق السخرية «لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ» يعني موسى وأخاه «إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» 40 ومن فسر السحرة بالسحرة الذين أحضرهم ، قال لم يرد انه يتبع السحرة وإنما يقصد الإعراض عن موسى وأخيه ، والأول أولى
«فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» 41 لموسى وأخيه «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» 42 لدي جاها ومالا وأول الناس دخولا علي «قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» 43 وذلك بعد أن خبروه كما تقدم في سورة طه «فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» 44 لموسى وأخيه وأروا الناس ما هالهم وفرح فرعون وملؤه وقومه «فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» 45 ممّا يخيلونه للناس من قلب عصيهم حيات وأخشابهم حبالا ، وحبالهم أفاعي ، أي ابتلعت جميع إفكهم وعادت كما هي عصيا وحبالا وأخشابا ، وعصا موسى عصا أيضا كما كانت قبل الإلقاء.
مطلب الحكمة من قوله تعالى (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) :
تنبىء هذه الآية الكريمة عن قضية فنية ، وهي لما كانت الحبال والعصي ليست بإفك بل هي من خلق اللّه حقيقة ، فإن حية موسى لم تلقفها ، بل التقفت الزئبق الذي طلي بها الذي هو من صنع السحرة ، إذ وضعوه بين تجاويف الحبال والعصي وطرحوها في الأرض قبل بزوغ الشمس ، فلما طلعت وأثرت حرارتها في الزئبق تحركت وصاروا يدمدمون عليها صورة ، حتى سحروا أعين الناس وأروهم إياها(2/263)
ج 2 ، ص : 264
أفاعي وحبالا ، فلما ابتلعت عصا موسى بقدرة اللّه ذلك الزئبق منها وأزال اللّه ما خيّلوه للناس ، عادت على حالها ، ففضحهم اللّه وأظهر شعوذتهم وإنما لم ينكروا ما رأوه لأن الحيات من عادتها أنها تبلع ما تراه من عصي وغيرها ، ويوجد الآن في البرازيل حيات تبلع الجمل ، والابتلاع من طبعها ، والعقل لا يصدق أن العصي والحبال تبلع شيئا ، وإنما امتصاص الزئبق الذي في تجاويف تلك الحبال والعصي هو الذي يصدقه العقل ، فكان إبطال حركة العصي والحبال بسبب ذلك الامتصاص ، وهذا مما يركن إليه العقل وهو من اكبر الأدلة على إعجاز القرآن وأكملها ، فقد جمع فأوعى ، وهذه الحكمة في قوله تعالى تلقف ما يأفكون ، وجاء في الآية 69 من سورة طه (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) أي الذي صنعوه في العصي والحبال من إلقاء الزئبق فيها ، وهو المراد بالإفك هنا ، وذلك أن اللّه تعالى جعل قوة مادية في عصا موسى تلقف ما موهوه في عصيهم وحبالهم ، قال تعالى «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ» 46 اللّه تعالى إذ ظهر لهم أن فعل عصا موسى جاوز حد السحر ، ولذلك فإنهم لم يتمالكوا أنفسهم فسقطوا على الأرض سجدا ، إذ تيقنوا أن أمر موسى سماوي «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ 47 رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» 48 خصوهما بالذكر لدفع توهم إرادة فرعون من دعواه الإلهية وجهل قومه الذين يدعون إلهيته ، ولو وقفوا على رب العالمين فقط ، لقال فرعون إياي يعنون ليموّه عليهم «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» بالإيمان به «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» فتواطأتم معه عليه ، وقد جاء في آية الأعراف المارة عدد 113 (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) قبل حضوركم مكان الاجتماع ، وانما قال هذا يلبس على قومه انهم لم يؤمنوا على بصيرة ثم بدأ يهددهم فقال «فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» 49 وبال فعلكم هذا ، ثم أقسم وأكد قسمه بقوله «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» 50 مر تفسير مثله في الآية 123 من الأعراف «قالُوا لا ضَيْرَ» لا ضرر فيما ينالنا من عذابك ، لأنه منقطع في الدنيا «إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» 51 رحمته الدائمة في الآخرة مؤمّلين عفوه عما صدر منا ونجاتنا من عذابه الأليم الدائم(2/264)
ج 2 ، ص : 265
«إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا» من الكفر والسحر «أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» 52 في هذا المشهد العظيم بأن اللّه هو رب العالمين لا أنت ولا غيرك وتقدم بسورة الأعراف وطه بما هو أوسع من هنا فراجعهما.
مطلب في السحر وكيفية إهلاك قوم فرعون :
واعلم أن السحر مأخوذ من السحر وهو ما بين الفجر الأول والثاني ، وحقيقة اختلاط الضياء بالظلمة ، فما هو بليل لما خالطه من أضواء الصبح ، ولا هو بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار فكذلك فعل السحر ليس بباطل محقق فيكون عدما لأن العين أدركت أمرا لا تشك فيه ، وما هو حق محض فيكون له وجود في عينه ، لأنه ليس هو في نفسه كما تشهده العين وبظنّه الرأي ، قال الشعراني بعد ما نقل هذا عن بعض الأكابر : كلام نفيس ما سمعنا مثله قط.
راجع تفسير سورة الفلق والناس تجد بحث السحر في صورة مسهبة ، وله صلة في الآية 101 من سورة البقرة في ج 3 قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل وذلك بعد سنتين من ايمان السحرة ، بعد أن أيس من ايمان فرعون وقومه ، إذ لم تؤثر فيهم الآيات المارة 129 فما بعدها من سورة الأعراف «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» 53 من فرعون وقومه بعد خروجكم من مصر ليحولوا بينكم وبين مهاجرتكم ، فبلغ موسى قومه أمر ربه ، فأطاعوه وخرج بهم ليلة عيدهم ، وكانوا استعاروا من القبط حليهم ليتزيّنوا به ، فلما أحس فرعون بخروجهم قال لقومه ذهب موسى وقومه بأموالنا «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ» 54 ليجمعوا الناس ، ولما احضروهم قام بهم خطيبا فقال «إِنَّ هؤُلاءِ» يشير لموسى وقومه إذ نزلهم منزلة الحاضرين المشاهدين لكمال معلوميتهم عندهم ، وهو فريد من بديع الكلام المشتمل عليه كتاب اللّه الذي لا أبدع منه «لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ» 55 قال ابن مسعود كانوا ستمائة الف وسبعين الفا (على ان ابن خلدون قال في مقدمته إنهم دون هذا العدد بكثير» وإنما قللهم فرعون ليقوي معنويات قومه وجبشه بالنسبة للجيش الذي حشده عليهم ، قالوا كانوا الف الف وخمسمائة الف فساقهم أمامه وخرج وراءهم بمائتي الف ملك مع كل ملك الف رجل ، والشرذمة الطائفة(2/265)
ج 2 ، ص : 266
القليلة ، وإنما أكدها بقوله قليلون ، باعتبار أنهم أسباط ، وكل سبط قليل عنده فجمع قليل على قليلين ، وانما أوقع اللّه في قلب فرعون هذا ليتم مراده فيه ، ويجعل كيده في نحره ، ويكون كالباحث عن حتفه بظلفه ، وقال في خطبته «وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ» 56 مغضبون مضيّقون صدورنا لمخالفتهم أمرنا ، وخروجهم دون إذننا ، وأخذهم أموالنا مع قلتهم وذلّتهم «وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» 57 والحذر من عادتنا والتيقظ والاحتراز ، واستعمال الحزم ، وأخذ الأمور بالعزم والصبر على الشدة ديدننا ، ومن مقتضى المخلين بالأمور الضرب الشديد عليهم ، وعلى القوي دائما أن يتقي الأمة الضعيفة إذا خرجت عن سلطانها من أن ينضم إليها ما هو من جنسها ، فتشكل قوة يخشى منها ، ولذلك علينا أن نسارع إلى قمع شوكتهم ، وحسم مادة التشوف لأمثالهم ، حتى يعرف كل واحد مكانه ولا يتعدى طوره ، فنقابل جرأتهم هذه بالقوة ، لئلا يقدم مثلهم فيما بعد على مثل عملهم هذا.
فأظهر لهم بخطابه قوة شكيمته وأغراهم حتى أخرجهم جميعا من بلادهم ولحقوا بموسى وقومه ليردوهم إلى مصر ويضيقوا عليهم أكثر من ذي قبل انتقاما منهم ، قال تعالى «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 58 من بلادهم الموصوفة بذلك «وَكُنُوزٍ» من ذهب وفضة تركوها فيها وإنما سماها اللّه كنوزا لأنهم لم يؤدوا حق اللّه منها وكل مال هذا شأنه يسمى كنزا ، قالوا كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب «وَمَقامٍ كَرِيمٍ» 59 مجلس حسن بهي بهيج ، قالوا وكان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من الذهب يجلس عليها أشراف قومه وأمراؤهم وهم ملأوه أهل الحل والعقد من وزراء ووكلاء وما ضاهاهم مغشاة بأقبية الديباج «كَذلِكَ» كان فرعون وملأوه من العظمة والأبهة ، ولما لم يشكر اللّه على ما أولاه من ذلك المقام ، وكفر هذه النعمة وادعى الإلهية فوقها ، سلبنا ذلك كله منه ومن قومه «وَأَوْرَثْناها» أي الجنان والكنوز والمقامات وغيرها «بَنِي إِسْرائِيلَ» 60 حيث رجعوا إلى مصر بعد إغراق القبط واستولوا على ديارهم وأموالهم ، قال تعالى حاكيا كيفية إغراقهم على الإجمال «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ» رأى قوم فرعون(2/266)
ج 2 ، ص : 267
قوم موسى لأنهم جدّوا السير في لحوقهم ، ورأى قوم موسى قوم فرعون «قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» 61 من فرعون وقومه ولا طاقة لنا بهم وذلك لشدة خوفهم منهم لأنهم نشأوا أرقاء عندهم وتوطنت نفوسهم على الذل واشرأبت قلوبهم من سطوتهم فيه وغشيهم الهوان
«قالَ» موسى ثقة بوعد ربه «كَلَّا» لن يدركونا ابدا «إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» 62 طريق النجاة منهم فقالوا أين نذهب وقد أدركونا ، فلو تركننا بمصر نموت بخدمة فرعون وندفن في أرضه ، تريد يا موسى أن تميتنا في هذه البادية ؟ وطفقوا يلومونه وهو يأمرهم بالصبر ويعدهم بالنصر وهم يتولون ويقولون قد أدركنا القوم الآن يقتلوننا ولم يقدروا أنّ ما كانوا فيه من الاحتقار والاسترقاق من فرعون وقومه أشدّ من القتل ، قال عطاء بن السائب : كان جبريل عليه السلام بين بني إسرائيل وآل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق أولكم آخركم ، ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم ، فصار بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل ، وقوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن رقة من هذا الرجل ، وقد صدقوا جميعا ، إذ لا أحسن منه إلّا الأنبياء وهو سيد الملائكة فلما انتهى موسى بقومه إلى بحر القلزم قيل هو بحر وراء مصر يقال له أساف قال له مؤمن آل فرعون وكان دائما بين يدي موسى هذا البحر أمامك ، وقد غشيك القوم فإلى أين أمرت ؟ قال إلى البحر ، إلا اني لا أدري ما أصنع ، ولم أسأل ربي بعد ان أمرني بأن أتجه نحو البحر ، إذ ما علي الا الامتثال ، وقد قال لى سيأتيك أمري.
قال آمنت بأن ربك سيجعل لك مخرجا ولم يتم كلامه حتى نزل وحي اللّه وهو «فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ» بدلالة الفاء الدالة على التعقيب ، روي عن عبد اللّه بن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إني أعلّمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق البحر ، قلت بلى يا رسول اللّه ، قال قل اللهم لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وبك المستغاث ، وأنت المستعان ، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا باللّه ، قال ابن مسعود ما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وعلينا أن نحفظها ونقولها صباح مساء وعند كل ضيق وحاجة.
فدعا عليه السلام بما ألهمه اللّه من هذه(2/267)
ج 2 ، ص : 268
الكلمات وغيرها مستغيثا بربه الكريم ثم ضرب البحر «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» 63 الفلق والفرق القطعة من الشيء ، ويقال فرق باعتبار الانفصال كالفرقة من القوم ، وفلق باعتبار الانشقاق كالقطعة من الجبل ، والطود الجبل ، ووقف الماء بين الطرق التي شقها اللّه منه كالجبال الشامخات لعمق الماء وظهرت الأرض يابسة بينها كأن لم يكن فيها ماء ، فسار كل سبط تجاهه ، روي أن البحر انفلق فيه اتنا عشر طريقا وسلك كل سبط واحدا ، وقال السبط الذي معه موسى اين جماعتنا ؟ قال امشوا لكل منهم طريق مثلكم يمشون فيه ، قالوا لا حتى نراهم لعلهم غرقوا ، وأكثروا اللفظ على موسى حتى توقفوا عن السير ، وقد أدركهم فرعون وقومه إذ دخل أولهم البحر ، فرفع يديه إلى ربه وقال اللهم أعني على أخلاقهم الفاسدة ، فأمر اللّه البحر ففتح في كل فرق كوة حتى صار القريب يرى قريبه ، والرجل يرى زوجته من السبط الآخر فبادروا بالسير حتى عبروا إلى جهة الشام.
مطلب انفلاق البحر وأخلاق موسى عليه السلام وان كل آية لقوم هي آية لأمة محمد عليه السلام :
وما قيل ان انفلاق البحر كان قوسيا وأنهم خرجوا من الجهة التي دخلوها لا دليل له عليه غير انكار قدرة اللّه لأن القائلين بهذا لا يعترفون بقدرة اللّه ويريدون بقولهم هذا ان البحر انحسر بعادة المد والجزر ، فدخلوا فيه من جهة انحساره وخرجوا من نفس الجهة من طرف الانحسار لآخر ، قاتلهم اللّه فلو كان كما يقولون لما نجوا من فرعون وقومه ، بل لخرجوا معهم لأن المد والجزر يكون من جهة واحدة ، وما قيل ان المسالك ثلاثة عشر لا برهان له عليه ، ويريد صاحب هذا القول ان لموسى وأخيه مسلكا على حدة ، وليس كذلك ، لأن موسى في الأسباط لهذا فان ما ذهبنا اليه هو الواقع والموافق لما هو عند أهل الكتاب في كتبهم ، ولا نص يكذّبه وجل الآثار والأخبار يشهد بصحته ، ومن أصر على الخلاف فعليه الدليل والنقل الصحيح ولا أراه فاعلا واللّه أعلم ، قال تعالى «وَأَزْلَفْنا» قربنا «ثَمَّ» هناك في البحر بعد أن شققناه ودخله قوم موسى «الْآخَرِينَ» 64 فرعون(2/268)
ج 2 ، ص : 269
وقومه وأغريناهم بدخوله لتكون الملامة في الظاهر على فرعون ، لأنه هو الذي ساقهم إلى هذا واللّه تعالى قد أهلكهم في أزله على هذه الصورة ، ولو تقاعسوا عنها لقسرهم عليها ، ولكن سبق في الكتاب أن يكونوا مختارين ، قالوا إن فرعون أغرى قومه بالدخول وإياه هو ، إلا ان حصانه الجأه لأن الخيل أمامه عطف ففسره على اقتحام طريق البحر ليتم مراد اللّه ، حتى إذا كمل دخولهم آذن اللّه البحر بالالتئام وقرىء وازلقنا بالقاف وعليه يكون المعنى أذهبنا عزهم قال :
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها وذبيان إذ ذلّت بأقدامها النعل
لأن زلق بمعنى زلّت رجله وتنحى عن مكانه قال تعالى «وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ» 65 لم يغرق ولم يمت أحد منهم «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ» 66 فرعون وقومه أجمعين لم يفلت واحد منهم ، وحذف التأكيد من الجملة الثانية لدلالة الأول عليها راجع الآية 15 من سورة الأعراف ، وجاء العطف بثم للتراخي لأن اللّه تعالى أمهل البحر حتى لم يبق واحد من بني إسرائيل فيه ، كما لم يبق من قوم فرعون أحد خارجه ، ثم أطبقه عليهم ، ، اعلم أن ثمة تكتب بالتاء لئلا تلتبس وتقرأ بفتح الثاء من غير تاء وصلا وبالهاء وقفا والقراءة على غير هذا الخط من الغلط وهي بمعنى هناك قالوا وقد سمع الاسرائيليون جلبة عظيمة ، فقالوا يا موسى ما هذه ؟
قال البحر أطبق على فرعون وقومه فرجعوا ينظرون لضعف ايمانهم ، فرأوا جثثهم عائمة ، وشاهدوا فرعون نفسه بينهم ، فصدقوا ورجعوا «إِنَّ فِي ذلِكَ» الانفلاق والإنجاء «لَآيَةً» عظيمة ظاهرة لإيمان من يؤمن كافية عن طلب غيرها «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» 67 إذ لم يؤمن من آل فرعون الّا زوجته آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت ناموشا التي دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام ، حتى أخذه معه حين خروجه من مصر وخزقيل مؤمن آل فرعون الذي ذكر اللّه قصته في الآية 28 فما بعدها من سورة المؤمن في ج 2 ، «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 68 الغالب المنتقم من أعدائه الودود الرءوف بأوليائه ، وفي اسم الإشارة في ذلك والضمير في أكثرهم إشارة إلى أنه يجب على قومك يا محمد الإيمان باللّه وأن يعتبروا بما وقع على أمثالهم ، ومع هذا فلم يؤمن منهم إلا القليل بك ، وهذا ما يقتضيه سياق التنزيل ، لا سيما وقد كررت هذه الآية في هذه السورة ثماني مرات بعد هاتين القصتين ، وعقب كل قصة من القصص الست ، الآتية ، بما(2/269)
ج 2 ، ص : 270
يدل على أن المراد بالأكثر من لم يؤمن من أمة كل نبي ، كما ثبت بأن أكثر الناس من كل أمة هم الكافرون في قصة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وأمته المذكورين أولا ، وفي قصة موسى وقومه وفي كل قصة من القصص الآتية كقصة ابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، فتكون كل قصة عبرة لقوم النبي الذين شاهدوها بالدرجة الأولى وبالدرجة الثانية هي عبرة وآية لمن جاء بعدهم من الأمم ، وعليه فتكون كلها عبرة لقوم محمد صلى اللّه عليه وسلم علاوة على ما رأوه من الآيات على يده ، لأنهم سمعوها من لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلم وسماعها منه مع أنه أمي آية على نبوته ، موجبة للإيمان به على من يسمعها من أمته ، لأنها بالوحي الإلهي ، وبهذا التوفيق يحصل التلاؤم التام بين من جعل الآية لكل نبي خاصة بقومه ومن جعلها كلها خاصة لقريش.
تدبر هذا ، فقل أن تقف عليه أو تصادف مثله وهو جواب كاف شاف في إرجاع ضمير أكثرهم ، لأن منهم من أرجعه إلى القبط ، ومنهم من أعاده لقوم موسى ، ومنهم من جعله خاصا بأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والقول الصحيح الجامع لكل هذه الأقوال ما ذكرته لك فاغتنمه ، لأني لخصته من عدة صحائف من كتب التفاسير المطوّلة والمختصرة التي لا يتمكن كل أحد من فهم المطلوب منها المجمع عليه إلا بأيام بل بأشهر لمن كان له وقوف وإلمام بعلم التفسير ، وتجد مثل هذا كثيرا في تفسيري هذا لأني واللّه الذي لا إله إلا هو أقضي الأيام والليالي في التحري على مسألة واحدة ، وكم أنام مهموما لعدم الوقوف عليها حتى إذا يسرها اللّه لي سجدت شكرا للّه تعالى وكأني أعطيت الآخرة ، أما الدنيا فهي بما فيها تساوي عندي حرفا واحدا ، ومن عظيم نعمة اللّه علي أني أرى أحيانا ما أتوقف عنه في منامي ، فأراجعه فيظهر لي كما رأيته ، وللّه الحمد والمنة ، أقول هذا تحدثا بنعمة اللّه لا فخرا ولا رياء ولا سمعة ، ولعل القارئ نظر اللّه إليه أن ينتبه لهذا فيدعو لي ويطلب لي العفو إذا رأى وتحقق لديه ما قاسيته في هذا التفسير ، الذي لم أسبق إليه والحمد للّه على توفيقه ولطفه.
قال تعالى «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يا أكرم الرسل «نَبَأَ إِبْراهِيمَ» 69 قصته كما تلوت عليهم قصتك وقصة موسى «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ» آزر ويسمى تارخا من قرية من سواد الكوفة واسم أمه مثلى ولا خلاف باسم أبيه هذا ، وإنما الخلاف في كون(2/270)
ج 2 ، ص : 271
آزر على وزن آدم أو يازر لقبا له أو اسما آخر ، وما قيل إنه اسم عمه يأباه لفظ التنزيل لأن اللّه تعالى ذكر الأب أبا والعم عمّا فمن أين لنا أن نقول عمه بعد أن يقول اللّه تعالى أباه ، ونصب أباه هنا على تضمين القول معنى الذكر لانه لا ينصب إلا الجمل «وَقَوْمِهِ» قوم آزر أبيه وهو اسمه الحقيقي المصرح به في الآية 75 من سورة الانعام في ج 2 ، وما قيل إنه مجاز عن عمه لا عبرة به ، لان الحقيقة إذا صحت لا يجنح عنها إلى المجاز «ما تَعْبُدُونَ» 70 أي شيء تعبدونه مع علمه عليه السّلام أنهم يعبدون الأصنام ، ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة «قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» 71 مكبين عليها ليل نهار ، ومن خص العبادة بالنهار دون الليل استدل بلفظ فظل لأنها مأخوذة من الظل ، وهو لا يكون إلا نهارا ، راجع ان ظل هنا معناها الدوام والبقاء ولا مخصص لها في النهار ، وكان يكفي لجوابهم الاختصار على (أَصْناماً) وإنما أطنبوا افتخارا وابتهاجا بها ورغبة ومناوأة لقوله (ما) الدالة على ما لا يعقل فكان جوابهم على خلاف السؤال على حد قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) الآية 120 من البقرة في ج 3 ، وقوله تعالى (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) الآية 24 من سورة سبأ ج 2 ، وقوله (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) الآية 30 من النحل في ج 2 ، ومثله كثير في القرآن ، فهم زادوا نعبد مع أنهم لم يسألوا عن العبادة بل سئلوا عن المعبود ، وزادوا جملة فنظل إلخ بقصد المباهاة
«قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ» 72 هذه الأصنام فيجيبوا دعاءكم «أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ» بزيادة الرزق والولد إن عبدتموهم «أَوْ يَضُرُّونَ» 73 كم إن تركتم عبادتهم «قالُوا» وقد لزمتهم الحجة فاعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر «بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ» مثل هذا «يَفْعَلُونَ» 74 وقد قلدناهم واقتدينا بهم ، مع علمنا بعدم إنصافهم بذلك.
مطلب إيمان المقلد والفرق بين الوثن والصنم :
وفي هذه الآية إشارة إلى أن التقليد في الدين مذموم ، إذ يجب الأخذ بالاستدلال إذا كان من أهله ، وإلا فيكفيه أن يقلّد من يعتقد بصحة دينه ، ويكون آثما(2/271)
ج 2 ، ص : 272
بترك التعليم ، لأن العلم الضروري واجب على كل مسلم ومسلمة ، وان قال صاحب بدء الأمالي في منظومته :
وإيمان المقلد ذو اعتبار بأنواع الدلائل كالنصال
بما يدل على اعتباره عقيدة وهو كذلك ، ولكنه لا ينفي إثم عدم التعليم ، قال صلّى اللّه عليه وسلم :
طلب العلم فريضة على كل مسلم - ويشمل ذلك كل مسلمة - حتى أن اللّه تعالى استثنى طالب العلم من الجهاد وهو أحد أركان الدين ، راجع الآية 134 من سورة التوبة في ج 3 «قالَ» لهم ابراهيم عليه السلام «أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ» 75 أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ 76 فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» وحد الخبر على إرادة الجنس وسمى الأصنام أعداء وهي جمادات استعارة ، لأنهم نزولها منزلة العقلاء وقال عليه السّلام (لي) تعريضا لهم لأنه أنفع في النصح من قوله عدو لكم ليكون أدعى للقبول ، ولأنهم على هذا يقولون ما نصحنا إلا بما نصح نفسه وما أراد لنا إلا ما أراد لنفسه ، ولو قال لكم لم يكن بتلك المثابة كما لا يخفى على بصير.
ومن هذا القبيل الآية الآتية من سورة يس المارة إذ أضاف القول فيها لنفسه وهو يريدهم.
حكي أن الشافعي رحمه اللّه واجهه رجل بشيء فقال له لو كنت بحيث أنت لا حتجت إلى أدب.
والعدوّ والصديق يجيئان بمعنى الواحد والجماعة قال تعالى (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) الآية 51 من سورة الكهف في ج 2 والصنم ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره ، والوثن يطلق على كل ما يعبد من دور اللّه ناميا أو غير نام حساسا أو غير حساس ، فهو أعم من الصنم ، ثم استثنى مما عمم فقال «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» 77 استثناء منقطعا لعدم دخوله تحت لفظ الأعدا أي لكن رب العالمين ربي ووليي المستحق للعبادة «الَّذِي خَلَقَنِي» من العدة ووفقني لدينه القويم «فَهُوَ يَهْدِينِ» 78 إلى طريق النجاة هداية تدريجية من الولادة إلى الوفاة ، أولها هدايته إلى مصّ الثدي وآخرها إلى الطريق الموصل إلى الجنة ، وما بينهما إلى جلب المنافع ودفع المضار «وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي» مما خلقه لي من الأرض وأنزله من السماء من غير حول لي ولا قوة «وَيَسْقِينِ» 79 من الماء الذي ينزل من السماء فيسلكه في الأرض التي هي أصله «وَإِذا مَرِضْتُ» أسند المرض له عليه السّلام تأدبا مع ربه.(2/272)
ج 2 ، ص : 273
مطلب أكثر الموت من الأكل والشرب والحر والقر ومحبة الذكر الحسن :
ذلك لأن أكثر أسباب المرض وإن كانت في الحقيقة من اللّه ، إلا أنها تحدث من التفريط في الأكل والشرب وعدم الوقاية من الحر والبرد ، وفيه قيل :
فان الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
وقال بعض الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم ، لقالوا من التخم ، وكثير من الناس لا يرون المرض إلا مرض الموت ويكون أيضا ممّا ذكر إلا القتل أو التردي أو التسمم والحرق والغرق وشبهه ، وكل ذلك بتقدير اللّه تعالى وإرادته ليقع قضاؤه حيث قدره ، وقد راعى عليه السّلام حسن الأدب بهذا وبغيره ، حتى أنه لم يقل أمرضني ، ولا آدب من الأنبياء ، لأن الذي نبأهم هذّبهم «فَهُوَ يَشْفِينِ» 80 لأن الشفاء نعمة منه والمنعم بكل النعم هو اللّه وحده ، وهكذا الخلص ينسبون الخير إلى اللّه والشرّ لأنفسهم ، قال الخضر عليه السّلام (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) وقال (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما الآيتين) 80 و81 من سورة الكهف في ج 2 ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 78 من سورة النساء في ج 3 وكذلك مؤمنو الجن راعوا الأدب مع ربهم ، راجع الآية 10 من سورة الجن المارة فما بعدها «وَالَّذِي يُمِيتُنِي» بانقضاء أجلي في الدنيا ، ولا يرد إسناد الموت للّه على ما قلنا ، لأن الفرق ظاهر ولأن الموت قضاء محتم لا بد منه «ثُمَّ يُحْيِينِ» 81 في الآخرة وهذا تعليم لهم بالاعتراف بالبعث بعد الموت
«وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي» هي قوله لقومه حين أرادوه أن يذهب معهم إلى بيت الأوثان (إِنِّي سَقِيمٌ) الآية 90 من الصافات في ج 2 وقوله حينما سألوه عمن كسر أصنامهم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الآية 62 من الأنبياء في ج 2 وقوله للجبار حين سأله عن سارة (قال أختي) وأراد أخته في الدين وإلا فهي زوجته ، وقد عدها خطايا بالنسبة لمقامه الشريف وقربه من ربه ، وإلا فليست بخطايا وانما هي من معاريض الكلام لدى غير الأنبياء ، وقد يعدها العارفون الكاملون خطايا أيضا بالنسبة لمقامهم ، لأنهم على قدم الأنبياء ، وعلى حد حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وهؤلاء يسمون أمثالها خطايا تواضعا لربهم وتعظيما(2/273)
ج 2 ، ص : 274
لأنفسهم ، وتعليما للغير بطلب المغفرة عما صدر منهم ، «يَوْمَ الدِّينِ» 82 الذي يدان به الناس عما عملوه في دنياهم فيجازون عليه ، روى مسلم عن عائشة قالت قلت يا رسول اللّه : ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويقري الضعيف وبطعم المسكين أكان ذلك نافعا له ؟ قال لا ينفعه إنه لم يقل يوما (رب اغفر لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).
وفي هذا كله يشير عليه السّلام إلى قومه بأنه لا يصلح للالهية إلا من يفعل هذه الافعال ولما أيس منهم باعلام اللّه تعالى إياه هجرهم ونحى نحو ما أمره به ربه وقال «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» لأستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق «وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» 83 الأنبياء قبلي في درجتهم ومنزلتهم عندك «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» 84 من بعدي بأن أذكر لديهم بخير من ثناء حسن وحسن سمعة ، وقد أجيبت دعوته لأن أهل الأديان يثنون عليه خيرا ويعظمونه وكل أمة تحبّه ، وذكر اللسان بدل القول لأنه يكون به ولا حاجة لتقدير مضاف أي صاحب لسان كما قاله بعض المفسرين ، لأن الثناء يكون باللسان وغيره قال :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجّبا
والجزء يطلق على الكل : ويحتمل أن يراد بالآخرين أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لأنه من ولده ويدعو الناس إلى ملته ودينه المشار اليه في قوله تعالى (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) الآية 229 من سورة البقرة في ج 3 أيضا ، ويستدل من هذه الآية ان لا بأس ان يحب الرجل الثناء عليه ، لأن فيه فائدة لا سيما بعد الموت ، إذ تجود عليه رحمات ربه بترحم الناس عليه ، عند ذكر أوصافه وأفعاله الممدوحة ، الا انه لا يخفى ان الأمور بمقاصدها ، وانظر قول صلّى اللّه عليه وسلم من أحب ان يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ، مع ورود الخبر عنه صلّى اللّه عليه وسلم قوموا لسيدكم ، وقد قيد العلماء القيام لأهل الفضل والأكابر ، ولكن الأعمال بالنيّات فعلى المتأدب أن يقوم لمن هو أهل للقيام ، وعلى من يقام له أن لا يحب ذلك «وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» 85 الباقين فيها كما يقيده معنى ورثة لأن البقاء فيها هو السعادة الكبرى والنعمة العظمى «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» 86 طريق الهدى.(2/274)
ج 2 ، ص : 275
مطلب عدم المغفرة للمشرك وعدم نفع المال والولد مع الكفر :
وإنما دعا له بالمغفرة ، لأنه كان وعده بالإيمان به وكان يرجو منه ذلك ، قال تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية 125 من سورة التوبة في ج 3 وفيها دليل على جواز الاستغفار للكفار ماداموا على كفرهم خلافا لما نقله الشهاب في شرح مسلم النووي من أن كونه عز وجل لا يغفر الشرك مخصص بهذه الأمة ، وكان قبلهم قد يغفر لمنافاته صراحة هذه الآية ، وعدم الغفران للمشركين عام في كل أمة ، قال تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) الآيتين من آخر سورة الأعلى المارة أي ان هذا الذي هو في القرآن هو في صحف إبراهيم وموسى ، وفيه ما لم يكن فيها أما ما فيها فكله فيه وزيادة «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ» 87 الناس من قبورهم لان ذلك اليوم «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ» 88 عند مالكه ولا ينفع عنده كل شيء واقتصر على المال والبنين لانهما معظم المحاسن والزينة والرفاه ، راجع الآية 45 من سورة الكهف في ج 2 «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» 89 من الشك فيه والشرك به لا الذنوب ، إذ لا يسلم منها أحد إلا ما ندر عدا الأنبياء بعد النبوة فإنه مقطوع بعصمتهم من كل ذنب حتى في حالة السهو والخطأ والنسيان والغلط راجع الآية 122 من سورة طه المارة تجد تفسير ما يتعلق بهذا البحث ، وقد أخبر اللّه عنه بأنه كان ذلك الرجل لقوله جل قوله (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الآية 83 من الصافات في ج 2 وخصّ القلب لأن بقية الجوارح تبع له ، تصلح بصلاحه وتفسد بفساده ، قال صلّى اللّه عليه وسلم في حديث طويل صحيح : ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب.
وأخرج احمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال : لما نزلت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية 75 من سورة التوبة في ج 3 قال بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لو علمنا أي المال خيرا اتخذناه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أفضله لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه.
وفي هذه الآية دلالة على ان طلب المغفرة له حال لا كما قال بعض المفسرين بعد موته ، لأنه مات كافرا ولا(2/275)
ج 2 ، ص : 276
يجوز الاستغفار للكافر كما مرّ وفيها اشارة أخرى إلى أنه لا ينفع المال صاحبه ، ولو صرفه في وجوه البر إذا كان صاحبه شاكا أو كافرا ، ولا ينفع الولد والده ولو كان صالحا إذا كان أبوه شاكا أو كافرا ، فصلاح المال والولد ينفع عند اللّه إذا كان صاحبهما مؤمنا به ، والا لا ، والى هنا انتهى كلام الخليل عليه السّلام ، خلافا لابن عطية القائل إن هذه الآيات منقطعة عن كلامه مخالفة سياق الآيات ، قال تعالى «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» 90 المعاصي حيث يروونها أمامهم ، لأنها تقرب منهم في ذلك اليوم ، ويتيقنون انهم محشورون إليها ، لأن أهل الموقف حينما يقول اللّه تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس المارة تنقسم إلى قسمين فأهل موقف السعادة تتراءى لهم الجنة ، وأهل موقف الشقاوة تظهر لهم النار «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ» 91 الذين أغواهم هواهم عن طريق الحق ، وفي الآية إشارة إلى أن رحمة اللّه تسبق غضبه ، كما جاء في الحديث ، لأن إظهار جهنم لا يستلزم قربها ، وتقريب الجنة هو تقريبها من داخليها
«وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ 92 مِنْ دُونِ اللَّهِ» في دنياكم وتزعمون أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ، وأنهم يقربونكم من اللّه في هذا الموقف ، هاتوهم وادعوهم لنرى «هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ» كما تقولون ويدفعون عنكم العذاب «أَوْ يَنْتَصِرُونَ» 93 لأنفسهم ليدرأوا عنها العذاب ؟ والجواب محذوف يفهم من المقام لأن السؤال سؤال توبيخ وتقريع ، أي لا ينصرونكم ولا ينصرون أنفسهم وكلكم معذب ، قال تعالى «فَكُبْكِبُوا فِيها» فقذفوا وطرحوا في الجحيم المذكورة منكوسين وهو تكرير كب مبالغة في الطرح كدمدم مبالغة في الدم أي الذقن وعسعس مبالغة في العس أي الظلمة «هُمْ وَالْغاوُونَ» 94 من الإنس والجن المعبودون والعابدون جميعا لأنهم جنود إبليس ولهذا عطف عليه «وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» 95 من أتباعه وأنصاره ومواليهما ، لأن من يعبد غير اللّه فهو عابد الشيطان ، وإن عزيزا والمسيح والملائكة مبرءون من ذلك ، لأنهم لم يدّعوا الإلهية ولم يأمروا بها ، ولم يرضوا فيها ، ولذلك فإنهم مبرءون مما نسب إليهم من العبادة ، كما أنهم قد تبرأوا منها ومنهم.(2/276)
ج 2 ، ص : 277
مطلب ما يقال في مواقف القيامة وعدم جواز أخذ الأجرة على الأمور الدينية :
«قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ» 96 بعضهم لبعض أثناء الخصام «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 97 نحن وإياكم ومن الضلال بمكان «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» 98 فنعليكم ونجعلكم سواسية معه ، وما أنتم إلا مخلوقون مثلنا ، فكيف نعبدكم دون خالقكم «وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ» 99 الّذين سنوا لنا الشرك قديما من إبليس وقابيل ، فهما أول من سن العصيان في الأرض ، وهذا إنما يتجه إذا كان هذا القول من التابعين والمتبوعين ، أما إذا كان من التابعين فقط فيكون معنى المجرمين الرؤساء والقادة ، يدل على الأول قوله تعالى «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ» 100 يشفعون لنا اليوم مثل ما للمؤمنين من الأبناء والأولياء والملائكة والصالحين «وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» 101 مخلص كما لهم أيضا ، حيث يكون التصادق إذ ذاك بين المؤمنين والتعادي بين الكافرين ، قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الآية 28 من سورة الزخرف ، وهؤلاء الذين كان يجمعهم إخاؤهم على التقوى ، أما الذين يجمعهم إخاؤهم على المعصية الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه فيكون كل منهم عدوا للآخر ، لأن كل من كانت صداقته في الدنيا لأغراض قبيحة لا تدوم صداقته في الدنيا ولا تنفع في الآخرة ذويها ، وتكون عليهم حسرة ، راجع تفسير الآية 34 من سورة مريم المارة والآية 140 من سورة البقرة في ج 3.
قال الحسن استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : استكثروا من الإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة
«فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» رجعة أخرى في الدنيا «فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 102 بالرسل وما جاءوا به من اللّه ، طفقوا يتمنون المحال لشدة الندم والأسف على ما فاتهم في الدنيا ، مع أنهم لو أجيبوا لرجعوا إلى كفرهم ، قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 29 من الانعام.
انتهى كلامهم ، وسياق الآيات يدل على أنه من الطرفين كما ذكرنا «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 103 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 104 تقدم تفسير مثلها ، ومن كمال رحمته إمهال أكثر قريش حتى آمنوا به ، بخلاف الأمم الماضية فإنه عجل(2/277)
ج 2 ، ص : 278
عقوبتهم دفعة واحدة «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ» 105 قبله كإدريس وشيث كما كذّبته هو ، ومن كذب نبيا فكأنما كذب جميع الأنبياء «إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ» بالنسب لا في الخلقة فقط ، لأنه منهم «أَ لا تَتَّقُونَ» 106 اللّه فتؤمنوا بي ، وألا أداة استفتاح بستفتح بها الكلام ، وتفيد التنبيه وطلب الشيء بلين ورفق ، ويقابلها هلّا للحثّ على فعل الشيء بشدّة وإزعاج «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ» من اللّه خالقكم «أَمِينٌ 107 على أداء رسالته إليكم وعليكم وكان مشهورا عندهم بالأمانة مثل محمد صلّى اللّه عليه وسلم إذ كان يسمى الأمين «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 108 فيما آمركم وأنهاكم لئلا ينزل بكم عقابه «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ» لتتهموني بقصد ما وإنما أسديكم نصحي وإرشادي مجانا «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 109 لا على أحد منكم ، لأن العمل إذا كان للّه فلا يطلب عليه أجر من غيره ، تفيد هذه الآية لزوم تحاشي العلماء عن طلب أجر على تعليم القرآن والحديث والعلم ، لأنهم ورثة الأنبياء فينبغي أن يقتدوا بمورثيهم ويبثوا ما عندهم من العلوم مجانا للعامة كما علمهم اللّه ، وكذلك الجهات الدينية كالإمامة والخطابة والأذان والوعظ فلا ينبغي أن يؤخذ عليها أجر ما إلا لحاجة ماسة ، كمن ليس له مورد ما ولا شيء من الوقف ولا يقدر على العمل مع القيام بذلك «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 110 كررها تأكيدا وتقريرا أولا بأنه رسول اللّه ، وثانيا بأنه لا يأخذ أجرة على هذه الدعوة ، وانظر بماذا أجابوه قاتلهم اللّه «قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» 111 السفلة الفقراء ، أي كيف نؤمن بك وانك تساوينا معهم ولم نرضهم خدما ، وهم آمنوا بك من غير حجة ونظر واستدلال أو حذق بصر أو بصيرة بل ليعيشوا بفضلك.
مطلب لا تضرّ خسّة الصنعة مع الإيمان ولا يكفي النسب بلا تقوى :
ومعنى الرذالة الخسة ، وخصوهم بها لقلة ذات يدهم من الدنيا ولخسة صنائعهم ، لأن منهم الحاكة والحجامة والإسكافية والمعدم الذي لا مال له ولا نشب ، على أن الفقر ليس بشيء يعاب عليه وكذلك الصنعة قال :
قد يدرك المجد الفتى ورداؤه خلق وجيب قميصه مرقوع(2/278)
ج 2 ، ص : 279
وقال أبو العتاهية :
وليس على عبد تقي نقيصة إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم
وخسة الصنعة خير من السؤال قال الأصمعي رأيت زبالا ينشد :
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها وحقّك لا تكرم على أحد بعدي
فقلت له وما بعد هذه الإهانة ؟ قال السؤال منك ، فحجني ووليت.
وكذلك عدم النسب لا يزري بالشرف ، قال تعالى (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الآية 102 من سورة المؤمنين في ج 2 ، وقال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية 13 من سورة الحجرات في ج 3 ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : أنا جد كل تقي ، وقال :
لا فضل لأسود على أحمر ولا لعربي على عجي إلا بالتقوى ، وقال القائل :
وليس بنافع نسب زكي تدنسه صنائعك القباح
وقال أيضا :
لا ينفع النسب من هاشم إذا كانت النفس من باهله
على أن الإسلام قد ساوى بين أكثر الناس واحتفظ بحق الشرف الاصلي للرجل فقال صلّى اللّه عليه وسلم : خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا.
وقال القائل :
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وليعلم أن الغنى غنى الدين ، والنسب نسب التقوى ، والرفع والخفض من جهتهما
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك الحسيب أبا لهب
والصنعة مهما كانت حقيرة خير من ذل السؤال ، وأحفظ لماء وجه الرجل ، ولا يجوز أن يسمى المؤمن رذيلا ولو كان أفقر الناس مالا وأوضعهم نسبا وأخسهم صنعة ، وما زالت اتباع الرسل بادي الرأي كذلك ، وأتباع الصالحين من بعدهم حتى الآن ، فترى أكثر علماء المدن وصالحيها من القرى ومن عادي الناس ، لكن مع الأسف بعد أن رفعهم العلم وينالوا الشرف على الناس بسلّمه الذي صعدوا عليه ترى خلفهم عمدوا إلى تحطيم ذلك السلم واعرضوا عن العلم الذي هو أساس شرفهم وتقدمهم ، فما تحس بهم إلا وقد أخمد اللّه تلك الشعلة النورانية فيهم ، فصاروا من أحسن الناس بسوء عملهم ، قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ(2/279)
ج 2 ، ص : 280
حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)
الآية 55 من سورة الأنفال ، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية 3 من سورة الرعد في ج 3 ، واللّه تعالى أكرم من أن يسلب نعمة من عبده وهو يشكرها ، ولكن كفرانها مزيل لها ، قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة ابراهيم في ج 2 ،
«قالَ» تعالى حاكيا على لسان نوح عليه السّلام «وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 112 من الصناعات ، أو أن إيمانهم عن غير نظر واستدلال ، إنما أطلب منهم الإيمان الظاهري في الدنيا واللّه يتولى سرائرهم في الآخرة ، يدلك على هذا قوله «إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ» 113 إن اللّه سيحاسبهم على ما في ضمائرهم وعقائدهم لا على صنائعهم وظواهرهم ومكانتهم بينكم وضعة نسبهم فيكم ، فلو علمتم هذا لما عيرتموهم بذلك «وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ» 114 من أجل فقرهم وخسة صنعتهم وضعة نسبهم ، أو لأن إيمانهم بقصد التعيش كما زعمتم «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 115 بالبرهان الصحيح والدليل القاطع أظهر لكم الحق من الباطل ، فأقبل من يتبعني ، وأدعوا لمن يعرض عني لأقيه من عذاب اللّه ، لا لغرض ولا لعوض ، أملا من اللّه أن يرشدكم للصواب ويهديكم لما به نجاتكم.
وانظر بماذا أجابوه على نصحه هذا «قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ» عن دعوتك هذه «لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» 116 بالحجارة حتى تموت «قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ» 117 فيما وعدتهم به من نزول العذاب بهم إن لم يؤمنوا بك وجحدوا رسالتي ووحدانيتك «فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً» أي احكم بيننا لأن فتح بمعنى حكم ، والفتاح الحاكم لأنه يفتح مغلقات الأمور ، كما يسمى فيصلا ففصله بين الخصمين «وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 118 بك والمصدقين لرسالتي فأجابه اللّه تعالى بقوله «فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» 119 المملوء الموقر من أصناف الإنسان والحيوان والطير ، قال تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية 40 من سورة هود في ج 2 وتقدمت قصته مفصلة في تفسير الآية 59 من سورة الأعراف المارة «ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» 120 الذين لم يؤمنوا به بما فيهم زوجته واعلة وابنه كنعان «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً»(2/280)
ج 2 ، ص : 281
عظيمة «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 221
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 122 بانقاذ المؤمنين ويفهم من قوله الباقين أن نوحا عليه السّلام مرسل لمن على وجه الأرض أجمع ولانه قال في قصة موسى (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) قالوا ان عدد المؤمنين الذين كانوا في السفينة ثمانون نسمة ، وانهم أنشئوا قرية في محل إرسائها قرب الجودي وسموها قرية الثمانين ، وسنأتي على تمام القصة في تفسير الآية المذكورة من سورة هود ، وسنبحث في عموم رسالته من حيث الآخر ، وخصوصها من حيث المبدأ هناك أيضا ، وأن رسالة محمد عامة أولا وآخرا ، ورسالة بقية الرسل خاصة أولا وآخرا ، وان عاقبة المصرين على الكفر المستكبرين عن الحق الانتقام بالعذاب الأليم ، قال تعالى «كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ» 123 أنت الضمير باعتبار القبيلة ، وعاد اسم أبيهم الأقصى وكثير ما يعبر عن القبيلة بالأب إذا كانت كبيرة أو كان رئيسها عظيما ، وقد يعبر عنها ببني فلان أو آل فلان «إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ» نسبا لادينا «هُودٌ» هو عابر بن شالخ بن ارفخشد ، بن سام بن نوح عليه السّلام ، وسمي هودا لوقاره أخذا من الهوادة التؤدة والسكينة ، وهو اسم عربي فصيح ، وقومه وقوم صالح عرب ، لأنه من نسل نوح أيضا أما شعيب وإسماعيل فمن نسل ابراهيم عليهم السّلام ، فيكون مجموع الأنبياء العرب خمسة : عاش مئة وخمسين سنة ، وأرسل على رأس الأربعين من عمره إلى أولاد عاد ، وخاطبهم بقوله «أَ لا تَتَّقُونَ 124 إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» 125 وهكذا كل الأنبياء أمناء اللّه على وحيه وعلى عباده «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 126 فيما آمركم وأنهاكم بقصد إرشادكم وهدايتكم «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 127 تقدم مثله ، وهو عبارة عن تنزيهه عن المطامع الدنيوية والأغراض الدنيئة حتى لا يشك فيه ان له رائدا آخر غير اللّه ، ثم شرع يعدد مساويهم
فقال «أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ» مكان مرتفع ، وقيل هو الفج بين الجبلين والطريق وكل ما يشرف على غيره (آيَةً) برجا عاليا كالعلم وقد بين مواضع الذم في اتخاذهم البناء العالي بقوله «تَعْبَثُونَ» 128 بالمارة وتستهزئون بهم من فوقهم بسبب اشرافكم عليهم مع انكم بغنى عن ذلك وتقصدون به التفاخر والتطاول عليهم لالسدّ حاجتكم(2/281)
ج 2 ، ص : 282
وكفايتكم ، او لا حاجة لكم لعلو البناء لفسحة أراضيكم «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ» حياضا كبيرة محصنات لجمع الماء «لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» 129 بذلك في هذه الدنيا التي لا خلود فيها ، فاقطعوا أملكم منها واعلموا انكم ميّتون ما عمرتم فيها وتاركون قصوركم وحياضكم وغيرها «وَإِذا بَطَشْتُمْ» عاقبتم أحدا لجرم ما «بَطَشْتُمْ» ضربتم ضربا مبرحا بالسوط وقتلا بالسيف بطش أناس «جَبَّارِينَ» 130 بلا رحمة ولا شفقة ولا رأفة والجبار وصف مذموم بالخلق لأن الذي يضرب ويقتل بمجرد غضبه غير ناظر للمضروب انه مستحق ذلك أم لا «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 131 بالكف عن هذه الأفعال الذميمة
«اتَّقُوا اللّه الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ» 132 من العافية والنعم المبينة بقوله «أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ» كثيرة متنوعة «وَبَنِينَ 133 وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 134 جاربة بينها ولم تشكروه وقد ضرب صفحا عن نعمة خلقهم وما متعهم به من سمع وبصر وقوة وعقل ، لانهم ليسوا بأهل للاستدلال والنظر ، ولهذا اقتصر على النعم المنهمكين فيها ، وكان خلقهم التكاثر بالأموال والأولاد ، والتفاخر بالكثرة فيها «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» ان لم تؤمنوا أن يصبّ عليكم «عَذابَ يَوْمٍ» من ربكم «عَظِيمٍ» 135 لا أعظم منه إن بقيتم على كفركم وأصررتم على عصيانكم ، وانظر بماذا جاوبره «قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» 136 فإنا لا نسمع قولك ولا نطيع أمرك ، وهو جواب بغاية الاستخاف وقلة الاكتراث وعدم المبالاة ، مع أن ما وعظهم به كان على غاية من اللين ، ولكن قلوبهم قاسية يلين الحجر ولا تلين ، راجع الآية 13 من البقرة في ج 3.
ثم قالوا له «إِنْ هذا» الذي نحن عليه من بناء القصور ومصانع المياه وشدة البطش والعبث ما هو «إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» 136 آبائنا ومن قبلهم أي عبادتهم وديدنهم ولم يبعثوا بعد موتهم كما تقول ولم يعذبوا ، ولهذا فلا محل لقبول نصحك «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» 138 أيضا ولا مبعوثين ولا محاسبين على ما نفعله ، قال تعالى «فَكَذَّبُوهُ» ولم ينتفعوا بإرشاده «فَأَهْلَكْناهُمْ» بريح صرصر عاتية فلم تبق لهم باقية ، وتقدمت قصتهم مفصلة في الآية 72 من الأعراف المارة ، «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً» كافية لمن يعتبر بها(2/282)
ج 2 ، ص : 283
«وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 139 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 140 تقدم تفسيره
«كَذَّبَتْ ثَمُودُ» بن غاير بن أرم بن سام بن نوح كانت مساكنهم بين الحجاز والشام «الْمُرْسَلِينَ 141 إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ» بن عبيد بن جاوز بن ثمود أرسله اللّه إليهم بعد هود بمئة سنة ، وعاش مئتين وعشرين سنة «أَ لا تَتَّقُونَ 142 إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 143 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 144 وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 145 تقدم مثله «أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا» في هذه الدنيا ونعيمها «آمنين 146» من الموت وعذاب الآخرة الذي لا بد لكم منه ، الذي لم ينج منه من تقدمكم من الأمم الكافرة ، فلا تغتروا بما أنتم عليه ، فإنه نازل بكم إذا لم تؤمنوا باللّه ورسوله وصحفه وتموتوا على ذلك ، فلا تأمنوا مكر اللّه بما أنعم عليكم «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 147 وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ» 148 نضيج لين رطب ، ينهضم في المعدة فلا يحتاج إلى كثير مضغ «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ» 149 أشرين بطرين في هذه الدنيا ، كلا لا تتوهموا ذلك فهو محال اغترّ فيه من قبلكم فهلكوا وخلفوها لمن بعدهم وتحملوا عذابها.
سأل نافع بن الأرزق ابن عباس رضي اللّه عنهم عن معنى الهضيم فقال : هو المنضمّ بعضه إلى بعض ، فقال له وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم ، أما سمعت قول امرئ القيس :
دار لبيضاء العوارض طفلة مهضومة الكشحين ريّا المعصم
«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 150 وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» 151 في المعاصي الذين تآمروا على مخالفته ، وهم الرهط التسعة الآتي ذكرهم في الآية 47 من سورة النمل الآتية
«الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» 152 لتوغلهم في الفساد ودأبهم على المخالفة للحق «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» 153 الذين خدعهم السحر واستولى على حواسهم «ما أَنْتَ» أيها الآمر المدعي النبوة «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» تأكل وتشرب وتنكح ولست برسول ولا ملك «فَأْتِ بِآيَةٍ» تدل على صحة دعواك «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 154 بأن اللّه أرسلك إلينا مما ذكرت «قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ» حظ من الماء العائد لكم «وَلَكُمْ» مثله(2/283)
ج 2 ، ص : 284
«شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» 155 لكم يوم ولها يوم فلا تزاحموها عليه وهي آية على نبوتي «وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» من ضرب أو نهر أو منع عن الورود والمرعى ، فإذا فعلتم شيئا من ذلك «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ» 156 فلم يعبأوا بقوله فعمدوا إليها «فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ» 157 إذ شاهدوا العذاب أظلهم.
مطلب في إيمان اليأس والتأدب بآداب القرآن وآداب المنزل عليه :
وكان ندمهم ندم خوف لا ندم توبة ، والتوبة لا تنفع عند نزول العذاب ، راجع قوله تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلخ الآية 18 من سورة النساء في ج 3 ، وقال في بدء الأمالي :
وما إيمان يأس حال يأس بمقبول لقصد الامتثال
فالإيمان عند معاينة العذاب لا قيمة له ، كما سيأتي في الآية المذكورة ، لذلك قال تعالى «فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» المعهود المبين في الآية 79 من الأعراف المارة ، «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 58 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 159 تقدم تفسيره ، قال تعالى «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ» 160 هو بن هاران بن عم ابراهيم عليهم السّلام وقد هاجر معه إلى الشام فأنزله الأردن ، فأرسله اللّه إلى أهل سدوم وما يتبعها ، وهو أجنبي عنهم ، إلا أنه صاهرهم ، وهؤلاء المرسل إليهم كذبوا قبله ابراهيم ومن قبله ، وكذبوه هو «إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ» بالخلقة لا بالدين ولا بالنّسب ، ومعناه هنا صاحبهم كما يقال يا أخا العرب ، يا أخا تميم ، وعليه قوله :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وهو لوط عليه السّلام بدل من أخوهم ثم فسر ما قاله لهم بقوله «أَ لا تَتَّقُونَ 161
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 162 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 163 وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 164 الذي أرسلني إليكم ، لأرشدكم إلى ما فيه صلاحكم ، وقال لهم على طريق الاستفهام الانكاري «أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ» 165 عبر بالإتيان عن اجراء الفحش ليعلم قومه الأدب في المخاطبات ، ولينبههم على ان هذا الفعل قبيح بنفسه ولفظه ليتحاشوا عنه وعن ذكره.
هذا ، وان اللّه تعالى عبر(2/284)
ج 2 ، ص : 285
عن الوطء الحلال بالحرث في الآية 222 من البقرة في ج 3 ، وعن الجماع بالغشيان في الآية 188 من الأعراف المارة ، وعن الفعل القبيح بالإتيان كما هنا ، وفي الآية 73 من الأنبياء بالخبث في ج 2 وفي الآية 179 من الأعراف المارة وذلك ليتأدب العباد بتأديب القرآن ويصونوا ألسنتهم عن ذكر الألفاظ المستهجنة ، قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا أتى أحدكم أهله ، وكثير من أقوال الرسول تأمر بالآداب في المخاطبة بالإشارة والقول والفعل تباعدا عن سوء الأدب والجهر بما هو فاحش والجنوح إلى الكنى والمعاريض في كل ما يستقبح ذكره ، ومن هذا قوله تعالى «وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ» مما أحله لكم وهو محل الحرث والبذر الذي منعكم اللّه عن إتيانه أيام الحيض لقذارته ، فكيف تميل أنفسكم إلى ذلك المحل مخرج القذر دائما «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» 166 متجاوزون متعدون الحل إلى الحرمة قالوا كانوا يفعلون هذا الفعل القبيح بأزواجهم أيضا : وقيل إن ابن مسعود قرأ (وتذرون ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم) هو تفسير الآية لا قراءة وقد أخطأ من جعلها قراءة لما فيها من الزيادة على ما في المصاحف من تبديل خلق بأصلح ، وقد ذكرنا غير مرة بأن كل قراءة فيها تبديل كلمة أو حرف أو زيادة أو نقص عما أثبت في المصاحف لا عبرة بها وليست بقراءة ، وانما هي شروح كتبوها على مصاحفهم تفسيرا لبعض الكلمات ، لأنها أنزلت كذلك ، وقد أكثرنا من التحرز عن مثل هذا لينتبه القارئ فيحذر من الإقدام على القول بشيء منه ، إذ لا يجوز اعتباره ولا نقله الا تأويلا أو تفسيرا ، وبحرم اعتقاد قرآنيته ، لأن من يعتقد قرآنا ما ليس بقرآن قد يؤديه إلى الكفر والعياذ باللّه ، إذ لا قرآن الا ما هو ثابت بين الدفتين البتة ، وفي هذه الآية دلالة على تحريم إتيان النساء والجواري بأدبارهن حتى أن بعض العلماء كفر فاعله مبالغة في التحريم ، وقد جاء في الحديث من
أتى امرأة في دبرها فهو بريء مما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ولا ينظر اللّه اليه ، ولهذا أفتى من أفتى بكفره ، لأن من كان بريئا مما انزل على محمد فهو كافر ، تدبر هذا ، وراجع الآية 80 فما بعدها من سورة الأعراف المارة تجد تفصيلا شافيا كافيا ، والحكم الشرعي فيه ، والقصة بتمامها ايضا «قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ» عن مقالتك هذه وتتركنا(2/285)
ج 2 ، ص : 286
وشأننا «لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ»
167 من قرانا لأنك لست منا ولا فينا من ينظرك «قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ» 168 المبغضين وهو أبلغ من قال ، كما إذا قلت فلان من العلماء فقد جعلته منهم مساهما معهم بالعلم فهو أبلغ من قولك عالم ، لأن العالم من علم مسألة واحدة ، وفيه دليل على عظم هذه المعصية ، ولما رأى عدم ميلهم لقوله وتهديدهم له قال «رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ» 169 فأجاب اللّه دعاءه بقوله «فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ 170 إِلَّا عَجُوزاً» هي امرأته منهم بقيت «فِي الْغابِرِينَ» 171 الهالكين لأنها كانت راضية عن عمل قومها والراضي بحكم الفاعل في شريعتهم أما في شريعتنا فلا الا الرضاء بالكفر فهو كفر
«ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ» 172 تدميرا فظيعا بأن قلبنا قراهم كما مر في الآية 84 من الأعراف المارة ، «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» من حجارة فكان عذابهم عذابا عظيما «فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» 173 الذي أنزلناه عليهم من السماء وجعلنا أعالي أراضيهم أسفلها على صورة عجيبة هائلة «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 174 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 175 كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» 176 هي الغيضة المنبتة ناعم الشجر كالسدر والأراك ، وهي بلدة قريبة من مدين من جهة البحر «إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ» بن ثوبب بن مدين بن ابراهيم وقيل بن مكيك بن يشجر بن مدين وأم مكيك بنت لوط عليهم السّلام ، ولم يقل هنا أخوهم ، لأنه ليس منهم أيضا ، وليس له معهم مصاهرة ولا نسبة ، وكانوا طائفة على حدة «أَ لا تَتَّقُونَ 177 إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 178 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 179 لأن طاعتي طاعته «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 180 لأني مأمور من قبله وأجر المأمور على آمره ، ثم طفق يأمرهم وينهاهم بما تلقاه عن ربه فقال «أَوْفُوا الْكَيْلَ» إذا كلتم للناس «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ» 181 حقوقهم بالتطفيف لأن فيه نقص حقهم ، والكيل ثلاثة : واف وهو مأمور به ، ومطفف وهو منهي عنه ، وزائد وهو مسكوت عنه ، فإن فعله فقد أحسن ، وإلا فلا شيء عليه ، وفي الآية دليل على الوفاء وهو لا يخلو من الزيادة ، لأنه(2/286)
ج 2 ، ص : 287
لا يكون إلا بالرجحان ، فمن رجح الموزون على الوزن فقد أوفى به «وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ» أي الميزان العدل أو القبان.
مطلب ما قيل إن في القرآن لغات أجنبية لا صحة له وهي هذه كلها :
قالوا إن هذه الكلمة في الأصل ليست عربية ، وانها من جملة ما جاء بالقرآن من الكلمات الاعجمية الكثيرة ، إذ أبلغوها إلى ما يزيد على مئتي كلمة وقد جاءت في القرآن لا لعجز في اللغة العربية لأن لها كما لا يخفى مترادفات كثيرة ، ولكن ليعتني الناس بأمر اللغات وليعلموا أن معرفتها كمال للإنسان لا نقص ولا عيب ولا سيما لاستعمال الأشياء المحدثة إذ لا يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة كأصلها وإن في تجدد اللغة تجدد معارف لم تكن وإن في ازديادها تحصيلا لها فتكون نموا وحياة لآخذها في عوامل الارتقاء من نواحيه كافة ، وهذا من إرشادات القرآن العظيم لأن معرفة كل لسان بإنسان.
هذا ، وان القول الحق في هذه الكلمات أنها عربية في الأصل ، لأن العرب استعملوها قبل نزول القرآن ، ولغتهم قديمة ، لأن هودا وصالحا وأممهم عرب كما مر في الآية 123 ولغاتهم متفرقة ولها مترادفات كثيرة ، ويوجد كلمات مستعملة عند طائفة منهم بمعنى ، وعند أخرى بمعنى آخر ، وقد توجد كلمات عند فرقة دون أخرى لبعد الشقة بينهم ، حتى ان حرفي الجيم والكاف الفارسيين الذين لم يعدّا من الحروف العربية لا بد وأن يكون أصلهما عربيا ، لأن عرب البادية قديما وحديثا ينطقون بها ، وهذا بالطبع بطريق التنافل ، فلو لم يكن أصلهما عربيا لما تعمم هذا التعميم ونطق بها من لم يعرف الحاضرة ولم يختلط بالفرس ، إذ قد يكون بالاختلاط أيضا كما هو الحال الآن ، إذ يدخلون بالكلام العربي كلمات أجنبية تسربت لهم بسبب الخلطة ، وبعد أن علمت هذا فقد أحببنا أن نورد لك الكلمات الموجودة في القرآن المقول عنها بأنها أجنبية تتميما للفائدة مما وقفنا عليه ، فمنها ما قيل إنه بلغة الحبشة وهي كلمة (شطر) : بمعنى تلقاء 2 والجبت :
بمعنى الشيطان ، 3 والطاغوت : الكاهن ، 4 والحوب : الإثم ، 5 والأواه : الموقن والمؤمن والرحيم ، 6 ابلعي ماءك : ازدرديه ، 7 المتكأ : الأترج ، 8 طوبى : (2/287)
ج 2 ، ص : 288
الجنة ، 9 السكر : الخل ، 10 طه : يا رجل ، 11 حرّم وجب ، 12 طي السجل : الرجل ، 13 المشكاة : الكوة ، 14 أوّبي : سبحي ، 15 سيل العرم :
المسناة التي يجتمع إليها الماء ثم ينبثق ، 16 منسأته : عصاه ، 17 يس : يا إنسان ، 18 أوّاب : مسيح ، 19 كفلين : ضعفين ، 20 ناشئة الليل : رغبة قيامه ، 21 منفطر : ممتلىء ، 22 قسورة : الأسد ، 23 يمور : يرجع ، 24 طور سينين :
الحش وهو إيقاد النار والمحش هو المكان الكثير الكلأ والخير ، 25 الأرائك :
السرر عليها الوسائد ، 26 يصدون : يضجون ، 27 دريّ : مضيء ، 28 غيض الماء : نقص ، ومنها ما جاء بالفارسية في قوله تعالى (وَإِسْتَبْرَقٍ) : الحرير الثخين ويسمى ديباجا ، 29 و30 سجيل كل ما أوله حجر وآخره طين وقالوا هو الطين المحرق كالآجر ، 31 كورت : غورت ، 32 مقاليد مفاتيح ، 33 أباريق : كل آنية لها خرطوم وعروة ، 34 بيع : بيوت عبادة النصارى ، 35 كنائس : بيوت عبادة اليهود ، 36 التنور : جهنم ، 37 دينار : اسم لما يعادل ثلث مثقال من الذهب المتعامل ، 38 الرّس : البئر غير المطوي وقيل هو المطوي 39 الروم :
علم لقبيلة بني الأصفر ، 40 زنجبيل : اسم لنبات حار خص به ، 41 سجين :
اسم لكتاب اهل النار ، 42 سرادق : قماش يمد فوق صحن البيت ، 43 سقر :
من أسماء جهنم ، 44 سلسبيل : اسم لعين ماء في الجنة ، 45 وردة كالدهان :
الزهرة في النّبات ، 46 سندس : مارق من الحرير المنسوج ، 47 قرطاس :
الورق ، 48 أقفالها : غالاتها : 49 كافور : اسم لنبات مخصوص ذو رائحة يطيب فيه أكفان الموتى غالبا 50 كنز : ما ادخر من ذهب وفضة وجوهر ، 51 المجوس :
طائفة من اليهود افترقت عنهم لمخالفتها بعض طقوسهم ، 52 الياقوت : اسم لحجر كريم يتزين به ويوضع فصا للخاتم وهو ألوان كثيرة ، 53 المرجان : كذلك إلا أنه بحري وذلك برّى ، 54 مسك معلوم ويكون من نوع من الغزال كالفسارة في بطنه فيه وقيل :
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
55 و56 و57 هود وهاد وهدنا واليهود : بمعنى التوبة والإنابة والرجوع(2/288)
ج 2 ، ص : 289
والخضوع ، ومنها ما جاء بالرومية في قوله تعالى فصرهنّ : قطعهن أو ضمهن ، 57 الفردوس : البستان والجنة ، 58 القسط : العدل ، 59 القسطاس : الميزان ، 60 طفقا :
قصدا وشرعا ، 61 الرقيم : اللوح والكتاب ، 62 الصراط : الطريق ، 63 القنطار :
إثنا عشر ألف اوقية ، 64 عدن : اقامة دائمة ، ومنها ما جاء بالهندي في قوله تعالى ابلعي : اشربي وتقدم أنه بلغة الحبشة بمعنى از دردي والمعنى واحد ، 65 طوبى :
الجنة وهي كذلك بلغة الحبشة ، 66 سندس : رقيق الحرير الديباج ، وهو كذلك بالفارسية ، وهذا مما يدل على أن اللغات آخذة بعضها من بعض وهو كذلك ، فإنك لا تجد لغة إلا وفيها من غيرها ، وبما أن أوسع اللغات هي العربية فنقول إن هذه الكلمات وغيرها في الأصل عربية وتناقلتها اللغات الأخرى فأدمجتها في لغتها وها هي ذي لغة الترك مركبة من عربي وفارسي وبربري ، ومنها ما جاء بالسريانية في قوله تعالى سريّا : نهرا ، أو جدولا صغيرا وبالعربية كذلك ، وبمعنى شريف ونبيل ، راجع الآية 23 من سورة مريم المارة ، 67 طه : يا رجل وهو كذلك بالحبشية ، 68 جنات عدن : الكروم والأعناب ، 69 الفردوس : جنات الأعناب فقط ، 70 الطور :
الجبل ، 71 يمشون هونا : حلماء موقرين ، 72 هيت لك : عليك أن تفعل ، 73 ولات :
وليس وهي باللغة العربية كذلك ، 74 و75 ربيّون : ربانيون علماء عارفون ، 76 رهوا :
ساكتا ، 77 سجدا : مقنعي رؤوسكم ، 78 القيوم : الذي لا ينام ، 79 الاسفار :
الكتب وهذه كلها بالعربية كذلك ، 80 القمل : الذباب ، 81 اليم : البحر ، 82 صلوات كنائس اليهود ، 83 آزر : اسم أبي ابراهيم ، 84 قنطار : اسم لملء جلد الثور ذهبا أو فضة وتقدم أنه في الرومية لوزن مخصوص ، ومنها ما جاء بالعبرانية كفّر عنهم :
محا عنهم 85 هونا : صلحاء وهو كذلك بالسريانية ، 86 أخلد في الأرض : ركن إليها ، 87 هدنا إليك : ثبتنا على ما تريد ، 88 كتاب مرقوم : مكتوب ، 89 رمزا : تحريك الشفتين ، 90 فومها : الحنطة ، 91 أواه : الداعي وتقدم أنه بمعنى الموقن بالحبشية ، 92 طوى : اسم واد بفلسطين وبمعنى رجل ، 93 اليم : البحر وهو كذلك بالسريانية ، 94 الرحمن : كثير الرحمة ، 95 الأليم : الموجع ، 96 حمل بعير : الحمار أو الدابة ، 97 درست : تعلمت وقرأت ، 98 حطة : حط عنا أوزارنا ، 99 الأسباط : الأفخاذ ، 100(2/289)
ج 2 ، ص : 290
راعنا : انظرنا 101 من لينة : شجرة طرية ، 102 قسيسين : علماء النصارى ، ومنها ما جاء بالنبطية طور سينين المحشي وتقدم في اللغة الحبشية كذلك ، 103 أسفارا : كتبا كما تقدم في السريانية ، 104 الحواريون : الغسّالون ، 105 الأكواب : الاواني التي لا عرى لها ولا خرطوم ، 106 وليتبّروا ما علوا : يهلكوا إهلاكا عظيما ، 107 سريا :
نهرا ، وهو في السريانية كذلك ، 108 سفرة : قراء 109 فصرهن : قطعهن وهي بالرومية كذلك ، 109 طه : يا رجل ، وهي كذلك في الحبشية والسريانية : 110 الطور :
الجبل وهو في السريانية كذلك ، 111 إلا : عهدا وموثقا ، 112 الفردوس : الكرم وهو كذلك في السريانية ، 113 الملكوت : الملك ، 114 هيت لك : هلم لك وتقدمت انها في السريانية بمعنى آخر قريب من هذا ، 115 رهوا : سهلا ، وتقدم أنه بمعنى ساكن في السريانية ، 116 عبدت : قتلت ، 117 وراءهم : ملك أمامهم ، 117 قطّنا : كتابنا ، 119 إصري : عهدي وميثاقي ، 120 كفّر : أمح وهي كذلك في السريانية والعبرانية ، 121 وزر : الجبل والملجأ وهذه كلها بالعربية كذلك بزيادة في معناها من الكلمات المترادفة بما يدل على أن النبطيين أخذوها من العرب 127 ومنها ما جاء بالقبطية في قوله تعالى متكأ : الأترج ، 122 مناص : فرار ومهرب ، 123 مزجاة : قليلة ، 124 فناداها من تحتها : من بطنها ، 125 بطائنها من إستبرق أي ظواهرها ، 126 الجاهلية الأولى : الأخيرة ، 127 الجاهلية الأخرى : الأولى لأنهم يسمون الآخرة أولى والأولى أخرى ومنها ما جاء بالتركية ، غسّاق : الماء البارد والمنتن ، ومنها ما جاء بالزّنجية في قوله تعالى حصب جهنم : حطبها ، 128 الأليم : الموجع وهو كذلك بالعبرانية ، 129 منسأته : عصاه وهو كذلك بالحبشية ، ومنها ما جاء بالبربرية في قوله المهل : عكر الزيت ، 130 ناظر في إناء :
نضجه ، 131 حمّ : منتهى الحرارة ، 132 عين آنية : جارية ، 133 يصهر ما في بطونهم : ينضج به ، 134 أبّا : الحشيش ، 135 قنطار : ألف مثقال من ذهب وفضة ، 136 هذا ما عثرنا عليه ، وما قيل إن عمر بن يحيى الحافظ أوصلها إلى مئنين فهو من غير المترادف منها والمتداخل فيها ، ولو حسب هذا لبلغت ذلك وأكثر.
واعلم أن هذه الكلمات بوجودها في القرآن العظيم تعد عربية بحتة ، وعلى فرض أن(2/290)
ج 2 ، ص : 291
منها ما هو ليس بعربي فقد نقل إلى العربية قبل نزول القرآن ، إذ تكلمت بها العرب قديما وأجرتها على الأصول العربية إعرابا وبناء ، لهذا فلا محل للقول بأنها أجنبية ويتحتم علينا أن نؤولها على ما وضعت له ونعتت به مثل «الْمُسْتَقِيمِ» 182 أي العدل صفة القسطاس «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» بأن تعطوهم أنقص من حقهم أو تأخذوا منهم أكثر من حقكم «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» 183 بأن تقطعوا الطرق وتسلبوا المارة وتشنوا على الآمنين الغارة وتهلكوا الزرع والضرع وهذا معنى تعثوا لأنه المبالغة في الإفساد والإكثار منه
«وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي خَلَقَكُمْ» أجنة في بطون أمهاتكم «وَالْجِبِلَّةَ» الخليقة «الْأَوَّلِينَ» 184 من الأمم التي خلقها قبلكم ، قال ابن عباس الجبلة الجماعة شبهت بالقطعة العظيمة من الجبل «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» 185 الذين سحروا مرة بعد أخرى «وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ» 186 بما تدعيه من الرسالة ، فإن كنت صادقا «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» قطعا كثيفة عظاما منها «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 187 بأنك رسول اللّه القادر على كل شيء «قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» 188 وما تقولون وهو يجازيكم على ذلك ، لأني بشر مثلكم لا قدرة لي على شيء مما اقترحتموه وغيره ، فهو الذي يسلط عليكم ما يقهركم ويردكم إلى السداد قهرا «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» السحابة التي حبست عنهم الريح بعد أن سلط عليهم الحر سبعة أيام «إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» 189 لأن السحابة التي التجئوا إليها لتقيهم حر الشمس قد أمطرتهم نارا والعياذ باللّه فأهلكتهم جميعا ، وتقدمت القصّة مفصّلا في الآية 93 من سورة الأعراف المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 190 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 191 انتهت القصص الثمانية التي أشرنا إليها آنفا ، فتأمل رعاك اللّه كيف كانت دعوة هؤلاء الأنبياء الكرام إلى أممهم ، وكيف كانت على وتيرة واحدة وجاءت على صيغة واحدة ، لأن المرسل لهم هو الإله الواحد ، والمرسل إليهم عبيده وخلقه ، وكيف بذلوا معهم قصارى جهدهم ونهاية وسعهم طلبا لإرشادهم لسلوك الحق وعدولهم عن الباطل ، (2/291)
ج 2 ، ص : 292
بما يتحتم على العاقل من أن يعتقد صحة الشرائع كلها ، قال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية 162 من النساء في ج 3 ، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية 13 من الشورى في ج 2 ، كما يجب أن يعتقد ويصدق بجميع الأنبياء ويعترف أن ما جاء في شريعة النبي المتأخر ناسخ لشريعة من قبله وواجب العمل به ، وكيف كان جوابهم إليهم فتراه كأنه صادر عن أمة واحدة بلهجة واحدة على نمط واحد ، صدق اللّه تعالى وهو أصدق القائلين في قوله (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية 167 من البقرة في ج 3 ، وكلهم سخروا بأنبيائهم واستهزءوا بهم وكذبوهم وأنكروا معجزاتهم ولم يعتبروا بمن قبلهم ولم يرتدعوا بما وقع عليهم ، ألا فليحذر الذين يخالفوا أمر اللّه ويكذبون رسله ويجحدون كتبه أن يصيبهم مثل ما أصابهم ثم التفت إلى حبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم وقال «وَإِنَّهُ» أي القرآن المنزل عليك الذي أمرناك أن تنذر به قومك وقصصنا عليك فيه أحوال الرسل قبلك وأممهم وكيفية حالهم معهم وماهية عذابهم وسبب إهلاكهم تسليه لك كي لا يضيق صدرك مما ترى منهم ولا تحزن على عدم إيمانهم ودعهم فليقولوا ما يقولون فيه ، وعزتي وجلالي «لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ» 192 وقد «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» 193 سفيرنا جبريل ، سماه روحا لأنه خلق من نور اللّه من الروح وأمينا لائتمانه على وحيه وأدائه لرسله كما تلقاء منه وفي لحظة أمره به
«عَلى قَلْبِكَ» يا سيد الرسل حتى تعيه «لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» 194 به وقد خص القلب لأنه موضع التمييز والعقل ، لأن الرجل لا يتكلم إلا عما وقر في قلبه «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» 195 ليفهمه قومك دون حاجة لترجمان حتى لا يبقى لهم عذر من جهة إرسال الرسول والفهم ، قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الآية 3 من سورة ابراهيم في ج 2 ، وهذه الآية وما يضاهيها من آي القرآن الحكيم فصل الخطاب بأن جميع ما في القرآن عربي فصيح جاء بلسان العرب ولغتهم ، وعليه فكل قول بأن بعض كلماته أجنبية باطل ، وما جاء بأن اسماء ابراهيم وإسماعيل وجبرائيل أعجمية فهي في الأصل كذلك ونقلت إلى العربية وتسمى بها العرب قبل نزول القرآن ، وكل ما كان مستعملا عند العرب فهو عربي ليس إلا ، وإنما ذكرنا(2/292)
ج 2 ، ص : 293
لك آنفا الأقوال في كونها أجنبية وذكرنا لك مصادرها لتقف عليها ثم تردها بما أوضحناه لك ، وبدل أن تقول هي أجنبية استعملها العرب ، فقل هي عربية استعملها الأجانب أو أنها وافقت لغتهم وهو الأجدر والأنسب ، وفيها ردّ صريح آخر على ما يزعمه الباطنية من أن القرآن انزل غير موصوف بلسان أو لغة ، ثم أنه عليه السلام أداء إلى قومه بلسانه وعبر عنه بلغته ، لأن زعمهم هذا مخالف لنص القرآن والحديث في الإجماع.
مطلب الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وتخصيص القلب بنزوله وماهية المنزل عليه :
ولو كان كما قالوا لما بقي فرق بين القرآن والحديث القدسي ، لأنه هو الذي يلقى على قلب الرسول بغير صفة أي غير موصوف بلغة أو لسان ، ثم إنه يعبر عنه بلسانه ولغة قومه هذا ، والمتلقى بالتواتر هو الفرق بين القرآن والحديث القدسي ، لأن القرآن ثبت بالتواتر ، بخلافه هذا ، وقد قلنا في تفسير على قلبك :
إنما خص القلب لأنه موضع العقل بناء على ما ذهب إليه الإمام في تفسيره ردا لقول من قال إن محله الدماغ ، والخلاف بين هاتين الطائفتين في محل العقل كثير ، والناصرون لكلا القولين أكثر ، فلا محل لبسط المقال عن كل هذا ، وإنما الذي يحب بيانه ، هو سبب تخصيص القلب بالنزول ، فإذا قلنا إنه رأس الأعضاء وانها تصلح لصلاحه وتفسد بفساده وأنه محلها الفرح والاختبار والسرور وغيرها فلا يختص بحضرة الرسول لا هي ولا أضدادها ولا كونه محل الفقه والعظة والفطنة ، بل هو عام في كل البشر وإذا كان كذلك فلا يصح أن يكون جوابا للتخصيص ، وانما التخصيص واللّه أعلم هو أن اللّه تعالى جعل لقلبه سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرآن تمييزا لشأنه على سائر البشر ، يدل على هذا ما ذكره النووي في شرح مسلم في قوله تعالى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) الآية 6 من سورة والنجم المارة بأن اللّه تعالى عز وجل جعل لفؤاده عليه السّلام بصرا فرآه سبحانه ليلة المعراج وما ورد عنه في الحديث القدسي أنه قال كانت تنام عيني ولا يتام قلبي وجاء في صحيح البخاري عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بوجهه فقال اقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري.
وفي رواية أبي(2/293)
ج 2 ، ص : 294
داود عن أبي هريرة كان يقول : استووا ثلاثا ، والذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي.
وفي رواية هل ترون قبلتي هاهنا ، فو اللّه ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم ، إني لأراكم من وراء ظهري.
فكل هذا يدل على أن اللّه تعالى خصّه بأشياء دون سائر البشر ، ويتفرع عن هذا القول بأنه هل كان جبريل عليه السّلام ينزل بالألفاظ القرآنية المحفوظة له بعد ان تنزل القرآن جملة واحدة من اللوح إلى بيت العزة أو التي يحفظها من اللوح عند الأمر بالإنزال ، أو التي يوحي بها اللّه إليه فيسمعها منه سبحانه فيلقيها إلى قلب الرسول على ما هي عليه ، وعلى الصفة التي يبلغها لقومه ويثبتها في المصاحف من غير تغيير أصلا ، أو أن جبريل تلقى عليه المعاني القرآنية من الحضرة الأزلية وهو يعبر عنها بألفاظ عربية ويلقيها على حضرة الرسول ، أو أن جبريل ينزل بالمعاني التي يتلقاها من ربه فيعبر عنها بألفاظ عربية خاصة ثم يلقيها إلى حضرة الرسول ، وأنه يعلم ما يلقيه عليه فيعبر عنه لقومه بلغتهم ويثبتها بالمصاحف فهذه أقوال تضاربت بها العلماء ، وأرجحها هو أن الألفاظ نفسها منه عز وجل كالمعاني لا دخل لجبريل فيها أصلا ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يسمعها ويعيها بقوى إلهية قدسية يهبها اللّه له لا كسماع البشر إياها منه عليه السّلام وإلا لسمعها من كان عنده كما سمعها هو ، ولذلك كان صلّى اللّه عليه وسلم عند نزول الوحي تنعقل قواه البشرية فيظهر على جسده الشريف ما يظهر ويعرفه من يراه ويسمى برحاد الوحي ، أي ثقله حتى يظن أنه أغمي عليه في بعض الأحايين ، وعلى هذه الصورة فانه يسمع كلام اللّه المنزل إليه بواسطة جبريل أصواتا وحروفا منظومة مسموعة منه يختص هو وحده بسماعها دون غيره ، فعلى هذا يظهر لك أصح الأقوال هو الأول ، وأن القول الثاني يخالف معنى النزول من الحضرة القدسية ، لأن من قال إن القرآن هو الألفاظ الدالة على المعنى القائم بذاته
تعالى فيكون انزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ ، ومن قال إن القرآن معنى قائم بذات اللّه تعالى فيكون انزاله إيجاد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى وإثباتها في اللوح المحفوظ ، وعلى كلا القولين فإنّ الأمين عند أمره بإلقائه إلى حضرة الرسول ، فإنه ينزل بما هو موجود في اللوح ، فلا يصح أن يقال انه ألقيت عليه المعاني وهو عبر عنها بألفاظ عربية ، وأما القول الثالث فاختصت به الباطنية(2/294)
ج 2 ، ص : 295
كما تقدم وهو مخالف لا يجوز القول به ، لأن الإنزال اظهار ما كان في عالم الغيب إلى عالم الشهادة كما كان ، وهنا يقال ان قوله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) ، يفيد ان القرآن جميعه نزل ، مع أنه ثبت بالحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود أنه لما أسرى به صلّى اللّه عليه وسلم أعطاه اللّه الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة إلى آخر ما جاء فيه ، وهذا من القرآن ، فالجواب ان ذلك وجملة ما خاطبه به ربه لا يعدّ انزالا
بواسطة الأمين جبريل ، لأن القرآن جميعه نزل به عليه على الصورة المذكورة ، ولأن سورة الإسراء التي فرضت فيها الصلاة نزلت بعد وقوع الإسراء وخواتيم البقرة نزلت بالمدينة ، ولهذا البحث صلة نذكرها ان شاء اللّه في الآية 7 من سورة النحل وفي آخر سورة الإسراء عند قوله (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) الآتيتين ، وقد أثبتنا بالمقدمة في بحث نزول القرآن شيئا من هذا فراجعه ، هذا ، ولنرجع إلى تفسير الآية وهو قوله تعالى «وَإِنَّهُ» القرآن المنوه به في الآية السابقة «لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» 196 أي كتبهم كصحف آدم فمن بعده ، وتوراة موسى ، وزبور داود ، وإنجيل عيسى عليه السّلام ، وهذا باعتبار الأغلب لأن ما يتعلق بالتوحيد وذات اللّه وصفاته وكثيرا من المواعظ والقصص مسطور فيها فلا يضر أن منه ما ليس فيها بحسب غالب الظن ، كقصة الإفك ونكاح امرأة زيد ، وما جاء في سورة التحريم ، وما استبدله اللّه في القرآن من الأحكام المسطورة في الكتب المتقدمة إذ نسخت بالقرآن العظيم ، قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) من آيات الكتب المتقدمة النازلة على الأنبياء السابقين مثلك يا محمد (أَوْ نُنْسِها) نؤخر نزولها وننسى ما هو مخالف لها مما كلف بها الأولون من الاحكام (نَأْتِ) في هذا القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل (بِخَيْرٍ مِنْها) أخف عبئا وأكثر اجرا وأسهل عملا وأيسر فعلا (أَوْ مِثْلِها) في ذلك التكليف والأجر ، وكان نزول هذه الآية ردا لليهود والنصارى القائلين إن ما جاء به محمد مخالف لما جاء به موسى وعيسى ، تدبر ، وراجع تفسير الآية 107 من سورة البقرة في ج 3.
مطلب لا تجوز القراءة بغير العربية الا إذا كانت دعاء أو تنزيها :
وما قيل إن الإمام أبا حنيفة استنبط من هذه الآية جواز قراءة القرآن(2/295)
ج 2 ، ص : 296
بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية ، ولما جاء في الخبر أن لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدرّي أي وغيرها من بقية اللغات ، فقد صح أنه رجع عنه وقد حرر الإمام حسن الشر نبلالي رسالة في تحقيق هذه المسألة سماها التحفة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية ، فمن أراد تحقيق ذلك فليراجعها ، وكان رجوعه رضي اللّه عنه لضعف الاستدلال على جوازها ، وهو لا يقول بالضعيف لأن القرآن أنزل في هذه اللغة العربية للإعجاز بفصاحته فضلا عن غيرها ، وان الترجمة مهما كانت لا تكون قرآنا في هذا المعنى بل لا يمكن قراءته جميعه ، الا بالعربية ، فلا يمكن ترجمته كله بغيرها ، لان اللغات الأخر لا تشتمل على جميع الحروف العربية فضلا عن أنها يتعذر فيها ما في القرآن من أنواع البلاغة والبديع والمعاني والفصاحة والتعبير عن المجاز والحقيقة والمحل والحال والحذف والإيصال وغيرها ، أما من لا يحسن العربية ولم يتمكن من تعليمها البته فيجوز أن يتعلم شيئا من القرآن على حسب لغته بالترجمة حرفيا ، بقدر ما تصح به صلاته فقط ، قال الإمامان إذا عجز عن العربية يجوز له قراءته بلغته على أن يكون المقروء بلغته دعاء أو ذكرا أو تنزيها أو ثناء محضا كالفاتحة والإخلاص ، وقوله تعالى (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) وما شابه هذا ، أما إذا كان المقروء بغير اللغة العربية من القصص والأحكام والأوامر والنواهي والحدود فلا يجوز البتة ، لاحتمال وقوع الخطأ فيها ، أما تفسير القرآن باللغات السائرة مع اثبات الأصل فهو مطلوب لا طلاع البشر كافة عليه ، والتشرب من معانيه ، والعمل بأحكامه والاتعاظ بأخباره ، والاسترشاد بقصصه وآدابه ، والاهتداء بهديه ، لأنه لم ينزل للعرب خاصة بل لجميع البشر من تاريخ نزوله إلى آخر هذا الكون ، كما ان المنزل عليه مرسل لجميع الخلق من الإنس والجن من زمنه إلى آخر الدوران ، وهذه الآية المدنية المستثناة من هذه السورة ، قال تعالى «أَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ» هؤلاء المتكبرين من أهل الكتاب وغيرهم «آيَةً» دالة على صدق محمد «أَنْ يَعْلَمَهُ» بأنه رسول اللّه حقا «عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» 197 ممن أسلم منهم ومن لم يسلم ، قال مقاتل هذه الآية مدنية وعلماء بني إسرائيل عبد اللّه بن سلام وأصحابه ، كما روي عن(2/296)
ج 2 ، ص : 297
ابن عباس ومجاهد أن جماعة أسلموا ووقفوا على مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وعلى كون الآية مكية يكون المعنى أولم يكن لهؤلاء الكفرة علامة على صدق القرآن المنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلم أن يعلمه علماء بني إسرائيل ، لأنه منعوت في كتبهم ، ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحياء يثرب ليسألوهم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقالوا هذا زمانه وذكروا نعته وخلطوا في أمره ، فنزلت هذه الآية.
هذا ، وبعض المفسرين أعاد ضمير يعلمه على القرآن ، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لا يعلمونه وأن مجرد ذكره في التوراة لا يدل على علمهم به وبما فيه ، أما محمد صلّى اللّه عليه وسلم فهو موصوف ومنعوت في التوراة والإنجيل ، وأن علماء أهل الكتابين يعرفونه حق المعرفة باطلاعهم على أوصافه ، قال تعالى (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) الآية 21 من الأنعام في ج 2 والآية 147 من سورة البقرة ج 3 فراجعها تعلم من هذا ما يكفيك ، أما إذا أريد أنهم إذا قرىء عليهم القرآن يعرفونه أنه من اللّه ، فهو ما لا جدال فيه ، وعليه يستقيم عود الضمير إلى القرآن ، قال تعالى :
(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) الآية 51 من النمل الآنية ، واعلم أن مفاد الآيات المتقدمة من وأنه إلى هنا وسياق قوله «وَلَوْ نَزَّلْناهُ» وما بعدها تفيد أن ضمير بعلمه يعود إلى القرآن بدلالة عود ضمير أنزلناه إليه أيضا وهو الظاهر واتباع الظاهر أولى «عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ» 198 الذين لا يفهمون معناه ولا يقدرون فصاحة مبناه ، بل لا يتمكنون من قراءته كما ينبغي ، وهو جمع أعجمي حذفت منه ياء النسبة مثل أشعري يجمع على أشعرين وأشعرون بحذف ياء النسبة أيضا ، وقرىء أعجميين ولهذا جمع بالواو والنون جمع العقلاء ، ولو كان جمع أعجم لما جمع هكذا لأنه مؤنث عجماء ، وافعل فعلاء لا يجمع جمع السالم «فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ» على أولئك الكفرة «ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ» 199 أنفة من اتباع من ليس منهم لشدة شكيمتهم في المكابرة ، ولو فرض أنه قرأه عليهم باللغة العربية الفصحى بتعليم اللّه إياها كما علم آدم الأسماء كلها فيكون معجزة من جهتين لما آمنوا أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا المسلك البديع «سَلَكْناهُ» أي التكذيب بالقرآن وعدم الإيمان به «فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» 200 فلا سبيل لتعييرهم(2/297)
ج 2 ، ص : 298
عما جبلوا عليه ، لأنهم طبعوا على ذلك ، قال تعالى : (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) الآية 29 من سورة الروم في ج 2 فالمؤمنون لا يكفرون مهما كان منهم ، والكافرون لا يؤمنون مهما كان منهم ، لأنه لا بد وأن يوفق كل منهم أن يموت على ما خلق له من إيمان وكفر ولهذا قال تعالى «لا يُؤْمِنُونَ بِهِ» أولئك الكفرة «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» 201 الذي لا دافع له فيكون إيمانهم إيمان يأس وهو غير مقبول كما تقدم في الآية 157 المارة ، وهذه الآيات على حد قوله تعالى (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الآية 18 من سورة الأنعام في ج 2 «فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» ذلك العذاب الفظيع المؤلم «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» 102 به ولا بوقت إتيانه ، لأنه على حين غرة وغفلة بوقت لا يتوقعونه ، وإذ ذاك «فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ» 203 لنؤمن ونصدق وهيهات رجوع مافات ، لأن عذاب اللّه إذا جاء لا يؤخر كما أنه لا يقدم عن الوقت المقدر لنزوله ،
ويقال لهم «أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» 204 وهو آتيهم لا محالة ، قال نفر من قريش حتى يأتينا هذا العذاب الذي يوعدنا به محمد فنزلت الآية الآنفة ، قال تعالى يا سيد الرسل «أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ» 205 كثيرة في هذه الدنيا وما فيها من النّعم «ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ» 206 به من العذاب الذي تهددهم به (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) 207 فيها شيئا من ذلك العذاب وما هو براد عنهم شيئا وكأنهم لم يكونوا رأوا شيئا من طول العمر وطيب العيش في الدنيا «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ» فيما سبق من الأمم الباقية «إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ» 208 من قبلنا يخوفونهم عذابنا إن لم يؤمنوا بهم ، فلم يفعلوا وكان إرسال الرسل إليهم «ذِكْرى » لئلا يقولوا (ما جاءنا نذير) الآية 41 من المائدة في ج 3 فتلزمهم الحجة وإلا فاللّه تعالى يعلم من يؤمن ومن يكفر قبل إرسال الرسل بل قبل إيجادهم وهو قادر على إهلاكهم دون ذلك ، ولكن ليظهر لأمثالهم أن عذابهم كان بسبب كفرهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ» 109 في تعذيب أحد لأنا تقدمنا إليهم بالمعذرة ، وقدّمنا لهم الحجة ، هذا وإن نفرا من المشركين لما رأوا محمدا يخبرهم بما غاب عنه مما يتقولونه(2/298)
ج 2 ، ص : 299
في نواديهم وحينما يسألونه يقول لهم أخبرني ربي قال بعضهم لبعض كلا ، فإن الشياطين تلقي إليه ذلك كما تلقي القرآن الذي يزعم أنه من ربه ، فأنزل اللّه تعالى «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ 210 وَما يَنْبَغِي لَهُمْ» أن ينزلوا بمثله لأنهم أحقر من ذلك «وَما يَسْتَطِيعُونَ» 211 إنزاله ولا يقدرون البتة لأنه محفوظ بحفظ اللّه وليسوا بأهل له ، ولا يصح قولهم هذا ولا يستقيم «إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» 212 مبعدون عنه ومحجوبون منه وممنوعون عن استراقه بالشهب الجهنمية ، ثم خاطب رسوله بما أراد به غيره على طريق ضرب المثل : (إياك أعني واسمعي يا جاره) فقال عز قوله «فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» إذ لا إله لهذا الكون غيره فاحذر من هذا أيها الإنسان ، «فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ» 213 إن أقدمت على ذلك وهذا مما لا شك فيه مراد به غيره صلّى اللّه عليه وسلم لأنه عليه محال لوجود العصمة ، وإنما خاطبه به ليحذر الغير من الإشراك باللّه على طريق التعريض تحريكا لزيادة الإخلاص للّه ، وإلهابا للقلوب بالتباعد عنه ، وعلى فرض المحال لو أريد به حضرة الرسول فيكون ذلك على حد قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الآية 45 فما بعدها من سورة الحاقة في ج 2 ، فيكون المعنى : وإن كنت يا محمد وأنت أكرم الخلق علي اتخذت شريكا في دعائي لعذبتك ، وفيه تحذير عظيم للغير
قال تعالى «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» 214 خصّهم بالذكر لنفي التهمة عن التساهل معهم في أمر الدين وليعلموا أنه لا يغني عنهم من اللّه شيئا إذا حل بهم عذابه وليعلم الناس كافة أن النجاة في اتباعه والتصديق لما جاء به في دينه لا في قرابته ، راجع الآية 89 المارة «وَاخْفِضْ جَناحَكَ» يا سيد الرسل «لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 215 بك القريب منهم والبعيد ، أما الكافرون فلا يليق أن تلين لهم جانبك ، بل شدد عليهم برفض الشرك وحذرهم من تكذيبك «فَإِنْ عَصَوْكَ» أقاربك وعشيرتك وسائر قومك ، ولم يقبلوا نصحك ولم يلتفتوا لإرشادك «فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» 216 من الكفر والمعاصي والأفعال الذميمة والأحوال السافلة ، واتركهم ولا تعبأ بهم الآن ، لأنك لم تكلف إلا بإبلاغهم ما يوحى إليك ، وذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم بعد ، ولذلك(2/299)
ج 2 ، ص : 300
اقتصر أمره على الإنذار والتبشير والتبري مما هم عليه من القبائح ، لا منهم لأنه لو أمر بالتبري منهم لما بقي شفيعا للعصاة يوم القيامة.
مطلب أن الأقارب أولى من غيرهم في كل شيء :
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل لا قيمة له ، لأن معناها صحيح قبل آية السيف وبعدها ، وحكمها باق ، لأن لأقربين لهم مزية على غيرهم ، ولين الجانب مطلوب للجميع ومن الجميع ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حين انزل اللّه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال يا معشر قريش أو كلمة غيرها ، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من اللّه شيئا ، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من اللّه شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من اللّه شيئا ، ويا صفية عمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا أغني عنك من اللّه شيئا ويا فاطمة بنت رسول اللّه لا أغني عنك من اللّه شيئا ، سليني ما شئت من مالي.
وحديث البخاري ومسلم عن ابن عباس في هذا المعنى تقدم في سورة المسد المارة ، فراجعه.
وروى مسلم عن قبيصة بنت مخارق وزهير بن عمر قال : لما نزلت وأنذر الآية انطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى رحمة جبل فعلا أعلاها ثم نادى : يا بني عبد مناف اني نذير لكم ، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله ، فخشي أن يسبقوه ، فجعل يهتف يا صاحباه ، وروى محمد بن اسحق بسنده عن علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه : لما نزلت هذه الآية على رسول صلّى اللّه عليه وسلم قال يا علي إن اللّه أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعا ، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت عليها صمتة حتى جاءني جبريل ، فقال يا محمد إن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربّك ، فاصنع لي طعاما واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به ، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذ أربعين رجلا ، يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته ، فجئت به فتناول صلّى اللّه عليه وسلم جذبة من بعض اللحم ، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في الصفحة ، ثم قال خذوا باسم اللّه ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة ، وايم اللّه إن كان الرجل(2/300)
ج 2 ، ص : 301
الواحد ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم ، ثم قال اسق القوم ، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا ، وأيم اللّه ان كان الرجل الواحد ليشرب مثله ، فلما أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يكلمهم ، بدره أبو لهب فقال : سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال الغد يا علي فان هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فأعدوا لنا الطعام مثلما صنعت ثم اجمعهم ، ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا ، ثم تكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة ، وقد أمرني ربي عز وجل أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاحجم القوم عنها جميعا ، وأنا أحدثهم سنا ، فقلت أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه ، فأخذ بمرقبتي ، ثم قال : هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه.
هذا ، وعليه أن من بدا له شيء فليفعله أولا بنفسه ، ثم بدأ بالأقرب فالأقرب من أهله ومن يواليه ، فيكون انفع قولا وأنجح نتيجة وأبعد عن الطعن ، قال اللّه تعالى «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ» الذي لا يذل من والاه ولا يعزّ من عاداه «الرَّحِيمِ» 217 الذي ينصر من فوض إليه أمره ويرحم من لا يعرف غيره «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ»
218 في الليل وحدك تتهجد له بصلاتك التي خصصت بها وتتضرع إليه بدعواتك التي الهمتها منه دون أن يراك أحد غيره «وَ» يرى «تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» 219 في أصلاب الأنبياء أجدادك ، إذ تتنقل من واحد لآخر حتى اخرجك إلى هذه الأمة ، وهذا من أعظم ما وفقت إليه.
واعلم أن كلمة الساجدين تشمل الأنبياء والمؤمنين ، وتدل على إيمان أبويه صلّى اللّه عليه وسلم كما ذهب إليه كثير عن أجلة العلماء قال محمود الآلوسي في تفسيره روح المعاني : وأنا أخشى على من يقول فيهما رضي اللّه عنهما
بغير ذلك الكفر على رغم القارئ واضرابه ، وقد جاء في الخبر أن اللّه تعالى أحيا له أبويه وعمّه أبا طالب فآمنوا به ، ولا يلتفت إلى قول من ضعفه ، لأنه ناشىء عن ضعف إيمانه ، على أن أبويه من أهل الفترة ، وهم كلهم ناجون على القول الصحيح الراجح بدلالة قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ(2/301)
ج 2 ، ص : 302
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)
الآية 15 من سورة الاسراء الآتية ، أو أنّ المعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه ، وتفسير الساجدين من الأنبياء ، رواه الطبراني والبزار وأبو نعيم عن ابن عباس ، إلا أنه فصر التقلب بالتنقل كما ذكر آنفا ، أما التفسير بالمصلّين وإن ذهب اليه كثير من المفسرين فهو بعيد ، لأن الصلاة لم تفرض بعد ، وأبعد منه من جعل الصلاة صلاة الجماعة ، وهي لم تفرض بمكة وهذه السورة مكية بلا خلاف ، وخاصة هذه الآية ، ويجوز أن يراد تقلبك في المجتهدين لتفحص أحوالهم وتطلع عليهم وتستبطن سرائرهم وهذا القول على ضعفه لا بأس فيه ، لأن اللّه تعالى فرض على نبيه صلاة ركعتين في الغداة ومثلها في العشية ، وفرض عليه قيام بعض الليالي خاصة كما نص عليه أول سورة المزمل المارة ، وكان يتهجد فيهن ويشاركه بعض أصحابه في ذلك ، فيحتمل أنه تفقد أحوالهم ليراهم يداومون عليها اقتداء بفعله أم لا ، فنزلت هذه الآية ، أما ما جاء في روح المعاني من أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلّى اللّه عليه وسلم تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعتهم ، فوجدها كبيوت النحل لما سمع من دندنتهم بذكر اللّه والتلاوة ، فلا يتجه لان هذه الآية 20 من سورة المزمل التي عبر عنها بأنها نسخت أول السورة بشأن القيام نزلت في المدينة ولا علاقة لها بالآية المفسرة ، وقد بيّنّا في المقدمة ما يتعلق بالنسخ في هذه الآية وعدمه في آخر سورة المزمل المذكورة ، فراجعها «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» 220 يسمع دعاءك ويعلم عملك ، ثم قل يا أكرم الرسل لهؤلاء الكفرة «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ» 221 لتجاريهم على أقوالهم السالفة فإنها «تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ» مختلق للكفر مثل هؤلاء القائلين إن الشياطين تلقي عليك هذا القرآن وكل منهم «أَثِيمٍ» 222 مرتكب للآثام الكثيرة كالسحرة والكهنة المتنبئين كذبا فتراهم «يُلْقُونَ السَّمْعَ» الذي يسمعونه من الملائكة فيلقونه للكهنة مع أضعافه كذبا «وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» 223 فيما يخبرونه به ، لأن منهم من لا يسترق السمع وإن محمدا مبرا من ذلك معصوم من هذه الصفات المتلبس بها الكهنة والسحرة والمشعوذين ، قيل هذا كان قبل مبعث الرسول وعليه يكون أكثر بمعنى الكل على(2/302)
ج 2 ، ص : 303
حد قوله تعالى (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الآية 50 من آل عمران في ج 3 يريد كله.
وذلك لأنه لا يكون أحد من الكهنة والشياطين صادقا ، وسيأتي في تفسير هذه الآية أن سيدنا عيسى لم يحل لهم كل ما حرم على بني إسرائيل ، لهذا فإن تفسيرها على ما جرينا عليه أولى واللّه أعلم ، ومن هنا إلى آخر السورة نزل بالمدينة ، وذلك أن جماعة ممن يقول الشعر من قريش كعبد اللّه بن الزبعرى السهمي وهبيرة بن أبي لهب المخزومي ومسافع بن عبد منات وابو عمر بن عبد اللّه الجحمي وأمية بن أبي الصلت الثقفي عليهم من اللّه ما يستحقون ، صاروا يهجون حضرة الرسول ويقولون نحن نقول مثل ما يقول ، وتبعهم في هذا السفهاء من قومهم.
مطلب في الشعر مليحه من قبيحه والآيات المدنيات :
ثم ان رجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا فيما بينهما ومع كل واحد غواة من قومه ، فأنزل اللّه فيهم «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» 224 المغالون في الكذب والباطل وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب ومدح من لا يستحق المدح وذم من لا يستوجب الذم ، يعني أن هذا الذي يقوله هؤلاء لا يستحسنه إلا المتوغلون في الضلالة المنهمكون في الغواية ، «أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» 225 فيتحدثون في جميع أنواع الكلام وأبوابه مما مصدره اللغو في الباطل ويخوضون بما فيه الكذب والزور من البهت والافتراء ، والهائم هو الذاهب على وجهه بلا قصد معين وهذا تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول ، فتراهم يفضلون الجاهل على العالم ، والجبان على الشجاع ، والبخيل على الكريم ، والكاذب على الصادق ، والخائن على الأمين ، والقبيح على الصبيح ، والرذيل على الجميل لأدنى لفتة من وجيه أو دانق من مال ، فلهذا تراهم حائرين ، وعن الطريق السوي حائدين ، ولسبل الضلال رائدين ، سمع سليمان بن عبد الملك قول الفرزدق :
فبتن بجانبيّ مضرجات وبت أفض أختام الحنان
فجاء به وقال وجب عليك الحد ، قال ولم ؟ قال لقولك هذا ، قال قد درأه عني ربي.
قال وبم ؟ قال بقوله عز وجل «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» 226 حيث وصفهم بالكذب وخلف القول والوعد ، وان قولهم بهت ، لأنه مباين(2/303)
ج 2 ، ص : 304
لفعلهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يرثيه خير له من أن يمتلىء شعرا.
ومعنى يرئيه يبلغ الرئة محل التنفس من الحلقوم ، كناية عن شدة الامتلاء.
واعلم ان القول بخلاف العمل مذموم ليس بالشعر فقط والشعراء بل في جميع القول والناس كافة ، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ.
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)
.
الآيتين 3/ 4 من سورة الصف في ج 3 ، ألا لينتبه الناس له ولا يخصوه بالشعر.
مطلب ما هو المحبوب من الشعر :
واعلم أن هذا الذم الذي في هذه الآية في حق الكافرين ومن يحذو حذوهم في اشعاره ، أما الذين لا يكذبون مثلهم فقد استثناهم اللّه تعالى بقوله «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» زيادة على إيمانهم ، فإنهم لا يهجون أحدا ولا يمدحون بالباطل ، ولا يندمون على مدح المستحق إذا لم ينالوا منه شيئا ، لأنهم لا يقصدون إلا الحق والصدق إذا طرقوا مواضيع القول ومخازن الكلام وخاضوا في معاني القوافي ، كعبد اللّه ابن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضي اللّه عنهم ، الذين كانوا زمن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ينافحون عنه ومن اقتفى أثرهم على نهجهم ومشى على خطتهم حتى الآن ، روي أن كعب بن مالك قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه أنزل في الشعر ما أنزل (يعرض باجتنابه خشية أن يكون في عداد الشعراء المذمومين) فقال صلّى اللّه عليه وسلم :
إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النّبل.
أي رميه.
وعن أنس بن مالك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر يا بن رواحة بين يدي رسول اللّه وفي حرم مكة تقول الشعر :
فقال صلّى اللّه عليه وسلم خل عنه يا عمر ، فلهن أسرع فيهم من نضح النبل - أخرجه الترمذي والنسائي - وكان هذا سنة سبع من الهجرة.
ومن قال إن القائل لهذين البيتين كعب بن مالك(2/304)
ج 2 ، ص : 305
لان عبد اللّه بن رواحة كان توفي قبل هذا ، فقد اخطأ ، لأن وفاته رحمه اللّه كانت في السنة الثامنة من الهجرة ، وعمرة القضاء في السابعة منها بلا ريب ، وروى البخاري ومسلم عن البراء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال يوم قريظة لحسان : أهج المشركين ، فإن جبريل معك ، وروى البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها قالت : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يناجز عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وينافح ، ويقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه ليؤيد حسانا بروح القدس ما نافح أو ناجز عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
وله رضي اللّه عنه أقوال كثيرة في الذب عن حضرة الرسول ومدحه ، منها قصيدته التي يقول فيها :
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
ثكلت بنيتي إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
وروى البخاري عن بن كعب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال ان من الشعر لحكمة.
وعن ابن عباس قال لما جاء اعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال ان من البيان لسحرا وان من الشعر لحكما - أخرجه أبو داود - وروى مسلم عن عمر ابن الشريد عن أبيه قال ردفت وراء النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوما ، فقال هل معك من شعر أمية بن الصلت شيء ، قلت نعم ، قال هيه ، فأنشدته بيتا فقال هيه ، ثم أنشرته بيتا ، فقال هيه ، حتى أنشدته مئة بيت ، - زاد في رواية لقد كان يسلم في شعره - وعن جابر بن نمرة ، قال : جالست رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أكثر من مئة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت ، وربما تبسّم معهم - أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح -
مطلب ما نسب من الشعر للخلفاء والأئمة وعهد ابي بكر :
هذا وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين الشعر وكثير من الصحابة ، فمن شعر أبي بكر رضي اللّه عنه قوله :
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ارقت وأمر في العشيرة حادث
ترى من لؤى فرقة لا يعدها عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا عليه وقالوا لست فينا بصادق(2/305)
ج 2 ، ص : 306
الى أبيات كثيرة ختمها بقوله :
فابلغ بني سهم لديك رسالة وكل كفور يبتغي الشر باحث
فان تشعثوا عرضي على سوء رأيكم فأني من أعراضكم غير شاعث
ومن شعر عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قوله :
توعدني كعب ثلاثا يعدها ولا شك أن القول ما قاله كعب
وما بي خوف الموت إني لميّت ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب
وقال أيضا :
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والإنس والجن فيما بينهما ترد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوما إذا وردوا
وتروى هذه الأبيات لورقة بن نوفل ، ومن شعر عثمان رضي اللّه عنه :
غنى النفس يغني النفس حتى يكفها وإن عضّها حتى يضر بها الفقر
وقال عند موته رضي اللّه عنه :
غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه
أما علي كرم اللّه وجهه فقد ملأ الصحف شعره ، وجاء من شعر ابنه الحسن :
نسود أعلاها فتأبى أصولها فليت الذي يسود منها هو الأصل
وكان متحنيا ، وللحسين والعباس وسائر بني المطلب رجالا ونساء أشعار كثيرة ، لأن كلا منهم نطق به عدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، لأنه أبلغ في أمره ، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق به وما قاله صلّى اللّه عليه وسلم في الآية 99 من سورة يس المارة فراجعه ، ففيه كفاية ، أما أئمة الدين فجلهم يقول الشعر ، فمما ينسب للشافعي رحمه اللّه قوله :
ومتعب النفس مرتاح إلى بلد والموت يطلبه في ذلك البلد
وضاحك والمنايا فوق هامته لو كان يعلم غيبا مات من كمد
من كان لم يؤت علما في بقاء غد فما يفكر في رزق لبعد غد
ولد في مكة سنة 150 وتوفي سنة 204 هجرية ودفن بقرافة مصر ، والإمام الأول أبو حنيفة ولد سنة 80 وتوفي سنة 150 ودفن بالأعظمية في بغداد ، (2/306)
ج 2 ، ص : 307
والإمام الثاني مالك بن أنس ولد سنة 95 بالمدينة وتوفي سنة 179 ودفن فيها ، والإمام الرابع أحمد بن حنبل ولد سنة 164 في بغداد وتوفي سنة 241 ودفن غربي دجلة في بغداد ، وكلهم رضي اللّه عنهم نزار قبورهم ويتبرك بهم ، نفعنا اللّه بهم وبعلومهم وجعلنا من أتباعهم ، لأنهم عبدوا اللّه كثيرا «وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً» فلم يشغلهم شاغل من الشعر والعلم والعمل وغيرها عن ذكر اللّه ، حتى أنهم ختموا أقوالهم وأشعارهم بذكر اللّه وخرّجوها بمدح الرسول ، «وَانْتَصَرُوا» ممن اعتدى عليهم بفضل اللّه وكرمه «مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» بأنواع العداء والهجاء والسخرية والاستهزاء «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا» من هؤلاء الكفرة وغيرهم المار ذكرهم في الآية 23 المارة فما بعدها «أَيَّ مُنْقَلَبٍ» مرجع فظيع ومصير قبيح «يَنْقَلِبُونَ» 227 إليه بعد الموت ، وبئس المنقلب منقلبهم ، لأنه جهنم ، أما المؤمن فنعم المنقلب منقلبه ، لأنه الجنة إن شاء اللّه ، ختم اللّه تعالى هذه السورة الكريمة بما يقطع أكباد المنذرين في هذه الآية العظيمة ، لما فيها من الوعيد الشديد ، والتهديد المهول الذي لم يبينه اللّه ، وفي إبهامه دلالة على فظاعته ، والإبهام في الشيء أشد بلاغة من الإظهار ، ولهذا فإن أبا بكر لما عهد إلى عمر رضي اللّه عنهما بالخلافة ختم عهده إليه بها ، وهذه صورة العهد حرفيا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا ما عهد به أبو بكر بن قحافة عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن بها الكافر ويتقي فيها الفاجر ويصدق فيها الكاذب إني استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وإن يجر ويبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرى مما اكتسب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) هذا ، وإن السلف الصالح يعظ بعضهم بعضا في هذه الآية الجليلة المهيبة ، وهي محل الوعظ منذ نزولها وإلى أن ترفع من الأرض ، قال ابن عطاء اللّه : سيعلم المعرض عنا ما الذي فاته منا.
