بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الكتاب : بيان المعاني
المؤلف : الشيخ العلامة عبد القادر ملاحويش آل غازى الفراتي الديرزوري
موضوع الكتاب : تفسير القرآن علي حسب ترتيب النزول
الناشر : مطبعة الترقى
مكان الطبع : دمشق
سنة الطبع : 1382 ق
تنبيه [ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
كلمة عن المؤلف :
هو الشيخ العلامة عبد القادر ملا حويش من أعلام الفرات
- ولد الشيخ عبد القادر بن ملا حويش السيد محمود الغازي العاني في بلدة / عانة / 1880 . - تلقى علومه الابتدائية و قسماً من الاعدادية في المدارس الحكومية ثم درس الفقه في المدرسة الشرعية بدير الزور .
- نال شهادة في العلوم العملية و النقلية من المجلس العلمي ببغداد ثم نال شهادة في علم المدنية عن المتحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني بدمشق ، ثم شهادة في العلوم الفقهية من دمشق ، ثم شهادة المحاماة من نقابة المحامين بدمشق .
- شغل من عام 1910 - 1927 وظيفة رئيس كتاب المحكمة الشرعية و البداية و الاستئناف ، و عضو محكمة بداية ، و قاضياً شرعياً ، و مدرساً ، و خطيباً ، وواعظاً في بلدتي الميادين و البوكمال .
- شغل من عام 1928 - 1935 حاكم صلح جزائي و مدني و قاضياً شرعياً في الميادين و الحسكة و عضواً في محكمة جنايات البلديتن المذكورتين .
- و من عام 1929 - 1940 قاضياً شرعياً و حاكم صلح في الجولان و الزوية و القنيطرة .
- من عام 1941 - 1949قاضياً شرعياً بدير الزور و الميادين ..
- من عام 1950 - 1953محامياً بدير الزور .
- شغل بالوكالة / مديراً لناحية ، و قائم مقام /
- استمر في أوقات فراغه يتلو علوم القرآن الكريم و النحو والصرف والفقه ،ويعطي الدروس لطلاب كليتي الحقوق والشريعة في مجلسه حتى قبيل وفاته حيث أقعده المرض .
- توفي رحمه الله ظهيرة يوم الأربعاء 22/2/1978 بدير الزور ودفن فيها يوم الخميس 23/2/1978 .
آثاره المطبوعة :
بيان المعاني (وهو تفسير كتاب الله الحكيم حسب النزول ) ويعد الأول من نوعه حتى تاريخه وهو ستة مجلدات .
آثاره المخطوطة :
1 - حسن البيان في تجويد أحكام القرآن الكريم .
2 - مجموعة خطب .
3 - مواعظ في حسن البيان في القرآن الكريم .
4 - حسن القول في المفرد والفصول .
5 - علم الفرائض .
6 - أحسن السنن في الأذكار .
7 - القول في علم التوحيد .
8 - قواعد اللغة العربية .(1/1)
ج 1 ، ص : 1
[الجزء الأول ]
الجزء الأول من القسم المكي من تفسير القرآن العظيم المسمى بيان المعاني على حسب ترتيب النزول تأليف السيد عبد القادر ملّا حويش آل غازي العاني 1382 ه - 1962 م مطبعة الترقي(1/1)
ج 1 ، ص : 2(1/2)
ج 1 ، ص : 3
[خطبة الكتاب ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
«رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي» أحمدك يا رب العالمين على ما أوليتني من النعم ، وأشكرك يا أكرم الأكرمين على ما وفقتني لسلوك طريقك الأقوم ، وأسألك يا مجيب السائلين إفاضة برّك وإحسانك ، واستجديك إسبال سترك وعظيم امتنانك ، وأرجو منك المعونة على ما قدمت عليه من التفسير ، واللطف والعناية والتسهيل والتيسير ، وأصلي وأسلم على مفتاح غيبك المكنون ، وباب فتحك لأهل معرفتك المأمون ، وعلى آله الذين آلوا بخير الأعمال ، وأصحابه القائمين بما كان عليه من أفعال وأقوال ، وأتباعه الذين صانوا دينه وشرعه المتين ، فدام الاقتداء بهم وسيدوم إن شاء اللّه إلى يوم الدين.
أما بعد فإن القرآن العظيم جمع ورتبت سوره وآياته في المصاحف التي بأيدينا طبق مراد اللّه تعالى بأمر من رسوله الأعظم ، ودلالة من الأمين جبريل المكرم ، وحينما تشاور الأصحاب رضي اللّه عنهم على نسخه على الوجه المذكور أراد الإمام علي كرم اللّه وجهه ترتيب آيه وسوره بحسب النزول ، لا لأنه لم ير صحة ما أجمعوا عليه ، ولا لأنه حاشاه لم يعلم أن ذلك توقيفي لا محل للاجتهاد فيه ، بل أراد أن تعلم العامة تاريخ نزوله ومكانه وزمانه ، وكيفية إنزاله ، وأسباب تنزيله ، ووقائعه وحوادثه ، ومقدمه ومؤخره ، وعامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، وما يسمى بناسخه ومنسوخه ، بادىء الرأي ، دون تكلف لمراجعة أو سؤال ، ولمقاصد أخرى ستظهر(1/3)
ج 1 ، ص : 4
للقارىء بعد إن شاء اللّه.
وكان مصحفه الذي نسخه على ترتيب النزول كما قاله الإمام جلال الدين السيوطي رحمه اللّه في إتقانه في بحث جمع القرآن ج 1 نقلا عن الامام ابن حجر وتخريج ابن أبي داود ، ونقل مثل هذا عن محمد بن سيرين ، ولهذا البحث صلة وسط المطلب العاشر الآتي.
واعلم أن الخليفة عثمان رضيّ اللّه عنه ومن معه من الأصحاب انما لم يأخذ برأيه لأن السور والآيات كانت مرتبة ومجموعة على ما هو في المصاحف الآن ، وهو أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه ، وليعلم أن تفسيره على رأي الإمام علي كرم اللّه وجهه لا يشك أخذ بأنه كثير الفائدة عام النفع ، لأن ترتيب النزول غير التلاوة ، ولأن العلماء رحمهم اللّه لما فسروه على نمط المصاحف اضطروا لأن يشيروا لتلك الأسباب بعبارات مكررة ، إذ بين ترتيبه في المصاحف وترتيبه بحسب النزول بعد يرمي للزوم التكرار بما أدى لضخامة تفاسيرهم ، ومن هذا نشأ الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والأخذ والرد فيما يتعلق فيهما ، وقد علمت بالاستقراء أن أحدا لم يقدم تفسيره بمقتضى ما أشار إليه الإمام عليه السلام ، ويكفي القارئ مؤنة تلك الاختلافات وتدوينها ، ويعرفه كيفية نزوله ويوقفه على أسباب تنزيله ، ويذيقه لذة معانيه وطعم اختصار مبانيه ، بصورة سهلة يسرة موجزة خالية عن الرد والبدل ، سالمة من الطعن والعلل ، مصونة من الخطأ والزلل ، فعن لي القيام بذلك ، إذ لا مانع شرعي يحول دون ما هنالك ، وأراني بهذا متبعا ، لا مبتدعا ، مؤملّا أن يكون عملي هذا سنة حسنة ، فعزمت متوكلّا على اللّه تعالى الذي لا يخيب من رجاه ، مستمدا من روحانية صفيه ومجتباه ، على تفسيره على ذلك المنوال ، لما رأيت فيه من الفوائد الجليلة التي ستقر بها عين القارئ إن شاء اللّه ، مبينا أول ما نزل إلى الفترة والفترة ، وسببها ومدتها وأول ما نزل بعدها ، وسبب وتاريخ كل منه ، ومكانه ، وزمانه ، وقصصه ، وأخباره ، وأمثاله ، وأحكامه ، والآيات المكررة وسبب التكرار ، ونظائرها مما يناسبها باللفظ والمعنى والكلمات التي لم تكرر فيه (عدا ما كان بين صورة (ق) إلى (الحديد) وجزأي تبارك(1/4)
ج 1 ، ص : 5
وعمّ ، لأن كثيرا من كلماتها لم تكرر لما هي عليه من السجع العجيب واللفظ الغريب) ، وما هو موافق لشرع من قبلنا منه والمخالف له ، والمعمول به منه ، والآيات المقيدة للمطلقة والمخصصة للعامة ، وأنواع الأوامر والنواهي الواجبة والمندوبة والمخير فيها ، ومعنى النسخ وحقيقته وماهيته والمراد منه ، وخلاصة القصص المعقولة ، والغزوات المرموقة.
وتتميما للفائدة ، أوردت فيه ما يناسب الآيات من الأحاديث والأخبار والأمثال بما يكفي الواعظ عن كتب كثيرة وجعلته في ثلاثة أجزاء ، اثنين لما نزل في مكة المكرمة ، وواحد لما نزل في المدينة المنورة ، وبدأته بمقدمة تحتوي على اثني عشر مطلبا تشير إلى ما أودعته فيه من المآخذ والأصول والرموز ، وختمته بخاتمة ترمي إلى ما كان فيه من الوقائع والحوادث.
وحقا إن أهل هذا العصر بحاجة ماسّة إلى تفسير كذا جامع مانع جار على أسلوب حسن بسيط مختصر غزير كاف ، يطلعهم على حقائق كتاب اللّه بصورة قد يستوي فيها الخاص والعام ، وهذا غاية ما أقصده من المجيب السميع ، ومنه المعونة والتوفيق إلى سواء الطريق ، وسميته (بيان المعاني) وأنا الفقير إليه عبد القادر ملا حويش آل غازي العاني.
واللّه أسأل وبأنبيائه أتوسل أن ينفع به عباده ، ويديم به الإفادة ، ويوفقني لإكماله على الوجه الذي يرضيه راجيا ممن وقف على زلة أو عثرة أن يصلحها بكرمه ، إذ ما منا إلا من ردّ وردّ عليه عدا من عصمه اللّه (على أنه إذا كان له رأي يخالف ما فيه أن يبينه على الهامش) ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ويثيبني عليه رضاءه ورؤيته في دار النعيم ، وهو الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال الإمام أبو السعادات ابن الأثير رحمه اللّه في مقدمة نهايته المشهورة :
(كل مبتدىء شيئا لم يسبق إليه ، ومبتدع أمرا لم يقدّم فيه عليه فإنه يكون قليلا ثم يكثر ، وصغيرا ثم يكبر.
وعسى أن يصدق قوله في كتابي هذا.
واللّه الموفق.
وقد شرعت فيه صباح يوم الأربعاء أول شهر رجب الحرام سنة ألف وثلاثمائة وخمس وخمسين من هجرة سيد الأولين والآخرين ، (والموافق 17 أيلول سنة 1936) وصلى اللّه على محمد وآله وأصحابه وسلم ومن تبعهم إلى يوم الدين.(1/5)
ج 1 ، ص : 6
[المقدمة]
المطلب الأوّل في بيان مبادئ في التفسير
اعلم وفقك اللّه ، لما كان من الواجب صناعة على كل شارع في فن أن يبين مبادئه العشرة ليكون القارئ على بصيرة منه وهي المذكورة في قول الناظم رحمه اللّه :
إن مبادي كل فن عشرة الحد والموضوع ثم الثمرة
وغاية ونسبة والواضع والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ومن درى الجميع حاز الشرفا
1 - فحد علم التفسير هو علم بأصول يعرف بها معاني كلام اللّه تعالى بحسب الطاقة البشرية.
2 - وموضوعه آيات القرآن من حيث فهم معانيها والوقوف على ما تشير إليه.
3 - وثمرته معرفة ما في كتاب اللّه على الوجه الأكمل.
4 - وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى سعادة الدارين.
5 - ونسبته لبقية العلوم يكون هو أفضلها لأن شرف العلم يشرف موضوعه وناهيك بعلم موضوعه كلام اللّه إذ هو أصل العلوم ومعدنها.
6 - وواضعه الراسخون في العلم من عهد المنزل عليه إلى يومنا هذا فما بعد.
7 - واسمه علم التفسير أي الكشف عن غطاء معانيه والوقوف على ما ترمي إليه مبانيه.
8 - واستمداده من آي الكتاب الجليل ، لأنه يفسر بعضه بعضا ومن السنة السنية لأنها شرح له ومن كلام الفصحاء ما يكون بيانا له.
9 - وحكمه الوجوب الكفائي على كل أهل بلدة.
10 - ومسائله قضاياه من حيث الأمر والنهي والمواعظ والأخبار ، وجاء في بعض النسخ بدل وغايته وفضله ، وعلى ذلك فإن علم التفسير أفضل العلوم على الإطلاق لكونه متعلقا بكلام اللّه الذي لا أفضل منه البتة كيف لا وهو رب العالمين أجمعين.(1/6)
ج 1 ، ص : 7
المطلب الثاني فيما يحتاج إليه المفسر
اعلم رعاك اللّه إن المفسر يحتاج إلى معرفة اثنى عشر علما على الأقل ليتسنى له القيام على أحسن وجه فيما يفسره من كتاب اللّه تعالى : (1) علم اللغة لمعرفة معلومات الألفاظ بحسب الوضع ومعرفة الألفاظ المشتركة كالعين وشبهها ، فإن لم يكن له إلمام بها فلا يجوز له الشروع فيه.
روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر ، فقال : ما يعجبني إلا أن يكون واقفا عليه.
وقال مجاهد : لا يحل التفسير لمن لم يكن عالما بلغات العرب.
وقال مالك ينكّل أي من أقدم على تفسيره دون إلمام له بذلك.
(2 و3) علم النحو والتصريف لمعرفة أحكام الكلمات العربية من حيث الاشتقاق والإفراد والتركيب والإعراب والبناء ، أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال : حسن فتعلمّها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها.
وفي قصة أبي الأسود الدؤلي والأعرابي الآتي ذكره في أول سورة التوبة الآتية في ج 3 بالقسم المدني ما يغني عن البيان (4) علم المنطق لما فيه من معرفة وجه الجدل والقضايا الموجبة والسالبة وغيرهما.
قال الغزالي رحمه اللّه :
من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه.
(5) علم المعاني بفرعية البيان والبديع لمعرفة خواص تركيب الكلام من جهة إفادة المعنى ومعرفة خواصها ومن حيث اختلافاتها ومعرفة وجوه تحسين الكلام وهو الركن الأقوم لهذا الفن.
(6) علم الحديث لمعرفة المبهم وتبيين المجمل وسبب النزول والتقييد للمطلق والتخصيص للعام المعبر عنه غالبا بالنسخ.
(7) علم أصول الفقه لمعرفة الإجمال والنبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأوامر والنواهي وما يشبهها ويتفرع عنها.
(8) علم الكلام لمعرفة ما يجوز على اللّه وما يستحيل وما يجب ، والنظر في النبوات لئلا يقع المفسر في أخطاء وورطات قد يهلك فيها.
(9) علم القراءات لمعرفة كيفية النطق بالقرآن وترجيح بعض الوجوه المحتملة للمعاني الأكثر رجحانا بالنسبة للقارئين بها على البعض الأقل والأضعف.
(10) علم الفقه لمعرفة الأحكام الشرعية العملية فيه وبيانها في(1/7)
ج 1 ، ص : 8
محالها ، وآراء المجتهدين فيها والأخذ بما هو الأقوى دليلا والأحوط عقيدة وتقى.
(11) علم الموهبة وهو علم يورثه اللّه تعالى لمن يشاء من عباده العالمين العاملين المتقين فيلهمهم المعرفة بأسرار كتابه ، قال عليه الصلاة والسلام : (من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم) وهذا كالأساس لهذا العلم ليطلع على معانيه بما يفيضه اللّه على قلبه وركن هذا العلم العكوف على التقوى ، وملاكه العمل مع الورع قال تعالى :
«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» الآية 283 من البقرة في ج 3.
(12) علم الاعتماد على الرأي فيما لا يهتدى إليه من كتاب أو سنة أو قول معتمد عليه ، وهنا يجب السكوت لئلا يهلك لأن الأمر عظيم ليس للرأي فيه مدخل بل لا بد من الاعتماد على شيء معتبر.
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي ذر قال : قال صلّى اللّه عليه وآله وسلم من قال بالقرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار [أي من قال في مشكل القرآن ومتشابهه بما لا يعلم ، أو من قال قولا يعلم أن الحق غيره فقد تعرض لسخط اللّه الذي عاقبته النار والعياذ باللّه ].
وفي رواية من تكلم بالقرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ أي أخطأ طريق الحق إذ عليه أن يرجع إلى اللغة عند عدم الاهتداء إلى تفسير اللفظ ، وإلى الأخبار عند عدم اهتدائه إلى الناسخ والمنسوخ بالمعنى المراد فيهما ، وإلى صاحب الشرع عند عدم اهتدائه لبيان المعنى المراد منه ، فإن لم يحصل له الاهتداء على ما غمض عليه في هذه الطرق فلا بأس بمراجعة فكرته وقدح رويّته ليستدل بما ورد على ما لم يرد ، قال تعالى :
«أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» الآية 24 في سورة محمد عليه السلام ومثلها الآية 82 التي يليها قوله جل قوله «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» الآية في سورة النساء في ج 3 ، وقال عز قوله «لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ» الآية 29 في سورة ص الآتية.
لأن التفسير على صنفين نقلي ومستنده الآيات والأحاديث والآثار وسماعي ، ومستنده اللغة والإعراب والبلاغة ، هذا وقد أخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس : القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه.
وروي عن علي عليه السلام أنه سئل هل خصكم رسول اللّه بشيء ؟ قال : ما عندي غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه ، راجع تفسير الآية الثانية في سورة الحشر في ج 3 تجد حديث معاذ رضي اللّه عنه وما به كفاية في هذا البحث.(1/8)
ج 1 ، ص : 9
المطلب الثالث في الحاجة إلى التفسير
اعلم هداك اللّه.
أن القرآن العظيم ، نزل بلسان عربي مبين ، على قوم هم أفصح الناس ، الا انه لشدة فصاحته وغور معانيه ، وبعد مراميه ، لم يدركوا مراد اللّه في بعض مغازيه ، فأحتاج الأصحاب وهم خلاصة ذلك العصر ، إلى أن يسألوا حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم عن معاني بعض آياته في زمنه ، واحتاجوا لأن يسأل بعضهم بعضا عن بيان بيناته بعد وفاته ، فمن باب أولى يلزم من بعدهم فهم تلك المعاني الغامضة منه ، والوقوف على أحكامه ، ومعرفة المراد منها ، لأنه مدار السعادة الأبدية ، والتمسك بالعروة الوثقى ، والوصول إلى الصراط المستقيم ، وباب رضى رب العالمين ، لأن الغرض فيه أمر عسير ، لا يهتدى إليه الا بتوفيقات ربانية ، وهبات رحمانية من اللطيف الخبير ، وإذا كان الأصحاب رضوان اللّه عليهم على علو رتبتهم في مقامات الكمال ، وارتفاع درجاتهم في الفصاحة واستنارة قلوبهم بإشراق مشكاة النبوة فيها ، لم تعرج أفهامهم الثاقبة إلى إشاراته ، ولربما فهم بعضهم غير مراد اللّه ، كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود ، راجع تفسير الآية (187) في البقرة في ج 3 ، إذ صرفهما لمعناهما المسمى فربط برجليه خيطين ليستبينهما في السحور ، فما بالك يا أخي بغيرهم ، وخاصة أهل هذا العصر الذي انصرف أهله بكليتهم إلى علوم لا مساس لأكثرها بالدين ، ولهذا مست الحاجة إلى تفسير كتاب اللّه وانكب عليه السلف الصالح ، وعكف عليه التابعون ، واقتفى أثرهم العلماء ، ولم ينفكوا عن الولوج في لجج معانيه والدخول في صحاري مبانيه إلى ان يشاء اللّه ، والى أن يرث الأرض ومن عليها ، ولا يعلم تأويله كما أراد غيره.
أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) الآية (269) من البقرة أيضا ، قال : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله ، واخرج أبو عبيده عن الحسن قال : ما أنزل اللّه آية الا وهو يحب أن(1/9)
ج 1 ، ص : 10
يعلم فيم أنزلت ، وما أراد بها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال :
ما مررت بآية لا أعرفها الا أحزنتني ، لأني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» الآية (43) من سورة العنكبوت ج 2 ، وغير هذا في هذا كثير.
وقد أوجبت على نفسي الاختصار الغير مخل ، كما أوجبت ترك التوسع الممل في هذا التفسير المبارك ، ولهذا اكتفيت بما ذكرته ، واللّه الملهم لمن أراد بيانه.
المطلب الرابع في أحوال المفسرين به
ومأخذ هذا التفسير
اعلم وفقك اللّه ان أحوال المفسرين في التفسير مختلفة على ثلاثة أصناف :
فمنهم من يقتصر في تفسيره على المنقول في الآية من أقوال من تقدمه من المفسرين وأسباب النزول وأوجه الإعراب ومعاني الحروف.
ومنهم من يأخذ في وجوه الاستنباط منها ، ويستعمل فكره بما آتاه اللّه من الفهم ، ولا يشتغل في أقوال السابقين لوجودها في بطون الأوراق ، ومنهم من يرى الجمع بين الأمرين والتحلي بالوصفين.
وبما ان هذا أحسن الأصناف جريت عليه ، واقتفيت أثر من مشى عليه الا اني قد اجتنبت التوسع الممل والاختصار المحل ، إذ ان في الإطناب افراطا ، وفي الإيجاز تفريطا ، وكلاهما منتقد.
على اني ان شاء اللّه سآخذ مما عليه الجمهور الموافق للنظم ، والمطابق للسياق والمضاهي للسباق.
واتبعت في تحرير مكية ومدنية ما هو المعتمد عليه من أقوال كثيرة مقتبسا من كتاب ابي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي وكتاب تحقيق البيان للشيخ محمد المتولي شيخ القراء بمصر ، وكتاب ناظمة الزهر للامام الشاطبي ، وشرحها لأبي عيد رضوان المخللاتي ، وكتاب ارشاد القراء والكاتبين له أيضا ، وكتب القراءات والتفسير على خلاف في بعضها.
وسلكت في عد آيه طريقة الكوفيين وهي الوسطى ، وخير الأمور أوساطها وهي المروية عن أبي عبد الرحمن عبد اللّه بن حبيب السلمي عن علي كرم اللّه وجهه ، حسبما جاء في الكتب المذكورة ، وهي ست آلاف ومائتان وست وثلاثون آية ، أما(1/10)
ج 1 ، ص : 11
عند الحجازيين فست آلاف وستمائة وست عشرة ، وعند البصريين أقل من الأول ، والفرق باختلاف الوقف ليس الا لأن وقفات الحجازيين أكثر من وقفات البصريين وأقل من الكوفيين ، وأعلم أن عدد كلماته سبع وسبعون الفا واربعمائة وخمسون كلمة ، وعدد حروفه مليون وخمسة وعشرون الف حرف بالاتفاق على القول الصحيح.
واعلم ان نصف القرآن على حسب ترتيب المصاحف من حيث الأجزاء جزء ألم أقل من سورة الكهف ، وبحسب السور التي هي مائة واربع عشرة سورة من حيث العدد سورة الحديد ، وما قيل إن مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لا يرى المعوذتين من القرآن ، فهو قول عار عن الصحة ، وحاشى لابن مسعود أن ينسب إليه ذلك وقد أخطأ من ذكر هذا ونسبه إليه ، هذا ونصفه بحسب الآيات آية (فَأَلْقى عَصاهُ) من سورة الشعراء وبحسب الحروف النون من قوله تعالى (نُكْراً) من سورة الكهف.
أما الكتب التي اعتمدت الأخذ منها ما قرأته من تفسير الخازن والنسفي والبغوي ابن محمود النخجواني وابن عباس وابي السعود الرازي وروح البيان وروح المعاني والبيضاوي والكشاف والخطيب الشربيني وفريد وجدى والجلالين وحاشيتهما للجمل والصاوي وابن كثير والجزي المسميين بالإتقان ، والتسهيل والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ، والفتوحات الربانية للشيخ نعمة اللّه ، وتفسير محي الدين العربي ، وما لم أقرأه كالطبري والحسيني والخطيب وتفسير الأستاد رشيد رضا المنسوب للإمام محمد عبده وغيرها كثير من الكتب والرسائل التي مست الحاجة إلى مطالعتها والأخذ منها كالتشريع الإسلامي والوحي المحمدي وهدي الرسول ورسالة التوحيد لمحمد عبده ورسالة معجزات القرآن وغيرها.
ومن الكتب الفقهية كالمبسوط للسرخسي والدر المختار وحاشيته لابن عابدين والطحطاوي والدرر والجوهرة والخطيب الشربيني والباجوري علي ابن قاسم وغيرها ، ومن كتب الصوفية عوارف المعارف للسهروردي والبهجة السنية للشيخ الخاني ونور الهداية والعرفان للصاحب ، والإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلاني واحياء العلوم للغزالي ورسالة أبي القاسم القشيري وغيرها ، وكثير(1/11)
ج 1 ، ص : 12
من الكتب الكلامية والمنطقية والأصولية واللغوية والمجلات المصرية وغيرها ، حيث انتخبت منها ما لا بد منه من جواهرها وأثبت في هذا التفسير ما هو الأصح منها من الأقوال والمعاني إلى الأقوال الأخرى التي لا بد من الإشارة إليها فيه وأغفلت ما لا لزوم له.
واعتمدت في الأحاديث للاستدلال على بعض الآيات كالشاهد والمثل ، الكتب الصحاح الستة وموطأ مالك لأنه أعلم بأقوال صاحب المدينة من غيره غالبا ، وبعض الأحاديث الشائعة المتداولة التي لم يطعن بها ، وذكرت خلاصة القصص والحوادث والغزوات ، وبينت ما يؤخذ به منها وما لا يؤخذ ، واعتمدت في القراءات قراءة عاصم ، وفي الروايات رواية حفص لأنهما المثبتتان في المصاحف ، وهما أفصح وأصح وأكثر تداولا من غيرهما وأشرت إلى بعض القراءات الأخرى.
مطلب الأصول المتبعة في التفسير
واعلم حفظك اللّه أني إذا أردفت كلمة بغير أي التفسيرية أو الواو كالعطوف البيانية فهي معنى الكلمة التي قبلها ، وقد أقدم بعض الكلمات المفسرة على المفسرة ، واترك ما لا يحتاج للتفسير ، مما هو معلوم بداهة مثل قوله تعالى (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) الآية 18 في سورة طه الآتية ، إذ قال بعض المفسرين : اعتمد عليها إذا مشيت ، واستند إليها إذا عيبت ، واضرب بها إذا أوذيت ، وكذا وكذا ومثل قوله تعالى (قالا رَبَّنا) إذ من المعلوم أنهما هارون وموسى وما شابه هذا مما لا طائل تحته واجتنبت كثيرا من أمثال هذا الحشو الذي لا حاجة اليه غير تكثير الكلام ، وإذا أشرت إلى آية أو بحث فإن كان في الجزء الذي أنا فيه اكتفيت بقولي في الآية كذا في السورة المارة أو الآتية ، وإلا ذكرت الجزء التي هي فيه مع عدد الآية وبيان السورة ، وإذا طال الفصل بين العاطف والمعطوف عليه أو الشرط والجزاء وضعت خطا هكذا - دلالة على ذلك وقد أضع الكلمة أو الكلمات التفسيرية ، أو الجمل الاعتراضية ، والاستطرادية بين قوسين ، لئلا تتصل بالمفسر ، وكل جملة ختمتها بالأصح أو الصحيح أو المعتمد أو الأولى فهي في مقابلة أقوال لم تثبت لديّ صحتها وأرجحيتها ، (1/12)
ج 1 ، ص : 13
وما قرنته بقيل أو قالوا أو ذكروا أو رأوا ، فهو دليل على ضعفها وعدم الاعتماد عليها ، وما بدأته بلا بأس فهو كناية عن خلاف الأولى وما تركه أحسن من فعله ، وما بدر مني في لفظ أقول أو نقول أو شبهه في كل ما يدل على التعظيم ، فهو لتعظيم العالم المنقول عنه أو لتعظيم العلم نفسه لا لنفسي ، وقد يكون من قبيل التحدث بالنعمة والامتنان ، قال عليه الصلاة والسلام : (ليس منا من لم يتعظم بالعلم) ، وما ذكرت من أرى هذا ، أو هو الأصوب أو الأحوط أن يؤخذ به فهو عبارة عن قول استحسنته من أقوال كثيرة.
واعلم أن ما أقدمه من الأقوال هو المعتمد ، إلا إذا صرحت بعده بأنه هو الأصح أو الصحيح أو الأحسن أو عليه الفتوى ، وما ذكرته في قال بعضهم فالمراد به غالبا من الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة ، وقد أصرح بعضا بالفرقة الضالة أو برئيسها ، وما وضعته في العدد الأول للسور ، فعلى حسب النزول والذي يليه بمقتضى ترتيب القرآن في المصاحف ووضعت الأرقام للآيات ، وبينت سورها ومحلها ، ليرجع لتفسيرها حذرا من التكرار ، ولسهولة المراجعة عند الاستدلال ببعضها على بعض ، ولتمييز المدني منها عن المكي ، وهذا مانفث في روعي من الداعي الإلهي للاشتغال في هذا التفسير وإني مع ضعفي وعجزي واشتغالي بالحكم وقلة بضاعتي في هذا الميدان ووجودي في زمن فسد أهله وقل خيره وكثر شره ، وصار الخوض في الهوى أرغب من تناول طرق الهدى لأنهم أعرضوا عن أمر الدين ، وأنفوا من مرافقة الصالحين ومصاحبة الصادقين ، فوصفوا السلف الصالح بالرعونة والخلف بالجحود ، وهم لعمري لا يفرقون بين لام كي والجحود ، فإذا تكلموا خبطوا خبط عشواء ، وإذا أجابوا فعلى غير السؤال كان العطاء ، يستشهدون بالأحاديث ولا يعرفون رجالها ، بل ولا مبانيها ، فيما يلائم أهواءهم ، وبالآيات ولا يعلمون مراميها ولا معانيها مما لاتعيه أذهانهم ، ويؤولون على جهل في السبب والمغزى ، ومع هذا يقولون(1/13)
ج 1 ، ص : 14
ما وعى الأوائل إلا قليلا من كثير ، ولنا أن نأخذ من القرآن والحديث دون تأويل أو تفسير ، إذ نحن رجال وهم رجال ، وقد آن لنا أن نترك التقليد.
وينسبون إليهم الإفراط إذا أطالوا الباع في حلبة التفسير للآيات ، والتفريط إذا اقتصروا على الغايات ، والجهل إذا أغفلوا شيئا ظاهر التأويل ، والعناد إذا جالوا في فلسفة أسباب التنزيل ، ان أتيتهم بآية قالوا مؤله ، وهم يأخذون بظاهر الآيات ، أو بحديث قالوا لم يثبت عند الثقات ، وأين هم من معرفة التأويل والسند ، وهيهات ان يميزوا بين الغث والسمين وهيهات ، ويحهم جهال ويزعمون أنهم علماء ، وضلال ويظنون انهم أتقياء ، ومجانين ويحسبون انهم عقلاء ، يناقضون أقوالهم بأفعالهم ، وهي أفعى لهم ، وأفعالهم بأقوالهم ، وليست بأقوى لهم ، أرشدنا اللّه وإياهم إلى الحق وهدانا إلى الرشد ، ووفقنا إلى الصدق.
عكفت عليه ، ولو لا السائق الإلهي لما وفقت اليه ، إذ قد يكل مثلي عن تفسير سورة من قصار المفصّل ، بل عن تأويل آية منها وأقل ، ولكن ألطاف رحمانيته رغبتني ، وهبات لدنية غمرتني ، ونظرات محمدية أعانتني على هذا السفر العجيب ، وما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت واليه أنيب ، وهو حسبي ونعم الوكيل وهو الحسيب.
المطلب الخامس في التفسير والتأويل والنهي عن القول في الرأي
اعلم رعاك اللّه ، ان التفسير هو كشف ما غطي لأنه مأخوذ من الفسر ، وهو الكشف وبيان المعاني المعقولة من الألفاظ ، فكما أن الطبيب ينظر في تفسيرته أي دليله ليكشف عن علة المريض بعد فحصه ومعرفة الداء ليصف له الدواء ، كذلك المفسر ينظر في معاني الألفاظ بعد تمحيصها ، ليكشف عن غوامضها ويعلم معناها وشأنها وقصتها ، وهو يتوقف على النقل المسموع في معاني الألفاظ ، ويلحق به الحديث الشريف ، أما في غيرهما فلا يتوقف على ذلك ، بل له أن يقدح فكرته لاستخراج معاني الكتب الأخرى.(1/14)
ج 1 ، ص : 15
أما التأويل فهو الرجوع إلى الأصل وردّ الشيء إلى الغاية فيه والمراد منه ، وهذا يتوقف على الفهم الصحيح ، لأن المراد منه غايته القصوى وبيان المعاني والوجوه المستنبطة الموافقة للفظ الآية ، ويحتاج للوقوف على العلوم العربية ولا يتقيد بالمسموع ، لهذا منع القول بالرأي في القرآن لأنه منزل من اللّه تعالى الذي حدّد شأن البشر فيه بقوله جل قوله (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) الآية 7 من آل عمران ج 3 ، لهذا لا يجوز لأي كان تأويله ما لم يكن متضلعا بالعلوم العربية ، والأحاديث النبوية كالسلف الصالح من التابعين ، لأن العارفين والربانيين أيضا لا يعلمون جميع حقائقه ، تأمل في قوله تعالى بعد ذلك (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) وسيأتي في تفسير هذه الآية ما به كفاية ، لتعذر وقوفهم على المعنى المراد فيه ، راجع ما بيناه آنفا من الأحاديث في المطلب الثاني هذا.
وقد روي عن عمر رضي اللّه عنه حينما سئل عن القرآن ، قال أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني ، إن أنا قلت في القرآن (أي برأي) وقد رخص لأهل العلم بالتفسير والتأويل بما لا يخالف السنة والكتاب ، لأن الصحابة رضوان اللّه عليهم ، فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه ، وليس كل ما قالوه سمعوه من حضرة الرسول ، بل اجتهدوا فيه على قدر فهمهم ، وقد دعا صلى اللّه عليه وسلم لابن عباس فقال اللهم علمه التأويل ، وفقهه في الدين ، فكان أكثر ما نقل عنه في التفسير.
هذا وان المرء مهما سمت رتبته في المعارف ، وعلت درجته في الذكاء ، لا يبلغ مبلغ ابن عباس ، أو عمر رضي اللّه عنهما ، إذا فلا يجوز أن يجرؤ أحد على الحوض في آيات اللّه إلا عن سماع وتوقيف متواترين ، أما بعض أهل هذا الزمن المتزعمون فإنهم يهرفون بما لا يعرفون ويقولون ما لا يفعلون.
هذا وإن من المفسرين من إذا اطلعت على تفسيره شمت منه القصد بإظهار فضله واقتداره حيث أدخل فيه من الكلام ما يحتاج إلى تفسير على أن الأفاضل ليسوا بحاجة إلى إظهار فضلهم وإذا كان الغير لا يستفيد من تفسيرهم فيكونوا قد فسروا لأنفسهم عفا اللّه عنهم ووقانا شر أنفسنا.(1/15)
ج 1 ، ص : 16
المطلب السادس في فضل القرآن وحفظه وتهديد من ينساه والسفر به
اعلم حرسك اللّه ان القرآن الكريم أفضل الكتب السماوية وان التمسك به وصول إلى منزله ، والمحافظة عليه طريق النجاة ، فهو العروة الوثقى والحبل المتين.
فقد روى مسلم عن زيد بن أرقم قال : قام يوما فينا رسول اللّه خطيبا (بماء يدعى خما) بين مكة والمدينة ، فحمد اللّه واثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه ، وإني تارك فيكم ثقلين كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به وأهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، وفي رواية : من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ، ومن أخطأه ضل وفي أخرى : كتاب اللّه هو حبل اللّه من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة.
وفي رواية الترمذي : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما.
وهذا من الأهمية بمكان ، لأن حضرة الرسول في قوله هذا ينتظر نتيجة أعمال أمته في العمل بأحكام القرآن وفي مراعاتهم لأهل بيته ، وانهم المسئولون عن ذلك في يوم هم أشد حاجة لشفاعته يوم لا ينفع مال ولا جاه ولا بنون.
هذا واعلم أن كلام السادة الصوفية في القرآن لا يعدّ تفسيرا لغيرهم لأنه عبارة عن إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لهم في خوارق أحوالهم وهي حجاب لغيرهم ، بل يحرم عليهم القول بها لعدم معرفتهم المراد منها لأن لهم كلمات استعملوها لا يعرفها إلا من هو منهم أو واقف على تفسيرها ، كالمبين في عوارف المعارف للسهروردي وما يماثله من كتبهم ، كما أن تفسير بعض المفسرين الذين همهم البلاغة ووجوه الإعراب بما يحتاج إلى تفسير دقيق حجاب لغيرهم أيضا لعدم وقوفهم على مرادهم منه.
فقد روى ابن أبي شيبة في سنده ومحمد بن نصر وابن الأنباري في كتاب المصاحف(1/16)
ج 1 ، ص : 17
والحاكم في المستدرك - وصححه - والبيهقي في حديث ابن مسعود في الوعاء أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن هذا القرآن مأدبة اللّه فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبل اللّه والنور المبين والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه ، لا يزيغ فيستعتب ، ولا يلوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق من كثرة الردّ ، اتلوه فإن اللّه يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف.