وقال غيره :
أناس أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى
أساؤوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا
فإن عادوا لنا عدنا وإن خانوا فما خنّا
وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهمو أغنى(2/307)
ج 2 ، ص : 308
ولا توجد سورة في القرآن مختومة بما ختمت به هذه ، لأن هذه الآية العظيمة الرهيبة التي كان ملوك الأمويين والعباسيين يهدّدون بها من قبل الأصحاب والتابعين ، ومن بعدهم العلماء حينما كانت الملوك تصغي لأقوالهم وتتبرك بدعواتهم وتتشرف بقولهم.
هذا ، وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة النمل
48 - 27
نزلت بمكة بعد الشعراء ، وهي ثلاث وتسعون آية ، وألف وثلاثمائة وسبع عشرة كلمة ، وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وستون حرفا ، لا يوجد سورة مبدوءة بمثل هذين الحرفين الطاء والسين.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى : «طس» اللّه أعلم بمراده فيه ، راجع تفسير طسم قبلها وما ترشدك إليه لندرك تفسيره «تِلْكَ» الآيات العظام المنزلة عليك يا سيد الأنام هي «آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» 1 أي وآيات اللوح المحفوظ لدينا ، الذي لا خفاء في حكمه وأحكامه وأخباره وأمثاله ، فهو «هُدىً» من الضلال في الدنيا «وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» 2 العاملين فيه بالآخرة وهم المبينون بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» اللتين ستفرض عليهم حتما ، وقيل المراد بالصلاة الركعتان المفروضتان عليه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقلده فيهما من آمن به ، وبالزكاة ما كان متعارفا عندهم من الصدقات ، لأن هاتين العبادتين لم تخل أمة منهما ولو اختلفا في الكم والكيف ، لأن اللّه تعالى تعبد فيهما كافة الأمم ، لأنهما قوام الدين والدنيا ، لما في الأولى من المنافع التي تعود على صاحبها بكل خير وفي الثانية من المنافع المادية التي تعود على المحتاجين بقضاء حوائجهم ، وعلى المتصدقين برضاء اللّه «وَهُمْ» القائمون بهاتين العبادتين «بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» 3 يصدقون تصديقا خالصا ، فمن جمع مع الإيمان هذه الخصال فلا خوف عليهم في العاقبة «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لا تنفعهم أعمالهم الحسنة عند اللّه مهما كانت لأنهم من الذين «زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ» الخبيثة في الدنيا ، فرأوها حسنة ، (2/308)
ج 2 ، ص : 309
وذلك أن اللّه تعالى يخلق لمثل هؤلاء العلم في قلوبهم مما فيه المنافع واللذات الدنيوية ، ولم يخلق فيها خوف المضار والآفات ، لذلك يرون أعمالهم القبيحة حسنة «فَهُمْ يَعْمَهُونَ» 4 يترددون في حيرتهم كما يفعل الضال عن الطريق السوي ، لأن العمه هو عمى القلب لا ينفع البصر «أُوْلئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ» في الدنيا قتلا وأسرا وجلاء وإهانة وذلا «وَهُمْ» مع خسارتهم الدنيا «فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» أيضا على ما فرطوا من دنياهم وأفرطوا في أمر آخرتهم ، فتراهم كثيري الخسارة والحسرة والندم ، لأن الإنسان يعمل في الدنيا ليربح في الآخرة ، فكيف إذا خسر فيهما فيكون من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ولم ينتفعوا بأعمالهم فيساقون إلى جهنم ، وهذا غاية الخسران لا سيما إذا رأوا نجاة المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا «وَإِنَّكَ» يا سيد الرسل «لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ» بواسطة أميننا جبريل الذي يأتيك به «مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ» وأي حكيم لأن التنوين والتنكير يدلان على التعظيم والتفخيم ، والحكمة هي العلم بالأمور العالية والعلم قد يكون علما وقد يكون نظرا فهو أعم من الفقه «عَلِيمٍ» بما كان لدينا قبل كونه وما يكون فينا قبل أن يكون ، واذكر لقومك يا سيد «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ» زوجته ومن كان معها من ابنه وخادمه «إِنِّي آنَسْتُ ناراً» أبصرت ما استانس به لحاجتكم ، لأن الوقت كان ليلا وباردا ولم يعرفوا الطريق أيضا ، فامكثوا مكانكم لأذهب لمكانها ، و«سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» عن الطريق «أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ» تستدفئون به إن لم أجد من يهدينا الطريق ونبقى هنا حتى يتبين لنا ذلك ، والشهاب الشعلة من النار ، والقبس النار المقبوسة منها ، أو العود الذي في أحد ظرفيه نار ، وهو ما تعورف به عندنا الآن ، وقرىء بشهاب قيس على الإضافة وهي قراءة جائزة إذ ليس فيها نقص ولا
زيادة ولا تبديل في المعنى بخلاف ما بيناه في الآية 166 من البقرة المارة «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» 7 تستدفئون ، لأن الوقت شتاء ، فأجابوه لما طلب ، فتركهم وذهب ، وكان في إضلالهم الطريق هداهم راجع الآية 10 من سورة طه المارة.(2/309)
ج 2 ، ص : 310
مطلب بدء نبوة موسى وكيفية تكليمه :
قال تعالى «فَلَمَّا جاءَها» وأبصر تلك النار «نُودِيَ» من جهتها «أَنْ بُورِكَ» أن هنا تفسيرية للنداء ، والمعنى أي بورك لما في النداء من معنى القول دون حروفه ، وضمير بورك يعود على موسى عليه السّلام ، وقيل إنها مخففة من الثقيلة وجاز كونها كذلك من غير حاجة الفصل بينهما وبين الفعل بقد والسين وسوف أو أحرف النفي ، لانها وليت فعل دعاء وهو مستثنى من تلك الفواصل ، خلافا لأبي علي الفارسي القائل إن أن المخففة لما كانت لا يليها إلا الأسماء استقبحوا أن يليها الفعل ليس بشيء يعتدّ به ، لان هذا ليس على إطلاقه ، فقد استثنى من عموم فعل الدعاء «مَنْ فِي النَّارِ» من جاء لأجلها إلى المحل الذي هي فيه «وَمَنْ حَوْلَها» موسى وغيره من الملائكة فيشمل كل من هو في تلك البقعة والبقعة نفسها ، لانها مبعث الأنبياء ومهبط الوحي ، وهي المعينة بقوله تعالى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) الآية 19 الآتية من سورة القصص ، وتفيد هذه الآية المفسرة إبداء التحية العظيمة من اللّه عز وجل لموسى عليه السّلام ، وفيها إشارة إلى حصول البركة في أراضي الشام التي هي حول تلك البقعة المقدسة المشار إليها في قوله تعالى حكاية عن حال إبراهيم عليه السّلام :
(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2 وبشارة عظيمة من اللّه إلى موسى أيضا بحدوث أمر ديني فيها ، وهي استنباؤه ، ورسالته ، وتكليمه ، وإظهار المعجزات على يده ، وتجديد دين أبيه إبراهيم عليه السّلام.
ثم اعلم هداك اللّه أن لا مجال للقول هنا بأن السمع من الشجرة أو من جهة النار يدل على حدوث المسموع وهو كلام اللّه تعالى ، لأن اللّه منزّه عن الجهة والمكان ، وكذلك كلامه ، لأن سماع موسى كلامه من إحدى الجهتين المذكورتين يرجع إلى موسى لا إلى اللّه ، وان اللّه تعالى خلق لموسى علما ضروريا علم به أن الذي يسمعه هو كلام اللّه القديم الأزلي من غير صفة ولا صوت ولا جهة ، فقد سمعه وحده من الجهات الست ، وصارت جميع جوارحه كسمعه ، ولو فرض أن هناك أحدا معه لما سمع شيئا البتة ، وهكذا كان محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حينما ينزل عليه الوحي ، يعلمه وحده دون الحاضرين معه ، راجع الآية 195 من سورة الشعراء المارة ، (2/310)
ج 2 ، ص : 311
وسماع كلام اللّه في الآخرة يكون على هذه الصفة ، لأن الكامل الواصل يكون له في الدنيا حكم الآخرة ، وقيل في هذا المعنى :
إذا ذكرت ليلى فكلي مسامع وإن ظهرت ليلى فكلي أعين
أي أنه يرى ويسمع بكل جوارحه وهي مبالغة عن شدّة تلذذه بما يسمعه ويراه منها لتوغله في محبتها ، ولأن حبّها تداخل فيه وجرى في عروقه مجرى الدم منه.
ثم اعلم أيضا أنه لا يجوز السؤال عن الكيفية في ذات اللّه تعالى وصفاته ، إذ لا يقال كيف ذاته من غير جسم ولا جوهر ولا عرض ، ولا كيف علمه من غير كسب وضرورة ، ولا كيف قدرته من غير صلابة ، ولا كيف إرادته من غير شهوة وأمنية ، ولا كيف تكليمه من غير حدة ولا صوت ، لأن هذا كله من نعوت البشر ، ولأن اللّه تعالى سدّ هذا الباب عليهم بقوله جل قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ) الآية 11 من سورة الشورى في ج 2 ، أما كيفية سماع موسى كلامه فقد وضحته لك أعلاه ، فاغتنم هذا ، فإنك لا تجده على هذا التفصيل والتمثيل في كتب كثيرة ، واحمد اللّه على إنعامه «وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» 8 وهذه الجملة من تتمة مانودي به موسى ، أي نزه ربك عما لا يليق به ، فقد نزه تعالى شأنه ذاته المقدسة بذاته عن صفات خلقه وعما تتخيله الأوهام من التشبيه والتمثيل ، وفيها تعجب إلى موسى بأنه سيلقى من جلائل الأمور وعظائم الشئون ما يتعجب منه المتعجبون.
وما قاله السدي بأن هذه الجملة من كلام سيدنا موسى ، بعيد عن المقام ويأباه مدلول الكلام ، لأن موسى لم يتكلم بعد ، كيف وقد اعتراه ما اعتراه من الدهشة وهيبة الربوبية التي ألمعنا إليها في الآية 10 من سورة طه المارة ، ولما رأى اللّه تعالى موسى كما كان مرئيا في الأزل لديه وقد أخذته الرهبة ، أراد أن يعرفه بذاته المقدسة ويزيل عنه ما أهابه ليمهد له ما أراد أن يلقيه عليه ويظهره على يده من الأمور الغريبة ، ناداه «يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» 9 الذي يكلمك هو أنا ، ولفظة الجلال بيان للفظة أنا والعزيز الغالب لما يفعله من العجائب والبدائع بمقتضى الحكمة ، وهي صفتان له جلّت صفاته وفيها إشارة إلى كمال قدرته وقوة عظمته ورمز إلى أنه سيبين له ما يستبعده الوهم المستفاد من قوله «وَأَلْقِ(2/311)
ج 2 ، ص : 312
عَصاكَ»
فألقاها حالا دون تردد ، امتثالا لأمره من غير أن يعلم المراد من إلقائها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ» تنحرك بشدة «كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة لشدة اضطرابها ، وتقدم في الآية 10 من سورة الأعراف والآية 15 من سورة طه والآية 32 من سورة الشعراء فقد بينا فيها التوفيق بين ما جاء فيها هنا وهناك ، فراجعها.
فلما رأى حركة عصاه وما انقلبت إليه هاله شأنها فتأخر عنها ، وهو معنى قوله تعالى «وَلَّى» ظهره محلها «مُدْبِراً» عنها وهرب خوفا مما رأى وازداد اضطرابه «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع ويلتفت عقبه إليها ثم ناداه عز وجل ثانيا «يا مُوسى لا تَخَفْ» مما رأيت ، ارجع لأني أريد أن أجعلك رسولا لي «إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» 10 لأني آمنتهم مما يخافون.
واعلم أن اللّه تعالى يفعل هذه المقدمات مع خلص خلقه من عباده الذين يختارهم لنبوته ، ويصطفيهم لرسالته ، بداية أمرهم إرهاصا لأقدارهم على تلقي وحيه ، ليتوطنوا عليه ، ويعلموا كيفية نزوله ، وهذا الخوف غير الخوف الذي هو شرط الإيمان ، فإن ذلك لا يفارقهم ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أنا أخشاكم للّه - راجع الآية 27 من سورة فاطر المارة -
ثم استثنى من عموم كلامه قوله «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» منهم بفعل ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى أو زل عن غير قصد أو استعجل في أمره كآدم ونوح وداود وسليمان وإبراهيم ويونس عليهم السلام ، وقد سبقت الإشارة إلى ما صدر من كل منهم وتأويله وتفسيره ودواعيه في محله ، وقد سمى اللّه ما حدث منهم ظلما بالنسبة إليهم ، راجع الآية 2 من الأعراف المارة والآية 23 من ص والآيتين 63 و85 من سورة هود في ج 2 ، قال تعالى «ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ» تاب وندم على ما صدر منه ، وقد سماه سوء أيضا نظرا لمقامهم وإلا في الحقيقة لا يسمى ظلما ولا سوء بالنسبة لغيرهم ، لأنه على حد حسنات الأبرار وسيئات المقربين «فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» 11 به أعفو عما صدر منه ثم ناداه ثالثا بقوله «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» اجعلها تحت إبطك «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص ، فأدخلها امتثالا لأمره ، من غير أن يعرف الغاية منها ، ثم أخرجها فإذا هي تبرق كالشمس ، وبعد أن توطن لكلام اللّه قال اذهب «فِي تِسْعِ آياتٍ» مع هاتين الآيتين كما بيناها(2/312)
ج 2 ، ص : 313
في الآية 132 من الأعراف المارة ، وهذه كلها قبل خروجه من مصر وعبوره البحر ، أما بعدهما فقد أظهر اللّه له آيات كثيرة ، أولها انفلاق البحر ، ثم تفجير الماء من الصّخرة ، والمن والسلوى ، والغمام والطمس ، وخسف الأرض بقارون ، وإحياء صاحب البقرة ، وإحياء هارون ، وغيرها ، ولبحث آياته عليه السّلام صلة في الآية 100 من الإسراء الآتية ، وقد أرسلناك بهذه الآيات «إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 12 متجاوزين الحد في الكفر والعدوان ، خارجين عن الآداب والمروءة ، فذهب وأخذ أهله وتوجه إلى فرعون ، وقد قص اللّه لنا ما وقع بينهما في الآية 113 من سورة الأعراف فراجعها ، قال تعالى على طريق الإجمال «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً» على يدي موسى واضحة يشاهدونها بأم أعينهم وتتيقن بها قلوبهم «قالُوا هذا» الذي جاء به موسى «سِحْرٌ مُبِينٌ» 13 مكابرة وعنادا «وَجَحَدُوا بِها» أنكروا تلك الآيات وكفروا بها «وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ» بأنها من اللّه ليست بسحر ولا كهانة ، وأيقنوا أن موسى ليس بساحر ولا كاهن ، وأنه رسول اللّه حقا ، وهذا هو الجحود المركب ، لأن كل ما تيقنته وأنكرته فهو كذلك ، لصدوره عن تعنت وتجبّر وعناد ومكابرة ، أما من هداه اللّه كالسحرة ومؤمن آل فرعون وزوجته آسية ، فإنهم صدقوا وآمنوا حينما تجلت لهم الحقيقة ، وأصرّ فرعون وقومه على الكفر «ظُلْماً» وأي ظلم حيث سموها سحرا وحطوها عن مرتبتها «وَعُلُوًّا» ترفعا واستكبارا عن الإيمان بموسى وربه «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل واعجب «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» 14 إذ أهلكناهم في دنياهم غرقا على الصورة المبينة في الآية 53 من سورة الشعراء ، المارة ، وستنظر عاقبتهم في الآخرة فهي أشد وأفظع وأقبح ، وهكذا تكون عاقبة من لم يؤمن من قومك.
مطلب أن اللّه تعالى خص الأنبياء بأشياء خاصة لأمور خاصة :
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً» عظيما في القضاء والسياسة لأمور نزيد إيقاعها على أيديهم كما قد قصصناه عليك في السور المتقدمة وما سنقصه عليك بعد ، وعلمنا آدم الأسماء لإسجاد الملائكة له راجع الآية 34 من البقرة في ج 3 ، وعلمنا الخضر علم الفراسة ليتلمذ له موسى كما في الآية 41 فما بعدها من سورة الكهف في(2/313)
ج 2 ، ص : 314
ج 2 ، وعلمنا يوسف تعبير الرؤيا لنجعله ملكا على مصر راجع الآيتين 37 و54 من سورة يوسف في ج 2 ، وعلمنا داود صنعة الدروع ليكون ملكا مع النبوة ، راجع الآية 11 من سورة سبأ ، وعلمنا سليمان نطق الطير لتؤمن به بلقيس كما سيأتي بعد ، وعلمنا عيسى الحكمة والتوراة والإنجيل لتدفع عنه التهمة راجع الآية 48 من آل عمران ، وعلمناك يا محمد علم الأولين والآخرين لنعطيك الشفاعة العظمى والرسالة العامة ، وهكذا بقية الرسل أعطيناهم أشياء خاصة لتكون سببا لإنالتهم أشياء خاصة في الدنيا والآخرة «وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا» بالنبوة والرسالة والملك ، ولم تجمع لمن قبلنا من الأنبياء في سبط من أسباط يعقوب ، بل كان الملك في سبط والنبوة في آخر «عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» 15 بذلك وبما سيأتي من تسخير الجن والإنس والطير والهواء وغيرها راجع الآية 10 فما بعدها من سورة سبأ في ج 2 ، وقالا ما قالا إظهارا لشكر اللّه على نعمه وتحدثا بها ولم يفضلا أنفسها على الكل تواضعا وهضما لأنفسهما المطهرتين.
مطلب قصة ابن كثير مع جاره وعظمة ملك سليمان وكلام الطيور :
كان ابن كثير رحمه اللّه يجلس على بابه فيطالع ، وكان له جار رثّ الثياب ، وكلما خرج من داره ورآه على حالته يركب عليه فيشم منه رائحة كريهة ، فعنفه يوما على فعله ، وأخبره بأنه يعوقه عن مطالعته ، فقال له وما تطالع ؟ قال في الاقتباس ، قال أنشدني منه شيئا ، فقال موريا فيه فورا :
كيد حسودي وهنا ولي سرور وهنا
الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزنا
الآية 38 من سورة فاطر ، فأجابه فورا معرضا فيه أيضا :
قلبي إلى الرشد يسير وعنده النظم يسير
الحمد للّه الذي فضلنا على كثير
الآية المارة ، فتعجب منه وقام إليه واحترمه ، واعتذر منه ، فقال له إياك أن تزدري بأحد ، فإن مواهب اللّه في الصدور لا في الثياب.(2/314)
ج 2 ، ص : 315
قال تعالى «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» نبوته ورسالته وعلمه وملكه وحده خاصة دون سائر اخوته الثمانية عشر بتخصيص اللّه تعالى إياه وزاده على أبيه تسخير الجن والإنس والشياطين والريح ونطق الطير وكان يفهم تسبيحها فقط «وَقالَ» سليمان لأشرف قومه «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا» من قبل اللّه ربنا «مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» أوتيه الأنبياء قبلنا والملوك ، ومما لم يؤتوه من جميع ما تحتاجه الدنيا والآخرة «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» 16 الذي لا فوقه فضل ، وقال هذا على سبيل التحدث بالنعمة أيضا على حد قوله صلّى اللّه عليه وسلم ، أنا سيد ولد آدم ولا فخر.
قالوا وفي زمانه صنعت الأعاجيب من البناء والجنان والهياكل والتصاوير البارزة والمحاريب البديعة وغيرها ، وجاء في تفسير البغوي أن ملكه دام سبعمائة سنة وستة أشهر ، وهو أحد الأربعة الذين ملكوا الدنيا ، قالوا إنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه وذنبه ، فقال لأصحابه أتدرون ما يقول ؟ قالوا اللّه ونبيه أعلم ، قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء ، وصاحت فاخته فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا.
وصاح طاووس فقال يقول كما تدين تدان.
وصاح هدهد فقال يقول استغفروا اللّه يا مذنبون.
وصاح طيطوى فقال يقول كل حي ميت وكل جديد بال ، وصاح خطاف فقال يقول قدموا خيرا تجدوه ، وصاحت رحمة فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري فقال يقول سبحان ربي الأعلى ، وقال تقول الحدأة كل شيء هالك إلا اللّه ، والقطاة تقول من سكت سلم ، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه ، والعقاب يقول في البعد عن الناس أنس ، والديك يقول اذكروا اللّه يا غافلون ، والنسر يقول يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت ، والضفدع تقول سبحان ربي القدوس ، والقنبرة تقول اللهم العن مبغض محمد وآل محمد ، والزرزور يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق ، والدراج يقول الرحمن على العرش استوى.
وعدّ الضفدع مع هذه الطيور مع أنه ليس منها ، إشعارا بأنه كما علمه اللّه منطق الطير علمه نطق بعض الحيوان والحيتان.
واللّه أعلم بصحة ذلك ، وإنما نقلناها لما فيها من الحكم البديعة التي تصح أن تكون موعظة وذكرى للمتعظين من البشر ، والغافلين الذين لا يعقلون ما يراد بهم ، إذ(2/315)
ج 2 ، ص : 316
لو عقلوا لما لذّ لهم طعام ولا شراب ، ولأكثروا من البكاء على أنفسهم وتركوا الضحك وتذكروا بمصير هذه الدنيا التي أغرتهم بزخارفها الفانية عن الدار الباقية ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
مطلب الصفات الممدوحة بالملك وحكم وأمثال :
قال تعالى «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» 17 يمنع أولهم من سرعة السير ليلحق آخرهم مجتمعون لشدة الازدحام الناشئ عن كثرتهم ، والوزع المنع ، قال عثمان رضي اللّه عنه : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن.
وقال الشاعر :
ومن لم يزعه لبه وحياؤه به فليس له من شيب فوديه وازع وإنما مال إلى حبس أولهم ولم يسق آخرهم ليلحقوا بهم رحمة ورأفة بهم ، كي يستريح الأولون ، ولا يزيد في تعب الآخرين.
وقال محمد بن كعب القرضي : كان معسكر سليمان مائة فرسخ خمس وعشرون للإنس ، ومثلها للجن ، ومثلها للطير ، ومثلها للوحش.
والفرسخ اثنا عشر ألف باع ، لأنه ربع البريد الذي هو مسافة مرحلة ، قال :
أي بذراع اليد ، وقالوا إن الجن نسجت بساطا لسليمان عليه السّلام من حرير وذهب فرسخا في فرسخ ، وكان يوضع عليه كرسيه في الوسط وتوضع حوله كراسي الذهب والفضة ويجلس عليها العلماء والصلحاء والناس حولهم والجن والشياطين حول الناس ، والوحوش حولهم وتظلّهم الطيور بأجنحتها ، وكان له ألف بيت من قوارير فيها ثلاثمائة زوجة ، وسبعمائة سرية ، وأن الريح العاصفة ترفعه ، والرّخاء يسير به بأمره ، وأن الريح تخبره بما يتكلم به الخلائق ، قالوا إن حراثا قال لقد أوتي آل داود ملكا عظيما ، فألقته الريح بأذنه ، فنزل بموكبه ومشى إليه وقال له تسبيحة واحدة يقبلها اللّه خير مما أوتي آل داود.
قال عمر رضي اللّه عنه : أخبرني يا رسول اللّه عن هذا السلطان الذي ذلت له الرقاب ، وخضعت له الأجساد ، ما هو ؟
فقال صلّى اللّه عليه وسلم ظل اللّه في الأرض ، فإذا أحسن فله الأجر ، وعليكم الشكر ، وإذا(2/316)
ج 2 ، ص : 317
أساء فعليه الوزر ، وعليكم الصبر.
وقيل لكسرى أي الملوك أفضل ؟ فقال الذي إذا حاورته وجدته عالما ، وإذا خبرته وجدته حكيما ، وإذا أغضبته كان حليما ، وإذا ظفر كان كريما ، وإذا استمنح منح جسيما ، وإذا أوعد عفا ، وإذا وعد وفى ، وإذا شكي إليه كان رحيما.
وقال حكيم ليزدجر : صلاح الملك الرفق بالرعية ، وأخذ الحق منها بغير عنف ، والتودد بالعدل إليها ، وأمن السبيل عليها ، وانصاف المظلوم ، وردع الظالم.
وجاء في الخبر : يوم واحد من سلطان جائر خير من سبعين سنة بلا سلطان ، لأن عدمه يؤدي إلى الفوضى وسفك الدماء ونهب الأموال.
وقال :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى ما لم يكن عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وقال بعض الحكماء : لا ينبغي للإمام أن يكون جائرا ومن عنده يلتمس العدل ولا للعالم أن يكون سفيها ومن عنده يلتمس الحلم.
وقال آخر : المملكة تحب بالسخاء ، وتعمر بالعدل ، وتثبت بالعقل ، وتحرس بالشجاعة ، وتساس بالرياسة.
وقال عليم : على الظالم أن يكون وجلا ، وعلى المظلوم أن يكون جذلا ، وعلى الأمير أن لا يتجاوز الحد فكل ما جاوزه لا يسمى فضلا ، كالشجاع إذا جاوز حد الشجاعة نسب إلى التهور ، والسخي إذا جاوز حد السخاء نسب إلى التبذير ، والأديب إذا زاد حد الأدب نسب إلى الخساسة ، واعلم أن الخوف خوفان :
محمود وهو المقرون بالطاعة وحفظ الحدود مثل خوف الأبرار والأتقياء ، ومذموم وهو المقرون بالمعصية ومخالفة الأوامر الشرعية مثل خوف إبليس وجنوده الذين يعلمون أن لهم خالقا يعاقبهم على عصيانهم وهم يخافون عقابه ويخالفون أوامره ، والرجاء اثنان : رجاء من اللّه أن يرحمه في الدنيا ويعطف عليه قلوب أوليائه وعباده ويغمره بعفوه وعافيته ، وفي الآخرة أن يشمله برحمته وشفاعة نبيه ويلحقه بعباده الصالحين.
ورجاء من النفس من الآمال الباطلة وما يتخيّله له الشيطان من الأعمال الخسيسة والطمع فيما فيه من المعصية.
هذا وأفضل المعرفة معرفة الرجل نفسه ، وأفضل العلم وقوف العالم عند علمه ، وأفضل المروءة استبقاء الرجل ماء وجهه ، قال تعالى «حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ» أشرفوا عليه لأن الإتيان غالبا(2/317)
ج 2 ، ص : 318
يكون من فوق ، والوادي كل منخفض يسيل فيه الماء ، وقد اختلف في هذا الوادي الكثير نمله حتى سمي به والمشهور أنه في اليمن وهو يسمى بهذا الاسم حتى الآن وكانت تذكره الناس بأقوالهم وأشعارهم ، وما قيل إنه بالشام أو بالطائف فليس بشيء ، «قالَتْ نَمْلَةٌ» لقومها سكان الوادي قولا فهمه سليمان عليه السّلام بان معناه ما ذكره اللّه بقوله «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ» سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» 18 لكثرة غلبتهم ومراعاتهم نظام المشي ، وذلك أن الجند إذا سيرهم قائدهم على جهة كان مشيهم بانتظام نحوها حتى إذا كان أمامهم شيء يدوسونه ولم يحيدوا عنه ، ولهذا تقدمت النملة بالعذر لسليمان عليه السّلام ووصفته وجنوده بالعدل والرحمة والتباعد عن الجور ، إذ علمت بإلهام اللّه إياها أنه نبي لا يجور ولا يتيه ولا يظلم ، قالوا وكان اسمها طافيه وهي عرجاء ذات جناحين «فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها» إعجابا بما آتاها اللّه من معرفة ، وسرورا بما آتاه اللّه من سماع وفهم لقولها ، ولما وصفته وقومه به من الشفقة المستفادة من قولها (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) والتبسم سمة الأنبياء.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت : ما رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم.
قال الأبوصيري :
سيد ضحكه التبسم والمشي الهوينا ونومه الإغفاء واللهوات اللحمات المشدقة على الحلق أو التي ما بين منقطع أصل اللسان إلى منقطع القلب في أعلى الفم ، مفرده لهاة ، قالوا ثم إن سليمان حبس جنوده أي أوقفهم ومنعهم من مداومة السير ، وأمر بإهباط البساط ، فنزل على شفير الوادي ، لأنه لو أهبطه فيه لتحطم النمل لعظمه وثقله ، وانتظر حتى دخل النمل كله مساكنه فلم تكسر منه واحدة ، ثم حمد اللّه وأثنى عليه «وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» كفني عن كل شيء مؤذ وامنعني من كل شيء مضر ، ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» من قبل «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» لأن العمل مهما كان حسنا إذا لم يرضه اللّه لا يعد شيئا ، والعمل الطيب الخالص لوجهه السالم من الرياء وشوائبه هو المرضي عند اللّه «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي(2/318)
ج 2 ، ص : 319
عِبادِكَ الصَّالِحِينَ»
19 من آبائي إبراهيم وإسماعيل ومن قبلهم ، ثم أمر العسكر بالنزول إلى الوادي ، فاصطف كعادته وسار وركب هو البساط وأمر ملأه فركب حوله كهيئته المارة ، ثم نظر إلى الطير المحلق فوقه فرأى كوة بينه «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ» ليعلم الغائب منه ، لأنه إذا حلق فوق البساط لم يترك كوة ينفذ منها شعاع الشمس على من فيه «فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ» إذ عرفه أنه هو الغائب الذي سبب وجود الكوة ونفوذ الشمس ، ربما أن الهدهد له أهمية بالنسبة لغيره عدا سد الكوة لأنه الدليل على الماء إذ يعرف بتعريف اللّه إياه الأرض التي فيها الماء وقربه وبعده فيها بمجرد نظره ، فيرى الماء داخلها كما يرى الناس الماء في الزجاجة وكما يرى القرلي السمك بأرض الأنهار وهو عائم فوقها ، فيسقط ويأخذها.
سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ولما تحقق عند سليمان غياب الهدهد قال «أَمْ» بل «كانَ مِنَ الْغائِبِينَ» 20
ولما كان غيابه بغير إذن منه توعده ، فقال «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً» قالوا بحبسه مع ضدّه بالشمس أو بنتف ريشه أو يفرق بينه وبين إلفه ، هذا إذا جاء عليه بشيء أوجب غيابه لمجرد عدم الاستئذان ، أما إذا كان تخلفه عن وجوده بمحله دون معذرة فتشدد عقوبته ، ولهذا قال «أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 21 حجة واضحة على غيبته بصورة اضطرارية لا يتمكن معها من الاستئذان ، فإنه ينجو من العذابين المذكورين ، قالوا ثم أرسل العقاب يطلبه فذهب «فَمَكَثَ» يتحراه «غَيْرَ بَعِيدٍ» أي مدة يسيرة وانتظره سليمان انتظارا قليلا ، فوجده الغراب وأخبره بما توعده به سليمان ، فقال له أو ما استثنى ؟ قال بلى ، وذكر له كيفية الاستثناء ، قال نجوت إن شاء اللّه ، فسار معه حتى أحضره أمام سليمان ، فرفع الهدهد رأسه وأرخى ذنبه ، وحط جناحيه في الأرض تواضعا وخشوعا وخوفا منه ، ولما سأله عن تخلفه ، قال قبل أن يبدي حجته : يا نبي اللّه اذكر وقوفك بين يدي اللّه عز وجل ، فارتعد سليمان لكلامه هذا ، وعفا عنه قبل إبداء عذره ، هكذا كانت الأنبياء وهم ملوك فتخلقوا أيها الناس بأخلاقهم ، واقتدوا بأفعالهم وأقوالهم ، فلو أن أحدنا مكانه لضرب به الأرض حالا دون رويّة.(2/319)
ج 2 ، ص : 320
مطلب ما قاله الهدهد لسليمان وعلوم القرآن الأربعة :
قالوا ثم سأله عن تأخره «فَقالَ» بعد أن أمن «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» ألهمه اللّه هذا الكلام لينبّه سليمان بأن أدنى خلق اللّه علم ما لم يعلمه وهو بما عليه من النبوة والرسالة والملك ، والإحاطة أبلغ من العلم بالشيء وقد أخفى اللّه مكان بلقيس على سليمان لمصلحة علمها ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب ثم قال «وَجِئْتُكَ» يا رسول اللّه وملك الزمان «مِنْ سَبَإٍ» اسم لقبيلة جدها سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان ، كان له عشرة أولاد سكن ستة منهم اليمن وأربعة الشام ، وجاء أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم سئل عن سبأ فقال : رجل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة واسم البلد التي هو فيها سبأ مأرب ، ثم اعلم أنه جاء في رسم القرآن خاصة زيادة حروف تكتب ولا تقرأ وهي من معجزات القرآن لأن في اللغات الأجنبية حروفا تكتب ولا تقرأ ولهذا لم يغفل القرآن ذلك مثل الالف في (لَأَذْبَحَنَّهُ) هنا والهمزة في (بِأَيْدٍ) الآية 47 من الذاريات في ج 2 ، والألف في (بشراى) وفي كلمة جزاؤه في الآيتين 19 و74 من سورة يوسف ج 2 ، والواو في كلمتي الصلوات والزكاة في كثير من الآيات المكية والمدنية ، والألف في كلمة (السُّواى ) الآية 10 من سورة الروم وفي كلمة (لِشَيْ ءٍ) الآية 14 من سورة الكهف في ج 2 أيضا وهذه لا تكتب في غير القرآن ، إذ كان في رسم قرآن عثمان رضي اللّه عنه هكذا ، وجب التقيد فيها حتى الآن وما بعد ، ومن هنا تعلم أن العلوم المتعلقة بالقرآن أربعة :
الاول ما يتعلق بكتابته ، وهو علم الرسم ، الثاني ما يتعلق بالأداء وهو علم القراءات السبع ، الثالث ما يتعلق بكيفية الأداء وهو علم التجويد ، الرابع ما يتعلق بالألفاظ وهو علم الإعراب والبناء والتصريف والبيان والبديع والمعاني ، وقد المعنا إلى بعض هذا في المقدمة وما بعدها عند كل مناسبة ، وهكذا إلى آخر هذا التفسير المبارك ومن اللّه التوفيق ، ثم قال وسأخبرك «بِنَبَإٍ يَقِينٍ» 22 عما وجدت ورأيت مما لا مرية فيه ، فتشوق سليمان لذلك وقال أخبرني ما هو ؟ قال «إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» يحتاجه الملك والملك «وَلَها» يا سيدي «عَرْشٌ عَظِيمٌ» 23 فخم كبير لا نظير له ، واستعظمه بالنسبة إليها ، قالوا كان(2/320)
ج 2 ، ص : 321
ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا ، وارتفاعه كذلك ، وهو مصوغ من الذهب ، ومكلل بالدّر والياقوت ، ومرصع باللآلي الثمينة ، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر وأبيض وزمرد ، وعليه سبع أبيات بعضها داخل بعض ، على كل بيت باب مغلق ، قالوا ثم قال له ومن أعلمك بذلك حتى ذهبت إليه ؟ قال لا أحد ، ولكني يا نبي اللّه لما اشتغلتم بالنزول من أجل قول النملة ، وجدت فرصة لأن أطير بالفضاء في نظر هذا الكون ، فرأيت هدهدا مثلي اسمه يعقير ، وكان اسمه يعفور فسألني ، فأخبرته عنك ، وعن ملكك ، وما سخره اللّه لك ، فقال لي وأنا عند ملكة لا تقل عن ذلك ، واسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان.
مطلب ملك بلقيس وسلاطين آل عثمان :
قالوا كان أبوها يقول لسفراء الملوك لا أحد كفوء لي ، ولم يتزوج منهم ، فتزوج جنية اسمها ريحانه بنت السكن ملك الجن ، وسبب زواجها أنه رأى حيتّين تقتتلان ، فقتل السوداء ورش الماء على البيضاء ، حتى أفاقت وانقلبت شابا ، فعرض عليه المال ، فأبى ، فزوجه ابنته ، وقال له إن الحيّة السوداء عبد تمرد علينا وقتل منا كثيرا ، فأردت قتله كما رأيته ، فلم أستطع ، ولولاك لقتلني ، ولهذا كافأتك بابنتي.
وتوجد روايات أخرى لم نعتمد صحتها ، وأنا في هذه شاك أيضا ، وإنما نقلناها استنادا لما جاء في بعض الأخبار عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن أحد أبوي بلقيس جنّي.
قالوا وبعد وفاة أبيها ملك قومها عليهم ابن عمها ، فساءت سيرته فيهم وصار يفجر في نساء رعيته ، وقد عجزوا عنه ، فاحتالت عليه وخطبته لنفسها ، فخطبها ، وقال لها ما منعني من خطيتك إلا اليأس منك ، فقالت له لا أرغب عنك ، لأنك كفو كريم ، ولما زفت له بادرته بالخمر حتى سكر ، فقتلته ، ثم جمعت الوزراء وأنبتهم على صبرهم عليه مع انتهاكه حرماتهم ، وقالت ما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته من هذا الفاجر ؟ وأظهرته لهم مذبوحا ، وقالت اختاروا من تملكونه عليكم ، فقالوا لا نرضى غيرك بعد أن فعلت هذا وصنت كرائمنا منه ، فملكوها عليهم واللّه أعلم.
روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة قال :
لما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى ، قال : (2/321)
ج 2 ، ص : 322
لن يفلح قوم ملكوا أمرهم امرأة.
وبمناسبة قول الهدهد لسيدنا سليمان نذكر للقراء أن السلطان عبد الحميد العثماني رحمه اللّه كان إذا خرج إلى المسجد يخرج في موكب عظيم لا بضاهيه ملوك الأرض فيه ، وكان يوقف ثلة على طريقه ، وعند وصوله إليهم يقفون له بالاحترام ويقولون له بصوت عال يسمعه من معه من الملأ والوزراء والعلماء المحيطين به بلغتهم التركية (بادشاهم مغروروله سندن بيوك اللّه وار) يعني (يا سلطاننا لا تغتر اللّه أكبر منك) وعند ما يسمع كلامهم هذا يحني رأسه خضوعا لما قالوا إذلالا لنفسه ، في عز سلطته المهيبة الباهرة ، وجرى من بعده على هذه الخطة هضما لنفسه أيضا ، مما يدل على أن ما يقوله الناس في ملوك آل عثمان مبالغ فيه واللّه أعلم ، وأنهم كانوا يحترمون العلم والعلماء ويقدمونهم على غيرهم ، من أهل الرتب العالية ويستثنون طلبة العلم من الخدمة الإجبارية ويعظمونهم في التشريفات فيقولون عند استقبالهم تفضّلوا ، رتبة العلم أفضل الرتب.
هذا ، ومن تتمة قول الهدهد «وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وذلك لأنهم كانوا مجوسا «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» القبيحة ، فرأوها حسنة «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» الحق طريق أهل الرشد والهدى الذي هو السجود للّه وحده ، لأن الشيطان لا يدلهم إلا على الضلال «فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ» 24 إلى الصواب ما داموا متبعيه ، ولذلك زين لهم أعمالهم الخبيثة «أَلَّا» لئلا على قراءة التشديد التي عليها القرآن ، وعلى قراءة التخفيف يكون (ألا) أداة استفتاح تدل على الطلب بلين ورفق ، ويكون المعنى ألا أيها الناس «اسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ» الشيء المخبأ المستور المدخر «فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» كالمطر والبرد والثلج وغيره والماء والنبات والأشجار والمعادن وغيرها مما علم ومما لم يعلم بعد «وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ» في أنفسكم من كل قول أو فعل «وَما تُعْلِنُونَ» 25 بالتاء ، والياء بالخطاب والغيبة ، واعلموا أيها الناس بأن العالم بذلك كله وغيره ، هو «اللّه الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» الذي لا أعظم منه ، ولا يضاهيه عرش ، الذي لا يستحق العبادة غيره ، فعرش بلقيس وعرش سليمان وغيرهما لا تكون ذرة في صحراء بالنسبة لعرش الرحمن ، اقرأوا إن شئتم(2/322)
ج 2 ، ص : 323
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية 256 من البقرة في ج 3 ، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة ، وفي هذه الآية ردّ على عبدة الأوثان وغيرهم وكل من يعبد غير اللّه وتنبيه إلى عظم عرش اللّه بالنسبة لجميع مخلوقاته ، وإلى هنا انتهى قول الهدهد الذي قصه اللّه على رسوله «قالَ» سليمان عليه السّلام بعد أن سمع من الهدهد ما لم يسمعه ، وقد تشوق إلى معرفة ذلك والوقوف عليه «سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ» فيما ذكرته «أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ» 27 فيه لأنه قال وأوتيت من كل شيء ، وهو عليه السّلام ، لم يؤت كل شيء لهذا اشتغل فكره وتاقت نفسه لرؤية ذلك والوقوف عليه ، فكتب كتابا لها وأعطاه إلى الهدهد ، وقال له «اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ» جمع الضمير باعتبار أنه لها ولقومها ، وهو كالجواب لقول الهدهد (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) إلخ ، «فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ» 28 لنا من الجواب فأخبرني به قبل أن يصل إليّ لا تروي في الأمر ، فأخذه وطار به ، فدخل عليها والوزراء حولها ، فرفرف بجناحه فنظرت إليه فرمى الكتاب إليها ، ووقف قريبا ليسمع ما يقولون ، ففضّته ، فلما رأت الخاتم ارتعدت ، وجمعت ملأها ، فقرأته عليهم علنا ، وقالوا كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، كل منهم على عشرة آلاف ، وعبارة الكتاب كما قص اللّه بلا زيادة ولا نقص ، وهكذا كان الأنبياء يكتبون جملّا لا يطيلون فيها «قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ» 29 مختوم ، روي عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : كرامة الكتاب ختمه أي شريف لشرف صاحبه ، لأنها عرفت أنه أعظم منها من فحواه ، وهو «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ» مكتوب فيه «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 30
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ» فتمتنعوا من الإجابة للإيمان تكبرا وتعاظما «وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» 31 منقادين لي طائعين للّه فاستعظمت ما أمرت به في الكتاب ، ونظرت إلى ملئها «قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي» هذا الذي نزل بي وأشيروا علي فيه لأني «ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً» يتعلق بالملك ولا أقضيه ، أو أفعله وأمضيه بغيابكم ، بل لا أعمل شيئا من ذلك «حَتَّى تَشْهَدُونِ» 32 بكسر النون أصله تشهدونني ، فحذفت النون(2/323)
ج 2 ، ص : 324
الأولى للنصب وحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها.
وقرأ يعقوب بإثبات الياء وقفا ووصلا ، وقراءتها بفتح النون لحن وخطا ، لأن النون تفتح في موضع الرفع لا النصب ، أي حتى تشيروا علي وتشهدوا علي حتى لا ألام فيما بعد ، لأن الاعتداد بالرأي من الجهل والأنفة ، وفي هذه الآية دلالة على استحباب المشاورة والمعاونة بآراء الغير في الأمور المهمة ، لان في تبادل الآراء واحتكاكها تظهر الحقيقة ، كما تظهر النار باحتكاك الزناد بالحصى.
ولهذا البحث صلة في الآية 38 من سورة الشورى في ج 2 وفي الآية 159 من آل عمران في ج 3 ، «قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ» في الأجساد وآلات الحرب «وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ» بالقتال فنصبر على جهده ونصدق عند اللقاء ولا نكلم إلا بالصدور ، وها نحن أولاء متهيئون لأمرك في الحرب والسلم ، وهذا شأن الرعية مع الملك إذ ما عليهم إلا الطاعة «وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ» في قتال هذا الملك وعدمه لأنك أنت صاحبة الرأي الصائب فيما يتعلق بملك ورعيتك الذين نحن من جملتهم «فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ» 33 به نطيعه وننفذه ، ولما فهمت من كلامهم أنهم ميالون للحرب جنحت إلى الصلح وبيّنت خطأهم في استعجالهم للقاء العدو بما قصه اللّه تعالى بقوله «قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها» قتلا وسبيا ونهبا لرجالها وأموالها وتخريبا لبنائها وصنائعها ومعاملها مهما كانت «وَجَعَلُوا» فضلا عن ذلك «أَعِزَّةَ أَهْلِها» من ملوك وأمراء ووزراء وعظماء ووجهاء وعلماء «أَذِلَّةً» لإيقاع الهوان بهم من كل وجه لئلا يثوروا عليها ، لأنهم لا يرضون بالتخلي عن ملكهم إلا قسرا «وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ» 34 في كل بلدة يفتحونها عنوة وقهرا ، بسبب الانكسار والاندحار ، وهذه هي عادتهم بأخذ البلاد حربا [صدقت رحمها اللّه لأنا قد شاهدنا من الافرنسيين ما شاهدنا وهم لم يدخلوا بلادنا حربا فنسأل اللّه أن ينجينا منهم ومن غيرهم ].
مطلب فراسة الملك وهدية بلقيس لسليمان :
ثم قالت لهم إني لا أريد أن أزعجكم في الحرب ، ولو أن قوتكم وعددكم كما ذكرتم خوفا من سوء عاقبة الحرب ، لأن الكاسب فيها خسران ، فكيف بالخاسر ؟
وأني عليمة بها فاتركوني لأرى لكم رأيا غير هذا ، فأصغوا لكلامها لأنها من بيت(2/324)
ج 2 ، ص : 325
الملك وتعرف عادة الملوك وعواقب الحروب ، وقد عرضت لقومها بذلك ، لأنها لا تعرف العاقبة إذا خاضت الحرب مع سليمان قبل أن تقف على ما عند سليمان من عدد وعدد ، فأخذت الأمر بالسياسة وأحد طرفيها الهدية لانها باطنها خدعة وظاهرها مودة ، والحرب خدعة ونتيجة مجهولة من أن يكون الغلب لها أو عليها فقالت «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ» جمعت الضمير تعظيما وتبجيلا لذلك الملك المهدى إليه ، لأنها أحست بعظمة وجلالة قدره من كنايه وحامله «بِهَدِيَّةٍ» عظيمة اصانعهم بها على سلامة ملككم وبقاء مجدكم وعزتكم وصيانة دمائكم ، فأختبره بها أملك هو أم نبي ، فإن كان ملكا قبل الهدية ورجع عن رأية وإلا حاربناه ، وإن كان نبيا لم يقبل الهدية ولم يرض منا إلا باتباع دينه ولا قدرة لنا على حرب الأنبياء ، لأنهم يعتمدون على اللّه لا على قوتهم ، واللّه لا غالب له ، قالت هذا وهي مجوسية لا تدين بدين تصديقا لقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية 38 من سورة الزمر ، وقال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية 81 من الزخرف في ج 2 ، «فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» 35 بقبولها أم ردها ، ولنا بعد ذلك نظر نجتمع إليه ثانيا ونتداوله.
وحذفت الألف من (بم) على أنها للاستفهام أي بأي شيء ، ويجوز أن تكون بمعنى الذي ، يرجع به المرسلون.
وكانت لبيبة بمخاطبتهم لأنها عاقلة حنكتها التجاريب ، وقد ساست الملك والملوك وعرفت دواخلهم واحتكت بالعظماء وخبرت بواطنهم وموقع الهدايا منهم ولأنها تأخذ بالقلوب وتزيل ما فيها فتحيل الحرب إلى السلم ، وتجنح إلى الصلح قال صلّى اللّه عليه وسلم الهدية تذهب سخيمة القلب.
وقال تهادوا وتحابوا.
ثم كتبت كتابا إلى سليمان عليه السّلام بينت فيه الهدية ، وهي على ما قالوا خمسمائة غلام بثياب جواري وحليهن على خمسمائة فرس مغشاة بالديباج ، ولجومها وأسرجتها مرصعة بالذهب والجواهر ، وخمسمائة جارية على خمسمائة رمكة بثياب غلمان ، وألف لبنة من ذهب ، ومثلها من الفضة ، وتاج مكلل بالدر والياقوت ، وحق فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب ، وأرسلتها مع رسلها ، وأمرت عليهم من قومها المنذر بن عمرو ، وقالت له أنظر إليه حينما يستلم الهدية ، فإن نظر إليك بغضب فلا يهولنّك ، لأنه(2/325)
ج 2 ، ص : 326
ملك ولسنا بسائلين عنه ، وإن ببشاشة ولطف فتواضع إليه ، فإنه نبي ، وذكرت في الكتاب إن كنت نبيا ميز بين الوصائف والوصفاء ، وأخبر بما في الحق (وقالت لرأس الوفد إذا عرف ما فيه قل أمرت بأن أطلب منك أن تثقب الدرة وأن تسلك في الخرزة خيطا) وزودتهم بالنصائح وسيرتهم ، وكان الهدهد يسمع كل هذا وعند ما سار الوفد بالهدايا طار من وكره ، وأخبر سليمان الخبر كله ، فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة ، وفرشوها في ميدان واسع متصلا بعرشه بطول سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه ذهب أو فضة ، وأمر بربط أحسن الدواب البرية والبحرية عن يمين الميدان ويساره ، وأمر بإحضار أولاد الجن ، فأقامهم عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره والكرسي من جانبه وصف الإنس والجن والوحش والهوام صفوفا بين يديه ، محياطين بعضهم ببعض ، وأمر بالطيور فصفت بالسماء ونشرت أجنحتها على المعسكر كله ، فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على الذهب والفضة ، رموا بما معهم من اللبن ، وقيل إنه ترك من فراش الميدان بقدر ما عندهم من اللبن ، فلما جاؤا وضعوا ما عندهم بالمحلات الناقصة خوفا من أن يتهموا بأخذه وهو قيل لا مستند ينقضه قولهم الآتي بتسليم الهدايا ثم تقدموا إليه وأدوا له التحية له التحية وسلموه الكتاب والهدايا ، ووقفوا بين يديه وقد هالهم ما رأوا من ذلك المشهد العظيم ، فأخذ ما عندهم وفض الكتاب ، ونظر إليهم بطلاقة وجه وابتسام ، فقال لهم أين الحق ، فأعطوه إياه ، فقال لهم إن فيه درة غير مثقوبة وخرزة معوجة ، قالوا صدقت ، ففتحه ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة بفمها ودخلت في الدرة حتى نفذت منها ، وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها وسلكته في الجزعة ، ولأجل أن يعرفهم الغلمان من الجواري أمر بإحضار قسم منهما ، وأحضر الماء
فأمرهم أن يغسلوا وجوههم ، فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب به الأخرى وتغسل وجهها ، والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل وجهه ، فأخبرهم بأن المرتدين ألبسة الغلمان هم الجواري ، والمرتدين ألبسة الجواري هم الغلمان ، ثم رد الهدية وأمر الرسل بإيصالها ، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ» رسل بلقيس «سُلَيْمانَ» بهديتها كتب إليها ما قاله اللّه تعالى «قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ» نكره على عظمه(2/326)
ج 2 ، ص : 327
تحقيرا لمادته عنده ، لأنه لا يعد ملكه مع عظمته شيئا ، ثقة بما له عند اللّه من الكرامة ، وقال «فَما آتانِيَ اللَّهُ» من النبوة والحكم والحكمة والرسالة والملك الذي لا نظير له «خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» من الملك والمال والجند لأني لا أفاخر ولا أكاثر في حطام الدنيا ، ولا أفرح بما أوتيت منها «بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ» 36 ولذلك رددتها إليكم مع عظمها ، لتعلموا أن الدنيا بما فيها ليست عندي ببلاغ ، كما أنها لا تساوي عند إلهي جناح بعوضة ، وان ربي أعطاني منها ما لم يعطه أحدا قبلي ويوشك أن لا يعطيه أحدا بعدي وكل ذلك لا يزن عندي مثقال ذرة لأن همّي وهمتي منصرفان إلى الاخرة ولا أفرح إلا بما يقربني من ربي وأنت أيها الوافد على رأس الذين حملوا هذه الهدية «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ» إلى ملكتك ووزرائها بهديتهم هذه ، وأخبرهم بما سمعت ورأيت ، وقل لهم ان لم يؤمنوا باللّه ويستسلموا له «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها» ولا طاقة لهم عليها «وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها» من بلدة مأرب وما حولها من البلاد التي يقطنها جيل سبأ «أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» 37 مهانون محقرون ، قالوا فلما رجع رسلها حائرين بما رأوا وما سمعوا ووصلوا إليها ، أخبروها الخبر كله ، قالت واللّه لقد عرفت ما هو بملك وأنه لنبي ولا طاقة لنا به ، ثم أجمعت أمرها وكتبت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك ، وما الذي تدعوا إليه من الدين.
ثم أغلقت على عرشها الأبواب ووكلت به الحرس وأوصتهم بمناظرته ، وان لا يخلص إليه أحد ، أو يقرب منه ، ثم سارت في اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن ، تحت كل قيل ألوف كثيرة ، قال ابن عباس كان سليمان عليه السّلام مهيبا لا يبتدىء بشيء حتى يكون هو السائل عنه فجلس يوما على سريره فسمع وهجا ، قال ما هذا ، قالوا بلقيس نزلت على مسيرة فرسخ منا مطلب جلب عرش بلقيس وإيمانها باللّه فأقبل على جنوده وأشراف قومه «قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» 38 وكان غرضه من ذلك أن يريها قدرة اللّه تعالى معجزة له على نبوته «قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ(2/327)
ج 2 ، ص : 328
مِنْ مَقامِكَ»
مجلس قضائك بين الناس ، وهو من الصبح إلى الظهر ، إذ يتصدر فيه لقضاء حاجات الناس من أحكام وغيرها ، ثم أكد مقعده وهو على ما قالوا مارد قوي يدعى صخرا يضع قدمه عند منتهى طرفه وكان بعظم الجبل «وَإِنِّي عَلَيْهِ» على الإتيان به وحمله من موضعه إلى هنا «لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» 39 على ما فيه قال سليمان لملئه : أريد أسرع من ذلك لأن القوم أظلونا وأريد أن يروه أمامهم عندي «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» قالوا هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان ووزيره ومعلمه وكاتبه ، وكان يقرأ الكتب الإلهية القديمة ويحفظ اسم اللّه الأعظم «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» قال سليمان هات ، قال أنت بن النبي وليس أحد عند اللّه أوجه منك ، فإن دعوت اللّه كان عندك ، قالوا فخر ساجدا للّه تعالى ودعاه بما ألهمه من أسمائه ، فجيء بالعرش في الوقت ، قال ابن عباس : إن آصف قال لسليمان حين صلى : مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن ، ودعا آصف فبعث اللّه الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل أن اللّه تعالى يعدم جميع الأشياء ويوجدها في كل لحظة ، وهكذا إلى انتهاء الدوران بالاستناد لقوله جل قوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) الآية 15 من سورة ق المارة ، وانه أعدم هناك وأوجد أمام سليمان في تلك اللحظة ، وكان الدعاء الذي دعا به آصف على ما روى عن عائشة هو : يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم ، وعلى ما رواه الزهري هو : يا إلهنا وإله كل شيء لا إله إلا أنت
،
ائتني بعرشها «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ» بعد أن رفع رأسه من السجود خرّ ساجدا للّه تعالى شكرا على ذلك «قالَ هذا» الفضل الجليل «مِنْ فَضْلِ رَبِّي» العظيم «لِيَبْلُوَنِي» يمنحني ويختبرني «أَ أَشْكُرُ» نعمه المترادفة علي «أَمْ أَكْفُرُ» بها وأجحدها «وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» يعود نفع شكره إليها إذ به دوام النعم ، وهو قيد للنعمة الحاضرة وصيد للنعمة المستقبلة ، «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ» عن شكره «كَرِيمٌ» 40 بالتفضل عليه لأنه يمهل عبده ولا يعجله بالعقوبة ويكون مسببا لسلبها منه إن لم يشكره عليها ، وهذا(2/328)
ج 2 ، ص : 329
مما يستعظم ويتردد فيه عقل من لا يعرف عظمة اللّه ، على أن الذي يصدق بظهور (التلفزيون) وهو المدياع الذي يرى صورة المذيع وليس صوته وهو في فعل بعض خلقه ، يجدر به ان يصدق بهذا ولا يتردد فيه ، لأنه من فعل ربه الذي لا يعجزه شيء ، وهو الذي يقدر عباده على أشياء لم يقبلها العقل مما ظهر في القرن العشرين هذا ، من البواخر والطائرات كالقلاع والصواريخ والمذياع (الراديو) ومعامل الكهرباء مما يحار فيها العقل ولا يكاد يصدقها لو لا وجودها ، وما ندري ما سيظهر لنا بعد من عجائب مكوناته حتى يتبين للكافر أنه الإله الحق الذي لا رب غيره الموجد لكل شيء ، راجع الآية 53 من سورة فصلت في ج 2 ، فلما أقبلت بلقيس بدبدبها وكبكبها وقبقبها
«قالَ» سليمان لخاصته «نَكِّرُوا لَها عَرْشَها» أي افعلوا به شيئا تنكره من تغيير وتبديل فيه ، فوضعوا الدر الأحمر مكان الأصفر ، وجعلوا ما في مقدمه في مؤخره وبالعكس ، وما بأعلاه أسفله وبالعكس ، وعرضوا ما فعلوه به على سليمان ، فأعجبه ، وقال نعرضه عليها «نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي» لمعرفته فنستدل بذلك على هدايتها «أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ» 41 لمعرفته ولا للجواب اللائق بذلك «فَلَمَّا جاءَتْ» وتمثلت بين يدي سليمان واستقر بها المكان أطلعها المرافقون لها من قوم سليمان بأمره على المتاحف ومن جملتها عرشها ، إذ وضع بالمتحف «قِيلَ» لها من قبل المرافقين «أَ هكَذا عَرْشُكِ» الذي تركتيه في بلادك الذي أخبرنا عنه الهدهد ؟ ولم يقولوا أهذا عرشك ؟ لئلا يكون تلقينا لها فيفوت الأمر المقصود من تنكيره ، فنظرت إليه وتأملته جيّدا ثم «قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ» لم تقل نعم هو ، خوفا من الكذب لأنها تركته محصنا بالأقفال محروسا من عظائم الرجال ، وتقدمته بالمجيء ولم تقل لا ، خوفا من التكذيب ، لأنها عرفته هو هو ، وان ما أوقع فيه من التغيير لم يبدل هيئته بالجملة ، وكان سليمان قريبا من المرافقين لها يسمع كلامها ، فاستدل به على كمال عقلها وحكمتها ورجاحتها وتؤدتها من جوابها الحسن ، وعدم إظهار ابتهاجها بما رأت ، فقال لها سليمان عليه السّلام انه هو بعينه ، وان إغلاق الأبواب عليه ، وإحاطته بالحرس لم يحولوا دون قدرة اللّه بجلبه معجزة لي ، وطلبا لإسلامك للّه(2/329)
ج 2 ، ص : 330
للّه وإيمانك به وتصديقك نبوتي ، قالت بلقيس : يا نبي اللّه نحن عرفناك نبيا «وَأُوتِينَا الْعِلْمَ» بكمال قدرة ربك وصحة نبوتك «مِنْ قَبْلِها» من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد ، وما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على رسالتك لهداية الخلق «وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» 42 لك مؤمنين بربك ، مصدقين نبوتك من ذلك الوقت ، والا لما جئنا منقادين خاضعين طائعين لأمرك مخبتين لربك لكان لنا معك موقف غير هذا ، ولرأيت منا العجائب ، وان هذه الجيوش التي جئتك بها نزر يسير من شيء كثير ، والهدية شيء حقير من شيء عظيم لا تذكر ولكان الكلام كلاما والهدية زؤاما ، فبش سليمان من قولها هذا على ما هو عليه من التعريض بقوتها وغناها وكثرتها ، لأنه أنتج هدايتها للاسلام «وَصَدَّها» عن «ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وهو التمس بدعوته لها ، وحال بينها وبين عبادتها لها «إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ» 43 خارجين عن طاعة اللّه راسخين في الكفر عريقين به متجاوزين حدود اللّه ، لأنها نشأت بين قوم يعبدون الشمس ، ولم تعرف غير عبادتهم لها ، وهذه الجملة تعليل لسبب عبادتها ثم تقدمها سليمان وجلس على سريره وأمر بإدخالها عليه بعد أن أجريت لها مراسيم الاستقبال والاستطلاع على بعض ما خول اللّه به عبده سليمان عليه السّلام ، فجاءت محفوفة بالإكرام والتبجيلِ يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ»
صحن الدار الذي يمر به إلى سرير سليمان ، وكان معمولا من الزجاج يجري فيه الماء وفيه أنواع من دواب البحرَلَمَّا رَأَتْهُ»
واقعا بين السرير ومدخل القصر ولا بد لها من أن تجوزه لتصل إلى سرير سليمانَ سِبَتْهُ لُجَّةً»
من الماء العميق وإنما عمل لها هذا ليختبرها ، كما عملت هي بالغلمان والجواري والدرة لتختبره ، إلا أنه لما كان عمل الصرح محكما جدا ، إذ كان الماء جاريا في الزجاج على قدره ، بحيث لم يترك في المجرى خلاء ما ولذلك ظنته جاريا بنفسه دون زجاج ، والا لعرفته ، وقيل ان الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي اليه أسرار الجن ، لأن أمها منهم ، فإذا أخذها وولدت له لا ينفكون عن خدمته وذريته من بعده ، فقالوا له إن في عقلها شيئا وان رجليها كحافر الحمار ، وهي شعراء الساقين ، وإنه لما اختبر عقلها وأعجبته أراد أن يختبر بقية أوصافها التي(2/330)
ج 2 ، ص : 331
ذكروها له عند ما تخوض الصرح ، وبالفعل أرادت ذلكَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها»
قالوا فرآها كأحسن النساء قدما وساقا الا أنها شعراء الساقين ، ثم صرف بصره عنها والَ»
لهاِنَّهُ)
أي ماترين من الماء هوَرْحٌ مُمَرَّدٌ»
مملس مستو معمولِ نْ قَوارِيرَ»
زجاج - جمع قارورة - فلما عاينت هذا الأمر العظيم الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي»
قبلا بعبادة الشمس ، والآن بكشف ساقي أمام سليمان بعد أن أخلصت له التوحيد ، َ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»
44 إلى هنا انتهت هذه القصة.
مطلب جواز النظر إلى المخطوبة والحكم الشرعي فيه :
يستفاد من هذه الآية جواز النظر إلى المخطوبة بوسيلة ما ، لا أن تعرض نفسها على الخاطب أو يعرضها وليها عليه كالسلعة عند البيع والشراء ، ويتركها تعاشره ، أو تسافر معه أو يختلي بها مثل بعض أهل الكتاب مما يخالف أهل المروءة والشهامة الحكم الشرعي جواز النظر إلى المخطوبة لوجهها لمعرفة محاسنها وليديها لمعرفة صحتها فقط ، ولا يجوز ان ينظر لغير ذلك ، ويحرم ان يختلي بها البتة ، أو يخالطها في سفر أو حضر ، لأن الشريعة الإسلامية جعلت هذا كله محظورا وان أمر الرسول برؤية المخطوبة لا يفهم منه ما يقوله بعض الجهلة بأمر الدين الذين لا يعرفون ماهية الغيرة الإسلامية والأنفة العربية من المعاشرة معها والسير معها إلى النزهة وغيرها ، كلا بل المراد أن يترصد الخاطب الجازم للخطبة ، لرؤية من يريد خطبتها من كوة أو مرور أو استطلاع حتى يكون على بصيرة منها ، فإن أعجبته عقد عليها برغبة كاملة والا انسحب بمعروف دون أن يتكلم بشيء ما عنها ، وان سليمان عليه السّلام إذا صح أنه كان مصمما على زواجه بها وقد قيل له فيها ما فيها ، جاز له أن يختبرها بذلك تأديا واحتراما ، لأن الأنبياء لم يخاطبوا أقوامهم الا بما يدل على مراعاة الأدب الكامل ، ولا يقابلون أحدا بما يكره ، أنظر مخاطبة ابراهيم عليه السّلام لأبيه في الآية 42 فما بعدها من سورة مريم ومخاطبة موسى لفرعون في الآية 43 فما بعدها من سورة طه المارتين ، وكذلك مخاطبة نوح وهود وصالح وشعيب أقوامهم في سورة هود الآية 25 فما بعدها في ج 2 وفي غيرها من السور(2/331)
ج 2 ، ص : 332
المارة ، ومن آدب ممن يعلمون الناس الأدب الذي تلقوه من رب الأرباب والا كان بوسعه ان يكلفها إراءة رجليها لمن يريد أن تراها عنه ، على أن قضية زواجها به لم تثبت بالقرآن إذ انتهت قصتها بإسلامها فقط ، ولا يوجد حديث صحيح بذلك ، أما الأخباريون فقد ذكروا أنه تزوجها ، وان الشياطين عملوا له النورة والحمام لإزالة شعر ساقيها ، ولم تعرف النورة ولا الحمام قبل ذلك ، وانها ولدت له ولدا ، وكان يزورها في محلها كل شهر ثلاثة ايام ، إذ أقرها على ملكها في مأرب وتوابعها ، وبنى لها ثلاثة قصور حصينة سماها سلمين ويلبسون وعمران ، لم ير الرائي ارتفاعها وحسنها وزخرفتها ، وقيل انه زوجها ذا تبع ملك همدان وأمر زوبعة ملك الجن بأن يعمل لذي تبع ما يأمره به ، ويفي الأمر كذلك حتى مر سنة على موت سليمان عليه السّلام ، كما سيأتي بيانه في الآية 13 من سورة سبأ في ج 2 ، والحكمة في إخفاء موته عليه السّلام هذه المدة ليظهر الناس كذب الجن بادعائهم علم الغيب ، إذ لو علموا بموته ما داموا على أعمالهم الشاقة التي كان يكلفهم بها ، قالوا ثم نادى مناد ان سليمان قد مات ، وانقضى ملكه وملك ذي تبع وملك بلقيس وبقي لصاحبه الواحد القهار ، وجاء في تفسير الخازن بأنه قد ولي الملك عليه السّلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين ، فتكون مدة حكمه أربعين سنة ، راجع الآية 16 المارة تجد خلافه واللّه أعلم.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» فقال لهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده ودعوا ما يعبد آباؤكم من الأوثان «فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ» مؤمن وكافر «يَخْتَصِمُونَ» 45 فيما بينهم كل يرى نفسه محقا في دعواه ، وهنا أطلق الجمع على ما فوق الواحد صراحة ، وقال من لا يجيزه إن جمع ضمير يختصمون مع أنه يعود إلى اثنين ، لأنه في الأصل يعود إلى مجموع الفريقين ، ونظير هذه الآية 78 من الأنبياء في ج 2 ، وهي (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) مع أن الضمير يعود لداود وسليمان فقط ومن أراد غير هذا قال ان الضمير يعود للحاكمين والمحكومين معا ، وهناك آية أخرى أيضا بيناها في تفسير هذه الآية هناك فراجعها ، وعلى الأولى فيه اشارة على أن الاثنتين جمع وعليه المناطقة والألسنة الأجنبية «قالَ» للكافرين منهم «يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ(2/332)
ج 2 ، ص : 333
بِالسَّيِّئَةِ»
وهي طلب إنزال العذاب الذي توعدهم به بنيتهم ان لم يؤمنوا به وهو قولهم في الآية 76 من سورة الأعراف «يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا» به من السيئة «قَبْلَ الْحَسَنَةِ» التوبة التي أرجوها منكم عما سلف من كفركم «لَوْ لا» هلا «تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ» من عبادة الأوثان وترجعون إلى عبادة الرحمن وتعملون صالحا «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» 46 بالنجاة من العذاب في الدنيا وبالفوز بنعيم الآخرة
«قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ» من الذين آمنوا بك ، إذ أمسك عنا القطر وأجدبت الأرض وهلك المال فأصابنا الضر والبلاء منذ طفقت تدعونا إلى دينك «قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ» بسبب كفركم به وما أصابكم من الشؤم مقدر عليكم ومقسوم لكم بأزله «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» 47 تختبرون وتمتحنون بتعاقب الخير والشر ليرى الناس أترجعون اليه فيكشف عنكم ذلك ، أو تصرون على الكفر فيزيدكم عذابا في الدنيا والآخرة «وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ» من أبناء أشرافها كلهم «يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» فيعملون المنكرات كلها «وَلا يُصْلِحُونَ» 48 أنفسهم ولا غيرهم أبدا دأبهم السعي في الإفساد والإعراض عن الإصلاح ، وقد طبعوا على هذا «قالُوا» هؤلاء التسعة الغواة الذين اتفقوا على عقر النّاقة ورأسهم قدار بن سالف المتقدم ذكره مع القصة في الآية 72 من الأعراف المارة ، أي تذاكروا بينهم في تدبير الحيلة التي أرادوا بها عقر الناقة «تَقاسَمُوا بِاللَّهِ» تحالفوا كلهم على انها «لَنُبَيِّتَنَّهُ» يريدون صالحا بأن يأتوه ليلا فيقتلوه «وَأَهْلَهُ» معه زوجته وولده «ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ» إذا سئلنا عنه بعد القتل «ما شَهِدْنا» ما حضرنا «مَهْلِكَ أَهْلِهِ» محل وزمن إهلاكهم ، أي إذا قال لنا ولي دمه ورئيس عاقلته من قتله ؟ نقول ما حضرنا قتله ولا قتل أهله.
مطلب التحاشي عن الكذب :
هذا وقد اختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم له ، قصدا للمبالغة بالإنكار ، أي كأنهم قالوا ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى قتلهم ويعلم من ذلك نفي إهلاكهم من قبلهم ، لأن من لم يقتل اتباعه كيف يقتله هو ، وهو الأصل ، وقرىء بضم الميم وفتح اللام من أهلك وبفتحها أيضا ، والقراءة التي عليها المصاحف بفتح الميم وكسر اللام ، ويجوز على هذه أن يكون مصدرا كمرجع ويكون(2/333)
ج 2 ، ص : 334
المعنى ما شهدنا إهلاكهم ، وان اسم مكان أي مكان إهلاكهم أو اسم زمان أي زمانه «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» 49 في قولنا هذا ، وهو كقول أولاد يعقوب لأبيهم (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) الآية 87 من سورته في ج 2 وأرادوا بهذه الحيلة التمويه لأن حضور الأمر غير مباشرته عرفا ، فلا يقال لمن قتل رجلا انه حضر قتله ، وان كان الحضور لازما للمباشرة ، فهؤلاء القوم الذين كانوا لا يعابون بما هم عليه من الكفر وسوء السيرة قد درأوا عن أنفسهم الكذب الذي هو عار في كل زمان ومكان ودين ، وصموا ان يحلفوا على المعنى العرفي بحسب العادة في الإيمان ، ليوهموا الخصم أنهم أرادوا معناه اللغوي ، فيكونوا صادقين بزعمهم ، لئلا يصموهم بالكذب ، والآن والعياذ باللّه تجد الكذب فاشيا عند الكبير والصغير مع أنه محرم دينا ومكروه مروءة ومذموم طبعا وقد ذم اللّه تعالى الكاذب في آيات متعددة من القرآن وقال صلّى اللّه عليه وسلم المسلم لا يكذب وقال الكذب مجانب للايمان راجع الآية 105 من سورة النحل في ج 2 اللهم أصلح عبادك ووفقهم للسداد «وَمَكَرُوا مَكْراً» قالوا على قتله ودبروا الكيد والغدر وذهبوا اليه شاهرين سلاحهم لينفذوا ما صموا عليه فرد اللّه كيدهم في نحرهم وأخزاهم «وَمَكَرْنا مَكْراً» عظيما لا تتصوره عقولهم بان عجلنا لهم العقوبة فأهلكناهم جميعا بالحجارة وحرسنا نبينا صالحا بالملائكة فصاروا يرون الحجارة تأتيهم من حيث لا يرون راميها «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» 50 بشيء من تدبيرنا هذا ، قالوا ان صالحا كان يصلي في مسجد الحجر ، وكان توعدهم بأن يفرغ اللّه من عذابهم حتى ثلاثة ايام ، فقال هؤلاء التسعة نذهب اليه ونقتله في مسجده قبلها ثم نذهب إلى أهله فنقتلهم أيضا قبل اليوم الثالث ، فخرجوا إلى الشعب الذي فيه مسجده ، فبعث اللّه عليهم صخرة من الهضب حيالهم بعد رجمهم ، فطبقت عليهم فم الشعب ، فلم يدر قومهم أين
هم ، ولم يدروا ما فعل اللّه بهم وهم لم يعلموا ما فعل اللّه بقومهم وعذب اللّه كلا منهم في مكانه ، وحمى صالحا ومن معه
«فَانْظُرْ» يا سيد الرسل وأخبر قومك «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ» على نبينا «أَنَّا دَمَّرْناهُمْ» التسعة المذكورين «وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» 51 لم يقلت(2/334)
ج 2 ، ص : 335
منهم إلا من آمن بصالح «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ» يرونها قومك حين ذهابهم إلى الشام وإيابهم منها بشاهدونها «خاوِيَةً» ساقطة متهدمة بعضها على بعض ، خالية من السكان ، لأنها لم تسكن بعدهم تشاؤما مما وقع على أهلها المهلكين «بِما ظَلَمُوا» أنفسهم وغيرهم لا لأمر آخر «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإهلاك على الصورة المذكورة «لَآيَةً» عظيمة وعظة ناطقة «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» 52 قدرة اللّه فيخشونها ويعتبرون بمن قبلهم فيؤمنون «وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا» مع صالح بمقتضى وعدنا له «وَكانُوا يَتَّقُونَ» 53 اللّه ولذلك حماهم مما أصاب قومهم ، وفي هذه القصة إشارة إلى أن قريشا سيمكرون بمحمد ويتحالفون عليه ، وأن اللّه تعالى ينجيه منهم ويهلكهم ، وكان في ذلك كما سيأتي في الآية 26 من سورة العنكبوت في ج 2 ، قال تعالى «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» إتيان الذكر سماها فاحشة لزيادة قبحها في قانونه الإلهي ، وسماها القانون المدني بالفعل الشنيع ، وهو اسم وفق المسمى بالقبيح والرذيلة والوقاحة «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» 54 بعضكم يفعل ببعض وهذا في غاية الشناعة ، أي كيف تفعلون هذا ولا تستترون ولا ينهى بعضكم بعضا ولا تكفون عنه «أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ» أيها السفهاء والخاطئون «شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ» مع أن اللّه تعالى خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر ولا الأنثى للأنثى ، فعملكم هذا مضاد لحكمة اللّه «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» 55 عاقبة أمركم ووخامة مصيركم «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه نصحه هذا ووعظه وإرشاده «إِلَّا أَنْ قالُوا» أولئك الجهلة السفهة «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» 56 عن عملنا ويتنزهون من فعلنا ويستقذرون إتيان الرجال ، وهذا مما يغيظنا وقد حق عليهم العذاب بقولهم هذا «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ
إِلَّا امْرَأَتَهُ» لرضاها بفعلهم وعدم إنكارها عليهم لذلك «قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ» 57 الباقين معهم بالعذاب «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» يا له من مطر سوء حجارة مترادفة «فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» 58 تقدمت القصة مفصلة في الآية 88 من الأعراف المارة ، فيا أكرم الرسل «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» واسأله العافية لك ولأمتك مما حلّ بهم(2/335)
ج 2 ، ص : 336
«وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى » من اخوانك المرسلين واتباعهم وقل أنت ومن آمن معك «آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» 59 به ممن لم يؤمن من قومك ، فقولوا لا بل اللّه خير وأعلى وأعز ، وهذا استفهام انكار لا يجاب الا بالنفي ، وهو تبكيت للمشركين والزام الحجة عليهم ، لأن اللّه تعالى لا شكّ خير لمن عبده وأنس به والأصنام شر لمن ركن إليها وعبدها لأنها لا تغني شيئا وتكون عليهم حجة يوم القيمة ثم ذكر اللّه جل ذكره من دلائل قدرته وبراهين وحدانيته وأمارات عظمته أنواعا فقال (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) بساتين محاطة «ذاتَ بَهْجَةٍ» حسنة المرأى بديعة المنظر «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» أي لا يمكنكم إنباته ، وان مباشرتكم زرعه لا يقتضي الإنبات ، فلو شاء اللّه لم ينبته ، فالمنبت الحقيقي هو اللّه الذي يسقيها بماء واحد فتثمر صنافا متنوعة مختلفة باللون والطعم والرائحة والشكل ، وهو الذي قدركم على زرعه راجع الآية 63 من سورة الواقعة المارة فانظروا أيها الناس «أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ» فعل ذلك أو أعانه عليه كلا ثم كلا «بَلْ هُمْ» قومك المعاندون «قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» 60 عن الحق إلى الباطل ويسارون الأصنام بالملك العلام ، ويقولون نزرع ونحصد ونسقي ، لو شاء اللّه لما أقدرهم على شيء من ذلك أصلا ،
قال تعالى «أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً» لكم أيها الناس تستقرون عليها ليل نهار ولا نحسون بأنها عائمة «وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً» جارية عذبة وملحة ومرّة وباهتة وحريفة وحامضة ، وأودع بعضها معادن وحيوانات متنوعة وحليّا مختلفا باللون والقيمة «وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» جبالا عظيمة تثقلها كي لا تضرب فتنعدم راحتكم عليها «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» حصينا لئلا يختلط الملح بالعذب ، فتنعدم المنفعة المقصودة منهما ، فتفكروا «أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ» فعل شيئا من ذلك كلا «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 61 حقائق قدرتنا وعظمة سلطاننا وحقيقة حكمتنا ، فقل لقومك هل الذي يعبدونه خير أم هذا الإله الفعال لكل شيء من نفع وخسر وخير وشر ومنع وإعطاء وعز وذل وغنى وفقر واحياء وإماتة ، فالإله القادر على هذه الأشياء(2/336)
ج 2 ، ص : 337
وغيرها هو المستحق للعبادة لا أصنامكم «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ» فيجيب دعاءه ويفرج ضيقه «وَيَكْشِفُ السُّوءَ» عن المضرور والمجهود والمكروب والملهوف فيغير حاله من المرض إلى الصحة ، ومن الضعف إلى القوة ، ومن الفقر إلى الغنى ، ومن العسر إلى اليسر ، ومن الذل إلى العزة «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ» تسكنونها وتنصرفون بها ، فمنكم الملك والأمير والمتسلط والتابع ، وقد أورثكم إياها عمن كان قبلكم من الأقوام الهالكين بسبب كفرهم نعم اللّه «أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ» يفعل لكم شيئا من ذلك ، كلا ولكنكم «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» 62 بآلاء اللّه الذي يسديها لكم وهي جديرة بالذكرى ، فقل با أكرم الرسل لقومك أآلهتكم خير أم هذا الإله القادر على كل شيء «أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» إلى الحال التي تقصدونها ؟ ألإله الذي جعل النجوم والمجرة في السماء والجبال والأنهار في الأرض علامة تسترشدون بها ليل نهار إلى مقاصدكم في أسفاركم ، أم أوثانكم العاطلة الجامدة «وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» أي أمام المطر مبشرا بقرب نزوله «أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ» يقدر على شيء من ذلك فيفعله لكم كلا «تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» 63 به علوا كبيرا «أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» من النطفة إلى أن يكمله خلفا سويا وبعد استكمال أجله في الدنيا يميته «ثُمَّ يُعِيدُهُ» بعد الموت حيا كما كان «وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» من مطر ونبات وحيوان «أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ» يعمل شيئا من ذلك ؟ كلا ، لا يقدر أحد على شيء منه ، وإذا لزمتهم الحجة ووقعوا في المحجة «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على أن ما تعبدونه يفعل شيئا واحدا مما ذكر «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 64 أن آلهتكم تقدر على شيء من ذلك ، أو أن مع اللّه إلها آخر كما يزعم البعض ، وبعد أن عدد هذه الحجج الخمس الدالة على وحدانيته في الإلهية وانفراده في فعل هذه الأشياء وغيرها ، وعجز من سواه عنها وعما يتعلق بالنفع والضرر وغيره ، وإلزامهم السكوت بتلك البراهين القاطعة ، قال المشركون أخبرنا يا محمد عن الساعة التي تهددنا بها إن لم نؤمن بك ، فأنزل اللّه «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الجهلة الذين لا يميزون بين الممكن والمحال : هذه من الغيب و«لا يَعْلَمُ(2/337)
ج 2 ، ص : 338
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ»
وحده ، فكيف نعطيهم علمها وهو من خصائص الإلهية «وَما يَشْعُرُونَ» هم ولا جميع الجن والإنس والملائكة «أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» 65 من قبورهم ومواقعهم مع أنه لا بدّ لهم منه ، وهو من أهم الأمور عندهم لأن اللّه تعالى وحده تفرّد بذلك «بَلِ ادَّارَكَ» اضمحل وفني وانمحق «عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» وشأنها ، فليس لهم علم بها ولا بوقت إمارتها.
وأصل ادّارك تدارك ، فأبدلت التاء دالا ، وأسكنت للإدغام ، واجتلبت الهمزة الوصلية للابتداء ، ومعناها تلاحق وتتابع ، وعليه يكون المعنى انتهى علمهم في لحوق الآخرة فجهلوها ، وتابع علمهم فيها ما جهلوه في الدنيا.
وقيل معنى ادّارك تكامل من أدركت الفاكهة إذا تكامل نضجها ، وعليه يكون المعنى إن أسباب استحكام العلم بأن القيامة كائنة قد حصل لهم في الدنيا ، ومكنوا من معرفته ، إلا أنه لا علم عندهم من أمرها ، فقد تتابع علمهم حتى انقطع ، وهذا بيان لجهلهم بوقت البعث ، وأرى أن الأول أولى لموافقته للسياق ، ولقوله تعالى «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» بعد أن بلغ علمهم بها وتكاملت أسبابه بحصولها ووجودها «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» 66 جمع عم وهو أعمى القلب ، ويقال له أعمه كما يقال لأعمى البصر أعمى ، وقد كرر الإضراب ببل ثلاثا لشدة جهلهم ، إذ وصفهم أولا بعدم الشعور بوقت البعث ، ثم بعدم العلم يكون القيامة ، ثم بالخبط بالشك وعدم إزالته مع قدرتهم عليها بالإيمان والإيقان حتى صاروا لأسوأ حال ، وهو وقوعهم بالحيرة بسبب عمه قلوبهم الناشئ عن كفرهم الذي منعهم من التفكر بالعاقبة ، وهو من جهلهم المركب الذي لا يزول إلا بعناية من اللّه ، وأنى لهم منها وقد انكبوا على الدنيا بكليتهم ؟ وقيل في المعنى :
سقام الحرص ليس له شفاء وداء الجهل ليس له طبيب
وقيل أيضا :
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ يحي بالعلم ميّت وليس له حين النشور نشور
هذا ، وإن قوله تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا(2/338)
ج 2 ، ص : 339
أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ»
67 أحياء من القبور كما كنا ، هو كالبيان لجهلهم بالآخرة وعماهم عنها لأنهم يريدون بهذا عدم التصديق بها والإصرار على جحودها ويؤيده قولهم أيضا «لَقَدْ وُعِدْنا هذا» الإخراج من القبور بعد الموت «نَحْنُ» من قبل محمد ابن عبد اللّه الذي هو في عصرنا «وَآباؤُنا» أيضا وعدوا من قبله «مِنْ قَبْلُ» وجودنا من قبل أنبيائهم ، وإنا نقول كما قال أسلافنا «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 68 وخرافاتهم يتناقلها الواحد بعد الآخر لا حقيقة لها.
ونظير هذه الآية الآية 84 من سورة المؤمنين في ج 2 ، «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» 69 من أمثالكم وانظروا أطلال ديارهم واسمعوا بقايا أخبارهم تنبئكم عن فظاعة ما حل بهم بسبب تكذيبهم رسلهم.
ثم التفت إلى حبيبه فقال «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» إذا حلّ بهم عذابي الذي لا دافع له «وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ» وحرج في صدرك مما تسمعه من التكذيب وتراه من الإعراض «مِمَّا يَمْكُرُونَ» 70 ولا تهتم لما يكيدونه لك ، فإني حافظك منهم ومن يعصمه اللّه لا يصل إليه مكر الخلق.
وقرأ ابن كثير بكسر ضاد ضيق خلافا لسائر القراء ، نزلت هذه الآية في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة ، وأوقفوا على أبواب طرقها رجالا يقولون للداخلين والخارجين أن عندنا رجلا منا يدعى محمدا جاء بدين مخالف لدين آبائنا ، وهو رجل ساحر فلا تصدقوه.
راجع الآية 94 من سورة الحجر في ج 2 والآية 85 من الأعراف المارة
«وَيَقُولُونَ» هؤلاء الماكرون «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به من إنزال العذاب «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 71 أنت وأصحابك وتهددنا به ليل نهار «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ» دنا وقرب ، لأن من أردفته خلفك فقد قربته منك أو حضر «لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» 72 به ، لأن تغاليكم بالكفر وتكالبكم على عبادة الأوثان يستدعيان نزول العذاب بكم «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» ومنهم أهل مكة إذ لم يعجل عقوبتهم كرامة لرسولهم ، ولأن العذاب إذا حل عمّ وان في علمه من يؤمن منهم كثير ، لذلك أمهلهم بفضله وكرمه «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ» من أهل مكة شأن غيرهم لأن الأكثر دائما هو الضال والقليل المهتدي.(2/339)
ج 2 ، ص : 340
مطلب اختلاف أهل الكتابين والقليل هم الشاكرون :
قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية 13 من سورة سبأ في ج 2 ، وهكذا الأقل هو الشاكر والأكثر «لا يَشْكُرُونَ» 73 نعم اللّه التي من جملتها تأخير نزول العذاب «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ» من عداوتك وتخفيه من مناوأتك «وَما يُعْلِنُونَ» 74 منها وهو يكفيك ذلك «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» مهما كانت غامضة متغمضة في الخفاء «إِلَّا» قد علمها اللّه وأحاط بها من قبل وأثبتها «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» 75 لمن له حق النظر فيه وهو على ظهوره فيه كل شيء مكتوم عن غير اللّه ، وهو مصدر كل الكتب الإلهية «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ» المدون ذلك الكتاب المنزل عليك يا محمد «يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» أهل الكتابين التوراة والإنجيل الذين يستفتونهم أهل مكة في أمرك «أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 76 من أمر دينهم ودنياهم ، لأنهم أنفسهم اختلفوا بعضهم مع بعض ، فمنهم من يقول المسيح هو اللّه ومنهم من يقول ابنه ، ومنهم من يقول ثالث ثلاثه ، ومنهم من يقول نبي كسائر الأنبياء وهو الصحيح ، ومنهم من ينسبه وحاشاه إلى الكذب في دعواه وأمه إلى ما هي براء منه وهي العذراء التقية المصونة المفضلة على نساء زمانها ، وان اليهود عليهم غضب اللّه كذبوه وقصدوا إهانته فأنجاه اللّه منهم ورفعه إليه ، وقالوا عزير ابن اللّه ، وقالوا على اللّه بالبداء أي أنه يفعل الشيء مما يقع في كونه ثم يندم على فعله فيفعل غيره ، وحاشاه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، واختلفوا في أمر النبي المبشر به في التوراة فمنهم من يقول يوشع ، ومنهم من يقول عيسى ، ومنهم من يقول لمّا يأت ولم يحن زمانه ، ومنهم من يقول هو محمد وهو الصحيح ، ولهم اختلافات في أمر دينهم ودنياهم لا تدخل تحت الحصر ، وقد أنزل اللّه هذا القرآن على محمد بين فيه ما اختلفوا فيه بيانا كافيا شافيا مما يوجب
إيمانهم لو تأملوا وأنصفوا ، ولكنهم لم يفعلوا مكابرة ، ولذلك كذبوه كما فعل المشركون من قومه أو قالوا فيه ساحر وكاهن وناقل ومتعلم ، وأن القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين ، فقد كذبوا ، وصفه أنه كلام اللّه عز وجل «وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» 77(2/340)
ج 2 ، ص : 341
به ، وضلال وعذاب للكافرين قال تعالى : «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» الآية 14 من سورة فصلت في ج 2 ، فيا أكرم الرسل اتركهم الآن «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ» في هذه الدنيا ويوم القيامة «بِحُكْمِهِ» العدل في اختلافهم هذا وغيره من كل ما تسول لهم به أنفسهم الخبيثة «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب الذي لا يرد أمره ولا يعقب حكمه «الْعَلِيمُ» 78 بما يفعلون وما يستوجبون ، لأنه يعلم دخائلهم «فَتَوَكَّلْ» يا سيد الرسل واعتمد «عَلَى اللَّهِ» ربك وثق به وفوّض أمرك إليه «إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ» 79 وهم على الباطل الظاهر ، تشير هذه الآية بوجوب توكل الخلق على خالقهم في كل أمورهم ، ولكنه لا يفهم منها ترك الأسباب وعدم اتخاذ الواسطة لقضاء الأمور ، بل لا بأس بها وخاصة في هذا الزمن ، ولكن لا يعتمد مع اتخاذ الأسباب إلا على اللّه وحده في قضاء حوائجه ، ولا يعرف أنها قضيت إلا منه وبأمره ، لأنه هو الذي يوقع في القلوب ما يريده للعبد فيعملونه قسرا من حيث لا يشعرون أنه مراد اللّه سواء الخير والشر ، ولو شاء لحال بين تلك الأسباب ولم يوفق العبد لها ، ولو لم يشأ لعجز أهل الأرض والسماء عن قضائها «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ» بدعوتك هذه «الْمَوْتى » قلوبهم «وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» 80 لأنهم إذا قابلوك قد يفهمون بالإشارة والرمز أو بمكبرات الصوت ، ولكنهم إذا ولوك ظهورهم امتنع إفهامهم وإسماعهم
«وَما أَنْتَ» يا حبيبي «بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» ولا بمرشد من أعماه اللّه عن طريق الحق ، وأعمى قلبه عن قبول الإيمان «إِنْ تُسْمِعُ» أي ما تسمع إسماعا يجدي السامع نفعا «إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» فهذا الصنف يمكنك أن تسمعه دعوتك لأنه ينتفع بها «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» 81 لك منقادون لامرك ، مخلصون في اتباعك ، واللّه يعلم من يؤمن ممن لا يؤمن ، فلا تذهب نفسك حسرات على من لا يقبل نصحك ولا يسمع أمرك.
مطلب خروج دابة الأرض ومحلها وعملها ووجوب الاعتقاد بها :
قال تعالى «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ» أي عصاة أهل الأرض بأن أغضبوا اللّه الحليم بإصرارهم على ما هم عليه ، ووجبت عليهم الحجة ، واستحقوا العقاب(2/341)
ج 2 ، ص : 342
المقدر عليهم ، وظهر لأهل زمانهم الأياس من إيمانهم ولم يبق لهم أمل فيهم ولا رجاء بإصلاحهم «أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ» قبل قيام الساعة ، وهي آية على انتهاء الأمر ، وإغلاق باب التوبة ، وستعطى هذه الدابة قوة «تُكَلِّمُهُمْ» بلسان فصيح يفهمه كلهم ، فتسم المؤمن بإيمانه والكافر بكفره ، وتقول ما قال اللّه تعالى تبكيتا وتقريعا إليهم ، «أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» 82 بوقوعها ولا يصدقون بمجيء الساعة والبعث بعد الموت والحساب والجزاء.
روي عن عبد اللّه ابن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إنّ أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيّتها كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن ، وتخطم أنف الكافر بالخاتم ، حتى إن أهل الحق ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ، ويقول هذا يا كافر.
- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن - وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن ، فينشو ذكرها بالبادية لا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ، ثم تمكث زمانا طويلا ، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ، ثم بين الناس في أعظم المساجد على اللّه حرمة وأكرمها على اللّه (يعني المسجد الحرام) لم يرعهم الا وهي في ناحية المسجد ، تدنو ، وتدنو كذا وكذا ، قال عمرو ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك ، فارقض الناس عنها وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا اللّه ، فخرجت عليهم تنقض رأسها من التراب ، فمرّت بهم فجلت وجوههم حتي تركتها كأنها الكواكب الدرّية ، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب ، حتى إن الرجل ليقوم فيعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلى فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه فيتجاور الناس في ديارهم ويصطبحون في أسفارهم ، ويشتركون في الأحوال ، يعرف الكافر من المؤمن ، فيقال للمؤمن يا مؤمن ، وللكافر يا كافر.
وجاء بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن(2/342)
ج 2 ، ص : 343
اليمان ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الدابة ، قلت يا رسول اللّه من أين تخرج ؟ قال من أعظم المساجد حرمة على اللّه (ولا أعظم عند اللّه كرما ولا أوجب حرمة ولا أكثر تبجيلا من المسجد الحرام على خلق اللّه كذلك ذكرنا آنفا أنه هو) فبينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون ، إذ تضطرب الأرض وتنشق الصفا مما يلي المسعى ، وتخرج الدابة من الصفا ، أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش ، لن يدركها الطالب ولن يفوتها هارب ، تسم الناس مؤمنا وكافرا ، فأما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري ، وتكتب بين عينيه مؤمن ، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه كافر.
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : بئس الشعب شعب أجياد ، مرتين أو ثلاثا ، قيل ولم ذلك يا رسول اللّه ؟ قال تخرج منه الدابة تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين.
وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم ، وقال إن الدابة تسمع قرع عصاي.
وجاء عن ابن عمر قال إن الدابة تخرج ليلة جمع (ليلة عرفة يقال لها ليلة جمع ويوم جمع لاجتماع الناس فيها) والناس يسيرون إلى منى وروي عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن ايّل ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا.
وقال عبد اللّه بن عمر تمس برأسها السحاب ، ورجلاها في الأرض ، وقال علي كرم اللّه وجهه : لها لحية ، ولا ذنب لها.
وقال وهب : وجهها وجه رجل وسائر خلقها كالطير ، واللّه أعلم بحقيقتها.
الحكم الشرعي وجوب الاعتقاد بخروجها جزما اعتقادا لا مرية فيه ، ومن أنكرها يكفر والعياذ باللّه لثبوتها نصا بالقرآن العظيم وينفي تأويلها عن الظاهر الأحاديث المارة الذكر ، لذلك يجب أن يعتقد أن كل تأويل يصرف حقيقتها إلى معنى آخر على طريق المجاز باطل لا يجوز الالتفات إليه.
أما وقت خروجها وكيفيّتها ومكان خروجها وما تقوله وتفعله ، فيجب أن يجعل علم ذلك إلى اللّه ، لأن الأحاديث كثيرة في ذلك ، وفيها ما يعارض بعضه بعضا ، وقد نقلنا أصح ما جاء فيها من الأخبار وتركنا غيره.(2/343)
ج 2 ، ص : 344
مطلب مواقف القيامة وأن لا نفخة ثالثة :
قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً» واذكر يا محمد لقومك بعد ذكر الدابة يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة «مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا» المنزلة على رسلنا لارشادهم «فَهُمْ يُوزَعُونَ» 83 لشدة الازدحام في ذلك اليوم العظيم يحبس أولهم آخرهم ليجتمعوا فيساقوا دفعة واجدة «حَتَّى إِذا جاؤُ» وصلوا إلى محل العرض أثناء مرورهم به ، وأرقفوا بين يدي ربهم في ذلك الموقف الرهيب «قالَ» لهم على طريق الاستفهام التوبيخي «أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي» المبلغة إليكم من رسلي في الدنيا «وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» والحال انكم لم تعرفوها حق معرفتها بل كذبتموها بادىء الرأي من غير أن تتفكروا بمنزلها وتنظروا الصادقين الذين أرشدوكم إليها «أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 84 بها في الدنيا أجحدتموها وقد جاءكم بها رسل ؟ فخرسوا ، إذ لا حجة لهم يتذرعون بها قال تعالى «وَوَقَعَ الْقَوْلُ» وجب العذاب الثابت في قوله تعالى «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ» الآية 13 من سورة السجدة في ج 2 «عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» أنفسهم بالكفر والعصيان وعدم الالتفات إلى آيات اللّه التي ذكرتهم أنهم لم يخلقوا عبثا «فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ» 85 إذ يغشاهم العذاب فيشغلهم عن الاعتذار ، وتكون أفواههم كأنها مختوم عليها ، راجع الآية 25 من المرسلات المارة ، وهذا في موطن من مواطن القيامة ، وقد ذكرنا أن فيها مواطن كثيرة منها ما يعتذر فيه ، ومنها ما يتحاج فيه ، ومنها ما ينكر فيه ، ومنها ما يعترف فيه ، ومنها ومنها ، أجارنا اللّه منها ، راجع الآية 81 من سورة مريم والآية 64 من سورة يس المارتين قال تعالى «أَ لَمْ يَرَوْا» هؤلاء الجاحدون قدرتنا «أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ» ويستوحوا لأنفسهم من نصب المعاش «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» مضيئا لينتفعوا به بما يقوّم أمورهم ، وهذه الرؤية قلبية لأن الليل والنهار
وإن كانا مبصرين بالعين لكن جعل كون الليل للراحة والنهار للعمل من الأمور المعقولة لا المبصرة ، أي ألم يعلموا جعلنا الليل المظلم للنوم والقرار ؟ قيل : النوم راحة القوى الحسية ، من حركات القوى النفسية ، والنهار المضيء للشغل النافع مادة(2/344)
ج 2 ، ص : 345
ومعنى «إِنَّ فِي ذلِكَ» الجعل المسلوك بنظام بديع لا يتغير «لَآياتٍ» دالات على كبير نعمنا وقوة ارادتنا «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 86 بنا ويصدقون رسلنا «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» القرن ، والنافخ به إسرافيل عليه السلام ، وكان أمراء الجيوش أخذوا بوقهم من هذا كما أخذت ترتيبات الشرطة والدرك والجيش والتعذيب وسرادق الملك ولبهته والوزراء والعمال وغيرهم من القرآن ، لأن الدنيا تذكرة ومثالا للآخرة ، والمراد بهذه النفخة الثانية بدليل قوله تعالى «فَفَزِعَ» خاف ودهش وارتعد «مَنْ فِي السَّماواتِ» من الملائكة «وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» من الخلائق فيشمل الإنس والجن والوحش وغيرها ، وجاء الفعل بلفظ الماضي بدلا من المضارع لتحققه ، لأن المستقبل من فعل متيقن الوقوع كالماضي لأنه من اخبار اللّه تعالى ، وهو حق ثابت لا مرته فيه واستثنى من هذا العموم في قوله «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» رضوان خازن الجنة ، ومالك خازن النار ، والحور العين والولدان وحملة العرش والمقربون والزبانية ، وإدريس لأن اللّه رفعه بعد الموت وموسى لأنه صعق بالطور وغيرهم ممن أراد استثناءهم ، وهذا التفسير على جعل النفخة هي الثانية أولى وأنسب بالمقام من جعلها النفخة الأولى ، لأن تمام الآية الآتية تدل دلالة صريحة على ذلك ، وان المراد بمن في السموات والأرض جميع الخلائق عدا من استثنى اللّه ، إذ لا أحد الا ويصيبه فزع وهول ورهبة يوم القيامة عند النفخة الاخيرة إذ لا يدري الناس ماذا يراد بهم وما يفعل بتقيهم وشقيهم ، ولا يبعد أن يدخل فيمن استثنى اللّه الأنبياء والشهداء والعلماء العاملون والأولياء العارفون الذين ثبتهم اللّه بتثبيتة الداخلون في قوله (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) الآية 89 الآتية وبقوله لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية 103 من سورة الأنبياء في ج 3 ، روى عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم سئل عن قوله تعالى «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» قال هم الشهداء مقلدون بسيوفهم حول العرش.
وقال ابن عباس هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون لا يصل إليهم الفزع.
راجع تفسير هذه الآية الآتية 172 من سورة آل عمران في ج 3 «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» 87 صاغرين ذليلين ، وفي هذه النفخة تتطاير من بوق اسرافيل أرواح جميع الأموات فتذهب كل روح إلى جسدها كأنها محشوة(2/345)
ج 2 ، ص : 346
فيه فتنشر الأموات من مدافنها أحياء بأمر اللّه وإرادته
فيهم فيهرولون نحو الصوت سراعا لا يميلون عنه ، قال تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) الآية 108 من سورة طه المارة وليعلم أن سيدنا إسرافيل عليه السلام منتظر دائما ربه سبحانه ، فعند ما يتلقاه يفاجأ الكون به حالا ، أما ما قاله الألوسي في الغالبة بان النفخات ثلاث ، مستدلا بهذه الآية إذ سماها نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث ، ويؤيد استدلاله بآية ص المارة وهي (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) 15 فهو قول لا مستند له ولا يفهم من هذه الآية الا مطلق نفخة وتحمل بالنسبة لسياق التنزيل على النفخة الثانية كما بيناه في تفسيرها فراجعه وبما أن الإجماع على أنهما نفختان لا ثالثة لهما فكل قول يخالفه لا قيمة له ، ولهذا لا عبرة يقوله هذا رحمه اللّه فلا يؤخذ به لعدم استناده على دليل قاطع ولانفراده بهذا القول وحده.
قال تعالى «وَتَرَى الْجِبالَ» رأي العين «تَحْسَبُها جامِدَةً» ساكنة واقفة قائمة في أمكنتها ممكة عن الحركة «وَهِيَ» والحال أنها تسير سيرا حثيثا «تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» الذي تسيره الرياح بسرعة عظيمة وتجزأه أجزاء على عظمه وهكذا الأجرام الكبيرة إذا تحركت نحو سمت واحد تراها واقفة بلا شك إذ لا يكاد يحس بحركتها لاجتماعها وكثرتها والتصاقها بعضها ببعض.
قال النابغة الجعوي في وصف جيش عظيم :
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لجاج والركاب تهملج
وقيل المراد بالسير هو الوسط ..
قال الأعشى :
كأن مشيتها في بيت جارتها مر السّحابة لا ريث ولا عجل
والأول أولى بالمقام لأن المراد بمر السّحاب سيره إذا شتتته الريح ، فلا ترى أسرع منه ، لهذا حسن التشبيه.
قال تعالى إن هذا الصنع البديع العجيب المتقن في حركة الجبال هو «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي» يعجز عنه الخلق أجمع كيف لا وهو «أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ» خلقه وأحكمه وسواه فأحسنه على ما تقتضيه حكمته البالغة «إِنَّهُ» الفاعل لذلك «خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» في هذه الدنيا من الطبائع الحسنة والسيئة ، ومن الأعمال الطيبة والقبيحة ، وأنه يوم ترجعون إليه سيكافئ الخير خيرا والشرير شرا.(2/346)
ج 2 ، ص : 347
مطلب حركة الجبال وما قيل فيها :
اعلم أيها القارئ أن المفسرين أجمعوا على أن هذه في سير الجبال عند خراب الكون في النفخة الأولى ، لأن الآية في بحث القيامة ، كما أن الآية قبلها ، والآية بعدها في بحث القيامة ، الا أن القيامة تكون لخراب الكون ، وإذا أنعمنا النظر في هذه الآية وأجلنا الفكر فيها وهي واقعة بين آيتين دالتين على القيامة بلا شبهة ، نرى أن ليس في معناها ما يدل على الخراب كما هو الحال في الآيات الدالة على القيامة مثل سورة التكوير والانفطار وغيرهما ، والآية 24 من سورة يوسف والآية 47 من سورة الكهف في ج 2 ، لأن كلمة الإتقان فيها تؤذن للعمار لا للخراب من إفساد أحوال الكائنات وإخلال نظامها وكلمة صنع تفيد إجادة العمل وإحسان الفعل لا تشتيته وتبديده والصنع من خصائص الإنسان ولا ينسب للحيوان الا شذودا ولفظ أتقن يفيد الإحكام والمتانة والرصانة فلا يؤول بالخراب ، وليس الخراب في معناه ، وهذان الفعلان أي مصدر صنع الذي فعله صنع وفعل اتقن ، فيها تشيران إلى التهويل من أمر الجبال إلى الذي مصدره الإتقان ، وتنبه على أن سيرها من الأفاعيل العجيبة وتؤذن بأنها من بدائع صنع اللّه المبنية على الحكمة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ، ومبادئ الإبداع على وجه متين ونهج رصين وهذا كله من شأن الدنيا لدلالته على العمار كما ذكرنا ، والقصد من تسييرها يوم القيامة سقوطها التسوى بالأرض قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) الآية 107 من سورة طه المارة ، وقال تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) الآية 6 من القارعة وقال تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) الآية 11 من سورة الحاقة في ج 2 ، والآيات الدالة على خراب الكون كثيرة في القرآن ، ويكون يوم تبدل الأرض غير الأرض راجع الآية 48 من سورة ابراهيم في ج 2 أيضا ، وهذه الآية واللّه أعلم لا تدل على
شىء مما تضمنته هذه الآيات لذلك أرى تفسيرها على غير أحوال الآخرة واعتبارها المعترضة بين ما قبلها وما بعدها ، ومثلها في القرآن كثير ، لأن جل الآيات المدنية في السور المكية والآيات المدنية في السور المدنية معترضة بين ما قبلها وما بعدها للاخبار ، وعليه يكون المعنى واللّه أعلم إرشاد(2/347)
ج 2 ، ص : 348
العباد إلى بدايع حكمه التي كان غافلا عنها الغافلون من أكثر الناس عند نزولها وبعده ، وان المار ذكرهم في الآية 73 المارة لا شك يعلمونها ، وان المراد بهذا الصنع العجيب والإتقان البديع في دورانها الرحوى بصورة دائمة منتظمة بتنظيم الحكيم القادر تنظيما لا يعتريه الخراب مستمرا دائما إلى اليوم الذي يريد فيه خراب كونه ، فتكون كسائر الأجرام الأرضية والسماوية داخلة في قوله تعالى (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الآية 40 من سورة يس المارة ، ومثلها الآية 22 من الأنبياء وفي ج 2 ، فاذا جاء ذلك اليوم المقدر لخرابها دخلت في معنى الآيات المارة الدالة على الخراب ، راجع الآية 54 من سورة الأعراف المارة.
هذا ما رأيته وعلى من بعدي أن ينتقدوا أو يحبذوا وهنا مسألة ، وهي أن القاضي عبد الجبار استدل بعموم قوله تعالى (أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ) على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه ، والأوجب وصفها بالإتقان والإجماع مانع منه ، وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض ، لأن الإتقان بمعنى الإحكام وهو من أوصاف المركبات القائمة بنفسها القابلة للخرق والالتئام ، أما الأعراض القائمة بغيرها فلا تقبل ذلك ، وعليه فلا يستقيم ما أراده حضرة القاضي ، ولو سلم أنها غير مخصوصة فوصف كل الأعراض به ممنوع ، إذ ما من عام إلا وقد خصص ، وهذا من المخصوص ولو سلم أن وصف كل الأعراض به غير ممنوع وأنه غير مخصوص من العموم فالإجماع المذكور يقوله (ان الإجماع مانع من عدّ القبائح متقنة) ممنوع بل هي متقنة أيضا ، بمعنى أن الحكمة اقتضتها وما تقتضيه الحكمة فهو متقن والإتقان نسبيّ لكل بحسبه ، وبما أن هذه الآية لم يفسرها مفسّر بما فسرتها الآن ولم يطرق موضوعها طارق بما ذكرته لحد الآن ، وقد أقدمت عليه لا ترك للقراء الكرام والعلماء الأعلام مجالا لتمحيصه إيجابا أو سلبا قبولا أو ردا ، وفتحت لهم هذا الباب ليقروه إذا رأوه موافقا لا سيما وأن علم الفلك يقره ، وإجماع أهل العصر على أن الأرض هائمة ولها دورتان يومية وسنوية ، أو يغلقوه على هذا القاضي كما أغلقوه على القاضي عبد الجبار المار ذكره ، واللّه ولي التوفيق.
قال تعالى
«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ» الخصلة الطيبة من أقوال وأفعال وأخلص للّه وحده وآمن بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر(2/348)
ج 2 ، ص : 349
وبالقضاء والقدر وجميع ما أخبر به الرسل في الدنيا والآخرة «فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها» عند اللّه ثوابا عظيما وأجرا جزيلا «وَهُمْ» أصحاب هذه الخصال «مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ» يوم يفزع الناس في يوم القيامة «آمِنُونَ» 89 لا يخافون كما يخاف غيرهم من العذاب الذي يقع بعده ، أما نفس الفزع الوارد بالآية السابقة فلا يخلو منه أحد لوقوعه فجأة فيعم رعبه ورهبته الناس كلهم ، عدا من استثنى اللّه ، ولبحثه صلة في الآية 170 من آل عمران في ج 3 ، «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ» الخصلة القبيحة من أقوال وأفعال واشراك باللّه وجحد كتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر بان كذب ما جاءت به الرسل في الدنيا والآخرة «فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» بأن قذفوا فيها على وجوههم غير مبال بهم ، فيدفعون دفعا من الوراء إلى الأمام إهانة لهم وتحقيرا لشأنهم ، كما تطرح الزبالة تكفأ كفئا لأن من يطرحها لا ينظر إليها ، وعبر بالوجه عن سائر الجسد لهذا المعنى ، ولأن الوجه أول ما يواجه النار ، راجع الآية 24 من الفرقان المارة والآية 98 من الإسراء الآتية ، ويقال لهؤلاء حين يقذفون في النار تبكيتا لهم وجوابا لصراخهم المحشو بالأعذار الكاذبة والوعود المخلفة «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا» جزاء «ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 90 في الدنيا ،
ثم التفت إلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم فقال قل يا أكرم الرسل لقومك إذا جادلوك أو خاصموك «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ» مكة المكرمة لا أخص بعبادتي غيره ، وإنّما خصها بالذكر لأنها مولده وأحب البلاد إليه وأكرمها عليه وقد أشار إليها إشارة تعظيم «الَّذِي حَرَّمَها» على المشركين وجعلها موطىء رسوله ومهبط وحيه ، وجعلها حرما آمنا من فيها ويتخطف الناس من حولها وحرم سفك الدماء فيها بحيث لو رأى الرجل قاتل أبيه لا يعارضه البتة ، وقد ضاعف عقاب الظلم فيها ومنع أن يصاد صيدها أو يختلي خلاها أو تلتقط لقطتها ولا يدخلها إلا محرم تعظيما لشأنها «وَلَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ» في السموات والأرض ملكا وعبيدا «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 91 لعظمة ربي المنقادين لأوامره ونواهيه «وَأَنْ أَتْلُوَا» بنفسي عليكم «الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى » بهديه وآمن بمنزله ومبلغه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» فيعود نفع(2/349)
ج 2 ، ص : 350
هذا إليها «وَمَنْ ضَلَّ» عنه وكفر بمنزله والمنزل عليه ، فيبقى تائها في الضلال «فَقُلْ» يا سيد الرسل لمثله «إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» 92 المخوفين من عذاب اللّه ما أنا بمجبر ولا مسيطر ولا قاسر لأحد على الإيمان ، راجع الآية 12 من سورة كورت المارة ، وقد قام صلّى اللّه عليه وسلم فيما أمره به ربه أتم قيام هذا ومن قال أن هذه الآية نسخت بآية القتال أراد عدم بقاء حكمها ، لأن الرسول أمر بقتال من لم يؤمن ، وفي الحقيقة لا نسخ ، لأن هذا كله ارشاد من وجه وتهديد من آخر والرسول مأمور في هاتين الحالتين حتى بعد نزول آية القتال ، لأنه لم يقاتل أحدا قبل إنذاره ، فضلا عن أن هذه الآية من الإخبار والأخبار لا يدخلها نسخ «وَقُلِ» يا سيد الرسل «الْحَمْدُ لِلَّهِ» على ما وفقني به من القيام لأداء الرسالة وقل لقومك «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ» القاهرة قريبا من الجلاء والسبي والقتل في الدنيا كما يريكم العذاب الشديد في الآخرة ويوم تأتيكم آيات ربي «فَتَعْرِفُونَها» إذ تشاهدونها عيانا لا قولا وتعريضا «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» 93 بالتاء خطاب لأهل مكة ، وبالياء لهم ولغيرهم ، وفيها تهديد عظيم ووعيد فظيع إذا هم لم يؤمنوا بأن يوقع بهم ما تهددهم به من الآيات الرهيبة.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه العظيم ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين.