قال الحاكم هذا صحيح الاسناد ولم يخرجه البخاري ومسلم بسبب ما قيل في صالح بن عمر الذي هو في سنده وليس كذلك فإن صالحا قد خرج له مسلم وانما تركاه بسبب شيخه إبراهيم بن مسلم الحجري الذي ضعفه الجمهور ، وما ضعفوه بطعن في صدقه أو حفظه وانما وجدوا له رفع عدة أحاديث إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم هي موقوفة على عبد اللّه بن مسعود وعلي وعمر رضي اللّه عنهم ولكن خرّج سفيان بن عتيبة بأنه جار ابراهيم هذا فأعطاه كتبه فصحح له المرفوع والموقوف بقوله هذا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهذا عن عبد اللّه بن مسعود ، وهذا عن عمر ، وهذا عن علي ، والظاهر أن هذا الحديث مما رفعه سفيان ، ولذلك خرجه ابن أبي شيبة ، ومن ذكرنا مرفوعا ، وروي نحوه من حديث علي كرم اللّه وجهه ، واعتمده القاضي الباقلاني في كتابة اعجاز القرآن.
مطلب في حفظ القرآن والشهادات به هذا وقد حفظ القرآن عن ظهر غيب في زمن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن مسعود ، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد من الأنصار ، وأبو الدرداء من المهاجرين ، وآخرون كثيرون لم أقف على أسمائهم ، فهذه شهادات الرسول في حق القرآن وفضله وشهادة اللّه تعالى مذكورة فيه ، وقد طفحت الكتب من يوم نزوله إلى الآن بفضله ، وسيستمر إن شاء اللّه إلى آخر الدوران ، أما شهادة الأجانب بفضله فقد صرفنا النظر عنها ، اكتفاء بما ذكره السيد محمد فريد وجدي في مقدمة تفسيره ، والطنطاوي في تفسيره ، ت (2)(1/17)
ج 1 ، ص : 18
وعبد الحليم بدير في رسالته ، والإمام محمد عبده في كتبه ، ورشيد رضا في مقالاته ، وما جاء في المجلات المصرية وغيرها ، وما بعد شهادة اللّه شهادة ، وتفضيل رسوله تفضيل ، قال الأبو صيري :
أيمدح من اثنى الإله بنفسه عليه فكيف المدح من بعد ينشأ
واعلم ان الأجانب لم يطلعوا على مزايا القرآن ، وخصال من أنزل عليه إلا بعد اختلاطهم في الإسلام في الحروب الصليبية وإعجابهم بمعاملة الإسلام لهم ، وتيقنهم بأن ما كان يشوهه لهم بعض رؤسائهم ناشىء عن غلوهم ، ولهذا قال ما قاله بعض أكابرهم وعلمائهم في القرآن ، انه الحق وان الرسول جاء به بالصدق ، وانه صالح لكل زمان ، وإني أتمسك به نجاة من الحيرة التي كان فيها البشر ، من أمر الدين الذي هو ضالة الأرواح ، وأنشودة العواطف ، ويلسم جراح الحياة ، ونسيم الراحة والطمأنينة ، ومهب نفحات الحق ، الذي هو في الأصل واحد ، لا تعدد ولا تخالف فيه ، إذ جاءت به الرسل من الإله الواحد الذي لا شريك له ولا وزير ، وإنما طرأ الخلاف على الأمم فيه بما احتوشهم من روح النزاع وغريزة حب الرئاسة ، ومنبع الطمع في المال ، قال تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) الآية 19 من سورة يونس من ج 2 ، وهذا القرآن هو الذي قرب أساطين العدل بين البشرية ، لهذا أمرهم الرسول بالتمسك فيه ، واتباع أو امره ، واجتناب نواهيه ، وحذرهم من نسيانه لما فيه من المفاسد المترتبة على عدم العمل به ، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم.
تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تقصيا من الإبل في عقلها.
ورويا عن ابن عمر : إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة ، ان تعاهدها أمسكها ، وان أطلقها ذهبت ، ورويا عن عبد اللّه بن مسعود : بئسما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت بل هو نسيّ ، استذكروا القرآن فإنه أشد تقصيا من صدور الرجال من النعم في عقلها.
إذا يجب على المرء أن يحافظ على ما حفظه من كتاب اللّه تعالى ويتداوله ليل نهار لئلا يدخل في هذا الوعيد.
وقال العلماء إنّما يدخل في هذا الوعيد من ينساه قراءة لأنه يحرم منه ، (1/18)
ج 1 ، ص : 19
أما من ينساه عن ظهر الغيب ويقرأه في المصحف فلا يشمله وعليه أن يحتفظ بالقرآن في بيته تبركا ، وإن كان وعاه عن ظهر الغيب ، وان يقرأه فيه لأن النظر اليه عباده على حدة دون عبادة القراءة ، وله أن يسافر به مع المحافظة عليه ، على أن لا يضع شيئا عليه إلا لأجل حفظه ، وأن لا يمسه إلا طاهرا اتباعا للأمر فيه ، ويجب أن لا يسافر به إلى محل يخاف عليه التلف أو الإهانة ، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمر قال : لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن ينال بسوء ، ومن ذلك السفر به إلى من يلمسه بغير وضوء أو يتهاون به ، قال تعالى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الآية 79 من سورة الواقعة الآتية.
ولهذا بحث سنثبته في محله إن شاء اللّه.
المطلب السابع في التشريع في نهج القرآن ومفاصده ومميزات مكيه ومدنيه
اعلم رعاك اللّه ، ان اللّه عز وجل ، راعى في تشريعه على عباده أمورا ثلاثة رحمة بهم وعطفا عليهم.
الأول : عدم الحرج أي الضيق ، قال تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) ، الآية 156 من الأعراف الآتية ، وقال جل شأنه (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ الآية) 185 من البقرة في ج 3 ، وقال فيها أيضا (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) الآية الاخيرة منها ، وقال أيضا في صدر هذه الآية (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وقال (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية 78 من سورة الحج في ج 3 ، وقال (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) الآية 27 من سورة النساء ، وقال (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الآية 7 من المائدة في ج 3 ، أيضا وقال صلّى اللّه عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، ولذلك شرعت الرخص كالفطر للمسافر وإباحة بعض المحرمات عند الضرورة ، والتيمم والمسح في الوضوء والصلاة ، وشرب الخمر عند التهديد بالقتل.(1/19)
ج 1 ، ص : 20
الثاني : تقليل التكاليف ، وهي نتيجة عدم الحرج ، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، الآية 104 من المائدة في ج 3 ، لأن اللّه تعالى سكت عن تحريم بعض الأشياء رحمة بنا لا نسيانا ، ليكون العبد مختارا بفعلها أو تركها ، وفي هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم حين سئل عن الحج ، أفي كل عام يا رسول اللّه ، فقال لو قلت لوجبت ، ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، ويدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلم أعظم المسلمين في المسلمين جرما ، من سئل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته ، وقوله عليه الصلاة والسلام ، إن اللّه فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها.
وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم في غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها.
الثالث : التدرج في التشريع ، وذلك انه صلّى اللّه عليه وسلم بعث والعرب على عادات مستحكمة فيهم ، منها ما هو صالح للبقاء لا ضرر فيه على تكوينها ، ومنها ما هو ضار يجب ابعادهم عنها ، فاقتضت حكمته أن يتدرج في نهيهم عنها شيئا فشيئا ، كالخمر والميسر ، حين سئل عنهما في المدينة ، أنزل اللّه فيهما (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) الآية 219 من البقرة ج 3 ، ففهم فقية النفس طيبها ، أن ما كثر إثمه حرم فعله ، فانتهى لنفسه ، وأكب عليها من لم ينتبه لذلك ، وهذه الآية بعد أن عرض عن الخمر في معرض النعم التي عددها على عباده في قوله عز قوله (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) الآية 67 من سورة النحل في ج 2 ، لأن العطف يعمّ على أنها ستحرم بعد ، لأنها لم توصف بالحسن ، إذ وصف المباح من ثمراتها بالحسن ، كالثمر والعنب والمريس والزبيب والدبس والخل وسائر الأشربة المتخذة من عصيرها ، كما سيأتي تفصيله في تفسيرها ، دون السكر فإنه لم يصفه بذلك ، وهذه الآية مبدأ التعريض بتحريمها لأنها أول ما نزل منها في مكة شرفها اللّه ، أما آية البقرة فما بعدها ، فقد نزلت بالمدينة المنورة ، الآية الثالثة قوله(1/20)
ج 1 ، ص : 21
تبارك وتعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) عدد 43 من سورة النساء في ج 3 فقد نهاهم فيها عن السكر في الصلاة ، وهو نهي مؤكد للأول ، فانتهى عنها فيها فقط من لم تكن نفسه زكية عارفة مغزى هذا النهي ، واجتنبها ذوو العقول الكبيرة ، والفطن الحاذفة ، والفراسة الماهرة ، والنفوس الطاهرة فيها وفي غيرها ، لأنه عرف رجس الخمرة في النهي عن تعاطيها في الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه ، وان تركها في غيرها مما يرضي ربه الذي نهاه عنها فيها.
ثم أنزل رابعا : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) الآيتين 93 و94 من سورة المائدة في ج 3 أيضا فعرف الكل تحريمها في كل حال.
وفي هذا التدريج وجد أصل رابع وهو الإجمال بعد التفصيل ، ويتضح من المقارنة بين التشريع المكي والتشريع المدني ، أن المكي مجمل قلما يتعرض للتفصيل ، والمدني مجمل يتعرض للتفصيل في كثير من الأحكام ، وأن معظم الأحكام مستنبطة من المدني ، ومعظم ما يحمي العقيدة من المكي ، وهذا أول مميزات المكي عن المدني الأربعة ؟
مطلب مميزات المكي عن المدني الثاني : أن آيات المكي على الجملة قصار ، وآيات المدني طوال ، مثلا سورة الشعراء المكية ، آياتها 227 وسورة الأنفال المدنية ، آياتها 75 مع أن كلا منهما نصف جزء وأن جزء (قَدْ سَمِعَ) مدني وآياته 137 ، وجزء تبارك مكي وآياته 431 ، وأن سورة الحج مدنية ، وسورة المؤمن مكية ، عدا بعض آيات فيهما وهما متقاربتان من حيث عدد الآيات ، وقد توجد بعض الآيات على العكس لا بعض السور وعليه تكون القاعدة أغلبية ، ولهذا قلنا في الجملة ، وما قيل ان سورة (التغابن) من جزء قد سمع مكية ، وسورة تبارك من جزء تبارك مدنية ضعيف.
واعلم أن نسبة المكي للمدني 19 من 30 وآياته 4780 ونسبة المدني المكي 11 من 30 وآياته 1456.(1/21)
ج 1 ، ص : 22
والثالث : ان غالب الخطاب في المكي ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وفي المدني ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بل لا يوجد في المكي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) البتة رغم انها مكررة بالقرآن بما يقارب التسعين مرة ويوجد في المدني (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إذ بدأت سورة النساء بها وجاء فيها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الآيتين 169 و173 منها وفيها ايضا : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) الآية 132 وبدأ بها ايضا سورة الحج (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) وفيها ايضا (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) الآية ، ويا (أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) الآية 73 وجاء في سورة الحجرات (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ) الآية 13 وفي سورة البقرة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ...
، يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) الآيتين 27 و168 وكلها مدنيات سنأتي على ذكرها في ج 3 وقد كررت ما يقارب العشرين مرة.
الرابع عدم وجود شيء من التشريع التفصيلي في المكي ، ومعظم ما فيه يرجع إلى المقصد الأول في امر الدّين ، وهو التوحيد ، واقامة البراهين على وجود اللّه والبعث ، والتحذير من العذاب ، ووصف الجنة ونعيمها ، والقيامة وأهوالها ، والنار وعذابها ، والحث على مكارم الأخلاق ، وضرب الأمثال مما أصاب الأقدمين لمخالفتهم أنبيائهم وجرأتهم على أذاهم ، ومعظم التشريع التفصيلي في المدني.
ثم اعلم ان مقاصد القرآن ثلاثة :
الاول ما يتعلق بالإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو مباحث علم الكلام واصول الدين.
الثاني ما يتعلق بافعال القلوب والملكات في الحث على مكارم الأخلاق ، وهو مباحث علم الآداب والإحسان.
الثالث ما يتعلق بافعال الجوارح في الأوامر والنواهي ، وهو مباحث علم الفقه والمعاملات ، إذا يعلن هذا القرآن العظيم انه إنما أنزل لاصلاح البشر مصرحا على لسان المنزل عليه بقوله جل قوله : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) الآية 135 في سورة الأعراف الآتية وعليه فانه جامع لكل خير مانع لكل شر.(1/22)
ج 1 ، ص : 23
فيه كل ما يحتاجه البشر لقوله عز شأنه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 من الانعام في ج 2 وقال جل ذكره : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ) الآية 144 من الأعراف الآتية ، وقال تعالى : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ) الآية الأخيرة من سورة يوسف في ج 2 وقال عز شأنه : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) الآية الأخيرة من سورة الأعلى الآتية مبيّنا في هذه الآية وفي الآيتين 36 و37 من سورة (وَالنَّجْمِ) الآتية ، ان كل ما اوحى لمن قبلنا داخل في كتابنا وللّه الحمد.
المطلب الثامن في النزول وكيفيته وترتيب سوره وآياته
اعلم نور اللّه قلبك ، ان اللّه جل شأنه انزل القرآن العظيم جملة واحدة في اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ووضع في بيت العزة ليلة القدر السابع عشر او العشرين من شهر رمضان سنة إحدى وأربعين من ميلاده صلّى اللّه عليه وسلم الموافق سنة 610 من ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام ، يدل على هذا قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) السورة الآتية وقوله جل قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الآية الثالثة من سورة (حم) والدخان) في ج 2 وقوله تعالى قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية 185 من سورة البقرة في ج 3 ثم انزل نجوما بواسطة الامين جبريل عليه السلام على قلب سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم متفرقة عند الحاجة وبحسب الحوادث والوقائع ، والأسئلة الموجهة إليه من بعض أمته ، وأول ما نزل في نهار تلك الليلة مبادئ سورة (العلق) ، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) إلى آخر الآيات الخمس الأول منها ، كما سيأتي بيانه في غار حراء بمكة ، الذي كان يتعبد فيه ، كما روي عن ابن اسحق عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي ، على خلاف للعلماء في الليلة لا في المكان والشهر كما حكاه القسطلاني في شرحه على البخاري ، وآخر ما نزل منه سورة النصر الآتية في ج 3 ، ومن الآيات آية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من المائدة في ج 3 ، وذلك يوم الجمعة في 9 ذي الحجة ، السنة العاشرة من من الهجرة الموافقة سنة 63 من ميلاده عليه السلام ، يوم عرفة ، في مكة المكرمة ، (1/23)
ج 1 ، ص : 24
ولم ينزل بعدها إلا آية : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) عدد 281 من البقرة في ج 3 البتة ، وكان نزولها في المدينة ، قبل وفاته صلّى اللّه عليه وسلم بواحد وعشرين يوما ، كما سيأتي بيان هذا في تفسير هذه الآية في القسم المدني إنشاء اللّه ، فتكون مدة نزوله اثنتين وعشرين سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما ، وقد أشار اللّه تعالى إلى ذلك بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) الآية 41 في سورة الأنفال في ج 3 ، فيوم نزول الفرقان يوم الجمعة في 17 أو 27 رمضان سنة 41 من ميلاده عليه السلام ويوم التقاء الجمعين ببدر يوم الجمعة في 17 رمضان سنة 54 منه ، فاليومان متحدان في الوصف في اليوم والشهر ، كما سيأتي بيانه في سورة الأنفال المذكورة ، ويدل على هذا ما رواه الطبري ، عن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما ، قال : كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من شهر رمضان ، وقد ملت إلى هذا القول لإشارة القرآن العظيم إليه في أحسن موقع حيث تكلم فيه عن غنائم بدر في اليوم الذي أعزّ اللّه به الإسلام وأراهم عجائب نصره وفي مثله شرف اللّه نبيه بالرسالة لأن هذه الليلة المبينة في السورتين المذكورتين آنفا على جلالة قدرها ورفعة شأنها لا بد وان يشير القرآن إلى تعيينها ولو بالاشارة ، ويؤيد هذا ما قاله الطبري في تأويل قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية المارة بأنه يوم عرفة عام حجة الوداع ولم ينزل بعدها شيء من الفرائض والأوامر والنواهي ، ولا من التحليل والتحريم ، ولم يعش بعدها صلّى اللّه عليه وسلم إلا إحدى وثمانين ليلة رواه السدي وابن جريح عن ابن عباس وروى النيسابوري في تفسيره عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وعنده يهودي فقال لو نزلت علينا هذه في يوم لا تخذناه عيدا ، فقال ابن عباس : إنها
نزلت في عيدين اتفقا في يوم واحد يوم جمعه وافق يوم عرفة ، وذكرنا آنفا أنه نزل بعدها آية : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) ، ولا منافاة لأن هذه لا تحليل وتحريم فيها تدبر.
وليعلم أن القرآن نزل في مكانين ومدتين.(1/24)
ج 1 ، ص : 25
فالأوليان مدة مقامه في مكة ، وهي اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما ، أي من يوم البعثة في 17 رمضان سنة 41 من ميلاده الشريف إلى يوم الهجرة في 1 ربيع الأول سنة 54 منه ، وكل ما نزل في هذه المدة يسمى مكيا ، وهو ست وثمانون سورة ، أولها (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، وآخرها (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ).
والأخريان مدة مقامه في المدينة ، أي من مغادرته مكة ، فتعتبر من 1 ربيع الأول سنة 54 ، إلى حجة الوداع في 9 ذي الحجة السنة العاشرة من الهجرة ، الموافق لسنة 63 من ميلاده الشريف إذ لم ينزل بعدها إلا آية البقرة المارة الذكر وهي تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام ، وكل ما نزل في هذه المدة يسمى مدنيا ، وهو ثمان وعشرون سورة أولها البقرة وآخرها النصر ، فيكون مجموع السور مائة وأربع عشرة سورة أولها اقرأ وآخرها النصر.
مطلب محل النزول وعدد السور وتقسيمها وأسمائها ويوجد هناك آيات تخلفت عن سورها بينّاها في محلها وذلك بحسب التنزيل الذي جرينا عليه ، أما بحسب ما هو في المصاحف ، فأولها الفاتحة وآخرها الناس ، وهذا الترتيب لا محيد عنه البتة لأنه أمر توقيفي.
أما ما جرينا عليه في هذا التفسير فللأسباب المبينة في خطية الكتاب ليس إلا ، ومعنى السورة (المنزلة) قال النابغة :
ألم تر أن اللّه أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي منزلة قصرت عنها منازل الملوك ، وقد أخذ بعض اسماء السور من مطالعها كالأنفال ، والإسراء ، وطه ، والمؤمنين ، والفرقان ، والروم ، وفاطر ، ونون ، وق ، والمرسلات وغيرها ، وهي تسع وسبعون سورة ، والباقي بأسماء ما ذكر ضمنها كالبقرة ، فإنها ذكرت بعد 65 آية ، وآل عمران بعد 32 ، والنساء ، وكذلك الجاثية والأحقاف والتغابن وغيرها من المائدة والأحزاب وسبأ وهكذا ، وهي خمس وثلاثون سورة وكان نزوله كما ذكرنا بحسب الحوادث.(1/25)
ج 1 ، ص : 26
الخمس آيات كأوائل سورة العلق ، والعشر كقصة أصحاب الإفك وأوائل سورة المؤمنين واقل مثل (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بعد قوله تعالى (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) الآية 94 من سورة النساء وكلمتي (مِنَ الْفَجْرِ) بعد قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) الآية 186 من البقرة في ج 3 ونزل بعد قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) الآية 29 من سورة التوبة في ج 3 أيضا ، ولئلا يختل النظم المبرأ من كل خلل أبقيت الآيات المدنيات في سورها المكيات ، والآيات المكيات في سورها المدنيات ، وأشرت إلى كل في محله حسب المستطاع إذ لا يمكن أن يشار إلى كل آية بزمنها أي زمن نزولها ، قال عكرمة : لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه كما أنزل الأول فالأول (أي كله من حيث الزمن) لما استطاعوا ، ذكره صاحب الإتقان في ج 1 ص 59 في النوع الثاني في جمعه وترتيبه واكثر كالسورة بكاملها مثل النساء وبراءة والمائدة وغيرها كثير من المفصل وكان بعضها ينزل جوابا لحادثة في المجتمع الإسلامي وتعرف هذه بأسباب النزول ، وقد عنى جماعة بذلك وألفوا فيه تآليف على حدة وجعلولها أساسا لفهم مغازي القرآن ، ولذلك لم أغفل هذه الأسباب في تفسيري هذا ، كي لا يحتاج القارئ لمراجعة غيره ، وقد أخطأ من قال لا طائل تحت بيان أسباب النزول ، لأن فيه معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم وتخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب ، ولأن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته لأن دخول صورة السبب قطعي ، وإخراجها بالاجتهاد ممنوع ، ولأن الوقوف على المعنى وازالة الاشكال لا يمكن إلا بمعرفة سبب النزول غالبا فسبب النزول طريق قوي في فهم بعض معاني القرآن لان العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب تنبه لهذا.
فائدة معرفة أسباب النزول وبعضها ينزل لسؤال بعض المؤمنين مثل مرثد الغنوي لما أرسله الرسول إلى مكة لاخراج بعض المستضعفين من المسلمين في مكة فعرضت امرأة نفسها عليه فأبى(1/26)
ج 1 ، ص : 27
خوفا من اللّه وطلبت الزواج به فاستمهلها لسؤال حضرة الرسول ، وكانت ذات جمال ومال فلما رجع إلى المدينة عرض قولها عليه فأنزل اللّه : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية 221 من سورة البقرة في ج 3 وأنزل في جواب من سأل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) الآيات 219 و222 و217 من سورة البقرة ، (يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) الآيتين 136 و175 من سورة النساء ، (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) الآية 4 من المائدة في ج 3.
ومنها ما ينزل بدون حادث ، وكلما ترى حكما لم يذكر له المفسرون حادثا انزل الحكم مرتبا عليه.
مطلب مجمل ما كلف اللّه به عباده واعلم أن كل ما كلف اللّه به عباده المؤمنين وغيرهم على نوعين :
الأول معاملة بينه وبين عباده كالعبادات التي لا تصلح إلا بالنية ، أي لا تكون كاملة إلا بها ، وإلا فقد تصح بدونها على خلاف بين المجتهدين ، فمنها ما هو عبادة محضة كالصلاة والصوم ، ومنها ما هو مالية بدنية اجتماعية كالحج ، ومنها ما هو مالية اجتماعية كالزكاة ، وقد اعتبرت هذه العبادات الأربع بعد الإيمان باللّه تعالى أساس الإسلام وأركانه.
الثاني : معاملة بين العباد أنفسهم ، وهي أربعة أنواع.
الأول : مشروعات لتأمين الدعوى ، وهي الجهاد وما يتفرع عنه.
الثاني : مشروعات لتكوين البيوت ، وهي الزواج والطلاق والأنساب والمواريث.
الثالث : مشروعات للمعاملات بين الناس كالبيع والشراء والإجارة والرهن وغيرها من العقود.
الرابع : مشروعات لبيان العقوبات كالقصاص والأرش والحدود وما يتفرع عنها ، وسنأتي على بيان كل نوع في موضعه إن شاء اللّه تعالى ، ونغني القارئ عن مراجعة كتب كثيرة في شأنها ، ومن اللّه التوفيق.(1/27)
ج 1 ، ص : 28
المطلب التاسع في جمع القرآن ونسخه وترتيبه وكونه توقيفيا وبيان ناسخه
اعلم نور اللّه بصيرتك انه ثبت في الصحيح عن انس بن مالك رضي اللّه عنه أنه قال جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أربعة كلهم في الأنصار أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسعد بن عبيد أبو زيد أحد أعمام انس ، وزيد بن ثابت رضي اللّه عنهم.
مطلب جمعه ونسخه وكونه توقيفيا وكان جمعه على عهد الرسول على الرقاع واللخاف وجريد النخل ، لا على صحف ، وكان ترتيبه على ما هو موجود في المصاحف الآن ، ثم كان جمعه على زمن أبي بكر ، عبارة عن نسخه من هذه الأشياء إلى صحف ، وجمعه على زمن عثمان نسخه إلى صحف وكراريس ، وجعله بين دفتين ، كما هو عليه الآن.
ومن قال إنه لم يجمع على عهد الرسول فقد أخطأ ، يؤيد هذا ما ذكرناه آنفا من حديث أنس المتقدم ، وما أخرج الترمذي من أن عمر رضي اللّه عنه ، قال قال صلّى اللّه عليه وسلم خذوا القرآن على أربعة عن ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وكان هؤلاء الكتاب يكتبون القرآن حسبما يمليه عليهم حضرة الرسول على العسب (جريد النخل) وعلى اللخف (الأحجار الرقيقة) ويضعون ما يكتبونه عند الرسول ، ويكتب كل منهم نسخة لنفسه ، وكلما ينزل ما يتعلق بالمكتوب ، فإن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم يدلهم أين يكتبونه أي في أي سورة ، وبعد أي آية ، ولم يجمعه من النساء إلا أم ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث التي كان يزورها حضرة الرسول ويسميها الشهيدة ذكره الجلال السيوطي في إتقانه ، وقد قال صلّى اللّه عليه وسلم فيما أخرجه مسلم ، لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ، وهذا زيادة في الثبت به ، لئلا يدخل عليه ما ليس منه من أحاديثه صلّى اللّه عليه وسلم ، أو غيرها في تفسير بعض كلماته من لدنه أو من بعض الأصحاب ، وتدوينها بهامشه أو بين سطوره خشية من إدخال شيء من ذلك فيه ، ولهذا قال من قال ، أن فلانا قرأ كذا ، وفي مصحف فلان كذا ، لأن بعض الأصحاب كان يدون بعض(1/28)
ج 1 ، ص : 29
ما يفسره أو ما يسمعه من تفسير غيره على هامش مصحفه أو بين سطوره ، حتى ظنها بعضهم أنها في جملة القرآن والقراءات ، وهذا لا ينافي كتابة الأحاديث أي تدوينها على حدة ، لأنها ليست من القرآن ولا تكتب معه ، إذ لا يجوز أن يكتب معه غيره البتة ، وكانت حافظة الأميين وصحف الكاتبين والصحف التي عند حضرة الرسول وفي بيته إلى أن توفاه اللّه ، والنسخ التي عند كتبة الوحي جميعها متعاونة على حفظ كتاب اللّه إنجازا لوعده في قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من سورة الحجر في ج 2 ، هذا وفي واقعة اليمامة التي قتل فيها سالم المذكور سنة 12 من الهجرة نسخه زيد بن ثابت بأمر من الخليفة أبي بكر وصاحبه عمر رضي اللّه عنهما في الرقاع واللخف وجريد النخل إلى صحف فقط كما مر آنفا ، وإنما خص هذا الأمر العظيم بزيد لأنه أحد كتبة الوحي الأمينين ، قال تتبعته من الرقاع والعسب واللخف الموجودة في بيت الرسول عند السيدة عائشة رضي اللّه عنها ، وفي صدور الرجال حيث كان رضي اللّه عنه ، يستقرأ الرجال الحفاظ ويقابل قرائتهم على ما في الرقاع واللخف والعسب ، عند ما يحصل له شبهة في بعض الحروف والكلمات المحتكة ببعضها لزيادة التيقن بها خوفا من زيادة حرف أو نقصه فيما ينسخه لشدة حرصه عليه ، ولئلا ينفرد بما يعلمه ، وبعد أن أكمله على هذه الصورة وضعت تلك الصحف المشتملة على القرآن كله عند أبي بكر فبقيت عنده مدة حياته ثم عند عمر مدة حياته ثم عند حفصة كما هو ثابت في صحيح البخاري ، وإنما وضعت عند حفصة رضي اللّه عنها زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم لأنها بنت الخليفة ، وتقرأ وتكتب فهي نعم الأمينة على كتاب اللّه.
مطلب توزيع نسخ القرآن وأمر الناس بقراءتها ولما ولي عثمان رضي اللّه عنه وصار يغازي أهل الشام في فتح أرمينية واذربيجان سنة 25 من الهجرة ، طلبها من السيدة حفصة بتكليف من حذيفة اليماني وغيره من الأصحاب الكرام فأعطتها (وبعد الاستشارة بينهم انتصر رأيهم الصائب على نسخها(1/29)
ج 1 ، ص : 30
في المصاحف بمعرفة الأمناء الصادقين ، زيد بن ثابت ، وعبد اللّه بن الزبير ، وسعيد ابن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وأمرهم عند الإختلاف في شيء من ألفاظه أن يكتب بلسان قريش لنزوله بلغتهم ، فنسخوا ستة مصاحف أرسل واحدا منها إلى الشام ، وواحدا إلى الكوفة ، وواحدا إلى البصرة ، وواحدا إلى مكة ، وأبقى واحدا لنفسه ، وواحدا لأهل المدينة ، ومن قال أن النسخ سبع قال أرسل السابعة لأهل البحرين ، ثم أمر بحرق ما سواها من الصحف المتفرقة لئلا يقع خلاف بين القراء ، ولتتحد القراءات على نمط واحد كما أنزل ولهذا وصم عثمان رضي اللّه عنه بعض المارقين بحرّاق المصاحف ، نسأل اللّه أن يحرق المارق بناره لأن عثمان رضي اللّه عنه لم يرد بذلك إلا الخير ، وكان سعى الصحابة بجمعه بموضع واحد بين دفتين لا غير ، وزادهم عثمان بنسخه والأمر بالتقيد بما نسخوه ، ومنع ما سواه من مراجعة الصحف واللخاف وغيرها وإرسال نسخ منه للبلاد الإسلامية ، فالفرق بين جمعهم وجمعه هو ذلك لا غير ، قال زيد بن ثابت : فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع الرسول يقرؤها (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآية 22 في ج 3 ، وقد وجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول اللّه شهادته شهادة رجلين ، ويعرف بذي الشهادتين فألحقتها بسورتها ووجدت آخر سورة التوبة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) مع خزيمة أو أبي خزيمة بن أوس بن زيد الأنصاري غير خزيمة الأول فألحقتها بسورتها ، وذلك بسبب تفتت بعض اللخاف المسطورتين عليها ، وهو يعرفها لأنه أحد الحافظين الأربعة ، وانه كان ينسخ لنفسه ما ينسخه لحضرة الرسول ، فيعرف ما ينقص من آي التنزيل ويعلم مواضعه ، وهذا ليس اجتهادا منه بل لثبوت حفظها ولسماعها من حضرة الرسول ولتأكد ما يحفظه على ما هو بحفظ الغير لئلا ينفرد بشيء ما ، إذ لا محل للاجتهاد في شيء من ذلك ولا في
ترتيب السور والآيات بل هو أمر توقيفي كما ذكرنا في المطلب السابق ، ومن قال خلاف هذا فلا قيمة لقوله ، وهذا هو معنى القول الشائع بأن(1/30)
ج 1 ، ص : 31 عثمان جمع القرآن ، أما ما اشتهر به بأنه هو الذي جمعه مبدئيا ولا جمع قبله ، فقول باطل لأنه مجموع على زمن الرسول ومنسوخ في زمن أبي بكر كما ذكرنا.
أخرج أبو داود في المصاحف بسند حسن عن عبد خير قال : سمعت عليا يقول :
أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة اللّه على أبي بكر هو أول من جمع كتاب اللّه.
واخرج ابن ابي داود من طريق ابن سيرين قال : قال علي لما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم آليت أن لا آخذ علي ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن ، فجمعته.
ويراد من جمع علي كرم اللّه وجهه جمعه على الصورة المارة المتروكة من لون حضرة الرسول على الجريد واللخاف وغيرها ، ومن قال إن عليا جمعه قبل عثمان ، أراد هذا لا غير لأنه كان مجموعا زمن الرسول كما أشرنا إليه آنفا ، ولم يجمعه في الصحف إلا أبو بكر ومن بعده عثمان رضي اللّه عنهما على الصورة المارة ، ثم طلب من الأصحاب أن يضعوا له اسما غير أسماء الكتب المنقدمة عليه ، فقال ابن مسعود :
في الحبشة كتاب يدعونه المصحف فسموه به ، ثم انه رضي اللّه عنه حمل الناس سنة 27 من الهجرة على قراءة المصاحف التي نسخت بأمره ومشورة الأصحاب الموجودين في زمنه ، بعد أن وزعت في الآفاق على صورة واحدة خشية الفتنة بسبب اختلاف أهل الشام والعراق في أوجه القراءات ، كي يقرأ الناس كلهم على نمط واحد هذا وما قيل أنه روي عن عائشة انها قالت : إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، لم يثبت ، كما أن ما روي عن عثمان ان في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، باطل ، لأن الصحابة يسارعون إلى انكار أدنى منكر ، فكيف يقرون اللحن في القرآن ، ولأن العرب كانت تستقبح اللحن في مطلق الكلام فكيف لا يستقبحونه في القرآن ، ولأن القرآن يقف عليه العربي والعجمي الذي لا يفرق غالبا اللحن ، فكيف يقرونه لمن لا يعرفه إذا كانواهم عارفين ، ولأنه لما بلغ عمر أن ابن مسعود قرأ (عن) بدل (حتى) على لغة هذيل ، أنكر عليه وأمره أن يقرأ حتى على لغة قريش لأنه نزل بلغتهم ، وهذا من الاختلاف الذي نهى النساخ عنه من حيث كتابة(1/31)
ج 1 ، ص : 32
بعض الكلمات بأن لا تكتبه في القرآن إلا بلغة قريش لأنها سيدة اللغات ، ومثله التابوت بالتاء لا بالهاء على لغة غيرهم ، وكذلك الصلاة تكتب بالواو ، ولما أراد زيد بن ثابت أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار منعه الأصحاب ورفعوه إلى عثمان ، فأمره أن يكتبه بالتاء ، وكذلك الصراط ويصطر يكتبان بالصاد على لغة قريش لا بالسين على لغة غيرهم ، وهكذا كما هو ثابت بالصحيح أيضا.
مطلب وضع السور والآيات توقيفي أما النطق بما تقدم وكتابته في غير القرآن فلا مانع منه ، وليعلم ان وضع الآيات في سورها ومحالها على النحو المرسوم في القرآن توقيفي ، لأنه بتعليم من حضرة الرسول وإعلام من الأمين جبريل إليه عند نزولها وإشارته بأن يكتب هذه السورة بعد سورة كذا ، وهذه الآية بعد آية كذا من سورة كذا كما تقدم بلا خلاف إذ رتبت سوره وآياته كلها وفق ما هو في اللوح المحفوظ ، وقد صح من حديث ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يستعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة في رمضان وفي العام الذي توفي فيه مرتين ، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة ، ولهذا كافه أبو بكر وعمر نسخ المصحف أولا ، وأمر عثمان النساخ ان يتبعوه عند الاختلاف في شيء منه ، وعلى هذه الصورة حفظ اللّه كتابه المصون تحقيقا لوعده فيه ، ومن ثم حرق ما سوى المصاحف الستة أو السبعة على القول الأخير بعد تمام النسخ والتوزيع سنة 26 من الهجرة ، ولم يزد او ينقص أو يبدل أو يغير أو يحرف حرف واحد مما أنزله اللّه ، وبقي محفوظا مصونا إلى الآن ، وسيبقى إن شاء اللّه إلى أن يرفعه ، انجازا لوعده هذا.
ومن قال انه أهمل شيء منه لا برهان له به ، وقد كذب وافترى وخالف الإجماع بلا مراء ، كيف وهو نور النبوة وبرهان الشريعة ، لا سيما وقد تصدر للخلافة بعد نشر هذه المصاحف وحرق ما سواها الإمام الحازم علي عليه السلام باب مدينة العلم وعالم الأرض بعد ابن عمه وهو ذلك الأسد الشديد الرشيد ، الذي لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، (1/32)
ج 1 ، ص : 33
فلو كان يوجد شيء من ذلك ، لدونه وأثبته فيه حين نسخه ولم يعط مجالا لذلك البتة ، وعليه فلا يجوز أن يبقى في ذهن مؤمن سقوط شيء من القرآن ، وكل ما نقل أو ورد من الأخبار والآثار والأحاديث بأن شيئا من القرآن لم يدون في المصحف لا صحة له ولا حجة به لقائله ولا برهان له عليه سواء كانت أخبار آحاد أو جماعات ، لأنها كلها مكذوبة ومختلقة ومتناقلة إفكا فلا يتمسك بها إلا زنديق مارق مفارق للجماعة ، منكر لصراحة القرآن الذي صرح بحفظه من كل شيء منزله بقوله جل قوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) الآية 42 من سورة فصلت في ج 2 ، راجع تفسيرها والآية السابقة من سورة الحجر تجد ما يتعلق في هذا مفصلا ، واعلم بأن الذي يحفظه اللّه لا يقدر أن يضيعه البشر ، وعليه فإن القرآن الموجود الآن بين الدفتين هو تمام كلام اللّه الذي أنزله على محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لم يبدل ولم يغير ، ولم ينقص منه أو يزد فيه حرف واحد البتة ، بإجماع صحابة رسول اللّه ، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا منافق كافر لا حظ له في الإسلام ، والموفق من طهر قلبه من ذلك.
المطلب العاشر الناسخ والمنسوخ والقراءات ومعنى أنزل القرآن على سبعة أحرف
اعلم حماك اللّه وبصرك بطرق رضاه ان بحث النسخ لم يقع له صدى بين الأصحاب الذين كانوا زمن نزول القرآن والذين من بعدهم من الذين لم يبلغوا الحلم زمنه ، ولو كان لتردد صداه ، ولا اختلف فيه المسلمون بعد النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وان شيئا من ذلك لم يقع ، مما يدل على أن القرآن الذي تركه لنا المنزل عليه ، هو الذي أمره ربه بتبليغه لنا بلا زيادة ولا نقص ، وما قيل بأن شيئا من ذلك كان في حياة الرسول لا نصيب له من الصحة ، لأن الأصحاب لم يختلفوا بعده بشيء من أسس الدين ، ولم يتمسكوا بناسخ أو منسوخ ولم يقل أحد منهم بذلك ، وعلى هذا فاعلم أن النسخ :
ت (3)(1/33)
ج 1 ، ص : 34
إما ابطال الحكم المستفاد من نفي سابق بنص لاحق مثل قوله صلّى اللّه عليه وسلم : (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) ، فالأول بطلب الكف ، والثاني بالإتيان على الإباحة بحل التحريم.