تفسير سورة القصص
عدد 49 - 28
نزلت بمكة بعد سورة النمل عدا الآيات من 52 إلى 55 والآية 82 فانهن نزلن بالمدينة ، وهي ثمان وثمانون آية ، وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة ، وخمسة آلاف وثمانمائة حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 تقدم تفسيرها في الشعراء المارة ، وفيها إشارة إلى آيات هذه السورة وأنه قد بين فيها الحلال والحرام والحدود والأحكام ، والوعود والوعيد ، والإخلاص(2/350)
ج 2 ، ص : 351
والتوحيد ، والقصص ، والأخيار ، والأمثال ، والاعتبار ، مما هو ثابت في اللوح المحفوظ ، فيا أكرم الرسل إنا «نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ» أي من بعض خبرهما كما يفهم من لفظ من ، ولأن نبأ موسى مع فرعون لا ينحصر في هذه السورة كما علمت مما مر وما يمر عليك بعد ، وهذا الإخبار «بِالْحَقِّ» الواقع لنتلوه «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 3 به فينتفعون بأحكامه ، أما غير المؤمن فلم تنفعه الموعظة ، ثم شرع يقص ذلك النبأ فقال : يا حبيبي «إِنَّ فِرْعَوْنَ» ملك مصر الوليد الرباني «عَلا فِي الْأَرْضِ» تجبر وتكبر وترفع على أهلها وما حولها «وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً» فرقا بقصد إضعافهم وجعلهم صنوفا في خدمته وخدمة زملائه ، قهرا فصاروا يشايعونه على ما يريد بحيث لا يملك أحدهم أمر نفسه ولا يقدر على مخالفته وأنه «يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ» أي بني إسرائيل ولا يعاملهم معاملة القبط قومه ، ولا يعدل بينهم إذ يكرم القبط ويهفي بني إسرائيل ويضيق عليهم ، فيستخدمهم ويسخرهم ويسىء إليهم ، وهم لا يعارضونه بشيء من ذلك ، وقد حدا به العنفوان إلى استرقاقهم وتشغيلهم بأنواع الخدم الشافة ولم يكتف بذلك حتى صار «يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ» إذلالا لهم «وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» أي يبقيهن أحياء ليستعملهنّ هو وقومه في مصالحهم وذلك أنه أخبره بعض كهنته بأنه سيولد منهم ولد يكون سببا في خراب ملكه ، ولهذا وقع الخوف في قلبه ، فصار يذبح الذكور ويبقي الإناث ، وقد استكانوا له حذرا من ذبح الكبار ايضا «إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» 4 الراسخين في الفساد لكثرة ما أوقعه فيهم من القتل
بسبب ما تخيله من قول الكاهن زيادة على اعماله القبيحة معهم ، بقصد اصغارهم ، ولذلك جعلهم شيعا لئلا تتفق كلمتهم فيناوئوه ومن هنا أخذت قاعدة (فرق تسد) وصارت الحكومات الغاشمة إذا استولت على غيرها قسمت بلادها إلى حكومات صغيرة ، وأوقعت التنافس بينهم ليشتغلوا بعضهم ببعض ، ويركنوا للمولى عليهم ، قال تعالى «وَنُرِيدُ» بعد أن أظهر فرعون تماديه على الكفر واسترقاق بني إسرائيل «أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» منهم «فِي الْأَرْضِ» من قبله ونهلكه وقومه ولننعم ونتفضل(2/351)
ج 2 ، ص : 352
عليهم «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً» أنبياء وملوكا يصلحون ما فسد من أمرهم ويرفعون الظلم عنهم ويساون بين الناس «وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» 5 لملك فرعون «وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» نوطنها لهم ونثبت أقدامهم بها ونجعلها مسكنا لهم ، ليكونوا قادة في الخير وحكاما بالعدل ، يرفعون الجور ويطهرون الأرجاس التي كان يفعلها فيهم «وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ» وزيره وعونه على مظالمه «وَجُنُودَهُما» الذين هم سبب قوتهما وبطشهما ومتانة شكيمتهما «مِنْهُمْ» من بني إسرائيل ، والجار متعلق بنري المتقدم لا بيحذرون ، لأن الصلة لا نتقدم على الموصول «ما كانُوا يَحْذَرُونَ» 6 من خراب ملكهم ، أي نري فرعون ووزيره وجنوده الذين كانوا يقتلون أولادهم لمحافظة دولتهم ، ونحفظ هذا الولد الذي سيكون سببا في ذلك من كيده وتربيته في بيته وعلى يده ، ليعلموا أن حذرهم لا يغني شيئا من اللّه ، وأن لا راد لما أراده ، وسنحقق ما توهموه في قول الكاهن «وَ» بعد أن ولد نبيهم «أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى » يوحاته من نسل لاوي بن يعقوب بعد أن ولدته وحارت في أمرها ماذا تفعل به ، لأن شرطة فرعون يتحرون الدور ويتفقدون الحبالى ليذبحوا الذكور من أولادهم ، واشتد خوفها عليه منهم ، فألهمناها وأشرنا إليها «أَنْ أَرْضِعِيهِ» أي قذفنا في قلبها ما معناه ذلك وقلنا لها «فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ» من اطلاع الشرطة ولم تقدري على دفع ما يحوك في صدرك من الخوف عليه ، فضعيه في صندوق «فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» وكان هذا الوحي بطريق الإلهام أو الرؤيا أو بواسطة الملك كما كان يتمثل لمريم عليها السلام ، وعلى كل فلا يسمى وحي رسالة لأن المرأة لا تكون مرسلة من اللّه ، والمراد باليم نيل مصر وكل نهر كبير يسمى يما أي بحرا «وَ» قلنا لها أيضا لتطمئن عليه «لا تَخافِي» عليه من الغرق ، لأنا حافظوه «وَلا تَحْزَنِي» على فراقه بعد أن تلقيه وتحققي «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» قريبا لتربيه بطلب من فرعون عدوه ، وبصورة لطيفة وحالة بديعة «وَجاعِلُوهُ» بعد كبره «مِنَ الْمُرْسَلِينَ» 7 إلى
فرعون وقومه ، فامتثلت ما قذف في روعها من ذلك الإلهام الإلهي ، وبعد أن أرضعته خفية مدة وتحقق خوفها عليه من كثرة التحري من أعوان فرعون رجالا ونساء بلا فتور ، جاءت(2/352)
ج 2 ، ص : 353
بتابوت ودفعته فيه وألقته في النيل كما أمرها اللّه ، فالتقطه آل فرعون ، وذلك أن قسما من النيل يمر في قصره وأخذته الجرية إليه ليتم مراد اللّه و«لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» في عاقبة أمره ، أي ربّوه لهذه الغاية ، ولو علموا لقتلوه ، ولكن أمر اللّه واقع لا محالة على حد قولهم (للموت ما تلد الوالدة) والوالدة لم تلد ليموت ولدها بل ليحيا ، وهؤلاء التقطوه وفرحوا به ليكون لهم صاحبا ومفرحا ، لا ليكون عدوا وحزنا «إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ» 8 بعملهم ذلك وهو تصدّيهم لقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل ، لئلا يفوتهم من أخبروا به بأنه سيكون خراب ملكهم على يده ، ولهذا عاقبهم اللّه على فعلهم بأن قدر عليهم أن يربّوا عدوهم الذي يتوقعون منه هلاكهم ، ويتحروه ليل نهار بأيديهم وتحت رعايتهم ، ليكون ندمهم أكثر وتحسرهم أشد ، ويكونوا خاطئين بتربيته لا يشعرون أنه هو ، ولا بدع فإنهم خاطئون فيما يأتون ويذرون ، لأنهم لا يدينون بالإله الواحد ولا يعلمون أن ما يريده اللّه لا بدّ أن يقع ، أرادوا أو أبوا.
وخلاصة القصة قال الأخباريون إن كاهنا من قوم فرعون أخبره بأن هلاكه وملكه سيكون على يد رجل يولد من بني إسرائيل ، وأشار عليه أن يأخذ حذره ، ويستعد لعاقبة الأمر لأنه واقع لا محالة ، وقد رعب فرعون من هذا الخبر ، فرأى غضب اللّه عليه أن يأمر بقتل كل ولد ذكر يولد من بني إسرائيل ، من تاريخ إخباره من قبل الكاهن لسلامة نفسه وملكه ، وهذا من فظاعة عتوه وبغيه وكبير كبريائه وطغيانه وكثير جهله وحمقه لشدة حرصه وطمعه في الدنيا اقتداء بأخيه النمرود حيث فعل فعله هذا حينما أخبره الكاهن بمثل ما أخبر فرعون ، وصار يقتل الأولاد ويترك الإناث ، ولكن اللّه تعالى لم يسلطه على إبراهيم ، وقد كان هلاكه بسببه كما ستأتي قصته في الآية 83 من سورة الأنعام في ج 2 ، مع أنه يعلم أن لا راد لما قضى اللّه ولا مانع لما أراده ، ولكن تهالكه على الملك أعمى بصره وبصيرته ، وإن أخذه يقول الكاهن دليل على قلة عقله ، لأنه إن صدقه لم ينفعة القتل ، لأنه قال له سيكون ذلك ، وإن كذبه فلا معنى للقتل ، قالوا عين حراسا وقوابل من القبط على نساء بني إسرائيل ، وأمرهم بأن يذبحوا كل مولود(2/353)
ج 2 ، ص : 354
ذكر ويتركوا الأنثى ، وقد أقره وزراؤه على ذلك وعظماء جنوده أيضا ، ولهذا خطأهم اللّه جميعا وعمهم بعذابه ، قالوا ولما حملت أم موسى كتمت أمرها عن جميع الناس حتى عن ذويها ، وكانت إحدى القوابل صاحبة لها فلما جاءها المخاض حضرت فولدتها فرأت ما هالها من نور عينيه ، وارتعش كل مفصل منها ورجف فؤادها ، فقالت لأمه هذا واللّه عدوّنا الذي أخبر به الكاهن ، لأنها قبطية ، ولكن أحببته حبا شديدا ، فاحتفظي به عن أعين الناس ، وسأكتم أمره ، وخرجت من عندها.
فتسابق لها الحراس وسألوها ، فأنكرت عليهم ، ثم تسارعوا إلى الباب ليروا هل فيه امرأة والدة ، فرأتهم أخته وقالت لأمها ها هم أولاء الحراس بالباب ، فارتبكت ولفته بخرقة وطرحته في التنور ، ومن دهشتها نسيت أن فيه نارا ، فدخل الحراس وتحرّوا فلم يجدوا شيئا ، ورأوا التنور يلتهب نارا ، فقالوا ماذا أدخل عليك القابلة وأنت غير حبلى ؟ قالت إنها صاحبة لي وتزورني أحيانا ، ولما خرجوا بادرت إلى التنور فوجدته يلعب ولم يصبه شيء ، فأخرجته ، وهذا أول دواعي الحفظ الإلهي ، إذ أن القبطية كتمت أمره والنار انقلبت عليه بردا وسلاما ، وصارت ترضعه سرا وهي خائفة وجلة من شرطة فرعون الذين يباشرون التحري صباح مساء ، فألقى اللّه في قلبها أن تفعل بما ألهمت ، فاصطنعت تابوتا عند نجار قريب منها ووضعته فيه وألقته في نهر النيل ، فهمّ النّجار أن يخبر به الشرطة فأمسك اللّه لسانه ، فجعل يشير إليهم بيده فلم يفهموا ، فأوجعوه ضربا ليخبرهم بما يريد وأراد أن يفهمهم بالإشارة فأعماه اللّه ، فأشبعوه ضربا ثم تركوه في الأرض ، ولم يعلموا أن لسانه أمسك وبصره عمي ، فبقي حيران في نفسه ، فقال في قلبه إن رد اللّه علي بصري ولساني لأسعين على حفظه أينما كان ولأكونن في خدمته ، ولأكتمن أمره ، فرد اللّه عليه بصره ولسانه لعلمه بصدق نيته ، فقال يا رب دلني عليه ، فألقى في قلبه أنه في بيت فرعون ، فذهب إليه وآمن به وصدقه بمجرد رؤيته له ، لما تفرس فيه من الخير ، وألقى في قلبه مودته ونصرته ، وهذا هو مؤمن آل فرعون.
وقيل إنه ابن عمه الآتي ذكره في الآية 27 من سورة المؤمن في ج 2 وفي الآية 19 من هذه السورة.
قالوا وكان عند فرعون بنت هي أكرم الناس عليه يقضي لأجلها(2/354)
ج 2 ، ص : 355
في كل يوم ثلاث حاجات وكانت برصاء أعيا الأطباء شفاؤها ، فأخبره السحرة بأنها لا تبرأ إلا بريق شبه إنسان من البحر ، ويكون ذلك في يوم كذا عند شروق الشمس ، وفيه غدا فرعون إلى مجلس له كان على ضفة النهر المار في قصره ، ومعه آسية بنت مزاحم زوجته وبنته المذكورة وجواريها ، فرأى فرعون شيئا طافيا على وجه الماء ، فأمر ملاحته فأتوا به فإذا هو تابوت من خشب ، فعالجوا فتحه فلم يقدروا ، فأخذته آسية ففتحته وإذا فيه صبي يمص رزقه من إصبعه ، والنور ساطع بين جبينه ، ورأت بنت فرعون لعابه بسيل من شدقيه ، فأخذته ولطخت به برصها فبرئ من ساعته ، فأحبّته حبا شديدا ، وصارت تقبله وتضمه إلى صدرها وكذلك آسية ، وسمع ملأ فرعون به ، فقال غواتهم أيها الملك نخشى أن يكون هذا هو المولود الذي أخبرنا به بالنظر لما نتوسم به ، وأشاروا بقتله وأجمعوا على ذلك ، وكانت آسية حين أخرجته من التابوت سمته موسى لأنه كان طافيا بين الماء والشجر ، الماء بلسان القبط معناه موو الشجر سا ، فقالت إن الذي أخبرتم به من بني إسرائيل ، وهذا لا يعلم أنه منهم ، والذي أخبرتم به من مواليد هذه السنة ، وهذا ابن سنتين وخطأت رأيهم ، واستوهبته لنفسها من فرعون ، فوهبه لها وأجمعت هي وتبنته على حبه ، وهذا مغزى قوله تعالى «وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ» اتركه هو «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ» قال تركته لك لا لي ، انه عبراني من الأعداء كيف أخطأه الذبّاحون ، وقد جاء في الحديث لو قال كما قالت لهداء اللّه كما هداها ، ولكن من طبع على قلبه لا هادي له ، ثم التفتت آسية إلى الغواة الذين أشاروا بقتله ، وانتهرتهم بما قص اللّه تعالى بقوله «لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» والتفتت إلى فرعون منتحلة سببا آخر وقالت ، إنك أمرت بذبح أولاد هذه الأرض وقد أتانا من أرض اخرى ، ثم جهلت الوزراء فقالت «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» 9 انه هو المخبر به من قبل
الكهنة ، وهذه الأسباب الثلاثة مانعة من كونه هو ، لانه لم يعلم انه من بني إسرائيل وهو في ارض غير ارض مصر ، وهو ابن سنتين والمأمور بذبحهم أولاد هذه السنة ، وكان عمره عليه السلام إذ ذاك ثلاثة أشهر ، لكن(2/355)
ج 2 ، ص : 356
الأنبياء يشبون بالشهر شباب الصبي من غيرهم بسنة بحكمة ربانية ، فسكت فرعون وملؤه ، ولم يردوا عليها.
واعلم ان هذا التفسير الذي جرينا عليه أولى من جعل وهم لا يشعرون حالا من آل فرعون ، وجعل جملة إن فرعون وهامان اعتراضية ، وأنسب بالمقام ، وأوفق للسياق ، واشيع للمعنى ، قالوا وكانت آسية من خيار الناس ومن بنات الأنبياء ، ترحم المساكين وتتصدق عليهم ، والقى اللّه محبته في قلب فرعون ايضا فحقق اللّه فيه ظن آسية لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجابة ، وقيل في المعنى :
في المهد ينطق عن سعادة جده أثر النحابة ساطع البرهان
وحقق اللّه ظن فرعون وقومه أيضا قال :
إذا لم يكن عون من اللّه للفتى فأول ما يجي عليه اجتهاده
قال تعالى «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» من الصبر ناسيا ما نفث فيه من الإلهام الإلهي خاليا من كل شيء ، ملآن بذكر موسى إذ بلغها أنه وقع بين يدي عدوه ، وانتهكها الندم على ما فعلت بيدها ، حتى أسلمته لعدوه وأنساها عظم بلاء الفقد ما كان عهد إليها من قبل اللّه بحفظه ، وبلغ بها الحال إلى «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ» تصرح للناس علنا أنه ابنها لما دهمها من الضجر وأنه هو ابن ثلاثة أشهر وإسرائيلي ومن أرض مصر ، وأنها صنعت ما صنعت من شدة وجلها عليه «لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» فثبتناه بإلقاء الصبر الجميل فيه ، وربط القلب تقويته بايقاع الصبر فيه «لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 10 بوعدنا المصدقين فيه.
قال يوسف بن الحسين أمرت أم موسى بشيئين ، ونهيت عن شيئين ، وبشرت بشارتين ، فلم ينفعها الكل حتى تولى اللّه حياطتها ، فربط على قلبها وفي هذه الآية من البلاغة ما لا يخفى
«وَقالَتْ لِأُخْتِهِ» مريم بنت عمران «قُصِّيهِ» تتبعي أثره بدقة واعلمي خبره بسر وأخبريني حاله فذهبت إلى ديار فرعون «فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ» بعد بحيث كأنها لم تنظر إليه ، ولا يهمها شأنه ، وصارت تنظره اختلاسا ، بطرف عينها بحيث تري الغير أنها غير عابئة به وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 11» أنها أخته أو أنها تنظر إليه ، ولما أراد اللّه انجاز(2/356)
ج 2 ، ص : 357
وعده برده إلى أمه ، منعه من أن يقبل ثدي المراضع اللاتي أحضرن لإرضاعه قال تعالى «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ» مجيء أخته ، ولما رأت أخته أن أمره أهمهم لكثرة ما أحضرن له من المرضعات وهو ينقلب من يد زوجة فرعون إلى يد ابنته فيقبلانه ويضمّانه إلى صدرهما ، تسربت بين المرضعات وتقدست «فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» 12 بالتربية والغذاء والنظافة والإخلاص فيوضعونه ويضمّونه كما تريدون ، وهذا الطلب على طريق العرض بلين ورفق وتؤدة ، قالوا من هي ؟
قالت أرشدكم إلى امرأة قتل ولدها وأحب شيء لها أن ترضع ولدا ، قالوا وكان هامان يسمع قولها ، فقال إنها عرفته فلتدلني على أهله لأنها قالت وهم له ناصحون ، فأمسكوها ، قالت اني أردت أنهم ناصحون للملك لا له ، وقد قلت هذا رغبة في سرور الملك ، لأني رأيت زوجته وبنته قد أهمهما أمره فيتداولانه ويضمّانه على صدرهما ، وأن الملك قد أخذه وضمه إلى صدره ، وهو يبكي.
وهذا أيضا من أسباب حفظ اللّه تعالى له إذ أنطقها بما أسكتهم : ثم قالت لهم بعنف وشده غضب اعلموا أنا متصلون بالملك يسوءنا ما يسوءه ويسرنا ما يسره ، وأرادت أن تذهب من بينهم حنقا لما سمعت من قول هامان ، فتمسكوا بها وقالوا لها من هي هذه المرأة ؟ قالت هي أمي ، قالوا هل لها ولد ؟ قالت نعم قالوا ما اسمه قالت هارون ولد في السنة الماضية التي لا يقتل فيها الأولاد ، قالوا الآن صدقت ، فأتينا ؟ ؟ ؟ بها فانطلقت مسرعة وأخبرت أمها الخبر كله ، وجاءت بها فأعطوها الولد ، فالنقم ثديها حالا إذ عرفها أنها أمه من ريحها ، فقالوا لها ولم امتصّ ثديك توأ ؟ ؟ ؟ مع انا أكثرنا عليه المراضع فلم يأخذ ثدي أحد منهم ؟ قالت إني امرأة طيبة اللبن والرائحه لم أوت بصبي لم يقبل ثدي مرضعة إلا وقبل ثديي ، وان شئتم فجربوا ، فأعطوه لها واشترطوا كل يوم دينارا.
مطلب في الرضاع والحكم الشرعي فيه ومعنى الأشد :
وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ليس للصبي خير من لبن أمه أو ترضعه امرأة صالحة كريمة الأصل فإن لبن المرأة الحمقاء يسري (في الولد) واثر حمقها يظهر يوما(2/357)
ج 2 ، ص : 358
(أي فيه) وجاء في حديث آخر الرضاع يغير الطباع ، وقالوا العادة جارية بأن من رضع امرأة فالغالب عليه أخلاقها من خير أو شر (الحكم الشرعي) جواز الإرضاع لحاجة ولغير حاجة ، وجواز أخذ الأجرة عليه عدا الأم فلا يجوز أخذ الأجرة على إرضاع ولدها في شريعتنا ، ولا تجبر على إرضاع ابنها إلا إذا كان لا يقبل ثدي غيرها ، ولعله كان في شريعتهم جائزا وهو من قبيل اختلاف الشرائع في الفروع ، وإذا كان لم يجز عندهم أيضا فيكون أخذها الأجرة من قبيل التقية حرصا على إمساك ولدها ، ولئلا يعرفوها أنها أمه ، وبقيت ترضعه إلى الفطام ، وتردد عليه إلى بلوغه المراهقة ، هذا فعل اللّه أيها الناس بحفظ عباده وإنجاز وعده لهم ، فتأملوا رحمكم اللّه كانت تريد أن تراه وتعطي ما يريدونه منها فأخذته بالأجر ، وكانت هي أحق بإعطاء الأجر ، ألا له الخلق والأمر.
قال :
وإذا العناية لاحظتك عيونها ثم ؟ ؟ ؟ فالمخاوف كلهن أمان
قال تعالى «فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها» فرحا به «وَلا تَحْزَنَ» على فراقه ولا يدوم أسفها عليه «وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» إنجازه لا يبدل ولا يغيّر «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 13 ذلك فيرتابون فيه أو يشكون فيحرمون من إنجازه لعدم تعلقهم باللّه تعلقا خالصا ، لأن منهم الجاحدو المنكر ومنهم المتردد ، وكلهم خاسرون هالكون والناجحون هم المخلصون الموقنون.
وفي هذه الآية تعريض لأم موسى بسبب ما فرط منها من الجزع ، مع أن اللّه تعالى أمتها عليه ، قال تعالى «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ» وهو ثلاثون سنة «وَاسْتَوى » كمل عقله واعتدل رأيه ، وبلغ سن الأربعين «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» نبوة وسلطانا وفقها ومعرفة في الدين والدنيا «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» 14 من سائر الناس كما جازينا أم موسى إذ قبلت أمرنا وألقت ولدها في البحر ، فرددناه عليها وجعلناه رسولا خليلا.
وفي الآية تنبيه على أن أم موسى كموسى كانت محسنة في بداية أمرها ، فجزاها اللّه هذا الجزاء وجعلها أمّا لنبيه وما ذكرنا من معنى الأشد هو الصحيح المعول عليه ، وهو حتما دون الأربعين ، قال تعالى (إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ(2/358)
ج 2 ، ص : 359
سَنَةً
الآية 15 من سورة الأحقاف في ج 2 ، وهذه الآية تدل على أن الأشد دون الأربعين دلالة صريحة ، ولهذا قال هنا استوى والاستواء ما بين الثلاثين إلى كمال الأربعين وبه يظهر معدن الإنسان ، وهو سن الكمال الذي يطبع المرء على ما كان عليه فيه من صلاح أو غيره غالبا ، قال :
إذا المرء جاز الأربعين ولم يكن له دون ما يهواه جاه ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وان جر أسباب الحياة له العمر
وقال الآخر :
وماذا يبتغي الشعراء مني وقد جاوزت من الأربعين
ثم شرع اللّه يقص علينا ما وقع من موسى وهو عند فرعون قبل ذهابه إلى مدين وتشرفه بالرسالة بدليل العطف بالواو ، لأنها لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا ، أو أن الواو في قوله تعالى «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ» واو الاستيناف عن ذكر قصة أخرى تتعلق بموسى بعد أن ختم قصته أمه ، والمراد بالمدينة المدينة التي فيها قصر فرعون غربي النيل بمسافة اثني عشر ميلا من مدينة فسطاط مصر المعروفة بمصر القديمة ، وهي أول بلدة أنشئت بمصر بعد الطوفان واتخذت قصرا لملوك مصر قديما ، ولعلها التي يسمونها الآن (بالاقصر) قالوا وكان فرعون وملؤه لا يريدون أن يخرج منها لانه صار ينتقدهم فيؤنبهم وينكر عليهم عبادتهم ، فتمكن يوما من الخروج من قصره في وقت لا يظن الناس فيه خروجه وفي زمن خلوّ من اجتماع الناس ، يدل عليه قوله تعالى «عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها» أي في وقت لا يتوقعون دخوله فيها ولا يعتاد الخروج فيه لانه وقت الاستراحة ، قيل كان وقت القيلولة او ما بين المغرب والعشاء «فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ» وقريء يقتلان بإدغام التاء بمثلها «هذا مِنْ شِيعَتِهِ» من اتباع موسى وأنصاره قيل هو السامري ، لان ما أظهره في الآية دليل على انه هو «وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ» من القبط وهو طباخ الملك واسمه ثاثون على ما قيل ، وسبب المنازعة ان القبطي كلّف الإسرائيلي حمل حطب لمطبخ الملك ، فأبى على خلاف العادة ، لأن الاسرائيلي لا يمتنع من خدمة القبطي ، لأنهم كالعبيد يأتمرون بأمرهم فيما يكلفونهم به نساء(2/359)
ج 2 ، ص : 360
ورجالا ، إلا أنهم عزّوا بوجود موسى عند فرعون والتفاف زوجته وابنته عليه ، وصاروا يناوثون القبط أحيانا ويعارضونهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه ، لا سيما وان الذليل إذا رأى نفسه تعزز لا يطاق كما هو مشاهد في غير المسترقين فكيف بمن صار الرق له ديدنا ؟ ولهذا فإن مثل هذه المخالفات صارت تجري منهم على غير المعتاد ، وبما أن خصمه طباخ الملك والحطب لمطبخه اغتاظ القبطي وهاجمه بالضرب ، ولما رأى موسى أن القبطي هو المعتدي ضربه بجميع يده ليردعه عن ضرب الإسرائيلي ، ولا يعلم أن ضربته هذه تقضي لموته لأن الأنبياء معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها ، قال تعالى حاكيا حالهما «فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» أماته خطأ ، والقتل خطأ صغيرة لا كبيرة ، والوكز عادة لا يؤدي للموت لأنه ضربه بجميع يده أو دفعه برؤوس أصابعه ، ولا مظنة فيها للقتلى والقتل بغير آلة مفضية له لا يعدّ جناية مقصودة بالمعنى المراد فيها لا سيما إذا عرت عن النية ، ولكن لما رأى وكزته قضت على حياته ولم يكن يتصور حصول الموت بها ندم عليه السلام قالوا ثم جر جثته ودفنها بالرمل و«قالَ هذا» الذي وقع «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الذي غايته استذلال البشر وإيقاعه في الخطايا «إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» 15 مظهر العداء والضلال إلى الإنسان ، ثم رفع يديه «قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي» بما فعلت قال هذا على سبيل الاتضاع والاعتراف بالتقصير ، لأن الأنبياء يعدون ما يقع منهم كبيرا مهما كان بالنسبة لقامهم ، وفعله هذا كان قبل النبوة بكثير يدل عليه قوله تعالى (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) الآية 19 من سورة الشعراء المارة «فَاغْفِرْ لِي» ما وقع مني واستره علي ولا تؤاخذني به لئلا يطلع فرعون فينتقم مني «فَغَفَرَ لَهُ» وأجاب دعاءه جزاء اعترافه ووصم نفسه
بالظلم «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» 16 كثير الرحمة بأوليائه الأبرار وقد ستره اللّه عليه فلم يشاهده أحد عند الضرب ولا عند الدفن «قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ» بالستر والمغفرة ، وأقلت عثرتي وقبلت توبتي «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً» معاونا ونصيرا أبدا «لِلْمُجْرِمِينَ» 17 الذين يوقعون غيرهم(2/360)
ج 2 ، ص : 361
بالإجرام ، الذين تؤدي معاونتهم إلى إيقاع الجرم ، ويجرونهم إلى الخطأ والهفوات.
واعلم انه عليه السلام انما عرف أن اللّه تعالى غفر له ولم يتنبأ بعد فبإلهام من اللّه قذف في روعه الشريف ، وكان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة ومن كان في هذا السن لا يعاقب كما مر لك في الآية 19 من الشعراء ، والمادة 40 من قانون الجزاء تنص على هذا ، وما قيل انه برؤيا رآها يستبعدها العطف بالفاء ، ولمّا لم يستثنى ابتلاء اللّه ثانيا ، قال تعالى «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ» التي قتل فيها القبطي «خائِفاً يَتَرَقَّبُ» حلول المكروه من أولياء المقتول أو من فرعون ، ويترصد الأخبار ليعرف هل وقف أحد على فعلته هذه أم لا ، لأنه أمن من الجزاء المعنوي بمغفرة اللّه وبقي الجزاء الحسيّ وقد أشغل فكره ذلك ، إذ صار يتوقع القبض عليه ويترقب المكروه في نفسه «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» يستغيث به عن بعد من قبطي آخر معه «قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ» أيها الاسرائيلي «لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» 18 مظهر الغواية خال عن الرشد ، إنّك قاتلت رجلا بالأمس فاستغثت بي عليه فقتلته بسببك ، والآن تقاتل غيره ؟
فقال إنه تعدى على أيضا مثل ذلك ، وبما أنه عليه السلام يعلم كثرة تعدي القبط على الاسرائيليين فقد أخذته الغيرة وساقته الحمية على الاسرائيليين لأنهم من دمه ، فظهر عليه الغضب السائق للانتقام «فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما» في الأصل وهو القبطي «قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ» كأنه توهم من قوله للإسرائيلي انك لغوي مبين أنه هو الذي قتل القبطي المار ذكره الذي لم يعرف قاتله لأنهم لما فقدوه تحروا عليه فوجدوه قد دسّ بالرمل ، فأخذوه ولم يعرفوا قاتله.
وهذا التفسير موافق لظاهر الآية وسياقها ولقوله تعالى «إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ» الجبار هو الذي يفعل الفعلة لا يخاف عقباها «وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» 19 فيها بأن تدفع بالتي هي أحسن ، لأنه يبعد على الاسرائيلي الذي انتصر له أولا وآخرا أن يقول في حق موسى هذا القول وهو وغيره ، عرف أن ما حصل لهم من العزة والمكانة إلا بسبب وجوده ، ويجدر بالقبطي(2/361)
ج 2 ، ص : 362
أن يقول ذلك القول لأنه عرف من فحوى المخاطبة بين موسى والاسرائيلي والاستغاثة به عليه ان قتل القبطي وقع منه ، وكلاهما يعلم أن ما حصل للاسرائلين من المهابة هو لأجل موسى لأنه تربى في بيت الملك ، ويعلمون أن الملك وزوجته وبنته يحبونه حبا جما ، فقال ما قال بحقه ، هذا ، وأن أكثر المفسرين مشوا على أن القائل هو الاسرائيلي لأنه توهم إرادة البطش بدون القبطي ، لأنه سماه غويا فقال ما قال بحق موسى وفشى أمره بين الناس بأنه هو القاتل ، ولذلك قالوا انه ، السامري ، فيكون جزاء موسى منه افتضاح أمره ووصمه بالجبارية وعدم الإصلاح فيصدق عليه قول القائل :
ومن يفعل المعروف في غير أهله يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
أو المثل المشهور (يجازى جزاء سنمار) ويصدق الخبر الوارد : أبت النفس الخبيثة ان تخرج من الدنيا حتى تسيء لمن أحسن إليها ، والخبر الذي نقله الغزالي رحمه اللّه : اتق شر من أحسنت إليه.
وارى التفسير الأول اولى واللّه اعلم.
قالوا وكان اهل المقتول الأول راجعوا فرعون بقضية قتيلهم ، إذ وجدوه ولم يعلموا قاتله ، فقال حققوا واخبروني ، وقد صادف ان حضروا هذه الحادثة الأخيرة وما قاله موسى وما رد عليه به على التفسيرين المارين فتعرفوا ان القاتل هو موسى ، فذهبوا واخبروه هذا ما قصه اللّه علينا في كتابه العظيم من القتل والمقتول والقاتل اما الموجود في التوراة الموجودة الآن هو ان الرجلين الأولين كما قص القرآن اما الآخران فكلاهما من بني إسرائيل ووجه العداوة ان هذا الذي أراد أن يبطش به موسى كان ظالما لمن استصرخه ، فيكون بظلمه عدوا له وعاصيا للّه تعالى ، والعاصي للّه عدو لموسى ، وفيها أيضا ما هو صريح في أن الظالم هو قاتل ذلك ، يعني موسى عليه السلام راجع الاصحاح الثامن من الخروج ص 11 و15 ، ومن المعلوم أن ما يكون في التوراة مخالفا للقرآن لا يلتفت إليه ، وكذلك فيما يخالف السنة ، وذلك بسبب التبديل والتغيير الذي طرأ عليها والنسخ ، وفيما عدا ذلك من أخبار بني إسرائيل وغيرها فلا بأس بأن يستأنس بها لبعض الأمور ، ولا يجب التصديق بها ، ولا ينبغي تكذيبها ، لأن التوراة بالنسبة للعصر الحاضر هو(2/362)
ج 2 ، ص : 363
أول كتاب سماوي موجود في الأرض ، لأن الصحف قبلها درست ولم يبق لها أثر ، وكثير ما فيها من قصة موسى وغيره مخالف لما قصه اللّه في القرآن ، كما يظهر لأول نظرة لمن يطالعها بإتقان ، ويقابل ما بينها وبين القرآن ، لأنك لا تجد فيها ذكرا لمؤمن آل فرعون ونصحه لموسي في هذه القصة البتة ، راجع ما بيناه في تفسير الآية 96 من سورة طه المارة.
مطلب تجوز النميمة والكذب لمصلحة والأخذ بالنصح :
قالوا وكان مؤمن آل فرعون حاضرا حينما جاء أولياء المقتول وأخبروا فرعون وأمر بإحضاره ، وبما أنه آلى على نفسه إدامة النصح لموسى تغيب حالا عن المجلس ، وسار ليخبر موسى ، وهو المعنى بقوله تعالى «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى » يهرول ويسرع في مشيه ، وكان سلك أقرب الطرق التي سلكته الشرطة للقبض على موسى لينذره بالخطر عليه من بقائه في مصر كلها والمدينة المار ذكرها في الآية 14 ، قالوا ان اسمها منف أو عين شمس أو حابين ، واسم المؤمن حزقيل ، ولما وصل إليه «قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ» الملك ووزراؤه يبشاورون بشأنك «لِيَقْتُلُوكَ» بالقبطي قصاصا ، سمى التشاور ائتمارا ، لأن كلا من المستشير والمستشار يأتمر بأمر صاحبه ، وقد استدل القرضي وغيره أن النميمة لمصلحة دينية جائزة كما هنا ، وكذلك الكذب لمطلق مصلحة مشروعة «فَاخْرُجْ» الآن «إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» 20 وكان موسى يعرفه لأنه كان يتفقده دائما وهو واثق به ، وله موقف عال سيأتي في الآية 38 من سورة المؤمن في ج 2
«فامتثل موسى» حالا بدليل قوله «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً» على نفسه من آل فرعون ، لان العطف بالفاء يدل على التعقيب بلا فاصلة عما قبله «يَتَرَقَّبُ» الطلب لئلا يلحقه فيأخذه إلى فرعون ، وفي هذه الآية دلالة على أن النصح مطلوب والاخذ به كذلك ، والنصيحة بين المسلمين واجبة ، وقد حث عليه الرسول كثيرا ، ولجأ موسى إلى ربه عز وجل لعلمه أن لا ملجأ له إلا إليه «قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 26 فأجاب دعاءه وأعمى الشرطة عن رؤيته وعن الالتحاق به «وَلَمَّا تَوَجَّهَ» بتوفيق اللّه إياه «تِلْقاءَ مَدْيَنَ» جهتها وقد ساقه اللّه(2/363)
ج 2 ، ص : 364
لطريقها ، وهو لا يعرفه ، لان أهالي مدين من نسل إبراهيم جده عليه السلام ولحكمة أرادها اللّه كما سيأتي ، قالوا وبين مصر ومدين ثمانية أيام ، راجع الآية 40 من سورة طه المارة ، فسار هذه المسافة على قدميه لم يأكل ولم يشرب إلا من نبات الأرض وما يجده من الغدران ، ومو تربى تربية ملوكيّة ، وهذا أول بلاء أصابه ، لأنه لما يعرف العناء ، ولما لم يعرف أين يسير «قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» 22 الطريق المعدل الموصل إلى ما به النجاة والسواء بمعنى الوسط ، وذلك انه صادف مفترق الطرق فألهمه اللّه أن يسلك الوسط منهما وقيل أن اللّه أرسل ملكا أرشده إليه فسلكه ، قالوا ولما وصل الّذين تعقبوه إلى ذلك المفرق لم يعرفوا أي طريق سلكه كي يتعقبّوه عليه ، فقر رأيهم على أن الخائف لا بسلك الطريق السوي بل يسلك بنياته ، فسلكوا غير الطريق التي سلكها ليتم مراد اللّه الذي أجاب دعاءه بنجاته منهم ، ولذلك فإن الطلب صل مقصوده فرجع خائبا وموسى بلغه «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ» بئرها المعد لسقي المواشي «وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ» 23 أعناقهم ودوابهم.
واعلم أن لفظ الام من المبهم أحد أقسام البديع ، وله تمان معان فمعناها في قولك نحن من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم (الجماعة) وفي رجل جامع للخير يقتدى به كقوله تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) الآية 120 من سورة النحل في ج 2 (الرجل الفذ الجامع) وتأتي بمعنى الحين والزمان في قوله تعالى (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وقوله (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) وقوله (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) وتأتي بمعنى القامة يقال فلان حسن الامة ، وتأتي نعتا للرجل المنفرد بدين قال صلّى اللّه عليه وسلم يبعت زيد بن عمرو بن تفيل أمة وحده ، ويطلق على الام أيضا «وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ» بمكان بعيد عنهم أسفل منهم «تَذُودانِ» اغنامهما وتمنعانها من التقرب إلى محل الورود والذود هو المنع فتقرب موسى منهما «قالَ ما خَطْبُكُما» ما شأنكما لا تتركان مواسيكما لتقرب نحو الماء «قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ» مواسيهم عن الماء لأنا لا نستطيع مزاحمتهم حال الورود ، فاذا صدروا عن الماء أسقينا أغنامنا ما يفضل في الحياض ، لأنا لا نقدر أن نستقى بأنفسنا ونخشى القوم(2/364)
ج 2 ، ص : 365
إذا أطلقنا مواشينا على حياضهم ، لذلك نزودها حتى يكتفوا وما لنا أخ «وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» 24 عاجز لا يقدر أن يحضر إلى محل الماء ، وذكرنا له بأن اسمه شعيب من نسل إبراهيم ، وقرىء رعاء بضم الراء على خلاف القياس ، لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وطراح ، وإذا استعمل بمعنى الجمع على القراءة الشاذة فهو اسم جمع لا جمع ، وقيل جمع أصلي والضم فيه بدل من الكسر ، كما أبدل من الفتح في نحو سكارى ، والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في شرح درّة الغواص ، والمشهور منها ثمانية نظمها صدر الأفاضل وقيل الزمحشري بقوله :
ما سمعنا كلما غير ثمان هي جمع وهي في الوزن فعال
فرباب وفرار وتؤام وعرام وعراق ودغال
وظؤار جمع ظئر وبساط جمع بسط هكذا فيما يقال
والرباب جمع ربى الشاة الحديثة العهد بالنتاج ، والفرار جمع فرير ولد البقرة الوحشية ، والتؤام جمع توءم المولود مع قرينته ، والعرام بمعنى العراق جمع عرق وهو العظم الذي عليه بقية لحم ، والرفال جمع رفلة الأنثى من أولاد الضأن ، والظؤار جمع ظئر الموضع ، والبساط جمع بسط الناقة التي تخلى مع ولدها ، فاحفظ هذا لعلك لا تجده فتحرم فائدته.
فما سمع كلامهما أخذته الأريحبة ، وكان القوم انتهوا من السقي وذهبوا «فَسَقى لَهُما» أغنامهما ، لا من فضل الحياض بل تقدم إلى البئر ورفع بيده الحجر الذي سدّوا فمه ، وهو لا يرفعه إلا عشرة رجال ، وأخرج ماء جديدا لها ، فشربت حتى صدرت فأخذاها وذهبا ولم يتكلما معه وبقي هو وحده لا يعرف ماذا يفعل «ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ» ظل شجرة قريبة من البئر فاستظل بها من وهج الشمس وقد أحس بالتعب والجوع «فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» 25 أي مطلق خير فأنا محتاج إليه ، ووضع الحاضر موضع المستقبل لشدة ثقته باللّه.
قال ابن عباس لقد افتقر موسى إلى شق تمره وهو أكرم الخلق على اللّه في زمانه ، فما بال الناس عندهم الكثير ولا يشكرون اللّه الذي أنعم عليهم به ؟ وما قيل إن المراد أنه التجأ إلى ربه عليه(2/365)
ج 2 ، ص : 366
السلام بقوله لما أنزلت إلى من خير الدين صرت محتاجا للدنيا لا أراه لايتأ بحضرته وما احتج به صاحب هذا القول من أنه أراد به إظهار التبجح والشكر غير وجيه واللّه أعلم وفي هذه الآية دليل على جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المنقشفة مستدلين بقوله صلّى اللّه عليه وسلم لا راحة في الدنيا ، لأن المراد من الحديث أنه راحة مطلقة في الدنيا وخاصة لدى الأبرار التشوقين إلى ربهم فإنهم يرون الدنيا كلها تعبا ونصبا ، لا راحة من التعب نفسه ، وقد أنس عليه السلام بالشكوى لما لحقه من الجوع ، ولا نقص فيها عليه بالنسبة لمرتبته ، لأنها إلى مولاه لا إلى غيره ، ومن هذا قول يعقوب عليه السلام جوابا لأولادهِ نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
الآية 16 من سورة يوسف ج 2 ، أي لا ينتقد من يشكو همّه لربه.
الحكم الشرعي : جواز الشكوى لمن ألمّت به حاجة وكان عاجزا عن قضائها لمن يأنس منه أنه يجيب شكواه أو يغلب على ظنه ذلك ، هذا ولما وصلتا بأغنامهما إلى دار أبيهما رأى عليه السلام أو اعتقد على القول بأنه أعمى ، وأبصر على القول بأنه بصير وهو الصحيح ، راجع الآية 84 من سورة الأعراف المارة تجد قصة عماه ومعجزاته مفصله هناك أي شاهد الأغنام بطانا بخلاف عادتها ، فسألهما عن ذلك ، فقالتا وجدنا رجلا صالحا فسقى لنا ، فقال لإحداهما اذهبي فادعيه ، فذهبت نحوه قال تعالى «فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ» لأنها جاءت تدعوه لضيافتها ولم تدعه قبلا عند ما سقى لهما ولا تعلم أيجيب دعوتها أم لا ، وكانت مستترة بكم درعها ، مستحية من مخاطبته ، وهذا دليل على إيمانها وشرف عنصرها «قالَتْ» له وهي واضعة يدها على وجهها «إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا» فكره عليه السلام الإجابة إذ كانت بمقابل فعل ، لأنها صرحت له بذلك ، وهي إنّما قالت ذلك لئلا يرتاب بكلامها ، وإذ أسندت الدعوة إلى أبيها وكان عليه السلام بحاجة للراحة والأكل ، أجاب دعوتها ومشى وراءها لأن الدليل عادة يتقدم على المدلول إلا أنه لما رأى الريح تضرب ثوبها فتمثل ردفها ، كره أن يرى ذلك منها لا سيما وقد رأى حياءها وعلم شرفها ، فقال لها تأخرى وامشي خلفي ، وإذا أخطأت الطريق فاهديني إليه بكلامك ، فعرفت المغزى من ذلك لما شاهدته من عبث الريح بثوبها ، (2/366)
ج 2 ، ص : 367
فتأخرت وبقيا يمشيان هكذا وهي ترشده بقولها يمينا شمالا حتى وصلا إلى دار شعيب عليه السلام.
قال تعالى «فَلَمَّا جاءَهُ» موسى وجده قد هيأ العشاء وبعد أن تبادلا التحية ، قال شعيب اجلس يا فتى تعشى قال أعوذ باللّه ، قال شعيب ولم لست بجائع ؟ قال بلى ولكن أخاف ان هذا الطعام جزاء لما سقيت وإنا أهل ؟ ؟ ؟ لا نطلب على عملنا الأخروي أجرة ، فقال شعيب لا واللّه ولكن عرفت أنك ؟ ؟ ؟ ريب عن هذه الديار ولا تعرف أحدا ، وكانت عادتي وعادة آبائي إقراء الضيف إطعام الطعام ، فجلس وأكل وتحدث معه وسأله عن مجيئه وسببه ، فذكر له موسى قصته «وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ» من بداية أمره إلى فراره «قالَ» شعيب موسى عليهما السلام «لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 26 فرعون قومه حيث لا سلطان له على مدين «قالَتْ إِحْداهُما» وهي التي دعته لما سمعت القصة وعرفت أنه لا يقدر أن يرجع إلى بلده «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» لرعي غنامنا كي يبقى هنا آمنا من عدوه ، ثم مدحته لترغب أباها به فقالت «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» 27 ذكرت قوته لرفعه الحجر عن فم بئر وحده ، وأمانته لأنه أمرها أن تمشي خلفه حتى لا يرى منها شيئا ، وهاتان لخصلتان مطلوبتان في الأجير ، وجاء الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمين قوي ؟ ؟ ؟ معروف ، وضربت في هذه الآية قياسا من الشكل الأول ، فقول هو قوي أمين ، وكل قوي أمين لائق للاستيجار ، وجعل (خير) في هذه الآية اسما لإن ، سمع أنه ؟ ؟ ؟ اسم معنى لا اسم ذات - للاهتمام بأمر الخبرية ، جاء كذلك على حد قوله :
ألا إن خير الناس حيا وهالكا أسير ثقيف عندهم بالسلاسل
؟ ؟ ؟
العناية سببت التقديم ، وسببت أحقية كون خير خبرا والقوي اسما من حيث صناعة ، وتدل هذه الآية على جواز الإجارة عندهم كما هي عند كل ملة لأنها من روريات الناس ومصلحة الخلطة ، وقد أجمعت الأمة على جوازها عدا ابن عليه الأصم فإنهما لا يجوزانها استبدادا وخرقا للإجماع ، وجاء في الإكليل على هذه الآية ؟ ؟ ؟ على منع الإجارة المتعلقة بالحيوان عشر سنين ، لأنه يتغير غالبا لعل هذه التي لا يجيزانها لا مطلق الإجارة إذ لم يختلف فيها اثنان.(2/367)
ج 2 ، ص : 368
مطلب وفادة موسى على شعيب وفي الإجارة وعقد بنته له :
قال تعالى حاكيا عن نبيه شعيب ما قاله لموسى عليهما السلام «قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي» نفسك لترعى أغنامي مدة «ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِن ْ عِنْدِكَ»
تفعلها علي لا واجب عليك «وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ» بالزام العشر إذا لم تتبرع بها عفوا ومعروفا تديه لي ، وأظن أنك في المدة التي تقضيها لدي «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» 28 في صحبتك ومعاملتك والوفاء لك.
الحكم الشرعي ينبغي أن يكون المهر مالا متقدّما لقوله تعالى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ الآية 24 وقوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ) الآية 3 من سورة النساء في ج 3 وان يشتمل العقد على الإيجاب والقبول ، والإذن من الولي ، ولستئذان المخطوبة وبيانها وأن يكون المسمى بالعقد لها لا لأبيها ، وعليه يكون هذا العقد مخالفا لشريعتنا ، لأن العقد على الرعي لأبيها لا لها ، ولأن الصداق خاص بالزوجية لا بالولي ، إلا أن يقال أن هذا العقد الذي جرى على الشرطين المذكورين في الآية اللذين أحدهما للأب والثاني للزوج ، غير العقد الذي سمي عليه المهر للزوجة بعد انقضاء الأجل وعند الزفاف ، وأنه جائز في شريعتهم ، قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية 52 من المائدة في ج 3 ، ولو أنه شرط رعي الغنم لها لجاز لأنه يكون بمقابلة مال ، وعقد على مدة معلومة ، أو أن قوله الأول عبارة عن الوعد بالزواج لا غير ، ثم عقد له بعد تمام المدة على بنت معينة ، ومهر معلوم إعطاء لها من ماله بمقابلة رعيه أغنامه تلك المدة ، واللّه أعلم.
مسألة : لو تزوجها على تعليم القرآن أو خدمة لها سنة مثلا صح العقد ووجب مهر المثل لها عليه ، لعدم تقويم التعليم والخدمة ، هذا إذا كان الزوج حرا فإن كان عبدا فلها الخدمة ، لأن خدمة العبد ابتغاء المال فتضمن الخدمة تسليم رقبة الخادم إلى المخدوم ، والأمر ليس كذلك في الحر ، ومسألتنا هذه في الأحرار الأبرار.
«قالَ» موسى لشعيب عليهما السلام «ذلِكَ» الذي عاقتدني عليه وعاهدتني فيه قائم ثابت «بَيْنِي وَبَيْنَكَ» فلك ما شرطت علي من الرعي تلك(2/368)
ج 2 ، ص : 369
المدة ، وإليّ ما شرطت على نفسك من التزويج واني «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» بالمطالبة بالأكثر إن لم أقضه من نفسي ، أراد عليه السلام أن لا يقيد نفسه بالأكثر حتى إذا أكمله يكون تفضلا منه لا لازما عليه ، وقال كل منهما بعد إقرار هذا العقد ورضائهما به «وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» 29 رقيب وشهيد علينا في ذلك ، إذ لا أحد لديهما سوى ابنتين ، ويشترط بشريعتنا لصحة هذا العقد حضور شاهدين ، هذا وكل منهما واثق بصاحبه على ما الزم نفسه من القيام بالشرط ، قال تعالى «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» لم يبينه تعالى ولكن ؟ ؟ ؟ العهدية تفيد انه الأكثر ، واللّه اعلم.
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال سألني يهودي من أهل الحيرة ، أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت لا أدري حتى قدم على خير العرب ، فأسأله فقدمت ، فسألت ابن عباس ، فقال قضى أكثرها وأطيبها ، لأن رسول اللّه إذا قال فعل.
وروي عن أبي ذر مرفوعا إذا سألت ؟ ؟ ؟ المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما ، وهي التي جاءت ، فقالت يا أبت استأجره ، متزوج صغراهما وقضى أوفاهما ، قالوا واسمها صفورا ، ولما تعاقدا قال لابنته أعطيه عصاي يدفع بها السباع عن الغنم ، وكانت من آس الجنة ، وكان حملها آدم عليه السلام ثم توارثها الأنبياء من بعده حتى وصلت إلى شعيب ، ثم قال موسى لزوجته بعد الدخول بها قولي لأبيك يجعل لنا بعض الغنم نتمول بها ، فقالت له قال لكما كل ما يولد في هذا العام أبلق وبلقاء ، فأوحى اللّه إلى موسى بطريق الإلهام لأنه لم يتنبأ بعد إذ كان عمره اثنتين وعشرين سنة - أن اضرب بعصاك لماء ثم اسق الأغنام ، ففعل فولدت كلها ما بين أبلق وبلقاء ، فعلم شعيب أن هذا ؟ ؟ ؟ ساقه اللّه لموسى وزوجته ، فوّفى لهما بشرطه وأعطاهما كل ذلك.
وروي ؟ ؟ ؟ شعيبا أوصى موسى مرة أن لا يأخذ غنمه ذات اليمين من محل عينه له وان ؟ ؟ ؟ فيه كلأ كثير ، لأن فيه تنينا آفة كبيرة من الحيات ، فلما ذهب بها إلى ذلك المحل أخذت ذات اليمين ولم يقدر على ردها ، فتركها ومشى في أثرها ، إذا عشب رديف لم ير مثله ، فنام وتركها ، فلما أقبل التنين تلقته العصا فقتلته عادت إلى جنب موسى دامية ، فلما أفاق وأبصر ما وقع ارتاح وأخبر شعيبا(2/369)
ج 2 ، ص : 370
بذلك عند رجوعه ، ففرح وعلم ان سيكون لهذه العصا وموسى شأنا ، وهذه مما عدوه معجزة لشعيب عليه السلام ، لأن القرآن لم يذكر له معجزة - راجع الآية 84 من سورة الأعراف عن معجزات شعيب وما يتعلق بها - قالوا ولما أراد موسى أن يأخذ أهله إلى مصر حيث تفقد أخاه وأمه وأخته بكى شعيب وقال تتركنّي وقد كبرت وضعفت ووهنت قواي ؟ فقال قد طالت غربتي عن أهلي ولا أعلم ماذا جرى عليهم ، فبسط شعيب يده وقال يا رب بحرمة ابراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح واسحق الصفي ويعقوب الكليم ويوسف الصديق ردّ علي قوتي وبصري ، وكان موسى يؤمن على دعائه ، فرد عليه بصره وقوته ، وهنا انتفى القول بعماه ، لأنه كعمى يعقوب كما بيناه مفصلا في الآية المذكورة من الأعراف المارة ، وله صلة في الآية 84 من سورة يوسف في ج 2 فراجعه ، ثم أذن له بالمسير لمعذرته تلك وأوصاه بابنته ، وذاك بعد تمام ثمانية عشرة سنة بعد زواجها «وَسارَ بِأَهْلِهِ» لجهة مصر.
واعلم أن التشوق الذي حدا بموسى لزيارة أهله حسا وظاهرا بعد ثمان وعشرين سنة هو في الحقيقة تشوق إلى اللّه معنى ، إذ أزف الوقت الذي قدره لتشريفه بالنبوة والرسالة ، ودنت منه أيام القرب والزلفى إلى ربه ، إذ أكمل عمره الأربعين وصار لائقا للتحلي بأنوار النبوة العظمى ، راجع الآية 41 من السورة المارة ، وبأثناء سيره قدر عليه أن يضل الطريق ليكون سببا للهداية ، وكان الوقت ليلا ومظلما ودخل في حيرة ، فما أحسّ إلا وقد
«آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً» أبصر نارا من الجهة التي تلي الطور ، وكان البرد شديدا ، وقد أخذ أهله الطلق فولدت وصار بحاجة ماسة لتدفئتها «قالَ لِأَهْلِهِ» التي لم يعد بإمكانها السير «امْكُثُوا» مكانكم هذا الخطاب لها ولخادمتها وابنها بالتبعية «إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» عن الطريق «أَوْ جَذْوَةٍ» آتيكم بشعلة «مِنَ النَّارِ» التي رأيتها «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» 30 تستدفئون بها ، فامتثلوا أمره ، فتركهم وذهب مسرعا «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ» من ضفته اليمنى بالنسبة للمقبل اليه «فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» بسبب وقوع التكليم فيها ، وقدست تلك البقعة لتشرف موسى بالنبوة فيها «مِنْ»(2/370)
ج 2 ، ص : 371
ناحية «الشَّجَرَةِ» التي أسرق عليها نور الإله العظيم ، فأضاء ما حولها ، وجاءه النداء الإلهي منها قال ابن عباس هي شجرة عناب وقدست أيضا لذلك السبب ثم فسر ذلك النداء بقوله «أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» 31 فلما دنا منها شملته أنوار القدس وأحاطت به جلابيب الأنس ، ورأى النور في هيئة النار ، وخرطب بألطف خطاب ، وصار مكلما شريفا لحضرة رب الأرباب ، وقد أعطي ماسئل ، وأمن مما خاف ، وحظي بالألطاف ، قيل لموسى عليه السلام كيف عرفت أنه نداء ربك ؟ قال لأني سمعته بجميع أجزائي وعلمت أنه لا يجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الواحد القهار ، والجذوة مثلتة الجيم ، كالجثوة والرغوة والحضرة والصفوة والربوة والعشوة والنشوة والوجنة والخدعة والفلقة ، أي تقرأ بالضم والفتح والكسر ، وهي العود الغليظ سواء كان في رأسه نار كقوله :
وألقى على قيس من النار جذوة شديدا عليها حرها والتهابها
أو لم يكن كقوله :
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها جذل الجذا غير خوّار ولا دعر
الدعر بفتح الدال وكسر العين وبضم الدال وفتح العين العود إذا دخّن ولم يتّقد والخوار الزناد القداح ، ومن الأولى والثانية لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة و(مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل من شاطىء الوادي بدل اشتمال لأن الشجرة ثابتة - فيه ،
وبعد أن توطن موسى عليه السلام لكلام ربه عز وجل أراد أن يريه معجزة على نبوته فخاطبه بقوله جل قوله «وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ» فألقاها حالا دون أن يعرف المراد منها ونظر إليها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة ، راجع تفسير الآية 10 من سورة النمل المارة «وَلَّى» ظهره «مُدْبِراً» عنها «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع لأنه رآها كأنها لم تدع شجرة ولا حجرة إلا بلعتها ، وصار يسمع صرير أسنانها وقعقعة الشجر والحجر في جوفها فناداه ربه «يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» 32 لاينالك مكروه منها ولا من غيرها ، فرجع حالا وقد عادت العصا على حالتها الاولى راجع الآية 21 من سورة طه المارة ، فأخذها بيده ثم قال له ربه «اسْلُكْ(2/371)
ج 2 ، ص : 372
يَدَكَ فِي جَيْبِكَ»
هو فتحة الثوب من حيث يدخل رأسه عند اللبس ، وأراد منه أن يضعها تحت إبطه ليريه معجزة أخري ، بحيث أنّ يده السراء «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص ، ففعل فإذا هي تبرق كالشمس ، ولم يعرف كيف يتمكن من إعادتها لحالتها الأولى ، إلا أنه لما عرف إعادة العصا لحالتها الأولى حال أخذها من الأرض ، ففعل بيده مثل ما فعل بالعصا بان أعاد يده لإبطه ، ثم أخرجها فإذا هي على حالتها الاولى ، ولما كان عليه السلام لحقه خوف من هاتين المعجزتين ولا سيما العصا ، أراد اللّه أن يعلمه ما يزيله عنه فقال «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ» الخوف ، ففعل فذهب عنه الروع وعرف من هذا أنه كلما هاله أمر ضم يديه إلى صدره فيزول خوفه بإذن اللّه تعالى ، قال ابن عباس أمر اللّه نبيه أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الرعب وما من خائف بعد موسى إلا وبضع يده على صدره عند الخوف فيزول خوفه بإذن اللّه تعالى.
قال أبو علي الفارسي هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه ، وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الجد الذي يغشاه في بعض الأحوال عما أمر بالمضي فيه ، وقيل ان الرهب بلغة حمير هو كم الثوب ، وعليه يكون المعنى واللّه اعلم ، اضمم إليك يدك وأخرجها من كمك وتناول عصاك ولا تخف ، فان العصا واليد قد عادتا لحالتهما «فَذانِكَ بُرْهانانِ» آيتان عظيمتان ، وحجتان بالغتان ، ودليلان قاطعان ، على صدق نبوتك «مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» فاذهب إليهم وانما ذكر الضمير مع أنه يعود لمؤنثين مراعاة للخبر الذي هو مذكر ، أي ان قلب العصا حية واليد السمراء بيضاء نقية ميزة على الصورة المارة للمذكر ، برهانان لك ، فإذا طلبوا منك دليلا على دعواك النبوة فاظهرهما إليهم وادعهم للايمان «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 33 خارجين عن الطاعة ، متوغلين في العصيان ، متجاوزين الحدود «قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» 34 بها والمراد بهذا الخبر طلب الحفظ والتأييد لإبلاغ الرسالة على أكمل وجه لا الاستعفاء عنها ، كما زعمت اليهود بانه استعفى ربه من قبول ذلك ، وجاء في التوراة الموجودة بأيدينا في الإصحاح الرابع من الخروج الآية 14 ما نصه (استمع أيها السيد أرسل بيد من ترسل) وجاء في(2/372)
ج 2 ، ص : 373
بعض النسخ أنه قال (يا ربّ ابعث من أنت باعثه) وهذا من التحريف المحض ، راجع الآية 74 من سورة يونس ج 2 إذ يكذبه قوله تعالى «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» بيانا بالنطق بسبب العقدة التي في لسانه ، راجع الآية 13 من الشعراء المارة تعلم أن اللّه أزالها منه «فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» بزيادة بيانه وتلخيص الدلائل التي أعرضها عليهم ، والإجابة عن الشبهات التي يلقونها علي بكلام فصيح لا ركاكة فيه ، ويكون عونا لي عليهم ، فأتثبت بالمقام وأوضح الكلام «إِنِّي أَخافُ» إذا ذهبت إليهم وحدي «أَنْ يُكَذِّبُونِ» 34 فيتغلبوا عليّ في المجادلة فيظنوني كاذبا في دعواي ، فلو كان قصده ما زعمته اليهود لقال أرسل هارون لم يقل اجعله عونا لي ولم يستطرد الكلام إلى الفصاحة ، قاتل اللّه اليهود لم يتركوا شيئا حقا الا عمدوا إلى تغييره ، فأجاب اللّه طلبه «قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ» ونقوبك به ، وهذا المراد في قوله بصدقي لا أن يقول له صدقت في دعواك كما ذكره الغير ، لأن هذا يقدر عليه الفصيح والأبكم (فسحبان وباقل فيه سواء) لأن موسى يريد بقوله هو أفصح مني إلخ أي يقدر على الرد عليهم في المجادلة ببيان أوضح من بياني ، وهذه سعادة زفت إلى هرون عفوا من اللّه إذ جاءته الرسالة بمطلق طلب أخيه المقدر عليها أزلا ، ويرحم اللّه الأبوصيري إذ يقول :
وإذا سخر الإله سعيدا لأناس فإنهم سعداء
والعضد هو العظم الذي بين الذراع والكتف وبه تشتد اليد لأنه قوامها «وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» قويا على فرعون وملئه ، وغلبة عظيمة ، اذهبا إليه لا تخافا أبدا «فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما» بسوء قط حيث قوينا كما «بِآياتِنا» هذه وغيرها ، وقضينا في أزلنا ان يكون «أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» 35 عليهم ، وبهذه الآية استدل على عدم تسليط فرعون على السحرة ، وعدم تمكنه من إنفاذ تهديده لهم ، وهنا انقضت المناجاة الشريفة ، فرجع عليه السلام إلى أهله وأخذهم وسار إلى مصر ، فوصل إليها واجتمع بأمه وأخيه وأخته ، ورآهم على أحسن حال ببركته ، ثم ترك أهله وأخذ أخاه وذهب إلى فرعون بجنان قوي ، (2/373)
ج 2 ، ص : 374
وصار يدعوه إلى اللّه على الوجه المار ذكره في سورة الأعراف وطه والشعراء الآيات 103 و42 و16 فما بعدها ، لأن هذه السورة كالتكملة لما تقدم فيها قال تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا» التي لا خفاء فيها «بَيِّناتٍ» وطلب منهما أن يؤمنوا بربّه ، ويصدقوا رسالته ، «قالُوا ما هذا» الذي جئتنا به من اليد والعصا بشيء يركن اليه بأنه من اللّه الذي تصفه وما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً» مختلق لا صحة له «وَما سَمِعْنا بِهذا» الإله الذي تدعي رسالته وتدعونا لعبادته «فِي» زمن «آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» 36 ولا نحن سمعناه من غيرك وأخيك «وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ» يعني نفسه عليه السلام «وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» المحمودة في هذه الدنيا لأنها هي التي دعا اللّه إليها عباده وركب فيهم عقولا ترشدهم إليها ، ومكنهم منها وحضّهم على العمل فيها «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» 37 بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم ، ولا ينجون من محذورهم ، يريد بقوله عليه السلام ربي أعلم منكم بحال من أهله للفلاح الأعظم ، إذ جعله نبيا ، وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العاقبة ، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك ، لأنه غني حكيم لم يرسل الكاذبين ، ولا ينيء الساحرين ، ولا يفلح عنده الظالمون ، فلما سمع فرعون من موسى ما أبهر عقله التفت إلى وزرائه وخاطبهم بقوله «قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» يقصد الخبيث إنكار إله موسى وما جاء به من الآيات وتعجب ملئه منه لينكروا عليه أيضا مثل ما أنكر هو ، وقال «فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ» كبير وزرائه «عَلَى الطِّينِ» اطبخ لي آجرا وهو أول من طبخه طبخه اللّه في ناره «فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً» ابن لي قصرا عاليا كالبرج مثل المنارة «لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى » قاتله اللّه
أين هو من إله موسى حتى يطلع عليه قاتله اللّه.
أيظن أنه جل جلاله في مكان كي يصعد اليه ، عذبه اللّه في الصعود راجع الآية 17 من المدثر المارة «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ» 38 في قوله بوجود إله غيري لهذا الخلق ، وأنه أرسله إلي ، قال هذا لملئه ، قاتله اللّه ، مع علمه ببطلانه وعلمه أن له وللكون أجمع إلها قادرا ، ولكنه يموّه عليهم ليستميلهم(2/374)
ج 2 ، ص : 375
إلى هواء ، ويصرفهم هما جاء به موسى من الخطاب الذي هالهم سماعه ، قالوا إن هامان لمتثل أمره حالا ، وجمع خمسين ألف بنّاء مع كل واحد عملة كثيرون ، وأمر بطبخ اللبن وهو الطوب النيء وطبخ الحجر ، فعمل آجرا وكلسا ، ونجر الخشب ، وعمل المسامير ، وضرب الحديد ، وباشر بإسادة البناء ، فأنشأوا له الصرح ، وبالغوا في ارتفاعه إلى حد لم يبلغه منتهى البصر ، وقد سخّر اللّه لهم ذلك ليفتنهم فيه ، فلما فرغوا منه صعده فرعون راكبا على البرذون حتى بلغ رأسه ، وصار يرمي بنشابه نحو السماء ففتنه ربه بأن أعاد له النبل ملطخا بالدم ليغتر ويدعي الإلهية الكبرى ، ولما رأى ذلك نزل وقال قتلت إله السماء الذي يزعم موسى أنه إلهه وأنه أرسله إلينا ، فبينا هو كذلك إذ بعث اللّه جبريل فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاثا ، فطارت منه قطعة في البحر ، وقطعة في الغرب ، وقطعة على معسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف ، ولم يبق أحد ممن عمل فيه شيئا إلا هلك ، هكذا قال القصاص والأخباريون ، إذ لم يرد فيه ما يعتمد عليه من حديث أو خبر في كيفية هذا الصرح وماهيته وما صار إليه لأن القرآن أثبت وجوده فقط ، قال تعالى «وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ» أرض مصر لأن ملكه لا يتعداها كما تبين من قول
شعيب عليه السلام في الآية 26 المارة ، واستكباره هذا هو وقومه كان «بِغَيْرِ الْحَقِّ» لأنهم يعلمون أن فرعون ليس باله حقيقة وان ربه ورب السموات والأرض ومن فيهما هو اللّه وحده ، ولكنهم جحدوا «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ» 39 وانا لا نجازيهم على أعمالهم قال تعالى «فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ» على الصورة المبينة في الآية 63 من سورة الشعراء المارة جزاء طغيانهم هذا في الدنيا «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل ، واذكر لقومك «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» 40 ليعتبروا ويتيقظوا من غفلتهم ، علهم يرجعون عن عنادهم فيؤمنون بك قبل أن يحلّ بهم العذاب المقدر لهم
«وَجَعَلْناهُمْ» فرعون وقومه «أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ» قادة ورؤساء دعاة إليها ، وقد أردنا بإرسال موسى إليهم أن يكونوا قادة إلى الجنة ، فخذلناهم وجعلنا مصيرهم الهلاك غرقا «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» 42(2/375)
ج 2 ، ص : 376
أيضا ، بل يخذلون أسد من خذلان الدنيا ، ويعذبون بأفظع من عذابها «وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً» طردا وبعدا وخزيا بأن جعلنا الناس تلعنهم خلفا عن سلف ، وصاروا يضربون المثل لكل ظالم بفرعون وملئه ويلعنونهم «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ» 42 إذ تشوه وجوههم بالسواد وأجسادهم وعيونهم بالزرقة ، وزرقة العين مع السواد قبيحة جدا ، ولذلك ترى زرقة العين في الدنيا عند بيض الأجسام والوجوه ، ولا تجتمع زرقة العين مع سود الجوم البتة ، وقد توجد في بعض السمر قليلا جدا بسبب الاختلاط في المناكحة ، وهي مكروهة أيضا وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن.
واعلم أنه لا يجوز لعن واحد بعينه سواء كان مسلما أو كافرا ، إلا من تحقق موته على الكفر ، أما لعن الجنس فيجوز ، بأن تقول لعنة اللّه على الكافرين ، على الظالمين ، راجع الآية 78 من سورة المائدة في ج 3.
ولهذا البحث صلة في الآية 60 من سورة الإسراء الآتية فراجعه ففيه الكفاية.
قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى » أقوام هود وصالح وإبراهيم ومن تقدمهم من قوم نوح ، وانما قال تعالى من بعد إهلاك هؤلاء وهو أعلم إشعارا بأنها أي التوراة المعبر عنها بالكتاب ، نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان مساس الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن العظيم على محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لأن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعين إلى لزوم إحداث لزوم تشريع جديد بتقرير الأحوال الباقية على مر الدهور وترتيب الفروع المبدّلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الماضية الخالية الموجبة للاعتبار ، ومن لم يرشد إلى هذا فسّر القرون الاولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السّلام وهو ليس بشيء ، وجعل هذا الكتاب وهو التوراة «بَصائِرَ لِلنَّاسِ» نورا لقلوبهم يبصرون بها الحقائق ويميزون بها بين الحق والباطل ، إذ كانوا عميا عن الفهم والإدراك بالكلية ، لأن البصيرة نور القلب الذي به يستضيئون ، ويستبصر بالبصيرة أهل المعرفة ، كما أن البصر العين الذي تبصر الحسيات المادية ، «وَهُدىً» من الضلال إذا عملوا بها «وَرَحْمَةً» لمن(2/376)
ج 2 ، ص : 377
صدّق بها وآمن بمن أنزلت عليه «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» 43 بما فيها من المواعظ ، وقد صح أن عمر رضي اللّه عنه استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال انا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا ، فترى انكتب بعضها ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم أتتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو أن موسى حي ما وسعه إلا اتباعي.
ومعنى تتهوكون تتحيرون ومعنى بيضاء نقية لا تحتاج إلى شيء آخر.
مطلب في قراءة التوراة وما لعمر رضي اللّه عنه فيها ومناسبة السورة لما قبلها :
وفي رواية استأذنه في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ، فغضب صلّى اللّه عليه وسلم حتى عرف في وجهه ثم قال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي فرمى بها رضي اللّه عنه من يده ، وندم على ذلك.
وان سبب غضبه صلّى اللّه عليه وسلم هو أن عمر نقلها من التوراة التي بيد اليهود في المدينة ، وكانت جلها محرّفة وفيها الزيادة التي وضعوها وعارية عن النقص الذي حذفوه ، لمحاجة حضرة الرسول افتراء على اللّه ، وكان الناس حديثي عهد بالكفر ، فلو فتح حضرة الرسول باب المراجعة إلى التوراة وأجاز لهم مطالعتها في ذلك الزمن لأدى إلى إفساد العقائد ، لأن الإسلام ، حديث عهده ، وجاءت أحكامه ناسخة للتوراة وغيرها من الكتب القديمة الصحيحة ، فكيف بالمحرفة ، وإلا لو كانت التوراة نفسها لما نهى عنها ، لأن القرآن جاء مصدقا لها وللإنجيل وجميع الصحف السماوية ، ومعدلا لبعض أحكامها مما هو في صالح البشر وموافق لعصرهم أما الآن فلا مانع من مطالعتها لمن له ملكة في العلوم ، ومعرفة بكتب اللّه ، وكان قويا في إيمانه وراسخا في عقيدته ، عالما بالشرائع مما هو موافق منها لشرعنا وما هو مخالف له فيجتنب ما فيها مما هو مخالف للقرآن ، ويقول بما فيها مما هو موافق له ويرشد الناس إلى ذلك ، والدليل على جواز هذا قوله تعالى (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية 63 من آل عمران في ج 3 ، وكان عبد اللّه بن سلام وغيره من صادقي الإيمان ينقلون عنها ما ينقلون من الأخبار ، ولم ينكر عليهم أحد ، ولا فرق بين سماع ما ينقل عنهم وبين قراءتها أو أخذه منها ، وقد رجع إليها كثير من العلماء إلى الزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض آياتها في إثبات حقيقة بعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، كالعالم الكبير رحمة اللّه الهندي صاحب(2/377)
ج 2 ، ص : 378
كتاب إظهار الحق الذي يحتاج إليه كل من يميل إلى مناظرة أهل الكتابين ، أما ما قاله العلامة ابن حجر في تحفة المحتاج في تحريم مطالعتها لغير عالم فهو للخوف عليه ، لئلا يختلط الأمر فيقع في حيص بيص ، تدبر عليه وإلى هنا انتهت قصة موسى عليه السلام مع فرعون عليه اللعنة وشعيب عليه السلام ، ووجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وكونها أتت بعد النمل لا بعد الشعراء على ما ذكره الجلال السيوطي رحمه اللّه هو أنه سبحانه وتعالى كما ذكر في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام (أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) الآية 17 إلى قوله (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ثم ذكر في سورة النمل قول موسى لأهله في الآية 16 المارة إني آنست نارا إلخ الآيات وكان الأمران على سبيل الإرشاد والإجمال بسط في هذه السورة ما أوجزه في السورتين المذكورتين ، وفصّل ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما فبدأ جل شأنه بشرح تربية فرعون له وعلو شأنه على بني إسرائيل وإقدامه على ذبح أولادهم الموجب لإلقاء موسى في اليم خوفا عليه من الذبح ، وبيّن تربيته وما وقع فيها أي السبب الذي من أجله قتل القبطي والنّم عليه الموجب فراره إلى مدين وما وقع له مع شعيب ومجيئه إلى الطور ، ومناجاته ربه ، وبعثه إلى فرعون ، وكانت هذه السورة شارحة لما جاء في السورتين ومتممة لها ، ولهذه الحكمة قدمت على سورة القصص وأخرت عن الشعراء في النزول وهي كذلك في المصاحف ، فقد روى عن ابن عباس وجابر بن زيد أن سورة الشعراء نزلت ، ثم النمل ، ثم القصص وهكذا فإن أول كل سورة لها مناسبة مع آخر السورة قبلها ، كما أن آخر كل سورة له مناسبة بأولها ، وقد راعى هذه الجهة المفسر الكبير الإمام فخر الدين الرازي وأهمله أكثرهم ، ثم شرع يعدد بعض نعمه على رسوله فخاطبه جل خطابه بقوله «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ» من الجبل الذي وقعت فيه مناجاة موسى لنا في الميقات الذي وقتناه له «إِذْ
قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ» بإنزال التوراة إليه لا كمال دينه وشرعه بعد أن عهدنا إليه بالرسالة على الصورة التي قصصناها عليك وشرفناه بالتكليم دون سائر الرسل «وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» 44 ذلك الزمن والمقام ليقول لك قومك افتريته من نفسك ، بل هو يوحينا إليك إذ(2/378)
ج 2 ، ص : 379
لم يشهد ذلك إلا السبعين الذين اختارهم موسى لحضور الميقات كما فصلناه في الآية 154 من سورة الأعراف المارة أما التشريف بالرسالة فلم يشهدها غير موسى ، وأنت أمي لم تخرج من قريتك ، فمن
أين لهم أن يتهموك بأن هذا القرآن سحر وكهانة أو من خرافات الأولين «وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً» بعد موسى متتابعة إلى زمنك هذا كثيرة لا تعلمهم أنت ولا غيرك «فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» فنسوا عهد اللّه وتركوا أوامره التي من جملتها أخذ العهد عليهم بالإيمان بك واتباعك ولم يوفوا بما عاهدوا اللّه عليه بسبب نمادي الأمد وتغيير الشرائع والأحكام ، فعميت عليهم الأنباء لكثرة عبثهم فيها واغترارهم بما خولناهم من النعم المادية والمعنوية ولا سيما قومك الذين سولت لهم أنفسهم عبادة الأوثان فاقتضت حكمتنا لهذه الأسباب أن ننزل عليك شرعا جديدا صالحا لعصرك وما بعده إلى يوم القيامة مما كان ثابتا في علمنا قديما ، ونقصّ عليك الأنباء على ما هي عليه عند حدوثها تدريجا بحسب الوقائع كما هي مدونة في أزلنا لتذكرها لقومك وتأمرهم أن يعملوا بمقتضى ما نوحيه إليك مما هو مصدق للكتب القديمة من حيث الأحوال الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد حرفيّا ، ومعدل لبعض الأحكام من حيث الفروع «وَما كُنْتَ» يا أكرم الرسل «ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ» كما كان شعيب قاطنا عندهم وسكن موسى عنده أول أمره كما علمت «تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» التي فيها قصتهما وتذكرها لقومك واعدا وموعدا كأنّك كنت معهما «وَلكِنَّا» نحن إله الأولين والآخرين «كُنَّا مُرْسِلِينَ» 45 الرسل الهداية الخلق قديما ، كما أرسلناك إلى هؤلاء الآن وقصصنا عليك اخبارهم وأممهم في هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك ، كما قصصنا على كل أمة أخبار من قبلها مع رسلهم ، ولو لا اعلامنا إياك فيه لما علمت شيئا من ذلك «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ» الجبل الذي وقعت عنده المناجاة «إِذْ نادَيْنا» موسى منه وآتيناه ما آتيناه وقلنا له خذ الكتاب بقوة وهي أعظم ما رأى موسى ، فأخبرناك بها لنقصها على قومك أيضا «وَلكِنْ» رحمناك بها وشرفناك بالوحي والرسالة وأطلعناك
على أخبار الأولين التي لا تعلمها أنت ولا قومك ، وأعلمناك في هذا القرآن أخبار ما كان وما يكون(2/379)
ج 2 ، ص : 380
وجعلناك «رَحْمَةً» لأهل زمانك ومن بعدهم ممن اتبع هداك واسترشد برشدك مخصوصة لك وللناس أجمعين «مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» يخوفهم عقاب اللّه من بعد جدك إسماعيل.
مطلب أهل الفترة وعدد الأنبياء وتقسيمهم :
ولهذا سموا أهل الفترة إذ لم يرسل إليهم بعده رسولا لان عيسى ومن قبله أرسلوا خاصة لأقوام مخصوصين ، فتطاول عليهم الأمد واندثرت آثار نبوة إسماعيل إذ كان بينها وبين نبوة محمد ما يزيد على ألفين وخمسمائة سنة ، ولذلك لم يبق لها ذكر عند العرب ، لانه لم يترك لهم كتابا يرجعون إليه وانقطعت رسالته بموته عليه السلام ، لهذا أرسلناك إليهم «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» 46 عهدهم الأول ويعترفون برسالتك ، وان ما تأمرهم به هو من عند اللّه لأن ما تذكره لهم في الأمور الغيبية دليل على صدق دعوتك ان كانوا ممن يتذكر فتنفعه الذكرى ، وهذه الفترة خاصّة بالعرب ، أما الفترة العامة للخلق فهي ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، الا أنهم لا يعدون ناجين كأولئك لأن عيسى ترك لهم كتابا كما ترك موسى من قبله قلم تنقطع عنهم آثار النبوة ليعدوا معذورين كالعرب ، تأمل.
ولهذا البحث صلة أول تفسير سورة السجدة في ج 2 والآية 15 من سورة الإسراء الآتية فراجعه.
قال العزّ بن سلام كل نبي إنما أرسل إلى قومه نسبا أو مصاهرة ليدخل لوط عليه السلام ، الا سيدنا محمد إذ أرسل إلى الناس كافة ، فعلى هذا يكون ما عدا قوم محمد ، إذ لا نبي بعده ، قوم كل نبي من أهل الفترة الا ذرية النبي السابق عليه ، فإنهم يخاطبون ببعثة السابق حتى تدرس شريعته ، فيصير الكل حينئذ من أهل الفترة.
أما قوله تعالى في هذه الآية (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) وقوله (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) في الآية 6 من سورة يس المارة وقوله (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) الآية 3 من سورة السجدة في ج 2 ، فلا تتعارض مع قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) الآية 44 من سورة فاطر المارة وقوله (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) الآية 44 من سورة سبأ في ج 2 ، لأن العرب الأقدمين قبل إبراهيم أنذروا من قبل هود وصالح ، وبعد ابراهيم انذروا من قبل إسماعيل(2/380)
ج 2 ، ص : 381
وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، فجملة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا ، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر أو خمسة عشر ، منهم العرب خمسة ، والأنبياء الربانيون أيضا خمسة وهم آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم ، أما إسحاق فمن بعده إلى عيسى عليه السلام فهم اسرائيليون وعبرانيون ، إذ أن الأنبياء العبرانيبن بعضهم مثل بعض ، فلا يعد أحد من أتباعهم من أهل الفترة لما ذكرنا أن التوراة بقي العمل بها إلى زمن عيسى ، والإنجيل بقي العمل فيه وبالتوراة عدا ما عدل من أحكامها إلى زمن محمد ، فكل من شذ عن اتباع أحكام التوراة إلى زمن عيسى فهو معذب ، وكل من شذّ عن اتباع أحكام الإنجيل إلى زمن محمد فهو معذّب ، لأن قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية 15 من الإسراء الآية لا تشمل هؤلاء لأنهم مكلفون العمل بالكتاب الذي تركه لهم نبيهم ، أما العرب فإن أنبياءهم الأقدمين هود وصالح انقرضت أممهم أو اندثرت آثارهما ، وشعيبا وإسماعيل انقطعت نبوتهما بموتهما ، إذ لم ينزل عليها كتاب من اللّه يتركانه لقومهما ليعملوا به ويتبعوا آثارهما بمراجعته ، ولم يدركا زمن التوراة ، وأن الأنبياء العبرانيين لم يدعوا العرب إلى عبادة اللّه اخصص رسالتهم بقومهم ، فلهذا أن العرب من بعدهما عدّوا أهل فترة إلى زمن بعثة محمد دون غيرهم ، للأسباب المارة ، تدبّر.
ولهذا البحث صلة واسعة في الآية 15 من سورة الإسراء المشار إليها أعلاه ، وقدمنا في سورة فاطر عند تفسير الآية 24 المشار إليها آنفا ما يتعلق في هذا البحث ، وما قيل إن العقل هو الرسول ينقيه قوله تعالى «وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ» بمال أو نفس عقوبة لهم أو انتقاما منهم «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الأعمال القبيحة «فَيَقُولُوا رَبَّنا» بحذف حرف النداء «لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» يدلنا عليك ويعرفنا أوامرك ونواهيك «فَنَتَّبِعَ آياتِكَ» المنزلة عليه «وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 47 به يقول اللّه تعالى يا محمد لو لا أن قومك يحتجون بهذه الحجة لعاجلناهم بالعذاب وأهلكناهم بضيعهم ، ولما بعثناك إليهم ، ولكن لقطع هذا الاحتجاج أرسلناك إليهم ، فمن يقول هذا القول ويحتج بهذه الحجة لا يقال انه لا عقل له حتى يؤول الرسول بآية الإسراء المارة(2/381)
ج 2 ، ص : 382
بالعقل ، وكيف تترك الحقيقة ويصار إلى المجاز دون صارف ملزم بالجنوح إلى المجاز لعدم إمكان استعمال الحقيقة ، وإذ لا فلا ، لذلك فان تأويل الرسول بالعقل على غير ظاهره لا عبرة به ، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا» وهو إرسالك إليهم المؤيد بالقرآن
المنزل عليك «قالُوا» هؤلاء العتاة «لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى » من الآيات كالعصا واليد والكتاب المجسم دفعة واحدة لآمنا به ، وإذ لم يؤت شيئا من ذلك فلا نؤمن به تجبرا وعتوا وعنادا بك ، وتكبرا عن الأخذ بما أنزل إليك واعتراضا على اللّه الذي له أن يخص من أنبيائه بما شاء من المعجزات فقل لهم «أَ وَلَمْ يَكْفُرُوا» يجحدوا وينكروا هؤلاء اليهود الذين كلفوا قومك أن يقترحوا عليك هذا الاقتراح «بِما أُوتِيَ مُوسى » من الآيات والكتاب «مِنْ قَبْلُ» إنزال القرآن عليك وكفروا بما جاءهم موسى ولم يمتثلوا الأخذ به إلا قسرا يرفع الجبل فوقهم وتهديدهم بأنه إذا لم يقبلوا أحكام التوراة أطبقه اللّه عليهم وأهلكهم به ، راجع الآية 170 من الأعراف المارة «وَقالُوا» هؤلاء الكفرة حين بعثوا إلى رؤوس اليهود في المدينة يسألونهم عن محمد ، فأخبروهم أن قصته موجودة في التوراة ولكنهم لا يعلمون انه هو ، أو أن اليهود لما فشا أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلم في مكة أرسلوا إلى قريش بأن يسألوا محمدا أن يظهر لهم معجزات مثل موسى إن كان ما يدعيه حقا ، فأنزل اللّه هذه الآية تبكيتا لهم وتقريعا بهم ، إذا كان عليهم بدلا من أن يسألوه أن يؤمنوا به لأنه مرسل لهدايتهم وإرشادهم «سِحْرانِ تَظاهَرا» أي قال الكفرة من قريش ان ما أنزل إلى موسى وما أنزل إلى محمد عبارة عن سحرين تعاونا لتقوية بعضهم بعضا ، لأن كلا من المنزل عليهما موسى ومحمد يريد إظهار حجته على طريق السحر «وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ» من موسى ومحمد وكتابيهما «كافِرُونَ» 48 جاحدون لا نصدق بأحد منهما ولا بما جاءا به قال تعالى يا أكرم الرسل «قُلْ» لقومك وأهل الكتاب الذين هم في زمنك الذين تخابروا بشأنك وكتابك إن كنتم تكفرون بكل ذلك «فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما» أي التوراة والإنجيل «أَتَّبِعْهُ» أنا ، أمره ربه أن يتحداهم
بهذا على عجزهم عن الإتيان به «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 49(2/382)
ج 2 ، ص : 383
بأن المنزل عليهما ساحران ، أو أنهما نفسهما سحر ، إذ توجد قراءة «ساحران تظاهرا) والتي عليها المصاحف كما مر «فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ» يا سيد الرسل ولم يرضخوا إلى ما كلفتهم به «فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ» الفاسدة وما تسوله لهم أنفسهم من اتباع الزيغ المتحكم بهم ، وقد لزمتهم الحجة إذ لا برهان لهم إلا هوى أنفسهم الخبيثة «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ» لا أحد أضل منه البتة ، لأنه ظلم نفسه بذلك «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» 50 أنفسهم بانهما كهم في هواهم والإعراض عن الرسل وآياتهم الهادية إلى الحق ، وهؤلاء الظالمون لا يرشدهم اللّه إلى هدى دينه القويم ، لأن من يضلله اللّه لا يتمكن البشر من هدايته
قال تعالى «وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ» لقومك يا محمد «الْقَوْلَ» العظيم المنزل عليك آيات بينات متتابعة متصلة بلسانهم ، حتى لا يعتذروا بعدم معرفته وتقع عليهم الحجة ، وذكرنا لهم فيه أخبار من سلفهم في الدنيا متواصلة بعضها ببعض وكررناها لهم مرارا حتى كأنهم شاهدوها بأم أعينهم «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» 51 بها وينتبهون إلى خطائهم فيرجعون ويؤمنون بها ، فلم يتّعظوا ولم يلتفتوا إليها.
واصل التوصيل ضم قطع الحبل بعضها ببعض قال الشاعر :
فقل لبني مروان ما نال ذمتي بحبل ضعيف لا يزال بوصّل
وقرأ بعضهم وصلنا بالتخفيف.
مطلب الآيات المدنيات ومحاسن الأخلاق وبمن نزلت :
وهذه الآيات المدنيات الأربع الأول من هذه السورة ذكرت بمناسبة ذكر أهل الكتاب بالآيات المتقدمة ، قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» التوراة والإنجيل لأن أل فيه للجنس فيشمل الواحد والمتعدد «مِنْ قَبْلِهِ» قبل محمد وكتابه «هُمْ بِهِ» بمحمد «يُؤْمِنُونَ» 52 لوجود نعمته في كتبهم «وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ» القرآن المنزل عليه «قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ» قبل نزوله «مُسْلِمِينَ» 53 للّه مؤمنين به منقادين لأحكام كتبه ومن جملتها الإيمان بمحمد وكتابه «أُولئِكَ» القائلون هذا القول(2/383)
ج 2 ، ص : 384
«يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ» يوم القيامة من ربهم «مَرَّتَيْنِ» لإيمانهم برسولهم وكتابهم الأولين ، لأن اليهود آمنوا بموسى والتوراة ، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل ، ثم أنهما آمنوا الآن بمحمد والقرآن ، أي الرسول الثاني والكتاب الثاني بالنسبة لكل منهما ، ولذلك اعطى كل منهما أجرين ، ولا يضر اليهود عدم إيمانهم بعيسى بعد أن آمنوا بمحمد ، لأن الإيمان به يجب ما قبله من الكفر كله أي يقطعه ويمحو أثره كما أن الكفر يمحق ما بعده ، إذ لا يقبل اللّه عملا مع الكفر على شرط أن يصدقوا برسالة عيسى ، لأن انكار نبوة واحد من الأنبياء كفر لا ينفع معه عمل من أعمال الخير ، ومثل هذا لا ينفعه الإيمان بمحمد وكتابه حتى يذعن ويقر بعيسى وكتابه ويؤمن بهما.
هذا وان اللّه تعالى يعطي إلى هؤلاء هذا الجزاء المضاعف «بِما صَبَرُوا» على ما كلفهم اللّه به من أمور الدين ، وعلى أذى من آذاهم حتى بعث محمد فآمنوا به كما آمنوا قبلا بنبيهم ، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد ، والعبد المملوك إذا أدى حق اللّه وحق مواليه ، ورجل كانت عنده أمة يطأها فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها ، فله أجران.
قال تعالى في وصفهم أيضا «وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» أي أن هؤلاء الأبرار يدفعون العمل السيء بالأحسن ، ويقابلون الشر بالخير ، والقصاص بالعفو ، والأذى بالصفح ، والظلم بالعدل ، والشتم بالدعاء «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» 54 على الفقراء والمحتاجين فطوبى لهم وسقيا ، ومن جملة ما هم متحلون به أيضا ما وصفهم اللّه به من الفضيلة بقوله جل قوله «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ» الكلام البذيء وفضوله «أَعْرَضُوا عَنْهُ» فلم يخالطوا أهله ولم يبقوا معهم بل يتركوهم «وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا» بمقتضى ديننا «وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» بحسب ما تدينون به فلا يقاتلونهم ولا يجادلونهم ، وهذا على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من سورة الكافرون المارة ، وقوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 24 من سورة سبأ في ج 2 ، ومن صفاتهم أيضا إذا تعدي عليهم قالوا «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» أمان منا لكم بعدم المقابلة ، وهذا سلام متاركة لا سلام تحية(2/384)
ج 2 ، ص : 385
مثله ما مر في الآية 63 من سورة الفرقان المارة ، والآية 47 من سورة مريم المارة أيضا ، كقولك لمن تغبر منه سلام عليك وتتركه وتذهب وقالوا أيضا «لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» 55 لا نطلب مقابلتهم ولا نخاطبهم ولا نصاحبهم ، فهنيئا لهم على هذه الأخلاق الكاملة ، ومن آداب الأبرار كظم الغيظ والسماح لمن يتعدى ويغلظ عليهم ، ولين الجانب لمن يشدد عليهم.
انتهت الآيات المدنيات.
أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها - أي هذه الآيات الأربع واخر الحديد نزلن في أصحاب النجاشي الذين قدموا منه وشهدوا وقعة أحد ، أي كان نزولها في المدينة السنة الثانية من الهجرة وقال مقاتل : في هذه السورة من المدني (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) وقيل إن المعنيين في هذه الآيات أبو رفاعة في عشرة من اليهود آمنوا فأوذوا وصبروا.
وأخرج ابن مردويه بسند جيد ، وجماعة عن رفاعة القرطبي ما يؤيده.
وقيل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهم أربعون رجلا مع جعفر بن أبي طالب ، فلما رأوا ما بالمسلمين من حاجة وخصاصة قالوا يا رسول اللّه إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بها فواسينا بها المسلمين ، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين ، وهذا أنسب بالمقام لأن من أهل الإنجيل ذوي رقة وزهد ، يؤيده قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الآية المارة ، وما جاء في الآية 82 فما بعدها من سورة المائدة في ج 2 ، وما قيل إنها في عبد اللّه بن سلام لا يعول عليه لأنه لم بسلم بعد وهي صالحة لكل من القولين أما الأخير فلا ، قال تعالى «إِنَّكَ» يا سيد الرسل «لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» قريبا كان أو بعيدا «وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» هدايته فيقذف في قلبه نورها فينشرح صدره للإيمان فيهتدي «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» 56 أزلا.
مطلب ما قاله أبو طالب لحضرة الرسول عند وفاته :
روى مسلم عن أبي هريرة قال إنك لا تهدي من أحببت ..
إلخ نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام ، وكان شديد الحرص على إسلامه لكبير حقه عليه ، وكثير محبته له ، وحمايته من قريش وغيرهم ، ولم يجرؤ أحد على الرسول إلا بعد وفاته حتى سمي عامها عام الحزن ، لأن خديجة تلته بعد(2/385)
ج 2 ، ص : 386
ثلاث ليال ، وكان وجوده قوة عظيمة لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وكان يأمل أيمانه ، ولما مات تأثر عليه جدا لجهتين لحبه له وعدم إيمانه به ، وذلك أنه قال له عند الموت :
يا عمّ قل لا إله إلا اللّه أشهد لك بها يوم القيامة ، قال لو لا أن تعيرني قريش فيقولون إنما حمله على ذلك الجزع لا الرغبة في دينك الحق ومسلكك المستقيم لأقررت بها عينك.
ثم أنشد :
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لو لا الملامة أو حذار مسبّة لوجدتني سمحا بذاك قمينا
ولكن على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف.
ثم مات ، فأنزل اللّه هذه الآية ، وذلك في نصف شوال السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين وأربعة أشهر.
والعبرة بمبدأ السنة هنا رمضان الذي وقعت فيه البعثة سنة 41 من ميلاده الشريف.
وقيل إنه قال يا معشر بني هاشم صدقوا محمدا تفلحوا.
فقال عليه السلام يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك ؟ قال فما تريد يا ابن أخي ؟ قال أريد منك أن تقول لا إله الا اللّه أشهد لك بها عند اللّه ، قال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت ، لأن قومك سيئو الظن لا يؤولون إسلامي على منهج حسن.
هذا وقد ورد
وردت أخبار وأحاديث بإسلامه عند الموت عن ابن عباس وغيره ، وأخبار أخرى بأن اللّه تعالى أحيا لحضرة الرسول أبويه وعمه أبا طالب وآمنوا به ، وان أقوال أبي طالب هذه تدل صراحة على تصديقه لحضرة الرسول وإيمانه به ، أما أبواه فهما من أهل الفترة لأن أباه توفي قبل ولادته بشهرين ، وأمه بعدها بست سنين ، فلم يحضرا البعثة وكل من لم يحضرها فهو من أهل الفترة ، وأهل الفترة كلهم ناجون راجع الآية 46 المارة وما ترشدك إليه من الآيات ، ولبحثها صلة واسعة في الآية 15 من الإسراء الآتية ، ولهذا فالاحسن أن يميل العاقل إلى إسلامه وإسلام أبوي النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، لأن القول بخلافه يؤذي أهل البيت ، وربما يؤذى حضرة الرسول في قبره الشريف ، وما على اللّه بعزيز أن يحييهم حتى يؤمنوا به وصدق من قال : ولاجل عين ألف عين تكرم.
وقدمنا ما يتعلق في هذا آخر الشعراء المارة في الآية 214(2/386)
ج 2 ، ص : 387
هذا ، واعلم بأنّ وفاته محققة بالتاريخ المذكور أعلاء ، وإذا كان كذلك وهو كذلك فإن هذه الآية لم تنزل بحقه ، لان بين نزولها وموته مدة كثيرة ، ويوشك أن حضرة الرسول قرأها عند وفاته لانطباق معناها على ما في قلبه الشريف من محبة هدايته وتكرار أمره له بالإيمان بربه ، وجوابه له بنحو ما ذكر يستدعي تلاوة هذه الآية ، على أن جمهور المفسرين قالوا بنزولها في أبي طالب ، وهذا لا يتجه إلا أن تكون هذه الآية مؤخرة في النزول عن سورتها أو أنه قرأها في حياته بحضوره ، وعلى هذا تكون نازلة بحقه ، إلا أن أحدا لم يقل به ، هذا واللّه أعلم.
قال تعالى «قالُوا» كفار مكة «إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ» يا محمد «نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» وجابهه بهذا القول الحارث بن عثمان بن نوفل إذ قال لرسول اللّه : إنا نعلم أن الذي تقوله حق ولكن إن اتبعناك نخاف أن تخرجنا العرب من أرض مكة ، فأنزل اللّه جل إنزاله «أَ وَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً» بآمنون به على أموالهم وأنفسهم دون سائر العرب ؟ لأن الجاهلية كانوا لا يغيرون على أهل مكة ولا يقاتلونهم ولا يسلبونهم لحرمة البيت ، حتى انه من المعروف في ذلك الزمن أن الظباء تأمن فيه من الذئاب ، والحمام من الحدأة ، وهذا لا يستغرب ، لأن اللّه تعالى الذي ألهم السمك بالخروج يوم السبت وعدم التعرض له (راجع الآية 163 من سورة الأعراف المارة) ألهم الظباء والحمام ذلك أيضا ، وفضلا عن ذلك انه «يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» من مأكول وملبوس ومشروب وحلي وغيره من جميع بلاد اللّه ، فيوجد فيها من مصنوعات الهند والسند والصين والشام والعراق والعجم والغرب واليمن والترك والسودان والبلاد الأجنبية ، حتى إنك لتجد فيها ما لا يوجد في أعظم البلاد لأن جل البلاد تجلب إليها من أحسن مصنوعاتها في الموسم ، وهذا واقع ولا يزال ، وفاء بعهد اللّه لأهل بيته ، وإجابة لدعوة جدّ رسوله محمد إبراهيم عليهما السلام كما سيأتي في الآية 126 من البقرة في ج 3 ، ويرزقون فيه «رِزْقاً» عظيما مختلف النوع والجنس والصفة والقيمة «مِنْ لَدُنَّا» نحن رب البيت العالم بما يكون لأهله من الكرامة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 57 أن رزقهم من عندنا ، وأنا نسوقه إليهم ، لأنا مكلفون(2/387)
ج 2 ، ص : 388
بكل الخلق وخاصون أهل مكة بما لا نخص به غيرهم ، أفلا يعلمون أن الخوف والأمن من عندنا نخيف من نشاء ونؤمن من نشاء ، كما نفقر من نشاء ونغني من نشاء ، ونعز من نشاء ونذل من نشاء ، ولكن
لفرط جهلهم وعدم ثقتهم بربهم لا يعلمون ذلك ، وفي قوله تعالى أكثرهم إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك ، قال تعالى «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ» أي أثرت وطغت ولم تحفظ حق اللّه فتشكر «مَعِيشَتَها» وتحمد اللّه على النعمة ، بل خرجت عن الشكر ولم تحمل نعمة الغنى ، فأهلكها اللّه تعالى «فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا» عند المرور بها لاستراحة فقط ، تشاؤما منها بسبب ما وقع على أهلها من العذاب «وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ» 58 لها لا يملك أحد التصرف بها غيرنا لأنهم كانوا يتمتعون بنعم اللّه ويعبدون غيره ، خير اللّه إليهم نازل وشرهم إليه صاعد ، فما قدّروه بعض قدره ، ولا مجدوه جزءا مما يستحقه ، وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة وتهديد بأنهم إذا داوموا على كفرهم تكون عاقبتهم كعاقبتهم فيدمرهم ويترك مساكنهم خاوية عبرة لغيرهم ، كديار قوم هود وصالح ولوط وغيرهم ، قال تعالى «وَما كانَ رَبُّكَ» يا أكرم الرسل في حكمه الأزلي ، ولا في غيبه القديم ، على خاصة ، إذ لا غيب عليه «مُهْلِكَ الْقُرى » الكافر أهلها «حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» ينذرهم ويخوفهم بأس اللّه ، والمراد بالأم هي البلدة التي ترجع أهالي القرى والقصبات في أمورها إليها ممن يسكن في أطرافها التي يكون فيها الوجهاء والأشراف والقادة ، ومكة شرفها اللّه محل ولادة الرسول ، وقاعدة البلاد العربية ، ومحط أنظار العرب والإسلام ، ومهبط الوحي ، يؤمها القريب والبعيد ، وكل البلاد حولها من أطرافها الأربع يرجعون إليها ، وفيها أشراف قريش وحرّاس بيته ، ولذلك بعث فيها أعظم الأنبياء وخاتمهم «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» ويبلغهم وبال العذاب النازل بهم إذا لم يؤمنوا لا محالة «وَما كُنَّا» عفوا بدون ذنب أو سبب «مُهْلِكِي الْقُرى » وما جرت بذلك سنتنا لأنا لا نهلكهم «إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ» 59
متوغلون في الظلم مصرون عليه ، إذ ما صح ولا وقع من لدنا إهلاك غير الظالمين العاكفين على كفرهم وشأننا الآن وبعد كذلك ، أما الذين آمنوا(2/388)
ج 2 ، ص : 389
وضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام فإنا نحفظهم ونزيد في إكرامهم ، ولا نجعلهم عرضة لتسلط أحد عليهم ، بل نحميهم ونرزقهم ونؤمنهم في ديارهم ، قال تعالى «وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» أيها الناس «فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» التي تتمتعون بها أياما قليلة «وَزِينَتُها» تتزينون بها لأجل معلوم ، ثم تنقضي هي وما جمعتموه منها «وَما عِنْدَ اللَّهِ» من النعيم الدائم في الدار الباقية «خَيْرٌ» لكم من متاع الدنيا الفانية «وَأَبْقى » وأدوم منه والدائم خير من الفاني «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» 60 ذلك قال ابن عباس جعل اللّه أهل الدنيا ثلاثة أصناف : المؤمن والمنافق والكافر ، فالمؤمن يتزود ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع ، ثم قرأ هذه الآية
قال تعالى «أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً» هو الجنة التي لا أحسن منها ذات النعيم الدائم «فَهُوَ لاقِيهِ» نائله لا محالة ومصادفه في حياته وصائر إليه عند مماته «كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا» القريبة الزوال «ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» 61 بين يدي اللّه في الموقف العظيم فيحاسب على ما أصابه في الدنيا ، كيف جمعه ، وفيم أنفقه ، ولم أبقاه ولم يؤد حقه ، ثم يقذف في النار ، وحينئذ يندم ولات ساعة مندم ، ويريد الفرار ولات حين فرار ، ولهذا جاء لفظ المحضرين في خاتمة هذه الآية وفي قوله تعالى (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) الآية 137 من الصافات في ج 2 لدلالتها على هذا المعنى ، ويكون الإحضار في ذلك الموقف لأجل مناقشة الحساب وترتيب العقاب ، قيل إن هذه الآية نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وفي أبي جهل لعنه اللّه ، أو في علي وحمزة رضي اللّه عنهما ، وفي أبي جهل ، أو في مطلق مؤمن وكافر ، وهذا أولى ، لأن الصيغة عامة ، وهي من قبيل ضرب المثل ، وحمل اللفظ على عمومه إذا لم يكن هناك مخصص أولى ، حتى أن صيغة آية (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) المارة عامة في كلى من أحب رسول اللّه إيمانه من العرب وأهل الكتابين والصابئين والمجوس أيضا ، لأنه كان يحب الإيمان لأهل الأرض كلهم ، وهي جارية في عمومها إذ لم يثبت ما يخصصها في أبي طالب كما ذكرنا لك آنفا فإنه لو ثبت تخصيصها فرضا فلا ينفي عمومها لغيره ، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، قال تعالى «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ» اللّه(2/389)
ج 2 ، ص : 390
عز وجل أو مناديه المأمور بذلك «فَيَقُولُ» للمشركين «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» 62 في الدنيا أنهم شركاء معي في ملكي ، وانهم واسطة نفعكم وضركم الذين كنتم تتضرعون بهم زلفى وتزعمون أن لهم يدا عندنا ، ومفعول زعم الأول محذوف تقديره تزعمونهم ، والثاني محذوف أيضا تقديره شركائي ، لأن زعم يتعدى إلى مفعولين جائز حذفهما ، قال في الكشاف : يجوز حذف المفعولين في باب ظن ولا يصح الاقتصار على أحدهما ، وقال أبو حيان : إذا دل دليل على أحدهما جاز حذفه كقوله :
كان لم يكن بين إذا كان بعده تلاق ولكن لا إخال تلاقيا
أي لا إخال بعد البين تلاقيا ، قال تعالى «قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» الوارد في الآية ؟ ؟ ؟ من سورة السجدة في ج 2 ، أي الواجب عليهم العذاب بما جنت أيديهم ، وهم المعبودون والرؤساء الكافرون الذين كانوا يأتمرون بأمرهم ، وينتهون بنهيهم «رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا» أي أتباعنا الذين دعوناهم للغواية أَغْوَيْناهُمْ» باختيارهم ورضاهم لا بطريق القسر حتى تؤاخذ عليه ، وذلك أن الضال المضل له كفلان من العذاب ، كفل على ضلاله ، وكفل على إضلاله ، راجع تفسير الآيتين 25 و18 من سورة النحل في ج 2 ، لذلك تبرأوا منهم وعدوهم كأنفسهم بقولهم «كَما غَوَيْنا» نحن باختيارنا ورغبتنا «تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ» الآن إذ ظهر خطأنا فيه «ما كانُوا» هؤلاء «إِيَّانا يَعْبُدُونَ» 63 بل عبدوا شهواتهم راجع الآية 167 من سورة البقرة في ج 3 «وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ» من الأصنام والنجوم والنار والحيوان وغيرها «فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» لأن اللّه ختم على أفواه الناطقين منهم ولم يجعل قوة التكلم في الجمادات منها ، فأيسوا مما كانوا يتوقعونه من شفاعتهم «وَرَأَوُا الْعَذابَ» المهيأ لهم هناك على سوء أعمالهم وهؤلاء الخاسرون «لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» 64 في الدنيا لما حل بهم ذلك العذاب ولكنهم ضلوا فحاق بهم ضلالهم «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ» واذكر يا سيد الرسل لقومك يوم يسألهم في ذلك الموقف «فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ» 65 حين دعوكم إلى الإيمان ورفض الأوثان «فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ» خفيت عليهم(2/390)
ج 2 ، ص : 391
الأخبار واشتبهت عليهم الأعذار ووقعوا في حيرة «يَوْمَئِذٍ» يوم يلقى عليهم هذا السؤال «فَهُمْ» كلهم مشغولون بأنفسهم «لا يَتَساءَلُونَ» 66 بعضهم مع بعض عما وقع منهم بالدنيا ، بل يسكتون يعلوهم الذل والوجل رجاء أن تكون لهم حجة أو عذر عند اللّه يلقى في قلوبهم صورته ، لأن ذلك الموقف يذمل فيه كل الخلق ومنهم الأنبياء لشدة هوله ، فيفوضون فيه الجواب عما يسألون عنه إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة السؤال عنه ، فما ظنك بأولئك الضلال ؟ وقرىء فعميّت بالتشديد ، قال تعالى «فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً» في دنياه «فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» 67 في الدار الآخرة ، وعي هنا للتحقيق أي وجب أن يكونوا من الناجحين السعداء بفضل اللّه وحسن أعمالهم وأما من كان على العكس فوجب أن يكونوا من الخاسرين المعذبين بعدل اللّه وسوء أعمالهم «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ» من الأعيان والاعراض ، والوقف على يختار لا على يشاء وهو معطوف على يخلق ، فلا يخلق شيئا بلا اختيار ، وهو أعلم بوجود الحكمة فيما يختاره ، وهؤلاء المخلوقون كلهم «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» التّخير في شيء من أمرهم ، كالطيرة بمعنى النظير ، بل للّه الخيرة عليهم (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).
مطلب نفي الاختيار عن العبد :
هذا ، وفي ظاهر هذه الآية نفي الاختيار عن العبد رأسا كما يقوله الجبرية ومن أثبت للعبد اختيارا قال إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها اللّه تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم ، وهذا مذهب الأشعري على ما حققه الإمام العلامة الدّواني ، قال الذي أثبته الأشعري هو تعلق قدرة العبد وإرادته الذي هو سبب عادي لخلق اللّه تعالى الفعل فيه وإذا فتشنا عن مبادئ الفعل وجدنا الإرادة منبعثة عن شوق له ورغبة فيه ، وتصور له وقصد ، وهذا هو الاختيار ، والمعنى واللّه أعلم ، أن هؤلاء الذين يقترحون عليك الاقتراحات ويتمنون الأماني كما حكى اللّه عنهم في الآية 6 فما بعدها من سورة الفرقان المارّة وغيرها لا يليق بهم أن يتجاوزوا على اللّه ويتحكموا في طلباتهم لأن الكلام مسبوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه باللّه واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة ، كما يرمز إليه قوله آنفا (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ).
أما(2/391)
ج 2 ، ص : 392
ما قيل ان هذه الآية نزلت ردا على قول الوليد بن المغيرة (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الآية 31 من الزخرف في ج 2 فغير وجيه لأن هذه الآية لم تنزل بعد ولم يتفوّه بمقالته هذه بعد ، وكذلك ما قيل إنها نزلت ردا لقول اليهود : (لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به) كما سنفصّله في الآية 38 من سورة البقرة في ج 3 ، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق وليس بين اليهود وحضرة الرسول أخذ ورد في مكة ، ولا يصح جعل ما في قوله تعالى (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) موصولة باعتبارها مفعولا ليختار ، أي يجعل الوقف على ما يشاء والابتداء بقوله ويختار وتسليطه على ما باعتبارها مفعولة ، وعليه يكون المعنى ويختار الذي فيه الخير والصلاح لهم على أن يكون ذلك الاختيار بطريق التفضل والكره عند أهل السنة والجماعة ، وبطريق الوجوب عند المعتزلة ، بل ما في الآية نافية ، لأن اللغة لا تساعد أن تكون الخيرة بمعنى الخير ، ولأن قوله تعالى بعد «سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» لا يناسب المقام ، كما أنه لا يناسب ما قبله وهو (يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ) على الإطلاق لأن في حصره بالأصلح قيدا واللّه منزه عن القيد ، ولأن فيه حذف العائد إذا جعلت ما بمعنى الذي ، فيحتاج إلى ضمير يعود اليه ، إذ لاتتم الآية ، ولا يوجد ، ولمخالفته ظاهر الآية ، تدبر ، قال تعالى «وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ» تخفيه من عداوة لك يا محمد «وَما يُعْلِنُونَ» 69 منها فيما بينهم من قولهم هلا اختار اللّه غير هذا للنبوة ، قاتلهم اللّه ما كان لهم الخيرة من أمرهم ، فكيف يتمنون على اللّه الأماني ويعترضون عليه ، راجع تفسير الآية 134 من سورة الأنعام في ج 2 «وَهُوَ اللَّهُ» المستأثر بالإلهية والاختيار وحده وجملة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» تقرير لاختصاصه بها كقولك القبلة الكعبة لا قبلة غيرها ، لا كقولهم
الحج عرفة ، لأن عرفة معظم الحج لا كله وهذا الإله المنزّه المنفرد بالألوهية المتصرف بجميع ما في الكون ناميه وجامده ، جوهره وعرضه «لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى » أي الدنيا لأنها قبل الآخرة «وَالْآخِرَةِ» لكونها بعد الدنيا ، أما البرزخ الكائن بينهما فهو حاجز غير حصين لانتهائه بها ، ومن هذا الحمد قول السعداء في الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 33(2/392)
ج 2 ، ص : 393
من سورة فاطر المارة و(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية 36 من سورة الزمر في ج 2 وقوله آخرها (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذا الحمد على طريق التلذّذ لا التكليف لانتهائه بالآخرة «لَهُ الْحُكْمُ» القطعي بين الخلائق فيهما وحده لارادّ له ولا معقّب «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» كلكم أيها الخلق بعد الموت وتحضرون بين يديه بعد النشور لتفهيم هذا الحكم
فيا أكرم الرسل «قُلْ» لقومك الذين يتدخلون في ما لا يعنيهم «أَ رَأَيْتُمْ» أخبروني أيها الناس «إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً» مطّردا دائما لا نهار معه «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ» نهار تطلبون فيه معاشكم وتنتشرون فيه لمصالحكم «أَ فَلا تَسْمَعُونَ» 71 قول اللّه فتذعنون إليه وتؤمنون به.
قال بضياء ولم يقل بنهار كالآية الآتية إذ قابل النهار بليل ، لأن منافع الضياء لا تقتصر على التصرف بالمعاش والمصالح بل هي كثيرة ، والظلام ليس بتلك المنزلة ، لذلك قرن بالضياء السمع لأنه يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ، ووصف فوائده ، ونعت طرائقه ، وهو أفضل منه بدليل تقديمه على البصر في القرآن لأن الأصم لا يستفاد من مجالسته البتة ، بخلاف الأعمى ، وقرن بالليل البصر لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت ، قال تعالى «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً» لا ليل معه مستمرا متتابعا «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ» تنامون وتستريحون فيه من مشاق النهار وعناء التعب «أَ فَلا تُبْصِرُونَ» 72 هذه الشواهد العظيمة الدالة على قدرة الإله القادر ، فتقفوا على معانيها وتفهموا المراد منها وتتيقنوا أن لا أحد يقدر عليها غيره تعالى ، فيتّضح لكم خطأكم بعبادة غيره وترجعون إليه تائبين ، وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عما قبلها «وَمِنْ رَحْمَتِهِ» لكم «أن جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ» منقطعا عن النهار بقدر معلوم «وَالنَّهارَ» كذلك وجعلهما يتعاقبان بالظلمة والضياء «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» أي الليل «وَلِتَبْتَغُوا» في النهار «مِنْ فَضْلِهِ» لتأمين حوائجكم «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 73 نعم اللّه المتوالية عليكم فيها ، وتعرفون حق المنعم بها فتؤمنون به ، إذ لو جعل الظلمة متصلة والضياء متصلا لحرمتم منافع(2/393)
ج 2 ، ص : 394
ولذات كثيرة ، ولما استقام لكم أمر معاشكم.