وإما لرفع عموم النص السابق أو تقييده كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) الآية 228 من البقرة في ج 3 ثم قال في سورة الأحزاب النازلة بعدها في الآية 49 (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) في ج 3 أيضا ، وكذلك الأمر في عدة الوفاة فإنها قيدت بأربعة أشهر وعشرة أيام في الآية 134 من البقرة أيضا ، ثم قيدت عدة الحامل بوضع الحمل في الآية 4 من سورة الطلاق النازلة بعدها ، فالأول عام للمدخول بها وغيرها ، والثاني أعطى غير المدخول بها حكما خاصا ، وكذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) الآية 4 من سورة النور ج 3 ، ثم قوله بعدها فيها (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) فالأول عام في كل قاذف ، والثاني خاص بالزوج لجعله الأيمان الخمسة قائمة مقام الشهادات الأربع.
هذا مثال التخصيص.
ومثال التقييد قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) الآية 4 من المائدة في ج 3 مع قوله في سورة الأنعام النازلة قبلها : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) الآية 15 في ج 2 فالدم الوارد في سورة المائدة مطلق والوارد في سورة الأنعام مقيد بالسفح فحمل المقيد على المطلق ، وبهذا نعلم أن العام والمطلق لم ينلهما ابطال لأن التخصيص والتقيد بمثابة الاستثناء في الحكم.
والقاعدة ما من عام إلا وقد خصص ، وما من مطلق إلا وقد قيد في بعض الأحوال ، فيستوي فيه اللاحق المتصل بسابقه والمتراخي عنه والمقدم والمؤخر ، فمن سمى المتقدم أو المتأخر ناسخا (ولا يكون المتقدم ناسخا للمتأخر البتة) كان بمقتضى التقييد والتخصيص ليس إلا كآية الأنعام بالنزول على آية المائدة ، فمن يسميه ناسخا كان كمن يسميه مقيدا أو مخصصا.(1/34)
ج 1 ، ص : 35
مطلب ابطال النص في الحكم أو انتهائه :
واما ابطال النص في الحكم السابق أو انتهاء زمن حكمه وبقاؤه بصفة ذكر يتلى فقط فهو على أحد أمرين :
الأول - أن ينص اللاحق بنسخ السابق.
الثاني - أن يناقض أحدهما الآخر بحيث لا يمكن الجمع أو التخصيص أو التقييد ، ولا يوجد من الأول شيء في القرآن إلا قول البعض في ثلاثة مواضع :
الأول : في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) الآية 65 من سورة الأنفال في ج 3 ، وقوله بعدها فيها : (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فهذان خبران أريد منهما الإنشاء ، لان اللّه تعالى قال في الآية 44 من هذه السورة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) وهو أمر بالثبات ، ووجوبه في كل الأحوال ، فأراد جل جلاله أن يحدد هذا الأمر فحدده في الآية الأولى بعشرة أمثال المؤمنين المجاهدين في عدوهم ، إلا أنه تعالت قدرته لم يقل اثبتوا في هذه الحالة لأن المراد بعث الحمية في نفوسهم ، والهاب الغيرة في قلوبهم ، ولما اظهر لعباده ما هو معلوم في مكنون غيبه قبلا من ضعفهم عن المقاومة بهذه النسبة اقتضت رحمته الكبرى بهم التخفيف عنهم ، فأنزل الآية الثانية لئلا يتيقنوا وجوب الأخذ بالأولى حتما فيلقوا بأنفسهم إلى التهلكة أو يمرنوا أنفسهم على المخالفة فيستحقوا عقابه فحدده بهذه الآية بمثلى المجاهدين ، ومن سياقها يعلم أن نسبة الآية الثانية للأولى بنسبة النص المخفف لعارض مع بقاء حكم النص الأول عند زوال العارض وهو الضعف ، فكان حكم الآيتين حكم العزيمة مع الرخصة فإذا لم يكن بتلك الفئة المجاهدة التي هي بمقدار عشر العدو المحارب ضعف ، ورأت في نفسها قدرة على المقاومة إما لقوة إيمانها وشدة جلدها وعزم حزمها ، أو لقوة في عددها أو لوهن في عدوها وعدده ، فعليها أن تثبت أمام عدوها مهما بلغ عدده أخذا بالعزيمة لأن اللّه وصفها بالصبر فمتى وجد الصبر ثبت الحكم الأول.(1/35)
ج 1 ، ص : 36
مطلب متى يجوز للقلة أن تقاوم الكثرة ومن لوازم الصبر المتقدمة عليه القوة المادية ، والقوة القلبية المعنوية ، فكثيرا ما نرى ونسمع ، أن رجلا واحدا قاوم جماعة عشرة فما فوقها وغلبها ، لا تزاره بالصبر ، وتسلحه بقوة الجنان ، وتمسكه بخالص الإيمان ، واستعذابه الموت في سبيل الواجب ، واستملائه الشهادة في إعلاء كلمة اللّه ، فعلى هذا لا نسخ بالمعنى المراد من النسخ.
ومن قال إن الثانية عامة في جميع الأحوال ، قال بنسخ الأولى بالثانية ، وهو بعيد جدا ، وقد اتضح لك بعده.
الموضع الثاني : ما يقرب من هاتين الآيتين قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) وقوله بآخر هذه السورة الآتية :
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) فالأولى صريحة الطلب بقيام جزء من الليل قريب من نصفه ، والثانية : تدل على أن الرسول كان قائما في هذا التكليف هو وطائفة من الصحابة ، إلا أن فيها سببا يقتضي التخفيف وهو علمه جل علمه ، بأن يكون في الأصناف الثلاثة المذكورة في الآية الثانية (مرض أو سفر أو جهاد) فكان التكليف فيها مقصورا على ما تيسر من القرآن المنبئة عن فعل ما تيسر من القيام بقراءة جزء يسير من القرآن ، دون صلاة أو في صلاة ما ، من النفل لقوله بآخر الآية الثانية (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فإذا كان كذلك لم يكن نسخا وحكمه باق بالنسبة للرسول وللآخرين المعذورين ، وهذا رأي ابن عباس ، وقد اخترته لموافقته للواقع ، ومن قال إن الأولى عامة والتخفيف عام أراد النسخ وهو بعيد أيضا.
الموضع الثالث : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) الآية 12 من سورة المجادلة في ج 3 ، وقوله بعدها : (أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) فالأولى تحتم تقديم الصدقة بين يدي النجوى ، (1/36)
ج 1 ، ص : 37
والثانية ترفع ذلك التحتيم من غير تصريح بالواقع ، هذا ما يمكن تطبيقه على الأولى ، وهو إعلام النص اللاحق بإلغاء النص السابق ، وهذه النصوص الثلاثة كلها لا تعين إفادة النسخ بالمعنى المراد منه ، إذ أنه يجوز في الآيات الثلاث فعل الحالتين المثبتتين فيها ، ولو كان المراد نسخ الأولى بالثانية لما جاز فعل الأولى ، بل تحتم فعل الثانية فقط وليس كذلك.
أما الطريق الثاني : وهو الالتجاء إلى نصين متناقضين لا مجال لتأويلهما أو أحدهما ، فمن العسر جدا ، بل من المحال أن تجد شيئا منه في كتاب اللّه ، وهو المبرأ من كل عيب ، وللّه در أحمد محرم إذ يقول :
دستور حق في يمين محمد يحمي الضعيف وبنصف المظلوما
لو لا بلاغته وروعة نظمه جهل الرجال اللؤلؤ المنظوما
كنز البيان فمن تطلب للفتى كنزا سواء قضى الحياة عديما
فضّت علوم الدهر منه جانبا وغدا نقضي الجانب المختوما
متجدد في كل عصر يبتغى مما تجيء جديدة وفهوما
وناهيك في هذا قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الآية 88 من سورة الإسراء الآتية :
مطلب القائلين بعد النسخ :
هذا وقد منع أبو مسلم الأصفهاني المفسر الكبير وجود النسخ في القرآن العظيم ، وقد قال الإمام الرازي في تفسيره المشار إليه ، وكذلك الشيخ محي الدين العربي في تفسيره ، ومن عرف مرامي التشريع الإسلامي ، ووقف على لباب التنزيل ، وعرف حكمة التدريج في التشريع الذي مر ذكره في المطلب السابع ، وأمعن النظر في قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) الآية 1 من سورة هود ، أيقن أن لا نسخ في كلام اللّه بالمعنى القائلين به ، من أبطال المعنى الأول بالكلية ، وهذا من جملة ما عناه سيدنا علي كرم اللّه وجهه ، بإرادته ترتيب سوره وآياته على حسب(1/37)
ج 1 ، ص : 38
النزول ، حينما عقد الشورة الأصحاب في كيفية جمعه وترتيبه على حده ، وحينما أرادوا نسخه على الصحف ، لأنهم كلهم يعلمون أن ترتيب نزوله غير ترتيب جمعه ، وإذ ذاك قال محمد بن سيرين لعلي من القوة كما انزل : الأول فالأول ، وما يدريك ما رأيه عليه السلام ؟ ومرماه :
مرام سطّ مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد
ومن هنا يعرف القارئ الذكي ، أن ما تعالى به علماء النسخ والمنسوخ عبارة عن الآيات المقيدة والمخصصة بالنسبة للآيات المطلقة والعامة ، ولعدم مراعاة هذين الأصلين ، وعدم الاعتناء بتاريخ النزول ، وأسبابه للتيقن من المقدم والمؤخر ، وعدم أخذهم بما أجمع عليه الجمهور ، بأن المقدم لا ينسخ المؤخر ، وعدم مراعاتهم حكمة التشريع الالهي بحسب التدريج ، أوصلوا الآيات المنسوخة إلى مائتين ، كما هو بين في تفسير الشيخ محمد الجزّي ، على أن القرآن العظيم ناسخ لما تقدم من الكتب والصحف لا منسوخ البتة ، وأطالوا البحث فيه ، كما أطالوه في المتعة الآتي بحثها في أول سورة النساء ، في ج 3 ، وسيأتي بحث النسخ في الآية (106) من سورة البقرة ، ما يوسع من هذا إن شاء اللّه ، نعم يوجد فيه بعض آيات عجز طوق البشر عن تأويلها ، فقال بعضهم بنسخها ، إلا أن تحاشي القول بالنسخ أصوب وأحمي للعقيدة ، فقد روى البخاري عن ابن الزبير ، قال قلت لعثمان (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) الآية 240 من البقرة في ج 3 ، وقد نسختها الآية الأخرى ، (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) عدد 4 من سورة الطلاق في ج 3 أيضا (المار ذكرها آنفا) فلم نكتبها وندعها ، قال عثمان : يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه ، وذلك لان الآية الأولى غير منسوخة بالثانية ، كما فصلناه ، راجع تفسيرهما في محلهما.
ومن المعلوم أن آياته منها ما وقع تفسيرها زمن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، ومنها ما وقع زمن أصحابه من بعده ، ومنها ما وقع بعدهم ، ومنها لم يقع حتى الآن ، والليالي حبالى ، وسيلدن الأمر العجيب مما سيظهر فيها من معجزاته الغامضة ، ولا تحديد لكلمات اللّه ، وسترى إن شاء اللّه ، ما بشرح صدرك أيها القارئ ، وتقر عينك ، من تقييد المعاني ، (1/38)
ج 1 ، ص : 39
وما تستعذبه من تبيين المباني ، فيما يتعلق بالآيات التي ظاهر لفظها ، يشم منه رائحة النسخ ، والآيات التي تدل على معجزاته ، فاللّه أسأل وبنبيه أتوسل أن يعينني على ذلك ، ويقدرني عليه ، انه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
مطلب في القراءات وحيث تقدم أني قلت ، إني اتبعت في هذا التفسير قراءة عاصم ، ورواية حفص لا طعنا في غيرهما ، بل لأنهما أشهر من غيرهما ، لأنها المتعارفة في محيطنا ، والمنسوخة في القرآن الذي بين أيدينا ، وإن القراءات الست الاخرى بأوجهها جائزة لمن أتقنها ، وانها تختلف مع بعضها من حيث الترقيق والتفخيم ، والجهد والصمت ، والمد والقصر ، والإمالة والرفع ، والإدغام والإظهار ، والتثنية والافراد والجمع ، والتحريك والإسكان ، والقطع والوصل ، والنقل والوقف ، والتضعيف والفك ، وغيرها في الحروف والكلمات ، بلا زيادة ولا نقص في أصل الكلمة ، وما يزاد في أحد القراءات من الواحد في مثل عليهم ، وعليهم و ، لا يعد زيادة لأنه عبارة عن إشباع الفتحة لا غير ، ولهذا تجد بعض رسم الكلمات فيه متغاير صورة لا معنى مثل (خَسِرَ الدُّنْيا) في الآية 7 من سورة الحج في ج 3 ، تقرأ على أنها فعل ماض ، ولا تنافى المعنى المراد منها ، عند من بقرأها مصدرا أو اسم فاعل ، وهكذا كما ستطلع عليه عند تفسيرها ، وما يشاكلها إن شاء اللّه.
وقد ذكرنا في مطلب جمع القرآن المار ، أن ما جاء من وجود بعض الكلمات في قرائين بعض الأصحاب ، هو كناية عن كلمات تفسيرية كتبوها في مصاحفهم ، فظنها من لا مسكة له بالقرآن قرآنا وتمسك بها بعض الجهلة ، ومن لا خلاق له في الآخرة يماري بها ويجادل ، (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) الآية (46) من المائدة ، فراجعها وراجع الآية (83) من سورة النساء في ج 3 ، ولهذا أشار صلى اللّه عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللّه فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرأنيها رسول اللّه فكدت أساوره (أواثبه وأقاتله) في الصلاة فتربصت (تثبت) حتى سلم فلببته بردائه (أخذته مما يلي عنقه منه) فقلت : من أقرأك هذه(1/39)
ج 1 ، ص : 40
السورة التي سمعتك تقرأها ؟ قال : أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقلت : كذبت فإن رسول اللّه قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول اللّه فقلت يا رسول اللّه إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أرسله ، اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها فقال صلّى اللّه عليه وسلم هكذا أنزلت ، ثم قال اقرأ يا عمر فقرأت بقراءتي التي أقرأني فقال صلّى اللّه عليه وسلم هكذا أنزلت ، ثم قال إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ، وما جاء في روايتها عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : أقرأني جبريل على حرف فزادني فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ، وما رواه مسلم عن أبيّ بن كعب قال : كنت في المسجد فدخل رجل يصلي يقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول اللّه فقرأ فحسّن شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية (أي وسوس لي الشيطان تكذيبا للنبوة أشد ما كنت عليه في الجاهلية) فلما رأى رسول اللّه ما غشيني ضرب في صدري فتصببت عرقا وكأني أنظر إلى اللّه عز وجل فرقا (أي خشية من الخوف والهيبة حين ضربه صلّى اللّه عليه وسلم نشبيتا له بما أزال عنه ذلك الخاطر المذموم) فقال : يا أبيّ أرسل إليّ أن أقرأ على حرف واحد فرددت عليه أن هون على أمتي ، فردّ إليّ الثانية أن اقرأ على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد اليّ الثالثة أن اقرأ على سبعة أحرف ولك بكل ردّة رددتها مسألة تسألنيها ، فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم ترغب إليّ الناس كلهم حتى ابراهيم وهذا من معجزاته صلّى اللّه عليه وسلم حيث أطلعه اللّه على ما حاك في صدر أبيّ من الشك وإزالته منه في تلك الضرية ، ورواية البغوي عن ابن مسعود أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال :
ان القرآن نزل على سبعة أحرف لكل آية منه.
ويروى : لكل حرف منه.
ظهر وبطن ، ولكل حد ومطلع وما قيل في معناه ، إن الظهر لفظ القرآن أو التلاوة باللسان كما أنزل ، والبطن تأويله ، أو النور أو الفهم والتذكر فيه.(1/40)
ج 1 ، ص : 41
والحد ما يتناهى إليه الفهم في معنى الكلام فهو غاية ما ينتهي إليه عقل البشر وإلا فهو بحر خضم لا ساحل له يهب لمن يريد من عباده ملكة الولوج فيه فيوقع في قلبه نورا يبصّره ببعض معانيه كما يلقي الروح على من يشاء من عباده فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل أو ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من يختاره من عباده.
هذا وليعلم أن ما من حادثه ترسم بقلم القضاء إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها كيف لا وقد قال منزله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام في ج 2 ، وقال جل شأنه (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ) الآية 152 من الأنعام أيضا ، راجع ما بيناه آخر المطلب السابع في هاتين الآيتين وتفسيرهما في محلهما ، ومن يجهل معنى هذا فعليه بالعارفين ، قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الآية 7 من سورة الأنبياء في ج 2 وقال جل قوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) الآية 59 من سورة الفرقان الآتية.
مطلب حكاية واقعة :
ذكر بن خلكان في تاريخه ان السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه اللّه لما فتح حلب أنشد القاضي محي الدين قصيدة بائية من جملتها :
وفتحك القلعة الشهباء في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال فسئّل من أين لك هذا ، فقال : أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) الآية من أولها الآتية ، قال المؤرخ فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراجه وله نظائر كثيرة ، ومن المشهور استنباط ابن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الآية 105 من سورة الأنبياء في ج 2 ، على أن المراد بالأرض أرض الدنيا ، أما أرض الآخرة فلا يرثها إلا عباد(1/41)
ج 1 ، ص : 42
اللّه المخلصون ، وهذا انما قال ذلك لأنه تصور الصلاح في السلطان المشار إليه بالنسبة لمن كانت مصر بيده من المماليك سنة 923 غرة محرم حيث خذلت الجراكة وتقلص سلطانهم.
مطلب في الصوفية ومعنى سبعة أحرف :
أو على المعنى الذي جرى عليه بعض المفسرين بأن الصالحين هم الصالحون لعمارة الدنيا ، وفي هذا المعنى يدخل البر والفاجر هذا ، ومن الانصاف التسليم إلى العارفين من السادة الصوفية الذين هم مركز الدائرة المحمدية واتهام الذهن فيما لم يصل إليه من فهم أقوالهم العالية وأحوالهم السامية بسبب العوائق والعلائق قالوا :
وإذا لم تر الهلال فصدق لأناس رأوه بالأبصار
راجع تفسير الألوسي رحمه اللّه ج 1 ص 7.