وكلمة سرمدا لم تأت إلا في هذه السورة فقط ، ثم كرر النداء للمشركين زيادة في توبيخهم وتقريعا على إصرارهم لعلهم ينتبهون فينتهون بقوله «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ» على ملاء الأشهاد «فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» 74 تقدم تفسير مثله ، وإن زعم تتعدى لمفعولين كقوله :
وإن الذي قد عاش يا أم مالك يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا
وقد حذف في الآية هذه مفعولي زعم أيضا ، ولك أن تقول فيها كما هو في الآية 64 المارة.
مطلب في أنواع البديع التفسير ولمقابلة وقصة قارون :
وجاء في الآية 73 المارة من أنواع البديع اللف والنّشر المرتب ، ويسمى التفسير من أقسام المعنوي في تحسين وجوه الكلام ، ومنه المقابلة كقوله :
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
وجاء مثله في القرآن بقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ) لآخر الآيات من سورة والليل المارة ، قال تعالى «وَنَزَعْنا» أفردنا وميزنا وأخرجنا «مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم السالفة «شَهِيداً» يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم ونصحهم ، لأن الأنبياء هم شهداء الأمم فيما لهم عليهم يوم القيامة «فَقُلْنا لهم» أي نقول للأمم المكذبة يوم القيامة «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على أن للّه شريكا بينوا حجتكم على صحة دعواكم هذه وما كنتم تدينون به في الدنيا فصمتوا ، إذ لا دليل لهم على ذلك ولا امارة «فَعَلِمُوا» حينذاك «أَنَّ الْحَقَّ» في الإلهية كله «لِلَّهِ» وحده «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» 75 من دعوى الشرك ، وجاء الفعل هنا بالماضي لتحققه ، وهكذا كل ما هو محقق وقوعه ، وكرر جل شأنه اللائمة على المشركين ، لأنه لا شيء أجلب لغضبه من ادعاء الشرك ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من التوحيد ، قال تعالى «إِنَّ قارُونَ» بن يصهر بن قاهت «كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى » قيل هو ابن عمه ، لأن موسى بن عمران بن قاهت ابن لاوى بن يعقوب عليه السلام ، وكان عالما لا أقرأ منه في التوراة ، ولكنه نافق مثل السامري ، ومثل يهوذا الأسخريوطي من حواري عيسى ، وعبد اللّه بن(2/394)
ج 2 ، ص : 395
أبي بن سلول من أصحاب محمد ، راجع الآية 30 من سورة الفرقان المارة ، والآية 11 من سورة الأنعام في ج 2 «فَبَغى عَلَيْهِمْ» على بني إسرائيل لأنه كان عاملا عليهم «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ» الذهب والفضة المدّخرة «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ» مفاتح خزائنه إذا جعلته جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به ، وإذا جعلته جمع مفتح بفتحها فيكون مفاتحه خزائنه وهي المحال التي يدخر فيها المال ، وما موصولة في محل نصب بآتيناه ، وأن اسمها وخبرها وهو «لَتَنُوأُ» تثقل لا محل لها من الإعراب صلة الموصول وهو ما ، ولهذا كسرت إن هنا «بِالْعُصْبَةِ» الجماعة الكثيرة «أُولِي الْقُوَّةِ» لا الضعفاء ، والعصبة ما بين الثلاثة إلى الأربعين ، قال ابن عباس كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا ، وقال غيره على ستين بغلا ولا يزيد قدر الواحد على الإصبع ، فإذا كانت المفاتيح هكذا فما مقدار تلك الكنوز ؟ وإذا كان عاملا من عمال فرعون عنده هذا القدر فما هو مقدار الذي عند فرعون ؟ ومع هذا كله يناوئون اللّه.
فلذلك أخذهم ، واذكر يا محمد لقومك قصته «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ» بحطام الدنيا وتبطر على قومك وتمرح بملك ، فإنه زائل والفرح مذموم «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» الأشرين الذين لا يشكرون نعم اللّه ، قالوا له ذلك لما رأوا من زيادة تكبره وتعاظمه عليهم وإطالة ثيابه خيلاء ، قال تعالى (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) الآية 23 من سورة الحديد ج 3 لأنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها أما من يعلم أنه سيفارقها فلا يفرح بها ، ولقد أحسن أبو الطيب المتبني في قوله :
أشد الغمّ عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
وقال ابن شمس الخلافة :
وإذا نظرت فان بؤسا زائلا المرء خير من نعيم زائل
والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير ويقولون :
ولست بفرّاح إذا الدهر سرّني ولا جازع من صرفه المتقلب
هذا ويشير نفي محبة اللّه لمثل هؤلاء إلى بغضه لهم وكراهته إياهم ، لأن من لا يحبه اللّه يبغضه ، وينّبه إلى أن عدم المحبة كاف في الزجر عما نهى اللّه عنه(2/395)
ج 2 ، ص : 396
«وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ» من المال في هذه الدنيا «الدَّارَ الْآخِرَةَ» بأن تنفق منه لأجلها مرضاة الذي أعطاكه وشكرا لنعمه «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» كي تنجو من عذاب الآخرة.
مطلب في معنى النصيب وفوائد أخرى :
والنصيب هو حظّ الرجل من عمل الدنيا بلاغا للآخرة ، أي اعمل لآخرتك كما تعمل لدنياك ، وقيل النصيب هو الكفن ، وقيل فيه :
نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوّى فيهما وحنوط
وفي الحقيقة ان آخر ما يأخذه ابن آدم من ماله الذي جمعه من حلال وحرام بكدّ يمينه وعرق جبينه الذي يقدم غدا على المحاسبة عليه أمام الملك العلام هو الكفن وشيء من الطيب لا غير ، هذا ان قدر له الموت على الفراش ، وإلا فقد لا يحصل على ذلك ان مات غرقا أو حرقا أو أكله السباع ، فالسعيد من أمسك من ماله ما يكفيه وتصدق بالفضل لصلة رحمه وفقراء أمته ليدخر ثوابه في الدار الباقية ، لأن هذه زائلة لا محالة ولو عمّر فيها ما عمر وقبل في المعنى :
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول
والقول الفصل ما قاله سيد الرسل : عش ما شئت فإنك ميت ، واحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
وروى عمرو بن يموت المازني عنه صلّى اللّه عليه وسلم قال اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ، وهذا الحديث مرسل لأن عمر هذا لم يلق النبي صلّى اللّه عليه وسلم : ألا لا يغتر ابن آدم بالخمس الأول ، فهي وبال عليه إذا لم يصرفها إلى التي خلقت إليها «وَأَحْسِنْ» إلى خلق اللّه مما تفضل به عليك «كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» لتكون من الشاكرين إحسانه فيزيدك إحسانا «وَلا تَبْغِ» وإياك أن تسعى فتطلب «الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ» لتظلم الناس وتطغى عليهم بسبب نعم اللّه ، فتتعالى وتترفع عليهم فيسلبها اللّه منك قال صلّى اللّه عليه وسلم أشكروا النعم لا تزدروها.
وفي رواية لا تكفروها.
فإنها إن زالت هيهات أن تعود ولذا قالوا بالشكر تدوم النعم.
ومن أقبح القبائح أن تستعمل(2/396)
ج 2 ، ص : 397
نعم اللّه في معصيته ، لأنه جل جلاله تفضل على عباده كي يشكروه ويتفضلوا على عياله الفقراء ، لا أن يبغوا بما تفضل عليهم ، قال تعالى في الحديث القدسي :
الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي ، فإن بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي.
ولهذا البحث صلة في الآية 11 من سورة لقمان في ج 2 فراجعه ألا فلينتبه الغافلون المغرورون ليعلموا أنهم ليسوا بأفضل من الفقراء عند اللّه ، وأن اللّه لم يخصهم بالغنى لفضلهم بل ليختبرهم هل يصرفونه مصارفه أم يبخلون به ، كما اختبر ثعلبة الآتي ذكره في الآية 76 من سورة التوبة في ج 3 اما يحمد اللّه هذا الغني ان أغناه اللّه وجعله من المتصدقين على عباده ألا يخشى أن يفقره اللّه ويحوجه للسؤال من الغني ، أما يسرّه أن تكون يده العليا وقال صلّى اللّه عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» 77 في الأرض بظلم أهلها والتسلط عليهم وتشعر عدم المحبة لهذا الصنف بغضبه عليهم وكراهته إياهم ، وهكذا فلا تجد آية صرح اللّه بها بلفظ البغض البتة ، فتعلموا أيها الناس الأدب من أقوال اللّه ورسوله ، فبدل أن تقول لأخيك كذبت قل له غير صحيح ، أو ليس الأمر كذلك ، فهو أدوم للمحبة وأعف للّسان وأطهر للقلب.
واعلم أن الذي لا يحبه اللّه فهو مكروه عنده مبغوض عند خلقه.
وإلى هنا انتهت نصيحة قوم قارون له ، وانظر إلى غروره وطيشه في جوابه لهم «قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ» أي ذلك المال الكثير ليس كما تقولون ، وإنما كان «عَلى عِلْمٍ» عظيم «عِنْدِي» علمنيه ؟ ؟ ؟ اللّه وفضل استوجبت فيه التفوق عليكم ، فكان ذلك استحقاقا لي فردّ اللّه تعالى عليه بقوله عز قوله «أَ وَلَمْ يَعْلَمْ» هذا الخبيث «أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ» من القرون الماضية مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً» على جمع المال وعلما في استخراج الفضة والذهب من المعادن الأرضية واسترباحها في الأعمال والتجارات وتعاطي الحرف «وَأَكْثَرُ جَمْعاً» للأموال منه ولم يدع دعوته هذه ، وأراد الملعون بالعلم علم الكيمياء لأنه كان ماهرا فيها ، إذ يستخرج من الرصاص الفضّة ومن النحاس الذهب ، وكان حاذقا في نموّ المال ، ولهذا ظن أنه أهل لذلك فأعطاه اللّه المال بفضله عليهم ولم يعلم أن تعليمه ذلك كان بتقدير اللّه إياه عليه ، ولو لا ذلك لما قدر أن يسقي(2/397)
ج 2 ، ص : 398
نفسه جرعة ماء ، ولكن من غرّه عمله غاب عنه زلله والعياذ باللّه ، وما قيل إنه أراد بالعلم علم التوراة قيل لا قيمة له ، لأنه لو أراد ذلك لما افتخر به على قومه وتفوق عليهم ، لأن فيهم من يعلمها مثله ، ولو كان ، لساقه علمها إلى التواضع ولين الجانب وكثرة الإنفاق ومكارم الأخلاق لأنها هدى ونور أنزلها اللّه على موسى وقومه ليهتدوا بها وينتهوا عما تحلى به قارون من الكبرياء والعظمة ، فكان مجرما عند اللّه تعالى بذلك «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» 78 بل يدخلهم النار رأسا من غير حاجة إلى السؤال والاستعذار.
قال تعالى (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) الآية 36 من المرسلات المارة ، ولا عذر لهم بعد تحقق توغلهم بالجرمية ، فهم معروفون بأعمالهم ، قال تعالى (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) الآية 41 من سورة الرحمن في ج 3 أي بعلائهم فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم ويطرحون في النار ، لأن جوارحهم تنطق بما عملوه في الدنيا قال تعالى «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» يوم عيده مزينا باللباس الباهر متحليا بأنواع الأوسمة المرصعة بالجواهر راكبا على بغلة موشىّ سرّجها بالذهب والدر ، وعن يمينه وشماله وخلفه سبعون الفا من الخدم والجواري ، وكلهم مزيّن بأنواع الحلي ومرتد أحسن الثياب ، لا يرى الرائي أحسن منهم في زمنهم ، فلما رأى الناس موكبهم الفخم انقسموا قسمين ، بين للّه الأخس منهما يقوله حكاية عنهم «قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا» قبل كانوا مسلمين ، ولكن قالوا ما قالوا على سبيل الرغبة في اليسار كعادة البشر «يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ» من زخارف الدنيا وبهجتها «إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» 79 فيها إذ أوتي مما لم يؤت أحد مثله لما بهر عقولهم من عظمة ما رأوا من أمارات العز ، ثم بيّن اللّه تعالى الأحسن منهما بما حكى عن حالهم بقوله جل قوله «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» بما وعد اللّه المتقين في الآخرة لأولئك المتمنين «وَيْلَكُمْ» بما قلتم وتمنيتم ، وهذه كلمة دعاء بالهلاك ثم استعملت للردع والزجر عن ترك غير المرضي ، وهو منصوب محلا أي ألزمكم اللّه الهلاك ، ان هذا الذي ترونه عند قارون ليس بشيء محمود عاقبته ، وهو فان ولكن «ثَوابُ اللَّهِ» الدائم في الآخرة «خَيْرٌ لِمَنْ(2/398)
ج 2 ، ص : 399
آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً»
في
دنياء مما أوتي قارون وآله من الزخرفة ، فاصبروا على ما أنتم عليه فالصبر فضيلة عظيمة عند اللّه «وَلا يُلَقَّاها» أي خصلة الصبر المترتب عليها ثواب اللّه «إِلَّا الصَّابِرُونَ» 80 صبرا حقيقيا لا لسمعة أو رياء بل صبر محض مبرأ من جميع شهوات الدنيا الخسيسة ، فهم الراضون بما قسم اللّه لهم في هذه الدنيا الزائلة من القليل المتيقنون أن ثواب اللّه خير.
وانظر إلى فعل اللّه بمن يشاركه في كبريائه ولا يسمع قول أوليائه
قال تعالى «فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ» التي فيها خزائنه «الْأَرْضَ» فابتلعتها معه لأنه لم يسند نعمه إلى منعمها ، لذلك لم يمتعه بها إلا قليلا وسيرى وبالها غدا لأنه ظن أن علمه أهله لها فلينجه علمه من هذا الخسف ، والخسف الذهاب في الأرض ، يقال خسف المكان أي ذهب في الأرض ، وخسف القمر زال ضوء.
وعين خاسفة إذا عدمت حدقتها قال تعالى «فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لا من كان يمشي خلفه ولا غيرهم من جماعته يقدر على حفظها من الخسف الذي حل به أو يحول دونه «وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ» 81 لنفسه فيخلصها ، ولم يكن له عمل صالح فيكون سببا لإنقاذه ، ثم ذكر حال وشأن الفريقين المذكورين أعلاء فقال عز قوله «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ» اليوم الكائن قبل يومك أي قبل الخسف الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إلخ ، يقولون «وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ» يضيق ويوسع على من يشاء ، وكلمة وي يقولها النادم على الخطأ الذي وقع منه إظهارا لندمه واعلاما بذلك الخطأ على طريق التعجب «لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا» بما تمنيناه من حالة قارون كما خسف به «وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» 82 بنعم اللّه ولا ينجون من عذابه ، قالوا هذا مظهرين الندم على ما فرط منهم من التمني.
مطلب كلمة ويكأن وقصة قارون :
هذا وقد كتبت وي هنا متصلة بكأن لكثرة الاستعمال وإلا فهي كلمتان وي للتعجب وكأن للتشبيه ، والقياس أن تكتب منفصلة بعضها عن بعض لجواز الوقف عليها ، وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل : (2/399)
ج 2 ، ص : 400
وي كأن من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
وقال الأخفش : الكاف متصلة بها وهي مع الكاف اسم فعل بمعنى أعجب ، والوقف على الكاف منها أي على ويك ، وعليه قول عنترة :
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر اقدم
وذهب السكاكي إلى أن أصلها ويلك وخفّفت بحذف اللام ، فبقيت ويك ، وهي للردع والزجر وللبعث على ترك ما لا يرضي.
وقال أبو حيان هي كلمة تحزّن وأنشد في التحقيق قوله :
ألا ويك المضرة لا تدوم ولا يبقى على البؤس النعيم
وعلى هذا يكون الكاف في موضع جرّ بالإضافة والعامل في أن بعدها على هذا الوجه والوجه الذي قبله فعل العلم المنصور ، أي أي أعلم أن اللّه بسط إلخ ، واعلم أنه لا يفلح إلخ ، لأن أن بعدها مفتوحة الهمزة ، أو بتقدير اللام أي لأن إلخ ، على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك.
وحكى ابن قتيبة أن معى ذلك رحمة لك بلغه حمير.
وقال الفراء ويك بلغة العرب كقول الرجل ألا ترى إلى صنع اللّه تعالى ؟ وقال أبو زيد وجماعة معه ويكأن حرف واحد بجملته ، وهو بمعنى ألم تر ، وهذه رواية عن ابن عباس.
فعلى من يستعمل هذه الكلمة أن لا يتعدى في معناها ولفظها ما ذكرناه ، لأنا لم نبق زيادة لمستزيد.
وخلاصة قصة قارون على ما ذكره ابن عباس وغيره أنه لما نزلت الزكاة على سيدنا موسى بأنها عشر المال صالح قارون على أن يعطيه في كل ألف دينار دينارا ، وفي كل ألف درهم درهما وفي كل ألف شاة شاة ، وهكذا من كلّ ما عنده ، وذلك بأمر اللّه تعالى لعلمه عز وجل أنه لا يعطي شيئا ، وقد جاراه سيدنا موسى عليه السلام على ما أراد لتحق الكلمة عليه ، فبعد أن رضي حاسب نفسه ، فإذا هي شيء كثير بالنسبة لما عنده ، فلم تسمح نفسه بإعطاء شيء ، ولما علم أن موسى ليس بتاركه جمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى يريد أخذ أموالكم بعد أن أطعتموه في كل شيء وقد أتاهم الخبيث من جهة المال لعلمه بشدة حرصهم عليه لينال قصده ، فقالوا أنت كبيرنا فأمرنا بالذي تراه ، قال ائتوني بالباغية فلانة ، فجاءوا بها حالا ، فجعل لها ألف دينار(2/400)
ج 2 ، ص : 401
وألف درهم وطستا من ذهب على أن تقول زنى بي موسى ، وتعهد لها بأنها إذا قالت ذلك على ملأ الناس لموسى يجعلها كسائر نسائه فطمعت بذلك ورضيت ، ثم قال للذين معه إذا تم هذا الأمر على رءوس الأشهاد فإن بني إسرائيل تخرج عليه ويرفضونه وأبقى لكم أنا أفيض عليكم من مالي.
وهذا كله من حب نفسه الخبيثة رئاسة والمال حسدا لموسى عليه السلام ، وكان نقم عليه قبلا بسبب جعل هرون رئيسا للأحبار على رئاسة المذبح للقرابين ، ولم يجعل له شيئا مع أن موسى لم يجعلها أخيه إلا بأمر اللّه ، ولأنه أقسره على إعطاء الزكاة ، وهو قد استكثرها وبخل ؟ ؟ ؟ اللّه بها واستغل خبثه أملا بأخذ الرئاسة له وحبّا بالدنيا مع أنه لو عاش ما عاش ؟ ؟ ؟ نوح عليه السلام وأكل الذهب والفضة لما نقذ ما عنده ، وهو أكبر رئيس من جهة دنيا لكثرة ما عنده (قال سهيل ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح أبدا ، والسعيد من عرف بصره عن أقواله وأفعاله ، وفتح له سبيل رؤية منّة اللّه عليه في جميع الأحوال ، والشقي من زين له في عينيه أقواله وأفعاله وأحواله ، ولم يفتح له سبيل ؟ ؟ ؟ منّة اللّه عليه فافتخر بها وادعاها لنفسه فيهلكه شؤمه كما صار في قارون ، ؟ ؟ ؟ ثم جمع قارون بني إسرائيل وأتى بهم إلى موسى ، وقال له إنهم أتوا لتأمرهم ؟ ؟ ؟ تنهاهم ، فخرج إليهم وقام بعضهم فقال من جملة ما قال من سرق قطعنا يده ، من افترى جلدناه ثمانين جلدة ، ومن زنى وليست له امرأت جلدناه مئة جلدة ، من زنى وله امرأت رجمناه إلى أن يموت ، قال قارون نازعا جلباب الحياء لأدب متلبسا بالجرأة والقسوة : وإن كنت أنت يا موسى ؟ قال وإن كنت ؟ ؟ ؟ قال فإن بني إسرائيل وأشار إلى جماعته يزعمون أنك فجرت بفلانة الباغية ، ؟ ؟ ؟ ادعوها وأخذه الغضب ، فجاءت ومثلاث أمامه وهم من بين يديها ومن خلفها ؟ ؟ ؟ على القول ويمنونها بما تعهد به لها قارون ، فقال لها أنشدك باللّه الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل لهم التوراة إلا صدقت
فتداركها اللّه وحفّها لتوفاق وقالت في نفسها إني أحدث توبة للّه أحسن مما وعدنيه قارون من المال لعزّ ، فتقدمت وقالت بصوت عال لا واللّه حاشا موسى ، ولكن قارون جعل جعلا على قذفه ووعدني أن أقول إنه فجربي ، أما وقد خلفتني يا موسى(2/401)
ج 2 ، ص : 402
فأنت براء طاهر زكي.
فخرّ موسى ساجدا للّه يبكي ويقول اللهم ان كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى اللّه إليه اني أمرت الأرض أن تطيعك فافعل فيه ما تريد ، فقال يا بني إسرائيل من كان مع قارون فليثبت معه ومن كان معي فليعتزل عنه.
ولما عرفوا أن الغضب أخذ مأخذه منه ، خافوا وتركوا قارون والتحقوا بموسى ولم يبق مع قارون إلا رجلان ، ثم قال يا أرض خنيهم ، فأخذتهم إلى أقدامهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وهم في كل هذا يبكون ويستغيثون ويناشدون موسى اللّه والرحم ويتضرعون له وهو لم يلتفت إليهم ، ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض ، فأوحى اللّه إلى موسى ما أغلظ قلبك يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تغثه ، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرّة واحدة لأغثته ، ولا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد ، ثم أصبح بنو إسرائيل الخبثاء النذلاء سيئي النية غليظي القلوب ، كافري النعم ، يقولون إنما دعا موسى على قارون ليستبد بأمواله ، فسمع موسى فدعا اللّه فخسف بداره وأمواله كلها.
هذا وإن اللّه تعالى أراد هذا بقارون ورفيقيه ولو لم يرد لوفقهم بالاستغاثة به والتوبة النصوح.
وأقول ما أغلظ قلوبهم أجمعوا على عبادة العجل وهم يعلمون أنه من صنع السامريّ وهو خبيث منافق منهم ، وأجمعوا على عدم الأخذ بالتوراة حتى رفع فوقهم الجبل وأراد أن يسقطه عليهم وهي رحمة لهم ، وأجمعوا على قذف موسى وقد بعث لخلاصهم من الرق ، وحينما نجّاهم اللّه من البحر وأغرق فيه أعداءهم رأوا قوما يعبدون الأصنام فأجمعوا على قولهم لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وأرجلهم لم تجف بعد من ماء البحر الذي خلقه اللّه معجزة لهم ، وأجمعوا على إنكار معجزات كثيرة أظهرها كالشمس في رابعة النهار ، ثم هم يجمعون على أن موسى إنما فعل ما فعل بقارون بقصد الاستيلاء على أمواله ، قاتلهم اللّه أنى يؤفكون : قال قتادة خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة ، واللّه أعلم بصحة ذلك ، لأنه مشكل إذا صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض الذي سنبينه في الآية(2/402)
ج 2 ، ص : 403
الأولى من سورة الإسراء الآتية في المعجزة الخامسة والثمانين.
وأما الخسف فلا شك فيه ومنكره كافر.
هذا أيها العاقل الكامل مصير الدنيا بأهلها ، أما الآخرة فاسمع ما يقول اللّه تعالى فيها «تِلْكَ» التي مرّ وصفها غير مرّة هي «الدَّارُ الْآخِرَةُ» الباقية الدائمة ذات الجنات والنعيم الدائم والصحّة والأمان «نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ» على غيرهم ترفعا وتكبرا «وَلا فَساداً» في هذه الدنيا كقارون وأضرابه بل للذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين يعملون لعاقبتهم «وَالْعاقِبَةُ» المحمودة «لِلْمُتَّقِينَ» 83 اللّه في الدنيا المتباعدين عن لأحوال المذمومة كالظلم والعسف والخيلاء والتجبر ، الذين يأبون الأعمال السيئة وينكبون على الأعمال الصالحة لأنهم علموا أن «مَنْ جاءَ» ربه يوم القيامة «بِالْحَسَنَةِ» الواحدة «فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها» عشر أمثالها إلى سبعمئة ، واللّه يضاعف لمن يشاء «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ» في دنياهم ولم يقلعوا عنها «إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» 84 أي بمثلها فقط ، وهذا من لطف اللّه بعباده جلّت رأفته ، فإنه لم يذكر للسيئة جزاء أكثر منها ، وقد ذكر للحسنة جزاء بما لا حدّ له فنعم الرب رب العالمين.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال : إن اللّه كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها اللّه له حسنة كاملة ، وان هم بها فعملها كتبها اللّه عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وان هم بسيئة فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنة عاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها اللّه سيئة واحدة.
فانظر يا أخي وفقني اللّه وإياك على عظيم فضل ربك ولطفه ، وتأمل هذه الألفاظ لأن قوله (عنده) إشارة إلى الاعتناء بها وقوله (كاملة) للتأكيد وشدّة الاعتناء ، وقوله في السيئة التي هم بها ولم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة ، فأكدها أيضا لأنه إنما تركها خوفا من اللّه مكافأة بذلك ، وان عملها كتبها سيئة واحدة فأكدها لتقليلها ولم يؤكدها بكاملة له الحمد والمنّة هو أهل الثناء والمجد ، سبحانه ما أرحمه بعباده وأكرمه على عباده هذا أول الآيات المدنيات قال تعالى «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ»(2/403)
ج 2 ، ص : 404
أوجب تلاوته عليك وهو اللّه ربك الذي تكفلك «لَرادُّكَ» كما أخرجك من بيتك «إِلى مَعادٍ» وأيّ معاد لا
يكون مثله لغيرك ، قال ابن عباس إلى مكة ، وأخرجه البخاري عنه وقال البلقيني معاد الرجل بلده لأنه يعود إليه وأطلق المعاد على مكة لأن العرب تعود إليها في كل سنة ، قال الدواني في كتاب العود حدثني عبد اللّه قال حدثني أبي قال حدثني علي بن الحسين عن أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام قال : بلغني أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم حين نزل عليه جبريل.
عليه السّلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها ؟ قال نعم ، فأنزل اللّه (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ) إلخ وهذا وعد من اللّه إلى نبيّه بإعادته إلى بلده في الدنيا والآية التي قبلها تضمنت له الوعد بالعاقبة الحسنى بالآخرة ، صرّح حضرة الرسول لأخيه جبريل بأنه مشتاق إلى وطنه ، ولم يمض على مفارقته له ثلاثة أيام ، لأن هذه الآية نزلت بعد الخروج من الغار بالمحل المذكور بين مكة والمدينة ، وهذه أول بشارة من اللّه له وأول خير أخبر به بسبب الهجرة الشريفة التي جعلها اللّه فاتحة لفتح البلاد وإيمان العباد ، ونصرة الدين ، ولهذا المغزى روي حب الوطن من الإيمان ، فكان صلّى اللّه عليه وسلم يكثر من قوله الوطن الوطن ، قال عمر لولا حب الوطن لخرب بلد السوء ، أي أن أحدا لا يسكن إلّا بالأحسن ، فينشأ منه خرابه ، وتترك البلاد الرديئة المناخ والقرى البعيدة عن العمران ، وتنقطع فائدة الارتباط ويحرم الناس من خير كثير ، إذ قد يوجد فيها ما لا يوجد في المدن الكبرى من خيرات ومعادن ، مما يحتاجه البشر ، لهذا فإنه جل شأنه غرز في قلوب عناده محبة أوطانهم مهما كانت ، وحبب كل محل لأهله بحيث يخيرونه على غيره ، ولا يركنون إلا إليه ، حتى أن أهل القرى الآن لمّا يأتون إلى المدن لا يطيب لهم النوم بها مع أنها أحسن وألطف من قراهم ، وفيها ما لا يوجد عندهم ولا يعرفونه فتراه يصرف جهده لإنجاز عمله ليذهب فينام عند أهله ولو كان الوقت ليلا أو حرا أو بردا ، لحكمة أرادها اللّه ، ولهذا فإن كل خلق يحن إلى وطنه الذي ولد فيه ، وجعل ذلك طبيعة غريزية في خلقه ، فترى الإبل تحن إلى مراحها ، والطير إلى وكرها ، والوحش إلى كناسها ، (2/404)
ج 2 ، ص : 405
والحيتان لمياهها ، والإنسان لوطنه ، ولو كان نفعه ورزقه في غيره ، فالسعيد من يوطن نفسه في حب اللّه وللّه در القائل :
لكل شيء إذا فارقته عوض وليس للّه إن فارقت من عوض
هذا ، وهناك أقوال كثيرة في معنى المعاد ، منها المقام المحمود لأنه المعاد الدائم لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، ومنها أنه الجنة ، ومنها أنه بيت المقدس لوقوع الإسراء منه ، ومنها أنّه المحشر لتسميته به ، وهو لا بد لكل أحد من الحضور فيه ، ومنها ، ومنها ، فقد صرفنا النظر عنها واخترنا ما عليه الجمهور منها قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين اضطرّوك للخروج من بلدك قسرا بزعمهم أنك ضللتهم وآلهتهم «رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى » يعني نفسه صلّى اللّه عليه وسلم «وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 85 يعني هم القائلون له إنك لفي ضلال عما كان يعبده آباؤك ، قال تعالى «وَما كُنْتَ تَرْجُوا» يا أكرم الرسل «أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ» من ربك ولا كنت تظنّه ولا تتصور أن نرسل إليك عبدنا جبريل بوحينا دون سائر الناس «إِلَّا رَحْمَةً» عظيمة خصصت إلقاءه إليك «مِنْ رَبِّكَ» تفضلا منه بما قدره إليك في أزله «فَلا تَكُونَنَّ» بعد أن شرفناك بوحينا وأقمناك خليفة في الأرض عنا «ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» 86 بي وبك وبه فتعاونهم على ما يريدون ، ولا شك أن حضرة الرسول يعلم به ربه أنه لا يؤازر الكافرين ، ومن المحال أن يخطر بباله ذلك ، كيف وهو منصرف إلى ربه بكلّيته ، وقد عادى أقاربه وقومه من أجله.
وان ظاهر هذا الخطاب وان كان منصرفا له صلّى اللّه عليه وسلم ، لكن المراد به غيره ، وهذه الآية نزلت على أثر دعاية المشركين له أن يرجع لدين آبائه كي يناصروه ويظاهروه ويعينوه ويملكوه عليهم ولما لم ينجع به ما حاكوه في دار الندوة بأن يقتلوه أو يخرجوه أو يجسوه ، وهاجر على أثر هذا كما سيأتي تفصيله في بحث الهجرة آخر سورة العنكبوت في ج 2 ، فنزلت هذه الآية بالمحل المار ذكره ردا على ذلك ، وفيها إشارة بأن اللّه تعالى هو ظهيره على قومه الذين أخرجوه ، ومؤازرة لنصرته عليهم ورجوعه لبلده ، وإذ لم يؤمر بعد بقتالهم أشار إليه بأن أعرض عنهم وعن معاونتهم «وَلا يَصُدُّنَّكَ»(2/405)
ج 2 ، ص : 406
مكرهم وكيدهم وتخويفهم لك «عَنْ آياتِ اللَّهِ» والعمل بها «بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ» بعد زمن إنزالها ، لأن إذ يضاف إليه أسماء الزمان كقولك يومئذ ووقتئذ وساعتئذ «وَادْعُ إِلى » توحيد «رَبِّكَ» وعبادته كافة الناس «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 87 وحاشاه وهو مجتهد بالدعاء إلى توحيده ورفض الشرك وهو معصوم من أن يدعو إلى غير ربه وان المراد تحذير قومه ونهيهم وتذكيرهم بذلك وإلهاب قلوبهم إلى طاعة ربهم ، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث وفي عصمة الأنبياء في سورة طه الآية 121 المارة بصورة مفصّلة ، فراجعه ترشد إلى ما يحوك في صدرك من هذا واللّه ولي التوفيق.
وهو الهادي إلى أقوم طريق وأعلم أن أصل فعل يصدنّك يصدوننّك ، ولذا لم يفتح آخر الفعل مع أنه متصل بنون التوكيد الموجبة لذلك ، لأن الضمير للجمع فلو كان للواحد لفتح ، وقد حذف من نون الرفع.
لدخول لا الناهية عليه ، وحذف الواو لالتقاء الساكنين ، أي أعرض عنهم ، لا يمنعنك يا أكرم الرسل ما تراه من عربدتهم «وَلا تَدْعُ» على أن الخطاب له صلّى اللّه عليه وسلم ، وعلى أن الخطاب لغيره يكتب ولا تدعوا أيها الناس «مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» لأنه هو وحده المنفرد بالإلهية ، له الخلق والأمر الواحد القهار «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» ولا رب غيره ، فعليكم أيها الناس بالانكباب على عبادته.
هذا ، وأرى أن الأجود في هذا الخطاب أن يكون عاما لكل البشر ، وأنما جاء بلفظ المفرد خطابا لحضرة الرسول تعظيما لشأنه ، لأنه هو المبلّغ لأمته كلام ربه ليكون أكثر وقعا في قلوب الناس ، والعصمة لا تمنع النهي ، وهنا يلزم الوقف على كلمة آخر ، لان وصلها بما بعدها يصيّر ما بعدها صفة لها ، وفيه من الفساد ما لا يخفى ، ولذلك أوجب العلماء قراءة علم التجويد وحذروا من لا يعرفه من أن يخطىء في كلام اللّه فقال :
والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم
لأن من لازم علم التجويد معرفة الوقف ، وأنت خبير كم من وقف بغير محله يغير المعنى ، وكم من وصل يفسده ، قال صلّى اللّه عليه وسلم في دعائه (وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني) فإذا كان حضرة الرسول يدعو ربه أن يوفّقه لأن يقرأ(2/406)
ج 2 ، ص : 407
القرآن على الوجه الذي يريده ربّه وهو أعلم الناس به فكيف بنا نحن ؟ اللهم وفقنا لهداك وأرشدنا لفهم كلامك ووفق أمة نبيك أن يتعلموا ما به ليفهموه.
ولنا رسالة في علم التجويد تكفي من يطلع عليها لمعرفته صغيرة الحجم كثيرة العلم ، واسمها (أحسن البيان في تجويد القرآن) فعليكم أيها الناس بما يصلح معادكم قبل أن تهلكوا و«كُلُّ شَيْ ءٍ» من مكونات اللّه تعالى «هالِكٌ» لأن مصيره إلى الزوال والاندراس «إِلَّا وَجْهَهُ» ذاته المقدسة ، وحاشاه وهو الدائم الباقي الذي لا يحول ولا يزول «لَهُ الْحُكْمُ» فصل القضاء بين خلقه مختص به وحده ، وهو الحاكم العدل في الدنيا والآخرة «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 88 أيها الناس ، فيقضي بينكم قضاء مبرما لا مغيّر ولا مبدل له ، وهناك في تلك الدار الباقية يجزى الخلق حسما يفصل بينهم.
لأهل الخير جنات ونعمى وللكفار إدراك النكال
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه العظيم ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة الإسراء
عدد 50 - 17
نزلت في مكة بعد سورة القصص ، عدا الآيات 26 و32 و33 ومن 74 إلى 80 فإنهنّ نزلن بالمدينة ، وهي مئة وإحدى عشرة آية وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة ، وثلاثة آلاف وأربعمائة وستون حرفا ، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به ، ومشتقاته ذكرناها أول سبّح اسم ربك المارة.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى : «سُبْحانَ» ابتدأت هذه السورة بهذا اللفظ وهو علم على التسبيح تقول سبحت تسبيحا ، فالتسبيح مصدر وسبحان علم عليه ، ولذلك تسمى سورة سبحان كما تسمى سوره بني إسرائيل والإسراء ، ومعناه تنزيه اللّه تعالى عن كل ما هو من شأن البشر وأحواله ، ومعناه لغة التباعد ، وعليه يكون المعنى بعد اللّه ونزاهته القصوى عن كل ما لا ينبغي ، لأنه تعالت عظمته ليس كمثله شيء «الَّذِي أَسْرى » وسرى بمعنى واحد ، يقال(2/407)
ج 2 ، ص : 408
أسرى به وسرى به ، ولا يقال صرى وأسرى إلا إذا كان المسير ليلا «بِعَبْدِهِ» محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وأضافه لنفسه اضافة تشريف وتبجيل وتعظيم ، لأنه صلّى اللّه عليه وسلم بلغ في هذا الإسراء أعلى الدرجات ، ودنا من أرفع المراتب ، وعلى ما لم يعلو عليه أحد روي أنه أوحي اليه بم شرفتك يا محمد ، قال بنسبتي إليك يا رب بالعبودية ، فأنزل اللّه هذه الآية العظيمة «لَيْلًا» والفائدة من ذكر كلمة ليلا مع أنه يغني عنه لفظ أسرى فضلا عن معلوميّته بمقتضى اللفظ ، هو تقليل مدة الإسراء الذي يدل عليه تنكير كلمة ليلا مع عظم ما وقع فيها من المعجزات الآتية الذكر وغيرها ، وإنما خص الليل لمزيد الاحتفال به صلّى اللّه عليه وسلم لأنه وقت الخلوة والاختصاص ومجالة الملوك ، ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلا إلا من هو جليل عنده ، وهو أصل النهار والاهتداء به للقصد أبلغ ، ولأن المسافر قد يقطع بالليل مالا يقطعه بالنهار ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل مالا تطوى بالنهار : وجاء في المثل (عند الصباح يحمد القوم السري) وقد أسرى به ذهابا وإيابا ببعض الليل مسافة شهرين في الأرض «مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» مكة المكرمة «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» البيت المقدس ، وسمي أقصى إذ لم يكن إذ ذاك وراءه مسجد ، أما الآن والحمد للّه فصار وراءه وبينهما مساجد كثيرة ، وأمامه ويمينه وشماله إلى أقصى الجهات المعمورة ، وفي أعظم البلاد الأجنبية التي تبعد عن مكة أشهرا ، فلم تبق قارة إلا وفيها مساجد للمسلمين «الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» من جميع أطرافه بركة دينية معنوية ، وهي جعله مهبط الوحي وكفات الأنبياء ومقرهم وقبلتهم وبركة دنيوية حسية بالأنهار والأشجار ، وهو القبلة الأولى واليه محشر الخلائق ، وقد أسرينا بمحمد هذا الإسراء البديع وشرفناه بهذا التشريف الذي لم يكن لأحد من قبله «لِنُرِيَهُ
مِنْ آياتِنا» البديعة وعجائب قدرتنا المنيعة ، ونشرفه بمقامنا العظيم ، ونسرّه بكلامنا الجليل ، ونمتّعه بأشياء كثيرة ، ونتجلى عليه بذاتنا الكريمة ، واعلم أن لفظ كريم أفضل من غيره من الصفات الممدوحة التي يوصف بها ، إذ اختاره لذاته المقدسة دون غيره ، وهو أعلم بما يوصف به نفسه وما هو أليق بذاته المقدسة ، ولذلك وصفه بها ، قال تعالى : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)(2/408)
ج 2 ، ص : 409
الآية 3 من سورة العلق ، وقال تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 6 من سورة الانفطار ، ولا تجد وصفا في القرآن للقرآن أو الملائكة أو للجنان أو لمطلق كتاب أو للثواب أو للرسل أو للعرش إلا بلفظ كريم ، ولم يصفه الأنبياء إلا بهذا الوصف ، مثل قولهم (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) الآية 40 من سورة النمل المارة ، وقال (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) كررها مرتين في سورة الرحمن ج 3.
وأعلم أنه لا يقال إن إبراهيم أفضل من محمد عليهما الصلاة والسلام لقوله تعالى في حقّه :
(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية 75 من سورة الأنعام في ج 2 ، لأن هذا الملكوت الذي رآه إبراهيم من بعض الآيات التي أراها اللّه إلى محمد وآيات اللّه لا تحصى ، وأفضاله لا تستقصى ، وإن سيدنا محمدا هو أفضل الأنبياء والرسل والملائكة على الإطلاق ، وقد أجمعت الأمة على تفضيله وعليه قولهم :
وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا فمل عن الشقاق
ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا الزمخشري إذ يقول إن جبريل أفضل منه ، وهذا من جملة خلافياته وانشقاقه على أهل السنة والجماعة التي رجع عنها أخيرا كما يفهم من قوله :
يا من يرى مدّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في لحمها وإلخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه في الزمان الأول
وما قاله بعض المغالين في حقه بأنه أراد بتوبته هذه عن الزمن الذي كان فيه قبل الاعتزال بعيد عن الحقيقة ، ولفظ قوله هذا ومغزاه ينفيه ، عفا اللّه عن الاثنين ، «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لكل شيء يسمع أقوال عبده عند تشرفه به ، ويجيب دعاءه حينما يدعوه ، وهو أكرم من أن يرد أحدا فضلا عن الأنبياء الكرام «الْبَصِيرُ» 1 بشأنه المسدد لأفعاله وأعماله وأقواله ورموزه وإشاراته ، قال تعالى في هذه الآية أسرى وباركنا على طريق الغيبة ثم قال إنه هو على طريق التكلم التفاتا ، وهذا من أبواب المعاني والبديع بالكلام ، ومن طرق البلاغة والفصاحة ، وفي كلمة سبحان المصدرة بها هذه الآية معنى التعجب ، لأن عروج الشيء الكثيف إلى العلو وخرقه له مما يتعجب منه ، وقدمنا البحث في جواز الخرق والالتئام على سبيل خرق العادة(2/409)
ج 2 ، ص : 410
في الآيتين 38/ 40 من سورة يس وفي الآيتين 18/ 42 من سورة والنجم المارتين ، وسنأتي على بيانه بعد بصورة أوضح وأكمل إن شاء اللّه.
مطلب وجوب الإيمان بالإسراء والمعراج وكفر من أنكر الأول وتفسيق من أنكر الثاني :
هذا وإن التعجب بعروجه لقصد الحق لأمر عظيم بين المحب والمحبوب أعجب من نزوله لقصد الخلق بينه وبين أمته ، وهذا كالفرق بين ولاية النبي ورسالته فإن الأولى بينه وبين مولاه والثانية بينه وبين الناس ، وإنما قال تعالى بعبده ولم يقل بنبيه أو رسوله لئلا يتوهم فيه ما توهمه الناس في عيسى عليه السلام من أنه انسلخ من الأكوان وعرج بجسمه إلى الملأ الأعلى مناقضا للعادات البشرية وأطوارها ، ولأن العبودية أفضل من النبوة لأنها انصراف من الخلق إلى الخالق ، والنبوة انصراف من الخالق إلى الخلق ، وشتان ما بينهما ، ولأن كلمة عبد عبارة عن الروح والجسد ، والبراق الذي ركب عليه في الإسراء من جنس الحيوانات يحمل الأجساد لا كما يقوله الغير من أنه عبارة عن البرق المعلوم الحاصل من احتكاك السحب بعضها ببعض ، وهو الذي أقل حضرة الرسول من مكة إلى القدس بسرعته وأعاده لموضعه ، وهذا أبلغ في القدرة لو كان لهذا القول أصل من نقل صحيح أو خبر قاطع وليس فليس ، أو لو كان العروج بالروح فقط كما يزعمه البعض أو حال النوم كما يقوله الغير أو حال الفناء كما توهمه الآخر أو حال الانسلاخ كما يظنه بعض المتصوفة والحكماء ، لأمكن ذلك ، على أن الذهاب بالروح يقظة ليس كالانسلاخ الذي ذهب هذا الأخيران إليه ، فإنه وإن كان خارقا للعادة إلا ان العرب لا تعرفه ، فليس محلا للتعجب ، ولم يقل به أحد من السلف كما فندناه في سورة يس المارة ، وعلى تلك الأقوال الواهية لا حاجه لذكر البراق ، لأن ما ذكر فيها لا يحتاج إلى الحمل ، ولا محل لأن يستبعده المستبعدون أو ينكره الجاحدون استكبارا على اللّه القادر الفعال لما يريد ، لأن أهل الهيئة من جميع الملل يحصل لهم مثل ذلك ، وكثير من الناس من يرى اللّه في المنام ، ويوجد جماعة من أهل المعرفة يتوصلون إلى الانسلاخ فلا فضل فيه حينئذ ولا فخر ، ولا حاجة للإنكار والجدال وإنما القول الحق هو أنه صلّى اللّه عليه وسلم أسرى بروحه وجسده يقظة من مكة إلى بيت المقدس ، ومن(2/410)
ج 2 ، ص : 411
شك في هذا أو أنكره فهو كافر والعياذ باللّه لإنكاره القرآن صراحة ، هذا هو القول الفصل في الإسراء ، أما المعراج فهو قول ثابت كما سنورد عليك من الشواهد القوية والحجج الساطعة والدلائل القاطعة ما نقنع بثبوته ووقوعه ، ومن أنكره فقد خرق الإجماع ، ومن انشق على اجماع أهل السنّة والجماعة فإنه يفسق شرعا ولا تقبل شهادته ويوشك ان يدخله اللّه تعالى في معنى الآية 114 من سورة النساء من ج 2 ، لأن مخالفة العلماء مخالفة للرسول ومخالفة الرسول مخالفة للّه ، هذا وقد اجمع المفسرون على أن المراد بعبده في هذه الآية محمد صلّى اللّه عليه وسلم كما أجمعت على هذا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فلم يختلف عن ذلك أحد ، كما أنهم لم يختلفوا في الإسراء لما فيه جحود صراحة القرآن ومن شك لا حظ له في الإسلام هذا ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وليعلم ان العبودية أفضل من العبادة لأن العبادة تنقضي بالدنيا والعبودية باقية في الدنيا والآخرة ، وهي اشرف أوصاف العبد عند العارفين الكاملين ، وبها يفتخر المحب عند محبوبه قال :
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
فقال الآخر :
باللّه إن سألوك عني فقل لهم عبدي وملك يميني وما أعتقته
وذكر العلماء أن اللّه تعالى لم يعبّر عن أحد بالعبد مضافا إلى ضمير الغيبة المشار به إلى الهوية إلا عن نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وفيه من الإشارة وعلو الشارة ما فيه ، ومن تأمل أدنى تأمل بين قوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) الآية من سورة والنجم المارة وبين قوله (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية 120 من المائدة من ج 3 بان له الفرق بين مكانة روح اللّه ومكانة رحمة اللّه ، ومن قابل بين قوله سبحان الذي أسرى الآية المارة وبين قوله (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) الآية 142 من سورة الأعراف المارة ، ظهر البعد بين مقام الحبيب وبين مقام الكليم ، ومن وازن بين هذه الآية وآية (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) المارة من سورة الأنعام من ج 2 عرف البون بين مقام ذلك الخليل ومقام هذا الحبيب الجليل.(2/411)
ج 2 ، ص : 412
مطلب قصة المعراج والإسراء والمعجزات الواقعة فيهما :
وخلاصة القصة بناء على ما جاء في الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان ليلة سبع وعشرين من شهر رجب سنة 51 من ميلاده الشريف ، وبدء السنة العاشرة من البعثة الجليلة التي أولها شهر رمضان ، لأن سنة الولادة أولها شهر ربيع الأول وكذلك سنة الهجرة أولها ربيع الأول ، وقد اعتبروا المحرم أولها اعتبارا ، كان نائما في بيت فاختة أم هانىء بنت أبي طالب بعد أن صلى الركعتين اللتين كان بتعبد فيهما قبل النوم ، وما جاء أنه كان بالحجر والحطيم وبين زمزم والمقام أقوال لم نعتمد على صحتها ولم نجد ما يقويها ، ويؤيد ما جرينا عليه ما روى عن أم هانىء أنها فقدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من بيتها وامتنع النوم عنها مخافة عليه من قريش ، وأخبرت بني المطلب ، فتفرقوا في التماسه ، ورحل العباس إلى ذي طوى وهو يصيح يا محمد يا محمد ، هذا وقد اظهر اللّه له في إسرائه ومعراجه سبعين معجزة ، أولها أنه خرج عن سقف البيت سحر تلك الليلة ، فنزل جبريل وميكائيل واسرافيل عليهم السلام ، فأيقظه جبريل ، فقال له صلّى اللّه عليه وسلم مالك يا أخى ؟ قال قم إن ربك بعثني إليك وأمرني أن آتيه بك في هذه الليلة بكرامة لم يكرم بها أحد قبلك ولا يكرم بها أحد بعدك ، فتكلم ربك وتنظر إليه ويريك عجائب عظمته وبدائع قدرته ومنافع ملكوته ، قال صلّى اللّه عليه وسلم فقمت وتوضأت وصليت ركعتين ، قال ثم إن جبريل عليه السلام تقدم إليّ وشق صدري ما بين الرّقوتين إلى أسفل بطني بإشارة منه ليس بآلة ما ، ولم أجد ألما ما ، ولا خرج مني دم ما ، معجزة على طريق خرق العادة - واستخرج قلبه الشريف ، وغسله بطست من ماء زمزم ثلاثا ، ونزع ما كان فيه من أذى ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء إيمانا وحكمة فأفرغه فيه.
تنبيه : من المعلوم أن الإيمان والحكمة ليستا من الأجسام بل هي معان ، والمعاني تمثل في الأجسام مجازا ، ولذا قال فأفرغه ، ويحتمل أنه عليه السلام جعل في الطست شيئا ، يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتها ، فسمي إيمانا وحكمة لكونه سببا لهما.
قال ثم وضعت السكينة في قلبه الشريف ، وهذه أيضا من الأمور المعنوية التي لا تحتاج إلى حيّز محسوس ، ولا بد لهذه الأمور من عقيدة راسخة ، (2/412)
ج 2 ، ص : 413
وإيمان كامل ، وبصيرة طاهرة تعقلها وتصدق بها تصديقا لا مرية فيه.
ومن لا يؤمن بمثل هذه الأمور المعنويات يخشى على إيمانه ، لأنها قد تؤدي لإنكار ما هو أعظم والعياذ باللّه خصوصا فيما نحن فيه ، لإطباق العلماء على صحته وأكثر العارفين على حقيقته ، فالحذر الحذر من أن تشك يا أخي في هذه اليقينيات إذ قد يتطرق الشك فيها إلى كثير من أمور الدين ، فيسلب دين الشاك وتضمحل عقيدته في الإسلام والعياذ باللّه تعالى من حيث لا يشعر ، ولهذا يجب على المؤمن أن يسلم ويذعن لما جاء عن ربه ورسوله ، ولا يقيسها على الأمور الحسية فيصير إبليس الثاني راجع مقايسته في الآية 12 من سورة الأعراف المارة.
قال ثم أعاده إلى مكانه وأشار إلى صدره فالتأم كما كان ، وهذه معجزة ثالثة له صلّى اللّه عليه وسلم.
واعلم أن هذا الشق غير الذي وقع له في صغره عند ظئره حليمة ، وفيها أخرج الملك من صدره الشريف علقة سوداء دموية ، وقال له جبريل هذا حظ الشيطان منك.
وهي محل الغمز والوسوسة فلم يبق للخبيث حظ فيه ، ولهذا كان صلّى اللّه عليه وسلم في صغره لم يمل إلى ما يميل إليه الأولاد من اللعب واللهو ، وهكذا شأن الأنبياء في صغرهم كما مر في سورة مريم من شأن يحيى وعيسى ، ثم أنه شق صدره ثانيا حينما شرفه اللّه بالنبوة وغسل قلبه الشريف وأعيد لمحله على النحو المار ذكره لتحمل أعباء النبوة التي لا يقواها مطلق قلب ، وهذه المرة الثالثة لتصفيته للقاء ربه عزّ وجل وتخليصه من الأغيار ليتسنى له حفظ الأسرار الإلهية والكمالات الربانية التي ستلقى عليه.
الرابعة أن جبريل عليه السلام جاءه بخاتم من نور فختم على قلبه وبين كتفيه بخاتم النبوة ، وكان يراه الرائي بحسب مكانته عند اللّه وقدر محبته لرسوله واعتقاده به ، فمنهم من يراه مثل زر الحجلة (الخيمة) التي يغطى فيها السرير ويدخل في العروة ، ومنهم من يراه قطعة نور ، ومنهم من يرى فيه عبارة لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، ومنهم من يرى غير ذلك ، ولكل وجهه.
مطلب في البراق والأقوال الواردة في المعراج :
الخامسة هي أنه صلّى اللّه عليه وسلم جيء بالبراق مسرجا وملجا وهو له دابة بيضاء لها بريق يلمع دون البغل وفوق الحمار ، خدّه خد إنسان وقوائمه قوائم بعير ، وعرفه عرف(2/413)
ج 2 ، ص : 414
فرس ، لا ذكر ولا أنثى ، فهو حقيقة أخرى كالملائكة ، فإنهم خارجون عن فحوى قوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) الآية 49 من سورة الذاريات في ج 2 إذ لا عموم إلا وخص منه البعض ، قال وكان سرجه من اللؤلؤ وركاباه من الزبرجد ، ولجامه من الياقوت الأحمر يتلألأ النور من حليته ، وقال ما رأيت دابة أحسن منها ، وقال جبريل اركبه حتى تمضي إلى دعوة ربك ، قال فأخذ بلجامها جبريل ، وبركابها ميكائيل ، ووضع يده على خلفها إسرافيل ، فقصدت أن أركبها فجمحت ، وأبت أن تذعن ، فوضع جبريل يده على وركها وقال لها أما تستحين مما فعلت ، فو اللّه ما ركبك أحد أكرم منه على ربه ، فرشحت عرقا من الحياء ، وقيل في هذا :
ما كدى الميمون وانحلت عزائمه وأنت أنت الذي باليمن لاجمه
وإنما شهد الأملاك ساجدة إلى علاك فانحلت عزائمه
قال ابن دحية ووافقه الإمام النووي إن البراق لم يركبه أحد قبل النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإن قول جبريل ما ركبك أحد إلخ لا ينافيه ، لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع وقالت يا جبريل لم أستصعب منه ، ولكن أريد أن يضمن لي الشفاعة يوم القيامة لأني علمت أنه أكرم الخلق على ربه ، فضمن لها ذلك ، فركبها قال صلّى اللّه عليه وسلم : فانطلق البراق يهوي يضع حافره حيث ينتهي طرفه.
واعلم أن الخلاف في المعراج والإسراء على ثلاثة أقوال : الأول أنه أسري بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السموات إلى أن رأى ربه بعين رأسه كما سيأتى تفصيله ، وهذا ما عليه الجمهور من أهل السنة والجماعة.
الثاني أنه أسري بروحه وجسده يقظة وعرج بروحه فقط ، والقائلون بهذا ينكرون المعراج الحسيّ وسبق أن بينا آنفا أنهم يفسقون شرعا.
الثالث أنه أسري به وعرج به مناما ، وأصحاب هذا القول يكفرون كما مرّ بك ، لأن مثل هذا يتيسر لكثير من الناس ، ولا معنى حينئذ لاستعظامه وإنكاره ، ولا حاجة لتصادم الآراء فيه والقول باستحالته ، ولا لزوم لطلب الدليل عليه ، لأن النائم قد يرى نفسه في الشرق والغرب والسماء ولا يستبعده أحد ، وما قيل إن لفظ الرؤيا الواردة بالآية 60 الآتية تختص بالنوم(2/414)
ج 2 ، ص : 415
ليس على إطلاقه ، بل قد يكون في اليقظة ، قال الراعي يصف صيدا :
وكبر للرؤيا وهش فؤاده وبشر قلبا كان جمّا بلابله
والحديث في هذا الشأن مروي عن معاوية ، وقد كان كافرا حين الإسراء ، وعن عائشة وكانت صغيرة وليست بزوجة له صلّى اللّه عليه وسلم ، والحسن إنما رواه عنهما فلا عبرة به ، وما أخذه بعضهم من رواية شريك بن غزال طعن فيها الحفاظ فلا قيمة لها.
هذا واعلم أن إعطاء البراق قوة المشي على تلك الصفة معجزة سادسة.
والسابعة : قال بينا هو سائر على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة نارية كلما التفت رآه ، فقال له جبريل قل أعوذ بوجه اللّه الكريم وبكلماته التامة اللاتي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر من شرّ ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ، ومن فتن الليل والنهار ، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير ، يا رحمن ، فقالهن صلّى اللّه عليه وسلم ، فانكب لفيه ، وخرّ صريعا ، وطفئت شعلته.
الثابتة : وكشف له بطريق ضرب المثل فرأى قوما يزرعون ويحصدون في ساعة وكلما حصدوا عاد الزرع كما كان ، فقال ما هذا يا أخي يا جبريل ؟ فقال هؤلاء المجاهدون في سبيل اللّه ، تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمئة ضعف ، وما أنفقوا من خير فهو يخلفه.
التاسعة : بينما هو سائر إذ نادى مناد عن يمينه يا محمد انظرني اسألك ، فلم يجبه ، فقال ما هذا يا جبريل ؟ فقال هذا داعي اليهود ، أما أنك لو أجبته لتهوّدت أمتك.
العاشرة : ثم ناداه مناد عن يساره ، فلم يجبه أيضا ، فقال ما هذا يا جبريل ؟ قال هذا داعي النصارى ، أما لو أجبته لتنصّرت أمتك.
الحادية عشرة : ثم رأى امرأة حاسرة عن ذراعيها ، عليها من كل زينة ، جالسة على الطريق ، فقالت انظرني يا محمد أسالك ، فلم يلتقت إليها ، فقال من هذه يا جبريل ؟ فقال تلك الدنيا ، أما أنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
الثانية عشرة : ثم رأى عجوزا على جانب الطريق ، فقالت يا محمد انظرني فلم يلتفت إليها ، فقال ما هذه يا جبريل ؟ قال إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا بقدر ما بقي من عمر هذه العجوز ، وفي عدم إجابته لهما دليل على أن حضرة الرسول غير مبال بها بالطبع ، لأنه لم يلتفت(2/415)
ج 2 ، ص : 416
إليهما ، ولم يردّ عليهما ، وهكذا الأنبياء جبلوا على ترك الدنيا وحب الآخرة فطرة ، قالوا إن الدنيا شابة من آدم إلى إبراهيم ، وكهلة من إبراهيم إلى محمد ، وعجوز من محمد إلى القيامة.
الثالثة عشرة : إنه صلّى اللّه عليه وسلم رأى رجلا يجمع حزمة حطب لا يستطيع حملها ، وهو يزيدها ، فقال ما هذا يا جبريل ؟ قال مثل الرجل من أمتك تكون عنده الأمانة فيكتمها عن صاحبها ويريد أن يحمل نفسه وزرا فوق أوزاره ، مما لا تقواه قواه ، راجع بحث الأمانة في تفسير الآية 8 من سورة المؤمنين في ج 2 وفي الآية 15 من آل عمران والآية 282 من البقرة وآخر سورة الأحزاب في ج 3 ، وفي سورة الماعون المارة ، قالوا اتق حروف الشوك أي الكلمات المبدوءة بالواو كالوكالة والوصاية والولاية والوزارة والوديعة ، والكلمات المبدوءة بالشين كالشر والشره والشبع والشركة ، والكلمات المبدوءة بالكاف كالكيد والكفر والكفالة ، وكلام الفضول والكلب.
الرابعة عشرة : رأى صلّى اللّه عليه وسلم قوما ترضخ رؤوسهم وكلما رضخت عادت كما كانت ، فقال من هؤلاء يا جبريل ؟ قال الذين تتشاقل رءوسهم عن الصلاة المفروضة ، قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) الآية 4 من سورة الماعون المارة ، وإذا كان جزاء من يسهو عنها هكذا ، فكيف بمن يتركها ؟ وقد جاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم : بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة.
ولهذا قال الإمام أحمد يقتل كفرا من يتركها عمدا.
الخامسة عشر : رأى صلّى اللّه عليه وسلم قوما على أقبالهم وأدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع (الشوك اليابس) والزقوم (ثمر شجر مرّ له زفرة لا يعرف في الدنيا وقد ذكرها اللّه في كتابه بقوله (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) الآية 14 من الصّافات في ج 2 ، وفي الدنيا من نوعها (شجرة الحنظل) ورضف جهنم (أي حجارتها المحماة) فقال من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم ، ويحرمون من فضلهم فقراء اللّه راجع الآية 76 فما بعدها من سورة التوبة في ج 3.
السادسة عشرة : رأى صلّى اللّه عليه وسلم قوما بين أيديهم لحم نيء ولحم نضج فيأكلون النيء الخبيث ويتركون النضج الطيب ، فقال ما هؤلاء يا جبريل ؟ قال هذا مثل الزوجين من أمتك عندهما(2/416)
ج 2 ، ص : 417
الحلال فيأتيان الحرام ويدعان الحلال وهم الزناة.
راجع الآية 31 الآتية ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم من زنى زنى به ولو بحيطان داره.
أي لا بدّ من القصاص منه
ولو اختفت محارمه في داره.
فإنه ان لم يزن بهن خارجها يزنى بهنّ داخلها ، فعلى المؤمن الشهم أن يحفظ عرضه بالكفّ عن أعراض الناس.
السابعة عشرة رأى صلّى اللّه عليه وسلم خشبة في الطريق لا يمرّ بها توب ولا شيء إلا مزّقته ، فقال ما هذه يا جبريل ؟ قال هذه مثل أقوام من أمتك يقطعون الطريق وتلا الآية 85 من سورة الأعراف المارة.
الثامنة عشرة : رأى صلّى اللّه عليه وسلم رجلا يسبح في نهر من دم يلتقم الحجارة ، فقال من هذا ؟ قال هذا مثل آكل الربا.
راجع تفسير الآية 275 من سورة البقرة فما بعدها ، والآية 130 من آل عمران في ج 3 ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : لعن اللّه آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
التاسعة عشرة : رأى صلّى اللّه عليه وسلم قوما تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت ، فقال من هؤلاء ؟ قال هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون ، وقال تعالى (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) الآية 2 من سورة الصفّ ج 3.
العشرون :
ورأى صلّى اللّه عليه وسلم قوما يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية ، فقال من هؤلاء ؟
قال هؤلاء مثل الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم ، وقال تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) راجع تفسيرها المار ذكره.
الحادية والعشرون : ورأى صلّى اللّه عليه وسلم حجرا يخرج منه ثور عظيم يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع ، فقال من هذا يا جبريل ؟ قال هذا مثل الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم فلا يستطيع ردّها ، وقد جاء في الخبر من كثر لغطه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه فالنار أولى به.
وقال : وهل يكبّ الناس في النار على وجوهم إلا حصائد ألسنتهم.
الثانية والعشرون ، ورأى صلّى اللّه عليه وسلم واديا طيبا باردا وريحا مسكية شذية ، وسمع صوتا رقيقا ، فقال ما هذا يا جبريل ؟ قال هذا صوت الجنة ، تقول ربّ آتيني ما وعدتني ، فقد كثر فيّ ما لا نظائر له ولا أشباه.
اللهم اجعلنا من أهلها.
الثالثة والعشرون : ورأى صلّى اللّه عليه وسلم واديا خبيثا وريحا منتنة ، وسمع صوتا منكرا بذيا ، فقال ما هذا يا جبريل ؟ قال هذا صوت جهنم تقول(2/417)
ج 2 ، ص : 418
ربّ آتني ما وعدتني فقد كثر في ما لا تقواه العصاة ، راجع الآيتين 10/ 41 فما بعدهما من سورة الواقعة المارة في الجنة وأهلها والنار وأهلها أعاذنا اللّه منها.
الرابعة والعشرون.
ورأى صلّى اللّه عليه وسلم شخصا متنحيا عن الطريق والطريقة الإسلامية ، يقول هلم يا محمد ، فقال جبريل سرّ يا محمد ، قال من هذا يا أخى ؟ قال هذا عدوّ اللّه إبليس ، أراد أن تميل إليه ، وقد وقعت هذه المبادرة من شفقة جبريل عليه السّلام على حبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، إذ قال له سرّ قبل أن يسأله عنه ، خلافا لعادته ، لما يعلم من حاله عليه اللعنة.
الخامسة والعشرون : ورأى محمد موسى عليهما الصلاة والسلام يصلّي في قبره عند الكئيب الأحمر ، ويقول أكرمته وفضلته ، ويرفع صوته ، فقال من هذا يا جبريل ؟ قال موسى بن عمران ، قال ومن يعاتب ؟ قال يعاتب ربّه فيك ، قال ويرفع صوته على الحضرة الجلالية ؟ قال قد عرف حدّته التي جبله عليها (العتاب مخاطبة فيها إدلال) ، فنزل وصلى ركعتين عنده.
السادسة والعشرون : ورأى شجرة عندها شيخ وعياله ، فقال من هذا ؟ قال هذا أبوك إبراهيم عليه السلام ، فسلّم عليه وردّ عليه السلام ، فقال إبراهيم يا جبريل من هذا الذي معك ؟ قال ابنك محمد ، فقال مرحبا بالنبي العربي ودعا له بالبركة (كان ابراهيم تحت تلك الشجرة) فنزل فصلى ركعتين وسار حتى أتى الوادي الذي فيه بيت المقدس.
السابعة والعشرون : ورأى جهنم تنكشف عن مثل الزرابي أي الوسائد ، قال كيف وجدتها يا رسول اللّه ؟ قال مثل الحمة أي الفحمة.
الثامنة والعشرون : قال وبقي حتى انتهى إلى إيلياء من أرض الشام ، أي مدينة القدس ، فرأى جمعا غفيرا من الملائكة يستقبلونه صلّى اللّه عليه وسلم ، فدخلها من الباب اليماني الذي فيه تمثال الشمس والقمر.
التاسعة والعشرون : قال ولما انتهى إلى البيت المقدس كان على الباب حجر كبير فخرقه جبريل وربط به البراق ، وهذه معجزة ، لأن البراق لا يحتاج إلى الربط ، ولأن الحجرة لا تخرق باليد ، قال أبو سفيان لقيصر عند ما سأله عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كما في حديث البخاري من أنه هل يكذب ؟
قال لا ولكن زعم أنه ذهب من حرمنا إلى مسجدكم ورجع في ليلة واحدة! ولما قال له هل يغدر قال لا ، ونحن عنه في مدة ، ليفهمه في هذه بأنه لعله وقع منه(2/418)
ج 2 ، ص : 419
الغدر بعد غيابه عنه وليستعظم ما ذكره في الجملة الأولى فيتهم بالكذب ، وكان بطريق عنده فقال أنا أعرف تلك الليلة التي جاء بها نبيّكم ، كنت أغلق أبواب المسجد وقد استعصى على الباب الفلاني (الذي دخل منه حضرة الرسول بموكبه المار ذكره آنفا) فاستعنت بعمال فلم يقدروا قالوا إن البناء نزل عليه ، فتركناه ، فلما أصبحنا رأيت الحجر الذي في زاوية الباب مثقوبا وبه أثر ربط دابة ، ولم أجد فيه ما يمنعه من الانغلاق ، فعلمت أنه لأجل ما علمته قديما أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء ، فقلت لأصحابي هذا ربط البراق بحجر الباب هو الذي منع من الانغلاق ، أي بسبب وجود الحبل الذي لم نره لأنه من خوارق العادة ، وإلا لرأينا البراق إن لم نر الحبل ، وقد تركت هذه آية حسيئة ليطلع عليها ، وإلا فإن جبريل لا يمنعه انغلاق الباب ولا غيره اه من روح البيان.
الثلاثون : ورأى صلّى اللّه عليه وسلم الحور العين باستقباله أيضا ، فسلم عليهن فرددن عليه السلام ، فقال من أنتن ؟ قلن خيرات حسان قوم أبرار نقوا فلم يدنّسوا يدرّنوا ، وأقاموا فلم يضعفوا ، وخلدوا فلم يموتوا.
ثم دخل المسجد ونزلت الملائكة الذين كانوا في استقباله إلى الأرض.
الحادية والثلاثون : أحيا اللّه له آدم فمن دونه من الأنبياء من سمى ومن لم يسم (فى كتابه) فرآهم في صورة مثالية كهيئاتهم الجسدانية ، إلا عيسى وإدريس والخضر والياس فإنه رآهم بأجسادهم الحقيقية الدنيوية ، لأنهم من زمرة الأحياء ، فسلموا عليه جميعهم وهنأوه بما أعطاه اللّه من الكرامة ، وقالوا الحمد للّه الذي جعلك خاتم الأنبياء فنعم النبي والأخ أنت ، وأمتك خير الأمم.
تنبيه : إن الخضر صاحب موسى عليه السلام لم تجمع الكلمة على نبوّته كعزير ولقمان وذي القرنين ، ومجيئه هنا مع الأنبياء كون الكلمة مجمعة على حياته.
الثانية والثلاثون : قال جبريل إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم تقدم فصل بإخوانك الأنبياء فصلى بهم ركعتين ، وكان خلفه إبراهيم وعن يمينه إسماعيل ، وعن يساره إسحق عليهم السلام ، قيل كانوا سبعة صفوف ثلاثة من المرسلين وأربعة من الأنبياء ، قال في منية المصلى إمامته صلّى اللّه عليه وسلم ليلة الإسراء لأرواح الأنبياء كانت في النافلة المطلقة التي تكون فيها الصلاة جماعة ، كالتراويح وشبهها وهذا هو الحكم الشرعي : فقد جاء في مجمع البيان عن مقاتل أن قوله تعالى في الآية 45(2/419)
ج 2 ، ص : 420
من الزخرف في ج 2 (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) إلخ ، نزلت في هذه الليلة كما سيأتي في تفسيرها إن شاء اللّه.
الثالثة والثلاثون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم أخذني العطش فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر ، فأخذت اللبن بتوفيق اللّه فشربت منه ، فقال جبريل أصبت الفطرة ، أما انك لو شربت الخمر لغوت أمتك كلها ، ولو شربت اللبن كله لما ضل أحد من أمتك بعدك ، فقلت يا جبريل ردّ إناء اللبن علي حتى أشربه كله ، فقال قضي الأمر وتلا عليه (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) الآية 42 من الأنفال في ج 3 ، وهذا من شدة حرصه صلّى اللّه عليه وسلم على صلاح أمته ولكن ما لم يرده اللّه لا يكون ، وإلا كما وفقه للبن الذي مادته ملائمة للعلم والحكمة ، لوفقه إلى شربه كله.
الرابعة والثلاثون : ثم قال جبريل قم يا محمد ، فقمت فإذا بسلّم من ذهب قوائمه من فضة مرصع باللؤلؤ والياقوت ، يتلألأ نوره ، وإذا أسفله على صخرة بيت المقدس ورأسه في السماء وهو المعراج الذي تبرج عليه أرواح الأنبياء وسائر بني آدم.
ذكرنا في الآية 85 من سورة الواقعة المارة أن المحتضر يشخص بصره إلى السماء فتخرج روحه وهو على هذه الحالة ، وذلك لأنه يرى هذا المعراج الذي تصعد عليه روحه ، فيعجب من حسنه فيتبعه بصره ، حتى إن أكثر الأموات تبقى عيونهم مفتوحة وعليهم بسمة ، لأن المؤمن تفتح لروحه أبواب السماء والكافر تردّ روحه إلى سجين ، فيزداد حسرة وندامة وكآبة ، فيزرق وجهه والعياذ باللّه.
مطلب الورد الأحمر والأصفر والمواليد الثلاثة والحركة القسرية :
الخامسة والثلاثون : قال صلّى اللّه عليه وسلم لما عرج بي إلى السماء بكت الأرض من بعدي فنبت الأصفر (أي الزهر الأصفر) فلما رجعت قطر عرقي على الأرض فنبت الورد الأحمر ، ألا من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر.
رواه أنس مرفوعا قال أبو الفرج النهرواني هذا قليل من كثير مما أكرم اللّه نبيه ، على أن هذا لا يستلزم عدم وجود ورد أصفر وأحمر قبل ذلك ، إلا أن هذا من باب الكرامة لحضرته الزكية زيادة على ما كان ، ولهذا جرت العادة أن من يشم وردا له رائحة طيبة يصلي على محمد صلّى اللّه عليه وسلم أخذا من هذا.
ونظيره على ما قيل إن حواء عليها السلام لما هبطت إلى الأرض بكت فما وقع من قطرها في البحر صار لؤلؤا ، وما وقع(2/420)
ج 2 ، ص : 421
في الأرض صار زهرا.
وهذا أيضا لا يستلزم عدم وجود اللؤلؤ والزهر في البحر والبر قبل ذلك.
ومنه أن إبراهيم عليه السلام ذرّى كفا من كافور الجنة فما وقع منه درة في الأرض إلا صارت سبخة ، وكان الملح موجودا قبل ذلك أيضا ، فلا تستكثر أيها القارئ شيئا على حضرة الرسول الذي أكرمه اللّه بأنواع الكرامات ولا تستعظم شيئا على خلق الأرض والسموات الذي منح الإنسان عقلا أوصله إلى أن يطير في الهواء ، وأن يستخدم الأثير فيسمع به صوت الشرق الغرب والجنوب الشمال بلحظة ، وإلى اختراع الأشعة التي تخترق القلوب من حجب الأجسام فيكشف ما فيها ، والذرة التي نسمع فيها ، وكذلك التلفزيون الذي يريك من تسمع صوته من تلك المسافات ، ولا ندري ما ذا يحدث بعد مما أشار اللّه تعالى إليه في الآية 23 من سورة يونس في ج 2 ، أبعد هذا الذي أعطاه إلى عباده مؤمنهم وكافرهم يستغرب أن يمنح من خلق الكون لأجله ما قرأته وسمعته ؟ كلا ثم كلا.
السادسة والثلاثون :
لما صعد السلم ومعه جبريل كان جسده تابعا لروحه ، وإلا لتعذر عليه العروج.
واعلم أنّ لصورته صلّى اللّه عليه وسلم صورة ولمعناه معنى ، وكل منهما خلاف ما تتصوره الأوهام ، لأن السير الملكوتي لا يقاس على السير الملكي ، لكن عالم الملكوت مشتمل على ما هو صورة ومعنى ، والصورة هناك تابعة للمعنى كحال صاحب الإسراء ، وهنا بحث :
اعلم وفقك اللّه هذاه وأرشدك لما به النجاة ، إن المعدن والنبات والحيوان مركبات تسمى المواليد الثلاثة ، آباؤها الأجرام الأثيرية التي هى الأفلاك بما فيها من الأجرام النيرة ، وأمهاتها العنصريات الأربع التي هي الأرض والماء والهواء والنار ، فالأرض ثقيل على الإطلاق والماء ثقيل بالاضافة للهواء والنار وهو محيط بأكثر الأرض.
والهواء خفيف مضاف إلى الثقلين بطلب العلو ، وهو محيط بكرة الأرض ، والماء والنار خفيف على الإطلاق يحيط بكرة الهواء ، وان النبي صلّى اللّه عليه وسلم جاوز هذه العناصر ليلة المعراج بالحركة القسرية ، وهي غير منكرة عندنا وعند المحيلين لهذا الإسراء الجسماني ، لأنا نأخذ الحجرة وطبعها النزول فنرمي بها في الهواء فتصعد خلافا لطبعها لأنه يقتضي الحركة عند المركز ، فصعودها بالهواء عرض بالرمي وهو الحركة القسرية وبطبعها لأنها على طبيعة تقبل الحركة القسرية ولو لم يكن ذلك في طبعه لما انفعل لها ولا(2/421)
ج 2 ، ص : 422
قبلها وكذلك اختراقه عليه السلام الفلك الأثيري وهو نار بقوة جعلها اللّه فيه حال الصعود والهبوط ، والجسم الإنساني مهيأ مستعد لقبول الاحتراق والمانع من الاحتراق أمور يسلمها الخصم وهي الحجب التي خلقها اللّه تعالى في جسم المسري به فلم يكن عنده استعداد الانفعال للحرق كبعض الأجسام المطلية بما يمنعها من الاحتراق بالنار ، والأجساد غير القابلة له كالورق غير المنحرق وجلد السندل الذي يعيش بالنار ، أو أمر آخر وهو أن الطريق الذي اخترقه ليس النار فيه إلا محمولة في جسم لطيف ، ذلك الجسم هو المحرق بالنار فسلب عنه النار وحل على ضدها ، كنار إبراهيم عليه السلام الثابتة بالنص الإلهي أنها صارت على إبراهيم بردا وسلاما ، راجع الآية 69 من سورة الأنبياء في ج 2 ، ومثله نار التنور الذي ألقي فيه موسى الوارد في تفسير الآية 8 من سورة القصص المارة ، فإن من جعلها بردا وسلاما على خليله إبراهيم وكليمه موسى قادر على أن يجعلها على حبيبه محمد كذلك.
هذا ، وان استحالة البعد الشاسع مرفوعة عنه صلّى اللّه عليه وسلم ، إذ ثبت علميا أن مسافة قطر الأرض كلها ألفان وخمسمائة وأربعون فرسخا ونصف فرسخ ، وان مسافة قطر كرة الشمس خمسة أمثال ونصف مثل قطر جرم الأرض ، وذلك أربعة عشر ألف فرسخ ، وان طرف قطرها المتأخر يصل إلى موضع طرف المتقدم في ثلثي دقيقة ، فتقطع الشمس بحركة الفلك الأعظم أربعة عشر ألف فرسخ في ثلثي دقيقة من ساعة مستوية ، راجع الآية 34 من سورة الأعراف المارة تعرف المستوية والمعوجة ، فالذي يعطي هذه القوة العظيمة للشمس ويسير المراكب التي هي كالجبال في البحر والطائرات كالقلاع في الهواء وكذلك الصواريخ الجسيمة وينقل الصوت من وراء البحار مسافة آلاف من الأميال بقوة النار والكهرباء والبخار مما علمه البشر ، أما يمنح تلك القوة حبيبه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ؟ بلى يعطيه ذلك وأكثر وأعظم ، ولا يستعظم هذا على اللّه الذي قبضته الأرض والسموات مطويات بيمينه (راجع الآية 67 من الأنبياء في ج 2) ألا من لم يؤمن به الداخل في قوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) إلخ الآية 39 من سورة يونس في ج 2.
هذا ، وقد ذكر الإمام في الأربعين أن الأجسام متساوية في الذوات والحقائق ، وإذا كان كذلك وجب(2/422)
ج 2 ، ص : 423
أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر من الأعراض ، لأن قابلية ذلك العرض إن كان من لوازم تلك الماهية ، فأينما حصلت الماهية حصل ذلك العرض ، فلزم حصول تلك القابلية من إحراق وعدمه ، فوجب أن يصحّ على كل منها ما يصح على الآخر ، وإن لم يكن من لوازمها كان من عوارضها ، فيعود الكلام فيه كما هو من لوازم الماهية ، أي أينما وجد العرض وجدت القابلية ، فإن سلم فيها وإلا دار الأمر وتسلسل ، وذلك محال ، فلا بد من القول بالصحة المذكورة ، واللّه تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر على خلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم أو في بدن ما يحمله أو فيهما معا ، (وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) الآية 19 من سورة إبراهيم في ج 2.
السابعة والثلاثون : قال ثم عرج بي حتى انتهيت إلى بحر أخضر عظيم ، أعظم ما يكون من البحار ، فقلت ما هذا يا جبريل ؟
قال هذا بحر في الهواء لا شيء فوقه يتعلق به ، ولا شيء تحته يقرّ عليه ، ولا يدري قدر عمقه إلا اللّه تعالى ، ولو لا حيلولة هذا البحر لاحترق ما في الدنيا من حر الشمس.
وهذا مما ينكره الفلكيون والطبيعيون ومن لا عقيدة له ، ونحن نعترف به لأنا نعلم أن القادر على خلق الدود في الثلج والسندل في النار والسمك في الماء والطير في الهواء الذي علم البشر صنع الطائرات والراد والذرة والصواريخ وغيرها كالغواصات وشبهها قادر على ذلك وأكثر ، فإن كان ما ورد فيه حقا عن حضرة الرسول وهو لا ينطق عن هوى فقد أصبنا الهدف وقدرنا اللّه حق قدره ، وإلا فلا يضرنا أن نعتقد به لعلمنا بقدرة اللّه ، بخلاف ما لو كذّبناه ، وكان له حقيقة ، فتكون ممن لم يقدر اللّه حق قدره.
أنظر ما قاله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) الآية 39 من سورة المؤمن في ج 2 ، ونحن نخاف إن كذبنا أن يصيبنا وبال تكذيبنا ولهذا فإنا نصدق به لأن تصديق ما لا مضرة له في الدين أحسن من تكذيبه ، فالتصديق له ما له والتكذيب فيه ما فيه.
الثامنة والثلاثون : قال ثم انتهيت إلى السماء الدنيا واسمها رفيع ، فأخذ جبريل بعضدي وضرب بابها وقال افتح.
اعلم أن جبريل لا يحتاج إلى فتح باب السماء لأنه لا يحجبه حاجب ، وإنما استفتح(2/423)
ج 2 ، ص : 424
لأن معه محمدا الإنسان الكامل (وهذا مما يدلّ على أن العروج كان بالروح والجسد ، إذ لو كان بالروح فقط لما استفتح بل لدخل جبريل على عادته ، ودخلت معه الروح التي هي من أمر اللّه ، وهذا كاف للرد على القائلين به (أما القول الثالث بأنه كان في الرؤيا فغير محتاج للردّ لأنه مردود طبعا) ، قال له الحارس من أنت ؟
قال جبريل ، قال ومن معك ؟ (إنما سأله لأن استفتاحه على غير عادته لأن اللّه أعطاه قوة الاختراق بحيث ينزل من السماء ويصعد إليها بأقل من لحظة) قال محمد ، قال أوقد بعث إليه ؟ قال نعم ، قال الحمد للّه ، ففتح ودخلنا.
قال صلّى اللّه عليه وسلم :
فلما نظر إليّ قال مرحبا بك يا محمد ، ونعم المجيء مجيئك ، فقلت يا جبريل من هذا ؟ قال ملك اسمه إسماعيل خازن سماء الدنيا ، وهو ينتظر قدومك ، فدنوت منه وسلمت عليه ، فردّ علي السلام وهنأني وقال أبشر ، فإن الخير كله فيك وفي أمتك ، قال جبريل يا محمد إن هذا الملك لم يهبط إلا عند قبض ملك الموت روحك الشريفة ، فرأيت وإذا جنوده قائمون صفوفا لهم زجيل بالتسبيح ، يقولون سبوحا سبوحا لرب الملائكة والروح ، قدّوسا قدّوسا لرب الأرباب ، سبحان العظيم الأعظم ، وكانت قراءتهم سورة الملك ، فرأيت فيهم كهيئة عثمان بن عفان ، فقلت بم بلغت هذا ؟ قال بصلاة الليل.
التاسعة والثلاثون : قال ثم انتهيت إلى آدم عليه السلام ، فإذا هو كهيئته يوم خلقه اللّه على غاية من الحسن والجمال ، وكان تسبيحه سبحان الجليل الأجل ، سبحان الواسع الغني ، سبحان اللّه العظيم وبحمده ، وإذا تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين ، فيقول روح طيبة في جسد طيب ، ويقول اجعلوها في عليّين ، وتعرض عليه أرواح ذريته الكافرين فيقول روح خبيثة في جسد خبيث ، ويقول اجعلوها في سجيّن ، وذلك قبل أن تدخل السماء ، لأن اللّه تعالى قال فيهم : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) الآية 39 من الأعراف المارة ، قال صلّى اللّه عليه وسلم فنفذت وسلمت عليه ، فقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
الأربعون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ورأيت رجالا لهم مشافر (شفاه) كمشافر الإبل ، وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار (الحجارة المستطيلة) التي كل واحدة منها ملء الكف يقذفونها بأفواههم فتخرج من أدبارهم ، فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال أكلة أموال اليتامى راجع الآية 9(2/424)
ج 2 ، ص : 425
من سورة النساء في ج 3.
الحادية والأربعون : قال ثم رأيت رجالا لهم بطون أمثال البيوت ، فيها حيات يراها الرائي من خارجها بطريق آل فرعون ، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ، لا يقدرون أن يتحولوا عنها من مكانهم ذلك ، فتطأهم آل فرعون ، قلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء أكلة الربا.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في قصة الاسراء قال انطلق بي جبريل إلى رجال كثير كل رجل بطنه مثل البيت الفخم ، منضدين على سابلة آل فرعون ، وساق الحديث ، وتقدم آنفا أن اللّه تعالى مثل له أكلة الربا في الأرض بغير هذا الوصف كما مر في المعجزة الثانية عشرة ، الثانية والأربعون : قال ثم رأيت اخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد ، وأخرى عليها لحم نتن عليها أناس يأكلون ، قلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال الذين يأكلون الحرام من أموال الناس ويتركون الحلال ، وتنطبق هذه على الزناة الممثل لهم في الأرض بغير هذا الوصف كما مر في المعجزة السادسة عشرة ، وإنما كرر التمثيل لهذين الجنسين لقبح فعلهم وفظاعته عند اللّه تعالى.
الثالثة والأربعون : قال ثم رأيت نساء معلقات بأثديتهن فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهن ، أي ليس من نطف أزواجهن.
الرابعة والأربعون :
قال عليه السلام ثم عرج بي إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، قيل ومن معك ؟
قال محمد ، قيل أوقد بعث إليه ؟ قال نعم ، ففتح لنا ، فإذا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ، يشبه أحدهما صاحبه بثيابهما وشعرهما وحسنهما وقربهما من السن أيضا لأن يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر فقط ، وقتل بعد بعثة عيسى ، أي رسالته لانه نبىء في المهد ويحيى نبىء وأرسل وهو صغير ، راجع الآيتين 12 و20 من سورة مريم المارة.
ومعهما نفر من قومها ، فرحتبا بي ، ودعيا لي بخير.
الخامسة والأربعون : قال ثم عرج بي إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل ، فقيل من معك ؟ قال محمد ، لم ينسبه جبريل لخزان السموات ولا لغيرهم من الملائكة لأنهم يعرفونه من يوم حمله وولادته وبعثته (والمراد بقولهم أو بعث إليه أي للعروج إلى ربه لا البعثة إلى الخلق لانها معلومة عندهم أيضا وهم ينتظرون(2/425)
ج 2 ، ص : 426
عروجه لزيارة ربه والتشرف برؤيته التي خصّه بها دون غيره ، وان الملائكة يتباشرون بها ليتمتّعوا برؤيته الشريفة لذلك يقولون) أو قد بعث إليه ؟ قال نعم ، ففتح لنا فإذا يوسف عليه السلام ، وقد أعطي سطر الحسن ، ومعه نفر من قومه ، فرحب بي ودعا لي بخير.
السادسة والأربعون : قال ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا ، قال جبريل ، قيل ومن معك ؟ قال محمد ، قيل أوقد بعث إليه ؟ قال نعم ، ففتح لنا : فإذا بإدريس عليه السلام ، فرحب بي ودعا لي بخير ، راجع الآية 57 من سورة مريم المارة.
السابعة والأربعون : ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل ، قيل من هذا ؟ قال جبريل ، قيل ومن معك ؟ قال محمد ، قيل أو قد بعث إليه ؟ قال نعم ، ففتح لنا فإذا بهارون عليه السلام ولحيته إلى سرّته وحوله قوم من بني إسرائيل يقصّ عليهم ما وقع له ولأخيه موسى عليهما السلام مع القبط وبني إسرائيل في حالة الدنيا ، فرحب بي ودعا لي بخير.
الثامنة والأربعون : قال ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل ، قيل من هذا ؟ قال جبريل ، قيل ومن معك ؟ قال محمد ، قيل أو قد بعث إليه ؟ قال نعم ، ففتح لنا فإذا بموسى عليه السلام فرحّب بي ، ودعا لي بخير ، فلما جاوزته بكى فقيل ما يبكيك ؟ قال أبكي لان غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي ومن سائر الأمم (وهذا منه إشفاق على أمته لا حسدا بأمة محمد ، وقوله غلام على سبيل التعظيم ولا يجوز أن يتصوّر غير هذا المعنى في كلامه عليه السلام ، لأن كمّل الخلق مطهرون من الحسد وغيره ، فكيف بالأنبياء ولا سيما أولى العزم.)
التاسعة والأربعون : قال ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، قيل من هذا ؟ قال جبريل ، قيل ومن معك ؟ قال محمد ، قيل أو قد بعث إليه ؟ قال نعم ، ففتح لنا ، فإذا بإبراهيم عليه السلام ، فسلمت عليه فردّ علي السلام ، فقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح (هذا وان محمدا صلّى اللّه عليه وسلم قد أمر بالسلام على الأنبياء في الأرض والسماء ، مع أنه أفضل منهم ، لأنه عابر عليهم ، فهو في حكم القائم وهم في حكم القعود ، والقاعدة الشرعية أن يسلم القائم على القاعد ، وفي هذا دلالة على استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن ، (2/426)
ج 2 ، ص : 427
وإن كان الزائر أفضل من المزور ، وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه من العجب وغيره من أسباب الفتنة ، والذين رآهم هم أرواح الأنبياء مشكلة بصورهم التي كانوا عليها في الدنيا عدا عيسى وإدريس والخضر والياس ، وقد مر سبب ذلك في المعجزة الثلاثين المارة) ، وإذا به رجل أشمط جالس بجهة باب الجنة ، مسند ظهره إلى البيت المعمور (استدل من هذا جواز إسناد الظهر إلى الكعبة المشرفة واستقبال الناس بوجهه سواء فيها أو في غيرها من المساجد) ورأى الملائكة يطوفون فيه طواف الناس بالبيت الحرام ، ورأى له بابين ، فقال في نفسه لو أن قومي لم يكونوا حديثي عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين.
ولهذا فإن عبد اللّه بن الزبير لما تغلب على الحجاز هدم الكعبة وبناها وجعل لها بابين تطبيقا لرغبة حضرة الرسول وهو في قبره ، وتشبيها بالبيت المعمور الواقع فوق الكعبة ، بحيث لو سقط منه حجر لسقط على الكعبة ، ولكن الحجّاج عليه ما يستحق من اللّه هدمها وأعادها على ما كانت عليه بحجة ، أن عمل ابن الزبير بدعة ، وياء يخشى البدعة ويرتكب الموبقات) قال وان البيت المعمور من عقيق محاذ إلى الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من باب ويخرجون من الباب الآخر لا يعودون إليه أبدا.
الخمسون : قال صلّى اللّه عليه وسلم وإذا أنا بأمتي شطرين شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطر عليهم ثياب رمد ، قال فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض ، وحجب الآخرون ، فصليت فيه ركعتين ، وقال لي إبراهيم أقرئ أمتك منّي السلام وقل لهم يكثروا من به غراس الجنة طيّبة التربة عذبة الماء وغراسها سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
الحادية والخمسون : قال صلّى اللّه عليه وسلم واستقبلتني جارية لعساء أي شفتيها تضرب إلى السواد وهو وصف مستملح فيهن فقلت لها أنت لمن قالت لزيد بن حارثه أي الذي تبناه صلّى اللّه عليه وسلم وزوجه بنت عمته ثم طلقها وتزوّجها هو فآثره اللّه بدلها في الجنة كما آثر حضرة الرسول في الدنيا على ماله ونفسه.
الثانية والخمسون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ورأيت فوجا من الملائكة نصف أبدانهم من النار والنصف الآخر من الثلج ، فلا النار تذيب الثلج ، ولا الثلج يطفىء النار ، وهم يقولون اللهم كما ألفت بين النار والثلج ألف(2/427)
ج 2 ، ص : 428
بين قلوب عبادك المؤمنين.
الثالثة والخمسون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم ذهب بي جبريل إلى سدرة المنتهى وهي شجرة فوق السماء السابعة ، في أقصى الجنة تنتهي إليها الملائكة بأعمال أهل الأرض السعداء وإليها تنزل الأحكام الشرعية ، والأنوار الرحمانية ، وإذا ورقها كآذان الفيلة (أي في الشكل لا في السعة واللون) لأن الواحدة منها تظل الخلق وثمرها كالقلال (جمع قله وهي الحجرة الكبيرة) أو القربة التي تسع ثلاثا وثمانين حقّه ، وقد أمّ تحتها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الملائكة ، فكان إمام الأنبياء في بيت المقدس في الأرض وإمام الملائكة في سدرة المنتهى في السماء ، فظهر فضله على أهل السموات وأهل الأرض كلهم ، قال صلّى اللّه عليه وسلم ورأيت يخرج من أعلى السدرة أربعة أنهار : نهر من لبن ، ونهر من خمر ، ونهر من عسل ، ونهر يسمى نهر الرحمة ، ورأيت نهر الكوثر أيضا يخرج من أصلها.
الرابعة والخمسون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ أي قباب الدّر وإذا ترابها المسك ، ورمانها كالدلاء ، وطيرها كالبخت (أي الإبل ذات السنامين) فمشيت حتى انتهيت إلى الكوثر ، فإذا فيه آنية الذهب والفضة ، فشربت منه فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك وأبيض من الثلج ، وإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مما أعده اللّه تعالى لأهل طاعته وقربه.
الخامسة والخمسون :
قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم نظرت إلى السدرة وقد غشيها ما غشيها من نور الحضرة الإلهية أي شيء عظيم أظلها فصار لها من الحسن غير تلك الحالة ، فما أحد يستطيع أن ينعتها من حسنها ولا يصف ما فيها إلا الذي أبدعها ، ورأيت جبريل عند تلك السدرة على الصورة التي خلقه اللّه عليه له ستمائة جناح ، قد سدّ الأفق ما بين المشرق والمغرب يتناثر من أجنحته الدر والياقوت كهيئته حين رآه في الأرض عدا الدر والياقوت الذي يتناثر منه في الجنة.
راجع الآية 23 من سورة التكوير المارة وقد تأخر عني فقلت له يا جبريل في مثل هذا المقام يترك الخليل خليله فقال هذا حدّي لو تجاوزت لأحرقت بالنور وتلا (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) الآية 16 من سورة الصافات في ج 2 ، واعلم أن جبريل عليه السّلام تلا هذه الآية وقبلها تلا آية 42 من الأنفال ، قبل أن تنزلا على حضرة الرسول ، لأنه نزل بالقرآن كله إلى بيت(2/428)
ج 2 ، ص : 429
العزّة كما أشرنا إليه في المقدمة ، فهو يحفظه كله ، ولذلك كان حضرة الرسول يتداول معه تلاوة القرآن ويقرأه عليه في كل سنة فلا يقال من أين علم جبريل هاتين الآيتين ولما تنزل بعد ، أما آية الأعراف 84 المارة في المعجزة السابعة عشرة فكانت نازلة مع سورتها ، ثم أنه صلّى اللّه عليه وسلم لما سمع من جبريل ذلك تعطف عليه وقال يا أخي يا جبريل هل من حاجة إلى ربك ؟ قال يا محمد سل اللّه أن أبسط جناحي على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه إلى الجنة.
السادسة والخمسون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم زج بي في النور فخرق بي سبعون حجابا ليس فيها حجاب يشبه حجابا وغلظ كل حجاب مسافة خمسمائة عام ، وانقطع عن حسن كل ملك ، فلحقني عن ذلك استيحاش ، فنادى مناد بلغه أبي بكر قف فإن ربك يصلي أي يقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي غضبي.
السابعة والخمسون : قال صلّى اللّه عليه وسلم وجاءني نداء من العلي الأعلى أدن يا خير البرية ، فأدناني ربي ، فكنت كما قال ، (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) الآية 8 من سورة والنجم المارة.
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال عرج بي من السماء الدنيا إلى السابعة على جناح الملائكة ، ومن السماء السابعة إلى السدرة على جناح جبريل ، ومن السدرة إلى العرش على الرفرف ، وهكذا النزول على هذا الترتيب ، والرّفرف بساط عظيم (نظير المحفّة عندنا) قال صلّى اللّه عليه وسلم وناداني جبريل من خلفي يا محمد إن اللّه يثني عليك ، فاسمع وأطع ، ولا يهولنّك كلامه أن تعيه فبدأ عليه الصلاة والسلام بالثناء بقوله التحيات للّه والصلوات والطيبات للّه ، فقال تعالى السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ، فقال عليه الصلاة والسلام : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، فقال جبريل وهو في مكانه أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وتابعه جميع الملائكة.
مطلب ما بدأ اللّه تعالى به حضرة الرسول وما قال له والعلوم التي منحه إياها :
الثامنة والخمسون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده المقدسة بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد ، فوجدت بردها ، فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى ، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري ، وعلم خيّرني فيه ، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي.(2/429)
ج 2 ، ص : 430
يستدل من هذا أن العلوم الشتى هي العلوم الثلاثة المذكورة ، كما تدل عليه الفاء الفرعية وهي زائدة على علوم الأولين والآخرين ، فالأول وهو الذي أمره بكته من باب الحقيقة الصّرفة ، والثاني الذي خيره فيه من باب المعرفة ، والثالث الذي أمره تبليغه للعامة والخاصة من باب الشريعة ، قال أبو يزيد البسطامي رأيت ربّي في المنام فقلت كيف الطريق إليك ، فقال أترك نفسك وتعال.
وقال حمزة الفارسي قرأت القرآن على ربي في المنام ، فلما قرأت : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) قال قل وأنت القاهر يا حمزة.
التاسعة والخمسون : قال صلّى اللّه عليه وسلم سمعت كلام الحق كما سمعه موسى ، أي من جميع جهاتي وبكل أجزائي بلا كيفية ، ورأيته بعين رأسي بلا كيفية ، هذا وإن جميع الأنبياء رأوا ربهم حال الانسلاخ الكلي بأعين بصيرتهم ، وإن الرسول محمدا رآه بعين رأسه على الصحيح ، وقدمنا في الآية 40 من سورة بالنجم والآية 23 من سورة القيامة والآية 143 من سورة الأعراف المارات ما يتعلق في بحث رؤية اللّه تعالى فراجعها ، وهذه الرؤية الحقيقية جعلت له صلّى اللّه عليه وسلم في هذا المقام العظيم مرة واحدة ففضل فيها على المرسلين كافة ، أما رؤيته حال الانسلاخ بعين بصيرته كغيره من الأنبياء فكثيرة جدا ، أما غير الأنبياء من مؤمني البشر فيجوز أن يروه في المنام كأبي يزيد البسطامي وحمزة الفارسي وغيرهما من صالحي هذه الأمة المباركة ، ولا ينافي ذلك الحكم الشرعي ، بل يوافقه وعليه الإجماع.
قال صلّى اللّه عليه وسلم ثمفرض عليّ وعلى أمّتي خمسين صلاة في اليوم والليلة ، فنزلت إلى إبراهيم فلم يقل شيئا ، ثم أتيت موسى فقال لي ما فرض اللّه على أمتك ؟ قلت خمسين صلاة ، قال إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، واني قد خبرت قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، قال عليه السلام فرجعت إلى ربي (أي من الفلك السادس الذي فيه موسى إلى المحل المشرف الذي خاطبه به ربه) فخررت ساجدا فقلت أبا رب خقف عن أمتي ، فحط عني خمسا ، فرجعت إلى موسى وأخبرته ، فقال إن أمتك لا تطيق ذلك إرجع إلى ربك واسأله التخفيف ، قال فلم أزل أرجع بين ربي وموسى وهو يحط عني خمسا خمسا حتى قال موسى بم أمرت ؟ قلت بخمس صلوات كل يوم وليلة ، قال إرجع فاسأله التخفيف ، فقلت(2/430)
ج 2 ، ص : 431
قد راجعت ربي حتى استحييت ، ولكن أرضى وأسلم ، فلما جاوزت نادى مناد أن قد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي ، وقال من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، قال فجاوزته وهبطت راضيا بما فرض علي وتفضّل وتقدم.
هذا الحديث القدسي بلفظه الكامل في الآية 84 من سورة القصص المارة ، وهذه الصلوات الخمس لها أجر الخمسين كما جاء في رواية أخرى ، وبأخري الحسنة بعشر أمثالها.
واعلم أنه يوجد أناس لا خلاق لهم من العلم والفهم ينكرون تردّد حضرة الرسول بين موسى وربه ويتذرعون بما لا قيمة له ولا مستند ، مما يقولونه للعوام ، إن محمدا أفضل من موسى ولا يمكن بل لا يجوز أن يكون المفضول واسطة للأفضل كي يقنعوهم بعدم صحة هذه الرواية ، وهذا من التعصب بمكان ، لأن هذا الحديث رواه البخاري عن الثقات العدول ، ولا أصح من رواته ولا منه إلا كتاب اللّه ، أما قاعدة الفاضل والمفضول والشبه به فليست على بابها وإطلاقها كما بيناه في الآية 114 من سورة طه المارة ، على أن جبريل هو الواسطة بين اللّه ورسوله ، فهل نقول إنه أفضل من محمد ، كلا ، راجع الآية الأولى المارة وهؤلاء إنما يقولون ما يقولون ليتوصلوا به إلى الطعن في الإمام البخاري من أنه أدخل في صحيحه ما ليس بصحيح ، ويقصدون الطعن في صحة المعراج بالروح والجسد كما أشرنا إليه آنفا في المعجزة الخامسة.
الستون : قال صلّى اللّه عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي سبعين مدينة تحت العرش كل مدينة مثل دنياكم هذه مملوءة من الملائكة يسبحون اللّه تعالى ويقدسونه ويقولون اللهم اغفر لمن شهد الجمعة اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة ، ورأيت مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ، فقلت لجبريل عليه السلام (إذ رافقه في النزول من المحل الذي تخلف عنه في الطلوع) ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده شيء والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة.
الحادية والستون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ورأيت رضوان خازن الجنة ، وقد فرح بي حين رآني ورحب بي وأدخلني الجنة وأراني عجائب ما فيها ، ورأيت فيها درجات أصحابي والقصور والأنهار والعيون والأشجار مما أبدعه الواحد(2/431)
ج 2 ، ص : 432
القهار ، وسمعت فيها صوتا يقول آمنا بربّ العالمين ، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان ؟
قال صوت سحرة موسى وأرواحهم حيث أكرمهم اللّه تعالى كرامة مضاعفة بسبب إيمانهم بموسى وإخزاء فرعون ونبذهم ما خوفهم به لقاء ما أعده اللّه لهم من النعيم المقيم.
الثانية والستون : قال صلّى اللّه عليه وسلم وسمعت صوتا آخر يقول لبيك لبيك ، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان ؟ قال صوت أرواح الحجاج ، وسمعت أناسا يقولون اللّه أكبر اللّه أكبر ، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان ؟ قال صوت أرواح الغزاة ، وسمعت أناسا يسبحون اللّه تعالى ، فقلت من هم ؟ قال أرواح الأنبياء ، ورأيت قصور الصالحين (في أمور دينهم ودنياهم ، أما الصالحون لعمارة الأرض فقط فصلاحهم لا يغنيهم عند اللّه شيئا ولا يدفع عنهم عذابه).
الثالثة والستون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم عرضت علي النار ، قال عرضت لأنها في تخوم الأرض السفلى ، إذ لا حاجب يمنع نفوذ بصره صلّى اللّه عليه وسلم إلى ذلك لما أودع في كل جوارحه من قوة خارقة للعادة لا طلاعه على عظائم الأمور في إسرائه ومعراجه ، وهذا من قبيل الاطلاع ، كما ضرب اللّه الأمثال السابقة في إسرائه ما بين مكة والقدس ، قال صلّى اللّه عليه وسلم وإذا مكتوب على بابها (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) الآية 43 من سورة الحجر في ج 2 ، وأبصرت ملكا لم يضحك في وجهي ، فقلت يا جبريل من هذا ؟ قال هذا مالك خازن جهنم ، وكأنه عرف المغزى من سؤاله ، فقال هذا لم يضحك منذ خلقه اللّه ، ولو ضحك لأحد لضحك إليك ، فقال جبريل يا مالك هذا محمد فسلم عليه ، قال فسلّم علي وهنأني بما صرت إليه من الكرامة.
الرابعة والستون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم إن اللّه تعالى أطلعني على ما فيها ، فإذا فيها غضب اللّه وسخطه ، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها وأريت فيها قوما يأكلون الجيف ، فقلت من هؤلاء ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أي يغتابونهم ، وأريت فيها قوما تنزع ألسنتهم من أقفيتهم ، فقلت من هؤلاء قال هؤلاء الذين يحلقون باللّه كذبا ، وأريت جماعة من النساء علقن من شعورهن ، فقلت من هن ؟ قال اللاتي لا يستترن من غير محارمهن ، ورأيت منهن جماعة لباسهن من القطران ، فقلت من هن قال هؤلاء الذين ينحن على الأموات ويعددن صفاتهم.
واعلم أن المنوح عليهم والمعدد صفاتهم ليس عليهم شيء إلا إذا أوصوا(2/432)
ج 2 ، ص : 433
بذلك فيكون عذابهم كعذابهم : الخامسة والستون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم نزلنا من السماء الدنيا بالصورة التي صعدنا عليها ، فرأيت أسفل منها هرجا ودخانا وأصواتا ، فقلت ما هذا يا جبريل ؟ قال هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم حتى لا ينظروا إلى العلامات ولا يتفكروا في ملكوت السموات ، ولو لا ذلك لرأوا العجائب مما سواه العظيم وأبدعه في هذا الكون ، قال ونزلت على المعراج إلى صخرة بيت المقدس التي ركبته منها (يدل هذا الذي أراه اللّه إلى نبيه في الأرض والسماء وما بينهما من الجنة والنار على طريق ضرب المثل أن الجنة والنار مخلوقتان ، خلافا لمن زعم عدم خلقهما ممن خالف الإجماع.) السادس والستون : قال صلّى اللّه عليه وسلم ثم جيء لي بالبراق فركبته وتوجهت إلى مكة في الصورة التي جئت فيها ، حتى وصلت بيت أم هانىء الذي أسري بي منه ، فنزلت وذهب جبريل ومن معه.
وتمت هذه الرحلة المباركة على الوجه المار ذكره فقعدت حزينا ، لأني اعرف أن الناس لا يصدقونني ، ثم سألتني أم هانىء عن غيبتي ، فقصصت عليها ذلك كلمه ، فقالت يا ابن عم أنشدك اللّه لا تحدث بهذا قريشا فتكذبك ، ومسكتني من ردائي لئلا أخرج من البيت ، فانتزعته منها وخرجت حتى انتهيت إلى قريش بالحطيم ، فقال أبو جهل هل من خبر ؟ استهزاء ، قلت نعم ، قال ما هو ؟
قلت أسري بي الليلة إلى البيت المقدس (فلم ينكر عليه مخافة أن لا يحدث بذلك) وقال لي أتحدث قومك بهذا إذا آتيتك بهم ؟ وذلك لأنه استعظم ما سمعه منه وعرف أن أحدا لا يصدقه بذلك ، قلت نعم ، قال فسكت مخافة أن أجحده ، قاتله اللّه كيف وهو الصادق المصدوق ، فذهب عليه اللعنة إلى مجمع الناس وصاح بأعلى صوته يا معشر كعب بن لؤي ، فانقضت إليه المجالس من كل جهة ، حتى اجتمعوا فجاء بهم إليّ ، وقال حدثتهم بما حدثتني به ، فقص عليهم إسراءه ، فقال أبو جهل صف لنا الأنبياء الذين صليت بهم في بيت المقدس ، فوصف صلّى اللّه عليه وسلم لهم الأنبياء واحدا واحدا ، وهذه المعجزة السابعة والستون إذ جعل اللّه تعالى صورهم أمامه نصب عينه كما رآهم هناك حتى صار ينظر إليهم ويصفهم واحدا واحدا ، لم يخطىء بواحد منهم ، قال فضجوا إعجابا بما ذكر وإنكارا وحلفوا بلاتهم أن لا يصدقوه ، وقالوا إنا نضرب آباط الإبل شهرين ذهابا وإيابا من مكة إلى البيت المقدس ، فكيف تقطع هذه ت (28)(2/433)
ج 2 ، ص : 434
المسافة بجزء من الليل ، وذلك لجهلهم بقدرة اللّه وكرامة هذا النبي عنده ، وارتد أناس ممن كان آمن به لقلة إيمانه ، لأن ما سمعوه منه لم تقبله عقولهم القاصرة ، وهذا سبب خوف أم هانىء رضي اللّه عنها وإصرارها على حضرة الرسول أن لا يحدث قريشا يقصته ، ولكنه صلّى اللّه عليه وسلم لا تأخذه بالحق لومة لائم.
ثم أن قريشا أخبرت أبا بكر بذلك ليستعظمه ويعذر المرتدين فقال لهم إن كان قال هذا فلقد صدق (انظروا أيها الناس هذا الإيمان العظيم إذ صدقه على أخبار أعدائه قبل ان يسمع منه) قالوا أتصدقه يا أبا بكر على طريق الاستفهام الإنكاري استعظاما لما قاله لهم ؟ قال أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه على خبر السماء في غدوة كل يوم وروحة ، لأنه أمين اللّه ، فسمي الصديق مبالغة من كثرة صدقه وتصديقه لحضرة الرسول ، وشرف بهذا اللقب الجليل من ذلك اليوم ، وهي منقبة وكرامة له ومعجزة لحبيبه صلّى اللّه عليه وسلم لأن هذه التسمية من قبل اللّه تعالى وهي المعجزة الثامنة والستون.
ثم إن قريشا ؟ ؟ ؟ على محمد صلّى اللّه عليه وسلم وطلبت منه دليلا آخر على إسرائه غير وصف الأنبياء ، فقالوا صف لنا بيت المقدس ، أرادوا بذلك أن يأثروا عليه كذبا إذا أخطأ في وصفه لأنهم يعلمون أنه لم يره قط ، وفيهم من يعرفه لزيارته له ، فشرع صلّى اللّه عليه وسلم يقصه لهم أولا بأول وهم يقولون صدقت صدقت حتى توقف في بقية أوصافه ، فلحقته كربة لم ير مثلها في حياته ، فأغاثه ربه وجلّى له بيت المقدس (وذلك بأن كشف له الحجاب فيما بينه وبينه حتى رآه وهو في مكانه ، أو أن اللّه تعالى أعدمه هناك وأوجده أمامه في تلك اللحظة يؤيد هذا ما روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي واحمد عن جابر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى اللّه لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا انظر إليه وقال صلّى اللّه عليه وسلم ثم أعاده لمكانه كما أوضحناه في أمر عرش بلقيس في الآية 39 من سورة النمل المارة فراجعها وراجع الآية 85 من سورة ق المارة ، بحيث لا يحس به أحد غيره ولا شيء على اللّه بمحال فسرّ صلّى اللّه عليه وسلم سرورا لم يره في حياته بسبب نظر اللّه إليه عند ضيقه هذا وصار ينظر إليه ويصفه لهم حتى جاء على جميعه ، فقالوا أصبت ولكن يحتمل أنك حفظت أوصافه من الناس.
التاسعة والستون ثم قالوا له ائتنا بآية ثالثة على ذلك(2/434)
ج 2 ، ص : 435
محسوسة غير قابلة للتأويل ، فقال لهم اني مررت حين ذهابي بعير لبني فلان بوادي كذا في الروحاء (محل قريب من المدينة) ورأيتهم قد ضلوا بعيرا لهم فانتهيت إلى رحالهم وإذا قدح فيه ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك (هذا وان شرب الماء بغير اذن مباح عندهم ولم يزل كذلك ولذلك شرب دون استيذان.
مطلب انكار قريش وامتحانهم للرسول وحبس الشمس :
فقالوا إن لنا عيرا آتية من بيت المقدس فاخبرنا عنها نصدقك فقال إني مررت بعيركم في التنعيم (محل قريب من مكة) فقالوا صفه لنا فوصفه لهم وبين عدد جمالهم وقال إنها تطلع عليكم مع طلوع الشمس أي في اليوم التالي يتقدمها جمل أورق (هو الأبيض المائل للسواد) عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أي (فيها بياض وسواد).
فهذه آيتان محسوستان لكم بدلا من الواحدة إن كنتم تؤمنون.
قالوا له ننظر ، فذهبوا حتى إذا أدبر الليل ابتدروا وتسابقوا إلى الثنية يتراءون العير فلما قرب طلوع الشمس قال قائلهم هذه واللّه الشمس قد طلعت ولم تر العير فأين قول محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فلم يقض قوله إلا وقد قال الآخر هذه واللّه العير قد أقبلت وقد صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلم وها هي يتقدمها جمل أورق وعليه الغرارتان كما ذكر محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
قيل في هذه الحادثة إن الشمس تأخرت عن زمن طلوعها مدة حتى أقبلت العير ورأوها ثم طلعت وهذه تمام السبعين معجزة في هذه المرحلة المباركة وهذا آخر ما اطلعنا عليه في هذه الحادثة الجليلة من المعجزات وقد تبلغ إلى التسعين إذا عدت منفردة لأنا جمعنا ما رأى في الجنة وما رأى في النار باعتبار كل منها معجزة وهي معجزات كثيرة ومعجزاته صلّى اللّه عليه وسلم لا تعد ولا تحصى ولا يستبعدها إلا الأحمق الجاهل يقدر حضرة الرسول ومكانته صلّى اللّه عليه وسلم عند اللّه.
واعلم أن الشمس حبست لسيدنا داود ولسليمان ويوشع وموسى ولا يقال إن حبسها مشكل لأنه يختلف فيه سير الأفلاك ويفسد فيه نظام جريانها لأن هذا من المعجزات وهي من الأمور الخارقة للعادة ولا مجال للقياس في خرق العادة وقد وقع له صلّى اللّه عليه وسلم رجوع الشمس بعد غروبها في خيبر فقد جاء عن اسماء بنت عميس قالت كان عليه الصلاة والسلام يوحى إليه ورأسه الشريف في حجر علي كرم اللّه وجهه ولم يسر عنه حتى غربت الشمس ولم يصل العصر علي فقال صلّى اللّه عليه وسلم أصليت العصر يا علي(2/435)
ج 2 ، ص : 436
قال لا فقال صلّى اللّه عليه وسلم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس ، قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت حتى صلّى علي كرم اللّه وجهه العصر ثم غربت ثانيا ، ووقع له هذا أيضا أيام حفر الخندق وهذا من أعلام النبوة فاعتقد أيها القارئ وافهم لك حكمة الباري واحفظ ما لنبيّه عنده من الكرامة وتيقن قبل أن تحيق الندامة راجع الآية 33 من سورة ص وأول سورة القمر ففيها ما يشفي الغليل ويثلج الصدر هذا ولما تجلى لقريش ذلك كله تاب المرتدون ورجعوا إلى الإيمان وأصر المشركون على إنكارهم.
وقالوا سحرنا محمد وتواطئوا على هذه الكلمة قاتلهم اللّه وأخزاهم وقد استغرقت رحلته عليه السلام أربع ساعات زمانية وهي وما رآه في رحلته هذه من المعجزات المارة الذكر قد خصّه اللّه بها إذ ليس بطوق البشر الحصول على جزء منها واعلم أرشدك اللّه ومكّن إيمانك ان اللّه تعالى جلت قدرته قد يطيل الزمن القصير كما يطوي الزمن الطويل والمسافة البعيدة لمن يشاء وهو أهون عليه وله المثل الأعلى.
وبهذه المناسبة نذكر ما وقع لبعض الأفاضل في بغداد وكان يعظ الناس بعد العصر فجاءت سحابة فغطت الشمس فظنوا أنها غابت وأرادوا الانصراف فأشار إليهم ان لا ينصرفوا ثم انحرف لجهة العرب وقال :
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي مدحي لآل المصطفى ولنجله
إن كان له ولى وقوفك فليكن هذا الوقوف لولده ولنسله
فلم ينته إلا والشمس قد طلعت ، فرمى عليه من الذهب ما أثقله حمله ، وهي اتفاقية لا معجزة ولا كرامة.
مطلب في دوران الشمس والأرض والدّم وحكاية اتفاقية وان الاسراء اسراءان وغيره :
واعلم أن الفلكيين قالوا إن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى بتحوير الأرض عنه في أقل من ثانية ، والثانية جزء من ستين جزءا من الدقيقة ، والدقيقة جزء من ستين جزءا من الساعة والساعة خمس عشرة درجة فلكية ، لأن كل درجة أربع دقائق ، فإذا كانت هذه السرعة ممكنة في الجمادات فكيف لا تكون ممكنة في أشرف المخلوقات ؟ على أن القلب يسير بصاحبه من(2/436)
ج 2 ، ص : 437
الشرق إلى الغرب بل في جميع أنحاء العالم بلحظة واحدة بسبب لطافته ويدور الدم في الوجود كله ويرجع لمركزه بالدقيقة الواحدة ما يزيد على سبعين مرة والقوة الكهربائية تصل من الشرق إلى المغرب بلحظة ، وإذا كان كذلك وهو كذلك أفلا يجوز أن يوجد اللّه تعالى تلك اللطافة والقوة بوجود المصطفى بقدرته البالغة ؟ بلى ، وهو على كل شيء قدير ، وقدمنا آنفا في مبادئ هذه السورة ما يتعلق بهذا الإسراء وكونه يقظة ، وفنّدنا ما يضاد هذه الأقوال بعد بيان المعجزة الخامسة أما ما جاء في حديث شريك من أن الاسراء وقع قبل الوحي رؤية فهو خطأ ، وقد انتقد هذا الحديث الذي أخرجه البخاري جماعة من أهل العلم ، وعلى فرض صحته يكون إسراءان واحد في المنام وقع له صلّى اللّه عليه وسلم توطئة وتيسرا لما تضعف عنه القوى البشرية من الأمور التي وقعت في الثاني ، وإليه الاشارة بقوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) إلخ الآية 6 الآتية من هذه السورة ، وواحد في اليقظة بروحه وجسده وهو ما عليه الجمهور ، قال في الكشف هذا هو الحق وبه يحصل الجمع بين الأحاديث والأخبار ، وقدمنا في الآية 18 من سورة الجنّ ما له علاقة في هذا البحث فراجعه ، وقدمنا في الآية (9) فما بعدها من سورة والنجم قول الزهري بأنه سنة خمس أي سنة نزولها وبينا أن هناك أقوالا بأكثر وأقل أعرضنا عنها لعدم التثبت من صحتها ، وقد ذكرنا أيضا هناك الاشكال الذي حصل لنا بفرضية الصلاة ، لأن الفقهاء أجمعوا على أنها فرضت سنة عشر ليلة الإسراء ، وسورة النجم نزلت سنة خمس.
واعلم أن ما ذكره النووي في الروضة من أنه وقع في السنة الحادية عشرة أي بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر فيه تسامح ، لأنه اعتبر مبدأ التاريخ من شهر الولادة في 12 ربيع الأول سنة 1 منها والبعثة وقعت سنة 41 من ولادته في 27 رمضان والاسراء وقع في رجب سنة 51 قولا واحدا ، فيكون على قول النووي عشر سنين وعشرة أشهر بتداخل السنتين المذكورتين وحساب طرفيهما ، والحق أنه بعد البعثة بتسع سنين وعشرة أشهر لا عشرة أيام ، لأن الكلمة مجمعة على أن الصلاة فرضت في السنة العاشرة كما أن الكلمة مجمعة على أنها فرضت ليلة الإسراء ، فيكون(2/437)
ج 2 ، ص : 438
إذا صح ما قاله الزهري ان اللّه تعالى أخبر عن الإسراء الأول الذي وقع عند نزول سورة النجم.
بنزول سورة الاسراء هذه ، كما أن الهجرة الشريفة وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة عند نزول سورة العنكبوت ، وقد أخبر اللّه عنها في سورة التوبة التي هي آخر ما نزل في المدينة ، وكما أن فتح مكة رآه حضرة الرسول عام الحديبية سنة ست من الهجرة ، وحققه اللّه فعلا سنة ثمان منها ، وقضايا أخرى كثيرة كحادثة الندوة وغيرها ، فعلى هذا يكون سبب عدم التحدث بها كون عبادته إذ ذاك كانت خفية لقلة المسلمين وضعفهم ، أو من قبيل ما تأخر حكمه عن نزوله ، راجع تفسير سورة الكوثر المارة وما ترشدك اليه فيما تأخر حكمه عن نزوله وبالعكس ، هذا واللّه أعلم وقد ذكرت غير مرة أنه لم يحصل لي إشكال وللّه الحمد حتى الآن إلا في قضية فرضية الصلاة هل هي عند نزول سورة والنجم أو هذه السورة ، وهل الإسراء وقع هناك أو هنا ، ولهذا لم آل جهدا يتقبّل أقوال العلماء فيها ، والسؤال أيضا من العلماء الموجودين واللّه ولي التوفيق.
أما الأقوال الواقعة في يوم الإسراء فهي كثيرة أيضا ولا طائل تحتها لذلك قد صرفت النظر عن سردها اكتفاء بالأقوال المجمعة على أنه يوم السابع والعشرين من شهر رجب سنة 51 لبلوغها حد التواتر ثم نزل جبريل عليه السلام على حضرة الرسول ليعلمه أوقات الصلاة وكيفيتها وعدد ركعاتها وأول صلاة صلاها بحضرة الرسول صلاة الظهر وأمه جبريل بها كلها يومين يوم بأول أوقات الصلاة ويوم بآخرها مستقبلا صخرة بيت المقدس وقال له الوقت ما بين هذين الوقتين والصلاة في هذه الأوقات وعلى هذه الصيغة والصفة كما هي عليه الآن إلا أنها كانت ركعتين ركعتين فاقرت في السفر وزيدت الرباعيات في الحضر.
ثم اعلم أن الصلاة على هذه الصفة من خصائص هذه الأمة ونبيّها ، وكانت مفروضة على الأنبياء وأممهم متفرقة ، وأول من صلّى الصبح آدم عليه السلام حين أهبط إلى الأرض ، ورأى ظلمة الليل وابتلاج الفجر بعده ، وأول من صلّى الظهر ابراهيم عليه السلام حين فدى اللّه له ابنه إسماعيل ، وأول من صلّى العصر يونس عليه السلام حينما نجاه اللّه من ظلمات البحر ، وأول من صلّى المغرب عيسى عليه السلام حين شرفه اللّه بالإنجيل وأعطاه(2/438)
ج 2 ، ص : 439
إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وأول من صلّى العشاء موسى عليه السلام حين خرج من مدين وضل الطريق فكان هداه فيه ، راجع الآية 30 من سورة القصص المارة.
مطلب تعليم الرسول كيفية الصلاة وكونها من خصائص هذه الأمة والحكمة فيها :
لكن صلاتهم ليست على هيئة صلاتنا هذه وعدد ركعاتها ، إذ كل منهم أداها على النحو الذي ألهمه اللّه إياه ، والحكمة في كونها خمسا لا يعلمها على الحقيقة إلا اللّه ، وقيل لأن الحواس خمس وتقع المعاصي فيما بينها ليلا ونهارا ، وقد أشار صلّى اللّه عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله أرأيتم لو كان على باب أحدكم نهر جار ليغتسل منه منه في اليوم والليلة خمس مرات ، أكان ذلك يبقي من درنه شيئا ؟ قالوا لا يا رسول اللّه ، قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللّه بهن الخطايا.
وقد سئل ابن عباس هل تجد الصلوات الخمس بالقرآن ، قال نعم إن أوقاتها مبينة في قوله تعالى (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الآية 18 من سورة الروم من ج 2 ، وكذلك من الآية 130 من سورة طه المارة ، وكذلك في الآيتين 77 و78 الآتيتين من هذه السورة ، أما عدد ركعاتها فلم بشر إليه القرآن ، وإنما ثبتت بفعل الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وتعليمه وهو لا ينطق عن الهوى ، ولا يفعل من نفسه بل بوحي من ربه القائل (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 7 من سورة الحشر في ج 3 وقال تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) الآية 79 من سورة النساء من ج 3 أيضا قال تعالى «و آتينا موسى الكتاب» جملة واحدة منسوخا على الواح بخلاف القرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد فإنه أنزل بحوتا على قلبك بواسطة الملك وأوعينا كه بلغتك ووقّرناه في صدرك غير منسوخ على شىء لأنك أمي راجع بحث نزول القرآن في المقدمة «وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» آل يعقوب الملقب بإسرائيل (أي صفوة اللّه من خلقه) ليهتدوا بهديه وقلنا لهم فيه «أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» 2 تتكلون عليه في أموركم يا «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ» في السفينة وانجيناه من الغرق حين لم يكن له من يتوكل عليه غيرنا «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» 3 لي يحمدني على طعامه وشرابه ولبسه واظلاله كثيرا ولهذا وصفه(2/439)
ج 2 ، ص : 440
بالشكر «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ» أعلمناهم في التوراة وقلنا لهم على لسان رسولهم وحيا «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ» التي بوأناكم إياها من الشام وبيت المقدس وأطرافهما بأنكم ستعملون فيها الشرور والمعاصي والعبث بالناس «مَرَّتَيْنِ» الأولى قتل شعيا وحبس أرميا عليهما السلام حين إنذراهم سخط اللّه تعالى إن لم يقلعوا ممّا هم عليه ، والثانية قتل يحيى والتصدي لقتل عيسى عليهما السلام لما دعواهما إلى اللّه والدين الحق الذي عبثوا به وغيروا أحكامه ، يقول اللّه تعالى وعزتي وجلالي لتفعلنّ ذلك «وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» 4 فتتكبرون على الناس وتظلمونهم وسنسلط عليكم من لا يرحمكم انتقاما لهم «فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما» أي العذاب الموقت المقدر لعقاب المرة الأولى لعدم ارتداعكم عن الإفساد واغتراركم بإمهال اللّه «بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا» مسخرين فيما نقضيه فيكم على أيديهم قالوا هو بختنصر الذي لم يعرف اسم أبيه ، وكان عاملا على العراق لملك الأقاليم (لهراست ابن كى اجنود) وكان ذلك مشتغلا بقتال الترك فوجه بختنصر إلى بني إسرائيل وهذه الإضافة ليست للتشريف لأن الكافر ليس بأهل له ولكن من قبيل قوله تعالى :
(كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) الآية 129 من الأنعام في ج 2 ، ولأنها جاءت باللام المفيدة للملك والكل مملوكون فلا محل للقول بأنها أي جملة (عبادا لنا) اضافة تشريفية البتة وعلى هذا ما ورد في الحديث القدسي (الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه) أي أنه آلة للانتقام فيكون المراد من الآية والحديث بيان كون هؤلاء المسلطين مظاهر لأسمائه تعالى المذل المنتقم الجبار ثم وصف هؤلاء العباد بأنهم «أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» في القتال أصحاب شوكة وبطش في الحرب لا يقاومون لشدة شكيمتهم وكثرة عددهم وعددهم الدال عليه التنوين «فَجاسُوا» أي يجوسون ، وجاء بلفظ الماضي لتحقق وقوعه أي أنهم إذا جاءوكم لا يكتفون بقتل للقاتل منكم بل انهم يطوقون المنازل ويتحرون الفارين والمخبّئين لاستقصاء القتل والسلب والأسر ، فلا يتركون أحدا من شرهم ، ولهذا فإنهم يفتشون «خلال» بين وأواسط وأطراف «الدِّيارِ» الكائنة في بيت المقدس فيقتلون من عثروا عليه فيها من علمائهم وأحبارهم ووجهائهم غير مراعين حرمته ومن بجواره حتى إنهم ليخرّبون البيت نفسه ويحرفون(2/440)
ج 2 ، ص : 441
التوراة ويسلبون ويأسرون من عثروا عليه «وَكانَ» معروفا في أزلنا اجراء هذا العقاب الذي نوعدهم به في هذه القسوة الصارمة التي لا رحمة فيها ولا شفقة ولا مروءة «وعدا» منا أوحينا به إلى أنبيائهم ، وأنذروهم به وخوفوهم غبّه ولم يمتثلوا ولهذا صار «مَفْعُولًا» 5 واقعا البتة لكونه قضاء مبرما من لدنا لا مردّ له ، وكان ذلك كله ، وانتهكوا حرماتهم أيضا وسبوا سبعين ألفا منهم ، فجعلوهم أرقاء لهم «ثُمَّ» بعد هذا الحادث العظيم الفظيع «رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ» الغلبة والدولة بأن جعلنا لكم السلطة «عَلَيْهِمْ» أي على الذين تسلطوا عليكم وفعلوا ما فعلوا بكم إذ قتل بختنصر واستنقذ المسبيّين من دولته ورجعنا لكم الملك والسطوة في بيت المقدس وحواليه ورجعنا حالتكم إلى أحسن مما كانت عليه قبلا ، يدل على هذا قوله تعالى «وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ» زيادة على ما كان عندكم وقويناكم وباركنا فيكم حتى صرتم أكثر عددا وغناء مما كنتم عليه قبل القتل والسبي والنهب «وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً» 6 جيشا من عدوكم إذ ظهر لنا بعد إيقاع الذل فيكم والصغار عليكم وخلودكم إلى المسكنة وتمادي عدم الرحمة عليكم من عدوكم ، أنكم تبتم ورجعتم إلى الطاعة والإيمان وتركتم الإفساد والعصيان وجزمتم على عدم العودة إلى الكفر بنعمنا وذلك كما قيل بعد مائة سنة كما سيأتي بالقصة بعد.
واعلموا يا بني إسرائيل أنكم «إِنْ أَحْسَنْتُمْ» في هذه المرة فيما بينكم وبين اللّه وبين الناس وامتثلتم أوامر اللّه وأعرضتم عن نواهيه فيما بينكم وبين اللّه وخلقه من الآن فصاعدا عن إيمان صادق واخلاص وايقان وحسن نية ، فتكونوا قد «أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» لأن فائدة الإحسان تعود عليكم ونفعه خاص بكم «وَإِنْ أَسَأْتُمْ» فيما بينكم وبين اللّه وبين خلقه ، وانتهكتم حرماته ورجعتم على الإساءة الأولى واستمررتم عليها «فَلَها» فلأنفسكم تكون العاقبة السيئة خاصة ، جزاء لإساءتكم المكررة ونقضكم عهد اللّه ورجوعكم إلى ما تبتم عنه ، فعليكم من الآن أن تنتبهوا يا بني إسرائيل «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ» أي عقابها المترتب على رجوعكم إلى المنكرات وعودكم إلى الإفساد في البلاد والعباد ، بعد هذه النعمة التي مننّا بها عليكم ، فاعلموا أن ما ينزل بكم أشد وأفظع وأكبر من العقاب الأول بدلالة قوله جل قوله وعزتي وجلالي(2/441)
ج 2 ، ص : 442
«لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ» بأن يوقعوا فيكم أفعالا عنيفة فظيعة تخزيكم خزيا يظهر أثر كآبته على وجوهكم بأكثر مما فعلوه بكم في المرة الأولى من الخزي والعار والهوان والذل والصغار «وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ» عنوة فينتهكوا حرمته ويهدموه ويحرقوا ما فيه من الكتب والآثار ويقتلون من يحتمي به ومن في جواره من علماء وأحبار وربانيين وغيرهم «كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» إذ فعلوا به وبكم ذلك ولم يرعوا له حرمة ولا لكم رحمة «وَلِيُتَبِّرُوا» يهلكوا ويمزقوا ويفتتوا «ما عَلَوْا» عليه من نفس ومال وبناء «تَتْبِيراً» 7 لم تتصوره عقولكم والتتبير في اللغة التهديم ، قال الشاعر :
وما الناس إلا عاملان فعامل يتبّر ما يبني وآخر رافع
أي أنهم يهدمون البناء والبنية من كل ما غلبوا عليه.
قال سعيد بن جبير التتبير كلمة نبطية بمعنى الهلاك ، أي يهلكون كل ما استولوا عليه أو وصلت إليه أيديهم دون رأفة ، ولكن بني إسرائيل أنستهم نعم اللّه الشكر فعادوا إلى ما نهوا عنه فسلط اللّه عليهم الفرس والروم فقتلوهم شر قتله وسبوهم أشنع سبي ونهبوهم أفظع نهب.
مطلب واقعتا بني إسرائيل وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان :
وخلاصة القصتين على ما ذكره الأخباريون من القصاص أن بني إسرائيل كانوا قبل داود عليه السلام ، إذا ملك اللّه عليهم ملكا بعث معه نبيا يسدد أمره ويرشده ، فلا يستبد بشيء دون مشورته ، وكانوا تابعين لأحكام التوراة ، إذ لم ينزل اللّه لهم كتابا بعدها إلى زمن عيسى عليه السلام ، إذ أنزل عليه الإنجيل بتعديل بعض أحكامها فيما يختص بالمعاملات وفروع بعض العبادات أما ما يتعلق بأصول الدين الثلاثة الاعتراف بالإله الواحد والنبوة والرسالة والبعث والحساب ، فمكلف بها جميع الخلق من نشأتهم إلى إبادتهم ، لأنها لا تقبل التعديل ولا التأويل البتة ، أما القاعدة الشرعية وهي تبدل الأحكام بتبدل الأزمان فهي خاصة بالمعاملات بين الناس فقط ، أما ما يتعلق بالعبادات وفروعها فلا تبديل ولا تغير ، على أنه قد يقع بعض تغير في فروع العبادات من حيث القلة والكثرة في العود والأوقات ونوع التوبة والعفو والقصاص ومقدار الزكاة ولزوم الحج والرخص والعزائم وشبهها كما سيأتي في الآية(2/442)
ج 2 ، ص : 443
37 فما بعدها من سورة الشورى في ج 2 ، قالوا لمّا صار الملك إلى رجل منهم يدعى صديقه بعث اللّه معه أشعيا عليه السلام نبيا وكان من جملة ما بشر به هذا النبي قومه (قوله أبشري أورشليم) يريد أرض سليمان لأن أور بمعنى أرض ، وشليم بمعنى سليمان ، إذ لا يوجد حرف السين بالعبراني ، ولذلك يسمون موسى موشي وهي أراضي فلسطين المعروفة ، الآن يأتيك راكب الحمار (يعني عيسى عليه السلام) ومن بعده صاحب البعير (يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلم) قالوا وكانوا على أرغد عيش وأحسن حال ثم بعد زمان طويل كثرت فيهم الأحداث فغيروا وبدّلوا وطغوا وبغوا وكان ملكهم تمرض فجاءه النبي وقال له ، إن سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة الف راية قد نزل بك وقد هابه جميع الناس خوفا منه ، فقال يا نبي اللّه هل جاءك وحي من اللّه بشأني ؟ فقال أوحى اللّه لي أن توصي وتستخلف من تشاء على ملكك ، فإنك ميّت ، فأقبل الملك على ربّه وصلى ودعا وتضرع وبكى بقلب مخلص قالوا فاستجاب اللّه دعائه وأوحى إلى نبيه بأنه أخر أجله خمس عشرة سنة ، وان يجعل ماء التين على قرحته فيشفى ، فأخبره النبي ففعل ما قاله له وشفي ، ثم قال للنبي اسأل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع في عدونا ، فأوحى اللّه إلى النبي أن يقول للملك إن اللّه تعالى بسبب إخلاصه كفاه شر عدوه ، وانهم سيصبحون غدا كلهم موتى إلا سنجاريب وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر ، فأخبر الملك بذلك وإذا بالصباح صوت الصارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن اللّه قد كفاك عدوك فخرج الملك وبعد أن رأى فعل اللّه بعدوه أمر بإحضار سنجاريب والخمسة الباقين معه ، فأحضروهم إلى قصره ، فلما رآهم أذلاء أمامه خرّ للّه ساجدا وبقي من الصبح إلى العصر ، ثم رفع رأسه فإذا هم لا يزالون وقوفا فقال لسنجاريب كيف رأيت فعل ربنا بكم ؟ فقال سنجاريب.
أتانا خبره قبل أن نخرج إليكم ولم نطع المرشد ، والقانا في الشقاء قلة عقولنا ، فقال له الملك ، إن اللّه تعالى لم يبقك وكتبتك إلا لتزدادوا شقاء في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما فعله ربنا فيكم ، إذ أهلك جيوشكم كلها على غير علم منا ومنكم ، فاذهبوا وأنذروا قومكم بذلك لئلا تحدثهم أنفسهم بغزونا ثانية ، قالوا نفعل ثم(2/443)
ج 2 ، ص : 444
أمرهم وأذن لهم بالانصراف ، فذهبوا ولما وصلوا بابل أخبروا قومهم بما وقع فيهم فجاء إليهم السحرة والكهان وقالوا قد أخبرناكم بربهم ، فلم تقبلوا منا فكان ما كان ثم ان سنجاريب مات واستخلف بختنصر المار ذكره آنفا في الآية الخامسة ، وما قيل أنه كان حفيد سنجاريب لم يتثبت من صحته ، فقام بأمر قومه بعده ، وقضى فيهم بقضائه ، ثم بلغه أن مات ملك إسرائيل وأنهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا ، ولم يصغوا إلى نبيهم ولم يسمعوا له قولا وأنهم لما شدّد عليهم بالوعظ والزجر والتهديد والتخويف عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فانفلقت له شجرة ودخل فيها فوضعوا المنشار على تلك الشجرة ونشروها حتى قطعوه في وسطها نصفين ، وإن الملك كان استخلف عليهم ناشئة بن أحوص ، ثم بعث اللّه لهم نبيّا ليسدّد أمرهم اسمه أرميا بن خليقائي من سبط هارون بن عمران.
مطلب الواقعة الأولى على بني إسرائيل :
ثم عظمت فيهم الأحداث وأكثروا الفساد فأوحى اللّه إلى نبيهم أن يبلغهم سوء عاقبتهم ويذكرهم بأحوال الأمم السابقة المهلكة ، وأسباب إهلاكهم وإنجاء المؤمنين منهم ، وبين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية ، وان ينذرهم بأن اللّه تعالى أقسم بعزته وجلاله أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه ويتوبوا إلى اللّه ليقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم ، وليسلطن عليهم جبارا قاسيا يلبسه الهيبة وينزع من صدره الرحمة ، يتبعه عدد مثل سواد الليل ، فأبلغهم ذلك نبيهم فلم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لقوله ، فأوحى اللّه إلى نبيهم أرميا عليه السلام أبلغهم إني مهلكهم بيافث من أهل بابل ، فقبضوا على نبيّهم وحبسوه بدل أن يسمعوا له ويطيعوه ، فسلط اللّه عليهم بختنصر وأوقع في قلبه غزوهم ، فخرج إليهم في ستمائة ألف راية من جنوده ووطئ بلادهم ودخل بيت المقدس ، وقتل بني إسرائيل الذين هم فيه شر قتلة ، وأدام القتل فيهم حتى أفناهم وخرّب بيت المقدس وحرق ما فيه من كتب وأمر جنوده فملأوه ترابا ، ثم أمرهم أن يجمعوا من بلاد القدس من بقي منهم ، فجمعوهم وأحضروهم بين يديه فاختار منهم سبعين ألفا وقسمهم بين ملوكه ، وخرج بهم والغنائم التي أخذها منهم وأثاث بيت المقدس ، ثم فرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فرقة قتلهم وفرقة(2/444)
ج 2 ، ص : 445
سباهم وأسكن الثالثة بالشام ، وتركهم وذهب لبلاده ظافرا ، وهذه هي الواقعة الأولى التي حذر اللّه بني إسرائيل منها.
قالوا ولما وصل بختنصر بمن معه بابل وأقام في سلطانه ما شاء اللّه أن يقوم ، رأى رؤيا عجيبة ، وهي أنه رأى شيئا أصابه فأنساه الذي رأى ، فدعا دانيال وجنايا وعزاريا وميشائيل من ذراري أنبياء بني إسرائيل الذين هم في جملة السبايا ، وسألهم تأويل رؤياه ، فقالوا أخبرنا بها نخبرك بتأويلها ، فقال لهم ما اذكرها لأني رأيت شيئا أنسانيها وكذلك نسيت الشيء الذي رأيته ، فأنسانيها ، ولم يبق شيء بفكري أبدا لا من الرؤيا ولا من الذي أنسانيها لشدة هول ما رأيت ، ولئن لم تخبروني بتأويلها وبالذي أنسانيها لا نتزعن أكتافكم ، فاستمهلوه وخرجوا من عنده فدعوا للّه وتضرعوا إليه ، فأوحى اللّه إليهم بها وبالذي أنساها له ، فجاؤا إليه فقالوا له رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار ، وركبتاه وفخذاه من نحلس وبطنه من فضة ، وصدره من ذهب ، ورأسه وعنقه من حديد ، قال صدقتم قالوا وبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل اللّه صخرة من السماء فدقته ، فهي التي أنستك ذلك ، قال صدقتم فما تأويلها ؟ قالوا إنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين من بعض ملكا ، وبعضهم كان أشد ملكا ، فالفخار أضعفه وفوقه النحاس أشد منه ثم الفضة أحسن منه وأفضل والذهب أحسن من الفضة وأفضل والحديد هو ملكك ، فهذا أشد وأعز مما قبله لأنه آلة الحرب وقوام النصر يكون فيه ، والصخرة التي رأيت أرسلها اللّه من السماء فدقته فنبيّ يبعثه اللّه من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه شئت أم أبيت ، قالوا فسكت وأذعن ولم ينبس بشيء لأنه كان حاضرا واقعة سنجاريب المارّة آنفا ووقر في قلبه أن اللّه تعالى يغتار لأنبيائه وقد صدقهم لأنهم أخبروه بشيء لا يعلمونه ، وانهم علموه بإعلام اللّه إياهم ، فتركهم ولم يكلمهم ، قالوا ثم ان أهل بابل قالوا لبختنصر أرأيت هؤلاء
الغلمان الإسرائيليين ، فإنا قد أنكرنا نساءنا منا منذ كانوا معنا حيث انصرفت وجوههن عنا إليهم ، فاخرجهم من بين أظهرنا واقتلهم ، فقال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من عنده فليفعل ، أما أنا فلا أفعل بهم شيئا فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا إلى اللّه عز وجل فوعدهم اللّه أن يحييهم ، قالوا فقتلوهم إلا من كان عند(2/445)
ج 2 ، ص : 446
بختنصر ، ثم لما أراد اللّه تعالى إهلاك بختنصر انبعث فقال لمن عنده من بني إسرائيل أرأيتم هذا البيت الذي خربته والناس الذين قتلتهم منكم ، قالوا البيت للّه ومن قتلت أهله كانوا من وزراء الأنبياء ، فظلموا وتعدوا حدود اللّه فسلطك ربك وربهم رب السموات والأرض عليهم بذنوبهم فهلكوا ، فلم يعجبه قولهم لأنهم لم يسندوا له شيئا من ذلك ولم يصفوه بصفة أو عزة ، فدخل إبليس في أنفه فاستكبر وتجبر وظن أنه فعل ما فعل بقوته وسلطانه ، فقال أخبروني كيف أطلع إلى السماء فأقتل من فيها وأدخلها في ملكي لأني قد
فرغت من أهل الأرض (ومن هنا ، قيل ملك الأرض أربعة كافران بختنصر ونمروذ ، ومؤمنان سليمان وذو القرنين).
قالوا لن تقدر على هذا ، قال لتفعلن أو لاقتلنكم عن آخركم ، فبكوا وتضرعوا إلى اللّه تعالى قالوا فبعث اللّه عز وجل على بختنصر بعوضة دخلت في منخره حتى عضت أم دماغه ، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجا له رأسه أي يضرب على فم ؟ ؟ ؟ دماغه ، ولم يزل كذلك حتى مات ، فشقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه ، ليري اللّه العباد قدرته بأن أهلكه بأضعف خلقه كما أهلك أخاه النمروذ ، ونجى اللّه من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى الشام ، فنموا وكثروا وتحولوا حتى صاروا على حالة أحسن مما كانوا عليها قبل ، وزعموا أن اللّه تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا في بابل ولحقوا بهم إلا أنه لم يكن عندهم من اللّه عهد يرجعون إليه في أموره ، لأن التوراة أحرقت وكذلك بقية الصحف مما كان في البيت ، وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل ، فلما رجع معهم إلى الشام صار يبكي ليله ونهاره وخرج عن الناس ، فجاءه رجل فقال له ما يبكيك ، قال ابكي على كتاب اللّه وعهده الذي كان بين أظهرنا لأنه لا يصلح ديننا ودنيانا غيره ، قال أن يردهم اللّه عليك ؟ قال نعم قال ارجع إلى بيتك فصم وتطهر وطهر ثيابك وموعدك هذا المكان غدا ، فرجع إلى بيته وفعل ما أمره به ذلك الرجل ، ثم عمد ورجع إلى المكان الذي وعده به ، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل باناء فيه ماء وهو ملك بعثه اللّه إليه فسقاه فتمثلث التوراة في صدره ، فرجع إلى قومه فأملى لهم التوراة من صدره وكان منهم من يعرفها فأحبوه حبا شديدا وعملوا بها وصار حالهم على أحسن ما يرام ، وهو معنى قوله تعالى (ثُمَّ(2/446)
ج 2 ، ص : 447
رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ)
الآية المارة ، ثم قبض اللّه روح عزير عليه السلام فطال عليهم الأمر في الراحة والعبادة وانقلب أمرهم إلى الفساد وصاروا كلما جاءهم نبي كذبوه وأحدثوا الأحداث العاطلة وطغوا وبغوا وعمدوا إلى قتل الأنبياء الذين ينهونهم ويحذرونهم عاقبة أمرهم ، وصاروا يقتلون الأنبياء بغير حق ، وآخر أنبيائهم زكريا عليه السلام هرب منهم لما أرادوا قتله إلى شجرة هناك ، فدخلها فنشروه نصفين فيها كما فعلوا بأشعيا ، وتصدوا لقتل عيسى عليه السلام لتحق عليهم كلمة العذاب فوقاه اللّه منهم ورفعه إلى السماء وألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه فقتلوه على ظنهم أنه هو عيسى ابن مريم كما سيأتي تفصيله في الآية 54 فما بعدها من سورة آل عمران والآية 156 فما بعدها من سورة النساء من ج 3 فاستحقوا عذاب اللّه وسخطه الذي وعدهم به للمرة الثانية :
مطلب الواقعة الثانية على بني إسرائيل :
فبعث اللّه عليهم ملك ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بملوكه وجيوشه حتى دخل الشام وظهر عليهم فأفناهم قتلا وأسرا ونهبا وأمر قائده أن يديم القتل فيهم في بيت المقدس حتى يسيل الدم في وسط المعسكر ، وقال له اني حلفت بإلهي أن أفعل فيهم هكذا إن ظفرت بهم ، فدخل القائد واسمه بيور زاذان المدينة ، وصار يقتل فيهم فرأى في البقعة التي يقربون فيها القرابين أي يذبحون فيها الصدقات دما يغلي ، فسألهم عنه فقالوا هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك صار يغلي وانا منذ نمنمئة سنة لقرب القرابين فتقبل منا إلا هذا ، فقال ما صدقتموني ، فقالوا لو كان أولى زماننا لقبل ولكن انقطع عنا الملك والنبوة والوحي ، فلذلك لم يقبل فلم يصدقهم.
فذبح على ذلك الدم سبعمئة وسبعين روحا من رؤسائهم ، فلم يهدأ الدم فذبح سبعمئة غلام منهم ، فلم يهدأ أيضا فذبح سبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فلم يهدأ ، فقال لهم ويلكم أصدقوني عن هذا الدم قبل أن أفنيكم فلا أترك منكم أحدا ، فلما رأوا الجهد وشدة القتل وتصميمه على ما قال قالوا له هذا دم نبي كان ينهانا عن سخط اللّه ويأمرنا بالخير ويهددنا ما أوقعتموه فينا الآن فلم نصدقه وقتلناه واسمه يحيى بن زكريا ، فقال الآن صدقتم لمثل هذا ينتقم اللّه منكم ، فأمر بإغلاق المدينة وإخراج(2/447)
ج 2 ، ص : 448
من كان معه من الجيش وخرّ ساجدا للّه تعالى ، ثم رفع رأسه وخلا في نبي إسرائيل وقال يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك ومن قتل منهم ، فاهدا بإذن اللّه ربك قبل أن أهلكهم جميعا ، فإني مكلف من قبل الملك خردوش بإدامة القتل حتى يسيل الدم إلى معسكره ، قالوا فهدأ الدم بإذن اللّه تعالى ورفع بيور زاذان عنهم القتل وقال آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أن لا رب غيره ، ثم التفت إلى بني إسرائيل وقال لهم إني لا أستطيع مخالفة الملك من لزوم إسالة الدم إلى معسكره ، قالوا افعل ما أمرت به ، فأمرهم فحفروا خندقا وأمرهم بذبح البقر والحمير والأنعام فذبحوها وأجرى دمها حتى سال إلى المعسكر ، ثم امر بالقتلى فطرحوا فوق تلك الحيوانات حتى إذا كشف الملك لا يظن أنه فعل ما فعل من الحيلة خلافا لأمره فيغضب عليه ، فلما رأى خردوش الدم وصل إلى المعسكر بعث إليه أن إرفع عنهم القتل ، ثم أخذ جنوده وغنائمه وعاد إلى ملكه ، وكاد أن يفني بني إسرائيل عن بكرة أبيهم في هذه الواقعة لو لا الحيلة التي فعلها القائد رحمه اللّه ، وهذه الواقعة الأخيرة وهي أعظم من الأولى وقد انتقل الملك إلى الشام ونواحيها وإلى الأردن بسبب خراب القدس وضواحيها في هذه الواقعة وسلب اللّه منهم ما أنعم به عليهم من أموال وأولاد وملك ، وشتتهم في البلاد فلم تقم لهم راية بعد ذلك ، إذ تعقبهم طيطوس بن اسبانوش الرومي فخرب ما بقي من بلادهم ، وطردهم عنها ، ونزع منهم بقية الملك والرئاسة ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وبقوا مشتنين في المدن والقرى وأينما حلوا حل بهم الصغار وفرضت عليهم الجزية ، وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فعمره المسلمون بأمره في خلافته ، ثم جدده على ما هو عليه الآن سليمان بن عبد الملك وابنه الوليد.
مطلب قتل يحيى عليه السلام :
قالوا والسبب في قتل يحيى أن ملكهم في زمنه كان يكرمه ويجلس معه ويدنيه منه ، وأن الملك هوي بنت أخيه التي أمها زوجته فسأل يحيى أن يتزوجها فنهاه عن نكاحها لأنها لا تحل له ، فبلغ أمها ذلك فحقدت على يحيى وعمدت ذات يوم حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابها وزينتها وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وأمرتها(2/448)
ج 2 ، ص : 449
تسقيه ، فإذا راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته ، فإن أعطاها سألت رأس يحيى وأن يؤتى به على طبق ، ففعلت فلما راودها قالت له لا أوافقك ؟ ؟ ؟ تعطيني ما سألت ، قال فما تسألين ؟ قالت رأس يحيى وأن يؤتى به على طبق ، قال سلي غير هذا ، قالت لا أريد غيره ، فلما أبت عليه وقد لهبت الشهوة في نفسه الخبيثة أجاب طلبها وأمر بذلك ، فذهبت شرطنه فأمسكوا به وذبحوه وأتوا به في طست ، فوضع بين يديه ، فلما رآه تكلم الرأس فقال لا يحلّ لك زواجها ، يصغ له لاستيلاء النفس البهيمية على جوارحه فواقعها ، ولما أصبح رأى دمه يغلي محل ذبح القرابين ، فأمر بإلقاء التراب عليه ، وكلما وضع عليه التراب رقى الدم ، زال يلقى عليه التراب وهو يغلي حتى سلط اللّه عليهم ملك بابل وفعل ما فعل.
جاء في الإنجيل ما يقارب هذا ، وان الملك اسمه هيدوريا ، إلا أنه جاء فيه أن أة ظعينة ، راجع الاصحاح 14 من إنجيل متى ، وكذلك بقية الأناجيل الثلاثة حنا ومرقس ولوقا تؤيد بأنها ظعينة ، أما القرآن العظيم فلم يتعرض لهذا البحث.
تعالى «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ» بعد هذه المرة الثانية إن تبتم وأنبتم ؟ ؟ ؟ سكتم بكتابكم وأوامر نبيكم ، فيردّ عليكم الدولة ويمددكم بأموال وبنين كما فعل «وَإِنْ عُدْتُمْ» يا بني إسرائيل إلى المعاصي كأسلافكم «عُدْنا» إلى تجديد بكم بأكثر من ذي قبل ، وقد عادوا قاتلهم اللّه بعد قتل يحيى والتصدي لقتل ؟ ؟ ؟ عليهما السلام ، فطغوا وبغوا ، فسلط عليهم المؤمنين قوم محمد صلّى اللّه عليه وسلم واقتحموا هم وفتحوها عنوة وأرغموهم على الجلاء منها ، وأذلّوهم وأجبروهم على أداء الجزية أن قتلوا منهم ما قتلوا ، وشتتوا بالبلاد ، وحرمهم اللّه نعمة الملك والنبوة ، ؟ ؟ ؟ طع رجاءهم منها ، وسيدوم الصغار عليهم إن شاء اللّه إلى خروج مسيحهم الدجال ؟ ؟ ؟ كون على يدي جيش عيسى بن مريم عليه السلام.
وان ما يتفوهون به من ؟ ؟ ؟ ور ومساعدة الإنكليز لهم على تنفيذه لا يتيسر لهم إن شاء اللّه كما يريدون تعاون المسلمون ووحدوا كلمتهم ، أما إذا تفرقوا فلا بد أن يسلطه اللّه عليهم ؟ ؟ ؟ الجماعة رحمة والفرقة عذاب.
ومهما تيقن اليهود تحقيق حلمهم فإنهم سيبقون ؟ ؟ ؟ ذل من يساعدهم على انجاز ذلك الوعد لا أنجزه اللّه لهم ، ومهما كان فإنه(2/449)
ج 2 ، ص : 450
لا يدوم وسيوقع اللّه بهم ما أوقعه بأسلافهم لأنهم عنصر شر ويأبى اللّه للشر أن يدوم ، ومعول ظلم ويأبي كرم اللّه إقراره ، راجع الآية 167 من سورة الأعراف المارة ، «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» 8 سجنا يوم القيامة ، وقد نطقت به العرب قال لبيد :
ومقامة غلب الرقاب كأنهم جن على باب الحصير قيام
والمقامة الجماعة ، قال :
وفيهم مقامات حسان وجوههم كأنّما النور منها ثمّ ينبثق
وغلب في البيت الأول معناه غلظ ، والمراد أن عذابهم هذا بالقتل والي والذل والقهر والحقارة والصغار ما داموا على ما هم عليه في الدنيا وفي الآخرة ، فإن موعدهم جهنم لا مخلص لهم منها أبدا ، قال تعالى «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ» المنزل عليك يا سيد الرسل «يَهْدِي لِلَّتِي» الطريقة هِيَ «أَقْوَمُ» أعدل وأصوب من الطرق الأولى قبلها «وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا «أَنَّ لَهُمْ» عند اللّه في الآخرة «أَجْراً كَبِيراً» 9 جزاء أعمالهم الكريمة ، وهذا الأجر هو الجنة ونعيمها ولا أكبر منه أبدا «وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» في حياتهم الدنيا وينكرون وجودها ويكذبون من أخبرهم بها «أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» 10 في الآخرة هو جهنم التي لا آلم من عذابها ،
قال تعالى «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ» جنسه وأسند إليه حال بعض أفراده أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه ، وحذفت واو يدع لفظا دون جازم لأنها تحذف في الوصل لاجتماع الساكنين وتحذف بالوقف وهي مرادة معنى حملا للوقوف على الوصل ، أي أن بعض أفراد الإنسان حال غضبه يدعو على نفسه «بِالشَّرِّ» وقد يتعدى بدعائه على ماله وولده وقومه بالهلاك واللعن «دُعاءَهُ» مثل دعاءه «بِالْخَيْرِ» لنفسه وولده وماله وعشيرته عند الرضاء بطلب البقاء لهم وطول البركة فيهم ، وهذا ناشىء من عدم تأنيه وتؤدته «وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» 11 يتسرع بالأمر تسرع الغافل إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضره لا يتبصر بعاقبة أمره ، والآية عامة في كل إنسان هذا ديدنه ، وخصه بعض المفسرين بالكافر بأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل بطلب نزوله(2/450)
ج 2 ، ص : 451
سخرية ، كدعائه بالخير إذا مسته الشدة حقيقة ، على أن العذاب آتيه لا محالة استعجل به أم لا ، سخر فيه أم لا ، فإذا فاته عذاب الدنيا لحقه عذاب الآخرة ، وقال ابن عباس نزلت في النضر بن الحارث إذ قال (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الذي يقوله محمد (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية 33 من الأنفال في ج 3 ، وقال إنّ اللّه أجاب دعاءه وقيض له من ضرب عنقه وقتل صبرا ، إلا أنه غير وجيه ، لأن هذه الآية لم تنزل بعد ، وهناك أقوال أنها بحق آدم عليه السلام ، ولكن لا يوثق بصحتها ، لذلك فإن ما جرينا عليه من الإطلاق أولى ليدخل فيها كل من هذا شأنه وأنسب بالمقام قال تعالى «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ» هذا شروع في بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالدلائل الآفاقية ، لأن اللّه تعالى قال هنا (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) إلخ الآية المارة ، وقال في حقه صلّى اللّه عليه وسلم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية 53 من الشورى في ج 2 ، أي الطريق الأمثل السوي.
فقد وصف اللّه كتابه ورسوله بأنهما يدعوان الناس لأن يهتدوا بالطريقة القيّمة المستقيمة إلى الدين القيم السويّ ، ولا يراد بالتفضيل هذا اسم للتفضيل على معنى أنها أفضل من غيرها ، إذ لا مشاركة بين ما يهدي إليه القرآن وبين ما يهدي إليه غيره ، فالمراد بالأقوم القيم على حد قوله تعالى (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) الآية 3 من سورة البينة في ج 3 ، (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) الآية 5 منها ، وهو على حدّ قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الآية 27 من سورة الروم في ج 2 ، فهو بمعنى هين ، إذ لا شيء على اللّه أهون من غيره في الخلق والصنع والإبداع ، بل كلها عنده سواء ، والمعنى أن قومك يا أكرم الرسل يأبون الملة الحسنى ويريدون التي ألوم وهي عبادة الأصنام التي يكثر لومهم عليها في الدنيا والآخرة ، ويستعجلون بطلب نزول العذاب ويدعون على أنفسهم بالشر وهم تائهون في ذلك.
هذا وقد جاء النهي صريحا في المنع من دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله ، فقد أخرج أبو داود والبذار عن جابر قال قال رسول صلّى اللّه عليه وسلم : لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم ، لئلا توافقوا من اللّه ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم.
أما ما وقع من أن حضرة الرسول دعا على بعض أهله فهو للزجر ، فعلى العاقل أن يتجنب(2/451)
ج 2 ، ص : 452
الدعاء بالشّر ولو كان حال غضبه لئلا بصادف ساعة الإجابة فيندم ولات حين ندم ، وعدا عن هذا فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام انه قال : اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرض كما يرضى البشر ، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة.
ولأن غضبة صلّى اللّه عليه وسلم ليس بخارج عن حكم الشرع لأنه لا يغضب إلا للّه كما أن رضاء.
لا يكون إلا للّه ، وهو مأمور بالحكم بالظاهر واللّه يتولى السرائر «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» العظيمة الدالة على قدرتنا والناشئ عنها مصالح العباد التي لا تتم إلا بها ، لأن القرآن كما أوصل إلى الخلق نعم الدين فيوصل في هذا الكوكب إليهم ما يكمل به نعم الدنيا.
مطلب الشمس والقمر والفصول الأربعة والليل والنهار وساعاتهما :
والمراد بالمحو هو عدم جعل قوة القمر بالإضائة مثل الشمس «وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ» التي هي الشمس «مُبْصِرَةً» مضيئة جدا يبصر فيها كل شيء ، ولو لا ذلك لما علم الليل من النهار ولا عرف الحساب ولتعطلت الأمور ، فالنهار آية عظيمة دالة على قدرة اللّه مكملة نعم الدنيا ، وقد أودع اللّه تعالى فيها ما أودع من منافع ، راجع الآية 37 من سورة يس المارة ، وما ترشدك إليه من الآيات قال ابن عباس جعل اللّه تعالى نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك ، فمحا من نور القمر تسعة وستين فجعلها مع نور الشمس ، وقال بعض المفسرين إن الإضافة بيانية فيكون المعنى فمحونا الآية التي هي الليل فجعلناها مطموسة مظلمة لا يبصر بها ، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة تبصر فيها الأشياء إلا أن ظاهر الآية يؤيد الأول الذي جرينا عليه ، لأنه الحقيقة ولا يعدل عنها بلا ضرورة هنا ، لا سيما وقد ورد الأثر به ، فقد أخرج عبد ابن حميد وغيره عن عكرمة ما قاله ابن عباس بزيادة فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزأ والقمر على جزء واحد ، وهذه النسبة بالنظر لقوة الضياء ما بين الشمس والقمر ، وإلا فالشمس من حيث الحجم أكثر بكثير من القمر كالبعد منه بالنسبة للأرض ، ولا يعلم كنهها على ما هي عليه حقا إلا اللّه ، لأن تقدير الفلكيين عبارة عن ظن وتخمين ليس إلا مهما بالغوا وقالوا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال كانت شمس بالليل وشمس بالنهار(2/452)
ج 2 ، ص : 453
فمحا اللّه شمس الليل فهو المحو الذي في القمر ، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر عن سعيد البصري ان عبد اللّه بن سلام سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن السواد الذي في القمر فقال كان شمسين وقال قال اللّه تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) فالسواد الذي رأيت هو المحو هذا وأنت عليم انه متى دل أثر صحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا ينبغي أن يدعى أن غيره أولى ، ثم بين اللّه تعالى سببا ظاهريا بالنّسبة لما يدخل في عقول الذين لم يتطرقوا إلى الأسباب الأخرى التي هي من العلم الذي علمه اللّه تعالى لرسوله ولم يأمره بتبليغه كما مر في المعجزة الثامنة والخمسين قال تعالى «لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» فيه من طلب المعاش وغيره ، إذ لا يتسنى ذلك لكم في الليل بسبب ابتغائكم الراحة فيه «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» بسبب اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بانتظام بديع لا يتغير ، فتعرفوا المواسم وأوقات الحج ومواقيت السحر والإفطار بالصوم ومواعيد حلول آجال ديونكم واجاراتكم ، ومدد المعاهدات التي تضربونها بينكم ، فالعدد للسنين والحساب للشهور والأيام والساعات ، ولا بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار ، على أن اختلاف القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه ، مثل المدّ والجزر ، ومثل أحوال البحرانات ، وللفلاسفة في بحث محو القمر كلام طويل لا محل له هنا ، وللأثريين فيه أقوال متخالفة ، فمنهم من هو منهمك في وسائل الوصول إليه للوقوف محلى ما يتخيلونه فيه ، ولعمري أن جل ما يقولونه مبني على الحدس والحدس خطأه أكثر من صوابه ، لذلك لم نذكر شيئا مما قالوه فيه ومن أراد استيفاء البحث فيه فليراجع كتبهم ، ومنهم من يتكهن فيه وبما فيه ، ومنهم من اشتغل بنوره وكيفية اقتباسه من الشمس وبعده وقربه منها الى
غير ذلك ، هذا وقد عبّر اللّه تعالى عن الرزق بالفضل ، وعن الكسب بالابتغاء ، لأن العبد لا تأثير له في تحصيل الرزق إلا بالطلب ، والإعطاء منوط باللّه تعالى بطريق التفضل لا بالوجوب وتأثير الطلب مثل تأثير الأسباب العادية لا تتوقف حقيقة الرزق عليه ، وقد جاء في الخبر يطلبك أجلك.
وللّه در القائل : (2/453)
ج 2 ، ص : 454
لقد علمت وما الإسراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعيبني تطلبه ولو قعدت ؟ ؟ ؟ لا يعييني
وإنما قال تعالى لتعلموا بلام التعليل لما قبله من الليل والنهار ، لأن الحساب نوعان شمسي وقمري ، فما هو خاص بالأمور التعبدية كالحج والأهلية فهو قمريّ قال تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية 189 من البقرة في ج 3 وما يتعلق بالأمور الدنيوية فيجوز بالقمري والشمسي ، هذا واعلم أن العرب قديما قسموا النهار إلى اثنتي عشرة ساعة وسموا الأولى الذّرور ، والثانية البزوغ ، والثالثة الضحى ، والرابعة الغزالة ، والخامسة الهاجرة ، والسادسة الزوال ، والسابعة الدلوك ، والثامنة العصر ، والتاسعة الأصيل ، والعاشرة الغيور ، الحادية عشرة الحدور ، والثانية عشرة الغروب ، ومنهم من سمى الأولى البكور ثم الشروق ثم الإشراق ثم الرّاد ثم الضحى ثم المنوع ثم الهاجرة ثم الأصيل ثم العصر فالطفل فالعشي فالغروب.
وقسمو الليل إلى اثنتي عشرة ساعة أيضا فسموا الأولى الشاهد ، والثانية الغسق ، والثالثة القمة ، والرابعة الفحمة ، والخامسة الموهن ، والسادسة القطع ، والسابعة الجوشن ، والثامنة الهتكة ، والتاسعة التباشير ، والعاشرة الفجر الأول ، والحادي عشرة الفجر الثاني ، والثانية عشرة الفجر المعترض ، وقسمت الشهور الاثني عشر إلى ثلاثين وتسعة وعشرين ، وسمت كل ثلاثة أيام باسمه ، فالأولى هلال ، والثانية قمر ، والثالثة بهر ، والرابعة زهر ، والخامسة بيض ، والسادسة درع ، والسابعة ظلم ، والثامنة حنادس ، والتاسعة دآدي ، والعاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار ، وسموا الشهور المتعارف عندنا أسماؤها الآن لمعان متعارفة عندنا ، فالمحرم كانوا يحرمون فيه القتال ، وصفر كانوا يغيرون فيه على بلاد الصفرية ، والربيعان كانوا يحصلون فيها ما أصابوه في صفر ، والجماد إن كانت تسميتها زمن جمود الماء من شدة البرد ، ورجب من الترجيب أي التعظيم ، فإنهم لا يقاتلون فيه ، وشعبان لتشعبهم فيه من كثرة الغارات بعضهم على بعض بعد ما كانت محرمة في رجب ، ورمضان صادفت تسميته الحر الشديد أخذا من الرمضاء أي الحرارة القوية ، وشوال كانوا يتعاهدون فيه إبلهم لأنه أول أشهر الحج أخذا من قولهم شالت الإبل بأذنابها تحضيرا للسفر ، (2/454)
ج 2 ، ص : 455
وذو القعدة لقعودهم فيه عن القتال لأنه من الأشهر الحرم ، وذو الحجة لوقوع الحج فيه ، وكانوا يجرون حسابهم من عقود وغيرها بالأشهر العربية من رؤية هلال كذا إلى رؤية هلال كذا ، ولما كانت المواسم العربية لا تعين الشهور الأربعة لأنها تقع كلها بدوران السنين وكانوا بحاجة لمعرفة المواسم لزراعتهم اضطروا إلى الاستعانة بالتقاويم الأجنبية القبطية والفارسية والسريانية والرومية التي مبناها على حركة الشمس ، وصارت تبني حسابها عليها أيضا من جهة المواسم فقط ، والحساب القبطي ينسب للملك دقلديانوس ، والسرياني للاسكندر المقدوني ، والرومي لأغسطس قيصر ملك الروم ، وكذلك الفرس والسرياني فقد وضعهما لهما ملوكهما.
هذا واللّه أعلم ، راجع الآية 27 من سورة يس المارة ، وما ترشدك إليه فيما يتعلق في هذا البحث ومجرى الشمس والقمر وأيام السنين وغيرها.
ولما ذكر اللّه تعالى أحوال آيتي الليل والنهار وأنهما دليلان من أدلة توحيده ونعمتان من نعمه على أهل الدنيا قال «وَكُلَّ شَيْ ءٍ» من أمور دينكم ودنياكم وما تحتاجونه في معاشكم ومعادكم «فَصَّلْناهُ» بيناه لكم «تَفْصِيلًا» 12 واضحا كافيا وشرحناه على لسان نبينا شرحا شافيا لا التباس فيه ولا شك ولا شبهة ، إذ أظهرنا لكم كل ما تفتقرون إليه فلم نبق لكم حجة تحتجون بها ، قال تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ) الآية 49 من سورة النحل ج 2 ، وقال تعالى (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)
الآية 113 من النساء في ج 3 ، فتبين في هذا أن هذا القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه وسلم يهدي للتي هي أقوم ، قال تعالى «وَكُلَّ إِنسانٍ» ذكر أو أنثى كبيرا أو صغيرا ، لأن النكرة المضافة تكون بمثابة العموم ، وجاءت من باب التغليب ، وإلا فيقال إنسانة ، قال :
إنسانة فتّانة بدر الدجى منها خجل
«أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ» شؤمه وسعده الذي هو نتيجة عمله في دنياه من خير أو شر ، وهو نصيبه وحظه الذي قسمناه له في الأزل مما يتشاءم أو ينفاءل فيه وطوقناه «فِي عُنُقِهِ» كالقلادة ، وخصّ العنق لأنه مما يزين أو يشين ، فإن كان عمله صالحا كان زينة له كالحلى ، وإن كان طالحا كان مشينا كالغل ، أعاذنا اللّه ، ومعنى(2/455)
ج 2 ، ص : 456
اللزوم كناية عن عدم المفارقة له «وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً» مثبتا فيه عمله في دنياه ليحاسب عليه يوم البعث «يَلْقاهُ مَنْشُوراً» 13 أمامه ليطلع عليه ويعلم أن ملائكة اللّه لم تظلمه بشيء ولم تنقص من عمله شيئا لأن هذا الكتاب قد سجله الحفظة الموكلون به وضبطوا فيه حركاته وسكناته ، فإذا مات طوى وحفظ بمكان عند اللّه ، فإذا بعث من قبره أخرج وعرض عليه في موقف الحساب ويقال له «اقْرَأْ كِتابَكَ» الذي دونّاه في حسناتك وسيئاتك ، وانظر إلى عللها وأسبابها وأزمنتها وأمكنتها ، وتأمل هل ظلمك الملك بكتابة ما لم تفعله أو بعدم كتابة ما فعلته من شر أو خير ؟ ويعطي اللّه تعالى إذ ذاك كل أحد قوة القراءة ليشهد هو على نفسه ، ولهذا المغزى يشير قوله تعالى «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» 14 وهذا غاية في العدل ونهاية في الإنصاف إذ اكتفى اللّه من عبده أن يكون هو محاسبا لنفسه فلم يبق في حاجة إلى استشهاد الشهود والطعن فيهم ، وهذا مظهر قوله تعالى في الآية 29 من سورة ق المارة (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ونظائرها إذ لا يؤاخذ اللّه أحدا إلا باعترافه الاختياري ، لأنه أولا لا يستطيع أن ينطق بغير الواقع ، ثانيا إذا سكت أو تعلثم نطقت جوارحه بما اقترفت ، فيسأل عنها فلا يقدر أن أن ينكر شيئا وما بعد الاعتراف حجة.
قال الحسن : لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك.
وقيل إن الكافر يقول يا رب إنك لست بظلام ، فاجعلني أحاسب نفسي.
وقيل إنه يقول يا رب لا أقبل علي شاهدا من غيري ، فيقال له :
(اقرأ كتابك) إلخ.
والباء في بنفسك للتأكيد ويجوز إسقاطها في غير القرآن
ورفع الاسم بعدها وعليه قوله : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وقوله :
ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
والمراد بالنفس ذات الإنسان وشخصه ، وما قيل إن المراد بالنفس جوارح الإنسان لا يتأتى هنا ، لأنه على خلاف ظاهر الآية ، قال تعالى «مَنِ اهْتَدى » في هذه الدنيا بهداية هذا القرآن وعمل بما فيه من الأحكام وآمن بمنزله والمنزل عليه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» فيعود نفع هداه لهالا يتخطاها إلى غيره «وَمَنْ ضَلَّ» هداه وخالف ما جاءه فيه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» فيعود وبال ضلاله على نفسه خاصة(2/456)
ج 2 ، ص : 457
«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » وهذه الجملة كالتأكيد لما قبلها ، أي لا تحمل نفس حاملة لوزرها وزر نفس أخرى غيرها ، فلا يؤاخذ أحد بذنب الآخر قريبا كان أو بعيدا بل كل أحد مختص بذنبه ، وهذه شريعة إبراهيم عليه السلام فمن بعده وكانت شريعة من قبله جارية بمؤاخذة القريب بقريبه ، راجع الآية 68 من سورة والنجم المارة ، وكانت هذه العادة في الجاهلية ثم نفاها الإسلام ، ولكن أعراب البادية حتى الآن متمسكون فيها ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
وانهم كانوا في مبادئ الإسلام أشد كفرا ونفاقا راجع الآية 96 من سورة التوبة في ج 3 ، وهم الآن أشد عتوا وبغيا وطغيانا وعنادا ، لأنهم حتى الآن لا يعرفون من الدين إلا اسمه ومن الشرع إلا رسمه.
قال ابن عباس نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة لما قال لقومه اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم ، إلا أن لفظ الآية عام فبقاؤها على عمومها أولى ، فيدخل فيها هو وغيره ممن على شاكلته.
مطلب في أولاد المشركين وأهل الفترة :
وما قيل إنها نزلت في أطفال المشركين لا صحة له واستدل الجبائي بهذه الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهذه من المسائل الخلافية لتصادم الأحاديث والأخبار في ذلك قال بعض العلماء هم في النار تبعا لآبائهم ، واستدل بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة قالت : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن ولدان المسلمين ، قال في الجنة ، وسألته عن ولدان المشركين اين هم ؟ قال في النار ، قلت يا رسول اللّه لم يدركوا لأعمال ولم تجر عليهم الأفلام ، قال ربك أعلم بما كانوا عاملين (أي لو بلغوا الحلم) والذي نفسي بيده إن شئت أسمعنك تضاغيهم في النار.
إلا أن هذا الخبر قد ضعّفه ابن عبد البر ، فلا يحتج به.
وأنت عليم بأن الحديث إذا طرقه الاحتمال يفقد صلاحيته للاستدلال ، وإنما صح عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه سئل عن أولاد المشركين فقال اللّه أعلم بما كانوا عاملين ، وتوقف بعضهم فيهم ومنهم أبو حنيفة ، والقول الصحيح أنهم ناجون لقوله تعالى «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ» أحدا من خلقنا «حَتَّى نَبْعَثَ» له «رَسُولًا» 15 يرشده في الدنيا لإقامة الحجة عليه وقطعا للمعذرة ، حتى إذا لم يهتدوا بهديه عذبهم اللّه بنوع من أنواع العذاب في(2/457)
ج 2 ، ص : 458
الدنيا وفي الآخرة بالعذاب الأليم في جهنم ، أي أن اللّه تعالت رأفته يقول ما صحّ عنا وما وقع منا بل استحال على سنتنا المبيّنة على الحكم البالغة أن نعذّب أحدا من خلقنا بعذاب دنيوي أو أخروي على فعل شيء وتركه أصليا كان أو فرعيا قبل أن نرسل إليه من يحذره وينذره ويبشره ، وعلى هذا لا يستقيم القول بتعذيب أولاد المشركين كأهل الفترة ، يؤيد هذا ما جاء عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه رأى إبراهيم عليه السلام في الجنّة وحوله أولاد الناس ، قالوا يا رسول اللّه وأولاد المشركين ؟
قال وأولاد المشركين - رواه البخاري في صحيحه - والحديث الذي أخرجه الترمذي في النوادر رواه ابن عبد البر عن أنس قال سألنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم خدم أهل الجنة والآية هذه صرحت بأن لا تعذيب قبل التكليف ، والذي هو دون البلوغ لا يتوجّه عليه التكليف.
واعلم أنه لم يخالف أحد يكون أولاد المسلمين في الجنّة إلا من لا يعتدّ بقوله لقوله صلّى اللّه عليه وسلم ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله اللّه تعالى في الجنة بفضله ورحمته إياهم.
أما من احتج بحديث عائشة رضي اللّه عنها الذي قالت فيه لما توفي صبي من الأنصار :
طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه ، فقال لها صلّى اللّه عليه وسلم :
أو غير ذلك يا عائشة ، إن اللّه تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم.
فإن هذا القول المتضمن معنى النهي لها رضي اللّه عنها هو نهي عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع ، وهذا مثل إنكاره على سعد بن أبي وقاص في قوله لحضرة الرسول بحقّ رجل حضر تقسيم الصدقة للفقراء من قبله صلّى اللّه عليه وسلم أعطه إني لأراه مؤمنا قال صلّى اللّه عليه وسلم أو مسلما ، الحديث ، ولا يبعد أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال هذا الحديث قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ما ذكر من الأحاديث التي أثبتناها أعلاه ، وقدمنا في الآية 46 من القصص بان لا وجه لقول من فسر الرسول في هذه الآية بالعقل ، لأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة ، وما قيل إن المراد نفى المباشرة قبل البعثة لا مطلق التعذيب ، مردود ، لأن من شأن عظيم القدر للتعبير عن نفى التعذيب مطلقا ، ولا يوجد ما يقيدها لا بنوع(2/458)
ج 2 ، ص : 459
التعذيب ولا بنفي العذاب عن أناس دون أناس ، والقيد من شأن البشر تعالى اللّه وكلامه عن ذلك ، وما قيل إن نفي التعذيب لا يستلزم نفي استحقاق العذاب لجواز سقوطه بالمغفرة مردود أيضا ، لأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة ، وانتفاؤه قبلها ظاهر ، يدل على عدم الوجوب قبلها ، فمن أدعى ان الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز عنه بالمغفرة فعليه البيان.
هذا وما روى عن أبي حنيفة رحمه اللّه أنه قال لو لم يبعث اللّه تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته بالعقل لأن العقل حجة من حجج اللّه تعالى يجب الاستدلال به قبل ورود الشرع ، لا ينطبق على تفسير هذه الآية ، لأن معرفة اللّه تعالى غير اخباره بنفي العذاب عمن لم يرسل لهم رسولا ، وهي حقيقة واجبة بالعقل لأن ابراهيم عليه السلام لما قال لأبيه وقومه (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 73 من الأنعام في ج 2 لم يقل عليه السلام أوحى إلي لأنه رأى عبادتهم غير معقولة عقلا ، فضلا عن أنها منافية للشرائع ، ولأن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدانيته وتنزيهه عن الولد والصاحبة قبل ورود الشرع إليه ، وكذلك استدلاله بالنجوم على معرفة اللّه وجعلها حجة على قومه ، راجع الآية 75 فما بعدها من سورة الأنعام المذكورة ، وهكذا فإن كل الرسل حاجّوا قومهم بحجج العقل ، لكن لا يراد من هذا الاستدلال جعل معنى الرسول في الآية هو العقل ، كلّا لأنه مخالف لاستعمال القرآن ، (قالُوا أَ وَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) الآية 51 من المؤمن في ج 2 ، ولم يقل لهم أولم تكونوا عقلاء ، وحاصل الكلام أن تفسير الرسول في هذه الآية بمعنى العقل لا يرتضيه العقل ، هذا وإن ما احتج به من يقول إن أهل الفترة غير ناجين ، وان بعض ذراري المشركين والمؤمنين ناجون ، وبعضهم هالكون هو ما أخرجه أحمد وابن راهوية وابن جردوية والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال أربعة يحتجون يوم القيمة رجل أصمّ لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول يا رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول رب جاء الإسلام والصبيان يخوفونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني منك رسول ، فيأخذ سبحانه مواثيقهم(2/459)
ج 2 ، ص : 460
ليطيعنّه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها.
وأخرج قاسم بن اصبغ والبزار وابو بعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يؤتى يوم القيامة بأربعة : المولود والمعتوه ومن مات في العترة والشيخ الهرم الفاني ، كلهم يتكلم بحجته ، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم (لجزء منها) ابرزي ، ويقول لهم إني كنت أبعث لعبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم ، فيقول لهم أدخلوا هذه ، فيقول من كتب عليه الشقاء يا رب أندخلها ومنها كنا نفرّ وأما من كتبت له السعادة فيمضي فيقتحم فيها ، فيقول الرب تعالى قد عاينتموني فعصيتموني ، فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار
واخرج الحكيم الترمذي من نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال :
يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا ، وبالهالك وبالفترة ، وبالهالك صغيرا ، فيقول الممسوح عقلا ، أي المجنون يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني ، ويقول الهالك في الفترة يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني ، ويقول الهالك صغيرا يا ربي لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني ، فيقول لهم الرب تبارك وتعالى فاذهبوا وادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا ، فتخرج عليهم قوابص (جمع قبصات التي هي جمع قبصة وهو ما يتناول بأطراف الأصابع وهو كناية عن قليل من النار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق اللّه) فيرجعون سراعا ويقولون يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها ، فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أنها أهلكت ما خلق اللّه تعالى من شيء ، ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك ، ويقولون كذلك ، فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي والى علمي تصيرون ، يا نار ضمّيهم ، فنأخذهم النار وقدمنا في آخر سورة طه المارة ما يتعلق بهذا البحث فراجعه قال في الإصابة أن هذه الأحاديث وإن وردت من عدة طرق فمعارضها أصحّ منها للأدلة السابقة وغيرها ، على أن الحديث مهما كان لا يعارض القرآن وان كان متواترا فما بالك بأحاديث لم تبلغ درجة الصحة ، قال تعالى «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً»
من القرى والمراد بالإهلاك أهلها من اطلاق المحل وارادة(2/460)
ج 2 ، ص : 461
الحال فيه ، كما تقول سال الوادي أي سال الماء فيه ، لأنه ثابت مكانه «أَمَرْنا مُتْرَفِيها»
بالعمل الصالح والطاعة لنرفع عنهم العذاب ، لأن المنعمين والرؤساء إذا ركنوا وخضعوا لأوامر اللّه كان غيرهم أخضع له وأطوع واكثر إذعانا ، لأن أكثرهم تبع لهم ، وقرىء «أمرنا» بالتشديد أي جعلناهم الأمراء ، وإذا كان الجبابرة والفساق أمراء الناس فبشرهم بالدمار إذ أريد بهم الشر ، وإذا كان الصلاح والمتقون أمراءهم فبشرهم بالفلاح والنجاة والنجاح والفوز بالدنيا والآخرة «فَفَسَقُوا فِيها»
في أهالي القرية غير مكترثين بإرشاد الرسل وأصروا على عنادهم وخرجوا عن الطاعة «فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ»
المبين في الآية 19 - 33 من سورة يونس والآية 111 من سورة هود والآية 45 من سورة فصلت والآية 14 من سورة الشورى في ج 2 والآية 129 من سورة طه المارة وجب على أهلها الوعيد بالعقاب والإهلاك إذ لم يفعلوا ما أمروا به ولم يصغوا إلى قول اللّه ورسوله «فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً»
11 بانزال العذاب المقدر على أهلها فأهلكناهم فيه وخربنا ديارهم ، وهذا هو معنى التدمير لما فيه من محو الأثر للمحل والحال فيه ، وقيل أن أمرنا بمعنى سعرنا واستدل على هذا المعنى بما أخرجه احمد وابن أبي شيبة في سنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة : خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة.
أي كثيره النتاج والسكة الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة الملقحة ، وإذا أريد سكة الحراثة فيراد بالمأبورة مصلحة والمهرة المأمورة كثيرة النسل ، أي أن خير المال نتاج أو زرع ، وعليه يكون المعنى كثرنا جبابرتها وملوكها وخصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال ، لأن توجه الأمر إليهم آكد ، ولأن غيرهم تبع لهم ، ولأن الناس عبيد الدرهم والدينار والجاء والمنصب ، على أن البلاء يعم قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية 25 من سورة الأنفال في ج 3 ، وجاء عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول لا إله إلا اللّه ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها ، قالت زينب قلت يا رسول اللّه أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم(2/461)
ج 2 ، ص : 462
إذا كثر الخبث - رواه البخاري ومسلم - ، كلمة ويل تقال لمن وقع في هلكة أو أشرف أن يقع فيها ، والخبث الشر ، قال تعالى «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ» الخالية قرونا كثيرة «مِنْ بَعْدِ نُوحٍ» كقوم عاد وثمود وغيرهم ولم يقل من بعد آدم ، لأن نوحا عليه السلام يعد أبا البشر الثاني ولم يبلغ قوم من العصيان والتكذيب قبله مثل ما بلغه قوم نوح ، ولأنهم أول قوم استؤصلوا بالعذاب ، وكان قبله يقع العذاب على أناس مجرمين دون غيرهم كي يعتبر الآخرون فيقلعون عما هم عليه ويرجعون إلى ربهم ولما لم ينجح بهم وصاروا لا ينكرون على غيرهم ما هم به متلبسون من معاصي اللّه عمم العذاب ، ولهذا ذم اللّه تعالى بني إسرائيل بقوله جل قوله (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) الآية 82 من سورة المائدة في ج 3.
واعلم ان القرن أقله ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر وأكثره مائة وعشرون سنة ، فكل ثلاثة قرون عصر أي قرن باعتبار القرن عصرا والعصر مائة سنة فقط.
روي عن محمد بن القاسم عن عبد اللّه بن بشر المازني أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال سيعيش هذا الغلام قرنا قال محمود بن القاسم مازلنا نعدّله حتى تمت له مائة سنة أيضا «وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ» وإن بالغوا في إخفائها وكتمها وأرخوا الستور حال فعلها «خَبِيراً» بها «بَصِيراً» 17 لأنه عالم بجميع ما يقع في ملكه من المعلومات راء المرئيات كافة ، فكل ما يفعله العباد حال في علمه قبل أن يفعلوه وبعده ، فعلمه بالقبلية والبعدية سواء ، لا يتغير علمه في حال من الأحوال جل علمه ، وهو القائل «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ» منكم أيها الناس وسميت الدنيا العاجلة لقلة زمنها فهي كالعربون الذي يأخذه البائع من المشترى «عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ» تعجيله له من نعيمها لا ما يشاء هو وذلك «لِمَنْ نُرِيدُ» نحن من طلابها لا لكل من أرادها كل فليس متمني يعطى ما يتمناه بل قد يعطي بعضهم كله وبعضهم بعضه ، وقد يحرم البعض البتة فيخسرون الدنيا والآخرة ويجتمع عليهم فقدها ، أجارنا اللّه من ذلك «ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ» لطالب الدنيا الحاضرة رغبة فيها والآخرة التي لم يردها مكان ما عجلنا له في الدنيا «جَهَنَّمَ يَصْلاها» يحرق فيها ويقامي حرها حال كونه «مَذْمُوماً» مهانا محقرا على اختياره لها ملوما عليه ممقوتا بسببه(2/462)
ج 2 ، ص : 463
«مَدْحُوراً» 18 مطرودا مبعدا من الرحمة خائبا مما كان يأمل من فضل اللّه ورحمته ورأفته.
هذا ، وما قيل أن هذه الآية نزلت في المنافق الذي يغزو مع المسلمين لأجل الغنيمة لا الثواب غير وجيه ، لأن السورة مكية إلا بعض آيات ليست هذه منها ، ولا يوجد في مكة منافقون ولا غزو ولا غزاة إذ ذاك ، وقد جاءت بلفظ عام ، والمخاطبون بها هم مشركو مكة ، وظاهرها يحصر معناها في الكفرة ، لأنها تدل على الخلود في النار ، وان صرفها إلى الفسقة أو المهاجرين لطلب الدنيا والمجاهدين للغنيمة ، وهم مؤمنون لا يستقيم على أحوالنا معشر أهل السنة والجماعة لأنا لا نقول إن صاحب الكبيرة يخلد بالنار وإن عقيدتنا تأباه قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآيتين 47 و115 من النساء في ج 3 ، ولهذا فإن ما دون الشرك من المعاصي منوط بالمشيئة ولا تحديد على اللّه أما على أقوال المعتزلة ومن نحا
نحوهم فنعم ، لذلك أدرج الزمخشري الشيخ محمود جار اللّه في كشافه قبل رجوعه عن الاعتزال الفاسق في هذه الآية «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ» وعمل لأجلها في دنياه توصلا لنعيمها «وَسَعى لَها سَعْيَها» اللائق بها المستحق لها بأن قام بما أمر اللّه وانتهى عما نهاه عنه «وَ» الحال أنه «هُوَ مُؤْمِنٌ» إيمانا صحيحا بنية خالصة ، أما إذا كان كافرا أو عمله للرياء والسمعة والنفاق فلا ينتفع بإرادته إياها ولا بسعيه لها ، لأن اللّه تعالى ذم المرائين بقوله جل قوله الذين يراؤن الآية 6 من الماعون المارة وكذلك من يتعبد في الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها ، فهؤلاء يكافئهم اللّه على أعمالهم الحسنة بالدنيا بإطالة أعمارهم وتوسيع رزقهم ومعافاتهم من الأمراض والأكدار حتى يلقوا اللّه تعالى وليس لهم حسنة يكافئون عليها بالآخرة ، كما أن المؤمن قد يجازيه اللّه على أعماله السيئة بالمرض وضيق العيش ونقد الأولاد حق يلقى اللّه تعالى وليس عليه سيئة يعاقب عليها ، قال بعض السلف الصالح من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله ، إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب «فَأُولئِكَ» مريدوا الآخرة الساعون لها بالأعمال الصالحة حالة كونهم مؤمنين باللّه ورسله وكتبه آتين بما أمروا به منتهين عما نهو عنه «كانَ سَعْيُهُمْ» في دار الدنيا «مَشْكُوراً» 19 في الآخرة مقبولا عند اللّه يثيبهم عليها بمنه وكرمه وفضله(2/463)
ج 2 ، ص : 464
وأصل السعي المشي السريع دون العدو وفوق الهرولة ، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثره يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر :
أن أجز علقمه بن سعد سبعة لا أجزه ببلاء يوم واحد
وهذه الآية جاءت بمقابلة الآية قبلها ، فإن تلك في الكافر وهذه في المؤمن بدلالة قوله «كُلًّا» أي كل واحد من الفريقين فالتنوين للعوض «نُمِدُّ» نزيد مرة بعد أخرى وهذا معنى المد والمدد «هؤُلاءِ» الذين يريدون الدنيا من زخارفها «وَهَؤُلاءِ» الذين يريدون الآخرة من نعيمها «مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ» الواسع الذي لا يتناهى وهذا العطاء ليس على طريق الوجوب بل بمحض الفضل «وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ» دنيويا كان أو أخرويا «مَحْظُوراً» 20 ممنوعا عمن يريده ، بل هو فائض على من قدر له بمقتضى المشيئة المبنية على الحكمة ، فيرزق المؤمن والكافر في هذه الدنيا ثم يعذب الكافر في الآخرة ويثيب المؤمن فيها بحسب أعمالهما ،
قال تعالى مخاطبا حبيبه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في هذه الدنيا بالرزق والجاه والعمل والشرف بحسب مراتب العطاء وتفاوت أهله «وَلَلْآخِرَةُ» الآتية «أَكْبَرُ دَرَجاتٍ» 21 في الفضل من درجات الدنيا وأعظم تفاوتا فيها «وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» 21 من الدنيا ، والفرق بين تفضيل الدنيا وتفضيل الآخرة كالفرق بين دركات جهنم ودرجات الجنة ، وكالفرق بين الدنيا والآخرة ، فعلى الراغب في التعالي بالدنيا أن تشتد رغبته في تعالي الآخرة أيضا ، لأنها ذات مقام أبدي والدنيا مزرعة الآخرة فلها يعمل العاملون ، وفيها فليتنافس المتنافسون ، وقيل في المعنى :
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ندمت على التفريط في زمن الزرع
هذا وقد جاء في بعض الآثار أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى اللّه الجميع فما يغبط أحد أحدا.
وقال الضحاك : الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه ، والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا ، لهذا لا يحسد أحد الآخر على ما هو فيه من ذلك العطاء الواسع.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الحسن قال : حضر جماعة من الناس باب عمر رضي اللّه عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وأبو سفيان بن(2/464)
ج 2 ، ص : 465
حرب وأولئك المشايخ من قريش ، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم ، فقال أبو سفيان ما رأيت كاليوم قط (أي اهانة وحقارة) ، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا ، فقال سهيل وكان أعقلهم أيها القوم إني واللّه قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم ، دعي القوم ودعيتم (يعني للإسلام ورفض الكفر) فأسرعوا الإجابة وأبطأتم ، أما واللّه لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتا من باب عمر الذي تنافسون عليه.
قال في الكشاف هذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّه اللّه لهم في الجنة اكبر وأعظم.
لقد أنفق واللّه سهيل وأخفق أبو سفيان وأنا أقول لقد صدق جار اللّه فيما قال واسأل اللّه ان يحقق قوله فيه المبين في الآية الأولى من هذه السورة قال تعالى مخاطبا لرسوله ايضا بما يريده من قومه «و لا تجعل» أيها الإنسان بكل حال من الأحوال «مع اللّه» الذي لا إله غيره «إلها آخر» مما تسول لك نفسك الخبيثة إلهيته ومما يوسوس لك الشيطان عدوك ربوبيته وهو ليس بشيء يستحق ان تسميه ربا وإلها لأن الإله هو القادر على كل شيء والرب هو الخالق لكل شيء ومربيه ومن دونه من الأوثان عاجزة عن كل شيء ، والعاجز لا يصلح ان يكون إلها ولا يجدر أن يتخذ ربا ، فإذا فعلت هذا وأطعت هواك فيه «فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً» محقرا موبخا مخزيا «مَخْذُولًا» غديم النضير والمعين من كل أحد ومن كل شيء فتجمع على نفسك الخذلان من اللّه تعالى والذم من ذوي العقول ، إذ اتخذت محتاجا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ومن لا يقدر على جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها كيف يرجى منه أن ينفع غيره ويدفع عنه ، فجزاؤك أيها الجاعل إلها مع إله السموات والأرض لا يصلح قط للألوهية وإشراكه مع من له الكمال الذاتي الخالق الرازق المنعم.
الذمّ في الدنيا والآخرة على عملك هذا الذموم والخذلان التام ، إذ لا تجد من يتصرك من العذاب الذي يحل بك ، ولا من يعينك على دفعه ، ولا من يؤازرك على رفعه الا من هو كافر مثلك ، قد زيّن له سوء عمله وهو عاجز عن اجتناب ماحل به مثلك ، فتلاوم أنت وإياه على(2/465)
ج 2 ، ص : 466
ما فاتكم من العمل الصالح المؤدي لخلاصكم من اللّه ، قال تعالى «وَقَضى رَبُّكَ» أمر وحكم وأراد «أَلَّا تَعْبُدُوا» أيها الناس أحدا ولا شيئا «إِلَّا إِيَّاهُ» وحده وهذا الحصر يفيد وجوب العبادة له تعالى منفردا ، وتحريم عبادة غيره مطلقا لأن العبادة غاية التعظيم المنعم بالنعم العظام على عابديه جلت ذاته المقدسة فلا تليق إلا لمن هو في غاية التعظيم ولما كانت عبادته هي المقصودة وما خلق الخلق إلا لأجلها قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من سورة الذاريات في ج 2 قدمها على كل شيء.
مطلب في برّ الوالدين والحكم الشرعي بذلك :
ولما كان حق الإحسان على العبد بعد طاعة اللّه تعالى لأبويه اللذين هما السبب الظاهري بوجوده اتبع الأمر بعبادته بالإحسان إليهما فقال «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» ما فوقه احسان إلا عبادة الملك الديان وحده ، وذلك بأن تبرّوهما برّا لا مزيد عليه ، وتتلطفوا بهما تلطفا لا نهاية له إلا الموت ، فتخدمونهما وتقضوا حوائجهما وتعطفوا عليهما برغبة املا برضاء اللّه المترتب على رضائهما.
واعلموا أيها الناس «إِمَّا» أصلها إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا للمعنى «يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ» هو منتهى الشيخوخة الذي قد تحوجهما إليك أيها الولد لما يلمّ بهما «أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما» من حالة الضعف والعجز والهرم فيلتجئان عندك آخر عمرهما كما كنت ضعيفا مبدأ عمرك ملتجئا في حضانتهما ، يحنيان عليك بشفقتهما ، ويحملان الأذى من تحتك ، فلا ينامان حتى تنام ، ولا يأكلان حتى تأكل ، ولا يستريحان حتى تستريح ، ويتمنيان أن يصيبهما كل ما قدر عليك من أذى ، وأن تكون معافى لا تصيبك شوكة عن طيب نفس ورغبه منهما ، فإذا صارا إليك واحتاجا لعنايتك فيجب أن تقوم لهما بهذه الأمور الخمسة إذا أردت رضاء اللّه ونظره إليك ، أولها «فَلا تَقُلْ لَهُما» إذا كلفاك بشيء مهما كان «أُفٍّ» وهذه الكلمة كناية عن عدم التضجر مما يقولانه لك لأنها كلمة تضجر وكراهية ، وأصلها إذا سقط عليك تراب ونفخته عنك تقول أف ، ثم توسعوا بها إلى كل مكروه ، أي ولا تتضجّر منهما أو من فعلهما أو قولهما أو مما يطلبانه منك ولو بمثل هذه الكلمة ، بل عليك(2/466)
ج 2 ، ص : 467
أن تتلقى أمرهما برحابة صدر وطلاقة وجه ولين جانب وخفض كلام وتحسين قول لأن النهي عن هذه الكلمة يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قولا وفعلا وإشارة ورمزا قياسا جليسا ، إذ يفهم ذلك بطريق الأولى ، ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب ، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك فلان لا يملك النقير أو الفتيل أو القطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا ولا كثيرا.
واعلم أنه لو يوجد فيما يخاطب به البشر كلمة يعرف أهل الدنيا على اختلاف لغاتهم أنها تدل على أقل من هذا المعنى لذكرها اللّه تعالى حفظا لحق الوالدين من أن يصل إليهما ما يكدرهما الثاني «وَلا تَنْهَرْهُما» تزجرهما بغلظة وشدة (وهذا معنى النهر) أي لا تزجرهما مما يتعاطيانه مما لا يعجبك أو تكره ما يريدانه منك وان كان ولا بدّ من ان تقول لهما لا تفعلا كذا مما يكون عدم فعله ضروريا فقل لهما ألا تتركان هذا ألا تعرضان عنه ، لأنه كما إنك ممنوع من التضجر بالقتيل والكثير ممنوع أيضا من إظهار المخالفة لهما في القول والفعل والرد عليهما والتكذيب لهما والكذب عليهما ، ولهذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا ، وحاشا كلام اللّه منه الثالث «وَقُلْ لَهُما» عند المخاطبة أو التكليف بشيء ما أو التعدي عليك لغرض ما «قَوْلًا كَرِيماً» 23 جميلا لاشراسة فيه ولا اكفهرار ، بأن تقول يا أبتاه يا أماه مراعيا معهما حسن الأدب ، لان مناداتهما باسمهما من الجفاء ، وأن يصدر جوابك لهما عن لطف ومنة وعطف ، وان تقف أمامهما وقفة المأمور بين يدي الآمر ، ولا تقل هاء بل لبيكما وسعديكما ، قال أبو الهداج لسعيد بن المسيب كل ما ذكره اللّه تعالى في القرآن من برّ الوالدين فقد عرفته إلا قوله تعالى (قَوْلًا كَرِيماً) فما هذا القول الكريم ؟ فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ.
أي يكون بغاية من الرقة والأدب ونهاية من الخضوع والتذلل ، قال الراغب كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم ، الرابع «وَاخْفِضْ» أمر اللّه تعالى الولد بخفض الجانب لوالديه ليتسارع بالانقياد لما يريد انه منه دون تردد ، أي تواضع واخشع وألن «لَهُما جَناحَ الذُّلِّ» بأن(2/467)
ج 2 ، ص : 468
تجعل نفسك ذليلة أمامهما زيادة في التأدب.
واعلم ان خفض الجناح مأمور به لكل أحد قال تعالى لحضرة الرسول (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 89 من سورة الحجر في ج 2 ، فكيف بالوالدين ؟ وهذا اللين المطلوب منك لهما كائن «مِنَ الرَّحْمَةِ» عليهما أي لا يكون خفض جناحك لهما خوفا او رياء او مداهنة او غير ذلك ، بل لكمال الرأفة بهما وخالص الشفقة عليهما كما كانا كذلك لك في صغرك حين كنت مفتقرا إليهما إذ آل افتقارهما إليك ، ولا
تمنعهما شيئا أحبّاه.
واعلم أن احتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة ، فيحتاج إلى أشد رحمة وأفرط رأفة وللّه در الخفاجي إذ يقول :
يا من أتى يسأل عن فاقتني ما حال من يسأل من سائله
ما ذلة السلطان إلا إذا أصبح محتاجا إلى عامله
الخامس «وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما» برحمتك الباقية والطف بهما بلطفك الأبدي ، أي لا تكتف برحمتك لهما ، لأنها فانية ، هذا إذا كانا مسلمين ، وإذا كانا كافرين فقل ربّ اهدهما ووفّقهما إلى دينك القويم ، وسهل لهما أسباب الإيمان ويسر لهما طرق الإسلام لأجتمع بهما في دار كرامتك ، لأن الاستغفار والرحمة للكافر منهيّ عنه ، قال تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ) الآية 113 من سورة التوبة في ج 3 ، وقد رد اللّه عن خليله إبراهيم عليه السلام حين قيل إنه استغفر لوالديه بقوله جل قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية 14 بعدها ، ولذلك قال له (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) في الآية 26 من سورة مريم المارة ، قال تعالى (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) تتمة الآية المارة من التوبة وقد بين تعالى السبب فيما أمر به الولد لوالديه وهو «كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» 24 أي أدع لهما بالرحمة والرأفة والمغفرة جزاء تربيتهما لك وبمقابل رحمتهما بك حال صغرك ، ولست بمقابل لهما مهما قمت به لهما ، وشتان بين رحمتك لهما ورحمتهما لك إذا قايست بينهما وأنعمت النظر في ذلك ، لأن رحمتك لهما عن رعبة ورحمتهما لك عن رغبة.
الحكم الشرعي : الأمر هنا للوجوب أي يجب عليك شرعا أيها الولد ذكرا كنت أم أنثى أن تقوم بحوائج والديك بحسب قدرتك ، (2/468)
ج 2 ، ص : 469
وأن تدعو لهما ، وتتواضع لهما ، وتلين جانبك لهما حينما يكلمانك أو تجاربهما ، وأن لا تزجرها ، وأن تخاطبهما باللطف وتحترمهما غاية الاحترام ، هذا وقد بالغ جل شأنه في التوصية بهما إذ شفع الإحسان إليهما بعبادته وتوحيده سبحانه ، وجعل ذلك كله قضاء مبرما عليه ، وحث حضرة الرسول على ذلك أيضا ، فقد روى ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ورجح الترمذي وقفه قال : رضاء اللّه في رضا الوالدين وسخط اللّه في سخط الوالدين.
وروى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد وكان المسلمون إذ ذاك بحاجة إليه ، فقال أحيّ والداك قال نعم ، قال ففيهما فجاهد.
فجعل صلّى اللّه عليه وسلم القيام بأمورهما خيرا له من الجهاد وأعظم أجرا عند ربه.
وجاء في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال لو علم اللّه تعالى شيئا أدنى من الأف لنهى عنه ، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ، وليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار.
ورأى ابن عمر رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال يا ابن عمر أتراني جزيتها ؟ قال لا ولا بطلقة واحدة ، ولكنك أحسنت واللّه تعالى يثيبك على القليل كثيرا.
وروى مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعنقه.
وعنه عليه الصلاة والسلام إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء للّه رب العالمين.
قدّم في هذا الحديث العاق على قاطع الرحم لأن العقوق أعظم لاشتماله على قطع الرحم وعدم احترام الأبوين الذين وصّى اللّه ورسوله بهما ومخالفتهما مخالفتهما ، ولا أعظم منها وزرا.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريره قال : جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال أمك ثم أمك ثم أباك ، ثم أدناك فأدناك ؟
أي الأقرب فالأقرب منك.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه ، قيل من يا رسول اللّه ؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة أي بسبب برّهما.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى اللّه(2/469)
ج 2 ، ص : 470
تعالى ؟ قال الصلاة لوقتها ، قلت ثم ، قال برّ الوالدين ، قلت ثم ، قال الجهاد في سبيل اللّه.
وعن أبي الدرداء قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول الوالد أوسط أبواب الجنة ، فإن شئت فضيّع ذلك الباب أو احفظه - أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح - وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال : جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إن أبي أخذ مالي ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال إن اللّه تعالى يقرئك السلام ويقول إذا جاء الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه ، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلّى اللّه عليه وسلم ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله ، قال سله يا رسول اللّه هل أنفقه إلا على عماته وخالاته أو على نفسي ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك ، فقال الشيخ واللّه يا رسول اللّه ما يزال اللّه تعالى يزيدنا بك يقينا ، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي ، فقال قل وأنا أسمع فقلت :
غذوتك مولودا وصنتك يافعا تعلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيها أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدا للخلاف كأنه برد على أهل الصواب موكل
قال فحينئذ أخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال أنت ومالك لأبيك.
ومنهم من أسند هذه الأبيات لأمية بن الصلت وهو جاهلي معروف ، وهو خلاف الواقع لأنه لو كان له من صحة ، ما نزل جبريل على النبي وقال له عن ربه ما قال ، قاتل اللّه الأفاكين.
هذا وقد قرن اللّه في هذه الآية توحيده بالإحسان إلى الوالدين وفي آية 151 من الأنعام عدم الإشراك بالإحسان إليهما ، وفي آية النساء 35 في ج 3(2/470)
ج 2 ، ص : 471
قرن عبادته بالإحسان إليهما ، وقال في الآية 14 من سورة لقمان (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية في ج 2 ، فقد قرن شكره بشكرهما أيضا إيذانا بعظيم حقهما وإعلاما بأن من لم يحسن إليهما لم يعبد اللّه ، ومن لم يشكرهما لم يشكر اللّه ، فالسعيد من وفق لبرهما والشقي من عقهما.
ولهذا البحث صلة في تفسير الآيتين الآنفتي الذكر فراجعهما.
هذا والأم مقدمة في البرّ على الأب لزيادة حقها ولضعف جانبها ، فهي مستوجبة للإحسان زيادة على الأب ، فعلى العاقل الموفق أن يبذل جهده ووسعه ببرهما ، ولتكن معاملة الإنسان لمثله باللطف وللضعيف بالإحسان ، وللمريض بالعطف ، وللفقير بالمعونة ، وللجاهل بالتعليم ، وللعالم بالأدب ، وللعامل بالعمل ، وللمخترع بالتشجيع ، وهكذا لكل بما يناسبه.
واعلم أنه لا يختص البر بالحياة فقط بل يكون بعد الموت أيضا ، فقد روى ابن ماجه أن رجلا قال يا رسول اللّه هل بقي من برّ أبوي شيء أبرهما به ؟ بعد موتهما فقال نعم الصلاة عليهما ، أي الدعاء والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما.
وروى هذا الحديث ابن حبان في صحيحه بزيادة قال الرجل ما أكثر هذا يا رسول اللّه وأطيبه ، قال فاعمل به.
وأخرج البيهقي عن أنس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وانه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه اللّه تعالى بارّا.
وأخرج عن الأوزاعي قال بلغني أن من عقّ والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستب لهما ، كتب بارّا ، ومن برّ والديه في حياتهما وقام بواجبهما كما ينبغي حتى ماتا مدينين وكان مقتدرا على أداء دينهما ولكنه استنكف ولم يستغفر لهما واستبّ لهما كان عاقا.
وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برّا.
وروى مسلم أن ابن عمر رضي اللّه عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه ، قال ابن دينار فقلت أصلحك اللّه تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير ، فقال إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب ، وإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : إنّ أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودّ أبيه.(2/471)
ج 2 ، ص : 472
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي اللّه عنه قال : قدمت المدينة فأتاني عبد اللّه بن عمر فقال أتدري لم أتيتك ؟ قال قلت لا ، قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده ، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاه وودّ فأحببت أن أصل ذلك.
وجاء في الخبر احفظ ودّ أبيك.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن العقوق من الكبائر لأن حضرة الرسول عده منها ، والعقوق هو أن يؤذي والديه أو أحدهما بما لو فعله مع غيره كان محرّما من جملة الصغائر ، أما إذا طالب الولد والديه بدين لا يكون عقوقا لأنه لو فعله مع غيرهما لا يكون حراما ، أما طلب حبسه لأجل الدين فمن العقوق ، كما أنه لو طلب حبس المعسر فإنه لا يجوز ومجرّد الشكوى منهما لا تعد عقوقا لأن إقامة الدعوى على الغير بحق جائزة ، وقد شكا بعض ولد الصحابة آباءهم إلى رسول اللّه ولم ينهه ، وهو الذي لا يقر على باطل ، أما بنهرهما وزجرهما فمن الكبائر لثبوت النهي عنه نصا كما مر عليك ، ومخالفة أمر الوالد فيما إذا فعله لحق بالولد ضرر أو يغلب على ظنه لحوق الضرر لا يعدّ عقوقا ولا مخالفة بل
عليه الطاعة والامتثال فيما عدا ذلك.
ومن الكبائر أن يسافر الولد ويترك أبويه أو أحدهما بلا نفقه مع قدرته وحاجتهما ، أما السفر إلى حج الفرض وطلب العلم فلا يحق للوالدين المنع إذا تأمنت نفقتهما من مالهما أو ماله ، وإن مخالفتهما في هذين لا يعدّ عقوقا ولا يكون فعله كبيرة ، أما إذا لم يؤمن نفقتهما مدة ذهابه وإيابه فلا يجوز له الذهاب مطلقا ، لأن حقهما أقدم من غيره ، وإن فعل كان عاقا ومخالفا ومرتكبا الكبائر ، وإذا خالفهما فيما لا دخل لهما فيه ولا ضرر فيه عليهما ولا عليه فلا شيء عليه البتة ، إلا أن عدم المخالفة أولى لئلا يحقدا عليه ، وإذا فعل فعلا يسبّب ضررا إليهما فيحرم عليه ذلك ، لأن إضرار هما والتسبب لإضرارهما حرام ولو كلف الوالد ابنه طلاق زوجته التي يحبّها فلم يمتثل فلا إثم عليه ، لأن هذا من خصائصه ولا ضرر يلحقهما منه رأسا ولا تسببا ، وإذا كان يقدر أن يصبر عن زوجته فطلقها امتثالا لأمر والديه أو أحدهما فهي فضيلة له يثاب عليها ، كما يأثم الوالدان إذا تسببا لطلاقها بلا سبب شرعي ، فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى(2/472)
ج 2 ، ص : 473
أبا الدرداء فقال إن أبي لم يزل بي حتى زوّجني امرأة وإنه الآن يأمرني بطلاقها ، قال ما أنا بالذي آمرك أن تعق ّ والديك ، ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك ، غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، سمعته يقول الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ على ذلك إن شئت أو دع.
وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها ، فأبيت ، فأتى عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له فقال صلّى اللّه عليه وسلم طلقها.
هذا إذا طلب طلاقها لمطلق كراهتها ، وأما إذا كان لأمر يتعلق بالغيرة أو بالدين أو بالآداب فلا بد من الامتثال.
أما أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه بحيث لو عرضت على ذوي العقول لعدوها عبثا أو متساهلا فيها ، فلو خالفهما فيها فلا إثم عليه ، وينبغي للولد أن لا يتضجر من هكذا أوامر فلو تضجر أو قطب وجهه لقاءهما أو لم يقم لهما حينما يأتيانه بحضور الناس كان عقوقا لهما مؤاخذ عليه ، لأنه أكثر من الأف التي نهاه اللّه عنه ، ولا يقال إن الوالدين إنما طلبا بزواجهما تحصيل اللذة لأنفسهما لا لقصد الولد ، لأنه إنما لزم منها وجود الولد ودخوله في عالم الآفات والمخالفات ، فلا فضل لهما عليه ولا منّة ، كما أن أحد المسمّين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول له أنت أدخلتني في عالم الكون والفساد وعرضتني للموت والفقر والعمى والزمانة.
وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد ما نكتب على قبرك فقال اكتبوا عليه :
هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج وعدم الولد :
وتركت فيهم نعمة العدم التي سبقت وصدت عن نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة ترمي بهم في الموبقات الآجل
وقال ابن رشيق :
قبح اللّه لذة لشقانا نالها الأمهات والآباء
نحن لو لا الوجود لم نألم الفقر فإيجادنا علينا بلاء وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منّة أم والدك ؟ فقال الأستاذ أعظم منّة(2/473)
ج 2 ، ص : 474
لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم ، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد.
فانظر هداك اللّه إلى هؤلاء وأمثالهم الذين ينظرون إلى ظواهر الأمور ويتركون بواطنها والثمرة المطلوبة منها دون تروّ بالمراد الحقيقي الذي من أجله يكون الشيء وهم حكماء تأخذ الناس عنهم ويضربون بأقوالهم الأمثال ، وإذا أجلت النظر فيما ذكروه وأنعمت الفكر فيما سطروه في هذا لوجدته طيشا ، فلو أنهم قالوا إن الزواج يحفظ النفس من الوقوع في الزنى المنهي عنه شرعا وإن الزواج بقصد ردع النفس عن تعدي حدود اللّه ، وأن الولد جاء بالعرض ولا كل زواج يأتي بالولد ، وكم من ولد شرف آباءه في الدنيا والأخرى ونفعهم فيها : لكان أولى وأجدر بمقالهم ، وان الذين يتزوجون للذة فقط لبسوا من المتدينين المتمسكين بالدين ، بل من الذين يتبعون أهواءهم ، وشهواتهم ، وهؤلاء غير مقصودين ولا معدودين من الرجال الذين هم رجال بالمعنى الوارد في الآية 37 من سورة النور في ج 3 ، فإذا كانوا يحطون أنفسهم إلى درجة أهل الأهواء فلا بدع أن يقولوا ما قالوا ، وإلا فيكون قولهم هذا من اللغو الذي يجب أن يمرّ فيه العاقل مر الكرام ، راجع الآية 71 من سورة الفرقان المارة.
واعلم هداك اللّه إذا قلنا هب أنه أول الأمر كان المطلوب منه لذة الوقاع كما يتقولون أليس الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات ، إذ لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأفكار دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق اللّه تعالى ، لأنه سبحانه هو الفاعل الحقيقي ، فلو شاء لما كان الولد.
على أن السنّة في الزواج لأهل السنة أولا طلب الولد لتكثير النسل ، ثانيا كسر جماح الشهوة ، ثالثا تحصين النفس عن التعدي لحدود اللّه من الزنى ودواعيه ، لا للذة فقط ، لأن من يقتصر في أمر الزواج على اللذة فقط فليس بكامل ، وهذه الأسباب الثلاثة عبارة عن طلب الشيء للمنفعة ، ولا ينكرها عاقل متبصر.
هذا وإن إنكار حق الوالدين إنكارا لأجلّ الأمور (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) الآية 40 من سورة(2/474)
ج 2 ، ص : 475
النور في ج 3 ، قال تعالى «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ» من بر الوالدين والاهتمام بما يجب لهما من التوقير والاحترام وغيره ، ومن العقوق والتقصير وسوء الأدب وغيره في حقهما «إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ» حقيقة مريدين البر بهما وإصلاح شأنهما أو تكونوا طالحين قاصدين العقوق بهما ومخالفتهما وإهمالهما ، أما إذا فرط منكم حال حالة الغضب أو الغفلة مما لا يخلو البشر منه وقد أدى إلى أذاهما معنى ومادة ، ثم رجعتم إلى اللّه فتبتم واستغفرتم اللّه مما وقع منكم واسترضيتم والديكم بشتى الوسائل «فَإِنَّهُ» الإله الحليم التواب «كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» 25 فيدخلكم في واسع رحمته ويعفو عنكم ، لأنه يحب عبده المنيب الأواب.
واعلم رعاك اللّه أن في هذه الآية العظيمة وعدا بالخير من اللّه لمن أضمر البر والإحسان لوالديه ، ووعيدا لمن أضمر لهما الكراهية والاستثقال ، وما قاله ابن جبير إن معنى هذه الآية هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بها قول مقيد لهذه الآية المطلقة وإن بقاءها على إطلاقها أولى لتشمل كل تائب مما وقع منه في حق والديه قليلا كان أو كثيرا ، بادرة أو مقصودة ، على أن الجاني على أحد أبويه التائب من جنايته توبة خالصة يدخل فيها ، لأن معنى الأواب على ما قاله سعيد بن المسيب الذي يذنب ثم يتوب ، وعنه أنه الرجاع إلى الخير.
وقال ابن عباس الأواب الرّجاع إلى اللّه فيما يحزنه وينوبه ، فلم يقيده في البادرة.
وقيل إنه من صلّى بعد المغرب والعشاء يعدّ من الأوابين ، وهذه الصلاة تسمى صلاة الأوابين ، فقد روى ابن ماجه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال من صلّى بين المغرب والعشاء عشرين ركعة بنى اللّه له بيتا في الجنة.
وروى ابن نضر أن من صلّى ست ركعات بعد المغرب قيل أن يتكلم غفر له ذنوب خمسين سنة أي من
الصغائر.
كما جاء في شرح هذا الحديث في كتاب مصباح الظلام للشيخ محمد بن عبد اللّه الجرداني ، وورد فيه أيضا من صلّى ركعتين بعد المغرب وقرأ فيهما بالمعوّذتين لم يرمد وقد جربته فوجدته ، وجاء في الصلاة بعد المغرب أحاديث كثيرة رتب عليها أجر كبير لفاعلها أعرضنا عنها اكتفاء بما ذكرنا خشية التطويل ، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق به في الآية 30 من سورة ص المارة فراجعها تجد ما يقرّ العين من ذوي العقيدة والإيمان.(2/475)
ج 2 ، ص : 476
مطلب في التصدق والتبذير والإسراف والرد بالأحسن :
قال تعالى «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» من نفقة وزيادة عطف ، قدّم اللّه تعالى حق الوالدين لأنهما الأصل ، ثم عقبهما بالفروع المحارم ، لأن الإنفاق عليهم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب صلة وصدقة وتسمية هذا الإتيان من قبل اللّه حقا يشعر بإلزام القريب الموسر الإنفاق على قربيه المعسر العاجز على طريق الوجوب ، وهذا الحكم الشرعي في ذلك ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 29 من سورة الروم في ج 2 نظير هذه الآية ، وهذه الآية بالنسبة لما قبلها فيها من أنواع البديع ومحسنات الكلام التعميم بعد التخصيص ، لأن الوالدين يدخلان في القربى لغة ولم يتناولهما عرفا ، ولذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف لو أوصى لذوي قرابته لا يدخل أبواه ، وجاء في المعراج من قال لأبيه قربي فقد عقّه.
واعلم أن هذا الحق لا ينحصر في النفقة بل يشمل حسن المعاشرة والرحمة والتوقير ، لأن اللفظ عام والآية معطوفة على ما قبلها الشاملة لسائر الحقوق المانعة بجميع أنواع العقوق ، وما قيل إن هذه الآية خاصة بحضرة الرسول وأن اللّه أمره بها ليؤتى أقاربه ، أو أنها لما نزلت دعا فاطمة رضي اللّه عنها فأعطاها فدكا مناف لعموم الآية ، لأن فدكا في المدينة وهذه الآية مكية ، فضلا عن أنه لا قرينة فيها على التخصيص البتة ، ومما يؤيد عدم الإختصاص هو أن فدكا لم تكن إذ ذاك تحت تصرف المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم وكانت طلبتها إرثا بعد وفاته.
أما ما قاله الحسن بأن هذه الآية مدنية فيصحّ على قوله ما قيل في سبب نزولها ، وحينئذ يراد بالحق هنا الزكاة المفروضة ، إلا أن سياق الآية يدل على أنها مكيّة كورتها على قول الجمهور واللّه أعلم ، «وَالْمِسْكِينَ» الذي لا مال له ولا كسب وهو عاجز ، أما الفقير فالذي لا يكفيه كسبه ، وقيل بالعكس راجع الآية 78 من سورة الكهف في ج 2 ، «وَابْنَ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله ولو كان غنيا في بلده ، أي أعط أيها الغني مما أعطاك اللّه هذين الصنفين أيضا بعد أبويك وقرابتك مما زاد على حاجتك من مالك بقدر ما يسد حاجتهما «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» 26 بمالك وتسرف فيه ، بأن تعطيه من لا يستحقه(2/476)
ج 2 ، ص : 477
أو تصرفه في غير مصارفه الشرعية أو تتجاوز الحد اللازم في الإعطاء والصرف ولو على خاصّتك ونفسك ، فإن ذلك من التبذير المنهي عنه «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ» أموالهم المفرقين لها في غير حلها ومحلها «كانُوا» في تبذيرهم هذا «إِخْوانَ الشَّياطِينِ» أعوانهم ورفقاءهم في كفران النعمة مماثلين لهم في صفات السوء من إعطاء المال لمن لا يستحقه ، أو صرفه في غير حله ، أو إعطائه بقصد الصيت والسمعة والرياء «وَكانَ الشَّيْطانُ» ولم يزل ، لأن كان تأتي للدّوام والاستمرار إلى أجل معلوم كما هنا وإلى ما لا نهاية له كقوله تعالى : (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) الآية 156 من سورة النساء في ج 3 وأمثالها كثير ، وتأتي للزمن الحاضر فقط مثل كان زيد غنيا ، «لِرَبِّهِ كَفُوراً» 27 هو وإخوانه من الإنس يبالغون في كفران النعمة لأنهم يصرفون ما أنعم اللّه به عليهم من القوى والأموال إلى غير ما خلقت لها وللمعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس عن طريق الهدى ، وحملهم على الكفر باللّه تعالى وجحود نعمه الفائضة عليهم وتبذيرها في غير محلها ، وهذا التخصيص بمقابل الشكر الذي هو صرف النعم إلى ما خلقت إليه ، وما قيل إن هذا الكفر المذكور بهذه الآية جاء على ما يقابل الإيمان ليس بشيء لمخالفته المقام وسياق الآيات.
وإنما اللّه سمى الإنفاق لهذين الصنفين حقا لأن أهل مكة قبل الإسلام كانوا افترضوا على أنفسهم إنفاق شيء من أموالهم لنشر الصيت ، وكان التصدق مفروضا على الأمم السابقة وكان أهل مكة ينفقون هذا القسم للسمعة والملاهي والطرق التي لا خير فيها ، فأمر اللّه رسوله في هذه الآية بإنفاق هذا الحق لأهله الذين ذكرهم ، وهذا قبل نزول آية الزكاة المفروضة ، أما بعد نزولها فيكون منها وعلى القدر الذي سنه حضرة الرسول كما سيأتي في الآية 221 من سورة البقرة والآية 59 من سورة التوبة في ج 3 وغيرها من السور المدنية.
واعلم أن التبذير هو كل إنفاق بغير محله كما علمت مما مرّ عليك ، وأصله في اللغة التفريق مأخوذ من إلقاء البذر في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه ، وشرعا إنفاق المال في غير حقّه مما هو تجاوز في موقع الحق وجهل بكيفيته ، أما الإسراف فهو التجاوز في الكمية وجهل بمقدار الحق ، وكلاهما مذموم ، قال مجاهد لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا.
وقد أنفق بعض(2/477)
ج 2 ، ص : 478
المحققيين نفقة في خير فاكثر ، فقال له صاحبه لا خير في السّرف ، فأجابه كثر اللّه أحبابه : لا سرف في الخير ، وهذا صحيح إذا كان في أهله وعن غنّى ويحسن نية.
قال تعالى «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ» أيها الغني القريب «عَنْهُمُ» عن أقاربك الفقراء المحتاجين العاجزين والمساكين المعدمين والفقراء وأبناء السبيل المقطوعين لضيق ذات يدك أو لأمر أخطرك فأوجب إغضاءك عنهم حياء وكان ذلك منك «ابْتِغاءَ» طلب ورجاء «رَحْمَةٍ» رزق «مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها» تتوقعها وتترقب حصولها ومجيئها لتعطيهم منها «فَقُلْ لَهُمْ» عند ما تريد انصرافهم أو ردهم «قَوْلًا» جميلا لا تأنيب فيه عليهم ولا كسر لخواطرهم «مَيْسُوراً» 28 لينا وعدهم وعدا تطيب به خواطرهم كأن تقول لهم إن لنا مالا سيحضر أو دينا سنقبضه قريبا ونخصكم به ، وادع لهم بما فيه اليسر لك ولهم ، وتقدم معنى أمّا بالآية 23 المارة ، وأنث الضمير في ترجوها باعتبار اللفظ لأنه سمّى الرزق رحمة وهو يعود إليها ووضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سببا للابتغاء مسبّب عنه فوقع السبب الذي هو الابتغاء موضع المسبب الذي هو الفقد.
هذا وما قيل إن هذه الآية نزلت بمهجع وبلال وصهيب وسالم وخبّاب الذين كانوا يسألون حضرة الرسول أحيانا ما يحتاجونه وأنه لا يجد ما يعطيهم فيعرض عنهم حياء ويمسك عن القول ، أو أنها نزلت في أناس من مزينة جاءوا يستحملون حضرة الرسول فقال لهم (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) الآية 94 من التوبة في ج 3 ، إذ ظنوا أن ذلك من غضب رسول اللّه ، لا وجه لهما ولا حقيقة ، لأن هذه السورة مكية وتلك الحادثتين وقعتا في المدينة ، وإنما هذه الآية عامّة في كل أحد ولا يخصصها ما قيل إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت ، لأن هذه الحالة شأن كل عاقل منصف ، فكيف لا تكون بأكمل الناس عقلا وإنصافا ، فهي شاملة لحضرة الرسول وأمته الخيرية على الإطلاق كالآيات التي قبلها.
جاء عن الإمام مالك رحمه اللّه أنه كان لا يري أن يقال للسائل إذا لم يعطه شيئا رزقك اللّه تعالى أو نحوه ، لأن ذلك مما يثقل على السائل ويكره سماعه ، ولا ينبغي أن يذكر اسم اللّه تعالى لمن لا يهش له ، وهذا القول ردّ لقول من فسر القول الميسور بأن يقال للسائل رزقك(2/478)
ج 2 ، ص : 479
اللّه وأعطاك اللّه ، وهو قول مفترى بعيد لصون اسم اللّه تعالى ممن لا يبتهج بسماعه ، ولذلك فسّرنا القول الميسور بالدعاء للفقير باليسر فقط والكلام اللين ، وعليه فالأولى أن يقال للسائل ممن لا يريد أن يعطيه ائت بوقت آخر تحاشيا لذكر اسم اللّه عند من لا يحب سماعه في هذا الباب ، فإذا جاء ولم يكن عنده شيء فليقل لم يتيسر لي ما أعطيكم.