ومعنى قوله صلّى اللّه عليه وسلم سبعة أحرف أي سبعة وجوه ، قال أبو عبيدة وغيره من الصحابة الكرام هي سبع لغات من العرب : 1 تميم ، 2 ومعد ، 3 ومضر ، 4 وقرشي ، 5 وهوازن ، 6 وهذيل ، 7 وحمير أهل اليمن ، وقد جاءت متفرقة في القرآن العظيم الذي جاء بأحسن لغات قريش التي ذابت فيها لغات فرق العرب الآخرين ، فمن ذلك (انْظُرُونا) في الآية 13 من سورة الحديد ج 3 فهي بمعنى أمهلونا وأخرونا وأرقبونا (ومنه مَشَوْا فِيهِ) في الآية 20 من البقرة ج 3 فهو بمعنى مرّوا فيه وزادوا وذهبوا وسعرا وغيرها من لغات العرب ، لكن ما جاء في القرآن أبلغ معنى وأعظم إعجازا ، ومنها ما جاء في القرآن من المدّ والقصر والإمالة والإشمام والإدغام وغيرها أحسن في الأداء واتمّ في النظم من الكلمات العارية عنها في اللغات الاخرى وانظر إلى كلمة (هلّم) التي هي بمعنى أقبل وتعال وإليّ وقصدي ونحوي وقربي ، هل لهذه الكلمات التي بمعناها في اللغات الأخرى مكانتها من الحسن في اللفظ والمعنى ، كلا ، وقس على ذلك.
ويوجد أقوال أخرى في معناها ، أعرضت عنها لعدم التثبت من صحتها والصحيح أنها قراءات سبع استفاضت عن حضرة الرسول الأعظم ، وضبطها عنه أصحابه(1/42)
ج 1 ، ص : 43
وأثبتت في الصحف ثم في المصاحف على الوجه المار ذكره ، يؤيد هذا ، الحديثان الصحيحان المنوه بهما أعلاه ، والحكم الشرعي في ذلك جواز القراءات السبع المتداولة لمن يتفنها ويحسن قراءتها بالوقوف على أصولها والتلقي من أربابها العارفين بها ، فيقرأ كل بحسب لغته وما تيسر على لسانه مما تلقاه في هذه القراءات توسعة وتسهيلا لهم وتحسينا للفظ وتلذذا للسماع وجودة النظم ، فتزداد القراءة رونقا ويزداد السامع رغبة :
كلام قديم لا يمل سماعه تنزه عن قول وفعل ونيّة
به اشتفي من كل داء ونوره دليل لقلبي عند جهلي وحيرتي
فيا رب متعني بسر حروفه ونور به قلبي وسمعي ومهجتي
أجب اللهم دعانا بكرمك يا مولانا.
المطلب الحادي عشر في خلق القرآن وعدمه ونسبته للكتب الأخرى وصدق النبوة
مطلب القول بخلق القرآن.
اعلم علمك اللّه ما لم تعلم أن ما قيل أن القرآن مخلوق.
عبارة عن اصطلاح كلمة فلسفية وآراء نظرية مبتدعه ، ظهرت أيام الخليفة المأمون العباسي الذي تولى الخلافة سنة 198 بعد قتل أخيه الأمين رحمهما اللّه وأباهما هارون الرشيد وسامحهم وقد توغل فيها وأفرط حتى أنه هدد بالقتل من يقول أنه غير مخلوق ولما جيء له بالإمام الشافعي رحمه اللّه وسئل عن ذلك قال أنت تعني الكتب الأربعة الموجودة بأيدينا ، وأشار إليه بأصابعه الأربع قائلا هذه مخلوقة ، ونجا من التعذيب منه بهذه الوسيلة ولم يتنبه إلى ما أشار وقصد ، أو أنه انتبه وتغاضى لمكانة الشافعي رحمه اللّه.
وليعلم انه لم يرد في هذا البحث كتاب ولا سنة ولا إجماع ، بل هو تعرض للبحث التحليلي في ذات اللّه تعالى وصفاته ومثار للوساوس الشيطانية فيجب على العاقل أن يجتنب هذا البحث ويستعيذ باللّه منه ولا يلجأ إلى ترهات صورت من المشككين ذوي القلوب الصدأة المظلمة البعيدة عن نور المعرفة وأن يوقن بأن الكلام صفة كمال تتعلق بكل ما يتعلق به العلم ، إلا أن تعلق العلم عبارة عن انكشاف المعلومات للعالم(1/43)
ج 1 ، ص : 44
وتعلق الكلام عبارة عن كشف العالم ما شاء من علمه لمن شاء ، واللّه تعالى متصف بكمال العلم والتعليم ، وكمال الكلام والتكليم ، وان هذا وغيره مما وصف اللّه به نفسه في كتابه لا ينافي كمال تنزيله عما لا يليق به من نقائص عباده ولا يقتضي مماثلته لهم فيما وهبهم من كمال فان الاشتراك في الأسماء لا يقتضي الاشتراك بالمسميات ، وأسماء الأجناس المقولة في التشكيك في الممكنات مختلفة من وجوه كثيرة ، منها النقص والكمال فكيف بها إذا كانت مشتركة في الخالق والمخلوقات فذاته تعالى أكمل من ذواتهم ووجوده أعلى من وجودهم وصفاته أسمى من صفاتهم وهو أعلم ورسوله أعلم منهم بصفاته وأفعاله ، فعليك أن تؤمن بما صح عنهما من اثبات ونفي من غير زيادة ولا نقصان ، بلا تعليل ولا تشبيه ، ولا تمثيل ولا تأويل ، وليس عليك ولا لك أن تحكّم رأيك وعقلك في كنه ذاته وصفاته ، ولا في كيفية مناداته وتكليمه لرسله ، ولا في كنه ما هو قائم به وما يصدر عنه ، وعلى هذا كان أصحاب الرسول والسلف الصالح من التابعين والعلماء وأئمة الحديث والفقه ، قبل ظهور بدعة المتكلمين الذين قسموا كلام اللّه إلى نفس قديم قائم بذاته ليس بحرف ولا صوت ولا ترتيب ولا لغة ، وإلى كلام لفظي وهو المنزل على الأنبياء عليهم السلام ومنه الكتب الأربعة ، واختلافهم فيها في كونها مخلوقة أو غير مخلوقة ، والصحيح الذي لا غبار عليه ان كلام اللّه تعالى بالمعنى الأول غير مخلوق لأنه قائم بذاته تعالى وبالمعنى الثاني وهو المقروء في البشر الدال على الصفة القائمة به فلا بأس بأن يقال مخلوق.
لأن قراءتهم له مشتملة على حروف وأصوات وترتيب ولغة وهو صورة حادثة عن كلامه القديم ومظهر من مظاهر التنزيل.
مطلب الطوائف المخالفة ونسبة القرآن للكتب الاخرى :
واتفقت المعتزلة على أن كلام اللّه مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق وأنه خالق لكلامه ثم اختلفوا في معنى الكلام والحدوث على أقوال كثيرة وكذلك الطوائف الاخرى كالامامية والخوارج والحشوية والكرامية والواقفية اختلفت في كونه قديما أزليا اولا ، وفي كونه جوهرا أم عرضا ، وكل انتصر لمذهبه ، ونظرا لمخالفتها لأقوال أهل السنة والجماعه وعدم جواز الأخذ بشيء منها أعرضت عن نقلها وإذا أردت الوقوف على أحوال هذه الطوائف(1/44)
ج 1 ، ص : 45
المخالفة وما شاكلها فعليك بمراجعة كتاب المواقف - الجزء الثالث ص 281 - فما بعدها فانه يكفيك عن كل كتاب.
أما نسبة القرآن للكتب الاخرى فانه أصح وأجمع وأكمل منها من كل وجه فمن حيث أنه أنزل بلغة عربية وبقي كما هو لم تتطرق إليه التراجم ولم تختلف نسخه عن بعضها بحرف واحد فهو أصدق منها إذ لو جمعت مصاحف أهل الأرض كلها ، لا تقدر أن تجد فيها حرفا مغايرا لغيره ، أخرج ابن أبي قاسم عن سفيان الثوري انه قال : لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه بلغتهم.
قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الآية 4 من سورة ابراهيم ج 2.
والكامل لا يأتي إلا بالكامل ، وميزة أخرى انك لو قرأته على مر الأيام وكر السنين ما زادك تكراره إلا حلاوة ورغبة فيه واعتقادا بأنه كلام اللّه حق وصدق لم يغير ولم يبدل كيف لا وقد تحدى اللّه البشر أجمع على إتيان سورة مثله أو من مثل الذي جاء به.
راجع الآية 22 من سورة البقرة في ج ، والآية 28 من سورة يونس ، والآية 13 من سورة هود في ج 2.
تقف على تغيرها وتعرف مدى الفرق بينها وناهيك دليلا على حفظه ما مر لك في الآيتين 9 من سورة الحجر و24 من سورة فصلت في ج 2.
في المطلب السابع المار ذكره وقد أجاد الأبوصيري في قوله بصفته :
اللّه أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف غيره طلع الصباح فأطفأ القنديلا
وقال في بردته :
آيات حق من الرحمن محدثة قديمة صفة الموصوف بالقدم
فلا تعدّ ولا تحصى عجائبها ولا تسام على الإكثار بالسأم
واعلم ان كل ترجمة وقعت له لا تفي بالمطلوب وقد اطلعت على قسم منها فوجدتها لا تنم عن مغازيه فضلا عن الأغلاط الواقعة فيه كالترجمة التركية ، ولا بد أن يكون في التراجم الأخرى أكثر أغلاطا لأن الحروف العربية لا تستعمل كلها في اللغات الأجنبية ، ولأن معاني الكلمات وما هي عليه من اشتمالها على علم المعاني والبديع والبيان لا يمكن أن تؤول فيها مهما كان المترجم قادرا ، فإن الكتب الأخرى فقدت زخرفها لتعرضها للترجمة لأنها أولا أنزلت بالعربية وترجمها كل نبي بلغة قومه كما مر لك(1/45)
ج 1 ، ص : 46
آنفا ، ثم ترجمت بعد بلغات متعددة بحسب لغات الأمم التي تداولتها ولم يعرف على الضبط مترجموها هل هم ممن يوثق بهم في دينه وأمانته أم لا ، وهل هم ممن يعتقد التدين بها أم لا.
مطلب التحريف والتغيير في الكتب الاخرى :
فمن هنا يقع الغلط وسوء التصرف لأن من اطلع عليها وأنعم النظر فيها لا يطاوعه وجدانه أن يسلم بأنها هي المنزلة حقا بحذافيرها بل لا بد وأن يعترف بوجود التحريف فيها ووقوع التغيير حتما.
واعلم أن ما أصاب التوراة والإنجيل من التغيير بسبب الترجمة لا يقل عما أصابها من التحريف والتبديل إذ بالترجمة قد يصير المجاز حقيقة والمتشابه محكما كلفظ الأب والابن وغيرهما مما سنأتي على بيانه في محله إن شاء اللّه وهذا مما سبب ضلال الكثيرين من اليهود والنصارى ولا حول ولا قوة إلا باللّه ، لأن المترجم مهما بلغ من الكمال لا يستطيع أن يترجم كل لفظ بمثله بل يحتاج غالبا لأن يفسر بعضه بمعناه لضيق بعض اللغات عن بعضها وعدم تساوي الحروف بالنطق ، أما ترجمة النبي فلا مقال فيها لأنها من قبيل المعجزة فلا يقاس غيره عليه ، فإذا كان المترجم لم يبلغ حد الكمال فيما يترجمه فلا بد أن يخطىء ومن هنا يظهر لك حقيقة ما قلته على فرض ان المترجم معلوم وموثوق به دينا وأمانة ، أما إذا لم يكن معلوما فكيف يوثق به أو لا تخلو ترجمته من الدس وهو ما يوجد فيها من التناقض كوصف اللّه تعالى في أسفار العهد القديم بما لا يليق بحضرته المقدسة من نسبة الجهل والنوم (تعالى عن ذلك) فقد جاء في سفر الخروج ان موسى عليه السلام تبنته بنت فرعون مع أن القرآن يثبت أن التي تبنته زوجته آسية بنت مزاحم رحمها اللّه ، وجاء فيه أيضا أن هارون هو الذي صنع العجل لبني إسرائيل مع أن القرآن يعزوه للسامري ، ومات نبي اللّه هارون من ذلك ، وجاء في التوراة رمي ، بعض الأنبياء في الكبائر المنافية لحسن الأسوة ، المجرئة على الشرور والمفاسد ، حتى وصموا سيدنا لوطا بزواج ابنتيه مع أن الأنبياء معصومون من كل شيء ، ومنها أن التوراة التي بيد اليهود تخالف التي بيد النصارى ، وأن الأناجيل الأربعة المعتبرة لدى النصارى(1/46)
ج 1 ، ص : 47
فيها بعض الخلاف باللفظ والمعنى والنظم والنسق وقد جاء فيها أن معاصي الأنبياء دليل على عقيدتهم وأن المسيح وحده هو المعصوم وأنه رب وإله ولا مخلص للناس من الذنوب غيره مما يشبه عقائد الوثنيين ويخالف دين الأنبياء والمرسلين في الاعتقاد بإله واحد وشريعة واحدة.
قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ) الآية 13 من سورة الشورى ج 2.
وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الآية 162 من سورة النساء ج 3.
والآيتين بعدها أيضا ، إذا أسس الدين لا تختلف لأن اللّه تعالى لا يتصور أن يرسل نبيا بشريعة ويرسل الآخر بضدها من حيث الأصول الثلاث التي هي 1 - الاعتراف بالإله الواحد.
2 - الاعتراف بالنبوة.
3 - الاعتراف باليوم الآخر.
أما الفروع فتكون على ما يناسب البشر بأدواره ويصلح لكيانهم ويوافق المجتمع.
وليعلم أن اللّه تعالى كما مدح القرآن مدح التوراة بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) الآية 47 من سورة المائدة ج 3.
وكذلك مدح الإنجيل بقوله : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الآية 49 منها ، والزبور أيضا لأن التنكير في الآية الأولى والتنوين يدلان على التعظيم ، وهناك آيات كثيرة في ذلك أعرضنا عنها اكتفاء بما ذكرنا ، إذا فالكتب السماوية كلها مصدقة لبعضها فلا يعقل أن يكون فيها خلاف ما في أصل العقيدة وأصول الدين ، أو مما يؤدي إلى التكذيب لبعضها ، أو بما يصم الأنبياء لأنه كفر عند سائر الملل.
مطلب مدح الكتب الأربعة وصدق الرسالة :
فما جاء في إنجيل لوقا ص 18 آية 19 وص 2 مما يدل على أن العذراء متزوجة وعدم مقابلة المسيح لها عند مجيئها لزيارته ، وحاشاها وهي المبرأة المصونة الطاهرة وحاشاه وهو الرسول الكريم على ربه أن يصدر منه ما يهين البتول أمه الزكية ، وان القرآن يوصي بالإحسان إلى الوالدين ، ويفضل العذراء على نساء العالمين ، وما(1/47)
ج 1 ، ص : 48
جاء في هذا الإنجيل ص 1 و6 ما يدل على عصمة الأنبياء خلافا لما جاء في غيره وفي التوراة وبعض الأناجيل الأربعة المتداولة ما يثبت أن يهوذا الا مخربوطي المنافق الذي دل اليهود على السيد عيسي ليغتالوه شنق نفسه تكفيرا لما وقع منه ، ومنها ما يسكت عنه وكلها متفقة على أن الصلب وقع على المسيح ، إلا إنجيل برنابا فإنه يثبت وقوع الصلب على الخبيث يهوذا الذي ألقي عليه شبه المسيح وفاقا لما جاء في القرآن ، وهذا كله يثبت بلا ريب أن ما وقع من الاختلاف في هذه الأناجيل وفي التوراة أيضا من سوء الترجمة ، وما وقع فيها من التدجيل هو من الدّس الذي أدخل فيها ، ولو دققت بانصاف وقوبلت مع الإنجيل الصحيح الذي أنزل على عيسى عليه السلام وبلغه لقومه الذي لم يترجم بعد ، لوجدته موافقا للقرآن المشتمل على مضمون جميع الكتب الإلية الذي أجمع عليه البشر بأنه لا يضاهيه كلام ولا يقاس بغيره وقيل :
وما كل مخضوب البنان (بثينة) ولا كل مصقول الحديد يماني
وقول الآخر :
أكل امرئ تحسبين امرأ ونارا توقد بالليل نارا
أما ما جاء في صدق نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم عدا شهادة اللّه وكتبه ورسله فإليك ما صرح به (أدوار مونيه) مدرس اللغات الشرقية في مدرسة جنيف في مقدمة ترجمته القرآن بالافرنسية ما معناه بالعربية حرفيا قال : [كان محمد صادقا كما كان أنبياء بني إسرائيل في القديم ، كان مثلهم يرى رؤيا ويوحى إليه ، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين فيه كما كانتا متمكنتين في أولئك الأنبياء أسلافه فيحدث فيه كما كان يحدث فيهم (ذلك الإلهام النفسي) وهذا التضاعف في الشخصية الذين يحدثان في العقل البشري المرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي من بابها] فهذا العالم الاوربي يقول ، ما كان به أنبياء بني إسرائيل كان ثابتا لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال (جسيون) القرآن مسلم به من حدود الاوقيانوس الاتلانتيكي إلى نهر الجانج بأنه الدستور الاساسي ليس لأصول الدين فقط بل للأحكام الجنائية والمدنية وللشرائع(1/48)
ج 1 ، ص : 49
التي عليها مدار نظام الحياة للنوع الإنساني وترتيب شؤونه ، وان الشريعة المحمدية تشمل الناس جميعا في أحكامها من أعظم ملك إلى أقل صعلوك ، فهي شريعة حيكت بأحكم وأعلى منوال شرعي لا يوجد مثله قط في العالمين ، وأما تفسيره الخصائص فهو التعليل الذي يعلل به الماديون الوحي المطلق.
هذا وقد لخص خبر نزول الوحي على محمد صلّى اللّه عليه وسلم من كتب اسلامية مذعنا بصحتها ، ونقلها بعده المستشرق الإفرنسي (أميل درمنغام) ويكتب بالصحف المصرية در منجيم) - في كتابه حياة محمد مذعنا بصحة الرواية وبوضوحها شارحا تأثير نبوته في إصلاح البشر متمنيا الاتفاق بين المسلمين والنصارى ، آسفا للشقاق بينهم.
وقال الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي ص 73 في اثبات نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم : درس علماء الإفرنج سيرته فأجمعوا على هذه النتيجة (ان محمد كان سليم الفطرة كامل العقل كريم الأخلاق صادق الحديث عفيف النفس قنوعا بالقليل من الرزق ، غير طموح بالمال ولا جنوح إلى الملك ولم يعن بما كان يعن به قومه من الفخر والمباراة من ارتجال الخطب وقرض الشعر ، وكان يمقت ما كان عليه قومه من الشرك وخرافات الوثنية ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات البهيمية كالخمر والميسر وأكل أموال الناس بالباطل ، وبهذا كله وبما ثبت من سيرته وبعثته بعد النبوة ، جزموا بأنه كان صادقا فيما ادعاه بعد إكمال الأربعين من عمره من رواية ملك الوحي واقرائه إياه هذا القرآن وإثباته بأنه رسول من اللّه لهداية قومه فسائر البشر).