هذا وقد استدل بعض المفسرين أن في قوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ) دليل على النهي عن الإعراض فيكون المعنى إن أردت الإعراض عنهم ولم ترغب أن تعطيهم (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) بأن تعدهم بالعطاء والانتظار لوقت آخر يتيسر لك الإعطاء فيه ولا تقطع أمله فيك وتلطف به بكلام ليّن ووجه منطلق وخفض جانب ، وقدمنا في سورة الضحى ما يتعلق بهذا البحث فراجعه ، قال تعالى «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ» أيها الغني الموسع عليك «مَغْلُولَةً» هذا تمثيل لمنع البخل والشح كما قاله بعض المفسرين ، لأن البخل يكون في مال الرجل البخيل ، والشحّ يكون في مال غيره فهو أقبح من البخل ، وهو مبالغة في ذم عدم الإعطاء ، وقوله تعالى (إِلى عُنُقِكَ) أي لا تمسك يدك عن الإعطاء فتجعلها كالمربوطه في عنقك «وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» تمثيل للإسراف في العطية أي لا تعطه جميع ما عندك «فَتَقْعُدَ» إن فعلت ذلك «مَلُوماً» على الإسراف من نفسك لندمك على فقد ذات يدك بسبب طيشك ، وعند الناس تلام أيضا على تضييع كل ما في يدك من المال ، لأنهم لا يحمدونك على فعلك هذا ، ولا يحبذونه لك ، وهو عند اللّه مذموم أيضا ، لأنه لا يحبّ المسرفين ، راجع الآية 20 من الأعراف المارة ولا يرضى لعباده ما لا يحبه «مَحْسُوراً» 29 متحسرا على ما فرط منك مغموما على لوم نفسك ولوم الناس لك وبقائك صفر اليدين مخالفا لأمر اللّه تعالى الموجب الأمر بالاقتصاد في النفقة ، راجع الآية 66 من سورة الفرقان المارة ، لأن هذين النّهيين يوجبان على الرجل أن يسلك سبيلا وسطا بين الإفراط والتفريط ، وهذا هو الجود الممدوح والاقتصاد المطلوب وخير الأمور أوساطها ، قال ابن الوردي :
بين تبذير وقتر رتبة وكلا هذين إن زاد قتل
وأخرج أحمد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما عال(2/479)
ج 2 ، ص : 480
من اقتصد ، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة ، وتقول العامة من دبّر ما جاع ، ومن رقع ما عري ، وصبرك على نفسك خير من صبر الناس عليك.
وروى أنس مرفوعا التدبير نصف المعيشة ، والتودد نصف العقل ، والهم نصف الهرم ، وقلة العيال أحد اليسارين.
وقيل حسن التدبير مع العفاف خير من الغنى مع الإسراف ، وقيل أن قوله تعالى (ملوما) راجع إلى قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ) الآية المارة ، وقيل البخيل ملوم حيثما كان ، وقوله تعالى (محسورا) راجع إلى قوله تعالى (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية ، وهذا وجيه كي يكون قوله تعالى (فتقعد) بيانا لقبح الأمرين ، لأنه منصوب بجواب النهيين ، تدبر.
وهذه الآية عامة مطلقه يدخل في عمومها حضرة الرسول وغيره من الأمة كافة ، وما ورد عن جابر قال بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جالس إذ أتاه صبي فقال إن أمي تستكسيك درعا ، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا ، فذهب إلى أمّه فقالت قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك ، فدخل صلّى اللّه عليه وسلم داره ونزع (الدرع) قميصه وأعطاه وقعد عريانا ، وأذن بلال ، وانتظروا فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة ، فنزلت هذه الآية لا يصح جعله سببا لنزول هذه الآية ، لأنها مكية بالاتفاق والحادثة مدنية بدليل تأذين بلال رضي اللّه عنه ، لأن مكة لا أذان فيها ولا جماعة إذ ذاك ، وقد تتبع هذا الخبر وليّ الدين العراقي فلم يجده في شيء من كتب الحديث بلفظه هذا ، وعلى فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لما علمت ، وقد أخرج بن مردويه عن ابن مسعود قال جاء غلام إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال إن أمي تسألك كذا وكذا ، فقال ما عندنا اليوم شيء ، قال فتقول لك اكسني قميصك ، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت ، وأخرج ابن أبي حاتم عن النهال بن عمرو نحوه ، وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال : أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بزّ من العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس ، فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا نأتي النبي فنسأله ، فوجدوه قد فرغ منه ، فأنزل اللّه هذه الآية.
وهذا أيضا لا يصح لأنه حينما كان بمكة لا يأتيه شيء من العراق ولا من غيره ، ولم يؤمر بالقتال والغزو وأخذ(2/480)
ج 2 ، ص : 481
الغنائم وغيرها إلا بالمدينة ، وكذلك لا يصح سببا للنزول ما قيل إنه عليه السلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيبنة بن حصن الفزاري مثله ، فجاء عباس ابن مرداس وقال :
أتجعل نهبي ونهب البعيد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لا يرفع
فقال صلّى اللّه عليه وسلم يا أبا بكر اقطع لسانه ، أعطه مائة من الإبل.
وكانوا جميعهم من المؤلفة قلوبهم لأن النهب والفيء لم يكن في مكة ، لهذا فإن ما اعتمد عليه بعض المفسرين من هذه الأخبار في كونها سببا للنزول غير صحيح ، وان الآية مطلقة كما ذكرنا عامة شاملة.
مطلب بسط الرزق وقبضه ووأد البنات وما يتعلق فيه :
قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ» يوسعه ويكثره «لِمَنْ يَشاءُ» من عباده مؤمنا كان أو كافرا لا لكرامته ولا لمحبته «وَيَقْدِرُ» يضيق ويقلل ويقتر على من يشاء لا لهوانه ولا لبغضه ولا لبخل من الجواد عليه ، تعالى اللّه عن ذلك بل لمصالح يقتضيها هو يعلمها وحكم تتعلق بها مشيئته ، لأن مقاليد الرزق بيده جل جلاله ، وهذه الآية كالعلة لقوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ) كأنه قيل إن أعرضت عنهم لفقد ما تعطيهم (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) ولا تهتم لذلك فإن عدم التوسعة عليك ليس لهوان منك عليه ، وإن ما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق المال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحة وحكمة ، وعليه فتكون الآية (وَلا تَجْعَلْ) إلخ كالإعتراض بين هذه الآية والتي قبلها وكالتأكيد لمعنى ما تقتضيه حكمة اللّه عز وجل «إِنَّهُ كانَ» قديما ولم يزل ولن يزال «بِعِبادِهِ خَبِيراً» بمصالحهم السرية الخفية «بَصِيراً» بحوائجهم العلنية الظاهرة التي منها بسط الرزق وقبضه ، لأنهما أمران مختصان به ، وما على العبد إلّا أن يقتصد في الإنفاق والإعطاء فيفعل ما عليه ويترك ما على اللّه بطريق التفضل إلى اللّه.
قال تعالى «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ» مخافة الفقر والفاقة ، قال الشاعر : (2/481)
ج 2 ، ص : 482
وإني على الإملاق يا قوم ماجد أعد لأضيافي الشواء المصهّبا
وهذا النهي بحسب ظاهر الآية عن قتل الذكور والإناث ، لأن لفظ الولد يتناولهما ، لكن الشائع أن الجاهليين كانوا يئدون البنات فقط مخافة النهب والسبي أو مخافة أن يأخذن غير كفؤ وذلك جار عندهم ، ومنهم من يئد مخافة العجز عن الإنفاق ، فنهى اللّه في هذه الآية من كانت هذه عادتهم عن ذلك ، وعليه فيكون المراد بالأولاد البنات ، وبالقتل الوأد خشية العار والقتل مخافة الفقر واللّه أعلم.
وأصل الخشية خوف يشوبه تعظيم ويكون عن علم بما يخشى منه ، «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» هذا ضمان من اللّه تعالى لرزقهم وتعليل للنهي عن قتلهن ، أما النهب والسبي فهو أمر قسري وكل ما يقسر عليه لا عار فيه ، كما أن ما يكره عليه لا يتم ؟ ؟ ؟ فيه ، أما الكفاءة فهي في الإسلام متقاربة ولو فرض عدم توفرها ، فإنه لا يستوجب القتل وقد أجاز الشرع للولي طلب فسخ النكاح فيها كما أجاز له الإقرار عليها ، وإذا كان اللّه تعالى تعهد بالرزق فلا ينبغي أن يخشى من الفقر لإطعام العاجزات عن طلب الرزق ، وسيأتي في الآية 150 من سورة الأنعام في ج 2 في نظير هذه الآية تقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين عكس ما في هذه الآية وذلك التقديم للإشعار بأصالتهم في افاضة الرزق ، وعارض هذه النكتة في آية الأنعام تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين ، لأن الباعث على القتل فيها الإملاق الناجز ، ولذلك قيل من إملاق ، وهنا الإملاق المتوقع ، ولذلك قيل فيها خشية إملاق ، فكأنه قيل نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه ونرزقكم أنتم أيضا رزقا إلى رزقكم «إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً» لذلك السبب المزعوم المبتني على قلة يقينكم بالرازق وترهمكم ذلك «كَبِيراً 31» إثمه عظيما تخطره ، والإثم والخطأ بمعنى واحد ، ومن قرأ خطا بفتح الخاء والطاء أراد أنه لغة في الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء مثل مثل مثل وحذر وحذر ، لأنه من خطأ يخطىء ، وعليه يكون المعنى أن قتلهم غير صواب ، والمقام لا يناسبه ، لأن غير الصواب لا يوصف بالكبر عادة ، وإنما وصف اللّه تعالى قتلهم بالكبر لأن السبب الذي توخوه منهي عنه ولا أساس له في الشرع ، فكان قتلهم بناء على ذلك السبب الواهي أعظم عند اللّه من(2/482)
ج 2 ، ص : 483
قتلهم عفوا ، لأن فيه عدم الاعتماد على اللّه تعالى في أن يرزقهم وإطاعة للشيطان فيما يلقيه في قلوبهم من خوف الفقر ، قال تعالى (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الآية 129 من البقرة في ج 3 ، وقال تعالى (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) الآية 25 من سورة النساء في ج 3 ، فانظروا أيها الناس أيهما تختارون ، اتباع اللّه المتكفل بأرزاقكم ، أم الشيطان الذي يخوفكم الفقر ، وإنما كان قتلهن أعظم وزرا من القتل العفو لأن القتل يقع عادة بين الناس لعداوة أو انتقام ، أو حالة المقابلة بالغزو وغيره ، وليس فيه عدم الاعتماد على اللّه ، تأمل قول الفائل :
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف
وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
قال تعالى «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى » نهى اللّه تعالى عن قربانه فضلا عن إتيانه مبالغة في التجنّب عنه والتباعد عن التعرض لأسبابه من الإشارة واللمس والغمز والقرص والقبلة والعضّ حتى النظرة الثانية إذا كانت الأولى غير مقصودة ، لأن النظر هو أول مبادثه ، ولذلك نهى اللّه تعالى المؤمنين والمؤمنات عنه كما سيأتي في الآيتين 31 و32 من سورة النور في ج 3 ، «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً» قبيحة فظيعة زائدة عن حد الشرع لما فيها من التعدي الشنيع على الغير وتضييع النسب ، ومن لا نسب له ميت حكما «وَساءَ سَبِيلًا» 32 ذلك السبيل لأن الالتقاء بطريقة الزنى يسبب انقطاع النسل وهو سبب خراب العالم لأن المجتمع الإنساني لا يقوم إلا بالنكاح المسبب عنه كثرة النسل قال صلّى اللّه عليه وسلم تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم.
ولهذه الحكمة أبيح تعدد الزوجات لأن في الكثرة عز ومنعة وقوة وسيطرة على أعداء اللّه وفي عدمه القلة الناشئ عنها الذلة والضعف والمسكنة للإعداء ، قال صلّى اللّه عليه وسلم إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كاظلة ، فإذا تاب ونزع رجع إليه.
وفي رواية الشيخين لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.
أي متوغل الإيمان في قلبه إذ يمنعه عنه ، أما من كان يدعي الإيمان أو الإسلام دون التقيد بأحكامهما فلا يمنعانه من ارتكاب جميع المحرمات لأنهما صوريّان ، واللّه تعالى لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم إياكم والزنى فإن فيه ست خصال ، ثلاث(2/483)
ج 2 ، ص : 484
في الدنيا وثلاث في الآخرة ، فأما التي في الدنيا فنقصان الرزق ونقصان العمر والبغض في قلوب الناس ، وأما الثلاث التي في الآخرة فغضب الرب وشدة الحساب ودخول النار ، ولهذا نهى عن قربانه فضلا عن مباشرته والعياذ باللّه ، ولما جاء في الخبر ، العين تزني بالنظر واليد تزني باللمس والرجل تزني بالمشي والقلب يشتهي الوقاع والفرج يصدق أو يكذب ، أي يصدق هذه الجوارح إذا باشر بالزنى فعلا ويكذبها إذا ردع نفسه فلم يباشره ، ولا يخفى أن الزنى من الكبائر ، وقدمنا في الآية 31 والآية 72 من سورة الأعراف والآية 68 من سورة الفرقان المارتين ما يتعلق بالزنى واللواطة والسحاق وما يتفرع عنها ، فراجعها.
واعلم أن الزنى على مراتب أعلاها اي أعظمها وزرا بالمحارم لما جاء في صحيح الحاكم أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال من وقع على ذات محرم فاقتلوه والمحرمات معلومات بالنص راجع الآية 21 فما بعدها من سورة النساء في ج 3 ، ثم بحليلة الجار ، ثم بالأجنبية ، ثم في مكان حرام كمكة والمدينة والقدس ، ثم في زمن معظم كرمضان وعشر ذي الحجة والمحرم وليالي الولادة والإسراء والمعراج والبراءة والقدر والعيدين ، ثم بالأجنبية على سبيل القهر لاوليائها ، والإكراه لها ، ثم بالأجنبية التي لا والي لها على الرضاء منها أو غير رضاء ، ثم بالمسبلة ، وزنى الثيب الأيّم أقبح من البكر والأعزب ، بدليل اختلاف الحدّ ، وزنى الشيخ أفظع من زنى الشاب لكمال عقل الأول ، وزنى الحر والعالم أفظع من زنى القن والجاهل للسبب نفسه ، وهو الكمال فيهما دونها ، والزنى أكبر جرما من اللواطة وان كانت اللواطة فحش منه لما فيه من اختلاط الأنساب ولأن الشهوة داعية إليه ، ولهذا البحث صلة في نفس الآية 35 الآية.
مطلب في القتل والولي الذي له حق القصاص ومراتب الزنى واللواطة :
قال تعالى : «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ» قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد «إِلَّا بِالْحَقِّ» استثناء مفرغ أي لا تقتلوها أبدا لسبب من الأسباب إلا بسبب واحد هو الحق ، وذلك بأسباب ثلاثة أن يكفر باللّه بعد الإيمان أو يزني بعد الإحصان أو يقتل نفسا عمدا ، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا اللّه واني رسول إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس(2/484)
ج 2 ، ص : 485
والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة.
وما ذهب إليه الأمام مالك والشافعي رحمهما اللّه من قتل تارك الصلاة كسلا وما قاله الإمام احمد من أن من تركها جاحدا فرضيتها فإنه يقتل فلا قول فيه ، أما في غير الجحد فلا ، ولا يجوز الإفتاء فيه فقد جاء بالحديث لأن يخطىء الإمام بالعفو أحبّ إلي من أن يخطىء في العقوبة.
لأنه لا يجوز قتل رجل يقول ربي اللّه إلا بأمر صريح من الشارع لا شك فيه ولا معارض له ، لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أفقده الاستدلال ، وأما أبو حنيفة رحمه اللّه فإنه يختار حبس التارك لها كسلا وتهاونا حتى يصليها ، أما جحدا فإنه يقتل إجماعا بلا خلاف ، وما قاله بعض المحققين من قتل اللوطي فلم تجمع عليه الأمة ولم يرد به نص قاطع من آية قرآنية أو حديث متواتر ، وما قيل ان الحصر منقوض بجواز قتل الصائل فيقتل منقوض ، لأن قتل الصائل قصد منه الدفع لا القتل ، والمراد بالقتل هنا ما يكون مقصودا بنفسه ، فإذا أفضى الدفع إلى القتل فيكون أيضا بحق ، لأنه لو لم يقتله لقتله ، والدفاع عن النفس والمال والعرض مشروع ، فقد ورد قاتل دون مالك ، قاتل دون عرضك ، قاتل دون نفسك ، فيكون قتالا بحق إذا أدى الحال إليه ولم يقدر على حفظ ماله ونفسه وعرضه من القتل إلا بالقتل ، ولهذا فإن القانون المدني عد القتل دفاعا عن النفس معفوا من العقوبة استنباطا من تلك الأدلة ، وهكذا كل قانون يقبله العقل السليم مأخوذ من الشرائع السماوية «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً» منكم أيها الناس دون اقتراف ذنب ولا سبب من هذه الأسباب الثلاثة ، والصائل متعد غير مظلوم فلا يدخل في هذه الآية.
قال العلماء إن من عليه القصاص يقتص منه ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك ، وهذا المظلوم الذي قتل عمدا بغير حق يوجب قتله أو يبيحه «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» قويا بأن جعلنا له حق التسلط على قتل القاتل والاستيلاء عليه وإجباره بالقصاص منه أو أخذ الدية بالعفو عنه إن شاء الولي ، ولا تتعين الدية إلا بعد العفو ، فيجوز أخذها حينئذ كما في قتل الخطأ ، لأن القتل العمد لا دية فيه بل القصاص والكفّارة ، والمقتول خطأ مقتول ظلما أيضا ، إذ لم يقترف جناية تستوجب قتله ، إلا أنه لا إثم على قاتله لقوله صلّى اللّه عليه وسلم رفع عن أمتي ثلاث : الخطأ والنسيان(2/485)
ج 2 ، ص : 486
وما استكرهوا عليه.
وشرعت الكفارة في قتل الخطأ لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه ، ومن قال إن المرأة لها دخل في طلب القصاص فقد فسّر الولي بالوارث ، والصحيح أن لا دخل لها في ذلك ، لأن القرآن جاء بلفظ الولي وهو لفظ مذكّر لا تدخل فيه المرأة ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين 92 و93 من سورة النساء في ج 3 إن شاء اللّه «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» فيتجاوز الحد الشرعي بأن يمثل في القاتل أو يقتل اثنين بدل واحد أو يقتل غير القاتل ، راجع تفسير الآية 15 المارة في هذا البحث ، إذ كان الناس قبل شريعة إبراهيم عليه السلام يؤاخذون القريب بقريبه كما هو الحال الآن في أعراب البادية ، إذ يقتلون من عثروا عليه من أقارب القاتل ، وقد لا يكتفون بقتل واحد إذا كان المقتول وجيها ويتحرون الوجيه والشريف من أبناء عشيرة القاتل الأبرياء فيقتلونهم وهم غافلون ، وهذا غاية في الظلم والتعسف ولا حول ولا قوة إلا باللّه «إِنَّهُ كانَ» ولي المقتول «مَنْصُوراً» 33 على القاتل لاستيفاء حقه منه قصاصا ، وقد أمر ولي الأمر بنصرته ومعاونته على استيفاء حقه ، وهذه أول آية نزلت في القتل وهو من أكبر الكبائر بعد الشرك باللّه ، وهذه الآية والتي قبلها 32 و33 مدنيتان على قول الحسن والجمهور على أنها مكيتان وسياقهما يؤيد مكيتهما.
مطلب المحافظة على أموال اليتيم والوفاء بالعهود :
قال تعالى «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ» الذي مات أبوه ، أما الذي ماتت أمه فهو عجي ، والذي مات أبواه فهو لطيم ، وفي النهي عن قربانه المبالغة في النهي عن أخذه كما لا يخفى على بصير ، ثم استثنى جل شأنه من عموم أخذ مال اليتيم حالات بينها بقوله عز قوله «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» لنفس اليتيم من الخصال التي تعود عليه بالنفع والحظ من طرق تنميتها وحفظها والإنفاق عليه منها بلا تقتير ولا إسراف ، وبغير هذه الجهات الثلاث وما يقاربها فقد حرم اللّه قربان ماله ، فكيف بأخذه وأكله ، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) الآية 10 من سورة النساء في ج 3 ، ولا استثناء في الأكل وإنما هو في القربان فقط لما فيه من النفع لليتيم كما علمت ، (2/486)
ج 2 ، ص : 487
ويجب على وليه أو وصيه المحافظة عليه وعلى ماله بكل إخلاص وصدق «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» ليستكمل قواه ويصير أهلا للتصرف بماله ، بأن يبلغ رشيدا ويجرّب في الأخذ والعطاء والبيع والشراء إن كان من أهله ، ولا يكون ذلك إلا بعد بلوغه إحدى وعشرين سنة من عمره على أصح الأقوال ، لأن أقل الأشد ثمانية عشرة سنة ، وأكثره ثلاثون راجع الآية 14 من سورة القصص المارة ، فإذا لم يبلغ رشيدا فلا يسلم إليه ماله ولا يمكن من التصرف به ولا من قربانه بغير الصور الثلاث ، لأنه مقيد ببلوغه وكماله ، أما إذا بلغ رشيدا وجرّب جاز للولي والوصي أن يسلمه ماله وملكه ، راجع الآية 5 من سورة النساء في ج 3 ، ويسن مراقبته من قبلهما وإرشاده لما به سداده ، وإذ ذاك يسقط الوجوب عنهما ويخرج عن كونه يتيما راجع الآية 9 من النساء أيضا في ج 3.
وليعلم أن أكل مال اليتيم من الكبائر بدليل الوعيد فيه المار ذكره أعلاه قليلا كان المأكول أو كثيرا فلا يتقيد بمقدار نصاب السرقة المستوجبة للقطع ، لأن الآيات والأحاديث الواردة في النهي عنه جاءت مطلقة عامة لم تقيد بقليل أو كثير ولم تخصص أيضا ، ولا يجوز قيدها وتخصيصها إلا بدليل سمعي ، ولا يوجد ، لذلك فإن مرتكب أكل مال اليتيم مهما كان قليلا يستحق العذاب والوعيد المترتب عليه ، اللهم إلا التافه الذي يتسامح فيه عادة كشربة ماء وحبّة فاكهة ملقاة في الأرض أو ذوق الطعام لمعرفة نضجه وطعمه ، وقد توصل في هذا الزمان والعياذ باللّه بعض القضاء المكلفين بحفظه إلى أكله بوسيلة حفظه وتنميته ، عاملهم اللّه بعدله وأذاق الخائن منهم جزاء أكله ، وللّه در القائل في أمثالهم :
قضاة زماننا أضحوا لصوصا عموما في البرايا لا خصوصا
أباحوا أكل أموال اليتامى كأنهمو رأوا فيها نصوصا
فدعنا يا أخي من أناس باعوا دينهم بيعا رخيصا
قال تعالى «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ» الذي عاهدتم اللّه عليه أزلا يوم أخذه عليكم في عالم الذّر من التزام أوامره واجتناب نواهيه ، وما عاهدتم عليه الناس من أقوال وأفعال ، وكل ما التزمتم به أنفسكم للغير وكلفكم به اللّه في هذه الدنيا ، والوفاء(2/487)
ج 2 ، ص : 488
بالعهد هو القيام به والعمل بمقتضاه والمحافظة عليه وعدم نقضه ، لأنه الغدر بعينه «إِنَّ الْعَهْدَ» وضع جل شأنه الظاهر موضع المضمر لكمال الاعتناء ، وإلا لقال «إنه» لأن الضمير يعود على العهد المذكور قبله «كانَ مَسْؤُلًا» 34 عنه في الدنيا ومكلف بالقيام به ومؤاخذ عليه في الدنيا والآخرة ، وتقدم كيفية أخذ العهد من قبل اللّه في الآية 172 من سورة الأعراف المارة.
واعلم أن الإخلال بالعهد من الكبائر ، فقد روي عن علي كرم اللّه وجهه أنه عدّ من الكبائر نكث الصفقة أي الغدر بالمعاهدة ، وصرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه سماه كبيرة ، وقال بعض المحققين إن العهد هنا هو التكليفات الشرعية ، والوفاء به حفظ ما يقتضيه القيام بموجبه.
ويقال وفي بالتخفيف والتشديد وأو في بالمزيد وكلها بمعنى واحد ، إلا أن التشديد في الثاني يدل على التكثير والمبالغة والمزيد أي الأخير فيه زيادة حرف وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى.
واعلم أن العهود باعتبار المعهود والمعاهد بكسر الهاء وفتحها ثلاثة أنواع : الأول بين اللّه وعباده ، والثاني بين العبد ونفسه ، والثالث بين الناس بعضهم لبعض.
وكل واحد باعتبار الموجب له جهتان جهة أوجبها العقل وهو ما ذكر اللّه تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه إما يبدهية العقل أو بأدنى نظر واستدلال عليه ، يؤيده قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية 172 من الأعراف المارة ، وجهة أوجبها الشرع وهو ما دلّنا عليه كتاب اللّه تعالى أو سنة نبيه ، فذلك ستة أضرب ، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه ، والثاني أربعة أقسام :
فالأول واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقرب ، مثل أن يقول علي أن أصوم كذا وكذا إن عافاني اللّه من مرضي هذا أو أتصدق بكذا ، الثاني يستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك مباح فإن له أن يكفّر عن يمينه ويفعل المحلوف عليه متى أراد ، الثالث يستحب ترك الوفاء به وهو ما جاء في قوله صلّى اللّه عليه وسلم إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه ، فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه ولا يفعل المحلوف عليه ، الرابع واجب ترك الوفاء به مثل أن يقول على أن أقتل فلانا أو أغتصب ماله ونحوه ، فعليه أن يعرض عن حلفه ويكفّر عن يمينه فيحصل(2/488)
ج 2 ، ص : 489
من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا.
وأعلم أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن اللّه تعالى على الوفاء بما عاهد وعاقد عليه لا أنه لا قدرة له أصلا ، ينقض ما عاهد وما عاقد ويقول هكذا مراد اللّه أو ما أراد اللّه أن أوفي بذلك كما تقول الجبرية ، ولا أن يقول أن لي قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعرية ، ولا يقول إن لي قدرة مؤثرة وإن لم يأذن اللّه تعالى كما يقوله المعتزلة ، وإن لي اختيارا أعطيته بعد طلب استعداده الثابت في علم اللّه تعالى له ، فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه ، بمعنى أنه لا بد من أن يكون له فعل فيه ، لأن استعداده الأزلي غير المجعول قد طلبه من الجواد الكريم المطلق الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها ، والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك مثل دلالة الأثر على المؤثر والغاية على ذي الغاية ، قال تعالى : َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
الآية 34 من سورة النحل في ج 2 ومن وجد خيرا فليحمد اللّه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
هذا ، وقد قال ابن المنير إن أهل السنة والجماعة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون اللّه تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة ، وقدرة العبد مقارنة فحسب ، وبذلك يميز بين الاختياري والقسري ، وتقوم حجة اللّه على عباده ، ولهذا يعاقب العبد على فعله ويؤجر لأنه إذا فعل الشرّ كالشرب والزنى مثلا فإنه فعلهما عن اختيار ورغبة لا عن إكراه.
وكراهية ، ولأنه حينما فعلهما كان عالما بأنه يعذب عليهما لأن ذلك لا يعرف إلا بعد وقوع الشيء وإلا لما استحق العذاب ولا السؤال ، فلا حجة للعبد بقوله مقدر علي وإنه لو شاء اللّه لمنعني من فعله ، اقتداء بمن سبقه من الكفرة الذين يتقولون بذلك راجع الآية 140 من سورة الأنعام والآية 35 من سورة النحل في ج 2 اه.
من روح المعاني للآلوسي ، وليعلم أن الأمة الإسلامية خير من يراعي العهود ويحافظ عليها ويفي بالوعود ويقوم بها ، وكان حضرة الرسول الأعظم هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى لأمته في ذلك ، ولهذا رأيت أن أذكر نوعا من معاهدات الصلح التي عقدها عليه الصلاة والسلام على أثر انتهاء حروبه مع أهل الكتاب وغيرهم(2/489)
ج 2 ، ص : 490
حبا في بقاء النوع الإنساني وصيانة لحياته دون احتياج إلى استخدام السلاح وإرهاق الأرواح وجنوحا للسلم وحقنا للدم ، راجع الآيتين 10 - 11 من سورة الحجرات والآية 138 من سورة النساء والآية 62 من سورة الأنفال في ج 3.
وهذا نص كتاب الصلح في معاهدة تبوك :
مطلب نص بعض معاهدات حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم :
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا منّة من اللّه ومحمد النبي رسول اللّه ليوحنا بن رؤبة وأهل ايلية سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة اللّه تعالى ومحمد النبي ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وانه لطيّبة لمن أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.
وهذا نص الكتاب الثاني :
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا كتاب محمد لأهل أزرح وجرباء أنهم آمنون بأمان اللّه وأمان محمد رسول اللّه وأن عليهم مائة دينار في كل رجب واقية طيبة واللّه كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين.
وهناك معاهدات أخرى سنأتي بها عند ذكر ما يناسبها من الآيات المارة الذكر في القسم المدني إن شاء اللّه وخاصة عند قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الآية الأولى من سورة المائدة ، وعند قوله تعالى (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الآية 19 وما بعدها من سورة الرعد والآية 2 من سورة الصف في ج 3 والآية 91 من سورة النحل في ج 2 وغيرها مما جاء فيها وجوب المحافظة على العهود والتهديد والوعيد على نقضها ، وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان.
فالوفاء بالعهد من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخلال الحميدة والخصال المجيدة ، ومن الأمثال :
الوعد وجه والإنجاز محاسنه والوعد سحابة والوفاء مطرها.
وعد الكريم نقد وتعجيل ، ووعد اللئيم مطل وتعليل ، وقد ذم اللّه القض في الآيات 90 فما بعدها من سورة النحل المنوه بها آنفا ، وليعلم أن النقض من الغدر والبغي وقال صلّى اللّه عليه وسلم أعجل الأشياء(2/490)
ج 2 ، ص : 491
عقوبة البغي.
وقال المكر والخديعة والخيانة في النار.
وقال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ثلاث من كن فيه كن عليه وورد : ثلاث رواجع أي ترجع على المبتدئ بهن البغي والنكث والمكر قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) الآية 24 من سورة يونس في ج 2 ، وقال تعالى (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) الآية 10 من سورة الفتح ج 3 ، وقال تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الآية 41 من سورة فاطر المارة ، هذا وكم أوقع الغدر في المهالك من غادر وضاقت عليه من موارد الهلكات فسيحات المصادر وطوقه غدره طوق خزي فهو على فكه غير قادر ، وأوقعه في مظنة خسف وورطة حتف ، فماله من قوة ولا ناصر.
ويشهد لهذا قصة ثعلبة بن حاطب الأنصاري التي سيأتي ذكرها في الآية 105 فما بعدها من سورة التوبة في ج 3 ، فلا خزي أفظع من ترك الوفاء بالميثاق ، ولا سوء أقبح من غدر يسوق إلى النفاق ، ولا عار أفضح من نقض العهد والميثاق وجاء في المثل لم يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.
وأكثر الشعراء في ذمّه فقال بعضهم :
غدرت بأمر كنت أنت جذبتنا إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد
وهو أصناف بحسب النتائج ، فمنه الخلف بما يعد من الصغائر كالوعد بإعطاء شيء ثم النكول عنه ، وبالمجيء إلى مكان ثم الخلف به ، ومنه ما يكون من الكبائر كالإخلال بمعاهدات الصلح والهدنة الموقتة والمبايعة للإمام ، ومن الكبائر الخروج على الإمام بعد المبايعة له أيضا بغير وجه شرعي يخالف نص المبايعة ، قال تعالى «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ» أتموه وأعطوه وافيا لا تنقصوه «إِذا كِلْتُمْ» للمشتري أيها الباعة «وَزِنُوا» إذا وزنتم لغيركم ولأنفسكم من غيركم «بِالْقِسْطاسِ» القبان ومثله الميزان «الْمُسْتَقِيمِ» العدل السوي كان الموزون ذهبا أو حطبا ، وقد اكتفى جل شأنه باستقامة الوزن عن الأمر بإيفائه ، لأن الوزن عند استقامة ما يوزن به لا يتصور الجور فيه غالبا ، بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف فيه مع استقامة الكيل ، لهذا ذكر الاكتفاء بإيفائه عن الأمر بتعديله.(2/491)
ج 2 ، ص : 492
مطلب الكيل والميزان والذراع ...
وما يتعلق بهما :
وقد جاء في الآية 84 من سورة الأعراف المارة (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ)
وفي الآية 84 من سورة هود (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) الآية في ج 2 ، لأن الإيفاء لا يتصور بدون تعديل المكيال ، وقدمنا في سورة الشعراء المارة في الآية 182 بأن كلمة القسطاس من التي قيل فيها إنها غير عربية في الأصل ، وذكرنا هناك بأنها وغيرها في الأصل عربية واستعملها الأجانب لأن اللّه تعالى قال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وذكرنا أيضا بأنه لو فرض جدلا ومحالا بأنها في الأصل ليست بعربية فقد عربت ونطق بها العرب قبل نزول القرآن ، فوجدوها فيه على هذا لا يقدح بعربيتها في القرآن أيضا لأنها بعد التعريب والسماع في فصيح كلام العرب استعمالها صارت عربية ، فلا حاجة لإنكار عربيتها أو ادّعاء التغليب ، أو أن المراد عربي الأسلوب ، أو أنها من نوارد اللغات كما يقال في بعض الشعر إنه من نوارد الخاطر إذا وافق قول من قبله.
هذا ، وقد تبدل سينه صادا كما تبدل صاد الصراط سينا وكذلك المستقيم وشبهه من الألفاظ ، لأن السين تخلف الصاد وبالعكس في بعض المواضع راجع تفسير الآية 5 من سورة الفاتحة المارة ، «ذلِكَ» الإيفاء والاستقامة في الكيل والوزن «خَيْرٌ» لكم أيها الناس في الدنيا لأنه يسبب الرغبة في معاملتكم يجلب لكم النفاء الجميل «وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» 35 في الآخرة ، وأجمل عاقبة لما يترتب عليه من الثواب ، وأصل التأويل رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما ، كما في قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) الآية 8 من آل عمران في ج 3 ، أو فعلا كما في قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) الآية 53 من سورة الأعراف المارة وقول الشاعر :
وللنوى قبل يوم البين تأويل وليعلم أن نقص الكيل والوزن من الكبائر على ما يقتضيه الوعيد الشديد الوارد في الآيات والأحاديث ، ولا فرق بين القليل والكثير ، فالتفاوت لا شك قليل والعذاب عظيم كبير ، ألا فلينتبه الغافلون وليتأملوا قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الآتية آخر الجزء الثاني ، ومن يرد السلامة ويحذر يوم الندامة فليوف الكيل وليرجح الميزان ليكون آمنا من مظنة السوء في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وهنا لا تسامح في التّافه ، ولا عبرة لمن قال إن غصب ما دون ربع(2/492)
ج 2 ، ص : 493
الدينار لا يكون كبيرة ، ويقيس عليه التطفيف ، لأن هذا من مقاييس إبليس التي مرت لك في الآية 12 من الأعراف ، ولا محل لها هنا ، لأن الآية أوجبت الوفاء بالكيل والميزان ، واللّه تعالى يقول (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) الآية 83 من هود في ج 2 ، فكل نقص مهما كان تافها يعد مخالفة لكلام اللّه ، ومخالفة كبيرة عظيمة لا يختلف فيها اثنان ، على أن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره ، لأنه يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعيين التنفير منه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا بما قالوه في شرب القطرة من الخمر إنه كبيرة وإن لم يوجد فيها مفسدة وهو السكر وزوال العقل واللغو والتأثيم لأن قليله يدعو إلى كثيره ، ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع وجر السلعة حالة الذرع ، ويوشك أن لا يكاد في هذا الزمن كيال أو وزان أو ذراع يسلم من نقص إلا من عصمه اللّه تعالى ، أجارنا اللّه من النقص المادي والمعنوي بمنه وكرمه ، قال تعالى «وَلا تَقْفُ» لا تتبع أيها الإنسان «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» من أحوال الناس وقرىء (ولا تقفوا) بإشباع الضمة حتى ولد منها واوا ، ومعنى قفا اتبع قفاه ، ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه ، يقال قاف أثره يقوفه إذا قصّه واتبعه ، أي لا تتبع ما لا علم لك له من أقوال الناس وأفعالهم ، فتقول رأيت كذا من فلان وسمعت كذا من الآخر ، وإياك أن ترمي أحدا بالظن وتغتابه في قفاه.
مطلب آداب اللّه الذي أدب خلقه ووصايا الصوفية واعتبار الظن والسماع في بعض الأوقات :
هذا نهي اللّه تعالى لكم أيها الناس من أن تحكموا بما لم تحققوا ، فكيف بمن يقول رأيت وسمعت وهو لم ير ولم يسمع ، فذلك البهت ، وذلك الافتراء ، وذلك الاختلاق ، راجع الآية 110 من النساء والآيتين 6 و12 من سورة الحجرات ، والآية 58 من الأحزاب في ج 3 ، والآية 36 من سورة يونس ج 2 ، إذ يتدرج تحت هذا أمور كثيرة اقتصر المفسرون على بعضها ، فمنهم من قال المراد فيها نهى المشركين عن القول بالإلهيات والنبوات تقليدا لأسلافهم واتباعا لليهود ، وقال محمد ابن الحنفية رضي اللّه عنه : النهي عن شهادة الزور ، وقيل المراد النهي عن القذف ورمي المحصنات الآتي ذكره في الآية 3 فما بعدها من سورة النور في ج 3 ، قال الكميت : (2/493)
ج 2 ، ص : 494
ولا أرمي البريّ بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن رمينا
وقيل المراد النهي عن الكذب ، وقال قتادة لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر ، والقول ما قاله الإمام بأن المراد العموم ، لأن اللفظ عام فيتناول الكل ولا معنى للقيد والتقيد ، روى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ ابن أنس : من قفا مؤمنا بما ليس فيه يريد شينه به حبسه اللّه تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال.
وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وريحانته رضي اللّه عنهما قال : حفظت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إياكم والظنّ لأن الظن أكذب الحديث.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : أتدرون ما الغيبة ، قلت اللّه ورسوله أعلم ، قال ذكرك أخاك بما يكره.
وفي رواية ولو بحضوره.
قلت ولو كان في أخي ما أقول ؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته.
هذا وما جاء بأن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام ، قال أبو عمر الهيثمي لا أصل له ، وقال نعم روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنى إلا أن له ما يبين معناه ، وهو ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي اللّه عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنى ، إن الرجل ليزني فيتوب فيتوب اللّه عليه ، وإن صاحب الغيبة لا يغفر اللّه له حتى يغفر له صاحبه.
فعلم من هذا أن أشدّية المغيبة من الزنى ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنية المستوفية لجميع شروطها من الندم والإقلاع ، والعزم على عدم العودة إذا وقعت قبل الغرغرة ، وقبل طلوع الشمس من مغربها ، وظهور دابة الأرض ، مقبولة مكفرة لإثم الزاني بخلاف الغيبة فإن التوبة منها وإن وجدت فيها تلك الشروط(2/494)
ج 2 ، ص : 495
جميعها لا تقبل ولا يكفر وزرها بدون أن يستحل من المغتاب ويستعفيه عما وقع منه ، وهذا قد لا يتيسر ، فلهذا كانت الغيبة أشد من الزنى من هذه الحيثية لا مطلقا ، وعلم من هذا أن الزاني لا يحتاج إلى الاستحلال من أولياء المزني بها إذا كان برضاها ، ومنها أيضا إن كان كرها لما يترتب عليه من المفاسد التي قد تؤدي إلى قتل الزاني والمزني بها أو لهما معا ، دفعا لما يلحقهم من العار ويولد فتنا وغيظا وحقدا لا تكاد تتلافى ، لأن الزوج والقريب يقدم على القتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقيق ، أجارنا اللّه من ذلك كله ، وليعلم أن ثمرات الزنى قبيحة في الدنيا ، يورث الفقر ويذهب بهاء المؤمن ويقصر العمر ويؤخذ بمثله من ذربة الزاني ، راجع ما قدمناه في الآية 32 المارة وحديث من زنى زني به ، أي من غير حاجة إلى ترصد محارمه والزنى بهن خارجا عن داره ، بل قد يكون في وسط داره وعلى فراشه والعياذ باللّه ، حفظنا اللّه وعصمنا بحرمة نبيه وآله.
وقد اتفق أن بعض الملوك لما سمع هذا الحديث أراد تجربته وكانت له بنت في غاية الحسن والجمال ، فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها ، فطافت بها الأسواق ، فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها ، فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمدّ أحد نظره إليها ، رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها وذهب ، فأدخلتها وأخبرت الملك بذلك ، فخر ساجدا للّه تعالى وقال الحمد للّه ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة ، وقد قوصصت بها ، فنسأل اللّه أن يعصمنا وذرارينا من الفواحش والموبقات كلها ما ظهر منها وما بطن.
هكذا كانت الملوك وسننهم في رعاياهم ، وملوك الآن على ما نحن فيه لأن الجزاء من جنس العمل ، وكما تكونوا يولى عليكم ، هذه عاقبة الزنى في الدنيا ، أما عاقبته في الآخرة فالدخول في جهنم والعذاب الأليم فيها ، أجارنا اللّه من ذلك.
واحتج في هذه الآية ثقات القياس ، لأنّ قفو للظن ولا حكم به ، لأن قوله تعالى (وَلا تَقْفُ) عام دخله التخصيص وهو النهي عن العمل بالظن ، وأجيب بأن الأمة أجمعت على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة ، منها الصلاة على الميت الذي لم يعرف ودفنه في مقابر المسلمين ، وتوريت المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو(2/495)
ج 2 ، ص : 496
مظنون فيه ، ومنها التوجه إلى القبلة في الصلاة مبني على الظن وعلى اجتهادات وامارات لا تفيد إلا الظن ، ومنها أكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم والذابح لها مظنون ، ومنها الشهادة فإنها ظنية أي الشهادة الفعلية وهي القتل في الجهاد لإعلاء كلمة اللّه تعالى لأنها مبنية على النيّة وهي مظنونة ، لا الشهادة القولية على الديون وغيرها فإنها لا تكون على الظن إلا في مواضع فإنها تجوز على السماع كالوقف والموت وغيرهما كما هو مدون في كتب الفقه ، ومنها قيم المتلفات وأرش الجنايات فمبناهما على الظن.
ومن نظر ولو بمؤخر عينه رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء والآمال في حاصلات الزروع وغيرها ، كلها مظنونة ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم : نحن نحكم بالظاهر واللّه يتولى السرائر.
فالنهي عن اتباع ما ليس يعلم قطعي مخصوص بالعقائد ، وبأن الظن قد يسمى علما ، قال تعالى (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) الآية 11 من سورة الممتحنة في ج 3 ، وهذا العلم بإيمانهن إنما هو على إقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن إذ لا تعلم سرائرهن في ذلك وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا ، على أنه متى حصل ظن على أن حكم اللّه تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص ، فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن واقع في طريق الحكم ، وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن.
واعلم رحمك اللّه أنه لا شك أن القياس من الحجج المعمول بها شرعا بعد كتاب اللّه وسنة رسوله وإجماع الأمة ، وهو لغة التقدير واصطلاحا تقدير الفرع المراد إلحاقه بالأصل في الحكم والعلة نقلا وعقلا لقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الآية 11 من سورة الحشر ، وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) الآية 13 من آل عمران في ج 3 والاعتبار رد الشيء إلى نظيره.
ولحديث معاذ رضي اللّه عنه حينما قال له صلّى اللّه عليه وسلم بم تقضي ؟ قال بكتاب اللّه ، قال فإن لم تجد ؟ قال بسنة رسول اللّه ، قال فإن لم تجد ؟ قال أجتهد برأيي ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : الحمد للّه الذي وفق رسول رسوله لما يرضي به رسوله.
هذا نقلا ، وأما عقلا فلأن الاعتبار وهو التأمل واجب عند عدم النص فيما أصاب من قبلنا(2/496)
ج 2 ، ص : 497
من المثلات بأسباب نقلت عنهم ، فنكل عنها احترازا عن مثله من الجزاء ، ولا غرو أن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في المعلول كما بيناه في المطلب الرابع من المقدمة فراجعه ، ومن أراد التفصيل فعليه بكتب الأصول ، هذا وإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية مضبوطة ، وإن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن ، تأمل قوله تعالى «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» 36 أي أن هذه القوى الثلاث المشار إليها في هذه الآية الكريمة كسائر الجوارح الأخر من كل إنسان مستجمع لها يسأل يوم القيامة عما اقترفتها ، فالبصر يسأل عما أبصره ، والسمع عما سمع ، والقلب ماذا وعى ووقر فيه ، وهكذا اليد والرجل والفم ، أو أن اللّه تعالى يسأل هذه الجوارح نفسها عن صاحبها هل استعملها فيما خلقت له بأن استعمل النظر في كتاب اللّه وآلائه ومكنوناته ، والسمع في سماع القرآن والذكر والكلم الطيب ، والفؤاد هل وقر فيه النصح للمسلمين وحبهم والحميّة لهم ، أم لا بأن استعملها على العكس فصرف نظره للمحارم ، وسمعه للغيبة وقول السوء ، وقلبه للحقد والغل والحسد للناس ، واليد للبطش بغير حق ، والرجل للمشي إلى ما لا يرضي اللّه وما أشبه ذلك.
هذا وقد أشار اللّه تعالى إلى هذه الجوارح بإشارة العقلاء على القول بأنها مختصة بهم تنزيلا لها منزلتهم ، لأنها مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال بعضهم إنها غالبة في العقلاء ، وجاءت لغيرهم من حيث أنهم اسم جمع (لذا) أي لفظ أولئك اسم جمع لذا وهو أي ذا يعم القبيلين من يعقل ومن لا يعقل ومن ذلك قول جرير :
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
مطلب ما يجب أن تبادر به الناس والوصايا العشر وغيرها :
قال تعالى «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» فخرا وكبرا وخيلاء وتبطرا تتعاظم عليهم ، وتتكابر في مشيتك على الناس وأنت منهم «إِنَّكَ» أيها الإنسان المتصف في هذه المشية المكروهة «لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ» بمشيتك هذه الممقوتة ، فتتصور أنك تثقبها بشدة وطأتك كلا «وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» 37 بتشامخك ومدّ عنقك وقامتك مهما تطاولت ، فأنت أنت بل تتصاغر في أعين قومك ، (2/497)
ج 2 ، ص : 498
وهذا تهكم في كل مختال شديد الفرح بنفسه كثير المرح على غيره ، إذ يمشي مرة على أعقابه وأخرى على رءوس أصابعه ، وتارة يتمايل ، وطورا يتبختر بقصد تعالي نفسه الواطية ، فمالك وهذا أيها الإنسان ، تواضع لأنك دون ذلك وكن كما قال أبو الحسن علي بنخروف :
تنزه عن الدنيا وكن متواضعا عفيفا ولا تسحب ذيولا من الكبر
إذا كنت في الدنيا حليف تكبر فإنك في الأخرى أقل من الذر
واعلم أن قوتك مهما كانت فلن تقابل قوة الأرض ولا جثتك عظم الجبال ، ومن هو أضعف من هذين الجمادين لا يليق به أن يتكبر ، كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا مشى يتكفأ تكفؤا أي تمايل إلى قدام كأنما ينحط من صيب ، أي ينحدر من مكان عال فيحصر نظره قدامه ، ومن هنا جعل السادة الصوفية العارفون النظر عند المشي إلى القدم شرطا من شروطهم حتى لا يرى شيئا من أحوال الناس ، ومن أحوالهم بارك اللّه فيهم قولهم إذا دخلت فادخل أعمى وإذا خرجت فاخرج أخرس ، وهذا هو الحكم الشرعي في المشي.
ومن السنّة أن يمشي بجانب الطريق ويتجنب التضييق على المارة ، ويغض بصره عن عورات الناس ، ويعرض عنهم ، ويوسع لهم ما استطاع ، ويزيل الأذى عن الطريق من كل ما يوجب العثار والزلق ، ويسلم على الناس ويقابلهم ببشاشة الوجه ، والأحسن أن لا يجاوز نظره محل قدمه ، وينذر الغافل والأعمى والصغير عن الوقوع في حفرة وشبهها ، ويحذرهم من المرور تحت جدار مائل ، ومن حية وعقرب وكلب كلب أو عقور أو جمل هائم أو رجل صائل أو سقف هائر ، وبالجملة من كل ما يترقب الأذى منه أو يتوقع الضرر منه مادة ومعنى.
وهذا كلثه من حق المسلم على المسلم والمعاهد والذمّي في حكم المسلم من هذه الجهات لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
قال تعالى «كُلُّ ذلِكَ» من - ولا تجعل إلى آخر هذه الآية - «كانَ سَيِّئُهُ» المنهي عنه من ذلك ، وهو أربع عشرة خصلة ، والمأمور به وهو إحدى عشرة خصلة ، ثلاث مستترة وثمانية ظاهرة ، فيكون المجموع المشار إليها بقوله ذلك خمس وعشرين خصلة ، فتدبرها لأنا أوضحناها لك فتح اللّه علينا وعليك ، فإذا علمتها فافعل المأمورات ما استطعت ، (2/498)
ج 2 ، ص : 499
واجتنب المنهيات كلها ، لأن اجتناب المنهيات أحسن عند اللّه من فعل المأمورات ، ولهذا جاءته القاعدة الشرعية درء المفاسد مقدّم على جلب المنافع ، راجع الحديث المار في الآية 39 ، واعلم أنه كما أن المأمور به منها محبوب فالسيىء «عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً» 38 مبغوضا ، فعليك أن تتّقي كل ما يكرهه اللّه ، وتفعل ما يحبه.
واعلم أن لا مجال لما تمسك به بعضهم في هذه الآية من أن القبائح لا تتعلق بها إرادة اللّه تعالى ، لان المراد بالمكروه هنا ما يقابل المرضيّ كما ذكرنا ، لا ما يقابل المراد ، لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى ، وإلّا لاجتمع الضدان الإرادة والكراهة كما يزعمه بعض المعتزلة ، ووصف ذلك بمطلق الكراهة ، مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عنها ، ولهذا كان المكروه عند المتقين الكاملين مثل الحرام في لزوم الاحتراز عنه ، ومن لم يعرفه تعدّى إلى دائرة الإباحة ، فتدبر وتحفظ وتأدب تنج وتسلم وتربح «ذلِكَ» المقدّم تفصيله لك أيها المتدبر المتفكّر العارف «مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ» من بعض ما أنزله «رَبُّكَ» يا سيد الرسل «مِنَ الْحِكْمَةِ» التي هي أسّ علم الشرائع ومعرفة ذات الخالق والاحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد إلى آخر الدوران «وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» افتراء عليه إياك إياك ، احذر من هذا أيها العاقل كل الحذر ، فهو أكبر أنواع الكفر ، ولهذا صدّرت الآيات الثماني عشرة بمثل ما ختمت للعلم بأن التوحيد مبدأ الأمر وآخره ، ورأس كل حكمة ومنتهاها ، وملاك كل أمر وعمدته ، وقد رتّب عليه أولا ما هو غاية الشرك في الدنيا ، إذ ختم تلك الآية بقوله (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) ورتّب آخرا على هذه الآية ما هو نتيجته في العقبى ، وختمها بقوله «فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً» من نفسك وغيرك «مَدْحُوراً» 39 مبعدا من رحمة اللّه لأنه كفر ما وراءه كفر ، والفرق بين المذموم والملوم هو أن الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر مذموم ، والملوم هو الذي يقال له لم فعلت مثل هذا وما الذي حملك عليه ، وما استفدت منه إلا ضرر نفسك ، ويعلم من هذا أن الندم يكون أولا واللوم آخرا ، والفرق بين المخذول والمدحور هو أن المخذول من
لم يعنه أحد وقد فوض(2/499)
ج 2 ، ص : 500
أمره لنفسه إذ لا ناصر له ، والمدحور المطرود المهان المستخف به ، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما هذه الثماني عشرة آية في التوراة عشر آيات كانت في ألواح موسى عليه السلام ، وفي الدر المنثور : أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل (يعني سورة الإسراء هذه) ثم تلا ولا تجعل مع اللّه إلى آخر هذه الآية ، أي أن غالب أحكام التوراة داخلة في هذه الآيات ، أما الوصايا العشر التي هي في التوراة فهي من جملة هذه الآيات وداخلة فيها وهي مبينة تماما في الآيات 152 و153 و154 في سورة الأنعام في ج 2 كما سنبينها في محلها إن شاء اللّه.
واعلم أن اللّه تعالى ذكر في هذه السورة أولا عصيان بني إسرائيل وإفسادهم وتخريب بيت المقدس وتدميره وإياهم ، وختمها كما سيأتي في استفزاز فرعون لهم وإرادته إهلاكهم ، ونوه بالآيات التسع التي أظهرها لهم على يد موسى عليه السلام ، وأنه دمّر فرعون وقومه وأورث ملكه وأرضه إلى موسى وقومه ، وأن بني إسرائيل بعد ذلك كله استفزوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة وأرادوا إخراجه منها ، وحينما كان في مكة أرادوا استفزاز قريش عليه ، وقالوا لهم سلوه عن الروح وأهل الكهف وعن ذي القرنين كما سيأتي تفصيله في الآية 8 من سورة الكهف ، وهذا من بعض تعنتات اليهود.
وجاء ذكرهم في هذه السورة تعريضا بهم بأنهم إذا لم يؤمنوا بمحمد سينالهم ما نال فرعون ، لأنهم أرادوا بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم ما أراد فرعون بموسى وأصحابه ، وجاء هذا البحث هنا استطرادا بسبب ذكر التوراة وما فيها راجع الآية 166 من الأعراف المارة.
قال تعالى «أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ» اختصكم «بِالْبَنِينَ» واختارهم لكم «وَاتَّخَذَ» هو لنفسه جلت نفسه «مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً» مع أنهنّ أدنى حالا من الذكور «إِنَّكُمْ» أيها الكفرة المختارون لأنفسكم الأحسن «لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» 40 في حق المتّصف بالكمال المنزه عن اتخاذ الولد ، وتجرءون على هذا ولا تخشون عظمته بأن ينزل بكم أعظم العذاب.
نزلت هذه الآية بالمشركين القائلين إن الملائكة بنات اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك ، وإنما وصف اللّه قولهم هذا بالعظيم لأنه لا أعظم منه ، إذ جعلوه جل جلاله من قبيل الأجسام السريعة الزوال المحتاجة إلى بقاء النوع بالتوالد ، وهو ليس كمثله(2/500)
ج 2 ، ص : 501
شيء ، فهو الواحد القهار الباقي بذاته
، وهذا القول لا يجترىء عليه ذو عقل بل هو خرق لقضايا العقول ، وإثم كبير لا يقادر قدره ،
قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا» كررنا وبيّنا ، والتصريف أصله صرف الشيء من جهة إلى أخرى ، ولكنه استعمل في التّبيين والتكرير على طريق الكناية ، لأن من يحاول بيان الشيء يصرف كلامه من نوع إلى آخر لكمال الإيضاح «فِي هذَا الْقُرْآنِ» العظيم من العبر والحكم والأخبار والقصص والأمثال والحجج والآيات والبراهين ، «لِيَذَّكَّرُوا» به قومك يا أكمل الرسل فيتعظوا بزواجره ويخبتوا لأوامره لأن هذا التكرار يقتضي الإذعان والركون إلى ما فيه ، ولكنهم تمادوا في كفرهم «وَما يَزِيدُهُمْ» ذلك التبيين «إِلَّا نُفُوراً» 41 من حقك الذي جئتهم به ، وصدودا عن الإيمان الذي تأمرهم به ، وجحودا للكتاب الذي أنزل إليهم ، وتباعدا عنك وإعراضا ، وما ذلك منهم إلا تعكيس في الحق وتماد في الباطل ، وقرىء (ليذكروا) بالتخفيف هنا كما قرىء في مثلها في سورة الفرقان المارة الآية 57 من الذكر بمعنى التذكر ضدّ النسيان والغفلة ، كما قرىء صرفنا بالتخفيف أيضا وهو مثل صرفنا بالتشديد ، إلّا أنه لا يدل على التكثير «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المشركين في إظهار بطلان ما تفوّهوا به «لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ» بالتاء خطابا لهم وبالياء على الغيبة وكلا القراءتين جائزة هنا لأنه إذا أمر أحد تبليغ الكلام المأمور به لغيره فالمبلغ له في حال تكلم الأمر غائب ، ويصير مخاطبا عند التبليغ ، فإذا لوحظ الأول كان حقه الغيبة ، وإذا لوحظ الثاني كان حقه الخطاب «إِذاً» إذ لو كان مع اللّه آلهة أخرى تعالى اللّه عن ذلك «لَابْتَغَوْا» لطلبوا «إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» 42 طريقا لمغالبته وقهره ليزيلوا ملكه كما تفعل ملوك الأرض بعضها ببعض ، ولكن ليس معه آلهة قطعا ، كيف وهو رب العرش العظيم الإله الجليل الذي لا رب غيره ، راجع الآية 33 من سورة الرحمن في ج 3.
وهذه الآية تشير إلى برهان التمانع المذكور في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية 21 من سورة الأنبياء في ج 2 كما سيأتي تفصيله فيها إن شاء اللّه.
وقال مجاهد وقتادة إن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه والتقرب لحضرته بالطاعة لعلمهم بعلوّه سبحانه عليهم وعظمته ورفعته ، (2/501)
ج 2 ، ص : 502
وهذا كقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية 57 الآتية وهو إشارة إلى قياس اقتراني تقديره لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى ، وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة.
هذا ، وعلى التفسير الأول المشار به إلى برهان التمانع تكون لو امتناعية وعلى الثاني شرطية ، والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية ، والوجه الأول أولى في التفسير وأنسب بالمقام.
مطلب تسبيح الأشياء وبعض معجزات الرسول صلّى اللّه عليه وسلم :
قال تعالى منزها نفسه المنزهة بنفسه «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ» من نسبة آلهة معه أو أولاد وصاحبة وعلا «عُلُوًّا كَبِيراً» 43 لا غاية وراءه ، وذكر العلو بعد وصفه سبحانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة ، وهذا مبالغة في البراءة والبعد عمّا وصفوه به لأنه تعالى في قصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي ، كيف لا وهو الذي «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» من الإنس والجن والملائكة والطير والوحش والحيتان والنّبات والجماد بدليل قوله «وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ» ولا من ذرّة يطلق عليها اسم الشيء ويمتد عليها ظل الوجود فيهن إلا يسبح بحمده منهم بلسان قاله ، ومنهم بلسان حاله ، لأن كل شيء يدل بإمكانه وحدوثه دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث ، كما يدل الأثر على مؤثره «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ» أيها الناس وأنتم منهكون في الغي والضلال «تَسْبِيحَهُمْ» لأنكم لا يفهم بعضكم لغات بعض فكيف تفهمون لغات ما هو من غير جنسكم «إِنَّهُ» جلت عظمته «كانَ» ولم يزل بعدم معاجلتكم بالعقوبة عما يصدر منكم من القبائح «حَلِيماً» لا يستفزّه الغضب فيمهل خلقه رحمة بهم ورأفة عليهم «غَفُوراً» 44 كثير المغفرة لعباده الرّاجين عفوه الراجعين إليه ، ولو لا هاتان الصفتان لأنزل بكم العذاب حالا واستأصلكم به.
وليعلم أن عدم فقه تسبيح الحيوانات وغيرها ناشىء من عدم صقل القلوب من رين الذنوب ، وقصور النظر فيما يدل على علام الغيوب ، وإلا فقد وردت أحاديث وأخبار لا تقبل التأويل بتسبيح الحصى في كفه صلّى اللّه عليه وسلم ، روى مسلم عن جابر بن(2/502)
ج 2 ، ص : 503
سمرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن بمكة حجرا كان يسلّم علي ليالي بعثت ، وإني لأعرفه الآن.
وروى البخاري عن ابن عمر قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يخطب إلى جذع ، فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه فحنّ الجذع فمسح عليه بيده.
وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بطعام ثريد فقال إن هذا الطعام يسبّح فقالوا يا رسول اللّه وتفقه تسبيحه ؟ قال نعم ، ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل ، فأدناها ، فقال نعم يا رسول اللّه هذا الطعام يسبّح ، فقال أدنها من آخر ، فأدناها منه فقال يا رسول اللّه هذا الطعام يسبّح ، ثم ردّها ، فقال رجل يا رسول اللّه لو أمرّت على القوم جميعا ، فقال لا لأنها لو سكتت عند رجل لقالوا من ذنب ، ردّها ، فردّها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا أصحاب محمد نعدّ الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفا ، بينما نحن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليس معنا ماء فقال اطلبوا ممن معه فضل ماء ، فأني بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه ، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه ، ثم قال حي على الطهور المبارك والبركة من اللّه تعالى فشربنا منه.
قال عبد اللّه كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب.
وهذا ليس من خصائصه صلّى اللّه عليه وسلم لأن جل الأنبياء تكلم لهم الحجر ، ونبع لهم الماء ، وتكلمت لهم الحيوانات والموتى ، ووقفت لهم الشمس وكثر لهم القليل من الطعام والشراب ، وقلل لهم الكثير من الأعداء ، ومن وقف على معجزاتهم وكان موقنا آمن وصدق بهم وبما يقع لأولياء اللّه من الكرامات الشبيهة بالمعجزات ومن لا فلا ، لأنه ختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وعلى قلبه رينا وصدأ حتى لا يسمع ولا يبصر ولا يعي ، فلا يؤمن.
أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه آمر كما بسبحان اللّه وبحمده فإنها صلاة كل شيء ، وبها يرزق كل شيء.
وأخرج أحمد عن معاذ ابن أنس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل ، فقال لهم اركبوها سالمة ودعوها سالمة ، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا للّه تعالى منه.
وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال : نهى النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن قتل الضفدع(2/503)
ج 2 ، ص : 504
وقال نقيقها تسبيح.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال : ظنّ داود عليه السلام في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بما مدحه ، وان ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه ، فقال يا داود افهم إلى ما تصوّت به الضفدع ، فأنصت داود فإذا الضفدع تمدحه بمدحة لم يمدحه بها أحد ، فقال له الملك كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت ؟ قال نعم ، قال ماذا قالت ؟ قال قالت سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب ، قال داود لا والذي جعلني نبيه إني لم أمدحه بهذا.
وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن شهر بن حوشب من حديث طويل أن داود عليه السلام أتى البحر في ساعة فصلى فنادته ضفدعة يا داود إنك حدّثت نفسك أنك سبحت اللّه في ساعة ليس يذكر اللّه تعالى فيها غيرك وإني من سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل تسبح اللّه تعالى وتقدسه.
وأخرج الخطيب عن أبي حمزة قال كنا عند علي بن الحسين رضي اللّه عنهما ، فمرّ بنا عصافير يصحن ، فقال أتدرون ما تقول هذه العصافير ؟ قلنا لا ، قال أما اني ما أقول إنا نعلم الغيب ، ولكن سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم اللّه وجهه يقول سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها ، وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها.
وأخرج بن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال : أتى أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه بغراب وافر الجناحين ، فقال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ما صيد صيد ولا عضدت ولا قطعت وشيجة إلّا بقلة التسبيح عضاة وأخرج أبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن أبي هريرة وأبو الشيخ عن أبي الدرداء قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما صيد من صيد ولا وشج من وشيج إلا بتضييعه التسبيح (الوشيج شجر الرماح وعرق كل شجرة ، والعضاة الشجر العظيم أو الخمط أو كل ذات شوك أو ما عظم وطال من الأشجار ، وعضده بمعنى قطعه ، والعضد والعضيد الطريقه من النخل جمعه عضدان كغرابان) وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لو لا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم في البيوت ما تضاررتم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى ، والثانية سبحانه وتعالى ، والثالثة(2/504)
ج 2 ، ص : 505
سبحانه وبحمده ، والرابعة سبحانه لا حول ولا قوة إلا به ، والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير ، والسادسة سبحان الملك القدوس ، والسابعة سبحان الذي ملأ السموات السبع والأرضين السبع عزّة ووقارا ، وأمثال هذا كثير لا يحصى عدا ولا يستقصى حدا ، وكلها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قاليّ بلسان العقلاء ، حالىّ بلسان غيرهم ، وهو جائز شرعا لأنه من قبيل خرق العادة ، حتى أن العارفين قالوا إن السالك عند وصوله إلى بعض المقامات المعلومة عندهم يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى ، وقال الشيخ الأكبر قدس سره : إن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت أي خفيت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق ، غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة ، ووقع التفاضل بين الخلائق بالمزاج ، والكل يسبّح اللّه تعالى كما نطقت به هذه الآية ، ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبّحه.
هذا وقد جاء في الحديث أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس.
والشهادة لا تكون إلا بالنطق وهو مختلف كل بحسبه كما علمت ، وإن الشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل ، ونحن زدا مع الإيمان بالأخبار الكشف ، إلى آخر ما قاله.
ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال في دعائه للحمى يا أم ملدم إن كنت آمنت باللّه تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تقدري في الفم وانتقلي إلى من يزعّم أن مع اللّه آلهة أخرى ، فإني أشهد أن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.
وجاء عن السجاد رضي اللّه عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر بأن له شعورا ، واستفاض عن سيدنا عمر رضي اللّه عنه أنه كتب إلى النيل كتابا يخاطبه فيه حينما كتب له عمرو بن العاص بأن أهل مصر جرت عادتهم أن يطرحوا في النيل بنتا يزينونها كالعروس في كل سنة كي يفيض ، وأنه أوقف هذه العادة لورود الجواب منه فكتب له أن يمنعهم من هذه العادة السيئة وأرسل ورقة مكتوب فيها ، أيها النيل إن كنت تفيض بأمر اللّه فافعل ، وإلا فلا حاجة لنا فيك أو فيما معناه هذا وانه منذ طرحها فيه فاض وخلص أهل مصر من تلك العادة القبيحة ببركة كتاب عمر ، وأنه ضرب الأرض بالدرة(2/505)
ج 2 ، ص : 506
حين تزلزلت وقال لها إني أعدل عليك ، فسكنت ، وأن نارا كانت تخرج من ضواحي المدينة فأرسل إليها فلم تخرج ، وأن الريح أوصل كلامه إلى القادسية حتى سمعه عامله ، وهو قوله على المنبر (يا ساربة الجبل) فلما سمع عرف أنه كلام عمر ، فصعد الجبل فرأى العدو من ورائه «فوقفه اللّه تعالى عليه بما يدل على أن اللّه تعالى سخّر له العناصر الأربعة ، فكيف برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ؟ ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 80 من النساء في ج 3 ، وقدمنا بعض ما يتعلق فيه في الآية 15 من سورة النمل المارة ، وذكرنا أن ما من معجزة لنبي إلّا ومثلها لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فقد جمع عامة فضائلهم ، فلا تستكثر أيها القاري على حضرته فهم تسبيح الجماد وغيره ، فهو عظيم عند ربه فرق كل البشر وأحسنه :
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خمير ؟ ؟ ؟ خلق اللّه كلهم
دع ما ادعته النصارى ف ي نبيهم وأحكم بما شئت فيه مدحا فيه واحتكم
قال تعالى «وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ» الناطق بالتسبيح والتنزيه وصرت من غاية استغراقك بمعانيه غائبا عن محافظة نفسك «جَعَلْنا» بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفية «بَيْنَكَ» يا حبيبي «وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» من قومك المشركين منكري البعث المتقدم ذكرهم «حِجاباً مَسْتُوراً» 45 غير مرئي نسترك به بسائق تكفلنا بحفظك وحماينك ، وكمل المؤمنين بفهم رموز هذا القرآن ، أما أعداؤك الكفرة فإنا تحجبهم عن فهمه والانتفاع فيه ، ونمنعهم أن يدركوا ما أنت عليه من الدرجة الرفيعة وجلالة القدر عندنا ، لذلك اجترءوا عليك فقالوا ساحر وكاهن ومتعلم وناقل ، وإنما اعتدوا على منصبك العظيم بذلك لجهلهم بمقامك الكريم ، وحسدا لما أوتيته من الفضل عليهم ، قال سعيد بن جبير لما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلّى اللّه عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره ، فقالت لأبي بكر أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني ، فقال لها أبو بكر واللّه ما ينطق بالشعر ولا يقوله ، ولم يقل لها ها هو معي أو غير ذلك ، وهو جواب على خلاف السؤال مثله في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية 89 من البقرة ومثله كثير في ج 3.
فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ(2/506)
ج 2 ، ص : 507
رأسه ، فقال أبو بكر لرسول اللّه ما رأتك ، قال لم يزل ملك بيني وبينها.
راجع سورة المسد المارة تجد ما هو أوضح من هذا ، واحتج أصحابنا في هذه الآية على أنه يجوز أن تكون الحاسّة سليمة ويكون المرئي حاضرا لا يرى بسبب أن اللّه تعالى يخلق فيها مانعا يمنع من الرؤية ، لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان حاضرا وحاسة هذه المرأة سليمة ولكنها لم تره ، وقد أخبر اللّه تعالى أن عدم الرؤية للحجاب المستور الذي جعله بينه وبينها ، ولا معنى للحجاب المستور إلا الذي يخلقه اللّه في عيون الرائي ما يمنعه من الرؤية وهو حاضر ، وإذا كان اللّه تعالى جعل الحجاب الذي هو حائل غير مرئي ، فكيف بالمحجوب ؟ على أن كثيرا من الأشياء موجودة حسا غير مرثية كحركة الظلّ وفلكة المغزل ، والمروحة عند شدة حركتها ، راجع الآية 95 من سورة الفرقان المارة ، ولكن هذا غير ذلك «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً» أغطية كثيرة جمع كنان بمعنى الغشاء «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يقفوا على كنه معانية ويعرفوا حقيقة مبانيه أي أنا منعناهم عن فهمه «وَ» جعلنا «فِي آذانِهِمْ وَقْراً» ثقلا وصمما عظيما مانعا من سماعه سماعا يليق به لسابق علمنا أنهم لن ينتفعوا به وبمن أنزله ، وذلك لأنهم لا يلقون له بالا ولا يتدبرون المراد منه ، وهذه التمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون المنزل عليه وفرط نبوّ قلوبهم عن فهم القرآن وإيذان بأن ما تضمّنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور ، بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوى يعتري المشاعر فيبطلها ، وتنبيه على أن حالتهم هذه أقبح من حالتهم السابقة ، ولهذا جعل اللّه هذا المانع في عين حمالة الحطب لئلا يجعل أذاها لحضرة الرسول تنفيذا لوعده له بالحفظ من أذى قومه «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ» بأن قلت لا إله إلا اللّه ولم تقرنه بذكر آلهتهم التي يزعمونها ، وكلمة وحده اسم موضوع موضع المصدر أي إذا أقررت
ربك بالذكر «وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» 46 من سماع ذكر انفراد الإله الواحد وهربوا هروبا كراهية ذلك وما قيل ان الضمير في (ولّوا) يعود إلى الشياطين لا يصحّ ، لعدم سبق ذكر لها بل يعود للمشركين السابق ذكرهم ، فجعله يعود إلى غيرهم مخالف لسياق الكلام ، وما جاء عن ابن عباس من الخبر في هذا لا يصح ونظير هذه الآية(2/507)
ج 2 ، ص : 508
الآية 46 من سورة الزّمر في ج 2 ، قال تعالى «نَحْنُ أَعْلَمُ» يا حبيبنا «بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ» من اللغو والاستخفاف والهزؤ بك وبكتابك والتكذيب لك وله «إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» وهذا تأكيد الوعيد بالإخبار بأنه كما يقع الاستماع منهم يتعلق به علم اللّه «وَإِذْ هُمْ نَجْوى » يتسارون بينهم بأن ما يسمعونه منك سحر وكهانة وأساطير الأولين ، وانك ساحر وكاهن أو مجنون أو تعلمته من الغير أو اختلفته من نفسك ثم يتجاهرون به فيقول بعضهم لبعض ما ذكره اللّه يقول «إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ» أقيم المضمر مقام المظهر عنا مع وصفهم بالظلم للدلالة على أن تناجيهم هذا باب عظيم
من أبوابه «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» 47 يا سادة قريش أي إذا كنتم تريدون الاتباع فرضا ما تتبعون إلا رجلا سحر فجنّ وكانوا يعتقدون أن ذلك بتأثير السحر وهو معروف عندهم ، لأن الشرائع السابقة جاءت به ، وقد عرفوه من أهل الكتاب ووجوده حق عند اهل السنّة والجماعة ، وانهم يريدون بأنه صلّى اللّه عليه وسلم سحر فصار مطبوبا مخدوعا يأكل ويشرب مثلكم ، ويريد أن يتفضل عليكم بما يتلوه من ذلك السحر من غير أن يمتاز عليكم بشيء.
روي أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان حين يريد إبلاغ قومه ما أنزل عليه من كلام ربه يقوم عن يمينه رجلان من بني عبد الدار ، وعن يساره رجلان منهم ، فيصفّقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لئلا يفهم الناس ما يقول ، قاتلهم اللّه ، ومن هنا اقتدي بعض نواب الأمة حينما يسمعون خطيبا من معارضيهم فيما لا يرومونه تراهم يصيحون ويضربون بأيديهم على الرحلات ويصفقون ويصفرون أيضا ، فلا حول ولا قوة إلا باللّه تشابهت قلوبهم ، وفي هذه الآية مما يدل على التهديد والوعيد ما لا يخفى ، قال تعالى «انْظُرْ» يا أكمل الرسل «كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» مما وصموك به من السحر وغيره وما شبهوا ما تتلوه عليهم من وحينا بأساطير الأولين وغيرها مع علمهم أنك وكتابك على خلاف ذلك ، «فَضَلُّوا» في هذا التمثيل والتشبيه والوصف عن منهاج المحاجة ، والطريق الأقوم والحقيقة الناصعة لميلهم إلى الضلال والاعوجاج «فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» 48 إلى الحق السوي والطريقة المستقيمة بل يتهافتون إلى أضدادها ، ويسلكون السبل المهلكة ، ويخبطون في أقاويلهم الأباطيل الظاهر كذبها لكل أحد ، وفي هذه(2/508)
ج 2 ، ص : 509
الآية تسلية لحضرة الرسول عما يصمونه به ، ووعيد بسوء العاقبة لزيغهم عن الرشاد «وَ» من عتوهم «قالُوا» لك أيضا يا محمد «أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً» بأن متنا وبلي لحمنا وتفتّت عظامنا فصارت ترابا أو غبارا لأن الرّفات كل شيء مبالغ في ذمّه «أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» كما تقول بعد تفرق أجزائنا «خَلْقاً جَدِيداً» 49 مثل ما نحن عليه الآن ، قالوا هذا على طريق الاستبعاد بالاستفهام الإنكاري وأرادوا به استحالة إحيائهم بعد موتهم ، وفيه تعجيب بعد تعجبهم بذكر الإله الواحد مما يوقع اللوم على أتباعك لأنك بزعمهم كرجل منهم أخرجك السحر عن الطبيعة فصرت وحاشاك تهذو بأن الإله واحد وأن الموتى يحيون بعد البلاء ويحاسبون على ما فعلوه في دنياهم ، لأن هذا بزعمهم لا يكون أبدا ولا يقرّه العقل لأن بين غضاضة الحي وطراوته المفضية للاتصال الموجب للحياة وبين يبوسة الرميم المفضية للتفرق الموجب لعدم الحياة تباينا وتنافيا لا يقبل التأليف ، وهذا إنما يصدر منهم لأنهم ينظرون إلى الأمور الظاهرية ولا يتفكرون بقدرة الذي خلقهم من العدم وأوجد هذا الكون كله من لا شيء ، راجع الآية 7 من سورة سبأ في ج 2 ، «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المنكرين قدرتنا المستبعدين إعادتهم بعد الموت «كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً» 50 وهذا ردّ منه سبحانه عليهم فقابل قولهم : كنا ، يكونوا.
على طريق المشاكلة والمقابلة بالجنس ، وهذا الأمر أمر استهانة بهم على حد قولة تعالى حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) الآية 80 من سورة يونس أي إن ما تلقونه ليس بشيء بالنسبة لقدرة اللّه التي وضعها في عصاه أو أمر تسخير على حد قوله تعالى (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) الآية 66 من البقرة في ج 3 ،
«أَوْ خَلْقاً» آخر وأكبر وأعظم وأشدّ من الحجارة والحديد من كل ما يتخيلونه قويا منيعا بعيدا بمراحل كثيرة عن قبول الحياة وائتوا بكل شيء «مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ» ويستحيل عندكم قبوله للحياة وأبعد شيء عنها مما تعدونه عظيما فعله كبيرا قويا جرمه من كل محال لا تقبله عقولكم ، فإن اللّه تعالى يحييكم لا محالة إذ لا يعجزه شيء لتساوي الأجسام في قبول الاعراض عنده ، فكيف لا يحييكم إذا كنتم عظاما كانت قبل موضوعة بالحياة والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد كالحديد(2/509)
ج 2 ، ص : 510
وغيره ، وقد فوّض اللّه تعالى لهم الشيء الذي يكونون منه مما يستعظمونه كالسماء والأرض والجبال أي مهما تصوروه بأنفسهم على طريق الفرض والتقدير فإن اللّه تعالى قادر على إعادة أرواحهم في أجسادهم التي ماتوا عليها مهما تفرقت وتفتت وتذرت بالهواء فإنه جامعها وباعثكم بعد الموت لا محالة ، «فَسَيَقُولُونَ» لك يا سيد الرسل إذا كنا كما تقول «مَنْ يُعِيدُنا» على حالتنا هذه بعد ذلك مع ما بيننا وبين الإعادة من التفاوت والمباينة «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ» اخترعكم وخلقكم من العدم «أَوَّلَ مَرَّةٍ» على غير مثال سابق ومن أصل تراب ماشم رائحة الحياة فالذي قدر على ذلك قبلا فهو على جمع رميمكم وافاضة الحياة فيه واعادتكم على ما كنتم عليه أقدر : وفي هذه الجملة تحقيق للحق وإزاحة للباطل والاستبعاد وإرشاد إلى طريق الاستدلال لمن كان له عقل يعقل به ، قال تعالى واصفا حالتهم عند سماع ذلك الكلام العظيم بأنهم سيبهتون ويتحيّرون الدال عليه «فَسَيُنْغِضُونَ» يحركون ويهزّون «إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ» إعجابا لقبولك هذا واستعظاما لصدوره منك مع ما يعلمون من عقلك وأناتك ونظرك لمصير كلامك ، ونغض كنصر تحرك واضطرب وحرّك قال الفراء هو تحريك الرأس بارتفاع وانخفاض مما يتعجب منه ويستهزأ به استكبارا وإنكارا قال الشاعر :
أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى خيولا عليها كالأسود ضواريا
وقال الآخر :
أنغض نحوي رأسه واقنعا كأنه يطلب مني شيئا أطمعا
أي أنهم رفعوا رءوسهم وطأطئوها استهزاء «وَيَقُولُونَ» لك أولئك المتعجبون الساخرون المنكرون «مَتى هُوَ» هذا الوعيد الذي تذكره الذي فيه إعادة الأجسام والحساب والتهديد الذي تخوفنا به بالعقاب على ما نفعله في هذه الدنيا أقريب أم بعيد فإذا فاجؤوك بهذا الكلام يا سيد الأنام «قُلِ» لهم «عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» 51 ما تسألون عنه وتستبعدونه وتنكرونه لأنه محقق مجيئه ، وإنما لم يعين لهم زمانه لأنه من المغيبات التي اختص بها نفسه جل جلاله ، ولم يطلع عليها أحد ، (2/510)
ج 2 ، ص : 511
وكلمة عسى هنا للترجي والتوقع ومسوقة إلى ما هو محقق الوقوع ، وما قيل إنها للمقاربة ينافيه قوله تعالى بعدها (قريبا) لأنها لو كانت للمقاربة لما جيء بها بعدها لعدم الفائدة.
مطلب الخروج من القبور واستقلال المدد الثلاث :
قال تعالى «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ» أيها الناس وهذا الظرف منصوب بفعل مضمر تقديره اذكروا يوم يناديكم بالنفخة الأخيرة إسرافيل عليه السلام ببوقه بأمر ربه من قبوركم «فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» كما أجبتم حين دعاكم للنفخة الأولى للموت فمتم جميعكم بنفخته أي مات كل من حضرها عدا ما استثنى اللّه كما سيأتي في الآية 67 من سورة الزمر في ج 2 بصورة أوضح ، فكما أنه لم يتخلف أحد منكم بالنفخة الأولى عن الموت لم يتخلف أحد منكم عن الحياة بالنفخة الثانية ، وكما دعاكم من العدم في عالم الذر وأخذ عليكم العهد بالطاعة والانقياد للرسل ، كذلك دعاكم للقيام من قبوركم.
واعلموا أن قولكم حين اجابتكم لهذه الدعوة الأخيرة سبحانك اللهم وبحمدك جئناك تائبين منيبين لا ينفعكم ، لأنه في غير محلّه وإلا لقالها كل كافر مثلكم راجع الآية 17 من النساء في ج 3 ، «وَتَظُنُّونَ» بعد قيامكم من برزخكم ومجيئكم مهرولين وراء الداعي إلى المحشر «إِنْ لَبِثْتُمْ» ما مكثتم في الدنيا وفي البرزخ القبر وما بين النفختين «إِلَّا» لبثا «قَلِيلًا» 52 زمانا طفيفا يقولون هذا استحقارا لتلك المدد الثلاث ، لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر وبين النفختين ألوفا من السنين عدّ ذلك قليلا بنسبة مدة يوم القيامة ، فضلا عن مدة الخلود في الآخرة التي لا نهاية لها ، والمقصود من هذه الدعوة إحضار الخلائق للحساب والجزاء ، لأن دعوة السيد.
لعبده إما لاستخدامه أو التفحص عن أمره ، والأول منتف في الآخرة إذ لا تكليف فيها فتعين الثاني ، قال تعالى (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) الآية 40 من سورة ق المارة ، قيل إن جبريل عليه السلام يقف على صخرة بيت المقدس فينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرّقة عودي كما كنت ، فتعود حالا.
أخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال : (2/511)
ج 2 ، ص : 512
قال صلّى اللّه عليه وسلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم.
وهذه الدعوة تكون بالأمر التكويني ، وهو ما يوحيه إلى المعدوم ، فهو نداء على الحقيقة لا على المجاز على ما قيل إنه يمتنع حمل هذا النداء على الحقيقة ، لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد ، والأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك النداء كناية عن البعث والانبعاث حقيقة لا مجازا ، والمجوز لإرادتها ما ذكرنا من أن هذه الدعوة بالأمر التكويني.
وقيل إن خطاب الكافرين انقطع عند قوله تعالى قريبا.
والخطاب بقوله تعالى (يوم يدعوكم) للمؤمنين أي فتجيبون أيها المؤمنون حامدين له سبحانه على إحسانه إليكم وتوفيقه إياكم للإيمان بالبعث ، وهو وجيه لكن جعل الخطاب للعموم أولى وأنسب للمقام ، إذ لا مخصص ولا دال على التقييد ، وعلى كل إن شاء اللّه يجيب المؤمنون المنادي بما ذكر اللّه.
أخرج الترمذي والطبراني عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليس على أهل لا إله إلا اللّه وحشة في قبورهم ولا في نشورهم ، وكأني بأهل لا إله إلا اللّه ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 34 من سورة فاطر المارة ، وفي رواية عن أنس مرفوعا : ليس على أهل لا إله إلا اللّه وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر ، وكأني بأهل لا إله إلا اللّه قد خرجوا من قبورهم ينفضون رءوسهم من التراب يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ).
راجع تفسير هذه الآية ، ومما يدل على أن الخطاب للفريقين المؤمنين والكافرين كما جرينا عليه في تفسير هذه الآية ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن جبير أنه قال : يخرجون من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك ولا بعد في صدور ذلك من الكافرين يوم القيامة وإن لم ينفعهم كما نوهنا به آنفا ، وهذا التفسير أولى بالنسبة لسياق الآية وسياق الكلام ، هذا وإن قوله تعالى «وَقُلْ لِعِبادِي» خاص بالمؤمنين بدليل الإضافة التشريفية الدالة على التخصيص ، بخلاف الآية الأولى لمجيئها بلفظ عام ، وعلى القول بأن هذا الخطاب الأخير يشمل الكافرين أيضا فيكون خطابهم بلفظ عبادي لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قول الحق ، والأولى أولى لوجود الصارف وهو الإضافة له ، وعليه يكون المعنى قل يا أكرم الرسل لأصحابك المؤمنين «يَقُولُوا»(2/512)
ج 2 ، ص : 513
عند محاورتهم مع المشركين الكلم والجمل والعبارة «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» من البذاء في المخاطبات والفحش في المحاولات ، ولا تخاشنوهم بالكلام ليظهر فضلكم عليهم ويمجدكم من يحضر مناظرتكم «إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ» يفسد ويهيّج الشرّ بما يوقعه من الوسوسة والخنس «بَيْنَهُمْ» أي الفريقين ويريد أن يقول المؤمنون للكافرين القولة التي هي أشر ، مما يؤدي إلى تأكيد العناد وتمادي الفتنة واشتداد العداء «إِنَّ الشَّيْطانَ» الذي دأبه إلقاء الفتن وديدنه إيقاع الفساد وعادته تحريك الشرّ «كانَ» قديما ولم يزل «لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً» 53 مظهرا العداوة ، نزلت هذه الآية حين شكى المسلمون إيذاء الكافرين فأوحى اللّه إلى رسوله أن يأمر المؤمنين بعدم مكافأتهم على سفههم ، وأن يقولوا لهم ما هو الخير.
وقيل نزلت في عمر بن الخطاب حين أمر بالعفو عمن شتمه ، وسياق اللفظ يأباه ، والآية عامة في جميع المؤمنين بأن يفعلوا الخلّة الحسنة من قول أو عمل بعضهم مع بعض ومع غيرهم ، ولا تأخذهم وساوس الشيطان ودسائسه فيما يقع بينهم ، ممّا يؤدي إلى الخصومة ، وأن يتذكروا عداوته القديمة فيرفضوا نزغاته.
ومما يدل على كونها للعموم قوله تعالى «رَبُّكُمْ» أيها الناس «أَعْلَمُ بِكُمْ» وبما يؤول إليه أمركم مما أنتم صائرون إليه بحسب علمه الازلي «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ» فيوفقكم للنجاة من الكفار وأذاهم كما وفقكم للإيمان «أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» بتسليطهم عليكم ، وعلى القول بأن الآية في الكفار يكون المعنى بأن يميتكم على الشرك ، واعلم أن هذه الجمل الثلاث كالتفسير لقوله تعالى (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والجملتان قبلها (إن الشيطان.
إن الشيطان) كالاعتراض بينهما ، فكأنه قيل يا أيها المؤمنون قولوا للمشركين الذين يؤذونكم بالكلام هذه الجمل الثلاث ، لان أمرهم معلق على المشيئة ، ولا تصارحوهم فتقولوا لهم إنكم من أهل النار مثلا ، فإنه مما يهبجهم على الشرّ ، لأن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا اللّه ، ولا يبعد أن يهديهم فيكونوا من أهل الجنة (وأو) هنا للإباحة كقولك جالس العلماء أو الحكماء لإمكان مجالستهما معا فإنها محتملة وجائزة ، وقد تكون للتخيير فيما لا يمكن الاجتماع كقولك تزوج هندا أو أختها ، ودخلت لسعة الأمرين عند اللّه تعالى.
ثم التفت جل شأنه إلى رسوله فقال(2/513)
ج 2 ، ص : 514
«وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» 54 لهم حافظا أحوالهم أو كفيلا بما يلزمهم ، ولم نجعلك مسيطرا عليهم مأمورا بقسرهم ، فما عليك الآن إلا الاشتغال بالدعوة إلى الحق فقط ، فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وعلى القول الثاني لا تشدد القول عليهم ، ولا تغلظ لهم ، ولا تجبرهم على الإيمان وتقسرهم لاتباعك وامتثال أوامرك ، لأنا أرسلناك بشيرا ونذيرا ، فدارهم ومر أصحابك
بمجاملتهم ، وتحمل أنت وأصحابك أذاهم ، واتركوا المشاغبة معهم وأظهروا لهم اللين والرفق علّه يؤثر في قلوبهم ، وذلك لأن أحكام اللّه تدريجية حتى إذا ظهر لنبيه إيمان من آمن وإصرار من أصر على كفره كما في سابق علمه أمره بقتاله ، ولهذا فلا محل للقول لأن هذه الآية منسوخة بآية السيف ، لأن اللّه تعالى جعل للإرشاد والنصح أناسا وللسيف والقتل آخرين ، قال تعالى «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما هم عليه من أحوال ظاهرة وباطنة ؟ ؟ ؟ كلا لما يستأهله ، فيختار للنبوة والولاية من تراه حكمته أهلا لها ، وهذا ردّ على القائلين بعد أن يكون يتيم بن أبي طالب نبيا والعراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابا إليه ، دون الأكابر من قريش والصناديد منهم فلا نقبل دعوته ولا نؤمن به ، وذكر جل ذكره من في السموات ، لإبطال قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) الآية 21 من الفرقان المارّة ، وذكر من في الأرض رد لقولهم لو لا أكابر قريش وصناديدهم معه «وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ» بالفضائل النفسانية والمزايا المقدسة ، وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع ، فأعطينا إبراهيم الخلة وشرفنا موسى بالتكليم وداود بالفضل وسليمان بالملك وخصصنا كل نبي بخاصة لم نعطها غيره ، فخلقنا عيسى من روحنا واتخذنا محمدا حبيبا «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» 55 فضلناه به لا بالملك والسلطنة وفيه إيذان بأن نبينا خاتم النبيين وأمته خير الأمم إذ أن الزبور تضمن ذلك ، وقد أخبر اللّه عز وجل عن ذلك بقولة (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الآية 106 من سورة الأنبياء ، يعني محمد وأصحابه وأمته من بعدهم ، وهذا من باب التلميح راجع هذه الآية في ج 2 تجد أن ما جاء في الزبور موافق لما جاء في القرآن ،
وسنبحث ما يتعلق فيها هناك(2/514)
ج 2 ، ص : 515
إن شاء اللّه ، والزبور كله حكم وأدعية وأمثال لا حكم فيه ، وكان عليه السلام يرجع في أحكامه إلى التوراة ، وهو كما قيل مائة وخمسون سورة ، وسيدنا داود عليه السلام أول نبي جمع بين الملك والنبوة في بني إسرائيل كما تقدم في الآية 15 من سورة النمل المارة ، ففضله اللّه تعالى بالتوراة والزبور والملك وما منحه في الآيات 10 فما بعدها من سورة سبأ في ج 2 ، ولم تجمع لمن قبله ولم تكن لنبيّ بعده ، وفي هذه الآية تكذيب لليهود والقائلين لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ونظير هذه الآية الآية 153 من سورة البقرة في ج 3 ، هذا وكما هو ثابت ارتفاع بعض النبيين على بعض وعلو درجاتهم ومن تبعهم فمن يليهم ثابت أيضا اتضاع دركات الكافرين فمن دونهم من العصاة لانهما مظاهر صفتي اللطف والقهر هذا ولما أصاب أهل مكة القحط وأكلوا الجيف والكلاب جاءوا فاستغاثوا بحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه عليه «قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة «ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم آلهة «مِنْ دُونِهِ» أي الإله الواحد ليكشفوا ما حل بكم من الجدب وأتى لهم ذلك «فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ» لانهم عاجزون مثلكم عن كشف ضر أنفسهم فكيف يستطيعون إزالة ضركم كلا «وَلا» يستطيعون «تَحْوِيلًا» 56 لحالكم من العسر إلى اليسر ، ومن الشر إلى الخير ، ومن المرض إلى الصحة ، ومن الفقر إلى الغنى ، ومن العذاب إلى النعيم ، وهذه الآية المدنية قال تعالى «أُولئِكَ» إشارة إلى ما يسمونه آلهة ويرجونه لكشف ضرهم ويستعينون بهم لزيادة خيرهم «الَّذِينَ يَدْعُونَ» صيغة لإسم الإشارة الواقع مبتدأ من حيث الإعراب وخبره «يَبْتَغُونَ» بتلك الآلهة التي يعبدونها الكفرة «إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» يسألون ربهم ومالك أمرهم القربة بالطاعة والعبادة وهذا دليل قاطع على أن الذين
يعبدون غير اللّه يعرفون بأن ما يعبدونهم محتاجون إلى اللّه وأن قدرتهم المزعومة مفاضة منه تعالى لانهم لا ينكرون أنها مخلوقة للّه وأن اللّه تعالى أقوى وأكمل منها مما يدل على بطلانها قال تعالى (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ) الآية 3 من سورة الزمر وقال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية 87 من الزخرف في ج 2 ، ومثلها كثير في القرآن وهذا كاف على افحامهم وعجز(2/515)
ج 2 ، ص : 516
آلهتهم وعلى اعترافهم بأنها مخلوقة للّه.
واعلم أنه إذا صرف معنى الآية لكفار قريش فيراد
بالذين يزعمون من دونه الملائكة والأوثان فقط وإذا صرف معناها للعموم يدخل فيها عزير وعيسى والكواكب والنار والحيوان من كل ما عبد من دون اللّه ولهذا قالوا إن ضمير يدعو وضمير يبتغون عائدان للمشار إليهم وهم الأنبياء الذين عبدوا من دون اللّه كعيسى وعزير والملائكة ويدخل ضمنهم الشمس والقمر والنجوم والنار والحيوان والتماثيل وغيرها من كل ما يطلق عليه اسم الوثن وما اتخذوه تقربا للعبادة بأن كل أولئك ليست بأهل للعبادة مباشرة وتبعا وأن زعمهم ذلك فيها باطل وفي الآية تغليب العاقل على غيره لأن الجمع في يدعون ويبتغون من خصائص العقلاء لا الجمادات «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» أيهم هنا بدل من ويبتغون وهي موصولة بمعنى من أي أولئك المعبودون يطلبون من هو لحصرة ربه أقرب من غيره الوسيلة إلى اللّه فيتوسون به لقضاء مصالحهم أو أيّهم الذكر هو أقرب يبتغي الوسيلة إلى اللّه بطاعته ، فكيف بالأبعد فهو بحاجة إلى ذلك من باب أولى.
وأيّ مبتدأ مبني على الضم في محل رفع مضاف للضمير ، والميم علامة الجمع ، وأقرب خبر ، والعائد محذوف تقديره هو ، وبعضهم جعلها معربة وفيها معنى الاستفهام أي أيهم هو أقرب بالتقوى والصلاح والرضى وازدياد الخير.
وأعلم أن يدعون تأتي بمعنى يعبدون كما مر في الآية 49 من سورة مريم المارّة ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 35 من المائدة وفي الآية 13 من سورة التوبة في ج 3 ، وهناك بحث يتعلق بالسّادة الصوفية بشأن الرابطة التي يتخذونها في بدء أورادهم «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ» تعالى وخيره وإحسانه وهذا عطف على يبتغون والرجاء بمعنى التوقع «وَيَخافُونَ عَذابَهُ» كغيرهم من العباد بل أعظم وجلا منهم ، لأن العبد كلما رسخ قدمه في العبادة وتقرب إلى المعبود ازداد خوفه بسبب ازدياد معرفته به ، وقدم الرجاء على الخوف ، لأن متعلقه أسبق من متعلقه.
مطلب الخوف والرّجاء وأنواع العبادة :
جاء في الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي.
لهذا فإن العلماء قالوا ينبغي للمؤمن أن يغلّب الخوف على الرجاء ما لم يحضره الموت ، فإذا حضره غلّب الرّجاء على(2/516)
ج 2 ، ص : 517
الخوف ، وفي الآية دليل على أن رجاء الرّحمة وخوف العذاب مما لا يخلّ بكمال العابد ، وقد شاع عن بعض العابدين أنه قال لست أعبد اللّه تعالى رجاء جنّته ولا خوفا من ناره.
والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح ، والحق التفصيل ، وهو أن من قال هذا إظهارا للاستغناء عن فضل اللّه ورحمته فهو مخطئ كافر ، ومن قاله اعتقادا بأن اللّه تعالى أهل للعبادة لذاته بحيث لو لم يكن هناك جنّة ولا نار لكان أهلا لأن يعبد فهو محقق عارف كامل.
والعبادات ثلاث عبادة للرياء والسمعة فهي مخادعة داخل أهلها في قوله تعالى (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية 9 من سورة البقرة ج 3 ، وعبادة للخوف والرجاء فهي مسقطة للفرض وبالدرجة الثانية الوسطى ، فإذا لم يقصد منها الاستغناء فهي داخلة في معنى الآية المفسرة وإلا فهي الوسطى في نار جهنم ، وعبادة خلاصة للّه تعالى بقصد الاستحقاق لذاته وصرف النظر عن الخوف والرجاء فهي العبادة الحقيقية الموصلة إلى اللّه عز وجل الموصوف أهلها بقوله تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية 190 من آل عمران في ج 3 ، وفي اتحاد أسلوب الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين الوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وحذرهم منه «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» 57 يخافه كل أحد من ملك ومملوك ومن ملك وولي مقرب أو نبي مرسل ، فضلا عن بقية الخلائق ، وجدير بأن يحذره ويحترز منه كل أحد ، وهذه الجملة تعليل لقوله تعالى ويخافون إلخ ، وفي تخصيصها بالتعليل زيادة تحذير الكفرة من العذاب.
انتهت الآية المدنية.
قال تعالى «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ» من القرى والتنوين هنا يفيد التعميم ، لأن إذ نافية بمعنى ما ، ومن صلة مؤكدة لاستغراق النفي ، فتفيد العموم أيضا «إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها» بإبادة أهلها وتخريبها بعدهم أو هدمها عليهم أو قلبها بهم أو بسبب آخر ، ويكون هذا «قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ» عند النفخة الأولى قال تعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) الآيات من سورة الحاقة في ج 2 لأن القيامة لا تقوم إلا بعد إتلاف هذا الكون بما فيه «أَوْ مُعَذِّبُوها» أي أهلها بالقتل وأنواع البلاء «عَذاباً شَدِيداً» لا تقواه قوى أهلها ولا يقدرون على رفعه عنهم(2/517)
ج 2 ، ص : 518
«كانَ ذلِكَ» الإهلاك والتعذيب «فِي الْكِتابِ» الأزلي المدون فيه ما كان وما يكون من بدء الخليقة إلى يوم القيامة وما بعدها من أقوال أهل الجنة والنار وخلودهما «مَسْطُوراً» 58 في اللوح المحفوظ مثبتا ، وهو واقع لا محيد عنه لأحد إذ لا شيء في الكون إلا وهو مدون فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له ومكانه الواقع فيه ، قال تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 39 من الأنعام في ج 2.
أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : أول ما خلق اللّه تعالى القلم ، فقال له أكتب فقال ما أكتب ؟ قال أكتب القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد.
وقال عبد اللّه بن مسعود إذا ظهر الزنى والرّبى في قرية أذن اللّه تعالى في إهلاكها.
قال مقاتل الهلاك للفرقة الصالحة والعذاب للطالحة.
قال تعالى «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ» التي اقترحها عليك قومك «إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ» من قبلهم من الأمم السالفة التي اقترحت على أنبيائها مثل ما اقترحوه عليك قال ابن عباس سأل أهل مكة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا مكانها فأوحى اللّه إليه إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أوتيهم ما سألوا فعلت فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لا بل تستأني بهم ، فأنزل اللّه هذه الآية «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ» التي اقترحوها على نبيهم صالح عليه السلام بأن يخرجها لهم من حجر معين راجع قصتها في الآية 79 من سورة الأعراف المارة وهي آية عظيمة كانت أعينهم «مُبْصِرَةً» لها ظاهرة بينة «فَظَلَمُوا» أنفسهم «بِهَا» بقتلها وجحودها ، وإنما خص ثمود بالذكر لأنهم عرب مثل قوم محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ولأن الصادر من قريش والوارد منهم يرى آثار ديارهم خاوية خالية لقربها منها ، وإنهم لم يؤمنوا بعد إظهارها على يد رسولهم فأهلكهم ، إذ جرت عادة اللّه واقتضت حكمته أن كل قوم اقترحوا على رسولهم معجزة فأوتوها ولم يؤمنوا أهلكهم عن آخرهم ، وفي هذه الآية الإيجاز بالحذف والإضمار ، لأن المعنى وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها ، وقيل إن مبصرة وصف للناقة ، وإنما وصفها بالإبصار لأنها خلقت من الصخرة معجزة لنبيهم دفعا لما(2/518)
ج 2 ، ص : 519
يتوهم بأنها من المصورات ، لأن فن التصوير لم يبلغ أن يكون للمصور أعينا يبصر بها كسائر الحيوانات ، لأن البشر عاجز عن ذلك ، أما اللون والشكل والحركة حتى النطق المحدود الذي يولجوه بها فقط فإنهم توصلوا لعمل ذلك بواسطة الآلات المحدثة ، ولكن الإبصار لم يتوصلوا إليه ولن يتوصلوا لمعرفة مادته إلى الآن ، ولم يقفوا على تراكيبها ، فبقيت القوة الباصرة بالأعين مخزونة بأمر اللّه لم يطلع عليها أحد البتة ، وما ندري ما يقع بعد :
وما تدري إذا ما الليل ولىّ بأي عجيبة يلد النهار
قال تعالى «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ» المقترحة ونظهرها للأمم «إِلَّا تَخْوِيفاً» 59 من نزول العذاب عليهم ، ولذلك لم نجب اقتراح قومك بإرسال الآيات التي اقترحوها لأنا نعلم أن مصير المقترحين الهلاك وهو خلاف ما تريده أنت.
أخرج بن جوير عن قتادة قال إن اللّه تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبرون أو يذكرون فيرجعون عن غيهم.
مطلب الآيات على ثلاثة أنواع وبيان الخمرة الملعونة :
وليعلم أن آيات اللّه تعالى على ثلاثة أقسام ، قسم عام في كل شيء :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وهنا فكرة العلماء وقسم معتاد كالبرق والرعد والخسوف والزلازل وفيها فكرة الجهلاء ، وقسم خارق للعادة وهو نوعان نوع مقرون بالتحدّي وقد انقضى بانقضاء النبوة ، وقسم غير مقرون به وهو الكرامة التي يظهرها اللّه تعالى على يد من شاء من عباده العارفين العاملين ، وهناك فكرة الأولياء ، والمعنى أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا بتأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها ، قال تعالى «إِذْ قُلْنا لَكَ» يا أكرم الرسل «إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» فلا يستطيع أحد الخروج عن مشيئته ولا يفعل شيئا دون إرادته وإن كل ما يقع في هذا الكون بقضائه وقدره ، وإذ هنا منصوبة بفعل مقدّر أي اذكر يا محمد لقومك ما أوحيناه إليك من ذلك وأعلمناك أن الخلق كلهم في قبضتنا وإرادتهم من إرادتنا ، فلا تبال بما تراه من كفرهم ، وامض لأمرك وبلّغ ما أرسلت به ولا تخشهم ، فاللّه حافظك ومانعك(2/519)
ج 2 ، ص : 520
منهم ومقويك وناصرك عليهم «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ» ليلة الإسراء والمعراج من عجائب الآيات وبدائع المعجزات «إِلَّا فِتْنَةً» اختبارا وامتحانا «لِلنَّاسِ» إذ ارتد بعض المؤمنين عند سماعها ، وأجمع كفرة قريش على جحودها فكذبها أناس وتعجب آخرون ، وصدق بها المؤمن الموقن وازداد المخلص إيمانا والكافر كفرا ، فكانت فتنة للفريقين ، واختلف المسلمون في المعراج أيضا على أقوال بسطناها آنفا في الآية الأولى من هذه السورة ، وفي المعجزة الثالثة والثلاثين المارة وما بعدها ، فراجعها إن شئت.
أخرج الترمذي والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن الرؤيا هي ما عاينه حضرة الرسول ليلة أسري به من العجائب الأرضية والسماوية رؤية عين ، وهي على اللغة الفصحى ، إذ تقول العرب رأيت بعيني رؤية ورؤيا ، وهذا هو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريح وغيرهم ، وإنما عبر بالرؤيا دون الرؤية لمشاكلة تسميتهم لها رؤيا ، أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة ، فقد روي أن بعضهم قال له صلّى اللّه عليه وسلم لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك يا رسول اللّه ، أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب ، ولوقوعها ليلا ، أو لسرعتها ، أي وما جعلنا الرؤيا التي أرينا كها عيانا مع كونها آية عظيمة وأيّة آية ، وقد ذكرتها لقومك وأقمت البرهان على صحتها بما اختبرك به قومك عن عيرهم ، كما ذكر في المعجزة الثامنة والستين فما بعدها المارة إلا فتنة افتتن بها الناس من تكذيب وتصديق وتهويل وإعجاب «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها شجرة الزقوم.
وروي عنه أيضا أن المراد بها لعن طاعميها من الكفرة ، ووصفها باللعن من المجاز في الإسناد ، وفيه من المبالغة ما فيه.
وقد يراد لعنها نفسها بالمعنى اللغوي وهو البعد ، لأنها في أبعد مكان من جهنم ، قال تعالى (تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) بعد أن قال (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) الآيتين 63 و64 من سورة الصافات في ج 2 ، أي في أبعد مكان من رحمة اللّه تعالى ، وقد لعنت إذ لعن آكلوها ، وإلا فلا ذنب لها حتى تلعن ، ولكن المصاحبة لها دخل :
ما ضرّ بالشمع إلا صحبة الفتل.
ولهذا قيل الصاحب ساحب : (2/520)
ج 2 ، ص : 521
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وأخرج بن المنذر عن الحبر أنها وصفت بالملعونة لتشبيه طلعها برءوس الشياطين كما جاء في الآيتين 64 و65 من الصافات أيضا ، والشياطين ملعونون ، والعرب تقول لكل طعام مكروه ملعون ، والآية معطوفة على قوله تعالى الرؤيا ، أي وما جعلنا هذه الشجرة إلا فتنة للناس أيضا ، وإنما كانت فتنة لأن أبا جهل وغيره من متعنتي قريش قالوا إن محمدا يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يقول ينبت فيها الشجر على طريق السّخرية والاستهزاء ، ويقول ابن أبي كبشة هي الزقوم ، وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ثم أمر جاريته فقال هيّا ، فأحضرت له تمرا وزبدا ، وقال لأصحابه تزقموا ، وكذلك قال ابن الزبعرى الآتي ذكره في الآية 97 من الأنبياء في ج 2 ، وافتتن بهذه المقالة بعض الضعفاء وضلوا في ذلك ضلالا بعيدا ، إذ كابروا في قضية أبتها عقولهم القاصرة ، وما قدروا اللّه حق قدره ، ألا يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة فلا تضرها ، والسندل يفرخ في النار ويعمل من وبره مناديل إذا توسخت ألقيت في النار فيذهب وسخها ولا تحترق ، والدود يعيش في الثلج ، والنار من الشجر الأخضر كما قدمنا توضيحه في الآية 80 من سورة يس المارة ، فالقادر على تلك الأشياء ألا يقدر على خلق شجرة في النار لا تحترق ، وما هي إلا كالسمك في الماء والطير في الهواء راجع الآية 19 من سورة الملك في ج 2 ، بلى وهو على كل شيء قدير.
وجاء عن ابن عباس أنها الكثوث المذكورة في قوله تعالى (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) الآية 24 من سورة ابراهيم في ج 2 المشبّه بها كلمة الكفر ، وقد لعنها في القرآن وخصّها بالخبث ، وإن الامتنان بها على هذا هو أنهم قالوا عند سماع الآية ما بال الحشائش تذكر في القرآن ، كما اعترضوا على ذكر البعوضة فيه ، راجع الآية 25 من سورة البقرة في ج 3 ، والمعول في هذا على القول الأول بالنسبة للمروي عنه «وَنُخَوِّفُهُمْ» بتلك الآيات ونظائرها وجاء هذا الفعل بلفظ الاستقبال دلالة على الاستمرار التجددي وقرىء بالياء «فَما يَزِيدُهُمْ» تخويفنا هذا بالإهلاك في الدنيا والتعذيب بالنار في الآخرة «إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» 60 عظيما بسائق تمردهم وعنادهم ، فإنهم كلما جاءتهم(2/521)
ج 2 ، ص : 522
آية تجاوزوا الحد بالإنكار والتكذيب ، ولذلك فإنا لو أرسلنا إليهم ما اقترحوه على يد رسولهم لفعلوا به ما فعله من قبلهم أمثاله بأمثاله ولفعلنا بهم أيضا ما فعلناه بأمثالهم من عذاب الاستئصال ، ولكن سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العظمى إلى الطامّة الكبرى واعلم أن هذا الكلام مسوق لتسلية حضرة الرسول عما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخافتها للحكمة من نوع حزن وكآبة من طعن الكفرة ، إذ كانوا يجابهونه بقولهم لو كنت نبيا أو رسولا حقا لأتيت بما نطلبه منك من المعجزات كالأنبياء قبلك ، إذ جاءوا أقوامهم بما طلبوه منهم ، ولكنك لست برسول ، ولهذا لم تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك ، وهذا أصح ما جاء في تفسير هذه الآية وسبب نزولها ، وما قيل أن المراد بالإحاطة هنا الإهلاك على حد قوله تعالى (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) الآية 42 من سورة الكهف في ج 2 ، وأنه هو الواقع يوم بدر ، وأن التعبير بالماضي جاء على حد قوله تعالى (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) الآية 43 من سورة القمر المارة ، وقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) الآية 13 من آل عمران ج 3 وغيرهما من الآيات لتحقق الوقوع ، وأن المراد بالرؤيا هو ما رواه صلّى اللّه عليه وسلم في المنام من مواقع مصارع القتلى من قريش ، لما صح أنه صلّى اللّه عليه وسلم لمّا ورد ماء بدر كان يقول واللّه لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض هاهنا هاهنا ويقول : هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، وإن قريشا سمعت بما أوحى اللّه إلى نبيهم بشأن بدر وما أري في منامه ، فكانوا يضحكون ويسخرون ، وهذا هو معنى الفتنة المرادة في هذه الآية ، راجع الآية 78 من الأنفال في ج 3 ، وسمعت أيضا بما رواه مناما أنه سيدخل مكة وأنه أخبر أصحابه فتوجه إليها ، وصده المشركون عام الحديبية حتى قال عمر :
يا أبا بكر أما أخبرنا رسول اللّه أنا ندخل البيت ونطوف فيه ؟ فقال إنه لم يقل في هذه السنة ، وقد صدق اللّه ودخلوها في القابلة ، فكل هذا لا يكاد يصح شيء مه ، لأن هذه كلها وقعت ورسول اللّه في المدينة ، وهذه الآية مكيّة إجماعا وهو مخالف لظاهر الآية المفسرة لذلك فلا يعول عليه ، وأن الاعتذار عن كون هذا مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بالإهلاك وبالرؤيا واقعا في مكة ، وذكر الرؤيا(2/522)
ج 2 ، ص : 523
وتعين مصارع القوم واقعين في المدينة ، لا وجه له أيضا إذ يلزم منه أن يكون الافتتان واقعا بالمدينة أيضا ، وأن ازديادهم طغيانا متوقع عند نزول الآية لا واقع وهو خلاف الواقع وبعيد عن المعنى ، ومباين لسياق الآية ، ومناف لسياق التنزيل ، وكذلك ما أخرجه ابن جرير عن سهيل بن سعد قال رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة والسلام وأنزل اللّه هذه الآية المفسرة ، وما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عباس عن سعيد بن المسيب قال : رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك ، فأوحي اللّه تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرّت عينه ، وذلك قوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) إلخ وما أخرجه ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم عليه الصلاة والسلام لذلك ، فأنزل اللّه هذه الآية المفسرة وما أخرج عن ابن عمران أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : أريت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة ، وأنزل اللّه تعالى ذلك أي الآية المفسرة والشجرة الملعونة (الحكم وولده) وقال بعض المفسرين هي بنو أمية ، وما أخرج بن مردويه عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن ، وعليه يكون الكلام على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا مجازا عن تعبيرها ، ويكون معنى الإحاطة في هذه الآية إحاطة أقداره تعالى بهم ، ومعنى الفتنة جعل ذلك بلاء لهم ، ولعنهم بما صدر منهم ومن خلفائهم من استباحة الدماء المعصومة والفروع المحصنة ومنع الحقوق وأخذ الأموال بغير حق وتبديل الأحكام والحكم
بغير ما أنزل اللّه إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام لأنهم فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وإن لعنهم هذا إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما تقول أهل السنة والجماعة ، فقد قال سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الآية 13 من سورة الأحزاب في ج 3 ، وقال عز وجل (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ(2/523)
ج 2 ، ص : 524
أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ)
الآيات 22 فما بعدها من سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلم في ج 3 ، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أولياء إلا أنه لا يجوز عند أهل السنة والجماعة أن يلعن واحد بخصوصه إذ صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بعينه ما لم يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس بكافر ، وأما ما جاء بحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح.
الذي احتج به السراج البلقيني على جواز لعن العاصي بعينه فقد قال ابنه الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقولوا لعن اللّه تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها ، على أنه استدل على ما يقوله بخبر مسلم أنه صلّى اللّه عليه وسلم مرّ بحمار وسم بوجهه ، فقال لعن اللّه تعالى من فعل هذا ، لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معيّن على أنه لا مانع من تأويله أيضا بأن يراد فاعل الجنس ذلك الوسم ، والمغضبة لزوجها على العموم ، راجع ما بيناه في الآية 42 من سورة القصص المارة ، وعليه فلا دلالة صريحة لا تقبل التأويل في هذين الحديثين لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أو التأويل أفقده قوة
الاحتجاج في الاستدلال ، وهذه قاعدة أصولية لا طعن فيها.
نعم صح أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال اللهم العن رعلا.
وذكوان وعصيه عصوا اللّه ورسوله ، وهذا فيه لعن أقوام بأعينهم ، إلا أنه يجوز أنه صلّى اللّه عليه وسلم علم بإلهام اللّه إياه ، موتهم على الكفر فلعنهم ، وهذا جائز كما تقدم ، وإذا كان كذلك فلا حجة فيه للسبب المذكور أيضا ، ولأنه بأقوام لا لشخص بعينه ، ولا يخفى أن تفسير الآية لا ينطبق على ما ذكر ولا يلاثم المعنى المسوقة له الآية ، ولم يكن شيء من ذلك كله زمن نزولها ، وان بين نزولها وبين هذه الحوادث سنين كثيرة أما الأحاديث الواردة المذكورة آنفا في بني أمية وبني الحكم فيحتمل أنها صحيحة لكن لا علاقة لها في الآية المفسرة المتعلقة بالإسراء خاصة ، وتلك بحوادث أخرى ولا مانع من أنه صلّى اللّه عليه وسلم رأى ما قاله فيهم رؤيا منامية أو بطريق الكشف ، لكن غير هذه الرؤيا المقصودة هنا في هذه السورة ، وكذلك لا يتجه قول من قال إن الشجرة الملعونة أبو جهل والفتنة وجوده بلاء على المسلمين ، لأنه أيضا خلاف الظاهر(2/524)
ج 2 ، ص : 525
ولا يوجد ما يدلّ عليه ، وكذلك قول من قال إن الشجرة مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على حضرة الرسول ، فلما بعث كذبوه وجاء لعنهم في القرآن صريحا ظاهرا ، وإن فتنتهم هي أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه السلام فلما بعث كفروا به قائلين إنه غير النبي المنتظر ، فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم هذه عن الإيمان به السبب نفسه ، ووجود لعنهم في القرآن وكونهم فتنة على الإسلام أمر واقع لا شك فيه ولا ريب ، ولكن هذه الآيات لا تمسهم ، ولا يخفى أن اليهود بالمدينة والآية نزلت بمكة قبل أن يكون لحضرة الرسول مساس بهم ، هذا وقد نقلنا لك أيها القارئ كل ما نقله المفسرون بهذا الشأن ورددنا عليه لنكفيك مؤنة المطالعة وتقنع بما أثبتناه لك ، واللّه من وراء القصد وله المنة والحمد.
قال تعالى «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» هذا تحقيق لقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية المارة وهو ظاهر في الملائكة الذين ادعى بعض العرب عبادتهم وتضمن لغيرهم وإشارة إلى عاقبة الذين عاندوا الحق جل وعلا واقترحوا الآيات وكذبوا الرسل ، لأنهم داخلون في الذرية التي احتنكهم إبليس لعنه اللّه واتبعوه اتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة ، ألم تر إلى قولهم فيما حكى اللّه عنهم (قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية 33 من الأنفال في ج 3 ولم يقولوا أللهم اهدنا إليه لسابق شقائهم ، ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها أن قريشا كذبوا حضرة الرسول حسدا وتعاظما على ما خصّه اللّه به دونهم ، وما منع إبليس من السجود لآدم عليه السلام شيء من الأشياء إلا الحسد والتكابر عليه ، والمعنى أذكر يا محمد لقومك إنما أمرنا الملائكة وقلنا لهم «اسْجُدُوا لِآدَمَ» تكريما وتحية له واحتراما ، فسجدوا كلهم امتثالا لأمري دون تلعثم أو سؤال عن السبب بحق الانقياد والطاعة «إِلَّا إِبْلِيسَ» لم يسجد «قالَ» بعد أن وبخ على امتناعه «أَ أَسْجُدُ» استفهام إنكاري وتعجب «لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» 61 وقد خلقتني من النار وهي أفضل من الطين ، فاستحق اللعن والطرد راجع قصته مفصلة في الآية 12 من الأعراف المارة ، ثم قال «أَ رَأَيْتَكَ» أيها الإله أخبرني من «هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» وأمرتني بالسجود له أي شيء هو حتى أسجد له(2/525)
ج 2 ، ص : 526
فهو دوني وما هو بالشيء المستحق للسجود بالنسبة إلي لأنه شيء لا يتمالك وعزتك وجلالك وعلوك في مكانك الذي لا يتكيف «لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» ولم تمتني وجواب القسم قوله «لَأَحْتَنِكَنَّ» أستولين وأستأصلن «ذُرِّيَّتَهُ» مهما كانوا استئصال واستيلاء قويبن محكمين ، لا أفلت وأترك «إِلَّا قَلِيلًا» 62 منهم المخلصين والصادقين ، ومعنى حنك واحتنك جعل الحبل في حنك الدابة الأسفل وقادها به كيفما شاء إلى ما أراد ، وهو كناية عن إهلاكهم بإغوائه وطرقه الخبيثة ، يقال احتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها ، واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله ، وعليه قوله :
فشكوا إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وأجلفت
وقد علم ذلك الملعون من قوة الوهم وتركيب الشهوة في بني آدم وهما سبب الميل عن الحق والركون إلى الباطل وقد برّ في قسمه الخبيث في بعض بني آدم قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية 20 من سورة سبأ في ج 2.
هذا ومن قال إن وسوسته خلصت إلى آدم نفسه فقاس الفرع على الأصل لا يصح لأن هذا القول وقع منه قبل الوسوسة لآدم التي كان بسببها ما كان ، ومن زعم أن هناك وسوستين فعليه البيان ولن يأتي به البتة «قالَ» استهجانا له وتبكيتا به وإهانة له «اذْهَبْ» لشأنك وامض لما تريد إذ ليس المراد من الذهاب هنا ضد المجيء بل تخليته وما سولت له نفسه الخبيثة احتقارا له كما تقول لمن خالفك في النصح افعل ما تشاء يدل على هذا قوله جل قوله «فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» وانقاد لخداعك من ذرية آدم وضل عن الحق ومات على ذلك «فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ» أنت ومن أضللت بتغليب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية جَزاءً مَوْفُوراً» 63 وافيا كاملا بغاية الشدة إذ تعقبه بالوعيد ولو كان المراد منه ضد المجيء لما عقب به ووفر كوعد بمعنى كمل والموفور الكامل وعليه قول أشعر الشعراء :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم(2/526)
ج 2 ، ص : 527
قال تعالى مهددا له «وَاسْتَفْزِزْ» استخفف واستزلل وحرك واستنفر «مَنِ اسْتَطَعْتَ» أن تستفزّه «مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ» دعائك إلى معصية ربك بما شئت من طرق الوسوسة كغناء ومزمار أو عود وربابة أو دفّ وبوق وغيرها من آلات اللهو واللعب بالباطل لتستميلهم إلى الكفر والمعاصي «وَأَجْلِبْ» صح «عَلَيْهِمْ» مأخوذ من الجلبة وهي الصياح والجمع يقال أجلب على العدو جمع عليه وأعان غيره عليه وتوعده بالشرّ اي استعمل بإضلالهم كل ما شئت «بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ» وسائر جنودك ركبانا ومشاة «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ» مما يصيبونه من حرام وينفقونه فيه «وَالْأَوْلادِ» ممن يأت منهم من الزنى الناشئ عن إغوائك وإضلالك وما تحبذه لهم من الأسماء المنهي عنها كعبد الحارث وعبد العزّى وعبد شمس ، وتزيّن لهم قتل البنات خشية العار والفاقة وقتل غير القاتل وأخذ مال قريب الغاصب وما أشبه ذلك من أعمال الجاهلية التي وقعت بعد ، إذ لا توجد إذاك جاهلية ولا غيرها.
قال مجاهد إن الرجل إذا لم يسمّ عند الجماع فالجانّ ينطوي على إحليله فيجامع معه ، وذلك هي المشاركة ، والأول أولى وأنسب بالمقام ، وأحسن في التأويل وأوقع في المعنى «وَعِدْهُمْ» المواعيد الواهية والآمال الكاذبة من شفاعة الآلهة التي تسوّل لهم عبادتها وما تخيل لهم من أن الكرامة بالأنساب لا بتقوى اللّه وأن العاجل خير من الآجل ، وأن لا جنة ولا نار ، ولا نشر ولا حشر ولا حساب ولا عقاب ، على حد قول أبي نواس :
خلياني والمعاص واتركا ذكر القصاص
واسقياني الخمر صرفا في أباريق الرصاص
إن صح عنه ، وهذا لا يقوله إبليس لهم ، لأنه ينفي عنهم وجود الجزاء لنفيه وجود الآخرة ، وقد ختم أبو نواس البيتين بقوله :
وعلى اللّه وإن أسرفت في الذنب خلاصي
بما يدل على حسن عقيدته المؤيد بقوله :
إذا كنت بالنيران أوعدت من عصى فوعدك بالغفران ليس له خلف
إذا كنت ذا بطش شديد ونقمة فمن جودك الإحسان والمنّ واللطف(2/527)
ج 2 ، ص : 528
ركبنا خطايانا وسترك سبل ؟ ؟ ؟ وهل لشيء أنت ساتره كشف
إذا نحن لم نهفوا وتعفو تكرما فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو
قال العلامة محمد بن عبد اللّه الجرداني من كتب هذه الأبيات على كفنه ودفن فيه أمن من حساب القبر وفتّانيه وما ذلك على اللّه بعزيز وهو موف بوعده «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ» من أباطيله ويسول لهم من أضاليله «إِلَّا غُرُوراً» 64 بهم ليستوجبوا عقاب اللّه ، هذا اعتراض لبيان مواعيده ، والغرور تزيين الخطأ وإلباسه بالصواب ، وعليه يكون المعنى إن الشيطان يزين لهم الباطل بصورة الحق إيهاما ، فيظن المغرور به أنه صواب ، يقال غر فلان فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد ، وأصله من الغرو وهو الأثر الظاهر من الشيء ، لأن الشيطان يدعو إلى أحد ثلاثة أمور إما قضاء شهوة خسيسة ، وإمضاء غضب مفرط ، أو غلو في طلب رياسة ، ولا يدعو البتة إلى معرفة اللّه وخدمته ، وهذه الأمور الثلاثة ليست في الحقيقة لذائذ بل دفع آلام ، فمقترفوها والحيوانات سواء ، وهي لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة قد يتبعها الموت والهرم واشتغال البال بالخوف من زوالها والحرص على بقائها ، قال تعالى «إِنَّ عِبادِي» المختصين بي المخلصين لي أضافهم لذاته الكريمة تعظيما لشأنهم «لَيْسَ لَكَ» يا إبليس «عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» أو قوة تمكنك من إغوائهم فلا تقدر بوجه من الوجوه أن تتسلط عليهم لأنهم خاصتي وأوليائي ، ومن كنت وليه لا يتمكن أحد من الاستيلاء عليه ، لأني وكيله «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» 65 لمن يتوكل عليه ويستمد المعونة منه في الخلاص من كل ما ينوبه من شيطان أو إنسان أو حيوان أو حماد ، أما الذين يستنكفون عن عبادتي أمثالك وينسون نعمي عليهم فشأنك وإياهم ، وموعدكم جميعا النار التي هي بئس القرار.
وهذا الخطاب بلفظ ربّك هناك إلى كرامة المخاطبين وإلى مطلق إنسان ، لأن القلب لا يميل إلى كونه خطابا لإبليس وإن كان الخطاب السابق له.
هذا وليعلم السائل عن حكمة إنظار إبليس وتمكينه من الوسوسة من قبل اللّه تعالى وعدم منعه منها وعدم إنظاره مع قدرته على ذلك ، هو أن اللّه تعالى فعل هذا تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقّوا مزيد الثواب ، على أن وجود إبليس ليس(2/528)
ج 2 ، ص : 529
مانعا مما يريده اللّه جل مجده ، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن ، واللّه خلق الخلق طبق علمه ، وعلم بهم طبق ما هو عليه في أنفسهم ، وانه كان عليه اللعنة جازما بأن الذي تكلم معه بذلك الكلام وهدّده بذلك التهديد هو إله العالم جل وعلا ، إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته الخبيثة ، فلم يبصر وعيد اللّه مانعا له ، ولذا حين يأت يوم هلاكه ، ولم يبق له شيء من أجله ، يقال له اسجد اليوم لآدم لتنجو ، لا يسجد أيضا ، ويقول لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا! كما ورد الأثر بذلك ، فيظهر عناده وعتوه وجرأته على مولاه ، فيهلك كافرا كما كان كافرا ، وليس حاله بأعجب من حال الكفار ، إذ يتمنون العود إلى الدنيا ليؤمنوا باللّه ، وقد أخبر اللّه عنهم بقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 19 من سورة الأنعام في ج 2 ، فلا محل للقول بأن إبليس عليه اللعنة لم يكن عالما بأن الذي تكلم معه وهدده هو إله العالم ، لأن السياق يأبي ذلك والخطاب شاهد عليه.
مطلب أمل إبليس في الجنة والاعتراف بوجود الإله :
وما قيل إن له أملا بالنّجاة قيل مسنده ما حكي أن مولانا عبد اللّه التستري سأل اللّه تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة اللّه تعالى ؟ فقال :
كيف لا أطمع فيها واللّه سبحانه يقول (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) الآية 156 من الأعراف المارة ، وأنا شيء من الأشياء ، فقال التستري ، ويلك إن اللّه تعالى قيدها بقوله (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) إلخ تلك الآية ، ثم وصفهم بقوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) إلخ الآية 157 منها أيضا ، فقال له إبليس ويحك ما أجهلك القيد لك لا له ، فأسكت التستري لأمر لا نعلمه ، ولم يقل له إنها عامة تقبل التخصيص كتسليطك على آدم وهو قادر على منعك منه ، وكان ذلك قبل تشريفه بالنبوة إذ ما عموم إلا وخصص والمخصص بالاستثناء منها أنت يا ملعون ، إذ نص اللّه تعالى على جزائك بآيات متعددة بلفظ اللعن الخاص بك والطرد من رحمته ، والمبعد عنها لا تشمله هذه الرحمة.
ومن هنا يضرب المثل لكل مؤمل أملا لا يدركه بالقول السائر (أمل إبليس بالجنة) ولهذا ولكونه مدونا في أزل اللّه بأنه يقع منه(2/529)
ج 2 ، ص : 530
ذلك وأن اللّه يلقنه طلب الإمهال ويمهله ، وما كان في علم اللّه الأزلي لا يبدل ولا يغير ، فقد أجاب طلبه وأمهله وأبقاه فتنة لبعض خلقه حتى يستكمل ما قدره اللّه له من غضب وعذاب ، فيهلك كسائر الخلق.
قال تعالى «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي» يسير ويسوق ويجزي «لَكُمُ الْفُلْكَ» السفينة والقارب يطلق على الواحد والجمع ، إذ لا واحد له من لفظه مثل عالم ونساء ونسوة ورهط «فِي الْبَحْرِ» فيجعلها سائرة على ظهره بالريح الليّنة ، والآن به وبالآلات المح ؟ ؟ ؟ ثة ، لأنها داخلة في قوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 8 من النحل في ج 2 وذلك «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الريح في تجاراتكم والزيارة للبلاد التي يشق عليكم الوصول إليها بالبر تتميما لمنافعكم ، وهذا تذكير ببعض نعم اللّه على عباده التي هي من دلائل توحيده ، وتفسير الفضل بالحجج والنقد ، وعلى رأي بعض المفسرين لا يناسب المقام لأن الفضل عام لكل ما فيه نفع ، فدخولهما في عمومه أولى من التقييد بها لأنه جاء مطلقا ، فإبقاؤه على إطلاقه أولى «إِنَّهُ» جل شأنه في الأزل «كانَ» ولا يزال «بِكُمْ» أيها الناس «رَحِيماً» 66 إلى انقضاء آجالكم في الدنيا وفي الآخرة إلى إدخالكم الجنة ، وإذ ذاك تبقون خالدين فيها تحت ظلّه ، وحمدوا هذا الإله الذي هيأ لكم ما تحتاجونه ، وسهل لكم ما يعسر عليكم ، (وربكم) في هذه الآية صفة ، لقوله تعالى قبلا (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية 51 المارة أو بدل منه وهو جائز وإن تباعد ما بينها ، قال تعالى «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ» فأصابتكم شدة بعصف الرياح وتقاذف الأمواج وخفتم الغرق «ضَلَّ» ذهب عن خواطركم وغاب عن أوهامكم كل «مَنْ تَدْعُونَ» وتستعيثون به وترجون نفعه عنكم ، ولم يبق في بالكم «إِلَّا إِيَّاهُ» جل وعلا فإنكم إذ ذاك تذكرونه وحده وتطلبون منه نجاتكم ممّا حل بكم لا من غيره ، والحال
أنكم في حال مرحكم وفي حالة السراء تدعون آلهتكم وحدها «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ» ذلك الإله العظيم وأجاب دعاءكم وخرجتم «إِلَى الْبَرِّ» وأمنتم من الغرق «أَعْرَضْتُمْ» عن دعائه وحده وملتم عن الإخلاص بعد الخلاص ونسيتم حالة الشدة التي استعنتم به منها ورجعتم إلى شرككم ، ويقال إن معنى أعرضتم توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض بمقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرّمة : (2/530)
ج 2 ، ص : 531
عطاء فتى تمكن في المعالي فأعرض في المكارم واستطالا
فكأنه أراد أعرضتم واستطلتم في الكفران ، إلا أنه استغنى بذكر العرض عن الطول للزومه له ، والتفسير الأول أولى بالمقام وأنسب للكلام «وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» 67 لنعم اللّه تعالى مبالعا في جحودها ، وهذا التعليل للإعراض وبيان لحكم الجنس ، ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة إذ أعرض اللّه عنهم ، ومن اللطائف أن بعض الناس قال لبعض الأئمة اثبت لي وجود اللّه تعالى ولا تذكر الجوهر ولا العرض ، فقال له هل ركبت في البحر ؟ قال نعم ، قال هل عصفت الريح وأنت فيه ؟ قال نعم ، قال فهل أشرفت بك السفينة على الغرق ؟
قال نعم ، قال فهل يئست من نفع من في السفينة من المخلوقين ونحوهم لك وإنجاءهم إياك مما أنت فيه ؟ قال نعم ، قال فهل بقي قلبك معلق بشيء آخر غيرهم ترجو منه الخلاص ؟ قال نعم ، قال ذلك هو اللّه عز وجل ، فاستحسن ذلك منه وقنع ، لأن الإنسان مهما عظم وقوعه في المهالك ولم يجد من ينفعه يبقى في قلبه أمل النجاة ، وإذ لم يكن لهذا الأمل من يعلم تنفيذه ، فيكون المراد به هو اللّه لا غير ، قال تعالى «أَ فَأَمِنْتُمْ» أيها المعرضون عمن نجاكم من الغرق في البحر «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ» الذي هو مأمنكم وأنتم عليه كما خسف بقارون وذهب به في أعماق الأرض ، فتغور بكم وتبتلعكم ، لأن البر والبحر مسخران للّه تعالى ، فلا فرق عليه إن أغرقكم في البحر ويرسيكم في قعره أو خسف بكم الأرض ، فيغيبكم في ثراها.
فعلى العاقل أن يجعل مخافة اللّه دائما نصب عينيه وفي سويداء قلبه في أي مكان كان «أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» حجارة صغيرة يرجمكم بها من السماء فيهلككم كما رجم قوم لوط وأبرهة وقومه في دياركم هذه ، وقد شاهد آباؤكم حادثته وكثير منكم أيضا حضرها ، راجع الآية 82 من سورة القصص والآية 84 من الأعراف وآخر سورة الفيل المارّات.
قال الفراء (الحاصب) هو الريح التي ترمي بالحصباء.
وقال الزجاج هو التراب الذي فيه الحصباء.
وقيل ما تناثر من رقاق الثلج والبرد ومنه قول الفرزدق :
مستقبلي ن شمال الشام تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور(2/531)
ج 2 ، ص : 532
وبمعنى السحاب الذي يرمي بها ، وكلها أقوال متقاربة والأول أنسب وأولى باللفظ «ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا» 68 يصرف عنكم ذلك ويحفظكم منه إذ لا راد لأمره وهو الغالب القادر على كل شيء ، قال تعالى «أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ» أي البحر «تارَةً أُخْرى » ظرف منصوب يجمع على تارات وتير قال :
يقوم تارات ويمشي أخرى
وقد تحذف منه الهاء كقوله : بالويل تار والثبور تارا
أي مرة أخرى ومرة بعد مرة وأسند الإعادة إليه تعالى مع أنها باختيارهم.
ومما ينسب إليهم عادة كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلك منه وإن كان مخلوقا له «فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ» وأنتم في البحر «قاصِفاً» قاطعا ريحا شديدة تقلع بعزم قصفها وقوة قطعها ما تمر به من شجر ونحوه ولها صوت عال مزعج «مِنَ الرِّيحِ» المغرقة في البحر المهلكة في البر «فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ» نعمة الانجاء وإجابة الدعاء في المرة الأولى ، لأن ديدنكم نسيان النعم وكفران المنعم ، فلا تنظرون إلّا لما هو أمامكم «ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ» بذلك الإغراق والإهلاك «تَبِيعاً» 69 يطالبنا بكم ولا متّبعا دركا لثاركم ، وهذا على حد قوله تعالى (وَلا يَخافُ عُقْباها) الآية الأخيرة من سورة والشمس المارة وقرىء بنون العظمة في الأفعال الخمسة أي نخسف ونرسل ونعيدكم فنرسل فنغرقكم قال تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» بالعقل واستواء الخلقة ليدبروا معاشهم ومعادهم ، وشرفناهم على الحيوانات والحيتان والطيور بذلك وبتناول طعامهم وشرابهم بأيديهم ، وميّزناهم بالنطق واعتدال القامة وحسن الصورة ، وذللنا لهم الحيوان والجماد وسخرناهما لهم وسلطناهم على ما على وجه الأرض وما جىء فيها من معادن ومياه ، وما في المياه من حيوان وأحجار كريمة ومعادن نافعة ، وخصصناهم بالتدبر والتفكر والحظ والملاذ الدنيوية الحلال ، وزينا الرجال باللحى والنساء بالشعر ، وهذه الإضافة تقتضي العموم فتشمل البرّ والفاجر منهم ، ولهذا استدل الإمام الشافعي رحمه اللّه على طهارة الآدمي وعدم تنجيسه بالموت ، وطهارة المني لأنه منه ، ويكون منه «وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ» على الدواب والأنعام وغيرها مما كان وسيكون(2/532)
ج 2 ، ص : 533
«وَالْبَحْرِ» على السفن والمراكب وغيرها مما كان وسيكون ، وفي الهواء كذلك ، وتحت الأرض والبحر أيضا من كل ما خلق اللّه وأطلع عليه البشر وما سيطلع عليه بعد ويسخرهم لعمله لأن عمل العبد من خلق اللّه ، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 91 من الصافات في ج 2 ، وليعلم أن ما يراه الناس من الأشياء العجيبة التي أحدثها البشر مما لا يتصوره العقل كله من خلق اللّه ولو شاء لما أطلعهم عليه وعلمهم صنعه «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» الحاصلة بصنعهم وبغير صنعهم من المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمفروش وغيرها من كل ما علم البشر صنعه بتعليم اللّه إياه.
مطلب تفضيل الإنسان على ما خلق اللّه على الإطلاق :
قال تعالى «وَفَضَّلْناهُمْ» بهذا التكريم بظروف النعم وصنوف المستلذات وفنون المعمولات «عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا» أي كل خلقنا ، لأن كثيرا هنا بمعنى كل على حد قوله تعالى (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) الآية 233 من الشعراء المارة ، قال الحسن أي كلهم كاذبون ، «تَفْضِيلًا» 70 عظيما كبيرا إذ عرفناه بواسطة العقل والفهم واكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة ، فهذا هو معنى التفضيل ، والاختصاص المتقدم هو معنى التكريم فلا يقال إن التفضيل والتكريم بمعنى واحد فهو تكرار ، تنبه.
وليعلم أن خواص البشر الأنبياء أفضل من خواص الملائكة ، ولذلك أجمع المفسرون على أن كثيرا هنا بمعنى الكل كما ذكرناه في تفسير الآية 233 المذكورة آنفا من سورة الشعراء المارة ، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر على القول الراجح ، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) الآية 7 من سورة البينة في ج 3 ، وجاء عن أبي هريرة قال : المؤمن أكرم على اللّه تعالى من الملائكة الذين عنده وقال : قال صلّى اللّه عليه وسلم أتعجبون من منزلة الملائكة من اللّه تعالى ، والذي نفسي بيده لمنزلة المؤمن عند اللّه يوم القيامة أعظم من ذلك واقرأوا إن شئتم (إِنَّ الَّذِينَ) إلخ الآية السابقة.
ويراد بالمؤمن هنا الكامل الموصوف في هذه الآية وهم الأنبياء ، وليعلم أيضا أن الملائكة مجبولون على الطاعة وقد وضع اللّه فيهم العقل ولم يركب فيهم الشهوة ، والبهائم على العكس فهي مجبولة على الشهوة ولم يضع(2/533)
ج 2 ، ص : 534
فيها العقل ، وقد ركب اللّه في بني آدم الشهوة ووضع فيهم العقل ، فمن غلب عقله على شهوته فقد التحق بالملائكة وصار أكرم منهم ، ومن غلبت شهوته على عقله التحق بالبهائم وصار أخس منهم وأشر ، وقد خلق اللّه تعالى كل ما في الكون السفلي والعلوي لبني آدم ، وخلق بني آدم لنفسه المقدسة ليعبدوه ، قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من سورة الذاريات في ج 2 وجاء عن جابر يرفعه قال لما خلق اللّه آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة ، فقال تعالى لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان.
هذا وقالت المعتزلة : إن البشر أفضل من جميع الخلق إلا الملائكة وقال الكلبي البشر أفضل من جميع الخلق عدا طائفة من الملائكة مثل جبريل واسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش وخازن الجنة والنار وشبههم ، استدلالا بقوله تعالى (كَثِيرٍ) ولو كان التفضيل على الكل لما جاء لفظ (كثير) والأول الذي جرينا عليه هو ما عليه الجمهور ، راجع الآية الأولى من هذه السورة ، وقد ذكرنا أن كثيرا أتت في القرآن بمعنى الكل قولا واحدا فيها قال في الكشاف إن المراد بالأكثر في قوله تعالى (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) الآية 37 من سورة يونس في ج 2 (الجميع) والقرآن يفسّر بعضه بعضا والآيتان المتقدمتان والحديثان كل منها يؤيد هذا ، وعليه أبو حنيفة وكثير من الشافعية والأشعرية رضي اللّه عنهم ، ولهذا مثبتا على أن الأكثر بمعنى الكلّ ، وإن البشر أفضل من جميع الخلق ، والمراد الجنس الصادق بالواحد والمتعدد
قال تعالى «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) بنبيهم ومقدمهم فيقال يا أتباع فلان ، ويا قوم فلان ، وقيل بكتابهم لأن الإمام بمعنى الكتاب ، فيقال يا أهل كتاب الخير ، ويا أهل كتاب الشر ، أو يا آل القرآن ، يا آل التوراة يا آل الإنجيل ، ويا أهل دين الإسلام ، يا أهل دين اليهود ، يا أهل دين النصارى ، والأوّل أولى وأوفق ، فيأتون أفواجا أفواجا ومعنى الإمام المتبع والمقتدى به عاقلا كان أو غيره في اللغة ، وأما شرعا وعرفا فالإمام هو الخليفة ومن يصلي بالناس بأمره جمعة وجماعة ، أخرج ابن مردويه عن(2/534)
ج 2 ، ص : 535
علي كرم اللّه وجهه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في الآية يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنة نبيهم.
وأخرج بن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال إمام هدى وإمام ضلالة ، وأخرج ابن جرير عن طريق الصوفي عن ابن عباس أيضا قال بإمامهم بكتاب أعمالهم وأخرج بن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال هو نبيهم الذي بعث إليهم.
وما قيل إن إمام جمع أم كخفاف جمع خفّ لأن الناس يدعون بأمهاتهم رعاية لحق عيسى عليه السلام ، وشرفا للحسنين رضي اللّه عنهما ، وشرا لأولاد الزنى لا وجه له ولا مزيّه ، لان جمع أمّ أمهات ولم يسمع كونه جمع إمام والغلط المشهور خير من الصحيح المهجور ، على أنه ليس بغلط بل بصحيح مشهور ، ولأن عيسى عليه السلام من كرامته على ربه خلقه من غير أب ، فهو آية في نفسه من آيات اللّه العظام ، ووالد الحسنين خير من أمهما مهما كانت مفضلة على غيرها لان آل البيت كحلقة مقرغة وفضيحة أولاد الزنى حاصلة لا محالة سواء دعي باسم أمه أولا ، لأن اللّه تعالى يحاسب الزاني والزانية ، وفي ذلك تظهر الفضائح وتنشر القبائح ، وإن ابن الزنى لا ذنب عليه لأنه لم يقترف شيئا ، قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) الآية 38 من سورة والنجم المارة ، ويوشك أن يثيبه اللّه تعالى على تحمله ألفاظ القذف من الناس وأقوال التحقير والاستهزاء ما لا يثيب به غيره ، وقد يكون غالبا من أهل التحمل ، وجبارا أيضا وواطيا بآن واحد ، راجع الآية 32 من سورة مريم المارة «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» في ذلك اليوم المهول «فَأُولئِكَ» إشارة إلى من باعتبار معناها «يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» فرحين مسرورين متلذذين بما فيه من الخيرات والحسنات والطاعات التي فعلوها بالدنيا ، ويقرأون ما فيه ولو لم يكونوا قارئين قبلا ، وكذلك الأعمى يقرأ كتابه بقوة يعطيه اللّه إياها ، ويعيد له بصره حتى لا يبقى لأحد حجة يحتج بها ، نفيا لدعوى الظلم «وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» 71 أيها الناس كلكم ، فلا ينقص من أجور أعمالكم المرتسمة في كتبكم بمقدار الخيط الرفيع الذي هو في باطن نواة التمر ، كما لا يزاد على عقاب أحد بمثل ذلك ، وإنما ضرب اللّه تعالى هذا المثل بالفتيل لما هو متعارف عند العرب إذ يضربون به المثل(2/535)
ج 2 ، ص : 536
لكل حقير ، ولأنه لا أقل منه بنظر المخاطبين ، ومثله النقير الذي في ظهرها والقطمير الغشاء الذي عليها بل يؤتونها مضاعفة إن كانت من أعمال الخير ، ومثلها إن كانت من الشر ، راجع الآية 160 من سورة الأنعام في ج 3 ، أما الذين يؤتون كتبهم بشمالهم فتستولي عليهم الدهشة والذّلة من سوء ما يرونه فيها من كبائر المعاصي وغظائم المناهي ، فيرتبكون حتى انهم تأخذهم الرجفة فلا يستطيعون قراءتها كما ينبغي لشدة ما يعتريهم من الخوف ، لقبح ما هو مدون فيها.
أخرج الفضيلي عن أنس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة بعث اللّه تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل ، وأول خط فيها (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) الآية 14 المارة.
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها قالت : قلت يا رسول اللّه هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة ، قال أما عند ثلاث فلا ، إلى أن قال وعند تطاير الكتب ، والثاني واللّه أعلم عند النفخة الثانية ، والثالث عند الفزع الأكبر في موقف الحساب.
وجاء عن عائشة أيضا أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ، ويقرأ الناس حسناته ، ثم يحول الصحيفة فيحول اللّه تعالى حسناته فيقرأها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة.
قال تعالى «وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ» الدنيا «أَعْمى » قلبه عن الاعتراف بقدرتنا والتصديق لأنبيائنا من المدعوين المذكورين «فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ» المعبر عنها بيوم ندعو في الآية المتقدمة فكذلك يكون «أَعْمى » بأشد من عمى الدنيا فلا يهتدي إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه نفعا «وَأَضَلُّ سَبِيلًا» من سبل الدنيا لأنه فيها قد يعرف بعض الطرق المؤدية لأهله مثلا ، أما في الآخرة فلا يعرف شيئا البتة ، لذلك لا يمكنه تدارك ما فاته فيها ، أي أنه إذا اعترف إذ ذاك بالتوحيد وبالنبوة والكتب والبعث لا ينفعه ، وإذا تاب لا تقبل توبته ، وإلا لآمن الكل لأن اللّه تعالى حدد التوبة حدا وهو كونها في الدنيا وفي غير حالتي اليأس والبأس ، وقبل طلوع الشمس من مغربها ، والدابة من محلها ، راجع الآية 82 من سورة النمل المارة.
وهذا الأعمى هو الذي يؤتى كتابه بشماله بدلالة ما سبق ولمقابلته به إذ لا يجوز أن يفسر الأعمى هنا بأعمى العين الباصرة لمخالفته لقوله تعالى (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(2/536)
ج 2 ، ص : 537
الآية 22 من سورة ق المارة ، لأن اللّه تعالى يعطي الأعمى قوة النظر يوم القيامة ويعيد الأجزاء الناقصة من الإنسان حتى القلفة ، لأن الناس يحشرون كاملي الخلقة لا تزى فيهم أعمى ولا أعور ولا أقطع ولا أعرج ولا ولا ، قال تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الآية 50 من الأعراف المارة ، راجع الآية 125 من سورة طه المارة لاستيفاء هذا البحث ، وهذه الآيات المدنيات الأخيرة من هذه السورة ، قال تعالى «وَإِنْ كادُوا» قاربوا وأوشكوا «لَيَفْتِنُونَكَ» يخدعونك وإن هذه مخففة من الثقيلة واللام في ليفتنونك تسمى اللام الفارقة بين إن هذه وإن النافية ، واسمها ضمير الشان ، مقدر دائما ، أي أن شأنهم المقاربة لإيقاعك في الفتنة وصرفك «عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد في هذا القرآن «لِتَفْتَرِيَ» تختلق وتتقول «عَلَيْنا غَيْرَهُ» من تلقاء نفسك أو مما اقترحوه عليك.
مطلب تهديد اللّه تعالى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم :
«وَإِذاً» إذا اتبعت أهواءهم وهممت أن تفعل ما أرادوه منك «لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» 73 لهم مصافيا مواليا ولا تبعوك فيما تأمرهم وتنهاهم مع أنهم أعدائي وصداقتهم تقتضي الانقطاع عن ولايتي ، وقيل في المعنى :
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
وقال الشافعي رحمه اللّه : إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك ، لأن من الوفاء للصديق عدم مصادقة عدوه.
قال ابن عباس قدم وفد ثقيف بعد فتح مكة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا نبايعك على ثلاث خصال : لا ننحني في الصلاة ، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وإن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها بل لنأخذ هداياها ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : لا خير في دين لا ركوع ولا سجود فيه ، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم ، وأما الطاغية (يعني اللات) فإني غير ممتعكم بها ، قالوا يا رسول اللّه ، إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا ، فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل أمرني اللّه بذلك ، فسكت النبي صلّى اللّه عليه وسلم غضبا مما قالوا فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم سؤلهم لظنهم أنه راق له ذلك وفي رواية فقام النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال عمر رضي اللّه عنه ما بالكم آذيتم رسول اللّه إنه(2/537)
ج 2 ، ص : 538
لا يدع الأصنام في أرض العرب ، فما زالوا به حتى أنزل اللّه هذه الآية وقد ادخرها اللّه تعالى هي وما بعدها إلى حد (زهوقا) الآتية لهذه الحادثة وهي كالمعترضة بالنسبة لما قبلها وما بعدها شأن الآيات المتأخر نزولها عن سورها ، فإنك تراها معترضة لا علاقة لها بما قبلها ولا صلة بما بعدها.
هذا ، وما قيل إن قريشا قالت لحضرة الرسول اجعل لنا آية رحمة بدل آية عذاب وآية عذاب بدل آية رحمة حتى نؤمن بك ، أو أنهم قالوا لا تمس الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا ، أو كلفوه أن يذكر آلهتهم ليسلموا ويتبعوه ، أو أنهم قالوا له إن الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم فاطردهم حتى نتبعك لأنا نستحي أن نكون وإياهم سواء في المجلس ، وأن حضرة الرسول حدث نفسه بما لفظه (ما علي أن أفعل ذلك واللّه يعلم أني لها كاره) وغيره من الترهات التي نقلها بعض المفسرين ، دون ترو من صحتها لا يصح شيء من ذلك أبدا ولا يجوز أن ينسب لحضرة الرسول شيء منه أصلا ، لأنه مما لا يقبل التأويل ، وإن اختلاف الروايات تدل دلالة كافية على وضعه ، وكون الآية مدنية تبرهن على كذبه وعزم النبي صلّى اللّه عليه وسلم وحرصه على ما أمره به ربه يحيل وقوعه ، لأن تلك الأقوال الواهية على فرض صحتها جدلا فإنها كانت في مكة ، ولم يكن يلتفت إليها حضرة الرسول مع ما كان عليه وأصحابه من الضعف لقلة المسلمين فيها ، أما وقد حفظه اللّه من كيدهم وقواه وأيده وأعلى كلمته وأظهر دينه في المدينة وكسر شوكة أعدائه فلا يتصور صحة شيء منها البتة ، قال تعالى «وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ» على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا إياك من الميل لأقوالهم هذه «لَقَدْ كِدْتَ» قاربت في نفسك وأوشكت «تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ» بما قالوه وطلبوه لقوة خداعهم وشدة احتيالهم ونملقهم «شَيْئاً قَلِيلًا» 74 يسيرا جدا قد يستدل به إلى ميلك القلبي لهم بسبب سكوتك وقيامك عنهم ، دون أن تزجرهم وتظهر غضبك عليهم ، وما كان ينبغي لك أن تتصور ذلك أو تردده في خلدك حتى يتخيلوا ميلك لإجابتهم ويطمعون في موافقتك لهم.
هذا ، واعلم أن ظاهر الآية تدل صراحة على أن حضرة الرسول لم يهم فعلا بإجابتهم ، ولم يكد أيضا وهو لا شك معصوم عن العزم بما هو من ذلك القبيل وحديث النفس معفو عنه شرعا ، (2/538)
ج 2 ، ص : 539
وإن كان محاسبا عليه والحساب غير العقاب والعتاب.
قال تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الآية 284 من البقرة في ج 3 ، وقدمنا نبذة فيما يتعلق في هذا البحث في الآية 86 من سورة القصص المارة وله صلة واسعة في آية البقرة المذكورة آنفا فراجعها.
وقد استدل بهذه الآية على أن العصمة بتوفيق اللّه وعنايته ، وركن بفتح الكاف مضارعها يركن بكسرها وتأتي بضم الكاف ومضارعها بفتحه كما في الآية ، قال تعالى «إِذاً» لو قاربت الركون إليهم بأدنى شيء «لَأَذَقْناكَ» بسبب تلك الركنة القليلة «ضِعْفَ الْحَياةِ» في الدنيا عذابا مضاعفا «وَ» أذقناك «ضِعْفَ الْمَماتِ» في الآخرة عذابا مضاعفا أيضا ، والمراد ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى ، والحذف في فصيح اللغة جائز ومرغوب ، وهذا يشمل عذاب القبر والبعث وما بعده أيضا ، وحاصل المعنى يقول اللّه تعالى لحبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لو أجبتهم إلى بعض طلبهم لضاعفت عليك عذاب الدنيا والآخرة ، وذلك أن الأبرار لو فعلوا ما يستوجب عذابا ما يكون ضعف عذاب الأشرار وأكثر ، لأنه لا يتوقع منهم الانحراف عن منهج الرشد أصلا بدليل قوله تعالى «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» 75 يدفع عنك عذابنا أو يرفعه ، ففيها من التهديد والوعيد ما يتقيض له من يتقيض ولا يخفى أن الأنبياء لا نصير لهم إلا الذي قربهم وشرفهم بنبوته بادىء أمرهم ، وإن ما يقع من نصرتهم من بعض خلقه بتسخيره لهم ، فكيف يجدون نصيرا لهم من غيره ؟ كلا لا نصير له غير ربه.
روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى : وإن كادوا إلى هنا ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : أللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
فينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجئو على ركبتيه ويتدبر معناها ويستشعر خشية اللّه تعالى ويزداد تصلبا في دينه ، ويقول ما قاله نبيه صلّى اللّه عليه وسلم تقربا إلى اللّه ، لأن العبد أقرب ما يكون إلى اللّه إذا سأله بخلاف العبيد فإنه يكون أقرب ما يكون إليهم إذا لم يسألهم ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم ازهد بما في أيدي الناس تحبك الناس.
وقال العارف :
لا تسألن ابن آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
اللّه يغضب إن تركت سؤاله وابن آدم حين يسأل يغضب(2/539)
ج 2 ، ص : 540
وفي هذه الآية إجلال عظيم لحضرة الرسول من قبل ربه عز وجل ، وتنبيه على أن الأقرب من اللّه يكون أشد خطرا عنده كما يكون أشد خوفا منه.
قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 28 من سورة فاطر المارة ، فإذا كان اللّه تعالى أوعد حضرة حبيبه على ما خطر يباله ولم يفعله بضعف ما أوعد به العصاة من العذاب المدخر لهم ، فكيف بنا أيها الناس ؟ أللهم لا حول ولا قوة إلا بك ، فنسألك الهداية إلى سواء السبيل ، والعصمة من خطرات نفوسنا ومن وساوس الشيطان ودسائسه ومن شرار خلقك بفضلك يا رحمن.
قال تعالى «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ» يستخفونك ويزعجونك ويخرجونك «مِنَ الْأَرْضِ» التي ولدت فيها ونشأت عليها وبعثت إليهم فيها بسبب عداوتهم ومكرهم يريد أهل مكة حين ما كان صلّى اللّه عليه وسلم فيها بين أظهرهم قبل أن يهاجر عنهم.
وهذه حادثه مكية يذكر اللّه تعالى بها نبيه في المدينة بعد ما فشا أمره وعلت كلمته في أرض مكة وما حولها وكان استفزازهم ذلك «لِيُخْرِجُوكَ» قسرا «مِنْها وَإِذاً» لو فعلوا ذلك وكان خروجك قهرا «لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ» أي بعدك وعليه قوله :
عفت الديار خلافهم فكأنها بسط الشواطب بينهن حصيرا
أي بعدهم ، والشواطب اللائي يقدّون الأديم بعد ما يخلقنه «إِلَّا قَلِيلًا» 76 لبثا يسيرا جدا ، إذ جرت عادة اللّه تعالى أن كل أمة أخرجت نبيها جبرا فإنه يهلكها استئصالا ، والمعنى أنهم لو أخرجوك كما أرادوا لأهلكوا عن بكرة أبيهم ، وهم أرادوا هذا وعرفوا وصمموا عليه ، ولكن اللّه لم يرده واللّه الغالب على أمره.
هذا ، ولما لم يقع المقدّم وهو الخروج لم يقع الثاني وهو الهلاك ، إذ خرج حضرة الرسول من مكة مهاجرا بعد أن أذن اللّه له بالهجرة ، وهذا من جملة رحمات اللّه بقريش إرادة استبقائها.
وإن ما جاء في قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) الآية 11 من سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلم في ج 3 لا يناقض معنى هذه الآية المفسرة ، لأن غاية ما فيها الاخبار عن انتصار اللّه تعالى لأنبيائه السابقين من أممهم المعاندين.
وقصارى ما دلت عليه الآية المفسرة هو قرب الاستفزاز منهم تسببا إلى إخراجه ولم يكن حاصلا ولا واقعا ومعنى أخرجتك في الآية المستشهد(2/540)
ج 2 ، ص : 541
بها عزمهم على اخراجك واجماع كلمتهم عليها ، وهم كأنهم أخرجوك على زعمهم ، ولكن اللّه تعالى أبى ذلك ، فكان خروجك من بين أظهرهم خروجا لا إخراجا كما سيأتي تفصيله في حادثة الهجرة عند تفسير الآية 27 من العنكبوت في ج 2 ، وكيفية اجتماعهم في دار الندوة وماهية قرارهم المتخذ بهذا وصورة تنفيذه وتحقق قول ورقة بن نوفل رحمه اللّه حينما قص عليه مبادئ نزول الوحي فقال له : يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلم أو مخرجي هم كما أوضحناه في المقدمة في بحث نزول الوحي وإذ كانت هذه الآية المفسرة مدنية مستثناة من سورتها فيتجه فيها ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنيم قال إن اليهود أتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام ، فلما بلغ تبوك أنزل اللّه هذه الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة ، وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث.
وعلى هذا يكون المراد بالأرض أرض المدينة لا مكة واللّه أعلم.
إذ انها صالحة للقولين قال تعالى «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا» أي أن إهلاك كل قوم أخرجوا رسولهم قسرا هو سنة مطّردة من الإلهية التي لا تنخرم ، كما أنها من سننها المدونة في الأزل أن لا تعذب أمة ما دام نبيها فيها حتى إذا أراد إهلاكها أشار اليه ان يبتعد عنها.
قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية 34 من الأنفال في ج 3 «وَلا تَجِدُ» أنت ولا غيرك ممن تقدمك أو تأخر عنك «لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا» 77 عن مجراها الطبيعي ولا يتمكن أحد على تغييرها ، و ؟ ؟ ؟ أسراء هذه العادة المتبعة التي لا يقدر أحد على تبديلها هو من كمال الحكمة ، والمراد من نفي الوجدان هو نفي الوجود ، ودليل نفي وجود من يغير عادة اللّه أظهر من الشمس في رابعة النهار ، هذا ومن قال إن هاتين الآيتين مكيّتان تبعا لسورتهما قال في سبب نزولها اجتماع قريش في دار الندوة واتفاقهم على إخراجه من مكة ، والحال أنهم اتفقوا على إخراجه من وجه البسيطة لأنهم أجمعوا أن يقتلوه ويشتركوا جميعا في قتله كما هو مبين في الحادثة المشار إليها أعلاه ، وانه بعد خروجه من مكة بثمانية عشر شهرا وقعت حادثة بدر وهي دليل على عدم لبثهم فيها من بعده إلا قليلا ، وهذا الزمن قليل نسبة وان(2/541)
ج 2 ، ص : 542
قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية المارة الذكر آنفا تؤيد ذلك ، إلا أن هذا لا يستقيم ، إذ جرت عادة اللّه التي لا تبدل بعذاب الاستئصال العام كما تشير اليه الآيتان المفسرتان ، وإن واقعة بدر وقعت على قليل منهم ولم تكن عقب خروجه كما فعل اللّه بقوم صالح ، إذ لم يتأخر عنهم العذاب إلا ثلاثة ايام ، وكذلك الأمم قبله وبعده فلم يتأخر عذابهم ولم يقع على بعضهم ، وسبب تعجل العذاب على أثر خروج النبي هو إذا وقع متأخرا يظن المعذبون أنه طارئ عادي ليس لإغضابهم أنبيائهم ، تدبر ، لهذا فان المرضي الذي لا غبار عليه ولا طعن فيه هو ما ذكرناه اولا من أن الآيتين مدنيتان ، والسبب في نزولهما هو تذكير اللّه نبيه ما أراد به قومه وهو في مكة ، وما ذكر عن اليهود الذين قالوا له إن كنت نبيا فاذهب إلى الشام ، وذلك لأن جميع الأنبياء إما من أرض الشام او هاجروا إليها ، ولهذا توجه لتبوك عند سماعه قولهم ذلك.
قال قتادة إن هذه السورة مكيّة إلا ثماني آيات وهي من قوله (وإن كادوا) إلى (زهوقا) فهن مدنيات وان كان الخفاجي لا يرضى هذا فقد خولف بكثير من أمثاله ، واللّه أعلم.
مطلب مأخذ الصلوات الخمس والجمع بينها :
قال تعالى «أَقِمِ الصَّلاةَ» التي فرضناها عليك وعلى أمتك ليلة الإسراء هذه «لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» أي ميلانها إلى الزوال فتتناول هذه الجملة صلاتي الظهر والعصر ، ويرجح هذا القول بأن كل صلاة صلاها النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأمه بها جبريل عليه السلام هي صلاة الظهر حين علّمه كيفية الصلاة في يومين ، كما أشرنا اليه آخر قصة المعراج المارة ، وما قيل إن المراد غروبها ينافيه قوله تعالى «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» ظلمته لأن هذه الجملة تتناول أيضا المغرب والعشاء ، فال النّضر بن شميل غسق الليل دخول أوله قال الشاعر :
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
ويطلق على ظلمة الليل قال زهير بن أبي سلمى :
ظلّت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الاظلام والغسق(2/542)
ج 2 ، ص : 543
وما استدل به بعضهم على أن الدلوك بمعنى غياب الشمس من قول ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالاملاك الدوالك
لا يكون نصا في معنى الغياب لأنه يكون بمعنى الميل والنجوم تميل بسيرها ، لأن أصل مادة ذلك تدل على الانتقال وفي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها ، وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها بحسب مانراه ، وكذلك الدلك المعروف هو انتقال اليد من محل إلى آخر ، وليعلم أن كل كلمة أولها دال ولام مع قطع النظر عن آخرها تدل على ذلك مثل دلج من الدلجة وهو سير الليل ومنه دلج الدلو إذا مشى بها من رأس البئر إلى المصب ودلج بالماء إذا مشى به مشيا ثقيلا ودلع إذا أخرج لسانه ودلف إذا مشى مشية المقيد ودلق إذا أخرج المائع من مقره ودله إذا ذهب عقله «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» صلاته لأنها لا تجوز بلا قراءة «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» 78 من ملائكة الليل والنهار لأنه آخر الليل وأول النهار ، ولهذا فضل بعضهم صلاة الغلس على صلاة الأسفار ، وان الصلاة في وقتها أفضل ، وهذه الآية الكريمة هي مأخذ الصلوات الخمس التي فرضها اللّه تعالى على حضرة الرسول وأمته في هذه السورة في ليلة المعراج الشريف ، ونظير هذه الآية الآية 130 من سورة طه المارة والآية 18 من سورة الروم في ج 2 هذا ومما يؤيد فرضية الصلاة في نزول هذه الآية وكونها في السنة العاشرة ، كما قال الزهري أنها في السنة الخامسة لا كما قدمنا البحث فيه في قصة المعراج المارة ، وإن مما يقدح في قوله أن خديجة رضي اللّه عنها لم تصل الصلوات الخمس وأن أبا طالب لم يدرك الإسراء ولم يبلغه شيء عنه ولو كان حيا لرجع اليه قومه حين أنكروه على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأنّبوه ورموه بما رموه من أجله لأنه توفي في 15 شوال سنة 10 من البعثة
التي أولها شهر رمضان وقد وقع الإسراء في 27 رجب سنة 10 وتلته خديجة بعد ثلاثة أيام كما ذكرناه قبل ، تنبه.
روى البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا ، وتجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية وليعلم(2/543)
ج 2 ، ص : 544
أن ليس المراد باقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين ، أي دلوك الشمس وغسق الليل على وجه الاستمرار ، بل إقامة كل صلاة في وقتها المعين لها ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة ، كما أن اعداد ركعات كل صلاة موكول إلى بيانه عليه الصلاة والسلام ، وقدمنا ما يتعلق بهذا البحث أيضا آخر قصة المعراج المارة أول هذه السورة ، وقد استدل بعضهم في هذه الآية على جواز جمع الظهر مع العصر ، والمغرب مع العشاء ، وبقاء الصبح وحدها لانفصالها بالآية وذكرها وحدها بلا عذر ، وهو خطأ إذ لا خبر صحيح بجواز ذلك ، وإذا لم يضمّ إلى هذه الآية بشيء يفسرها من أقوال حضرة الرسول على صحة ما قاله ذلك البعض لا يصلح الأخذ به ، لأن الاستدلال بظاهرها ومفردها على جواز الأربعة جميعها ، لأنها عبارة عن جملة واحدة أولى من الاستدلال على جمع اثنتين اثنتين ، ولا قائل بجمع الأربع البتة ، وان حديث ابن عباس المثبت في صحيح مسلم من أنه صلّى اللّه عليه وسلم صلّى الظهر والعصر جمعا بالمدينة ، وفي رواية أنه صلّى ثمانيا جمعا وسبعا جمعا من غير خوف ولا سفر هو صحيح لا غبار عليه ، إلا أنه لم ينف المرض والمطر ، لأن الجمع فيهما جائز تقديما وتأخيرا على مذهب الشافعي رضي اللّه عنه ، وتقديما فقط في الجديد بسبب المرض أو المطر ليس إلا ، ولا يليق أن يؤول الحديث المذكور بخلاف هذا ، وما جاء عنه أيضا في صحيح مسلم في رواية أخرى من غير خوف ولا مطر أي لا مطر كثير يمنع من المشي إلى الجامع بسهولة ، يدل على هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال ، فإذا كان المطر لم يبلغ ذلك فلا يمنع ولا يصح الجمع ، ولم ينف هذا الحديث أيضا المرض تدبّر ، بما يدل على أن جمعه ذلك الوارد في حديث مسلم كان بسبب المرض ، إذ لا قائل بالجمع دون سبب أصلا.
على أن الجمع لم يقل به أبو حنيفة مطلقا فيما عدا عرفات ومزدلفة لضيق الوقت
في ذلك الازدحام الذي يعرفه من شاهده ليس إلا ، لعدم تثبته رضي اللّه عنه من صحة ما ورد فيه ، وأن الجمع المروي عنه صلّى اللّه عليه وسلم حال العذر عبارة عن تأخير الأولى لآخر وقتها فصلاها فيه ، ولما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت هذه الصورة صورة جمع ، ويحمل عليه قول من رآه صلّى ثمانيا(2/544)
ج 2 ، ص : 545
أو سبعا ، أو أنه جمع بين الوقتين ، ولهذا قال الترمذي في آخر كتابه ليس في كتاب حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر ، أي أنه لم يبين فيه المرض ولا قلة المطر غير المانع من المشي بسهولة ، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ، ولا يقال لمثل هذا الحكيم الترمذي إن قوله ناشىء من عدم تتبعه بل هو ناشىء من شدة تتبعه ، ولذلك قال ابن الهمام إن حديث ابن عباس معارض بما في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى.
مما يدل على أن حديث ابن عباس فيه مقال ، وإن كان في صحيح مسلم ، كما أن حديث شريك بن نمر الذي رواه عن أنس بن مالك في قضية الإسراء فيه مقال ، حتى قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديث شريك الذي أشرنا إليه في الآية 18 من سورة والنجم المارة والآية 10 من سورة الجن أيضا ، وفي مطلع هذه السورة في بحث الإسراء.
وقال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين قد زاد شريك فيه زيادة مجهولة ، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة.
هذا ، وهو في مسلم والبخاري وعن أنس أيضا ، فلا يبعد أن يكون ما رواه مسلم عن ابن عباس زيد فيه أيضا ما زيد.
ومن قال إنه تأويل (قرآن الفجر) بصلاته خلاف ظاهر الآية ولا يجوز الصرف عن الظاهر إلا بدليل ، فيقال له إن الدليل موجود وهو قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) وقرآن الفجر معطوف عليها ولم يشتهر أقم القراءة بل أقم الصلاة.
مطلب في التهجد والمقام المحمود وما نسب لإبراهيم وصلاة التراويح :
وما احتج به من ضمير (به) في قوله عز قوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ» يجوز رجوعه إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى ، ويجوز رجوعه إلى الصلاة أيضا المعبر عنها بالقرآن ، لأنها ركن من أركانها كما عبر عنها بالركوع والسجود ، وعود الضمير من (به) إلى الصلاة أولى لأن التهجد هو الصلاة بعد النوم ، ولا تسمى الصلاة تهجدا إلا إذا كانت بعد النوم وفي الليل ت (35)(2/545)
ج 2 ، ص : 546
خاصة «نافِلَةً لَكَ» زائدة على سائر الصلوات.
روي عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ثلاث هي عليّ فريضة وهي سنة لكم :
الوتر والسواك وقيام الليل.
وروي عن الحجاج بن عمر والمازني أنه قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد ، إنما التهجد الصلاة بعد الرّقاد ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، هكذا كانت صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» 79 من قبل أهل السموات والأرض.
واعلم أن عسى هنا وفي كل موضع من القرآن إذا كانت من اللّه تكون بمعنى الإيجاب التفضّلي ، لأن معناها الإطماع ، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه منه كان عارا عليه ، واللّه أكرم من أن يطمع أحدا بشيء ثم لا يعطيه إياه ، والمقام المحمود وهو مقام الشفاعة العظمى العامة الذي اختصه اللّه تعالى به يحمده عليه الأولون والآخرون ، وناهيك أن اللّه تعالى سماه محمودا.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك ، ثم موسى فيقول كذلك ، ثم محمد فيشفع فيقضي اللّه بين الخلائق ، فيمشي حتى يأخذ بخلقه باب الجنة ، فيومئذ يبعثه اللّه مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم.
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما نبي يومئذ ، آدم فمن سواه إلا تحت لواني ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، فيفزع الناس ثلاث فزعات ، فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك ، فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض ، ولكن ائتوا نوحا ، فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتون إبراهيم فيقول كما جاء في عبارة الترمذي إني كذبت ثلاث كذبات ، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين اللّه أي (ناضل ودافع) وهي من باب المعاريض لأن الأولى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) الآية 19 من سورة الصافات في ج 2 ، ومعناها مريض القلب من تماديكم على الكفر وعدم التفاتكم إلى خالقكم ، والثانية قوله(2/546)
ج 2 ، ص : 547
(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الآية 62 من سورة الأنبياء في ج 2 ، وذلك على طريق الاستهزاء بهم والسخرية من عقيدتهم بالأوثان ، والثالثة قوله للجبار حينما سأله عن زوجته سارة هذه أختي يريد أنها أخته في الخلقة والدين ، وعلى هذا فلا شيء يعد منها كذبا صراحة.
وقالوا في المعاريض مندوحة عن الكذب ، ولكنه إذ كان من أهل العزم المطلوب منهم التصريح بما لا يحتمل التأويل فيعد مثل هذا منهم ذنبّا على حد (حسنات الأبرار سيئات المقربين) ولكن ائتوا موسى ، فيأتون موسى فيقول إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى ، فيأتونه فيقول إني عبدت من دون اللّه تعالى ولكن ائتوا محمدا ، فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها ، فيقال من هذا ؟ فأقول محمد ، فيفتحون لي ويقولون مرحبا ، فأخرّ ساجدا للّه ، فيلهمني تعالى من الثناء والحمد والمجد ، فيقال إرفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك ، فهو المقام المحمود الذي قال اللّه تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) الآية.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إن لكل نبي دعوة مستجابة ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ، فهي نائلة منكم إن شاء اللّه ، من مات لا يشرك باللّه شيئا.
وروى مسلم عن جابر بن عبد اللّه قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من قال حين يسمع النداء أللهم ربّ هذه الدعوة النامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة.
وتقدم في سورة والضحى ما يتعلق في هذا البحث فراجعه ، وفي الآية 17 من سورة المزمل المارة تقدم ما يتعلق في قيام الليل بصورة مفصلة ، وسنذكر هنا بعض الأحاديث الواردة فيه.
روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال : قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حتى انتفخت قدماه ، فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا.
ولفظ أبي داود في رواية مسلم عن زيد بن خالد الجهني قال :
لأرمقنّ صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الليلة ، فتوسدت عتبته أو فسطاطه ، فقام فصلى ركعتين خفيفتين ، ثم صلّى ركعتين طويلتين كررها ثلاثا ، ثم صلّى ركعتين ، دون التي قبلها كررها ثلاثا أيضا ، ثم أوتر ، فذلك ثلاث عشرة ركعة.
وروى(2/547)
ج 2 ، ص : 548
البخاري ومسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في رمضان ؟ قالت ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثا.
قالت عائشة فقلت يا رسول اللّه أتنام قبل أن توتر ؟ فقال يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي.
ورويا عنها أيضا قالت كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة ، يسلم بين كل ركعتين وبوتر بواحدة ، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن بالإقامة.
ومن هنا أخذ الشافعي رحمه اللّه الضجعة بين سنة الفجر وفرضه ، وسماها بعضهم ضجعة القبر ، أي أنها تذكره بها ، ومن هنا أخذت أيضا صلاة التراويح في رمضان التي يسميها بعضهم سنة عمر رضي اللّه عنه وإنما هي سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وإن عمر رضي اللّه عنه أخذها عنه إلا أنه صلاها جماعة في رمضان ، وكان النبي يصليها وحده ، لهذا سموها سنة عمر نور اللّه قبره كما نور مساجدنا بذلك.
وأخرج أبو داود والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قمت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ ، ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ، ثم سجد بقدر قيامه ، ثم قال في سجوده مثل ذلك ، ثم قام فقرأ بآل عمران ، ثم قرأ سورة النساء.
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت : قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بآية من القرآن ليلة يكررها.
وروى البخاري ومسلم عن الأسود قال : سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول اللّه من الليل ؟ قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه ، فإذا أذن المؤذن وثب فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج.
وأخرج النسائي عن أنس قال : ما كنا نشاء أن نرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في الليل مصليا إلا رأيناه ، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه.
أي أنه كان لا يوقّت وقتا لنومه(2/548)
ج 2 ، ص : 549
وصلاته ، وزاد في رواية غيره ، كان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا ، ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا.
فهذا حال رسول اللّه أيها الناس وهو على ما هو عليه من الرفعة والأمن من اليوم الآخر ، فكيف أنتم هل أديتم بعض حقوق اللّه وهل قمتم ببعض واجباته أو واجبات خلقه أو أتيتم ما فرضه عليكم ؟
كلا بل لا زلتم على ما أنتم عليه من الضعة غافلين عما يراد بكم في ذلك اليوم العظيم ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
قال تعالى «وَقُلْ رَبِّ» حذف منه ياء النداء أي يا محمد قل في دعائك إذا دعوتني يا رب «أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ» في كل مكان أدخل فيه وكل زمان أصير إليه وكل أمر ألج فيه من أمور الدنيا والآخرة ، وقرىء هنا وفيما بعد مدخل بفتح الميم إذ يجوز أن يكونا اسمى مكان وانتصابهما على الظرفية ويجوز أن يكونا مصدرين منصوبين بفعل من نوعهما «وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ» كذلك على العمومية في الجملتين ، لأن جعلهما عامتين أوفق لظاهر الآية لفظا ، وقد خصهما بعض المفسرين في القبر أو في مكة أو المدينة أو الجنة أو في تعاطي المأمورات واجتناب المنهيات وغير ذلك دون استناد لدليل يفيد التخصيص ، مع أن سابق اللفظ ولا حقه مما تقدم عن هاتين الجملتين أو تأخر لا يختصان بمكان أو زمان دون زمان ومكان آخرين ، والمعنى يا رب أدخلني إدخالا مرضيّا على طهارة وزكاة في كل أموري ، وأخرجني إخراجا مرضيّا ملقى بالكرامة آمنّا من الملامة في جميع أحوالي ، ويؤيد معنى العموم قوله جل قوله «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» 80 على من خالفني ولم يؤازرني وارزقني حجة قوية على من يحاججني وبرهانا مؤزرا على من يخاصمني في أمرك ، ودليلا قاطعا على من يجادلني في دينك.
هذا ، وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما أمر حضرة الرسول بالهجرة وطلب إخراجه من مكة آمنا من أذى قومه الذين كلفوه بالخروج ، أو حينما خرج من الغار سالما قال وأدخلني المدينة آمنا أو وأدخلني مكة فاتحا أو غير ذلك ، فقيل لا مستند له واحتمال المعنى لهذا لا يعني أنها نزلت فيه ، وقد دعا صلّى اللّه عليه وسلم وأجاب اللّه دعاءه بقوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية 67 من المائدة ، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الآية الأخيرة من سورة(2/549)
ج 2 ، ص : 550
المجادلة ، ومثلها الآية 65 من المائدة ، وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الآية 24 من سورة التوبة إلى غيرها من الآيات في ج 3 كالآية 8 من سورة الصف والآية 5 من سورة النور وغيرها.
قال تعالى «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ» الصريح من قبل اللّه تعالى وهو هذا الدين الراسخ المستمد من كلام اللّه المنزل عليّ لآمركم بالإيمان به «وَزَهَقَ الْباطِلُ» اضمحل وانمحق ، وهلك الباطل الذي تدينون به والشرك الذي تزعمونه ، وبطلت عبادة الأوثان والشيطان وغيرها.
يقال زمقت نفسه إذا خرجت من الأسف.
روي البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال : دخل النبي صلّى اللّه عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلّى اللّه عليه وسلم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه ، فيقول (جاءَ الْحَقُّ) الآية «إِنَّ الْباطِلَ» مهما كان أمره «كانَ زَهُوقاً» 81 زائلا سريع الزوال ، ومهما صارت له دولة وصولة ، فإنه لا يدوم ، لأنه ظلم والكفر مع العدل قد يدوم ، والظلم مع الإيمان لا يدوم.
قال تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الآية 117 من سورة هود في ج 2 ، وهذا آخر الآيات المدنيات الثماني وفسرناها على كونها مدنيات وذكرنا ما يحتملها من التفسير على القول بأنها مكيات ، وبينّا ما فيه.
مطلب الاستشفاء بالقرآن على نوعين وثالثهما العقيدة :
قال تعالى «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» من أمراض القلوب وبيان من الضلالة والجهالة ، يتبين به المختلف فيه ، ويتضح به المشكل ، ويستشفى به من الشبهات ، ويهتدى به من الحيرة.
وليعلم أن الأمراض التي يستشفى لها بالقرآن نوعان الأول الاعتقادات الفاسدة في الذات المقدسة والصفات المطهرة والنبوات المعظمة والقضاء والقدر والبعث بعد الموت ، فالقرآن العظيم مشتمل على دلائل المذهب الحق فيها كلها ومصرح على إبطال المذاهب الفاسدة منها ، فلا جرم أن القرآن الكريم خير(2/550)
ج 2 ، ص : 551
شاف لما يحوك في القلوب ويتردد في الصدر من هذه الأمراض ولا طب لهذه الظنون الخبيثة إلا الأخذ بكتاب اللّه وسنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلم وأقوال الفقهاء العارفين.
النوع الثاني الأخلاق المذمومة كالكذب والزنى والقمار والقتل والتعدي على الغير والربا وأكل الحرام وأكل مال اليتيم والغيبة والنميمة والتجسس والغمز واللمز وتطفيف الكيل والوزن والذرع والغضب والحدة والحمق وغيرها مما شاكلها ، فإن القرآن الجليل لا شك أعظم شاف منها وخير منفّر عنها وأحسن مرشد لاجتنابها والأخذ بأضدادها من الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والخصال المحمودة ، كالوفاء والسماح والعفو ولين الجانب والتؤدة والصبر وخفض القول والعفاف والصفح والكظم وشبهها مما يضاهيها ، فلا دواء لها أنفع من الأخذ بآيات القرآن وسنن المنزل عليه.
أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال إني أشتكي صدري فقال عليه الصلام والسلام اقرأ القرآن يقول اللّه تعالى (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الآية 57 من يونس في ج 2.
وأخرج البيهقي في الشعب عن وائلة ابن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وجع حلقه فقال عليك بقراءة القرآن.
والأخبار في هذا كثيرة جدا وأقوال العارفين والعلماء العاملين تشير إلى ذلك أيضا ، وقد جرّب هذا فنفع من كان له إيمان وعقيدة راسخة ، أما من لم يعتقد به فهو عليه وبال ، راجع الآية 43 من سورة فصلت في ج 2 ، أما الأمراض الجسمانية فهي نوعان أيضا : ظاهرة كالجروح والدماميل والكسور وما شابهها فهذه لا بدّ لها من التداوي بالعقاقير المجربة لمثلها والتضميد وغيره ، وباطنة كمرض الأمعاء والرئة والمثانة والكلى والكبد والطحال وغيرها ، فكذلك لا بد لها من النداوي عند الأطباء الحاذقين المجربين المؤمنين ، ولا بأس من التداوي عند غيرهم من أهل الكتاب عند فقدهم لأن الضرورات تبيح المحظورات ، ولكن الضرورة تقدر بقدرها لأن هذين النوعين مباينين للنوعين الأولين ، أما الأمراض الأخرى كالفتور والخدر والفلج وضرب الرأس وبعض أنواع الجنون واعتراء الوهم والوسواس وما أشبه ذلك فيجوز أن يعرضها على الأطباء الحاذقين بها وعلى حملة كتاب اللّه العارفين الأمناء فإن قراءة القرآن والتعاويذ به تدفع وتنفع لأمراض كثيرة وتشفي من علل وافرة ،(2/551)
ج 2 ، ص : 552
وهذا لا يمنع من التداوي لها بالعقاقير وما يصفه الأطباء ، إذ قد يجوز بآن واحد أن يستعمل المريض الدواءين المادي والمعنوي الاعتقادي.
ويؤمر المصاب بتعاطي الأسباب من الدواءين لأن الرسول حث على التداوي ، فقال تداووا عباد اللّه فإن اللّه لم يخلق داء إلا وخلق له دواء.
لا سيما الكسور والجروح والإمساك والانطلاق ، وقد وصف صلّى اللّه عليه وسلم عسلا لمنطلق بطنه ولم يقل له اقرأ عليه القرآن مع أنه بتقدير اللّه شاف لكل شيء ، وقد وقع من بعض الأنبياء والأولياء العارفين من ردّ العين بعد العمى وجبر اليد بعد الكسر وشفاء الأبرص والأكمه بل وإحياء الموتى على طريق خرق العادة وهو ممكن بإذن اللّه على يد من وفقه اللّه.
والقاعدة أن ما جاء على خلاف القياس لا يقاس عليه وهذا منها ، وما جاء من قوله صلّى اللّه عليه وسلم من لم يستشف بكتاب اللّه فلا شفاه اللّه.
فليس على إطلاقه كما ذكرنا ومما يستشفى به من القرآن العظيم للدفع والرفع تلاوة الفاتحة لكثرة الأحاديث الواردة فيها وآية الكرسي لأنها أعظم آية في القرآن وآيات الشفاء الست وهي : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) الآية 14 من سورة التوبة (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الآية 56 من سورة يونس (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الآية 79 من سورة النحل في ج 2 والآية المفسرة هذه (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الآية 80 من الشعراء المارة و(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) الآية 44 من سورة فصلت في ج 2 فقد قال السبكي جرّبت كثيرا من المرضى بتلاوتها عليهم فنقعت بإذن اللّه.
وقال القشيري إنه مرض له مريض قد أيس من حياته فرأى اللّه عز وجل في منامه فشكا له سبحانه ذلك ، فقال له اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه اللّه تعالى.
ومنها قصة الأبوصيري صاحب البردة المشهورة ، ومنها المغفور له الشيخ أمين الجندي الحمصي المتوفى في شوال سنة 1257 تغمده اللّه برحمته إذ كان مبتلى بداء عضال أعيا الأطباء فنظم قصيدته المشهورة واستغاث فيها إليه تعالى وتوسل بجاه رسوله صلّى اللّه عليه وسلم فشفاه اللّه وكان مطلعها :
توسلت بالمختار أرجى الوسائل نبي لمثلي خير كاف وكافل(2/552)
ج 2 ، ص : 553
وكثير ممن ابتلي بداء أعجز الأطباء فيشفيه اللّه تعالى بالرقيا ، والأطباء المنصفون يعترفون بأن من الأمراض ما يشفى بخاصة ما روحانية كما فصله الأندلسي في مفراداته وداود في الجلد الثاني من تذكرته ولا يعبا بمن ينكر ذلك ، لأنه إنكار للمحسوس وجحد للظاهر.
قال الراوي اشتكى محمد بن السماك فأخذنا ماءه وذهبنا به إلى طبيب نصراني فاستقبلنا رجل حسن الوجه طيب الرائحة ، فقال لنا إلى أين ؟
قلنا له إلى فلان الطبيب نريه ماء ابن السماك ، فقال سبحان اللّه تستعينون على ولي اللّه بعدو اللّه اضربوه على الأرض وارجعوا إلى ابن السماك وقولوا له ضع يدك على موضع الوجع وقل (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ثم غاب عنا فلم نره ، فرجعنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك فوضع يده على الوجع وقال ذلك فعوفي في الوقت ، فقال لهم إن ذلك الرجل هو الخضر عليه السلام ، أما ما رواه أبو داود من حديث جابر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان.
فعلى فرض صحة هذا الحديث فإن النشرة التي قال فيها حضرة الرسول ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية ، وهي أنواع شتى منها ما يكون بالودع ، ومنها ما يفعله أهل التعزيم من قراءة أشياء غير معلومة المعنى أو كتابتها أو سقيها مما لم يرد به شيء من السنة ، لا مثل التي فعلها القشيري ، لأنها عبارة عن آيات اللّه من كتابه المأمور بالاستشفاء به ، قال مالك عليه الرحمة لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء اللّه تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها ، وكلمة لا بأس لا تختص بخلاف الأولى بل قد تكون للاستحباب والوجوب أيضا كما صرح به العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدر ، وقد وردت السنة بالرقيا من العين كما مر تفصيله في الآية 51 من سورة القلم المارة وكما سيأتي في الآية 66 من سورة يوسف في ج 2 ، وقال ابن المسيب يجوز تعليق المعوذة من كتاب اللّه تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع وعند الغائط ، ورخص الباقر في المعوّذة تعلق على الصبيان مطلقا.
وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان كبيرا كان أو صغيرا مطلقا.
وعذا الذي توارثه الناس أبا عن جد من لدن حضرة المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم وإلى يومنا هذا هم عليه دائبون وبه متمسكون في جميع الأمصار ، ولم يعارض به إلا(2/553)
ج 2 ، ص : 554
كل متكبر جبار ، ضعيف الإيمان قليل العقيدة بآيات اللّه التي هي فضل منه «وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» به وتفريج للكروب وتطهير للعيوب وتكفير للذنوب ، وجدير بأن تكون كذلك لما فيها من شفاء الأمراض الباطنة والظاهرة المار تفصيلها وغيرها.
واعلم أنه كما يكون كتاب اللّه رحمة للمؤمنين فهو عذاب للكافرين بدليل قوله عز قوله «وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ» أنفسهم بالكفر به وجحوده وتكذيب المنزل عليه «إِلَّا خَساراً» 82 في الدنيا وضلالا مزدوجا يرى سوء عاقبته في الآخرة ، قال قتادة لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاء اللّه الذي قضى ، وتلا هذه الآية ، ونظيرتاها في المعنى الآية 45 من سورة فصلت في ج 2 والآية 12 من الأحقاف أيضا ، وفي هذه الآية تعجيب من أمر القرآن لكونه بآن واحد نور لقوم ، ظلمة لآخرين ، شفاء لأناس ، هلاك لغيرهم ، علم لأناس ، جهل لآخرين ، وقيل في المعني :
كماء المزن في الأصداف درا وفي ثغر الأفاعي صار سما
وسيأتي زيادة تفصيل في تفسير آية فصلت المنوه بها أعلاه ، وقدم الشفاء في هذه الآية على الرحمة لأن الشفاء يكون للتخلية ، والرحمة تكون للتحلية ، والتخلية مقدمة على التحلية لأنها أهم منها ، قال تعالى «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ» من كمال فضلنا وعظيم جودنا وكثير عطائنا وفيض رحمتنا بأن وسعنا طرق خيرنا عليه ، فأعطيناه رحمة كاملة ومالا كثيرا وجاها وسلطانا وأولادا وخدما وعقارات «أَعْرَضَ» عنا وغفل عن ذكرنا ولم يدعنا ، وأظهر الاستغناء عنا كأن ما حصل عليه من ذلك من كسبه وتدبيره لا بتوفيقنا «وَنَأى » أعرض لفرط جهله وعتوه وعناده ، فتراة طوى كشحه ولوى عنقه وأدبر موليا عنا ، وهذا تأكيد للإعراض لأن المعرض عن الشيء يوليه ظهره ويصد بوجهه ويتباعد عنه «بِجانِبِهِ» مبالغة في عدم التقرب إلى اللّه تكبرا وتعاظما ، وكان عليه أن يقوم بما أنعمنا به عليه من أداء الشكر الواجب عليه بمقابل فضلنا المترادف عليه ، لكنه لم يفعل لانه مجبول على الكفران ومقطور على النسيان ومطبوع على النكران ، وما ذكره بعض أهل المعاني من أن التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم ، وقرأ ابن(2/554)
ج 2 ، ص : 555
عامر برواية ابن ذكوان/ وناء/ في هذه الآية والآية 57 من فصلت في ج 2 ، وهذا من باب القلب ووضع العين محل اللام مثل رأى وراء وناء بمعنى نهض كما في قوله :
حتى إذا ما التأمت مفاصله وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوكئا على شماله وتفسير نهض هنا بأسرع لمناسبة المقام ، أي أسرع بصرف جانبه أو بمعنى تثاقل عن أداء شكرنا كأنه مستغن في ذاته مستقل في أمره بحيث لا يخطر على باله احتياجه إلى ربه «وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ» المرض والضيق والذل والإهانة والفقر والخذلان والرق والحرمان من المال والولد والخدم ونحو ذلك من أنواع الشدائد وأصناف النوازل «كانَ يَؤُساً» 83 قنوطا آيسا من رحمة اللّه لقلة يقينه وضعف دينه ، وذلك لأنه لم يحسن معاملته مع خالقه في الرخاء حتى يرجو فضله في الشدة.
وقد جاء في الحديث تعرف إلى اللّه بالرخاء يعرفك في الشدة.
فلو عرف نعمة اللّه وأدى شكرها لما مسه ضره ، ولدعاه فاستجاب دعاءه في كشفه ، ولو رجع إليه مخلصا لقبله على ما كان منه ، وقد جاء في الحديث القدسي رواه الترمذي عن أنس رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول اللّه تعالى :
يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة.
وقيل في هذا المعنى :
أناس أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا
فإن عادوا لنا عدنا وإن خانوا فما خنا
وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى
أما من تكاثفت ظلمات قلبه فقد حيل بينه وبين الرضاء ، وحال عتوه وشقاؤه دون ما يطلبه ويتمناه ، وهؤلاء قد ينطبق عليهم تفسير الآية الأخيرة من سورة سبأ في ج 2 فراجعها ، واعلموا أيها الناس أن اللّه تعالى هو الغني عنكم وأنتم الفقراء إليه ، وان اللّه هو القوي عليكم وأنتم الضعفاء عنده ، فاستكينوا إليه ووحدوه يرسل لكم خيره ويدفع عنكم شره ، وإلا إذا كان شركم إليه صاعدا وخيره إليكم(2/555)
ج 2 ، ص : 556
نازلا ولم تقوموا بحقه فأبشروا بالدمار.
وإن في إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الانعام إليه تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك ، وهذا هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة واللطف الشامل وإليه الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه وسلم أللهم إن الخير بيدك والشر ليس إليك.
وإن كل نعمة لا يشكرها العبد أو يستعملها في معصية المنعم فمصيرها الزوال في الدنيا والعذاب في الآخرة.
مطلب الكفران يزيل النعم وذات الإنسان تقتضي الطاعة فطرة :
قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة إبراهيم في ج 2 ، وبعد أن ذكر سبحانه حال القرآن بالنسبة للمؤمن والكافر وبيّن حال الكافر في حالتي الإنعام وضده ، ذكر ما يصلح جوابا لمن يقول لم كان كذلك بقوله جل قوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهذا السائل أو قل أيها المسئول عن ذلك «كُلٌّ» من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي واليائس «يَعْمَلُ» عملا «عَلى » حسب «شاكِلَتِهِ» حالته وطريقته ومذهبه وطبيعته التي جبل عليها بل التي خلق إليها لما جاء في الحديث الصحيح اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، فمن كان مخلوقا للشر فمهما عمل من طرق الخير فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الشر ويموت عليه ، لأن عمله الخير لم يكن خالصا للّه تعالى مهما ادعى الإخلاص فيه ، ومن كان مخلوقا للخير فمهما عمل من فنون الشر فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الخير ويموت عليه ، لأن عمله الشر كان في غير رغبة منه ورضى وكان يعقبه الندم والندم استغفار والاستغفار توبة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) الآية 25 من الشورى في ج 2 ، حيث ختمها بقوله (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من خير أو شر ونياتكم فيهما وما يؤول عملكم فيهما إليه ، فعمل الإنسان يشاكل نفسه ويشابهها في الحسن والقبح ويناسب جوهره فيهما ، فإذا كان شريفا صدرت عنه الأعمال الجميلة والأخلاق النبيلة والآداب الكاملة والأطوار الذكية والأحوال المرضية والأفكار الزكية ، وإن كانت نجسة خبيثة نشأ عنه الأفعال الردية والأخلاق الفاسدة والعوائد السيئة والأمور القبيحة والأطوار الرذيلة ، وهذه اللفظة مأخوذة من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير ، يقال لست من شكلي(2/556)
ج 2 ، ص : 557
ولا على شاكلتي ، أما بكسر الشين فمعناه الهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة ، وظاهر عبارة القاموس أن كلا منها يطلق على الآخر «فَرَبُّكُمْ» أيها الناس الذي برأكم وجعلكم هكذا متشابهين في الصور متخالفين في الطبائع والأعمال ورباكم على ما أنتم عليه وفق ما هو مدون في كتابه المحفوظ «أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى » أسد منكم وأوضح وأعدل «سَبِيلًا» 84 وأحسن طريقا ومذهبا وأتباعا ومنهجا من غيره وأرضى عقلا وعملا عنده ، قال تعالى (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) الآية 58 من الأعراف المارة ، وقد جاء في الحديث الصحيح السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه ، قالوا فما فائدة العمل يا رسول اللّه ؟ قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له.
هذا ، وقد فسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة وهي رواية عن ابن عباس ، وفسرها بعضهم بالعادة لأن الطبيعة مقيدة وسلطانها على ربها ظاهر ، وهذا السلطان ضابط له وقاهر ، ولأن العادة محكمة ومن المشهور على ألسنة الجمهور العادات قاهرات ، وفسرها بعضهم بالدين وهو دون التفسيرين الأولين وهما دون الأول ، قال الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال وهو من فلاسفة الإسلام المتصدرين برأيهم للجمع بين الشريعة والفلسفة.
إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة ، واقتضاؤها المعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجري المرض والخروج عن الحالة الطبيعية ، فيكون ميلها للمعصية الكائنة على خلاف طبيعتها ، مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين.
وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصّا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب ، كما أن الصحة منها ، ومن هذا المرأة الحامل زمن الوحام قد تأكل الطين وأشياء لا تؤكل عادة ، وذلك بسبب ما يعتريها من انحراف المزاج في بداية حملها ، وقد جاء في الحديث القدسي إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.
وجاء في الأثر كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
أي بواسطة الشياطين المخالطين له فعلا في الظاهر أو الموسوسين له معنى وخلسة(2/557)
ج 2 ، ص : 558
بما يعم شياطين الإنس والجن الذين أمرنا اللّه تعالى بأن نتعوذ منهم.
قال تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ـ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) السورتين المارتين ، وقال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية 112 من سورة الأنعام في ج 2 ، أو أنها كناية عن العوارض الغريبة ، فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصوا اللّه تعالى ، ولبقوا على فطرتهم ، لكن مسهم الشيطان فأفسد عليهم فطرتهم الأصلية ، فاقتفوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهيّ الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه :
ولو لا المزعجات من الليالي لما ترك القطا طيب المنام
وإذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات اللّه ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية ، ومقتضى ذواتهم البهية ، ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم ، ولهذا قيل الأنبياء أطباء ، وهم أعرف بالداء والدواء.
ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لو لا أن وجدوا من ذواتهم قبولا بعروضها لهم ورخصة في لحوقها بهم لم يكونا يعرضان لهم ولا يلحقانهم ، فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة بجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة ، أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها ، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافيه لهم ، فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمر آخر.
وانظر إلى طبيعة الأرض التي تقتضى يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها ، فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من آخر ، والإنسان عند عروض فعل هذا المنافي ملتذّ متألم ، سعيد شقي متلذذ ، ولكن لذته ألمه ، سعيد ولكن سعادته شقاؤه ، وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب ، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا مخلص لكثير من الشبهات في هذا الفعل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي ، وأن لكل شيء أصالة في(2/558)
ج 2 ، ص : 559
نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتيادات لا يقاضى عليه إلا هي ، لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإنابة والتعذيب تابعان لذلك ، فسبحان الحكيم المالك ، فتثبّت أيها الرجل وكن رجلا حازما فقد زلت أقدام أعلام كثيرين كالاعلام في هذا المقام الذي لا ينجو منه إلا التائبون الجازمون بما هو كائن عند اللّه من أعمال وأفعال وأقوال وأحوال ، وإن ما هو مدون عنده أزلا للعبد لا بد وأن يدركه لا محالة ، راغبا كان أو راهبا ، راضيا أو ساخطا.
فنسأله تعالى أن ينور قلوبنا ويسدد أفهامنا ويثبت أقدامنا ويقنعنا بما كتب لنا ويرضينا بما قسمه لنا ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الرحمن عبد اللّه بن مسعود من حديث صحيح : إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
فتأمل هذا حق التأمل وانظر كيف يقسم حضرة الرسول في حديثه هذا الذي صدره بقوله فو اللّه الذي لا إله إلا هو ، ثم ساقه.
فتمسك به وتلقّه بالقبول وسل اللّه الثبات والرسوخ في الإيمان.
مطلب أرجى آية في القرآن للمغفرة ، وبحث الروح :
واعلم أن رؤساء الاصحاب رضي اللّه عنهم تذاكروا فيما بينهم عن أي آية في القرآن أرجى للغفران ، فروي أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه قال : لم أر في القرآن أرجي من هذه الآية ، أي التي نحن بصددها إذ لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران.
وقال عمر رضي اللّه عنه : لم أر أرجى من الآية التي فيها قوله جل قوله (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) الآية الثانية من سورة المؤمن في ج 2 ، إذ قدم الغفران قبل قبول التوبة.
وقال عثمان رضي اللّه عنه : لم أر أرجى من قوله تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الآية 50 من سورة الحجر في ج 2 ، لما فيها من إعلان المغفرة للجميع وطلب إعلانها.
وقال علي كرم اللّه وجهه : لم أر أرجى من آية (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا(2/559)
ج 2 ، ص : 560
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)
الآية 54 من سورة الزمر ج 2.
وقدمنا في سورة والضحى المارة عن جعفر الصادق أن أرجى آية في القرآن (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) إلا أنه خصّها بأهل البيت فراجعها ، والمراد هنا ما يعم الكل غير المشرك لورود النص فيه في الآيتين 47/ 116 من سورة النساء في ج 3 ، وهناك اقوال سنأتي بها عند تفسير الآيات المشار بها أعلاه فراجعها ، قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الذي هو مبدأ البدن الإنساني ومبدأ حياته وقوام دوامها وملاك بقائها ، وإنما سألوه عن الروح لأن معرفتها من أدق الأمور التي لا يسع أحد إنكارها ولا يقدر أحد على معرفتها ، لذلك فإن كل أحد يشرئب إلى التعرف عليها ، توفر دواعي العقلاء إليها ، وكلل الأذهان عنها ، ووقوف الفكر ببابها ، فمن وفقه اللّه علم أنها لا تعلم إلا بوحي من اللّه ، والوحي خاص بالأنبياء ، وقد ختم اللّه إرسالهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فيفوض أمر معرفتها إلى اللّه.
ويوقن ويسكت ، ومن خذله اللّه تطرق إلى كل ما يتخيلة ليقف على صورتها ومادتها ، فيرجع خاشئا ، إذ لا طريق إلى ذلك.
وقد زعم ابن القيم أن المسئول عنه في هذه الآية قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) الآية 38 من سورة عم في ج 2 ، وسيأتي في تفسيرها أن الروح هناك يطلق على القرآن وعلى اسم ملك خاص أو صنف من الملائكة أو جبريل عليه السلام ، إذ لا يعلم الروح المسئول عنه في الآية المفسرة إلا اللّه لأنه من الغيب الذي علمه من خصائصه جل شأنه.
واعلم أن الروح كما يطلق على ما ذكر آنفا كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الشورى في ج 2 ، وكما مر في الآية 192 من الشعراء ، يطلق على الروح المركبة في الجسم المرادة في هذه الآية ليس إلّا واللّه أعلم.
أخرج أحمد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال : قالت قريش لليهود أعطونا شيئا لنسأل هذا الرجل ، فقالوا اسألوه عن الروح ، فسألوه فنزلت هذه الآية.
وفي السير عن ابن عباس أيضا أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ، وقال لهم سلوهم ما نسأل محمدا فإنهم أهل كتاب ، عندهم من العلم ما ليس عندنا ، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم ، فقالوا اسألوه عن أصحاب(2/560)
ج 2 ، ص : 561
الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي ، فجاءوا وسألوه ، فبين لهم صلّى اللّه عليه وسلم القصتين الآتيتين في سورة الكهف في ج 2 من الآية 3 إلى 26 ومن الآية 82 إلى 99 ، ولهذا نزلت هذه الآيات بمكة قبل سورتها ، كما سيأتي فيها ، وأبهم أمر الروح إذ لم ينزل عليه فيها شيء يبينها ، وهي مبهمة في التوراة أيضا.
واعلم أن ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال : كنت أمشي مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب ، فمرّ بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح ، وقال بعضهم لا تسألوه ، فقالوا يا محمد ما الروح ؟ فما زال يتوكأ على العسيب ، فظننت أنه يوحى إليه ، فلما نزل الوحي قال (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية ، لا يصح سببا للنزول لأن الآية مكية ولم يستثنها أحد من العلماء ، على أنه يصح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أجابهم بهذه الآية لأنها كانت نازلة عليه وهو في مكة ، على أنه يتمثل ببعض الآيات المكية في المدنية عند مناسبة تتعلق بها ، أما سبب نزولها فهو ما سمعته عن ابن عباس الحديث الأول ، ومما يدل على صحة عدم النزول في حديث ابن مسعود الآنف الذكر قوله فيه : فظننت أنه يوحى إليه ، أي عند ما سكت حضرة الرسول ، على أن حالة الوحي لا تخفى على أحد ، ويوشك أن سكوته كان لتدبر الآية وهيبة لكلام اللّه ، ويؤكد هذا عدم قوله في هذا الحديث فنزلت ، بل قال فلما نزل الوحي قال (ويسألونك) إلخ ، مما يدل على أن كلمة فلما نزل الوحي من عند ابن مسعود رضي اللّه عنه ، وعليه يكون المراد من قوله (فلما نزل الوحي) فلما تذكره وتدبره والكلام يحتمل هذا.
وما قاله بعض المفسرين من أن هذه الآية نزلت مرتين ليجمع بين الحديثين فغير سديد ، إذ لم يثبت أن شيئا من القرآن نزل مرتين ، وقدمنا في مطلع تفسير سورة الفاتحة المارّة وفي أول سورة المدثر المارة أيضا عدم صحة نزول شيء من القرآن مرتين ، وفيه بحث نفيس فراجعه.
«قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم «الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» لم يعط علمها أحدا من خلقه ، لأنها مما استأثر اللّه بعلمه كالخمسة المذكورة آخر سورة لقمان في ج 2 ، وإن معلومات اللّه التي اختص بها نفسه لا يحيط بها علم البشر ، إذ ليس(2/561)
ج 2 ، ص : 562
لها نهاية ، راجع الآية 27 من سورة لقمان أيضا ، وإذا كان اللّه تعالى لم يطلع رسوله على معنى الروح وهو حبيبه وصفيّه من خلقه ، فما بال الناس يبحثون عنها والتعرف إليها ؟ وغاية عقول العوالم فيها عضال ، ونهاية سعي الفلاسفة فيها ضلال ، روي عن أبي هريرة أنه قال : لقد مضى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وما يعلم الروح ، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيتها بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه ، والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك مخلوق مجاور له ، فعليه أن يستدل به على أنه عن معرفة خالقه أعجز.
ولما أيسوا من معرفة الرّوح اختلفوا في معناها ، فقيل إنه جسم دقيق هوائي متشرب في كل جزء من الحيوان ، وقيل هو عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم ، وقيل هو الدم لأن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم ، وقيل هي النفس لأن الإنسان يموت بانحباس نفسه ، وقيل هي اعرض ، وقيل هي جسم لطيف بمثابة الإنسان ، وقيل هي معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء ، ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بهذه الصفات جميعها ، وإذا خرج منه ذهب عنه الكل فلا يوصف بشيء منها ، وسبب هذا الاختلاف ناشيء عن عدم المعرفة بحقيقتها ، لأن المحدود إذا كان لا يعرف كيف يحد وغير المحدود بما يميّزه ، لا يمكن أن يعرف ، وإذا كان كذلك فالأولى أن يوكل علم حد الروح إلى اللّه تعانى كما وكل هو جل شأنه علمها إليه ، وهذا هو ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة «وَما أُوتِيتُمْ» أيها الناس «مِنَ الْعِلْمِ» بشيء من مكونات اللّه تعالى «إِلَّا» علما «قَلِيلًا» 85 جدا لا يذكر في جنب معلوماته.
واعلموا أن ما أوتيتم من العلم لا يمكن تعلقه باحتمال هذا الذي هو من خصائصه ، وفي هذه الجملة معنى النهي عن السؤال عن الروح لعدم تعليمه إلى الرسول.
ومما يدلّ على أن هذه الآية مكّية لا مدنية ، ما أخرجه ابن اسحق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت هذه الآية بمكة ، فلما هاجر الرسول إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد إنا نعجب من قولك ، ألم يبلغنا عنك أنك تقول :
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الآية أفتعنينا أم قومك ؟ قال كلا عنيت.
قالوا إنك تتلو أنا أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ، وتتلو (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ(2/562)
ج 2 ، ص : 563
خَيْراً كَثِيراً)
والحكمة هي التوراة وقد أوتيناها ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم هي من علم اللّه قليل ، وقد آتاكم اللّه ما إن عملتم به انتفعتم.
فأنزل اللّه (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيتين من سورة لقمان أيضا.
ولهذه الحكمة أخّرت هذه الآيات عن سورتها بالنزول لأن السورة نزلت بمكة وهذه الآيات بالمدينة.
واعلم أن معنى كون الروح من أمر اللّه أنها من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصيل مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني ، والمراد بالأمر واحد الأوامر وهو كن ، والسؤال كما ذكرنا هو عن الحقيقة ، والجواب إجمالي مآله أن الروح من عالم الأمر ، مبدعة من غير مادة ، لا من عالم الخلق المبتدع في المادة ، وهو أي هذا الجواب من الأسلوب الحكيم كجواب سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون حينما قال له :
(وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجابه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الآية 25 من سورة الشعراء المارة مشيرا بجوابه هذا إلى أن كنه حقيقة المسئول عنه ما لا يحيط به دائرة إدراك البشر ، وإنما الذي يعلمه البشر عن الإله هو هذا القدر الإجمالي المتدرج تحت ما استثنى مما استأثر به نفسه المقدسة.
وقال ردّا على ما خطر في قلب السائل من اطلاع على معلوماته الضئيلة بقوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (وتفسيره ما تقدم) تستفيدونه من طرق ، فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات ، ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما.
هذا ، ولا شك أن الروح مجردة عن علائق الأجسام ، وأنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد ، يدل عليه قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الآية 29 من سورة الحجر في ج 2 ، وقوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) الآية 170 من سورة النساء في ج 3 ، وان هذه الإضافات تنبه على شرف الجوهر الأسنى وكونه عريّا عن الملابس الحسية.
ومن هذا القبيل قوله صلّى اللّه عليه وسلم (أنا النذير العريان) ففيه إشارة إلى تجرّد الروح عن علائق الأجرام ، وكذلك قوله صلّى اللّه عليه وسلم (خلق اللّه آدم على صورة الرحمن) - وفي رواية على صورته - وقوله عليه السلام (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ففيها إيذان بشرف الروح وقربه من ربه بالذات والصفات ، قربا لا يعرف كيفيته ، مجردا عن علائق الأجرام وعوائق(2/563)
ج 2 ، ص : 564
الأجسام.
واعلم أنه ليس بوسع الإنسان وطاقته أن يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصولها ونوع تكوينها ، فكيف يعلم حقيقة الروح المحببة للجسد بأمر اللّه المحركة له بالإرادة والاختيار التي إذا انفصل عنها مات وانقطعت شعوره وإدراكاته كلها ؟
وكذلك لا يقدر أن يعرف كيفية تعلقها بالبدن ومفارقتها له حالة النوم ، ثم لا بد لنا أن نبحث في حقيقة الإنسان والروح مما لخصه العلماء جزاهم اللّه عنا خيرا ، ونأخذ أصح الأقوال في ذلك ونترك ما وقع من الأخذ والرّد فيها ، وهذا البحث الأول في حقيقة الإنسان.
اعلم وفقك اللّه أن الروح في الجسم الإنساني وغيره عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك ، مختلف بالماهية لهذا الجسم المحسوس ، سار فيه سريان الماء في الورد ، والدهن بالزيتون والسمسم ، والزبد في اللبن ، والدهن في الجواز واللوز والبطم وما أشبهها ، والهواء في البدن والنار في الفحم ، وسريان نور الشمس على مطلق الأضواء ، لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق ، مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا يقبل الفيض الإلهي لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة.
ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان ، إذ أن هذه السراية تفطن الإنسان بأن ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأتها ونمائها منها ليس إلا ، وهذا غاية نهاية ما يمكن أن يتكلم فيه عن الروح ، إذ الاطلاع على كنهها أمر خارج علمه عن طوق البشر ، وليس له أن يبحث عنه ، لأن البحث بأكثر من هذا عقيم ، وعليه فإن الروح عبارة عن ذلك الجسم الموصوف أعلاه.
البحث الثاني في حدوث الروح وقدمه ، واعلم هداك اللّه أن المسلمين أجمعوا على أن الروح حادثة حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم ، والقول الصحيح أن حدوثها قبل حدوث البدن ، لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
فإن هذا الحديث يشير إلى الإخبار بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد ، لأن معنى هذا الحديث الشريف أن ما تعارف منها عند خلقها الأول ائتلف عند خلق أجسادها ، والعكس بالعكس.
ومن قال إن الأرواح في برزخ منقطع العناصر ، فإذا استعد جسد لشيء منها هبط اليه ، وإنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة(2/564)
ج 2 ، ص : 565
كابن حزم ، فلا دليل له على ذلك.
وليس في قوله صراحة خلق الجسم قبل الروح ، بل يفيد ظاهره أن الروح مخلوقة قبل ، لقوله في برزخ.
وإذا كان القول عاريا عن الدليل كهذا فلا محل للأخذ به ، بل الأخذ بالقول الأول المعتمد على قول الرسول صلّى اللّه عليه وسلم.
البحث الثالث ، هل الروح والنفس شيء واحد أم لا ؟ اعلم رعاك اللّه أن أكثر العلماء قالوا إن النفس والروح شيء واحد ، لما جاء في الأخبار اطلاق أحدهما على الآخر ، بدلالة ما أخرجه البزار بسند صحيح عن أبي هريرة أن المؤمن حينما ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يودّ لو خرجت نفسه ، واللّه تعالى يحب لقاءه ، وإن المؤمن لتصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا.
فهذا يدل دلالة ظاهرة على أن الروح والنفس شيء واحد ، وقال ابن حبيب هما شيئان فالروح هو النفس المترددة في الإنسان ، والنفس أمر غير ذلك ، لها يدان ورجلان ، ورأس وعينان ، وهي التي تلتذّ وتتألم ، وتفرح وتحزن ، وتتوفى في المنام ، فتخرج وتسرح وترأى الرؤيا ، ويبقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود إليه.
واستدل بقوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الآية 43 من سورة الزمر في ج 2 ، وسنأتي على ما يتعلق فيها عند تفسيرها في محلها إن شاء اللّه.
البحث الرابع : هل تموت الروح أم لا ؟ اعلم علمك اللّه أن جماعة من العلماء الأعلام قالوا إنها لا تموت استنادا لما جاء في الأحاديث الصحيحة الدالة على نعيمها وعذابها بعد مفارقتها الجسد إلى أن يرجعها اللّه إليه عند البعث ، لأن القول بموتها يلزم منه انقطاع النعيم والعذاب ، وموت الروح المذكور في قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية 185 من البقرة في ج 3 ، ومثلها في سورة الأنبياء الآية 35 ج 2 جار على القول بأن النفس هي الروح ويكون بمفارقتها الجسد ، وعلى القول بأن النفس غير الروح كما علمت آنفا فلا دليل بالآية على موتها ، وما جاء في تفسير قوله تعالى (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الآية 11 من سورة المؤمن في ج 2 بأن الموتة الأولى للبدن ، والثانية للروح على رأي من فسر بذلك ، غير مسلم.
وسيأتي لبحثه بيان في تفسيرها إن شاء اللّه فراجعه.
البحث الخامس في تمايز الأرواح(2/565)
ج 2 ، ص : 566
بعد مفارقتها الأبدان : اعلم نور اللّه قلبك أن الشيخ ابراهيم الكوراني قال في بعض رسائله إن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها ، وإلى هذا الإشارة بما جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود (إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر) ، وبما أخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم (إن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير الجنة) ، أي أنها تكون في أبدان مثالية على تلك الصور ، ويؤيد هذا رواية ابن ماجه عن ابن مسعود (أرواح الشهداء عند اللّه تعالى كطير خضر) ، ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض ، وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول (إن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة) ، وما جاء في إنكار بعض المتكلمين لهذا بزعمهم أنه يصير متعلق روحين ببدن واحد وهو محال.
ناشيء من عدم التأمّل والتثبّت ، لأن ما قررناه لا يصيّر للطائر روحا غير روح الشهيد ، بل هي نفسها ، لأن الأبدان المثالية ليست كالأبدان المحسوسة من كل وجه بل من حيث الصورة فقط ، على أنه لم يلزم من ظاهر الأحاديث محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه ، تدبر.
السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان : اعلم بارك اللّه فيك ونفع بك ذويك أنه قد صح أن حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم كان آخر كلامه : اللهم الرفيق الأعلى.
وقال تعالى (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) الآية 18 من سورة المطففين في ج 2 ، فعلى هذا يكون مستقر أرواح الأنبياء في عليين ، وقد أخرج الإمام مالك رحمه اللّه عن كعب بن مالك مرفوعا إنما نسمة المؤمن (أي ذريته بدليل الأحاديث الصحيحة السابقة ، لأن الأحاديث كالقرآن من حيث أنها يفسر بعضها بعضا) طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه اللّه تعالى في جسده حين يبعثه.
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده ، وخرجه النسائي من طريق مالك ، وخرجه بن ماجه ، وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء المار ذكرهم في حديث مسلم عن ابن مسعود ، ومستقر أرواح الكفار في سجّين ، قال تعالى (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) الآية 7 من المطففين أيضا.
وما قاله ابن حزم من أن أرواح الموتى أقبية قبورهم(2/566)
ج 2 ، ص : 567
مستدلا بقوله صلّى اللّه عليه وسلم وهو ما رواء عنه عمر رضي اللّه عنه : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه تعالى.
وبأنه صلّى اللّه عليه وسلم حين زار الموتى قال السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، إلخ لا يتجه ، لأن الأرواح حينما كانت لها اتصال بأجسادها لا يعلم حقيقته إلا اللّه تعالى ، وبهذا الاتصال تردّ السلام وتعرف المسلم عليها ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار ، راجع الآية 46 من سورة الزمر في ج 2 ، على أنه لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودتها إليه في أسرع من البصر ، وان حديث البراء بن عازب في صفة روح المؤمن الذي يقول فيه (فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ، ويقول الرّب ردّوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
راجع تفسير الآية 54 من سورة طه المارة.
فهو ليس نص في جعل روحه في فناء قبره ، وما فيه من الإشارة لا تعارض الأحاديث الكثيرة الصريحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء ، وقوله تعالى منها خلقناكم إلخ الآية هو باعتبار الأبدان لا الأرواح ، ولا شكّ أيضا أن أحوال الأرواح مختلفة ، قال النسفي في بحر الكلام إن الأرواح على خمسة أقام الأول أرواح الأنبياء عليهم السلام تأكل وتشرب وتتنعّم في الجنة نهارا وتأوى ليلا إلى قناديل تحت العرش ، الثاني أرواح الشهداء تكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي أيضا إلى قناديل كأرواح الأنبياء ، الثالث أرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة فقط ، الرابع أرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء ، الخامس أرواح الكفار في سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة ، وهي متصلة بأجسادها تعذّب وتتألم ، أجارنا اللّه وحمانا.
قال الإمام الفخر إني أعجب كل العجب ممن يقرأ هذه الآيات ويروي هذه الأحاديث ثم يقول توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وما كان يعرف الروح ، وفي قوله هذا رحمه اللّه ردّ على حديث أبي هريرة المتقدم ذكره آنفا بعد تفسير (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ولهذا البحث صلة في الآية 42 من سورة الزمر في ج 2(2/567)
ج 2 ، ص : 568
هذا وقد علم مما تقدم أن أرواح الأنبياء والشهداء ممتازة على أرواح سائر البشر ، وهو كذلك لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال إن أنبياء اللّه لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ولقوله تعالى (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) الآية الاخيرة من سورة الفجر في ج 2 ، وهذا الخطاب متوجّه إلى هذه الروح الزكية وقت الموت لكونها راضية مرضية بما يدل على أن هذا الخطاب لجسد حي حياة لانعرفها ، وهذه الحياة مختص بها الأنبياء والشهداء لقوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية 179 فما بعدها من آل عمران ج 3 وسيأتي في تفسير هذه الآية ما به كفاية لتتميم هذا البحث إن شاء اللّه.
مطلب في حفظ القرآن ثم رفعه بالوقت الذي قدره له اللّه.
قال تعالى «وَلَئِنْ شِئْنا» يا سيد الرسل «لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» فنمحوه من قلبك ومما كتب عليه من قبل كتبة الوحي فلا نبقي له أثرا أبدا «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ» بالقرآن الموحي إليك الذي هو شفاء ورحمة لأهل الأرض المصدقين به والذي ثبتناك به من أن تفتتن بأقوال قومك ولا يمكنك أن تحضر «عَلَيْنا وَكِيلًا» 86 يستطيع استرداده منا وإعادته إليك ولا تقدر أن تجد من يتوكل لك علينا بذلك من متعهد أو ملزم البتة «إِلَّا» أن يتفضّل عليك ربّك فيرحمك «رَحْمَةً» عظيمة خاصة بك نازلة عليك «مِنْ رَبِّكَ» تتمكن بها من إبقائه وعدم نزعه من الصدور ومحوه من السطور وهذه منّة عظيمة جليلة منّ اللّه بها عليك ، وجعل ما أوحاه إليك محفوظا ، وتعهد لك بحفظه بقوله جل قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من سورة الحجر في ج 2 ، وتعهد لك أيضا بعدم إدخال زيادة عليه وحذف شيء منه بقوله عزّ قوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) الآية 42 من سورة فصلت في ج 2 ، روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل ، له دويّ حول العرش كدويّ النحل ، فيقول الرّب مالك ؟ فيقول يا رب أتلى فلا يعمل بي.
وقال عبد اللّه بن مسعود اقرأوا القرآن(2/568)
ج 2 ، ص : 569
قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع.
قيل هذه المصاحف ترفع فكيف بما في الصدور ؟ قال يسري عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا يجدون مما في المصاحف شيئا ، ثم يفيضون في الشعر.
يعارض هذا ما جاء في الحديث الآخر إن اللّه تعالى لا ينزع العلم انتزاعا من صدور الرجال ، وإنما يفقد بموت العلماء ، وهو أصوب ، لأن اللّه أكرم من أن يمنّ على عبده بنعمة أنعمها عليه ثم ينزعها منه ، لهذا فإن حمل الحديثين المارين على هذا أولى وأوفق.
أللهم إلا أن يقال العلم غير القرآن فإنه يرفع رفعا على ما جاء في الحديثين ، والعلم يكون رفعه بموت العلماء ، وهو الأظهر واللّه أعلم ، «إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ» يا أكرم الرسل الذي من جملته إبقاء القرآن راسخا في صدرك ثابتا في الصحف باقيا يتلى إلى الوقت الذي قدره لرفعه ، وقد تفضل عليك به وبما سيبيته بعد وما لم يعلم فضلا «كَبِيراً» 87 ، من ربّك الذي أنعم عليك به وجعلك خاتم أنبيائه وسيد ولد آدم ، وأعلى كلمتك على جميع خلقه ، وأيدك بنصره ، وقواك بملائكته ، وأعطاك الشفاعة الكبرى ، وخصّك بالمقام المحمود والحوض المشهود ، ونعما كثيرة تفضل بها عليك في الدنيا والآخرة.
أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يدرس الإسلام كما يدرس وشيء الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك ، ويسرى على كتاب اللّه في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ، ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا اللّه فتحن نقولها.
ولا يبعد أن يكون هذا بموت العلماء والقراء وعدم معرفة الباقين القراءة ، وكذلك تأويل ما يأتي بعد إذ ليس إزاء هذه الصراحة إلا التسليم واعتقادنا بأن اللّه لا يسلب نعمة من عبده بعد أن تفضّل بها عليه إلا إذا كان هذا العبد داخلا في قوله تعالى :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية 52 من سورة الأنفال ج 3 ، وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية 14 من سورة الرعد في ج 3 ، وعليه يكون الجزاء من جنس العمل ، لأنهم نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم ونسيهم ، فجعلهم متروكين لا يؤبه بهم.
وأخرج ابن(2/569)
ج 2 ، ص : 570
مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا : خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال : أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب اللّه يوشك أن يغضب اللّه تعالى لكتابه ، فيسرى عليه ليلا لا يترك في قلب ولا رق منه حرف إلا ذهب به ، فقيل يا رسول اللّه فكيف بالمؤمنين والمؤمنات ؟ قال من أراد اللّه تعالى به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا اللّه.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال يسرى على كتاب اللّه فيرتفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة ولا من الإنجيل والزبور ، فينزع من قلوب الرجال ، فيصبحون في الضلال لا يدرون ما هم فيه.
والسرى المشي آخر الليل ، ومعنى يسرّى أي يرسل اللّه تعالى في آخر الليل ما به يرفع القرآن من صدور الناس ، بدليل قوله فيصبحون في الضلال إلخ الحديث.
هذا ، وقدمنا في المقدمة بحثا يتعلق بحفظ القرآن وتهديد من ينساه فراجعه فلعل فيه إيماء إلى هذا.
ولما قال النضر وأضرابه من مشركي مكة عند سماعهم تلاوة القرآن من سيدهم سيد ولد عدنان لو نشاء لقلنا مثل ما يقول محمد يعنون به القرآن ، وقد أخبر اللّه نبيه بذلك بقوله جل قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الآية 31 من الأنفال في ج 3 ، وهذه آية مكية مستثناة من سورتها المدنية أكذبهم اللّه تعالى بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الأفاكين المتهورين «لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ» المنزل عليك من لدنّا «لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» أبدا ولا يقدرون على ذلك البتة «وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» 88 معاونا ومؤازرا في إرادة الإتيان بمثله ، لأنه لا يشبه كلام الخلق وهو في أعلى طبقات البلاغة معجزا في نظمه معجزا في تأليفه ، فضلا عن إعجازه بالإخبار عن الغيوب مما كون اللّه تعالى وأظهره للناس ، ومما لم يظهره بعد.
ولهذا البحث صلة في الآية 78 من سورة يونس والآية 13 من سورة هود في ج 2 والآية 24 من سورة البقرة في ج 3.