وقال الدكتور الأميركي كارلو (محمد خير طبيب ، ودينه الإسلام يأمر بالوقاية قبل المرض ، وقد ظهر ذلك في الصيام وفي صلاة التراويح التي يقوم بها المسلمون بعد الإفطار في كل يوم من رمضان ، إذ أن لهذه العملية الرياضية فائدة كبرى في هضم الطعام).
هذا واني لم أذكر هذه الفقرات من أقوال الأجانب التي هي قليل من كثير إلا بمناسبة ذكر الكتب الأخرى ، والا فقد ذكرت قبلا أني استغنيت عن ذكر ت (4)(1/49)
ج 1 ، ص : 50
شيء منها اكتفاء بما ذكره العلماء في المؤلفات المارة الذكر وما بعد شهادة اللّه المترادفة في كتبه وشهادة رسله في كتبهم على صدق محمد ورسالته شهادة ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد.
المطلب الثاني عشر في الوحى وكيفية نزوله ومعناه وأوله والرؤيا الصادقة ومعناها
مطلب الوحي وتفرعاته اعلم فقهك اللّه ان جمهور المفسرين أجمعوا على أن أول ما نزل من الوحي خمس آيات من أول سورة العلق ، ولا عبرة بمن شذ عن هذا الإجماع ، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال وتعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل كان ينزل به خمسا خمسا ، واخرج ابن عساكر من طريق آخر نظيره وما بمعناه ، وهذا على الغالب وإلا فقد نزل أقل وأكثر كما سنذكره علاوة عما سبق في المطلب الثامن في موضعه ، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها قالت : أول ما بدأ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
(والرؤيا صور حسية في الخيال تذهب الآراء والأفكار في تعبيرها مذاهب شنى قلما يعرف تأويل الصادق منها غير الأنبياء كرؤيا ملك مصر التي عبرها سيدنا يوسف عليه السلام ، ورؤيته هو في صغره وقد ظهرت بعد كما قصها اللّه علينا ، وسيأتي بيانها مع بحث مسهب في الرؤيا في تفسير الآية 5 من سورة يوسف وفي الآية 3 منها فما بعدها أيضا).
ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتخث (يتعبد) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها (أي تلك الليالي) حتى جاءه الوحي ، وفي رواية حتى فاجاءه وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ ، فقال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني (ضمني وعصرني ، والحكمة في ذلك أن لا يشتغل بالالتفات إلى غيره ومبالغة في تصفية قلبه ولهذا كررها ثلاثا) حتي بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني(1/50)
ج 1 ، ص : 51
فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) فرجع بها رسول اللّه ترجف بوادره (هي اللحمات التي فوق الرغثاوين أي عروق الثدي وأسفل الشذوة أي لحم الثدي واللحمات ما بين المنكب والعنق) حتى دخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني [غطوني ولفوني بالثياب ] فزملوه حتى ذهب عنه الروع (الفزع) ، ثم قال لخديجة مالي ؟ وأخبرها الخبر ، قال : لقد خشيت على نفسي (أي الهلاك) ، قالت خديجة : كلا أبشر فو اللّه لا يخزيك اللّه (لا يذلك) أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسعد بن عبد العزى عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللّه أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره ما رآه ، فقال له ورقة : هذا الناموس [يعني جبريل صاحب خبر الخير يسمى بهذا لأن اللّه خصّه بالوحي إلى الأنبياء] الذي نزله على موسى ، يا ليتني فيها [أي نبوتك ] جذعا [شابا قويا] ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أو مخرجي هم ؟ قال نعم.
لم يأت رجل قط.
بمثل ما جئت به إلا عودي ، وان يدركني يومك [أي يوم يخرجك قومك عند ادعائك النبوة] أنصرك نصرا مؤزرا [قويا معززا] ثم لم يلبث ورقة أن توفي [أي قبل ظهور الدعوة].
وفتر الوحي ، زاد البخاري قال : وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلّى اللّه عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى [أي يوقع نفسه ] من رؤوس شواهق الجبال ، فلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منه تبدّى [أي ظهر عيانا] له جبريل ، فقال :
يا محمد إنك رسول اللّه حقا ، فيسكن لذلك جأشه [قلبه وما ثار من فزعه وهاج(1/51)
ج 1 ، ص : 52
من حزنه ] وتقر عينه فيرجع إلى حالته الأولى أملا برجوع الوحي إليه ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفي بذروة الجبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال مثل ذلك.
مطلب أول ما نزل من القرآن وروى البخاري ومسلم عن يحيى بن كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ، قال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ) قلت يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) قال أبو سلمة : سألت جابرا عن ذلك وقلت له مثل ذلك فقال لي :
لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول اللّه قال : جاورت بحراء شهوا فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فرأيت شيئا ، فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني وصبوا علي ماء باردا [فيه أن من يفزع ينبغي أن يصب عليه الماء البارد ليسكن خوفه ] فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وذلك قبل أن تفرض الصلاة ، وفي رواية فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي وذكر نحوه وقال : فإذا هو قاعد على عرش في الهواء (يعني جبريل) فأخذتني رجفة شديدة [و المراد بالعرش هنا السرير والكرسي المبين في الحديث الآتي ] ورويا عن جابر في رواية الزهري عن ابن سلمة رضي اللّه عنهما قال سمعت : رسول اللّه يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه : بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض فجئثت [بجيم مضمومة وهمزة مكسورة وتاء ساكنة وتاء مضمومة وروي بتاءين ومعناه رعبت وفزعت ] منه رعبا ، فقلت زملوني زملوني ، فدثروه فأنزل اللّه عز وجل :
(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قال ثم حمى الوحي بعده وتتابع.
واعلم ان هذين الحديثين لا يتعارضان مع حديث عائشة المتقدم ذكره بأن أول ما نزل مبادئ سورة اقرأ ، لأن ما جاء في هذين الحديثين من أن أول سورة نزلت هي المدثر لا يصح ، لأن قوله في الحديث الأول وهو يحدث عن فترة الوحي(1/52)
ج 1 ، ص : 53
إلى أن قال (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) يدل على تقدم الوحي على هذا الحديث.
وقوله في الحديث الثاني : فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، يدل على صحة ما جاء في حديث عائشة أيضا ، وان أول ما نزل هو (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، وقوله فيه أيضا : ثم حمي الوحي وتتابع ، أي بعد ما فتر ، وبعد نزول (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) نزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وبهذا يحصل الجمع والتوفيق بين الحديثين المذكورين ، وحديث عائشة المتقدم هو الصواب الذي لا مرية فيه والمجمع عليه على الإطلاق ، ومعنى فترة الوحي احتباسه وعدم تواليه ، ومعنى حمي الوحي كثر نزوله ، وحديث عائشة هذا يعد من مراسيل الصحابة لأنها لم تدرك هذه القصة فلا بد أنها سمعتها من حضرة الرسول أو من ثقات أصحابه ، ومرسل الصحابي حجّة عند جميع العلماء ولا سيما السيدة عائشة التي كان ينزل الوحي في فراشها وهي مع النبي بخلاف بقية نسائه ، فإنهن إذا نزل الوحي عليه وهو في فراش إحداهن انعزلت عنه ، فقد روى أبو يعلى في مسنده عن عائشة قالت : أعطيت تسعا وفيه ، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفن عنه ، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه ، وبهذا يندفع التعارض باختصاص نزول الوحي في فراش عائشة ، تأمل ، وهذا النوع من القرآن يسمى الفراشي ، كيف وهي التي شهد اللّه ببراءتها وحسبك بها حجة ، ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا أبو إسحاق الاسفراييني.
وإنما ابتدئ صلّى اللّه عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك.
بصريح النبوة ، فلا تتحملها قواه البشرية ، فبدأه بعلامتها.
توطنة للوحي ، وإرهاصا إلى مقدمات النبوة.
مطلب معنى الإرهاص والوحي ومأخذ الشفرة والإرهاص معناه هنا الإثبات ، يقال : ارهص الشيء إذا أثبته وأسسه على طريق المجاز.
فهذه المقدمات التي تأتي الرسل من الرؤيا الصادقة والكشف والفراسة في الأمور ، أي التوسم بها - راجع الآية 75 من سورة الحجر في ج 2 تجد معناها - .
وتخيل المعاني قبل وقوعها ، إثبات لنزول الوحي الالهي وأساس للمنزول عليه ليقوى جنانه ويأخذ ما يتلقاه من الوحي بعزم وحزم ، وليعرفه حقا انه من اللّه دون تطرق لشك أو ظن أو وهم.
تدبر هذا.(1/53)
ج 1 ، ص : 54
واعلم أن معنى الوحي الإيماء بالتكليم خفية عن أن يفهمه الغير ، وأصله الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وباشارة بعض الجوارح وبالكتابة ، وحمل عليه قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الآية 11 من سورة مريم الآتية ولم يتكلم ، وحمل على الإيماء قول الشاعر :
نظرت إليها نظرة فتحيرت دقائق فكري في بديع صفاتها
فأوحى إليها الطرف أني أحبها فأثرّ ذاك الوحي في وجناتها
وقول الآخر :
أشارت بطرف العين خيفة أهلها اشارة محزون ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا وأهلا وسهلا بالجبيب المتيم
وحمل على الاشارة قوله تعالى : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) الآية 41 من آل عمران في ج 3 ، (هذا وقد اتخذت الملوك والأمراء حروفا وكلمات بأرقام اصطلحوا عليها وعبروا عنها باسم شفره) كناية عن هذا المعنى ، واستنباطا منه ، منعا من أن يفهم الغير ما يتخابرون به ، لأن اللّه تعالى علم البشر كيف يتخاطبون ، وكيف يتنعمون ، وكيف يعذبون ويعذبون ، مما وصفه من أحوال أهل الجنة والنار ، وقصه في كتابه المنزل هذا وكتبه السابقة أيضا ، وجعل أوائل السور رموزا بينه وبين حبيبه ، فلا يعرف معناها إلا هما كما سنبينه في مواضعه إن شاء اللّه ، هذا وان القول الجامع في معنى وحي اللّه لأنبيائه ، هو إعلام خفي سريع خاص بمن بوحيه اليه ، بحيث يخفي عن غيره الملاحق له ، كما كان يوحي اليه في فراش عائشة فيعلم ما هو المراد وهي لا تدري ما هو ، وكذلك كان يوحي اليه بمحضر من أصحابه فيعي ما يتلقاه ، وهم لا يعلمون شيئا منه إلا تغيّر حال الرسول عما كان عليه قبل الوحي لأنه عليه السلام كان يعتريه ثقل وشدة حال نزوله حتى أنه ليعرق في الوقت البارد ، من عظم ما يلاقي من هيبة كلام الرب جل جلاله.(1/54)
ج 1 ، ص : 55
وانظر لما قيل :
لو يسمعون كما سمعت كلامها خرّوا لعزّة ركعا وسجودا
ومنه الإلهام الغريزي كالوحي إلى أم موسى ، وضده الوسوسة الشيطانية ، قال تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الآية 121 من الأنعام في ج 2 ، وقال في الآية 112 منها : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ووحي اللّه إلى أنبيائه ، قد روعي فيه المعنيان الأصليان لهذه المادة (الخفاء والسرعة) وقد يطلق على متعلقه وهو ما وقع به الموحى باسم المفعول ، مما أنزل اللّه على أنبيائه وعرفهم من أنباء الغيب والشرائع والحكم ، فمنهم من إعطاء كتابا أي تشريعا يكتب ، ومنهم من لم يعطه فيكون تابعا في التشريع لكتاب من قبله كأنبياء بني إسرائيل ، فإنهم كلم تابعون للتوراة ولم ينزل الكتب دفعة واحدة إلا على الذين يحسنون القراءة كموسى وداود وعيسى وغيرهم ، أما الذين لا يحسنونها كمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ومن قبله فإنه لم ينزل عليه كتابه دفعة واحدة بل انزل مفرقا ليعيه أولا بأول وقد جمع له الأمرين إذ أنزل جملة إلى بيت العزة تعظيما لشأنه وتفخيما للمنزل عليه ثم أنزل نجوما مفرقة كما أوضحناه في المطلب الثامن ومنه الوحي إلى الملائكة بما يأمرهم اللّه به ، قال تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية 12 من الأنفال ج 3 ، ومنه أيضا الوحي إلى ملك الوحي فيما يوحيه إلى الرسول.
قال تعالى : (فَأَوْحى )
اللّه جل جلاله إِلى عَبْدِهِ)
جبريل عليه السلام (ما أَوْحى )
به إلى محمد عليه الصلاة والسلام إلى آخر الآيات فما بعدها من سورة النجم الآتية.
روي عن أبي هريرة ان النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وانما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة متفق عليه - قال الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد إحدى مؤلفاته القيمة بعد تعريف الوحي لغة مانصه : وقد عرفوه شرعا بأنه اعلام اللّه تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه.
وقال الأستاذ السيد محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي : انه (أي الإلهام) عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل اللّه بواسطة أو بغير واسطة.(1/55)
ج 1 ، ص : 56
مطلب الفرق بين الوحي والإلهام والأول الوحي المراد بالآية الآنفة الذكر من سورة النجم ويكون هذا الوحي بصوت يتمثل أو يسمعه منه أو يعيه بغير صوت.
والثاني الإلهام وهو وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلبه من غير شعور منها من أين أتى ، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور ، وهذا الفرق بين الوحي والإلهام فيدخل في هذا التعريف أنواع الوحي الثلاثة الواردة في قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) الآية 51 من سورة الشورى ج 2.
لاشتمالها عليها فالوحي هنا إلقاء المعنى في القلب ويعبر عنه بالنفث بالروع (أي النفخ الشديد بالقلب والخلد والخاطر) والكلام من وراء حجاب هو أن يسمع كلام اللّه من حيث لا يراه كما سمع موسى نداءه من وراء الشجرة والذي يرسل به الرسول جبريل ، هو الذي بلغه الملك إلى الرسل فيرونه متمثلا بصورة رجل أو غير متمثل ويسمعه منه أو يعيه بقلبه وهذا قبل التفرقة بين الوحي والإلهام يسميه البعض الوحي النفسي أي الإلهام الفائض من استعداد النفس العالية اه بتصرف.
ثم قال وقد اشتبه بعض علماء الافرنج بنبينا عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء.
فقالوا : ان محمدا يستحيل أن يكون كاذبا فيما دعى الناس إليه من الدين القويم والشرع العادل والأدب السامي وحوّره من لا يؤتى بعالم الغيب منهم أو لا يؤتى باتصال عالم الشهادة أي لا يؤمن ولا يصدق بشيء من ذلك لأنه مادي لا يركن إلى غير المحسوس المشاهد ولا يطمئن إلا بما يعاين لأن معلوماته وأفكاره وآماله ولدت إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية على مخيّلته السامية وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك ماثلا له فانتقش كلامه بصدره ووقع على سمعه فوعى ما حدثه الملك به ، فظهر في هذا أن الخلاف بيننا وبين الافرنج الذين لا يوقنون بعالم الغيب ولا يصدقون باتصال عالم الشهادة في كون الوحي الشرعي من خارج نفس النبي نازلا عليها من السماء كما نعتقد لا من داخلها فائضا منها كما يظنون وفي ملك روحاني مستقل نزل من عند اللّه عليه صلّى اللّه عليه وسلم كما قال عز وجل : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ(1/56)
ج 1 ، ص : 57
بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الآيات 192 فما بعدها من الشعراء الآتية.
وفي تخيل الملك بزعم وهو باطل ، كما علمت بأن هذا القرآن وحي من اللّه تعالى ، منزل من فوق السموات العلى ، لا يمكن أن يكون فائضا في هذه الأرض من نفس النبي صلّى اللّه عليه وسلم قطعا ، وذلك مبلغهم من العلم المنحوت من تصوراتهم الناشئة من عدم اعتقادهم بوجود الإله القادر على كل شىء ، ومن يظلل اللّه فما له من هاد.
الخاتمة نسأل اللّه حسنها
اعلم أجارك اللّه وعصمك من كل مكروه ، أن الإنسان دائما معرض لنزغات الشيطان ووسوسته في كل حال من أحواله الدينية والدنيوية ولذلك أمر اللّه عباده أن يلتجئوا إليه منه وخاصة عند الشروع في عبادته لتكون خالصة لجنابه طيبة لمقامه ولا يقبل إلا الطيب فأوحى لرسوله في جملة ما أوحى إليه (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الآية 98 من سورة النحل في ج 2.
وقال عز قوله (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الآية 26 من سورة فصلت ج 2 ، والآية 56 من سورة عاقر (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ...
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) في ج 2.
فإذا امتثل الإنسان هذا الأمر أعاذه اللّه وأدخله في قوله تعالى (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) الآية 4 من سورة الاسراء الآتية ومثل آية فصلت المارة الآية 199 من سورة الأعراف الآتية.
فيكون المستعيذ في كنف اللّه ورعايته يسدده إذا مال ويقومه إذا اعوج ويؤمنه إذا خاف ويرشده إذا ضل ويؤازره إذا ذل ويكون معه في كل أحواله فينصرف بكليته إليه ويذكره خاليا عما سواه ليذكره من في السماء وذلك ما يبتغي وفيه قال :
وساعة الذكر فاعلم ثروة وغنى وساعة اللهو افلاس وفاقات
لأن الذاكر إذا لم يكن ذكره على تلك الصفة كان لهوا وصاحب اللهو مفلس في الأجر معرض نفسه للبلاء وفيه قلت : (1/57)
ج 1 ، ص : 58
وكذا العبادة فهي لهو أو ريا ما لم تحصل طاعة الخلاق
هذا وقد اختار جل العلماء صيغة أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم على غيرها من صيغ التعويذ لأنها أجمعها ولموافقتها لما جاء في التنزيل كما هو مبين في الآية الأولى.
ومعنى أعوذ باللّه ألتجئ إلى اللّه وامتنع به من كل سوء إذ هو الإله الذي لا رب غيره ولا معبود سواه ، المستغاث به من كل ما يخشى ، والمستعان به على كل ما يراد ويخاف منه ويفزع «من الشيطان» هو كل عات طاغ من الجن والانس «الرجيم» الطريد وهو بمعنى لم الفاعل أي الذي يرجم الناس بالوسوسة وترجمه الناس باللعن وبمعنى اسم المفعول اي المرجوم بالطرد من رحمته والبعد عن خيره.
فهذه الاستعاذة عبارة عن اقرار العبد بالعجز واعترافه بقدرة خالقه على دفع ما يضره وجلب ما ينفعه.