وجملة لا يأتون جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة له ، وسادّ مسدّ جزاء الشرط ، ولو لاها لكان لا يأتون جزاء الشرط ، وان كان مرفوعا بناء على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضيا جاز الرفع في الجواب ، كما في قول زهير :
وإن أتاه قليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم(2/570)
ج 2 ، ص : 571
وقيل لا يأتون جواب قسم محذوف ولو لا اللام الموطئة للقسم لجاز أن يكون جوابا للشرط كما في البيت.
على أن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهرا مع قربه جاز أن لا تؤثر في الجواب مع بعده.
قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» وكرّرنا فيه من العبر والوعد والوعيد والأحكام والقصص والأخبار والمعاني البديعة والأمور الغريبة والقضايا الغيبية ، وجعلناه معجزة دائمة لا تنقطع إلا عند قرب خراب هذا الكون ليؤمنوا به «فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» 89 به وإباء عن قبوله ونفورا منه ، وهذا أبلغ من إبائهم في عدم الإيمان به لاحتماله هذا المعنى وزيادة أنهم لم يرضوا بخصلة ما سوى الكفر به «وَقالُوا» عند ظهور عجزهم عن الإتيان بمثله ، متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه ومما هو محال عقلا «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ» في هذا القرآن ولا في غيره من الآيات «حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» 90 عينا غزيرة من الماء نستقي منها كلنا وأنعامنا ودوابنا ونزرع عليها ، وعلى أن تكون عين هذا الماء من أراضيهم المقيمين بها لأنها قليلة الماء
«أَوْ تَكُونَ لَكَ» إذا لم تأتنا بذلك الماء «جَنَّةٌ» مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها» 91 كثيرا بين تلك الجنة هائلا ، وهذا على وجه الخصوص له كالتي بعدها خلافا للطلب الأول ، لأنه على وجه العموم إلا أن الاقتراح الأول لهم والثاني له ، ولكن وجود أو يبعد هذا المراد «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ» ونسبت إلى ربك بما تلوته عنه وهو (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) الآية 19 من سورة سبأ في ج 2 ، وهذا يدل على أن هذه الآية نزلت قبل سورتها ، بأن تصبها «عَلَيْنا كِسَفاً» قطعا متفرقة عظيمة «أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» يقابلونا فنراهم عيانا بأم أعيننا ويشهدون لك بصدق دعوتك ، إذ ادعيت أنهم واسطة بينك وبين ربك الذي ادعيت رسالته «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» مزين مرصّع بالذهب والفضة والأحجار الكريمة «أَوْ» تأتي لنا بآية ملجئة لنا على الإيمان قاسرة لا نستطيع ردّها ، وهي بأن «تَرْقى فِي السَّماءِ» على مرأى منا «وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ» بأن تصعد إليها فقط ، لأنا لا نصدّق ذلك ولا نعترف(2/571)
ج 2 ، ص : 572
لك به ولو رأيناك عيانا تصعد إليها لانه قد يكون صوريا بما تخيله علينا وتسحرنا به فتزيغ أعيننا عن أن نرى الحقيقة في ذلك ، بل نبقى منكرين جاحدين رقيّك «حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا» من السماء معك «كِتاباً نَقْرَؤُهُ» بلغتنا ، ونرى فيه ما يدلّ على نبوتك ، وإذا لم يكن كذلك فلا نؤمن لك أيضا بمجرد كتاب تأتينا به ، لأنك قد تموّه علينا بما ليس بشيء وتسميه كتابا ، واعلم أن السماء كل ما علاك فأظلك ويطلق على كل مرتفع ، قال الشاعر :
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
وهم لا يريدون هذا وإنما يريدون السماء الحقيقية التي ذكرها لهم في سورة ق المارة في الآية 6 وهي قوله تعالى (أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) والتي أخبرهم بأنه عرج إليها ووصف لهم ما فيها كما مر أوائل هذه السورة ، فيما أكرم الخلق «قُلْ» لهؤلاء الحمقى «سُبْحانَ رَبِّي» أنزهه عما لا يليق بقدسيته عن هذه المقترحات المستحيلات واستغفره عن طلب شيء منها ، لأنه إذا كان على سبيل الفرض طلب تفجير الأرض بالأنهار أو تخصيص الجنة أو البيت المزخرف أو اجراء الأنهار بينها ممكنا فلا يمكن طلب إسقاط السماء قطعا متفرقة ولا مجتمعة ، ولا الإتيان بالخالق ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولا الإتيان بالملائكة الآن ، وإن كان هذا قد يقع يوم القيامة حقا لا مرية فيه بأمر اللّه تعالى وقدرته فقط كما جاء في الآيات المارة في سورة الفجر وفي غيرها من السور المارة والآتية ، أما أنا فإني إنسان مثلكم عاجز عما يعجز عنه مثلي وما تظنون بي «هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً» أفعل ما يفعله البشر وأعجز عما يعجز عنه وإنما خصّني ربي بأن أكون «رَسُولًا» 93 إليكم أبلغكم آياته فآمركم بالخير وأنها كم عن الشر ، وجعلني من بينكم تعرفون حسبي ونسبي ، كما خصّ اللّه الأنبياء قبلي واختارهم من أقوامهم ، وإن ما اقترحتموه خارج عن طوق البشر والرسل منهم الإتيان به من عند أنفسهم ، إلا ما شاء اللّه أن يظهره على يدي من المعجزات كأمثال الرسل السابقين ، وإن إتيان المعجزات بيد اللّه تعالى إن شاء أوقعها على أيدي رسله ، وإن شاء منعها.
وسبب نزول هذه الآيات أن مشركي قريش استدعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم(2/572)
ج 2 ، ص : 573
وقالوا له إذا كنت تريد أن نؤمن بك ونصدقك ونجيب دعوتك فأتنا بكذا إلخ ، اقتراحاتهم المذكورة المنطوية على العناد والمنفطرة عن العتوّ ، وكان منهم من اقترح ما مر ذكره في الآيات 7 و8 و20 و21 من سورة الفرقان المارة ، فلما رأى أباطيل أقوالهم هذه تركهم وقام ، فتبعه عبد اللّه ابن أمية المتصدر لهذه المفترحات فنزلت هذه الآيات فيه وفي قومه.
وإنما نسب القول إليهم جميعا لأنهم أصغوا لمقترحاته هذه ورضوا بها وكلفوا النبي بالإجابة عنها ، ولهذا جاء الكلام بلفظ الجمع.
وخرج هذا سعيد بن منصور عن ابن جبير ، وكان ذلك الخبيث عبد اللّه بن أمية كرر هذا الكلام على حضرة الرسول ، وقال له إن قومك عرضوا عليك ما عرضوه من الاقتراحات فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك عند اللّه ربك فلم تقبل ، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل ، فو اللّه لا نؤمن بك أبدا ولو فعلت ما طلبناه منك ولا نصدقك أبدا ، ثم انصرف.
وقد أسف صلّى اللّه عليه وسلم لما رأى من مباعدتهم عن الإيمان بعد نزول هذه الآيات وإعراضهم عنها.
هذا وما قيل إن اللّه تعالى أنزل على هؤلاء المقترحين الآيتين 32/ 33 من الرعد في ج 3 وهما : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) الآية (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ) الآية فغير وجيه لأن سورة الرعد مدنية ولم يستثنى منها هاتان الآيتان ولا غيرهما ، وما نحن فيه من الوقائع في مكة ، وسنأتي على ما يتعلق فيها في محلها إن شاء اللّه في القسم المدني ، قال تعالى «وَما مَنَعَ النَّاسَ» الذين حكيت أباطيلهم آنفا من «أَنْ يُؤْمِنُوا» بربهم ويصدقوا رسوله «إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى » على يديه أن يهتدوا بهديه ويسترشدوا برشده ويتوصلوا إلى معرفة توحيده ويؤمنوا به «إِلَّا أَنْ قالُوا» جهلا منهم وعنادا بمن أرسل إليهم على طريق السخرية والاستهزاء «أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا» 94 إلينا مثلنا ألّا يبعث ملكا من الملائكة يدعونا إليه لنطيعه ونؤمن به ، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الباغين «لَوْ كانَ» على سبيل الفرض والتقدير «فِي الْأَرْضِ» التي أنتم عليها «مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ» فيها مثلكم «مُطْمَئِنِّينَ» آمنين متوطنين كآحاد الناس ليس لهم أجنحة(2/573)
ج 2 ، ص : 574
يطيرون بها إلى السماء فيسمعون ما يقع فيها ويعلمون ما يجب عليهم ، وقد مست الحاجة لإرسال من يرشدهم «لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» 95 مثلهم من جنسهم ليميلوا إليه ، لأن الجنس لا يميل إلا لجنسه وأنتم بشر فأرسلنا إليكم بشرا من جنسكم ، لأن البشر أيضا لا يميل إلا لجنسه ، فلا يميل إلى الملك ، والملك لا يميل إلى البشر ولا يأتلف معه لذلك لم نرسل ملكا ، وهذا لا ينافي بعثته صلّى اللّه عليه وسلم إلى الجن ، لأنه متى صح فيه صلّى اللّه عليه وسلم المناسبة الصحيحة للاجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الجن والإلقاء إليهم ، كيف وهو صلّى اللّه عليه وسلم نسخة اللّه الجامعة وآيته الكبرى الساطعة ، فضلا عن أن الجنّ تشكلوا اليه عليه الصلاة والسلام بهيئة البشر كما تشكل له رئيس الملائكة السيد جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي وبصورة اعرابي ، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر رضي اللّه عنه حينما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وامارات الساعة ، فعلى هذا لو أنزل اللّه تعالى لهم ملكا وتشكل بهيئة البشر فلا يجد شيئا ، لأنهم يرونه بشرا مثلهم ويقولون ما قالوا ولو جاءهم بصورته الحقيقية لما أطاقوا مقابلته ، بل لصعقوا أو ماتوا لأن حضرة الرسول مع ما هو عليه من الكمال والتأييد من اللّه لم يطق مقابلة جبريل بصورته كما مر في الآية 18 من سورة والنجم المارة وفي الآية 23 من سورة التكوير أيضا ومما يؤيد إرساله صلّى اللّه عليه وسلم إلى الجن قوله تعالى (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) الآية الأولى من سورة الفرقان المارة وما سوى اللّه تعالى كله عالم وخبر مسلم ، أرسلت إلى الخلق كافة والجن من الخلق راجع الآية الأولى من سورة الجن المارة فما بعدها ، أما محبة الملائكة له صلّى اللّه عليه وسلم مع انه من غير جنسهم فإنما هي بإلقاء اللّه تعالى في
قلوبهم واعلامهم بأنه صلّى اللّه عليه وسلم وسيلة لهم فيما يسألونه منه جل جلاله ، ولما جاء في الحديث إذا أحب اللّه عبدا نادى جبريل فقال له إني أحب فلانا فأحبوه ، فينادي جبريل في الملائكة إن اللّه يحب فلانا فأحبوه ويلقي له القبول في الأرض ، فيا أكرم الرسل إن لم يصدق هؤلاء المعاندين الجاحدين رسالتك فأعرض عنهم الآن و«قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» على أنه أرسلني إليكم وخصني من بينكم برسالته ، وقد اختارني من الأزل(2/574)
ج 2 ، ص : 575
لذلك وهو شهيد على أني قمت بما أمرني به حسبما أمرني ، وعلى أن أبلغكم ما أرسلني به إليكم ، وهو شهيد أيضا على أنكم كذبتموني
فهو الحكم العدل «بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» على ذلك كله «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «بِعِبادِهِ خَبِيراً» بظواهر المرسل والمرسل إليهم «بَصِيراً» 97 يبواطنهم وخوافي أمورهم ، وانه يجازي كلا على عمله.
قال تعالى تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم واعلاما بأن ما كان مطابقا لإرادته أزلا سيكون في الواقع لا محالة ، وهو «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» بهدايته على يد من شاء من خلقه «وَمَنْ يُضْلِلْ» منهم فهو الضال مهما أراد الناس هدايته فلن يقدروا لهذا يقول اللّه تعالى «فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ» ينصرونهم علينا أو يقودونهم إلى الهدى «مِنْ دُونِهِ» أي الهادي الحقيقي بل يبقى ضالا على ضلاله حتى يموت.
مطلب الحشر على الوجوه وبقاء عجب الذنب :
«وَنَحْشُرُهُمْ» أي هؤلاء الظالمين «يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ» منكوسين حالة كونهم «عُمْياً» لا يبصرون «وَبُكْماً» لا يتكلمون «وَصُمًّا» لا يسمعون كما كانت حالتهم في الدنيا ، أي كما أن لم ينتفعوا بحواسهم هذه في الدنيا لما فيه خيرهم لم ينتفعوا فيها في الآخرة أيضا راجع الآية 24 من سورة الفرقان المارة ، وهؤلاء الذين هذا وصفهم «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» يصيرون إليها بعد الموقف حالة كونها مسعرة «كُلَّما خَبَتْ» هدأ لهيبها وولى سعيرها وخمدت شعلتها «زِدْناهُمْ سَعِيراً» 98 وقودا ليزداد بلاؤهم فيها «ذلِكَ» حشرهم على الصورة المارة فاقدي منافع جوارحهم حالة ازدياد إيقاد النار لزيادة عذابهم «بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا» برسلنا وكفروا أيضا «بِآياتِنا» القرآنية والآفاقيّة الدالة على صحة الاعادة بعد الموت وعلى صدق الرسالة بذلك «وَقالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» 99 تقدم تفسيرها في الآية 49 المارة أي مستأنفين الحياة مرة ثانية كما كنا ، وما قيل إن المعنى يخلق اللّه غيرهم يعبدونه ويعترفون بربوبيته على حد قوله تعالى : (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) الآية الأخيرة من سورة محمد ج 4 ، وقوله تعالى (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) الآية 17 من سورة فاطر المارة ، لا يتجه هنا لأنه لا يلائم السياق كما لا يخفي على ذوي الأذواق ، وآية فاطر(2/575)
ج 2 ، ص : 576
هذه مكررة في الآية 19 من سورة إبراهيم والآية 132 من سورة الأنعام في ج 2 لفظا ومعنى والآية 132 من سورة النساء في ج 3 ، فرد اللّه تعالى عليهم بقوله «أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» وهما أكبر وأعظم من خلقهم كما سيأتي بيانه في الآية 57 من سورة المؤمن في ج 2 «قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» من الإنس الذين هم أضعف من ذلك «وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا» لا يتجاوزونه محققا «لا رَيْبَ فِيهِ» ولا ينبغي أن يشك فيه «فَأَبَى الظَّالِمُونَ» المتوغلون في الظلم «إِلَّا كُفُوراً» 100 وجحودا بتلك الآيات الواضحات وهؤلاء هم الذين سألوا الاقتراحات المار ذكرها ومن حذا حذوهم داخل معهم ، ولا تعد هذه الآية مكررة بسبب اختلاف اللفظ عن الآية الأولى 89 وقدمنا في الآية 137 من سورة طه ما يتعلق بحشر الأعمى فراجعه.
هذا ، وقد أخرج الشيخان عن أنس قال : قيل يا رسول اللّه كيف يحشر اللّه الناس على وجوههم ؟ قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم.
وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف مشاة على العادة وصنف ركبان وصنف على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك أو سحبا عليها قال تعالى (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) الآية 48 من سورة القمر المارة ، ويشهد لهذا ما أخرجه أحمد والنسائي عن أبي ذر أنه تلا هذه الآية ونحشرهم إلخ ، فقال حدثني الصادق المصدوق صلّى اللّه عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أنواع : نوع طاعمين كاسين راكبين ، ونوع يمشون ويسعون ، ونوع تسحبهم الملائكة على وجوههم.
وما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم.
وليعلم أن هذه الآية في حال أهل النار بعد دخولهم فيها ، وكذلك الأحاديث ولا تعارض هذه الآية قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) الآية 55 من النساء في ج 3 ، لأن تبديلها يكون بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها ، لأنها إذا أحرقت وبقيت لا يحسون بألم العذاب واللّه تعالى يقول (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) فوافقت هذه الآية قوله تعالى هنا (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) الآية المارة في المعنى(2/576)
ج 2 ، ص : 577
واعلم أن اللّه تعالى يعدم هذه الذرات بالكلية ثم يعيدها نفسها كما كانت.
ولا يرد هنا بأن إعادة المعدوم محال ، لأن المعيد لها الذي خلقها من العدم أولا فليس محالا عليه أن يعيد ما خلق إلى حالته الأولى.
وما جاء في حديث الصحيحين : ليس في الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ، منه خلق الخلق يوم القيامة.
وفي رواية مسلم كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب ، منه خلق ومنه يركب.
وصحح المزني أنه يفنى لقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية الأخيرة من سورة القصص المارة ، وقوله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) الآية 26 من سورة الرحمن في ج 3 ، وعجب الذنب شيء على الأرض وعليه يكون تأويل الحديث أن كل الإنسان يبلى
بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن اللّه تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت والخلق منه والتركيب يمكن بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في بقائه ، وبذلك قال ابن قتيبة.
قال تعالى «قُلْ» يا محمد لقومك وغيرهم «لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي» من المطر والرزق والنعم الكثيرة من خزائنه الغير متناهية إذ لا يعلمها غيره.
واعلم أن إن أنتم هنا مرفوع بفعل يفسره الفعل بعده لأن لو لا تدخل على الأسماء أي لو تملكون أنتم إلخ وهي حروف امتناع لا متناع بخلاف لو لا فهي حرف امتناع لوجود ، وعلى هذا قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية فقال : لو غير ذات سوار لطمتني ، أي لو لطمتني غير ذات سوار ، وقول المتلمس :
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي جعلت لهم فوق العرانين حيسما
وقول أبي جهل حين قتل ببدر : لو غير أكار قتلني هذا.
فمن جعل أنتم مبتدأ فقد أخطأ لأنه فاعل كما علمت.
قال تعالى «إِذاً» أي لو ملكتم خزائن رحمة اللّه «لَأَمْسَكْتُمْ» على الناس أرزاقهم شحا بها عليهم فلم تعطوا أحدا منها شيئا «خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» مخافة النفاد والخلاص لشدة حرصكم مهما كان مالكم كثيرا «وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» 101 شحيحا جدا يبخل على نفسه ويبخل على غيره أيضا من باب أولى.
هذا ، ولا يقال إن بعض الإنسان جواد فكيف جاء في هذه الآية التعميم وقد قال في حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم : (2/577)
ج 2 ، ص : 578
له راحة لو أن معشار جودها على البر كان البر أندى من البحر
وكان أكثر آل البيت كريما وليسوا بأهل دنيا ، ويصدق عليهم قول الشافعي رحمه اللّه :
وهم ينفقون المال في أول الغنى ويستأنفون الصبر في آخر الفقر
إذا نزل الحي الغريب تقارعوا عليه فلم يدر المقل من المثري
لأن المقصود الأكثر من جنس الإنسان بخيل.
وليعلم أن حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم غير داخل في هذه الآية المخاطب بها بلفظ الجمع ، لأن اللّه تعالى يقول لحضرته قل لهم ذلك ، أما غيره فإن الأصل في الإنسان الشح ، لأنه خلق حينما خلق محتاجا لكل شيء فيمسك ما تصل إليه يده لنفسه ولأن بعض الكرم يكون منه السمعة والرياء ونشر الصيت ، وقد يكون ابتغاء مرضات اللّه ، وأهل هذا قليل وكل خير في القليل ، وفي القليل بحث نفيس فإذا أردت أن تقف عليه فراجع الآية 73 من سورة النمل المارة ، ووجه مناسبة هذه الآية مع ما قبلها أن المشركين المشار إليهم أعلاء لما اقترحوا على حضرة الرسول طلب الينبوع والأنهار كان لتكثير أرزاقهم واتساع الدنيا عليهم من وجه وتعجيزا للرسول من وجه آخر ، وهو المراد إذ أهمهم شأنه بعد أن رأوا آيات الإسراء والمعراج وشاع ذكره في الآفاق أكثر من ذي قبل ، فبين اللّه تعالى في هذه الآية أنهم لو أعطوا ذلك وملكوا خزائن الأرض ومفاتح رحمة اللّه لبخلوا وشحوا ولم ينفعوا أحدا ، وهذا غاية في التشنيع عليهم بالبخل ، وأنه كما وصفهم بالآية الأولى بأنهم منكبون على الكفر ، وصفهم في هذه أنهم أيضا متلبسون بالشح ، وهما صفتان مذمومتان ضرر أولاهما قاصر عليهم ، وضرر الأخرى متعد للغير.
هذا ، وبالجملة فإن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج من عهدة الواجب ، فكان إنفاقه في الأصل بمقابل عوض أيضا ، فكان بخلا حقيقة ، والمراد بهذا الإنسان الجنس فيشمل جميع أفراده ، وإذا أريد به المعهود بأن اعتبرت ال فيه للعهد يكون المراد به الذين قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا ..
الآية السابقة ، والأولى جعله عاما ليدخل في مفهومه هؤلاء وغيرهم ،
ولما حكى اللّه تعالى عن قريش ما حكاه من التعنت والعناد تجاه رسوله صلّى اللّه عليه وسلم شرع يسليه بما جرى لأخيه موسى عليه السلام مع فرعون اللعين وما صنع بفرعون وقومه(2/578)
ج 2 ، ص : 579
لعدم إيمانهم بنبيهم إعلاما لحضرته بأنه سيكون مصير من لم يؤمن من قومه به مثل مصيرهم ، فقال تعالى جده «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ» تقدم بيانها في الآية 172 من الأعراف مفصلة فارجعها.
وهذه التسع وقعت في حق القبط قبل خروجهم من مصر أما الآيات الخاصة في بني إسرائيل ، فقد وقعت بعد ذلك وهي كثيرة ، قال ابن رشد سألت اليهود حضرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن التسع آيات المبينات الواردة في القرآن ، فقال لهم : 1 ألا تشركوا باللّه شيئا 2 ولا تسرقوا 3 ولا تزنوا 4 ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق 5 ولا تمشوا يبريء إلى السلطان ليقتله 6 ولا تسحروا 7 ولا تأكلوا الربى 8 ولا تقذفوا المحصنة 9 ولا تولوا الفرار يوم الزحف 10 وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت.
فقاموا فقبلوا يديه ورجله وقالوا نشهد أنك نبي ، قال فما يمنعكم أن تتبعوني ؟
قالوا إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تفتلنا اليهود - قال الترمذي حديث حسن صحيح - .
واعلم أن اللّه تعالى ذكر في القرآن من معجزات موسى عليه السلام تسع عشرة معجزة منها ما هو خاص به ، ومنها ما هو خاص بالقبط ، ومنها ما هو خاص بني إسرائيل ، أولها إزالة العقدة من لسانه حتى ذهبت عجمته وصار فصيحا ، والثانية والثالثة والرابعة هي بياض اليد وإحياء النقباء والخسف بقارون ورفيقيه ، والخامسة انقلاب العصا حية ، والسادسة جعلها تلقف حبال السحرة وعصيهم مع كثرتها أي ما طلي فيها كما بيناه في الأعراف ، والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشر هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، الثانية عشرة الإظلال بالغمام ، والثالثة عشرة شق البحر ، والرابعة عشرة إخراج الماء من الحجر بضربه له بعصائه ، والخامسة عشرة رفع الجبل وإظلاله فوقهم ، والسادسة عشرة إنزال المنّ والسلوى ، والسابعة عشرة الجدب المعبّر عنه بالسنين ، والثامنة عشرة نقص الثمرات ، والتاسعة عشرة الطمس على الأموال.
وكلها موضحة في سورة الأعراف والشعراء والقصص المارات وفي السور الآتية كيونس وهود وغيرها ، وروي أن عمر ابن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تعالى تسع آيات بينات فذكر في جملة التسع حل عقدة اللسان والطمس ، (2/579)
ج 2 ، ص : 580
فقال عمر هكذا يجب أن يكون الفقيه ، ثم قال يا غلام أخرج ذلك الجراب ، فأخرجه ففضه فإذا فيه بيص مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة ، أي أن هذه من بقايا ما طمس عليه من ثمرات بني إسرائيل وأموالهم.
واعلم أن تخصيص الذكر هنا بالتسع لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليها ، لما جاء في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد.
وقد اتفق المفسرون على سبع من هذه التسع وهي : العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، واختلفت آراؤهم في الاثنتين الأخيرتين وأكثر الأقوال على أنها الأخذ بالسنين ونقص الثمرات كما بيناه في الأعراف لأن العقدة والعصا من خصائص سيدنا موسى عليه السلام وليست لقومه ، أما كونها تلقف ما يأفكون فهي لقومه ، قال تعالى «فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الموجودين في زمنك من أهل الكتابين الذين ستقدم عليهم في المدينة لتعرف كذبهم ويعرفوا صدقك ، وليس المطلوب من سؤالهم استفادة العلم منهم عنها ، بل لنقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره لهم ، وعليه فيكون السؤال سؤال استشهاد لأنهم أولاد أولئك اليهود الذين ظهرت لهم تلك الآيات على يد نبيهم ، وقد تناقلوها أبا عن جد فضلا عن ذكرها في التوراة التي هي بين أيديهم ، ولهذا حسن النكني بهم عن أسلافهم «إِذْ جاءَهُمْ» موسى بها دليلا على صحة رسالته من ربه إليهم «فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ» لما ظهر عجزه تلقاء تلك المعجزات «إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» 102 مفعولا بالسحر الذي استولى على جوارحك فصرت مطبوبا مختل العقل بطلبك قوما هم تحت سلطتي قديما ، فكيف أرسل معك بني إسرائيل وأنت على ما أنت عليه.
وقال بعض المفسرين معنى مسحورا ماهرا بالسحر معطى علمه ومعلّمه ، وهذه العجائب التي بينتها هي ناشئة عن مهارتك فيه ، وظاهر الآية يدل على الأول ، لأن المقام مقام ذم ، والتفسير الثاني مقامه مقام مدح يأباه المقام بدليل ما فتحت به الآية الآتية التي جاوبه بها موسى عليه السلام ، وهي «قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ» يا فرعون مما رأيت «ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وجعل تلك الآيات «بَصائِرَ» مرئيّات ظاهرات لا تخفى على أحد من شدة وضوحها تبصرك في صدقي ، وتعلمك أني(2/580)
ج 2 ، ص : 581
لست كما تقول مخدوعا أو خادعا أو مخيلا إلي أو ساحرا ماهرا مما تتقول به قبلا ، لا بل إني عالم حاذق بصحة ما أقول من الأمر والنهي لأني أتلقاه من ربي خالق السموات والأرض وما بينهما وما تحتهما وما فوقهما ، الذي أنزل تلك الآيات دلالة على صدقي وطلبا لإيمانكم ، فما ظننت به كله كذب محض وبهت بحت ..
والقراءة الفصحى علمت بفتح التاء لأن علم فرعون بأنها آيات نازلات من رب السماء او كد في الحجة ، ولأن احتجاج موسى عليه السلام على فرعون بعلم فرعون او كد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه على قراءة الضم التي معناها أنه أخبر عن نفسه أنه عالم بها وأنه غير مسحور ، ونسب هذا القول إلى سيدنا علي عليه السلام ، وأنه قال واللّه ما علم عدو اللّه ولكن علم موسى وهو قول ضعيف لا يستند اليه ، لأنه مروي عن كلثوم المرادي وهو مجهول ، ولهذا لما بلغ ابن عباس نسبة هذا القول لسيدنا علي لم يرضه واحتج بقوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) الآية 14 من سورة النحل المارة بما يدل على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه كما أن بلقيس وقومها علموا معجزات سيدنا سليمان عليه السلام «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» 102 هالكا مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر لانكارك ما عرفت صحته من آيات اللّه مكابرة وعنادا ، وقد قارع الظن منه عليه السلام بالظن من فرعون بالآية السابقة ، لأنه لما وصفه بكونه مسحورا أجابه بكونه مثبورا لأن تلك المعجزات مبصرة نيرة لا يرتاب فيها عاقل ولا يقول بها إلا أنها من عند اللّه وانه أظهرها ليؤمن بها ، قال تعالى «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ» أي يخرج فرعون موسى وقومه ويطردهم «مِنَ الْأَرْضِ» أرض مصر أو يعدمهم من ظهر البسيطة لما رأى بقاءهم يهدد ملكه بالخراب وسلطنته بالزوال ، ولما كان ثابت في علم أنه لو أمهل فرعون وقومه ما أمهلهم لم يؤمنوا ويبقوا مصرين على كفرهم لهذا أغراه اللّه تعالى باتباع موسى وقومه وأدخلهم جميعا البحر «فَأَغْرَقْناهُ» لهذه الحكمة «وَمَنْ مَعَهُ» من القبط الذين جنّدهم لاسترجاع موسى وقومه واسترقاقهم فأهلكهم في البحر «جَمِيعاً» 103 فلم يفلت منهم أحد ، راجع كيفية إغراقهم في الآية 40 من(2/581)
ج 2 ، ص : 582
القصص والآية 63 من الشعراء والآية 78 من طه المارات ، قال تعالى «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ» بعد إهلاكهم وإرائة جثثعم ؟ ؟ ؟ عائمة في البحر بما فيهم جثة فرعون «لِبَنِي إِسْرائِيلَ» بعد انجائهم من الغرق ومن فرعون وقومه «اسْكُنُوا الْأَرْضَ» أرض مصر والشام في حياتكم الدنيا «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ» الحياة الثانية يوم القيامة «جِئْنا بِكُمْ» مؤمنكم وكافركم وبركم وفاجركم «لَفِيفاً» 104 مختلطين جميعا من هاهنا من محال وجودكم ، واللفيف هو الجماعة من قبائل شتى وهو اسم جمع لا واحد من لفظه كالجميع أي من اخلاط شتى شريف ووضيع عالي ورديء مطيع وعاصي قوي وضعيف ، قال تعالى في القرآن الذي قال فيه (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ إلخ) الآية 88 المارة «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ» من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا دفعة واحدة كما أنزلنا التوراة والإنجيل والزبور «وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» نجوما متفرقة على قلب محمد الشريف بواسطة الأمين جبريل عليهما الصلاة والسلام من سماء الدنيا محفوفا بالرصد من الملائكة محفوظا بهم من تخليط الشياطين ، هذا ، ولما كان القرآن نزل بلغة العرب وعادة العرب فيما يتكلمون بشيء يستطردون لغيره ، فتذكره ثم تعود إلى ما كانت تتكلم به ، وهكذا بعد أن ذكر اللّه تعالى القرآن واستطرد لذكر غيره وأنهاه ، ذكر ما يتعلق به تعظيما له وإجلالا ، أي انا لم نرد بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق الذي أخبركم به المنزل عليه رسولنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم وقد اشتملت هذه الآية على أربع فوائد ، الأولى أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذي لا يثبت لأن ما جاء من الشرع لا يتطرق اليه النسخ والنقص والتحريف ولزيادة ، فكان حقا في كل الوجوه الثانية ان الانزال في قوله (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) غير النزول الذي هو في قوله (وَبِالْحَقِّ
نَزَلَ) فوجب أن يكون الخالق غير المخلوق على ما ذهب إليه بعض المتكلمين.
الثالثة ان الباء في قوله وبالحق بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلامته أي أنزلناه مع الحق.
الرابعة ان جملة (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) تفيد الحصر أي ان هذا القرآن ما نزل لقصد آخر سوى اظهار الحق فقط «وَما أَرْسَلْناكَ» يا خاتم الرسل «إِلَّا مُبَشِّراً» بهذا القرآن الطائع بالجنة «وَنَذِيراً» 105 به(2/582)
ج 2 ، ص : 583
للعاصي في النار وما عليك من كفرهم شيء بعد أن تتقدم لهم بهذين الأمرين قال تعالى «وَقُرْآناً» نون للتعظيم والتفخيم وهو منصوب بفعل مقدر مثل «فَرَقْناهُ» فصّلناه وبيّنا الحق من الباطل وأنما أنزلناه عليك «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» تؤدة وتثبت وترسل فتتلوه عليهم خلال اثنتين وعشرين سنة وشهور وأيام ، راجع المقدمة في بحث نزول القرآن تعلم مدى نزول سورة المكية والمدنية ، أي لا تقرأه عليهم بالسرعة والعجلة فورا بل تمهّل به لعله يوقر في قلوبهم ، أولا بأول ، هذا ومن قرأ فرّقناه بالتشديد فقد أضاع المعنى المراد منه أعلاه وما معناه على قراءة التشديد إلا أنه أنزل متفرقا ، ومكث بضم الميم وسكون الكاف وقرىء بفتح الميم وضم الكاف قراءة شاذة والمعنى الذي ذكرناه تحتمله القراءتان تدبر «وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» 106 عظيما بحسب الحوادث والوقائع والأسئلة وعفوا حسبما هو كائن في أزلنا على الوصف المذكور فيه ، وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وتشديد الفعل يفيد التكثير ، وذلك لأن تنزيله مفرقا مترادفا متقطعا ومتواليا فيه معنى التكثير ، قال تعالى «قُلْ» يا أكرم الرسل للذين كفروا بهذا القرآن الجليل «آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا» اختاروا لأنفسكم أحد الأمرين ، واعلموا أن في الإيمان به النعيم المقيم في الجنة الخالدة مع النبيين والصالحين ، وفي الكفر به العذاب الأليم الدائم مع فرعون وهامان ، وإن إيمانكم بالنسبة له ولمنزله والمنزل عليه وعدمه سواء ، لأنه لا يزيده كمالا ، وجحودكم لا يورثه نقصا.
وفي الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على حد قوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية 28 من سورة الكهف في ج 2 ، وقوله جل قوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 40 من سورة فصلت في ج 2.
مطلب آيات القرآن عامة مطلقة ونزولها بأشخاص لا يقيدها ولا يمنع شمولها غيرهم :
وقد خص بعض المفسرين هذه الآية بالمقترحين المار ذكرهم وهذا أيضا يقيدها فيهم دون نص بالتقييد أو التخصيص ، وليس بشيء وما هؤلاء الذين يريدون حصر معاني القرآن بأناس مخصوصين ، واللّه تعالى أنزله عاما لكل البشر ونزوله في أناس لا يقيد عمومه ولا يخصص إطلاقه بل يبقى على عمومه أبدا شاملا للكل ، لذلك فسرناها كغيرها على أنها عامة مطلقة ، يدخل فيها المقترحون وغيرهم وهو أولى كما ترى ،(2/583)
ج 2 ، ص : 584
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ» من قبل نزول القرآن وهم قراء الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف الذين عرفوا حقيقة الوحي وامارات النبوة وماهية الحق والباطل والتمييز بينها «إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ» هذا القرآن وسمعوه «يَخِرُّونَ» يسقطون حالا «لِلْأَذْقانِ» على وجوههم لأن الأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ، ويطلق على ما ينبت عليها من الشعر ، وكذلك يطلق على الوجه من إطلاق الجزء وإرادة الكل فيرمون بأنفسهم على الأرض «سُجَّداً» 107 تعظيما لأمر اللّه تعالى وشكرا لأنعامه عليهم بإنزاله وبعثة الرسل لإرشادهم وذلك لأن خوف اللّه تعالى مستول على قلوبهم ، لهذا عند ما يسمعون ذكره يطرحون أنفسهم على الأرض خضوعا لعظمته وخشوعا لهيبته.
وإنما لم يقل يسجدون لشدة مسارعتهم حتى كأنهم يسقطون سقوطا على الأرض «وَيَقُولُونَ» في سجودهم هذا «سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا» الذي وعد به خلقه على لسان رسله في الكتب القديمة المؤيدة بهذا القرآن «لَمَفْعُولًا» 108 كائنا واقعا لا محالة ، وأنهم يقولون هذا في حالة السجود وغيرها لتعلق قلوبهم بربهم ، ومن جملة وعده في الكتب القديمة إرسال محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإنزال هذا القرآن عليه ، وقد اختلف المفسرون بالمراد في هذه الآية فمنهم من قال إن المراد بها ورقة بن نوفل على أن ورقة لم يحضر إنزال هذه السورة لأنه توفي قبلها بكثير ، ومنهم من قال عبد اللّه بن سلام ، وهذا لم يسلم بعد حتى الآن ، ومنهم من قال إنهم جماعة من أهل الكتاب ، لان الوعد ببعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلم مدون في كتبهم وقد كانوا بانتظاره وإنجاز هذا الوعد ، فلما رأوا محمدا وسمعوا كتابه عرفوه أنه هو ، فخروا سجودا للّه تعالى أن أراهم إياه ، وهذان القولان لا يصحان أيضا ، لان إسلام عبد اللّه وقع بالمدينة كما سيأتي في الآية 27 من سورة النساء في ج 3 ، ولان أهل الكتاب لم يخالطوا محمدا في مكة أبدا ، هذا والمقصود من هذه الآية تقرير تحقير أولئك المقترحين والازدراء بشأنهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه ، وإنهم إذا لم يؤمنوا فقد آمن به من هو خير منهم ، قال تعالى «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ» للرءوس ولم تتكرر هذه الكلمة في القرآن إلا في هذه السورة وفي الآية 8 من سورة يس المارة ، أي يرمون رءوسهم حالة(2/584)
ج 2 ، ص : 585
كونهم «يَبْكُونَ» من خشية اللّه تعالى خضوعا لجلاله «وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» 109 لربهم وانقيادا لحضرته الكريمة ولا تكرار في هذه الآية ، لان الأولى لتعظيم أمر اللّه وشكره لانجاز وعده والثانية لما أثر فيهم من مواعظ القرآن العظيم مما يلين القلب ويرعب الجوارح ويرطب العين ويرعد الأعضاء ويرجف الفؤاد ويرققه ، بدليل بكائهم عند سماعه فالسبب مختلف فيها ويدخل في معنى الخرور قوله صلّى اللّه عليه وسلم إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يترك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه.
ولا يمكن من وضعها قبل ركبتيه إلا بهذه الصورة تأمل ، وهؤلاء العلماء الممدوحون هم ما ذكرنا آنفا جماعة من مؤمني أهل الكتاب كانوا يتطلبون ويترقبون بعثة الرسول قيل منهم زيد بن عمرو بن نفيل وأبو ذر ، وعد بعضهم سلمان الفارسي والنجاشي واتباعه من اليهود والنصارى ، والقول الأحسن إنهم طائفة من أهل الكتابين كانوا قبل البعثة عند ما يسمعون وصف الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم يقع منهم ما يقع رضي اللّه عنهم ، وجاءت هذه الآية على طريق ضرب المثل على جهة التقريع أي أن أهل التوراة والإنجيل عند سماع ما يتلى عليهم من كتبهم من وصف حضرة الرسول كانوا يبكون ويودون أنهم يدركونه ليؤمنوا به ، وأنتم حينما تسمعون كلام اللّه الذي أنزله عليه لا يندى لكم جبين ولا تستفز جوارحكم ، بل تهزأون به وتسخرون ، وهو إنّما أرسل رحمة لكم ، وأحسن الأقوال أولها وهو ما بين في الآية المفسرة ، روي عن أبي هريرة أنه قال
:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا يلج النار رجل بكى من خشية اللّه حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل اللّه ودخان جهنم. - أخرجه الترمذي والنسائي وزاد في منخري مسلم أبدا - وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية اللّه وعين باتت تحرس في سبيل اللّه.
وأخرج أيضا عن النضر ابن سعد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لو أن عبدا بكى في أمته لأنجى اللّه تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد ، وما من عمل إلا وله وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورا من النار ، وما اغرورقت عين بمائها من خشية اللّه تعالى إلا حرم اللّه تعالى جسدها على النار ، فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة.(2/585)
ج 2 ، ص : 586
وينبغي أن تكون هذه الحالة في العلماء أكثر من غيرهم ، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عبد الأعلى التيمي أنه قال من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه.
لأن اللّه تعالى نعت أهل العلم فقال : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) الآيتين المارتين ، وقال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 38 من سورة فاطر المارة وقدمنا فيها ما يتعلق في هذا البحث ما به كفاية ، ومن الفقه الأخذ بما قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما :
إذا كثر الطعام فحذروني فإن القلب يفسده الطعام
إذا كثر المنام فنبّهوني فإن العمر ينقصه المنام
إذا كثر الكلام فسكتوني فإن الدين يهدمه الكلام
إذا كثر المشيب فحركوني فإن الشيب يتبعه الحمام
ولما سمع أبو جهل عليه اللعنة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول في دعائه يا اللّه يا رحمن ، قال لقومه إن هذا ينهانا عن تعدد لآلهة وهو يدعو إلهين أنزل اللّه تعالى «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» أيها الناس فإنكم «أَيًّا ما تَدْعُوا» من أسماء اللّه تعالى فادعوه بها «فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى » المشتملة على معاني التقديس كالخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية وقد مرّ بيانها في الآية 8 من سورة طه المارة فراجعها.
وما قيل إن اليهود قالوا لحضرة الرسول إنك تقل من ذكر الرحمن وقد ملئت التوراة من ذكره ، فنزلت لا يصح ، لأن الآية مكيّة بالاتفاق ولا يهود لهم صلة مع حضرة الرسول في مكة «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها» بحيث لا تسمع نفسك أو تسمع من هو خارج المسجد «وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ» الجهر الزائد والمخافتة الكلية «سَبِيلًا» 110 حالا وسطا بحيث تسمع نفسك إذا كنت منفردا ومن بجوارك إذا كنت إماما.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مختفيا بمكة أي مخف عبادته فيها أو أنه كان وأصحابه إذ ذاك يخفون صلاتهم خوفا من تعدي الكفار عليهم ، وكان إذا خلا بأصحابه رفع صوته ، فإذا سمعه المشركون يسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به ، فقال تبارك وتعالى لنبيه (ولا تجهر).
هذا ، ولهذا(2/586)
ج 2 ، ص : 587
البحث صلة في الآية 108 من سورة الأنعام في ج 2 فراجعه ، ورويا عن عائشة أنها نزلت في الدعاء ، وأخرج الترمذي وابن قتادة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لأبي بكر مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك ، فقال إني أسمعت من ناجيته فقال إرفع قليلا.
وقال لعمر مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسنان فقال اخفض قليلا.
فهذا على فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لأن الآية صريحة في الصلاة ، وعلى كل الجهر بالدعاء والصلاة زيادة على الحاجة وهي اسماع من وراءه إذا كان إماما مذموم والمخافتة بحيث لا يسمع نفسه مذمومة أيضا ، والمستحب الوسط في ذلك.
قال ابن مسعود من أسمع أذنيه لم يخافت والجهر بأن يسمع من هم وراءه في الصلاة ، أو إمامه في الدعاء فقط ، والعدل رعاية الوسط قال صلّى اللّه عليه وسلم خير الأمور أوساطها.
وقال تعالى (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) راجع الآية 143 من سورة البقرة في ج 3 ، والآية المارة 29 من هذه السورة ، والآية 67 من الفرقان المارة.
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) الآية 154 من الأعراف المارة بعيد عن الصحة لأن الأعراف نزلت قبل الإسراء ، والمقدم لا ينسح المؤخر قولا واحدا ، لا خلاف ولا معارضة فيه ، ورحم اللّه علماء الناسخ والمنسوخ ما اغلاهم وأحرصهم على القول به لمجرد بادرة.
فلا حول ولا قوة إلا باللّه القائل «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» كما زعم بعض كفرة قريش وهم بنو مليح إذ يقولون إن الملائكة بنات اللّه ، وكما زعم اليهود بأن عزيرا ابن اللّه ، وكما افترى النصارى بأن المسيح ابن اللّه ، وكلهم كاذبون أفاكون لأنه جل شأنه لم يتخذ ولدا «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ» من الناس والملائكة والجن والأوثان ، وهذا إبطال لقول كل من يزعم أن للّه شريكا تعالى اللّه عن ذلك «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» فيحتاج إلى من ينصره ويتعزز به لأنه لم يذل قط تعالى عن ذلك ولم يوال أحدا من أجل المذلة من الغير أو المنفعة لنفسه المقدسة ، فنزهه عن ذلك كله وعظمه «وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» 111 يليق بذاته العلية وبرأه عن جميع سمات خلقه وأعمالهم وعما يقول الكافرون وأهل الكتابين من اتخاذ الولد والصاحبة والشريك والمعين والولي ، (2/587)
ج 2 ، ص : 588
ونزه تنزيها كثيرا.
وهذه الآية تسمى آية العز كما جاء في الحديث الصحيح ، وإن من داوم عليها كان عزيزا محترما ، ولهذا كان صلّى اللّه عليه وسلم يعلمها لكل غلام أفصح من بني عبد المطلب ، فعلى الموفق أن يداوم عليها ليل نهار ليوقع اللّه في قلوب خلقه مهابته واحترامه ويضاعف له الأجر بتلاوتها.
أخرج مسلم عن سمرة بن جندب قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أحب الكلام إلى اللّه أربع : لا إله إلا اللّه واللّه أكبر وسبحان اللّه والحمد للّه لا يضرك بأيهن بدأت.
وعن ابن عباس قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون اللّه في السراء والضراء.
عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الحمد للّه رأس الشكر ما شكر اللّه عبد لا يحمده.
وأخرج أبو يعلى وابن السّني عن أبي هريرة قال : خرجت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ويدي في يده فأتى على رجل رثّ الهيئة فقال أي فلان ما بلغ بك ما أرى ؟ قال السقم والضر قال صلّى اللّه عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر ؟
قال بلى ، قال قل توكلت على الحي الذي لا يموت ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إلخ الآية ، فأتى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعد مدة وقد حسنت حالته فقال مهيم أي مم أصابك هذا ، فقال لم زل أقول الكلمات التي علمتني.
وأخرج ابن ابي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام ، فقال يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت و(الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية.
وأخرج ابن أنس والديلمي عن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي الحمد للّه الكافي ، سبحان اللّه الأعلى ، حسبي اللّه وكفى ، ما شاء اللّه قضى ، سمع اللّه لمن دعا ، ليس من اللّه ملجأ ولا وراءه ملتجى ، توكلت على اللّه ربي وربكم ، (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية.
ثم قال ما من مسلم يقرأوها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فنضره.
هذا ، ولا يوجد سورة محتومة بمثل ما ختمت به هذه السورة ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا ، والحمد للّه رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده بمعونة اللّه تعالى وتوفيقه.(2/588)
ج 2 ، ص : 589
تم الجزء الأول من هذا التفسير المبارك ، وهو يحتوي على خمسين سورة من القرآن العظيم أولها اقرأ باسم ربك وآخرها الإسراء ، بحسب ترتيب النزول ، وقد نزلت متوالية متتابعة عدا الآيات المدنيات منها ، وقد أثبتناها حسب نزولها كما وعدنا في المقدمة ، وكان أول النزول في غار حراء في 17 أو 27 رمضان السنة الأولى من البعثة الشريفة الحادية والأربعين من الولادة الكريمة ، هو الخمس آيات الأولى من سورة العلق كما أوضحناه في المقدمة في بحث النزول وسورة بني إسرائيل التي هي آخر هذا الجزء نزلت في 27 رجب السنة العاشرة من البعثة والحادية والخمسين من الولادة الشريفة ، فيكون مجموع المدة التي نزلت فيها هذه السور عدا الآيات المدنيات المشار إليها في محالها ثماني سنين وعشرة أشهر إلا عشرة أيام على القول بأن مبدأ النزول كان في 17 رمضان ، وعلى القول بأن المبدأ كان في 27 رمضان تكون المدة ثماني سنين وعشرة أشهر تماما ، واللّه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ، وقد وقع الفراغ منه يوم الاثنين من رجب الفرد سنة 1356 الموافق 6 أيلول سنة 1937 ، ويليه الجزء الثاني أوله سورة يونس ، وآخرة سورة المطففين ، وبها ينتهي القسم المكي من هذا التفسير إن شاء اللّه ، ويعين التاريخ وقع البدء في الجزء الثاني ، وتتميما للفائدة ألحقنا بهذا ما اشتمل عليه من المطالب بيانا يسهل لمريد المطالعة ما يريده منه ، والحمد للّه على توفيقه والشكر له على الإرشاد إلى سلوك طريقه القويم الموصل إلى الصراط المستقيم ، والهداية إلى ما به الاتصال بالعناية من الرب الكريم.
هذا وليعلم القارئ أن ضعفي في فن الكتابة قد أدى إلى سقوط حرف أو زيادته أو زيادة نقطة في بعض الحروف أو نقصها ، ومن هذا القبيل تكبير النقطة أحيانا حتى يظن أنها نقطتان ، أو بعدها عن موقعها بما يؤدي للاختلاط «1» ، فأرجو ممن يطالع هذا إمعان النظر في ذلك كي لا يختلف عليه المعنى المراد.
وفقنا اللّه جميعا لما يحبه ويرضاه وإلى ما به السداد في القول والعمل والنية ، ومنّ علينا بألطافه القدسية ، ونشر علينا رحمته وستره ، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وصلّى اللّه وسلم على سيد محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين آمين آمين.
الفقير إليه عبد القادر ملا هويش آل غازي
__________________________________________________
(1) هذا قبل طبعه.(2/589)
ج 2 ، ص : 590
فهرس القسم الثاني من الجزء الأول
1 - الصفحة الموضوع 3 تفسير سورة الجن 6 رؤية الجن ورمي النجوم بالشهب 13 فتح إن وكسرها في سورة الجن 20 كرامات الأولياء 21 تفسير سورة يس 26 ما يكتب من آثار الخلق 28 قصة رسل عيسى 39 انسلاخ الأنفس 42 منازل الكواكب وكيفية جريانها 48 النفختان وعجب الذنب 51 تحية اللّه لعباده وتوبيخ المجرمين 54 أوزان الشعر ومخالفة القرآن لها 58 آيات الصفات وإذلال الحيوانات 60 تفنيد من يكفر قارئ إنا بالفتح 62 خلق النار من الشجر وكيفية أمر اللّه 65 تفسير سورة الفرقان 70 اجتماع قريش على حضرة الرسول 73 أسباب النزول 75 استعمال من لمن لا يعقل وما لمن يعقل ومحاورة العابدين والمعبودين 80 فما يدخر لك من العمل 91 ما بين الماء الملح والعذب من البرزخ 2 - 95 الأيام السنة ومعنى فاسأل به خبيرا 97 أقسام البروج وقضاء الأوراد 100 إحياء الليل والآيات المدنيات وكلمات لغوية 103 تبديل السيئات بالحسنات وشهادة الزور 105 قرة العين وسخنها والذرية 107 تفسير سورة فاطر 108 جواز إضمار الموصول وطلب الرزق 113 الهدى والضلال في الأصل من اللّه 114 الفرق بين ميّت وميت والعزة للّه 117 لكل حظ من خلق آدم والعمر يزيد وينقص 122 لا تزر وازرة وزر أخرى 123 في إسماع الموتى 124 عدم انقطاع آثار الأنبياء وعدم تكفير فاعل الكبيرة 126 خشية اللّه تعالى 130 نذر الموت ومعنى الغيب 133 الأرض عائمة كالسماء 136 تفسير سورة مريم 138 ما يجوز من الأسماء وما يستحب وما يحرم(2/590)
ج 2 ، ص : 591
3 - 141 ذكر الليالي دون الأيام 154 وصية عيسى عليه السلام وما يقول فيه قومه 156 يوم الحشر وذبح الموت 159 الفرق بين نور الإيمان وظلمة الكفر في خطاب إبراهيم وجواب أبيه 161 في إنجاز الوعد وبحث في الوعيد 162 أول من اخترع المهن وقصة إدريس عليه السلام 165 فيما يقال في السجود وكلمة خلف 167 الأكل المسنون وارث الجنة 169 معنى الورود وان مرتكب الكبيرة لا يخلد بالنار 171 آخر الناس خروجا من النار ودخولا إلى الجنة 176 تبرؤ العابدين من المعبودين وأصناف الحشر 178 الشفاعة وتحية اللّه 181 تفسير سورة طه 182 معنى العرش والاستواء 188 فوائد تكرير القصص 4 - 191 جواب إمام الحرمين ورفع الأيدي إلى السماء 192 قضاء الصلوات 195 عصا موسى وإعطاء محمد مثل ما أعطاه إلى كافة الرسل 198 الوزر والوزر والوزير ولطف اللّه تعالى بموسى وإجابة مطاليبه 200 لا صحة لحديث لم ينبيء اللّه نبيا إلا بعد الأربعين 204 لكل حظ من نشأ آدم ويقبر الإنسان بالمحل الذي أخذت ذرة خلقه منها 205 معجزات موسى وأدب الرسل مع أقوامهم 209 قوة الإيمان وثمرته 212 إهلاك فرعون وقومه وإنجاء موسى وقومه والميقات الأول 217 من أين عرف جبريل السامري 224 الحكم الشرعي في معصية آدم عليه السلام ومعنى القضاء والقدر 236 الاحتجاج على اللّه تعالى ورده(2/591)
ج 2 ، ص : 592
5 - 237 تفسير سورة الواقعة 240 معنى المخلدين ومصير أولاد المشركين وآداب الأكل 243 نساء أهل الجنة والذين يدخلونها بغير حساب 246 صحة العطف على الضمير من غير تأكيد 251 مس الصحف والحديث المرسل والموصول 254 علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين 256 تفسير سورة الشعراء 258 فائدة في كلا وفائدتين بعدها 263 الحكمة من قوله تلقف ما صنعوا 265 في السحر وكيفية إهلاك قوم فرعون 268 انفلاق البحر واخلاق موسى وكل آية لقوم هي آية لمحمد وقومه 271 إيمان المقلد والفرق بين الصنم والوثن 273 أكثر الموت من الأكل والشرب والحر والبرد ومحبة الذكر الحسن بعد الموت 275 عدم المغفرة للمشرك وعدم نفع المال والولد مع الكفر 277 ما يقال في مواقف القيامة وعدم جواز أخذ الأجرة على الأمور الدينية 6 - 278 لا تضر خسة الصنعة مع الإيمان ولا يكفي النسب بلا تقوى 284 إيمان اليائس والتأدب بآداب القرآن وآداب المنزل عليه 287 لا صحة لما قبل ان في القرآن كلمات أجنبية 293 الفرق بين القرآن والحديث القدسي وتخصيص القلب بنزوله وماهية المنزل عليه 295 لا تجوز القراءة بغير العربية إلا إذا كانت دعاء أو تنزيها 300 الأقارب أولى من غيرهم في كل شيء 303 الشعر مليحه وقبيحه والآيات المدنيات 304 المحبوب من الشعر 305 ما نسب من الشعر للخلفاء والأئمة وعهد أبي بكر إلى عمر رضي اللّه عنهما 308 تفسير سورة النمل 310 بدء نبوة موسى وكيفية تكليمه 313 إن اللّه خص الأنبياء بأشياء خاصة لأمور خاصة 314 قصة ابن كثير وعظمة ملك سليمان (ع) 316 الصفات الممدوحة بالملك وحكم وأمثال(2/592)
ج 2 ، ص : 593
تابع فهرسى القسم الثاني من الجزء الأول
الصفحة الموضوع 320 ما قاله الهدهد لسليمان وعلوم القرآن الأربعة 321 ملك بلقيس وسلاطين آل عثمان 324 فراسة الملك وهدية بلقيس لسليمان 327 جلب عرش بلقيس وإيمانها باللّه تعالى 331 جواز النظر إلى المخطوبة والحكم الشرعي فيه 333 التحاشي عن الكذب 340 اختلاف أهل الكتابين 341 خروج دابة الأرض 344 مواقف القيامة ولا نفخة ثالثة 347 حركة الجبال وما قيل فيها 350 تفسير سورة القصص 357 الحكم الشرعي في الرضاع ومعنى الأشد 363 تجوز النميمة والكذب لمصلحة والأخذ بالنصح 368 وفادة موسى على شعيب وعقده على بنته والحكم الشرعي في الاجارة والمهر 377 في قراءة التوراة ومناسبة هذه السورة لما قبلها 380 أهل الفترة وعدد الأنبياء وتقسيمهم 383 الآيات المدنيات ومحاسن الأخلاق وسبب النزول 385 ما قاله أبو طالب لحضرة الرسول عند وفاته 391 نفي الاختيار عن العبد 394 التفسير والقابلة وقصة قارون 396 معنى النصيب وفوائد 399 كلمة ويكأن وبقية قصة قارون 407 تفسير سورة الإسراء 410 وجوب الإيمان بالإسراء والمعراج 412 قصة المعراج والآيات التي حدثت فيه 413 البراق والأقوال الواردة في المعراج 420 الورد الأحمر والأصفر والمواليد الثلاث والحركة القسرية 429 ما بدأ اللّه به حضرة الرسول وما قاله له والعلوم التي منحها له 425 إنكار قريش وامتحانهم حضرة الرسول وحبس الشمس معجزة له 436 دوران الشمس ولا أرض والدم وأن الإسراء إسراءان وحكاية اتفاقيه 439 تعليم الرسول كيفية الصلاة وكونها من خصائص هذه الأمة والحكم الشرعي فيها 443 واقعتا بني إسرائيل وبدل الأحكام بتبدل الأزمان ت (38)(2/593)
ج 2 ، ص : 594
444 الواقعة الأولى 447 الواقعة الثانية 448 قتل يحيى عليه السلام 452 الشمس والقمر والليل والنهار وساعتهما والفصول الأربعة 457 أولاد المشركين وأهل القترة 466 بر الوالدين والحكم الشرعي فيه 476 التصدق والتبذير والإسراف والرد بالأحسن 481 في القتل والولي الذي له حق القصاص ومراتب الزنى واللواطة 486 المحافظة على أموال اليتم والوفاء بالعهود 490 الكيل والوزن والذرع وما يتعلق بها 493 آداب اللّه الذي أدب بها خلقه ووصايا السادة الصوفية الكرام واعتبار الظن والسماع في بعض الحالات 497 ما يجب أن ينأدب به الناس والوصايا العشر وعيرها 502 تسبيح الأشياء ومعجزات الرسول صلّى اللّه عليه وسلم 516 الخوف والرجاء وأنواع العبادة وصراب الكعبة والحديث الغريب 519 الآيات على ثلاث أنواع وبيان الشجرة المعونة 529 أمل إبليس بالجنة والاعتراف بوجود لإله 533 تفضيل الإنسان على جميع ما خلق اللّه تعالى على الإطلاق 537 تهديد اللّه تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم 542 مأخذ الصلوات الخمس والجمع بينها 545 التهجد والمقام المحمود وما نسب لإبراهيم عليه السلام وصلاة التراويح 550 الاستشفاء بالقرآن على نوعين وثالنهما العقيدة 556 الكفران يزبل النعم وذات الإنسان تقتضي الطاعة فطرة 559 أرجى آية في القرآن للمغفرة وبحث الروح 568 حفظ القرآن ورفعد في الوقت المقدر من اللّه 575 الحشر على الوجوه وبقاء عجب الذنب 583 آيات القرآن عامة مطلقة ونزولها بأشخاص لا يقيدها(2/594)
ج 3 ، ص : 3
[الجزء الثالث ]
[خطبة الكتاب ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نحمدك يا من وفقتنا لهذا الخير الجسيم ، ونشكرك أن سخرتنا للقيام بهذا السفر الكريم ، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فإني أشرع بالجزء الثاني من هذا التفسير متيمنا بفضله ولطفه ، سائلا منه المعونة والتيسير على إتمامه ، إنه بالإجابة جدير ، وهو على كل شيء قدير.
تفسير سورة يونس
عدد 1 - 51 - 10
نزلت بمكة بعد سورة الإسراء عدا الآيات 40 ، 94 ، 95 ، 96 فإنها نزلت بالمدينة ، وهي مائة وتسع آيات وألف وثمنمئة واثنتان وثلاثون كلمة ، وتسعة آلاف وتسعة وتسعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال اللّه تعالى : «الر» تقدم البحث مستوفيا أول سورة الأعراف في ج 1 ، ويوجد في القرآن خمس سور مبدوءة بما بدئت به هذه السورة ، ويوسف وهود والحجر وابراهيم.
قال سعيد بن جبير :
الراء وحم ون حروف الرحمن مقطعه.
وبه قال ابن عباس.
وقال غيرهما كل حرف مفتاح اسم من أسماء اللّه تعالى ، ولا يعلم المراد منها على الحقيقة إلا اللّه تعالى.
لذلك فأحسن قول في تفسير هذه الحروف المبدوءة بها سور القرآن العظيم أن يوكل علمها إلى اللّه «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا أكرم الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ 1» الذي أودع اللّه فيه الحكم كلها ، فلا رطب ولا يابس إلا في هذا القرآن يعرفه من يعرفه ، ويجهله من يجهله ، لأنه مأخوذ من علم اللّه المحيط بكل شيء ، ولوحه المكنون الحاوي جميع المكوّنات ، وهذه(3/3)
ج 3 ، ص : 4
الآيات تخبر العارف بصواب الحكمة المتقنة ، وتهيء المعاني للقلوب الطاهرة على تصديق ما تخبر به قومك ، وتلهب قلوب أهل للعزم صادقي النيّة على تأييدك فيما تبشر به وتنذر.
فيا أكمل الرسل «أَ كانَ لِلنَّاسِ» أهل مكة وغيرهم «عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ» عظيم القدر جليل الخلق (بدلالة هذا التنوين المأتي به للتبجيل) وجعلنا ذلك الرجل الخطير الذي أهلناه لوحينا وللخلافة في أرضنا «مِنْهُمْ» من أحسنهم حسبا وأشرفهم نسبا ، وقلنا له «أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ» قومك من أهل مكة وغيرهم من سائر الخلق العاقل بأن ينتهوا عما هم عليه من عبادة غير اللّه الواحد ، ومن الأفعال والأعمال الذميمة ويرجعوا عن الكفر ، أو ينزل بهم عذاب لا طاقة لهم به «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا» منهم بك وصدقوا ما تتلوه عليهم من هذا القرآن وأقلعوا عما هم عليه من الكفر ودواعيه.
«أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ» منزلة ومكانة «صِدْقٍ» سابقة رفيعة أي قد سبق لهم عند اللّه خير.
قال ذو الرّمة :
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة لهم قدم معروفة ومفاخر
مطلب في معنى القدم :
لأن القدم كل ما قدمت من خير وهو كناية عن العمل الذي يتقدم فيه الإنسان ، وأطلق لفظ القدم على هذا المعنى لأن السعي والسبق يحصل به ، فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وفي إضافة القدم إلى الصدق التنبيه على زيادة الفضل.
وقال بعض المفسرين المراد به الشفاعة وأنشد :
صل لذي العرش واتخذ قدما ينجيك يوم العار والزلل
هذا ، وكل عمل صالح ثوابه قدم صدق لفاعليه «عِنْدَ رَبِّهِمْ» راجع قوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) آخر سورة القمر في ج 1 ، أي أن جزاء أعمالهم الحسنة مخبوءة لهم عند ربهم يوم يلقونه.
والقدم هو العضو المخصوص ، وقد يراد منه التقدم المعنوي أي المنازل الشريفة قال حسان :
لنا القدم العليا إليك وخلقنا لأولنا في طاعة اللّه تابع(3/4)
ج 3 ، ص : 5
وقال الآخر :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمّت على البحر
وهذا القدم الذي يتخذ عند اللّه عز وجل هو ما يقدمه العاقل من أعمال صالحة بإخلاص صادق إلى ربه في دنياه ليدخرها له وينميها فيجد ثوابها عنده منازل رفيعة في جنة عالية دائم نعيمها ، لهذا فإن كل فعل صالح وأمر طيب يسمى قدما من تسمية الشيء باسم آلته ، وهذه الإضافة المشار بها آنفا من إضافة الموصوف إلى صفته مبالغة في تحقيقها ، وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم أهله ، إذ ليس للكافرين ما يبشرون به ، بل لهم الإنذار والتهديد ، وما جاء في بعض الآيات من لفظ البشارة لهم فهو من باب التهكم بهم قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية 5 من سورة التوبة في ج 3 ، أما الإنذار فإنه يصرف للفريقين المؤمنين والكافرين إذ قل من لا يستحق الإنذار «قالَ الْكافِرُونَ» لما سمعوا تلك الآيات البينات عتوا وعنادا «إِنَّ هذا» الذي تسمعونه من محمد ما هو إلا «سحر مبين 2» لا خفاء فيه على أحد وقرىء لساحر ، وعليه يكون قولهم إن محمدا الذي يأتيكم بالآيات ساحر ظاهر سحره فلا تلتفتوا إليه ، وذلك أنهم تعجبوا من أن اللّه تعالى كيف خص محمدا صلى اللّه عليه وسلم من بينهم وشرّفه برسالته إليهم ، ويقولون اللّه أعظم من أن يكون له رسول بشر يتيم كيتيم أبي طالب ، جهلا منهم بحقيقته صلى اللّه عليه وسلم فهو الذي لا ريب فيه لأحد من ذوي العقول الكاملة بأن له القدّنح المعلّى وفيه غاية الغايات ونهاية النهايات ؟ ؟ ؟ واللّه سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته ، وقد قال رائبه فيه :
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وقال الآخر :
ولو صوّرت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع
وقال الأبوصيري :
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق اللّه كلهم
ولم يعلم هؤلاء المتعجبون الذين طمس اللّه على قلوبهم أن الحظوظ الدنيوية لا دخل(3/5)
ج 3 ، ص : 6
لها في مختارات اللّه ، ولكن هذا ليس بكثير على من سلب اللّه عقله.
وقد لا تجتمع مع العقل ، ورحم اللّه الإمام الشافعي إذ يقول :
ولكن من رزق الحجى حرم الغنى ضدان مفترقان أي تفرق
مطلب معنى التعجب والتدبر والأيام الست والعرش :
هذا وإن التعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء خلاف العادة ، وقد زعموا أن ضيرورة اليتيم الفقير نبيأ لم تجر به العادة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تهكما بهم.
قال تعالى يا أيها الناس «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» تقدم البحث فيها في الآية 59 من سورة الفرقان في ج 1 ، وله صلة في الآية 9 من سورة فصلت الآتية إن شاء اللّه «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» المبسوط القابل لانعكاس أشعة أسمائه تعالى وصفاته ، واستولى عليه استيلاء يليق بذاته ، بلا أين ولا كيف ولا كم ، بصرف النظر عما يتصور من معنى ثم في تراخي الزمن والمهلة ، وقد تقدم تفسيره وما يتعلق به مفصلا في الآية 51 من سورة طه في ج 1 ، «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» كله فيهما مما يتعلق في جميع مكوناته العلوية والسفلية فلا يخرج شيء عن قضائه وتقديره مما يقع فيهما ، ومن جملة ذلك اختيار سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم للرسالة ومعنى التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها وما ينتج عنها لتقع على الوجه المحمود ، قال عليه الصلاة والسلام إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته ، والمراد هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل «ما مِنْ شَفِيعٍ» يشفع لأحد «إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» لذلك الشفيع الذي يرتضيه ولا يشفع إلا لمن يرضاه راجع الآية 109 من سورة طه في ج 1 ، وله صلة في الآية 255 من سورة البقرة في ج 3 ، وهذا الشفيع عام يشمل الأنبياء والملائكة فمن دونهم ، وقد جاء في معرض الرد لقول الكفرة بشفاعة الأوثان ، فإذا كان الأنبياء فمن دونهم من كرام الخلق على اللّه لا يشفعون إلا بإذنه ، وإلا لمن يرضاه ، فكيف يتمنّى القول بشفاعة الأوثان التي كونتها أيديهم من أحجار وأخشاب وغيرها «ذلِكُمُ» الإله العظيم خالق السموات والأرض ومدبر أمورهما ومن فيهما المستولي(3/6)
ج 3 ، ص : 7
على العرش العظيم هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ» أيها الناس سيدكم ومولاكم ومسوي أموركم «فَاعْبُدُوهُ» وحده شكرا لنعمه الظاهرة والباطنة «أَ فَلا تَذَكَّرُونَ 3» عظمته وجميل صنعه إليكم فتعتبرون وتتعظون وتنقادون لهذا الربّ الذي «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» لا إلى غيره ولا مصير لأحد دونه «جَمِيعاً» إنسكم وجنكم وملككم ، وقد وعدكم بالبعث بعد الموت على لسان رسله «وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» منجزا لا محيد لكم عنه «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» يحييهم أولا كما أحيى أصلهم من العدم «ثُمَّ يُعِيدُهُ» على حالته الأولى بعد إماتته كما بدأه «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» العدل بحيث لا ينقص من أجر أحد منهم شيئا بل يزبده من فضله وكرمه «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» كذلك يجزيهم على أعمالهم بالعدل ، فلا يزيد على ما يستحقونه شيئا ولا يعذّبهم على ما لم يفعلوا ، وهؤلاء الكافرون «لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» ماء متناء في الغليان بدل ما كانوا يتلذذون به من الأشربة المحرمة في الدنيا «وَلهم عَذابٌ أَلِيمٌ» فوق ذلك لا تطيقه أجسامهم «بِما كانُوا يَكْفُرُونَ 4» بالدنيا باللّه وكتبه ورسله ، وينكرون اليوم الآخر ، وفي هذه الآية دلالة قاطعة على البعث بعد الموت والحشر والنشر والمعاد ، وردّ صريح على منكري ذلك الإله العظيم «الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» خصّ القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء الذي خصّه بالشمس لقوّته وكماله ، وفيه إشارة إلى أن هذا النور مستفاد من ذلك الضياء ، وهذه الاستفادة حاصلة من الشمس إلى القمر ، سواء كانت على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة ، أو بأن يستنير نفس جوهره بصورة يعلمها اللّه ، راجع الآية 12 من سورة الإسراء في ج 1.
و«قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» يتنقل فيها بنظام بديع لا يتغير راجع الآية 39 من سورة يس في ج 1 تعرف المنازل وغيرها ، وإنما أعاد الضمير للقمر وحده لأن سيره في المنازل أسرع من سير الشمس ، وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين المعتبرة شرعا لابتنائها على الأهلة ، وما قيل إنه يرجع إلى الشمس والقمر معا ، وإنما وحده مع أنه عائد لهما للإيجاز اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر كما في قوله تعالى (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) الآية 68 من التوبة في ج 3 بدل ترضوهما إيجازا(3/7)
ج 3 ، ص : 8
واكتفاء ، إلا أن الأول أولى لموافقته لظاهر الآية ، وللسبب المذكور آنفا المؤيد بقوله تعالى «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.
مطلب السنين الشمسية والقمرية وما يتعلق بهما :
والمراد بالسنين هنا القمرية التي هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما ، وثماني ساعات ، وثمان وأربعون دقيقة ، راجع الآية 32 من الأعراف في ج 1 ، على أنه لا مانع من أن تشمل جملة آية السنين والحساب السنة الشمسية أيضا التي هي ثلاثمائة وخمس وستون يوما ، وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة أيضا ، والفرق بينهما عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة بمقتضى الرصد الأليخاني ، وكل من السنتين تكون بسيطة وكبيسة ولهذا يكون شهر شباط في كل أربع سنين تسعا وعشرين يوما إذ ينضم إليه فروق ثلاث سنين لانتظام الحساب الجاري ، والأشهر العربية تكون ثلاثين ، وتسعا وعشرين يوما للسبب نفسه ، فتكون السنة القمرية بانقضاء اثنى عشر شهرا قمريا ، والشمسية عند وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من البروج الاثني عشر التي ذكرناها أول سورة البروج المارة في ج 1 ، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 16 من سورة الحجر الآتية إن شاء اللّه «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ» الضياء في الشمس والنور في القمر وجعل منهما معرفة السنين والحساب ، وما أظهر ما أظهر منها وأوجد ما أوجد في عالمي للغيب والشهادة من مظاهر أسمائه وصفاته «إِلَّا بِالْحَقِّ» الموافق للحكمة البالغة ، إظهارا لقدرته وبرهانا لوحدانيته وجعلها دلائل على عظمته ، فلم يخلق ذلك باطلا ولا عبثا بل هي حق لا مرية فيه كسائر مخلوقات ذلك الخالق الجليل الذي «يُفَصِّلُ الْآياتِ» تفصيلا وافيا ويكررها تكريرا شافيا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 5» الحكمة التكوينية لهذا الكون العظيم المهمول فيستدلون على شئون مبدعها ويستنبطون منها البراهين على باهر قدرته ووحدانيته «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» من كون أحدهما مضيئا والآخر مظلما ، وكون كل منهما يخلف صاحبه فيجيء وراءه متصلا به دون فاصلة ما ، وأخذ أحدهما من الآخر بصورة تدريجية ساعات ودقائق ، ثم يتلوه صاحبه فيرجع إليه(3/8)
ج 3 ، ص : 9
ليسترد ما أخذه منه حتى يبلغ الغاية المقدّرة في الأزل ، وهكذا كل منهما يعيد الكرة على الآخر دواليك بصورة منتظمة لا تختلف قيد شعرة منذ خلقها اللّه تعالى إلى الآن ، وإلى أن يأذن بخراب هذا الكون «وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من الكواكب السيارة والثابتة والبحار والأنهار والمعادن الجامدة والسائلة ، مما عرفه الخلق ومما لم يعرفه بعد ، والآثار الحكمة والخلائق المتنوعة «لَآياتٍ» واضحات عظيمات دالات على وجود الصانع لهذه المصنوعات المتقنة ، وعلى كمال قدرته وبالغ حكمته ، وعلى ما أنكروه من البعث بعد الموت ، وما تعجبوا به من إرسال الرسل وإنزال الكتب بتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوي الردى «لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ 6» اللّه ويحذرون عاقبة ما خوفهم به رسله ، وخص المتقين لأن التقوى تدعو إلى النظر في عواقب الأمور والتدبر لنتائجها ، وقد تحدو بهم إلى الفكر والتفكر في آيات اللّه والتذكر بها لتوصلهم إلى معرفة صانعها المكون هيكلها ، فيزدادوا إيمانا وتصديقا وإذعانا ، فينقادوا إلى اللّه ويؤمنوا برسله وكتبه واليوم الآخر ، فيحصل لهم المقصود الذي خلقوا لأجله وهو عبادة اللّه تعالى القائل :
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات الآتية.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» ولا يتوقعون حصوله ولا يخطرونه ببالهم لتوغلهم بالغفلة عن لتفطن إلى الحقائق الراعنة ، لأنهم لا يعتقدون بالثواب والعقاب لإنكارهم اليوم الآخر فلا يخافون وعيدنا وتهديدنا الواقع على لسان رسلنا «وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا» المستعارة الموقتة دار البلاء والمحن التي لم تدم ولم تصف لأحد بدلا من الآخرة الدائم نعيمها دار السعادة والصفاء ، وآثروا الأدنى الفاني الخسيس ، على الأعلى الباقي النفيس «وَاطْمَأَنُّوا بِها» وركنوا إليها ومالوا بكليتهم عليها وسكنت لها قلوبهم سكون من لا براح له عنها ، آمنين من اعتراء المزعجات غافلين عما أعد لهم من العذاب ، فبنوا القصور الفخمة القوية ، وأملوا الآمال المغوية البعيدة ، فأزال ذلك كله الوجل من قلوبهم وصرفها في الملاذ والملاهي حتى أنساهم ذكر اللّه زخارفها ، وصاروا بحالة لم يصل معها إلى قلوبهم ما يسمعون من الإنذار والتخويف والوعيد «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ 7» لا يتفكرون(3/9)
ج 3 ، ص : 10
بها لاهون في ألعابهم ، مقبلون على لذاتهم ، معرضون عما يأتيهم من قبلنا «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم وهو مبتدأ و«مَأْواهُمُ» مبتدأ ثاني وخبره «النَّارُ» وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول والجملة خبر «إن» التي هي بصدر هذه الآية لذلك لا يوقف على (غافلون) ولو كانت إشارة الوقف عليها لأن الكلام لا يتم بها وإشارة الوقف عبارة عن فاصلة فمنها ما يتم بها الكلام فيوقف عليها ومنها ما يوقف عليها ، فيرجع القارئ إليها فيصلها بما بعدها ويقف على ما يصح عليه الوقف ، وهذا كثير في القرآن العظيم إذ لا يخفى أن الخبر محط الفائدة وهو الذي يوقف عليه لا المبتدأ ، والمعنى أن الموصوفين المذكورين الذين لا يرجون لقاء اللّه مصيرهم ومثواهم نار جهنم جزاء «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 8» من الأعمال الخبيثة في الدنيا والجار من/ بما/ متعلق بمحذوف تقديره جوزوا بكسبهم القبيح وجاء الرجاء بصدر هذه الآية بمعنى الخوف وهو كثير بلغة العرب ، قال أبو ذؤيب :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها.
أي لم يخفه والمراد من لقاء اللّه الرجوع إليه بالبعث بعد الموت والحساب المترتب عليه الجزاء بحسب الأعمال.
قال تعالى :
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا «يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ» في الآخرة إلى الجنات العالية «بِإِيمانِهِمْ» الخالص المؤدي إلى ذلك ، فتراهم على الطريق السوي في الدنيا مدة لبثهم فيها ، ويجعلون بسببه في الآخرة بمكان «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» أي من تحت منازلهم ومن بينها لينظروا إليها من أعالي أصرّتهم وشرفات قصورهم.
وقيل إنها تجري بين أيديهم وليس لشيء إلا أن يراد ما بين أيديهم (أمامهم) فإنه شيء يعتدّ به.
وقيل يهديهم نور أعمالهم لما جاء في الحديث أن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة ، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة ، فيقول له أنا عملك ، فينطلق به حتى يدخله النار.
وفي هذه الآية دليل على أن مجرد الإيمان منج ، إذ قال بإيمانهم دون أن يضم إليه العمل الصالح ، وهو لا شك ينجي من التخليد بالنار ويدخل الجنة من لم يتمكن من العمل كمن أسلم ومات قبل أن يقدم عملا صالحا ، فإذا أمكنه تقديم العمل(3/10)
ج 3 ، ص : 11
الصالح فهو من باب أولى «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 9» الدائم لأمثالهم ، وحرف الجر هنا متعلق بتجري وهو حال من الأنهار «دَعْواهُمْ» دعاءهم وهو مبتدأ و«فِيها» متعلق به وخبره «سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ» أي أنهم يدعون اللّه تعالى وينادونه في هذه الجملة الدالة على التنزيه تلذذا بذكره تعالى لا عبادة ، وانهم يقولون هذه الجملة كلما يعايتون شيئا من عجائب آثار قدرته ونتائج رحمته ورأفته «وَتَحِيَّتُهُمْ» فيما بينهم «فِيها» أي الجنة «سَلامٌ» أي يحيي بعضهم بعضا وتحييهم الملائكة في هذه الكلمة أيضا.
وقيل إن جملة سبحانك اللهم علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام ، فإذا أرادوا شيئا قالوها ، فيأنونهم بما تشتهي أنفسهم وتلذّ به أعينهم من الأطعمة التي لا يشبه بعضها بعضا في اللون والطعم والرائحة والآنية واللذة والكم والكيف والماهية والغداء.
فإذا فرغوا حمدوا اللّه تعالى على ذلك بما يلهمهم المنعم عليهم من أنواع التحميد والتقديس التي منها ما حكاه اللّه عنهم بقوله عز قوله «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 10» فترجع الموائد عند ذلك واستدل القائل بهذا بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريح قال : أخبرت أن أهل الجنة إذا مرّ بهم الطائر يشتهونه قالوا سبحانك اللهم ، وذلك دعاؤهم ، فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فإذا جاء الملك بسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله وتحيّتهم فيها سلام.
فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا الحمد للّه رب العالمين ، وذلك قوله تعالى (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
وهذا ترتيب ذكري بحسب الترتيب الوقوعي ، إلا أنه خلاف الظاهر ، والأولى ما ذكرناه ، لأن أهل الجنة يبتدئون أمورهم كلها بتعظيم اللّه تعالى وتنزيه ، ويختمونها بشكره والثناء عليه ، ويتكلمون بينهما بما أرادوا مما يلقيه ربهم على قلوبهم.
أخرج مسلم عن جابر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ، قالوا فما بال الطعام يا رسول اللّه ؟ قال جشاء (أي يخرج جشاء وعرقا) ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وفي رواية التسبيح والحمد.
وجاء في صحيح مسلم في وصف أهل الجنة يسبّحون اللّه تعالى بكرة وعشيا.(3/11)
ج 3 ، ص : 12
مطلب كراهية الدعاء بالشر على النفس :
قال تعالى «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ» الذي يدعونه على أنفسهم فيجيب دعاءهم فيه ومنه قول أهل مكة (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية 32 من سورة الأنفال في ج 3 ، ومنه قولهم عند سماع الآيات التي فيها الوعيد (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية 48 من سورة يس المارة في ج 1 ، ومثلها الآية 38 الآتية وهي مكررة في القرآن كثيرا ، قال ابن عباس المراد في هذه الآية دعاء الرجل على أهله وولده عند الغضب مثل قوله لعنك اللّه ، لا بارك اللّه فيك ، وكذا المرأة تقول لولدها قصف عمرك أعماك اللّه كسرك لا وفقك وشبهه ، وقال قتادة المراد دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له فيه.
راجع الآية 11 من سورة الإسراء في ج 1 أي لو يعجل اللّه للناس استجابة دعاءهم بالشر «اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» أي كطلبه وإرادة إجابته «لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ» حالا ولفرغ من إهلاكهم من كثرة ما تلوكه ألسنتهم من ذلك الدعاء السيء لكن اللّه تعالى بمنه وكرمه ، قد يستجيب للداعي بالخير ولا يستجيب له بالشرّ ، قال ابن قتبية إن الناس عند الضجر يدعون على أنفسهم وأهليهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة ، فلو بدلوا الدعاء حال الغضب بالشرّ على أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، بالخير ، لهم لكان أولى وأنفع لهم تحاشيا عن حصول الشر والوقوع بالملامة إذا صادقت الدعوة ساعة إجابة ، حفظنا اللّه من ذلك.
والتفسير الأول أولى وأحسن انطباقا على المعنى ، لأن المراد بالناس في هذه الآية - واللّه أعلم - المذكورون في قوله تعالى (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الآية السابقة ، ويؤيد هذا ما جاء أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث أحد رؤساء قريش مكة القائل (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) الآية المارة آنفا ، وعليه يكون المعنى ولو يعجل اللّه لهؤلاء الكافرين العذاب كما يعجل لهم الخير في المال والولد لعجل قضاء آجالهم فأماتهم جميعا ، ويدل على هذا أيضا قوله تعالى تتمة هذه الآية «فَنَذَرُ» نترك ونهجر «الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» السابق(3/12)
ج 3 ، ص : 13
ذكرهم ووصفهم «فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 11» يترددون من الحيرة في تمردهم وعتوهم ولكنا بمقتضى الحكمة الأزلية لا نعجل الشر لهم ولا ننقص أجلهم عما هو مقدر لهم ، بل نمهلهم ونستدرجهم ، لا نتركهم ولا نهملهم ، وسنفيض عليهم النعم ونغريهم بالمال والجاء حتى تلزمهم الحجة ويستكملوا جميع ما قدر لهم في أزلنا الذي لا يتبدل ، ثم نأخذهم على غرة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وتقربة بها إليك يوم القيامة ، واجعل ذلك كفارة له يوم القيامة.
ولا يقال إن هذه الآية أي (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) إلخ لم تنزل بعد ، فلا يصح أن تكون الآية المفسرة سببا للنزول في حق القائل لأن الكفرة كانوا يتقولون بما في معناها كلما سمعوا آية وعيد أو تهديد أو تخويف من حضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم بدليل طلبهم استعجال العذاب مثل قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الآية المنوه بها آنفا وأمثالها ، ولأن آية الأنفال لم يكن نزولها في المدينة المنورة كي يحتج بها هذا القائل لأنها نزلت بمكة منفردة عن سورتها وليست هي وحدها بل ما قبلها وما بعدها من الآية 20 إلى 26 نزلت بمكة حكاية عن حالتهم السابقة وتهكم بهم كما سنأتي على ذكرها وسببها عند تفسيرها في القسم المدني إن شاء اللّه وقد أعمي اللّه قلب النضر المذكور عن أن يقول اللهم إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه ووفقنا له بدلا من أن يقول (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) إلخ ، ولكن توغله في الضلال وتماديه في العناد أداء إلى قوله ذلك ، لأن اللسان ينطق بما يتلقاه عن القلب والدنّ ينضح بما فيه من خذلان اللّه إياه ، قال تعالى «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ» الشدة والضنك «دَعانا لِجَنْبِهِ» مضجعا «أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً» أي أنه يثابر على الدعاء في جميع أحواله وحالاته «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ» الذي أنهكه بعد أن التجأ إلينا ودعانا «مَرَّ» مضى واستمر على حالته الأولى من الإعراض عنا ونسي حالة الجهد والبلاء ولم يركن إلينا ويدعنا شكرا على رحمتنا به وإجابتنا لدعائه ، وصار من شدة غفلته وعمهه وإعراضه وانهماكه في زخارف الدنيا وشهواتها(3/13)
ج 3 ، ص : 14
«كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا» قبل «إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» وكأنه لم يصبة شيء من الفقر والفاقة والمرض البتة «كَذلِكَ» كما زينا لهذا الإنسان جهله القبيح ونسيانه المليح «زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ» الذين تجاوزوا حدود اللّه وأفرطوا بكل صفة ذمية وفرطوا بكل خصلة ممدوحة فرأوا حسنا «ما كانُوا يَعْمَلُونَ 12» من القبائح والإعراض عن اللّه تعالى والانهماك في الشهوات والمثابرة على الكفر.
ونائب فاعل زين هو لفظ ما الذي هو بمعنى الذي ، أي العمل السيء الذي كانوا يعملونه بإغواء الشياطين وتسويلاتهم.
وفي هذه الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهوع إليه في الشدة.
ومما يليق بالكامل أن يتضرع إلى مولاء في السراء والضراء فهو أرجى للإجابة ، وأن يكثر الخوف حالة الرخاء والصحة ، والرجاء حالة الفاقة والمرض ، فهو أجدر بالخضوع إلى اللّه.
جاء عن أبي الدرداء : أدع اللّه تعالى يوم صرائك يستجب لك يوم ضرائك.
وعن أبي هريرة : من صره أن يستجاب له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء.
وجاء عنه صلى اللّه عليه وسلم : تعرف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة.
وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في تفسير الآية 83 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعه.
والمراد بالإنسان هنا من حيث اللفظ والمعنى الكافر بقطع النظر عن كونه معينا فتشمل الآية من نزلت فيه وغيره من كل من هذه صفته من الكافرين والعاصين غير المبالين بما يفعلون ، لأن أل فيه للجنس ويدخل تحت الجنس عموم أفراده.
هذا ، واعلم أن المزين في الحقيقة للعمل هو اللّه تعالى ، لأنه مالك الملك ، والخلق كلهم عبيده يتصرف فيهم كيفما شاء وأراد.
راجع قوله تعالى :
(
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الآية 57 من سورة الأنعام الآتية ، وقوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من سورة الصافات ، وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) الآية 135 من الأنعام أيضا ، وإذا كان للشيطان سبب ظاهرى فيكون بإقدار اللّه تعالى إياه ، وإلّا فهو عاجز أيضا عن أن يقسر الإنسان على فعل شيء أو عدمه ، راجع قوله تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) الآية 76 من سورة النساء في ج 3 ، والآية 31 من سورة إبراهيم الآتية ، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في تفسير الآية 121 من سورة طه المارة في ج 1 ، وفيها ما يرشدك(3/14)
ج 3 ، ص : 15
إليه من المواضع التي فيها هذا البحث فراجعها.
قال تعالى «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ» السابقة كقوم نوح وعاد وثمود ، وقد بينا ما يتعلق بالقرن في الآية 15 من سورة الإسراء المارة في ج 1 فراجعها «مِنْ قَبْلِكُمْ» يا أهل مكة وقد التفت بالخطاب تعالى خطابه إليهم مبالغة في التشديد والتهديد «لَمَّا ظَلَمُوا» أنفسهم بتكذيبهم آياتنا ونماديهم في الغي والبغي «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» الواضحة فكذبوهم كما كذبتم محمدا يا أهل مكة الذي جاءكم بمثلها «وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» برسلهم مثلكم بل بقوا مصرّين على كفرهم «كَذلِكَ» مثل ما جزيناهم بالهلاك «نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ 13» منكم فنهلككم أيضا وكذلك نجزي كل طائفة مجرمة لم ترجع عن كفرها بالهلاك «ثُمَّ جَعَلْناكُمْ» يا قريش بعد إهلاك القرون الماضية «خَلائِفَ» لهم «فِي الْأَرْضِ» لإعمارها ونشر السلام فيها وعبادة مكونها وحده «مِنْ بَعْدِهِمْ» أي الهالكين الذين أساؤا التصرف بها وعبدوا الأوثان «لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 14» هل تقتفون آثارهم فتستحقون الإهلاك مثلهم أو تعملون خيرا فتستوجبون النجاة في الدنيا من عذاب الاستئصال والجنة في الآخرة والنعيم الدائم.
واعلم أن كلمة كيف منصوبة بتعلمون لا بننظر قبلها لأن معنى الاستفهام فيه يمنع تقدم عامله وعليه يكون المعنى أنكم أيها الناس بنظر منّا وتحت مراقبتنا فانظروا كيف تعملون أتعتبرون بمن قبلكم فتفوزون بالنجاح ، أم تعترون بما أنتم عليه فتهلكون ، واللّه تعالى لا ريب عالم بما يقع منهم قبل وقوعه ناظر إليه قبل شروعهم فيه ، وإنما قال لهم ذلك إظهارا لقوله سبحانه لعباده بأن يعاملهم معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه على حد قوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الآية الثانية من سورة تبارك الملك الآتية فيظهره لخلقه ليتيقنوا أن من يعمل صالحا يجازى بأحسن منه ، ومن يقترف طالحا يجازى بمثله.
مطلب ذم الدنيا وحالة الرسول وعمر فيها :
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إن الدنيا(3/15)
ج 3 ، ص : 16
حلوة خضرة ، وإن اللّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واحذروا فتنة النساء أي وفتنتها ، ولا تعتروا بزخرفها وخذوا منها ما يكفيكم ، ودعوا الفضل تكونوا فاضلين.
قال تعالى (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ) الآية 77 من سورة النساء في ج 3 ، وليعلم أنه لم يؤت الإنسان في هذا القليل إلا قليلا ، وهذا القليل إن تمنّعت به فهو لهو ولعب ، قال تعالى (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) الآية 21 من سورة الحديد في ج 3 ، وقال تعالى (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الآية 14 من سورة العنكبوت ومثلها 32 من سورة الأنعام الآتيتين ومثلها الآية 36 من سورة محمد في ج 3 ، فعلى العاقل أن لا يشري حياة قليلة فانية بحياة كثيرة باقية ، قال ابن عياض لو كانت الدنيا ذهبا يفنى والآخرة خزفا يبقى لوجب أن نختار ما يبقى على ما يفنى ، قال تعالى (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الآية 24 من سورة لقمان الآتية.
وقال صلى اللّه عليه وسلم لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا أريك الدنيا بما فيها قلت بلى يا رسول اللّه ، فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة ، فإذا مزبلة فيها رءوس الناس وقذرات وخرق بالية وعظام البهائم ، فقال يا أبا هريرة هذه الرءوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم ، وهي اليوم صارت عظاما بلا جلد ثم هي صائرة عظما رميما ، وهذه القذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها في الدنيا ، فأصبحت والناس يتحامونها ، وهذه الخرق البالية رياسهم أصبحت والرياح تصفقها ، وهذه العظام عظام رءوس دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد ، فمن كان باكيا على الدنيا فليبك ، قال فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا.
وروي أن عمر بن الخطاب دخل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبيه ، فبكى عمر فقال صلى اللّه عليه وسلم ما يبكيك يا عمر ؟ فقال تذكرت كسرى وقيصر وما كانا عليه فيه من سعة الدنيا وأنت رسول اللّه وقد أثر الشريط في جنببك ، فقال صلى اللّه عليه وسلم هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا ، (3/16)
ج 3 ، ص : 17
وقد تمثل عند ما آلت له الخلافة بالآية الآتية الدالة على معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم هذا وذلك أن ضيفا جاءه ذات يوم وأمامه قصعة يأكل منها وبجانبه ضيفان يأكلان على قصعة أخرى ، فجلس معه فرأى عظاما وعصبا ، فقال ما هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال هذا الذي ترى إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايب اللحم إلى آل محمد ، والذي يليه للمهاجرين والأنصار ، والذي يليه للضيفان ، وما بقي من عظم وعصب لعمر وآل عمر ، فبهت الرجل ثم قال له عمر اعلم أيها الرجل أنا أعلم بصلاء الجداء منكم ، ولكن نتركه لئلا يقال لنا غدا (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) الآية 21 من سورة الأحقاف الآتية.
قيل أن تيمور لنك لما أسر ببلد رم با يزيد قال له هل أنت آسف ؟ قال وكيف لا ، فقال لا تأسف فلو كانت الدنيا تساوي عند اللّه ذرة ما ملكها لمثلك أعور ومثلي أعرج ، ثم قال له أتدري من الملك ؟ قال أنت ، قال لا ، الملك من يشهد له الناس في اليوم والليلة على رءوس المنابر خمس مرات.
فتدبر قوله هذا ، واعلم أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.
قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا» المعنيون بالآيات السابقة ، وقد وضع الموصول فيها موضع الضمير إشعارا بالذّم لهم أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك «ائْتِ» لنا «بِقُرْآنٍ» ليس فيه عيب آلهتنا ولا ترك عبادتها «غَيْرِ هذا» الذي تتلوه علينا المملوء بما نكره المحشو بتنديد ما نعبده «أَوْ بَدِّلْهُ» بأن تجعل الآية المشتملة على سب آلهتنا آية أخرى في مدحها ، ومن هؤلاء الخبثاء عبد اللّه بن أمية المخزومي والوليد ابن المغيرة ومكرز بن حفص وعمر بن عبد اللّه بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام ، وقد قالوا هذا لحضرة الرسول على طريق التجربة والامتحان ليعلموا صدق قوله وعدمه ، فأجابهم اللّه تعالى عن التبديل لأنه في طوق البشر بقوله «قُلْ يا محمد لهؤلاء العتاة «ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي» لأني لم آت به من جهة نفسي كي أتمكن من تبديل شيء منه ، ولا ينبغي لي أن أفعل هذا «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» من ربي فلا أقدر أن أزيد فيه شيئا ولا أنقص البتة «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» بالإقدام على تبديل(3/17)
ج 3 ، ص : 18
حرف أو زيادته أو نقصه «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 15» هو يوم القيامة الذي لا أعظم منه هولا ، وهذا جواب لكم عما طلبتموه من التبديل ، أما الإتيان بقرآن آخر غير هذا فهو خارج عن طوق البشر ، فلا أقدر أنا ولا غيري عليه البتة ، وهذا وما بعده في الآية رد صريح على من يقول إن القرآن أتى به محمد من عند نفسه ، وكثير من آيات هذه السورة جاءت بمعرض الرد على هذا وآيات غيرها في السور الأخرى أيضا صريحة بالردّ على هؤلاء الذين يشكون يكون هذا القرآن من عند اللّه ، وقد أكد ذلك بقوله جل قوله لحبيبه «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ» لأني أمي كما تعلمون لا أحسن القراءة والكتابة وإن تلاوتي له عليكم أمر غريب أبرزه لكم ، وإن إظهار أمر عجيب خارج عن العادة وخارق لها وإن أمّيّا مثلي لم يتعلم ولم يشاهد العلماء أو يجالسهم وقد قضى ردحا من عمره بين أظهركم وأنتم تعلمون ذلك إذ أنتم أميون مثلي فقراءتي عليكم كتابا بكلام فصيح يعلو على كل فصيح مشحونا بالأخبار الغيبية مما لا يعلمه إلا اللّه لمن أغرب الأمور وأعجبها إن كنتم تعقلون ، واعلموا يا قومي أن اللّه تعالى لو شاء لم ينزله علي ولم يأمرني بتلاوته «وَلا أَدْراكُمْ بِهِ» ولا أعلمكم بذلك على لساني لأن الأمر منوط به وليس لي شيء منه أصلا ، لأني عاجز عن الإتيان بشيء منه مثلكم وقرىء (ادرأتكم) بإسناد الفعل إلى حضرة الرسول عطفا على ما تلوته لتوحيد الضميرين ، والقراءة المشهورة هي ما في المصاحف بإسناد الضمير إلى اللّه تعالى وهي أبلغ في المعنى «فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً» مدة أربعين سنة «مِنْ قَبْلِهِ» قبل إنزاله علي من قبل اللّه وتلاوتي إياه عليكم ، فلو كان شيء منه في نفسي لتلوت عليكم خلالها شيئا منه وهذا دليل كاف على ردّ زعمكم بأن هذا القرآن من عندي أو أني تلقيته من الغير ، أو أني أقدر على الإتيان بشيء منه ، وإلا لوقع منّي ولو بعض آية
على طريق السهو على الأقل طيلة تلك المدة.
وبما أنكم يا قوم تعلمون عدم وقوع شيء مني من هذا القرآن ، ولم أقل لكم إنه أنزل علي شيء منه ، ولم أدّع النبوة التي شرفني اللّه بها إلا بعد مضي الأربعين من عمري ، وإذا علمتم هذا وتحققتم عدم ادعائي شيئا من ذلك فاعلموا أنه من عند اللّه ، وأن البشر كلهم عاجزون عن الإتيان بآية(3/18)
ج 3 ، ص : 19
منه أو أقل ، وعاجزون عن تبديل ما أوحي إلي منه أيضا ، وإني أبرأ مما تتوهمونه وما تسندونه إلي مخافة عذاب اللّه ربي «أَ فَلا تَعْقِلُونَ 16» ما وضحته لكم وتعترفون بأني نشأت بينكم ولم أغب عنكم لأنهم بالتعليم من الغير ، فمن له منكم مسكة من عقل سليم وذهن مستقيم يعلم صحة ذلك ، ويعرف بأن هذا الذي أتلوه عليكم منزل من عند اللّه العزيز الحكيم وكما أنكم عاجزون كلكم عن الإتيان بمثله فأنا مثلكم عاجز أيضا لأني من أحدكم فاتقوا اللّه وآمنوا به يا قوم لعلكم تفلحون.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : نزل القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة (أي بعد كما لها لأن النزول بدأ في الإحدى والأربعين من عام ولادته صلى اللّه عليه وسلم فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه (أي القرآن إلا شهورا) ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث فيها عشر سنين (أي يوحى إليه أيضا) ثم توفي صلى اللّه عليه وسلم ، فيكون عمره الشريف ثلاثا وستين سنة وهو الصحيح من أقوال ثلاثة ، لأن من قال إن عمره ستون سنة اقتصر على العقود وترك الكسر وهو ما بين العقدين وكل عشر سنين يسمى عقدا ، ومن قال خمس وستون حصل له اشتباه في مدة الإقامة بمكة والمدينة من حساب السنة مرتين ، قال تعالى «فَمَنْ أَظْلَمُ» لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم ذنبا «مِمَّنِ افْتَرى » اختلق من تلقاء نفسه «عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فنسب إليه ما لم يكن من الشريك والصاحبة والولد «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة على أنبيائه فكان مجرما بافترائه هذا «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ 17» المقترفون أوزارا توجب هلاكهم في الدنيا وإهلاكهم في الآخرة وإذا كان كذلك ، فاعلموا يا قوم أن من أعظم الإجرام أن آتيكم بشيء ليس من عند اللّه وأقول لكم هذا من عنده فكيف يسوغ لي أن أجرؤ على ذلك أو يتسنى لي الإقدام عليه كلا لا يجوز لي ذلك أبدا فأكون مفتريا على اللّه مزورا عليكم بهتا واختلافا ، ولكنكم أنتم افتريتم على اللّه تعالى فنسبتم له شريكا وصاحبة وولدا وهو منزه عن كله ، ونسبتم لي الافتراء والسحر والكهانة والتعليم من الغير ، وأنا بريء من ذلك كله ، فكنتم مجرمين مستحقين عذاب اللّه ، قال تعالى «وَيَعْبُدُونَ» هؤلاء الكفرة المكذبون أوثانا «مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ» إن تركوا(3/19)
ج 3 ، ص : 20
عادتها «وَلا يَنْفَعُهُمْ» إن عبدوها لأنها حجارة لا تحس بالتعظيم والتبجيل والعبادة التي هي أعظم أنواع التعظيم لا تليق إلا لمن يضر وينفع بأن يقدر على الإحياء والإماتة والخير والشر والصحة والمرض والفقر والغنى «وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ» الأوثان جهلا منهم وسخافة بهم «شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» مع علمهم بأنها لا تضر من جحدها ولا تنفع من اعترف بها ، ويقولون ما حكى اللّه عنهم في الآية 3 من سورة الزمر الآتية (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ) كما سيأتي بعد من أن هؤلاء العتاة توهموا أن عبادة الأوثان أشدّ وأكثر ، في تعظيم عبادة اللّه وحده لزعمهم أنهم ليسوا بأهل لأن يعبدوا اللّه الإله الواحد رأسا ، بل يعبدون هذه الحجارة والأخشاب ، تقربا إلى اللّه تعالى ، ويقولون إنها واسطة بينهم وبينه وإنها تشفع لهم عنده في الدنيا لإصلاح معاشهم ، إذ جعلوها على صور رجال صالحين بزعمهم ذوي خطر عندهم ومكانة عالية ، أما الآخرة فلا يحسبون لها حسابا لأنهم لا يعتقدون بالبعث بعد الموت ، وقد حكى اللّه عنهم بقوله عز قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) الآية 39 من سورة النحل الآتية ، ومن يقول منهم على طريق الشك إن هناك آخرة فيعتقدون أنها تشفع لهم فيها أيضا عند اللّه إن كان هناك آخرة على ما يزعم محمد وأصحابه فيها بعث ونشور وحساب وعقاب وجزاء ، وإن الشفاعات تنفع لأن محمدا يقول بها فإنا نتخذها لتشفع لنا أيضا وقد عبدناها في الدنيا لتكون شافعة لنا في الآخرة ، أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : كان النضر بن الحارث يقول إذا كان يوم القيامة شفعت اللّات والعزّى وفيه نزلت هذه الآية ونزولها فيه لا يقيدها بل تشمل كل من قال قوله بشفاعة الأوثان أو اشتراكها مع الرحمن «قُلْ» يا أكرم الرسل «أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ» وجوده «فِي السَّماواتِ» «وَلا فِي الْأَرْضِ» وتسمونه شريكا له وشفيعا عنده ، وهو لا يعلم له شريكا البتة ولم يعط الشفاعة لديه أحدا من أهل السموات والأرض إلا لمن يرضاه ولم يفوض من يرضاه بالشفاعة إلا لمن يرتضيه «سُبْحانَهُ وَتَعالى » من أن يتفوّه أحد بمثل ذلك عليه ، وله البراءة والتنزيه «عَمَّا يُشْرِكُونَ 18» معه من الأنداد والأضداد ، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا.
قال تعالى «وَما كانَ النَّاسُ»(3/20)
ج 3 ، ص : 21
في عهد آدم عليه السلام «إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً» حنفاء للّه متفقين على عبادته وطاعته واستمر الأمر كذلك إلى
أن أغوى إبليس قابيل فقتل أخاه هابيل «فَاخْتَلَفُوا» بعد هذه الحادثة الأولى من نوعها لأنه أول شر وقع على وجه الأرض ، فتفرقوا من أجلها ، إذ أن قابيل أخذ أخته وهرب من وجه أبيه ، وبقي آدم ومن معه على عبادة اللّه وطاعته ، وكفر قابيل ومن معه ، فصاروا قسمين مؤمنين وكافرين ، وهذا التفسير أولى من القول بأن الناس كانوا أمة واحد متفقين على الكفر والمكر من زمن نوح عليه السلام ، مستدلا بقوله تعالى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية 13 من سورة البقرة في ج 3 ، لأن هذه الآية تنطبق على قوم نوح عليه السلام إذ بعث فيهم وكلهم كافرون ، ولذلك عمهم اللّه بالعذاب ولم يبق على وجه الأرض منهم أحدا إلا نوحا ومن آمن به ، كما فصلناه في الآية 58 من الأعراف في ج 1 ، ولهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة هود الآتية.
هذا إذا كان المراد بالناس على الإطلاق فيجوز أنهم كانوا كذلك وتفرقوا ببعثته عليه السلام ، إذ خالفوا أمره واختلفوا فيما بينهم على إجابة دعوته ، هذا إذا كان المراد بالناس العرب خاصة ، فيكون المعنى أنهم كانوا على دين الإسلام من عهد إسماعيل عليه السلام ، إذ أن أباه إبراهيم عليه السلام سمى أتباعه المسلمين كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 ، وبقوا مسلمين إلى أن غيرّه عمرو بن لحى ، إذ سن لهم عبادة الأوثان ، وهو أول من عبدها ، إذ أنهم كانوا على الفطرة السليمة الصحيحة أول الخلق ، ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله صلى اللّه عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه والمراد بالفطرة في الحديث فطرة الإسلام لأنه دين الفطرة دين الحق والصدق.
والتفسير الأول أولى ، لأن الاختلاف وقع بعد حادثة ابني آدم عليه السلام كما ذكرناه آنفا.
وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إذ يخبره ربه عز وجل بأن لا مطمع لصيرورة الناس كلهم على دين واحد كما يريد لأن اللّه أراد ذلك كما سيأتي في الآيتين 117/ 118 من سورة هود الآتية ، قال تعالى «وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي جعله لكل أمة أجلا وقضى بسابق أزله تأخير العذاب عن(3/21)
ج 3 ، ص : 22
قومك وإمهالهم للإيمان به «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بتعجيل عقوبة المكذبين وعدم إمهالهم ، ولكان إنزال العذاب العاجل بهم فصلا بينهم «فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 19» ولأراهم المحق من المبطل وأهل النعيم من أهل الجحيم حالا ، ولكن اقتضت حكمته ذلك التأخير ليبلغ كل منهم جهته المتجه إليها بأعماله التي يزاولها وإظهار ما خفي في نفسه إلى الناس ، ليعلموا أن اللّه تعالى لا يؤاخذ أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه ، لأن من مفاد رحمته التي سبقت غضبه تأخير القضاء فيهم ليوم القضاء ، قال تعالى حاكيا جنايتهم الأخرى «وَيَقُولُونَ» لبعضهم كفرة قومك يا سيد الرسل «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» محسوسة مشاهدة كآية موسى عليه السلام اليد والعصا وآية عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص لآمنا به ، وبما أنه لم يأت بشيء من ذلك ولا مما اقترحناه عليه مما ذكر في آية الفرقان 6 فما بعدها ، وآية الإسراء 90 فما بعدها المارتين في ج 1 فلا نؤمن به «فَقُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء العمه القلوب الذين أعمى الطيش أبصارهم وملأ الحمق قلوبهم إنما تطلبونه من الغيب و«إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ» وحده اختص به نفسه وليس من خصائص البشر مثلي «فَانْتَظِرُوا» حصول ما تطلبونه من الآيات من اللّه الذي أعطاها للأنبياء قبلي «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 20» ذلك لأن الأنبياء لم يأتوا بالآيات من أنفسهم ، وهذه الآية جواب لهم وتهديد ووعيد بأنهم إذا لم يكتفوا بما أنزل اللّه من القرآن والآيات الأخر كانشقاق القمر والأخبار بالغيبات فإن اللّه تعالى ينزل بهم عذابه فلينتظروه لأن سؤالهم هذا بعد ما أراهم اللّه من الآيات على يد نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم عبارة عن تعنت وعناد ، ولو أنصفوا لاكتفوا بالقرآن العظيم الباقي إعجازه على ممر الدهور ، لأنه الآية الكبرى والنعمة العظمى ،
قال تعالى «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً» من خصب وسعة وصحة وجاه «مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ» قحط وفقر ومرض وذلة «مَسَّتْهُمْ» حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم ، أسند جل شأنه ضمير إذاقة الرحمة إليه وضمير الضراء إليهم ليتعلمّ الناس الأدب بتعاليم اللّه تعالى المبينة في هذا القرآن ، فيسندوا كل ما يدل على الخير إليه تعالى وما يدل على الشر إليهم أنفسهم ، وليتأدبوا أيضا بعضهم مع بعضهم بمقتضى تفضيل اللّه(3/22)
ج 3 ، ص : 23
بعضهم على بعض فيعرفوا قدر ذوي المكانة منهم فيخاطبوهم بما يليق بهم ، فهو أحرى بقضاء حوائجهم عندهم واحترامهم لديهم «إِذا لَهُمْ مَكْرٌ» كيد (والمكر صرف الشيء عن وجهه الظاهر لنوع من الحيلة) خفي منطوفي قلوبهم المريبة «فِي آياتِنا» إذ كذبوا بها واستهزأوا بمن أنزلت عليه من الأنبياء الأقدمين كفعل قريش بمحمد رسولهم.
مطلب الأنواء والحكم الشرعي فيها والإبرة المحدثة :
أخرج في الصحيحين عن زيد ابن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء (أي مطر وسمي سماء لأنه يقطر منها) كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس ، فقال هل تدرون ماذا قال ربكم ، قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال قال أصبح من عبادي مؤمن وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل اللّه ورحمته ذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب.
والنوء جمع أنواء وهي منازل القمر عند العرب فإذا طلع نجم سقط نظيره فيستدلون من ذلك على وجود مطر أو ريح كالمنجمين ، فمنهم من ينسب ما يحدث من المطر والريح إلى تأثير الطالع ، ومنهم ينسبه إلى تأثير الغارب ، ومعلوم أن العلماء استحدثوا الإبرة التي تتأثر من وجود الريح والمطر وغيره في الجو قبل وصوله إلى المحل الذي فيه الإبرة ، فيخبرون بما يرون من تأثيرها من تموجات الجو ، وقد أشار إلى هذا القرآن الكريم بقوله جل قوله : (هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الآية 57 من الأعراف المارة فراجعها تعلم حقيقة قوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 من الأنعام الآتية ، روي أن اللّه تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة ، حتي كادوا يهلكون ، ثم رحمهم اللّه تعالى بالحيا أي المطر ، قال الأبوصيري :
إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم.
فلما رحمهم وخصبت أراضيهم وكثر عليهم الخير ، طفقوا يطعنون بآيات اللّه ويعادون رسوله ويكذبونه ويقولون لم نمطر بدعائه ولا ببركته ، وإنما مطرنا بنوء كذا وكذا ، فأنزل اللّه هذه الآية.
لحكم الشرعي : هو أن من يعتقد أن للنجوم والأنواء تأثيرا فعليا بإنزال المطر(3/23)
ج 3 ، ص : 24
وغيره من دون اللّه فهو كافر ، وما جاء بالحديث الشريف المذكور أعلاء يصرف لهذه الفئة ، أما من يعتقد أن التأثير عندها لا بها وينسب الفعل إلى اللّه تعالى فلا يكفر ، وكذلك من يعتقد أن التأثير بها على معنى أن اللّه تعالى أودع فيها قوة مؤثرة فمتى شاء أثرت ومتى شاء لم تؤثر ، وكذلك من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها لا يكفر ، والأولى عدم اعتقاده بذلك أيضا ، وأما من يستدل بذلك على حدوث المطر والريح وأنه قد يحصل بإذن اللّه تعالى وقد لا يحصل فلا شيء عليه لأنه لم يجزم بالحصول كما أن الإبرة ، إنما تدل عند ترطب الجو على حصول المطر أو حصول أرباح وزوابع لتأثرها بذلك كما ذكرنا آنفا ، وأنه قد يقع ما تدل عليه خلال أربع وعشرين ساعة ، وقد لا يحصل ما تدل عليه لطوارئ طرأت على تبدل حالة الجو التي كانت عليه أولا ، وهذه لا تعارض قوله تعالى في الآية الأخيرة من سورة لقمان الآتية الدالة على أن نزول الغيث خاص بعلمه تعالى ، لأنه في الحقيقة لا يعلم وقت نزوله إلا اللّه ، كما أن الغيب لا يعلمه غيره ، لأن الإبرة المذكورة لا تدل على أنه ينزل ساعة كذا أو دقيقة كذا ، لأنها إذا بقي الجو على حالته قد تصدق خلال أربع وعشرين ساعة وإلا فلا ، لأنه من علم الغيب وذلك من التوسم الداخل في قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) الآية 75 من سورة الحجر الآتية ، قال تعالى «قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً» منكم وأعجل عقوبة وأشد أخذا ، ثم هددهم بقوله «إِنَّ رُسُلَنا» الملائكة الموكلين بحفظكم في الأرض من طوارق الجن والشياطين «يَكْتُبُونَ» في صحفهم «ما تَمْكُرُونَ 21» في هذه الدنيا وتعرض عليكم صحفهم في الآخرة لتجازون بمقتضاها ، وهناك يتضح ما كنتم تخفونه من المكر وغيره قابل اللّه تعالى مكرهم بأشد منه ، إذ خبأ لهم جزاء كيدهم إلى يوم القيامة وأمهلهم في هذه الدنيا ليزدادوا إنما.
واعلم أن عرض صحف الملائكة على الناس كأفلام السينما الآتي بيانها في الآية 29 من آل عمران في ج 3 والآية 49 من سورة الكهف الآتية ، قال تعالى «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ» يا أهل مكة كغيركم «فِي الْبَرِّ» على دوابه وانعامه «وَالْبَحْرِ» على فلكه وسفنه ويهديكم إلى مقاصدكم بالعلامات الأرضية من الأودية والجبال والأنهار والعلامات السماوية من(3/24)