مطلب منى يكون الأمر واجبا وتذكير بعدوه الباغي الفاجر لأبينا آدم عليه السلام وتهديده لذريته بالإغراء إلى اليوم الآخر وقطع بأنه لا يقدر على حفظه من إغوائه غير ذلك الرب الذي التجأ اليه من شره لعنه اللّه ، وحكم الاستعاذة شرعا على قول جمهور العلماء أنها سنة مستحبة في الصلاة وغيرها ، وقال عطاء بوجوبها للأمر بها في الآيات المارات ، ولمواظبة الرسول عليها ، ودليل الجمهور على سنيتها عدم تعليمها للأعرابي في جملة أعمال الصلاة ، ومواظبة الرسول عليه السلام لا تقتضي الوجوب على لجملة ، لأنه واظب على أشياء كثيرة ليست بواجبة على أمته كتكبيرات الزوائد في العيدين والتسبيحات في الركوع والسجود وصلاة الليل وقيامه وغيرها ، والأمر في القرآن قد لا يكون واجبا حتى إذا كان معلقا على فعل آخر كما في تلك الآيات لأن المعنى فيها إذا أردتم القراءة فاستعيذوا كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) أي إذا أردتم القيام إليها لا مطلقا وإلا لوجب الوضوء دون إرادة الصلاة وليس كذلك ، فالأمر الذي ينصرف للوجوب من كل وجه هو الذي لم يقيد ولم يخصص ولم يعلق على غيره كقوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أما إذا وجد الصارف عن الوجوب أو ارتبط الأمر بغيره فلا يكون واجبا في كل حال كما في آيات الاستعاذة والوضوء المارات وسيأتي تفصيله في تفسير آية الوضوء/ 7/ من المائدة في ج 3 وما يماثلها من السور الأخرى هذا.(1/58)
ج 1 ، ص : 59
مطلب في البسملة واختصاصها في هذه الأمة وإن أفضل أنواع البسملة وأكملها ما ذكره اللّه في كتابه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وهي بلفظها العربي هذا من خصائص هذه الأمة ، لأن القول بلفظها ومعناها ينقضه ، ما ذكره اللّه في الآية/ 30/ من سورة النمل الآتية على القول بأنها أنزلت بمعناها على سيدنا سليمان عليه السلام.
ولو كان لتداولتها الأمم قبل الإسلام ، ولم يكتب الجاهليون باسمك اللهم في ابتداء كتبهم وأمورهم ، ولم يستمر هذا اللفظ في بداية الإسلام.
واعلم أن ما روي من انه صلّى اللّه عليه وسلم ، كان يأمر بكتابة باسمك اللهم ، إلى أن نزلت (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) الآية/ 41/ من سورة هود في ج 2 ، فأمر بكتابة (بِسْمِ اللَّهِ) واستمر إلى أن نزلت (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية الأخيرة من سورة الإسراء الآتية ، فأمر بكتابة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ) واستمر حتى نزلت آية النمل المذكورة آنفا ، فأمر بكتابة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لا وجه له من الصحة ، لأن سورة النمل نزلت قبل سورة هود ، وقبل الإسراء ، اللتين فيهما (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) وقال (ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) وسورة الإسراء نزلت قبل هود ، فكيف يصح الاستدلال بهذا الحديث ، مع ثبوت عدم نزول الآيات المذكورة على الترتيب المبين فيه (تدبر).
ومن هذا يتضح لك أن البسملة هذه من خصائص الأمة المحمدية فقط ، وقد ذكر العلماء أوجها كثيرة ، في أن البسملة : هل هي آية مستقلة أو آية من الفاتحة فقط ، أو في كل سورة ، واستدلوا بأقوال متضاربة وأحاديث متباينة ، ضربت عنها صفحا لعدم ثبوت صحتها ثبوتا يصح الاعتماد عليه.
والصحيح الذي اعتمدته هو أن البسملة آية منفردة ، قد أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا وللفصل بينها ، يؤيد هذا ما رواه الثعلبي عن أبي بردة عن أبيه قال :
(قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد) بعد سليمان بن داود غيري ، فقلت : بلى ، قال : بأي شيء تستفتح القرآن إذا افتتحت الصلاة ، فقلت : (ببسم اللّه الرحمن الرحيم) قال : هي هي ، وما روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لأبّي بن كعب : (1/59)
ج 1 ، ص : 60
ما أعظم آية في القرآن قال : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فصدقه صلّى اللّه عليه وسلم في قوله ، ولذلك أدخلت في بدء كل سور القرآن ، عدا سورة التوبة كما سنعلم سببه فيها.
ولأن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدّفتين كلام اللّه ، فلو لم تكن البسملة منه لما أدخلوها فيه ، ولم تجمع الصحابة على نسخ المصاحف وتدوينها فيها ، كما هي عليه الآن ، وحرق ما سواها مما قيل أنه قرآن ، ومنع الناس من تلاوة غيرها لتوحيد القراءة ، ودفع ما يقع من الاختلاف فيها حسب لغات العرب ، إلا لتجريد كلام اللّه عما سواه خوفا من أن يزاد فيه أو ينقص منه ، ألم تر أن لفظة آمين مع كثرة الأحاديث الواردة فيها والمواظبة على قراءتها مع الفاتحة في الصلاة ، وغيرها من لدن حضرة الرسول فمن بعده متواترة.
لم تكتب في القرآن لأنها ليست منه ، ويرد الأقوال والأحاديث الواردة بأن البسملة آية من الفاتحة أو كل سورة ما ثبت بالأدلة القطعية المتقدمة بأن أول ما نزل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ولم تذكر البسملة معها.
وما روي عن أبي هريرة عنه صلّى اللّه عليه وسلم من أن سورة الملك ثلاثون آية والكوثر ثلاث آيات والإخلاص أربع آيات فلو كانت البسملة آية منهنّ لكانت الأولى 31 والثانية 4 والثالثة 5 لأن القرآن لا يثبت إلا بتوقيف من الشارع أو بالتواتر والاستفاضة أما معناها فالاسم مشتق من السموّ أي الرفعة والعلو ، يقال سمّو الأمير ، ويريدون علو شأنه ورفعة قدره ، والجار متعلق بفعل مقدر تقديره ، أبتدئ تبركا باسم (اللّه) الواجب الوجود المنزه ذاته عن الكيفية والكمية ، المتبرك به في جميع الأحوال ولا يطلق هذا اللفظ على غيره تعالى البتة ، وتفخّم لامه بعد فتح أو ضم ما قبلها ، وقيل مطلقا ، ومن صفاته (الرحمن) الذي وسعت رحمته كل شيء ، يرحم المؤمن والكافر والبر والفاجر ولا يجوز أن يوصف به غيره ، ولا يسمى به معرف ، وما قيل في مسيلمة الكذاب : وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا ...
فمن تعنته وكفره بادعائه النبوة.
وقيل الممنوع المعرف فقط فلا يجوز أن تسمي أحدا أو تصفه بالرحمن ، ومن(1/60)
ج 1 ، ص : 61
صفاته (الرحيم) بالطائعين من عباده ، ولهذا قالوا الرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى فيرحم ويرزق باسمه الرحمن الطائع والعاصي في الدنيا والآخرة ، ويرحم المؤمن والطائع باسمه الرحيم في الآخرة لاختصاصه فيها.
الحكم الشرعي في البسملة الحكم الشرعي هو انها سنة مؤكدة في الصلاة والقراءة والأكل والشرب واللبس والأخذ والعطاء وغيرها ، أما في أجواء ما يخالف الشرع وسائر المنكرات فالأدب الاحتراز عن ذكر اللّه عند تعاطيها ، قال عليه الصلاة والسلام : (كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم اللّه فهو أبتر) الحديث ، أي ناقص وقليل البركة ، وقد أجمع قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها بانها ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها كما قدمناه وبهذا أخذ أبو حنيفة ومالك استدلالا بالحديث الذي أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : (قال اللّه تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل) أي الفاتحة لأنها ثناء له ومعونة ودعاء لعباده ، وقد بدأ صلّى اللّه عليه وسلم صلاته بالحمد للّه فلو كانت البسملة منها لما تركها وبحديث انس المخرج في الصحيحين وحديث عائشة رضي اللّه عنهما من أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد للّه رب العالمين ، فلو كانت البسملة آية منها لبدأ بها ، وقال قراء مكة والكوفة أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة وأخذ بها الشافعي وأحمد بن حنبل استدلالا بقول ابن عباس عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الآية 87 من سورة الحجر في ج 2 بأنها أي السبع المثاني فاتحة الكتاب ، قيل فاين السابعة قال هي (بسم اللّه الرحمن الرحيم) ، أخرجه خزيمة عنه وقوله من ترك البسملة فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن ولعده إياها آية من القرآن حينما سئل عنها ، وبما روت أم سلمة ان النبي صلّى اللّه عليه وسلم قرأها أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية من الفاتحة ، وهذا كله لا يؤيد كونها آية في القرآن العظيم في كل سورة أو في الفاتحة وليس بشيء تجاه ما تقدم ، لأن عدّ(1/61)
ج 1 ، ص : 62
ابن عباس البسملة آية من القرآن غير معارض لما ثبت لك ممّا مر بأنها آية مستقلة في القرآن ، نزلت للفصل بين السور ، كما ذكره فخر الإسلام في المبسوط ، وقد أوجب كثير من العلماء قراءتها في الصلاة منهم الزيلعي في شرح الكنز والزاهدي في المجتبى وهو رواية عن ابي حنيفة.
وأما قول من تركها فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن فهو موقوف عليه ، بل هو قول مجرد عن الدليل ولم يعرف روايه عنه ، وان ما روي عن أم سلمة لم يوجد في المشهور وان حديثها هذا مروي عن أبي مليكه ولم يثبت سماعه عنها وبتقدير سماعه فرضا بسبب المعاصرة فيمكن أنها عنت به قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المروية بطرق متعددة وألفاظ متقاربة يوجد في بعضها ما لم يوجد في الاخر كما هو مسطور في روح المعاني للآلوسي رحمه اللّه في ج 1 ص 35 - 36 وقد ذكرت بعض منها على طريق التمثيل ولم استوعبها ، وما جاء في صدر حديثها لا يعارض ما اخترناه لأن قراءته صلى اللّه عليه وسلم البسملة أول الفاتحة لا يعني أنها آية منها كما أن الحديث الذي أخرجه ابن خزيمة عن ابن عباس والذي رواه الدار قطني عن أبي هريرة من قوله صلّى اللّه عليه وسلم إذا قرأتم (الحمد للّه) فاقرؤا (بسم اللّه الرحمن الرحيم) فإنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم اللّه الرحمن الرحيم إحدى آياتها لم تعارض بما ذكرناه ولم تقابلها من حيث الصحة وقوة الرواية (تدبر) هذا وقد ذكرنا ما به الكفاية في ذلك وأسهبنا البحث في البسملة لكثرة اختلاف العلماء فيها حتى أن الإمام أبا بكر بن خزيمة صاحب الصحيح والحافظ أبا بكر الخطيب وأبا عبد اللّه وغيرهم أفردوا لها مؤلفا على حده.
مطلب الفرق بين الحمد والشكر وفضلهما ومتى يطلبان
واعلم أنه كما يجوز الابتداء بالبسملة يجوز الابتداء بالحمد له وهي «الحمد للّه» فالحمد هو الثناء بالوصف الجميل على الفعل الاختياري وتصحيفه المدح وهو الثناء على الجميل من نعمه أو غيرها اختيارا كقولك حمدت الرجل على أنعامه وعلمه ومدحته على شجاعته(1/62)
ج 1 ، ص : 63
وحسبه واضطرارا مثل حمدك الغير على صباحة وجهه ورشاقة قده لانهما ملازمان له وكذلك مدحك اللؤلؤة على صفائها لأن الصفاء صفة ملازمة لها مدحت أو لم تمدح ويكونان باللسان فقط ، بخلاف الشكر فإنه يكون باللسان والقلب واليد.
قال.
افادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
ولا يكون المدح إلا بمقابلة النعمة ونقيض الحمد والمدح الذم وهو اظهار مثالب الإنسان ، ونقيض الشكر الكفران وهو نكران نعمة المنعم ، ولهذا جعلوا الشكر على النعمة نعمة تحتاج للشكر ايضا وبه قال بعض العارفين :
إذا كان شكري نعمة اللّه نعمة عليّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ، وان طالت الأيام واتصل العمر ، والحمد لا يكون إلا بعد الإحسان والمدح يكون قبل الإحسان وبعده.
وقد وعد اللّه على الشكر زيادة النعمة وعلى جحودها العقوبة ، فقال جل شأنه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ، لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة ابراهيم في ج 2 ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم في الحث على الشكر (أشكركم للّه أشكركم للناس) وقال : من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه) واعلم أن أركان الحمد خمسة 1 محمود : وهو من صدرت منه النعمة ، 2 وحامد : وهو الذي يأخذها ، 3 ومحمود به : وهي الصفة التي تحلى بها المنعم كالعلم والكرم والشجاعة ، 4 ومحمود عليه : وهي نفس النعمة التي صدرت من النعم ، 5 وصيغة : وهي الجملة التي تدل على اتصاف المحمود بتلك النعمة التي حمد عليها ، كقولك محمد كريم ، واحمد عالم ، ومحمود شجاع.
الحكم الشرعي وجوب الحمد والمدح والشكر بمقابلة النعمة ، وسنّة في سائر الأوقات بحق الخلق.
أما للخالق فواجب في كل حال ، لتمادي نعمه على خلقه ، ولأنه المستحق لجميع المحامد ، أزلا وابدا ، وبما أن هذا البحث من الاستعاذة إلى هنا ، قد يأتي مكررا في القرآن العظيم ، فلا نتكلم بشأنه فيما بعد اكتفاء بتفسيره هنا.
هذا ، وقد آن لنا أن نشرع في المقصود ومن اللّه التوفيق ، وبيده أزمة التحقيق ، فأقول متلبسا بلطف اللّه وعطفه.(1/63)
ج 1 ، ص : 64
مطلب إعاذة اللّه فى إصلاح الكون
لما كان مراد اللّه تعالى من خلق خلقه عبادته والاعتراف بوحدانيته ليس إلا لقوله عز قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات في ج 2 ، وكانت المخلوقات الأرضية بأسرها عدا من اختصه اللّه شريرة بالطبع ، بحيث لو تركت وشأنها ، لأكل القوي الضعيف ، واسترق الوضيع الشريف ، واستخدم الغني الفقير ، وذل التقي واعتز الشرير ، وطأطأ العاقل ، وتطاول الجاهل ، ولم يقف عند هذا الحد ، بل لساقه بغية لمناوأة بإرثه ، ولقضت له أنفته لقتال مرشده كفرعون وهامان ونمرود ومن تقدمهم من أهل إرم وعاد وثمود ، ولنهض به طغيانه إلى عبادة غير خالقه من الأصنام والأوثان والملائكة والكواكب والنار والحيوان ، وقد جرت عادة اللّه تعالى في كونه ، انه كلما فسد ما فيه من الخلق المكلف بعبادته ، أرسل إليه من يرشده ويصلحه رحمة به وإبقاء لبقائه حتى استكمال أجله المقدر له في علمه عند خلقه.
وقدّر له الرقي والفوز في ملكوته ليسير في ملكه وليعلم أهم قادرون بقدرته على استخراج ما أودعه فيه ، فيرفعه هذا المرشد من مستوى الرذيلة إلى علو مراتب الفضيلة ، حتى إذا أصرّ على عناده هبط به إلى حضيض الخسة وأهلكه بعذاب لا مرد له منه ، قال تعالى (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا) الآية 24 من سورة يونس ج 2.
وقد اطّردت عادة جل هذا البشر أن لا يتعظ بالآيات ولا يتأثر بالمعجزات وينسى ما أوقعه اللّه بالكافرين أمثاله من عذاب الاستئصال ،
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا انه يتقلب
ولكن اللّه تعالى بالمرصاد للمعاندين أشباههم وانه مهما أمهل لا يهمل وما كان ولن يكون غافلا عن الظالمين ولا ناسيا مكايدهم ، وقد طفح قدح الخلق في القرن السادس من ميلاد المسيح عليه السلام بأنواع البغي والطغيان والعمل القبيح وأعرضوا عما جاءهم به ابن عمران وكفروا بالسيد المسيح وعكفوا على اللذائذ والشهوات ولم يبالوا بما اقترفوه من الفواحش والجنايات حتى استحلوا المحارم وتكالبوا على المظالم ، ونبذوا كتب أنبيائهم ظهريا ، ولم يخشوا لومة لائم ، وتخبط العرب(1/64)
ج 1 ، ص : 65
في جاهلية جهلاء وأعرضوا عن خالق الأرض والسماء وقصد ابرهة هدم البيت الحرام صار الكون بحاجة ماسة إلى من ينقذه من ورطته وبوقظه من رقدته وبينما هم كذلك لا يدرون ما وراء ذلك حصل أمر عظيم.
مطلب ولادة محمد صلّى اللّه عليه وسلم
ولد محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم عام الفيل 29 أغسطس سنة 570 من ميلاد عيسى بن مريم عليه السلام وقيل في 20 نيسان سنة 570 والأول أكثر حجة كما في الصفحة 118 من مقدمة الأستاذ فريد وجدي المسماة صفوة القرآن ، وفي ترجيح لقول الأخير نظر إلى ولادته في ربيع ونيسان من أشهره ، ولكن هذا غير مطرّد في نكاح صحيح ونسب طاهر.
وظهر لولادته خوارق وغرائب وعلامات ، منها رسال الأبابيل على أبرهة المذكور وحماية بيته منه ، وإخماد نار فارس ، وانصداع ديوان كسرى ، ونضوب ماء عين ساوة ، عدا ما رأته أمه من الكرامات في حمله وولادته ، وما رأته مرضعته مدة رضاعه وغيرها ، مما لا محل لذكره هنا ، وقد نشأ نشأة تبرهن للعالم أجمع بأنه صلّى اللّه عليه وسلم هو المختار لإصلاح هذا الكون وأهله والمجدد لعصور الأنبياء بالإرشاد ، ونشل العالم من كبوته ، وقد ترعرع بين قومه فأحبوه وعظموه ونسبوا إليه كل فضل حتى انهم لقبوه بالأمين ، وقد أراه اللّه من الإرهاصات الدالة على نبوّته عيانا ، وأراه الرؤيا الصادقة تبيانا ، وصار يتعبد بما يلهمه ربه وحبب إليه الخلاء ، فاعتزل قومه إلى غار حراء كارها ما هم عليه من عبادة الأوثان وغيرها من العادات القبيحة الجاهلية ، ومن هنا نشأت عداوة قومه له ولم يزل حتى شرفه اللّه بالنبوة والرسالة وأنعم عليه بالقرآن المجيد ، وأول ما بدىء به بعد ما رأى من مقدمات الوحي الرؤيا الصادقة مدة ستة أشهر في مطلع سنة 46 من ميلاده الشريف أوائل سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) كما تقدم ، ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلم الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
لأن مدة الوحي ثلاث وعشرون سنة تقريبا فتكون الستة أشهر جزءا.
منها ، وكان مبدأ النزول في غار حراء يوم الجمعة في 17 رمضان من ميلاده الموافق سنة 610 من ميلاد عيسى عليهما الصلاة والسلام ، ولذلك ابتدأت هذا الكتاب في تفسير سورة العلق التي أولها تلك الآيات الخمس النازلة عليه جريا على ما ذكرناه في مقدمة الكتاب واللّه الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل.
ت (5)(1/65)
ج 1 ، ص : 66
تفسير سورة العلق
وتسمى سورة التعليم و(اقرأ) أيضا
عدد 1 (نزولا) - 96 (في ترتيب المصحف) وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وثمانون حرفا لا ناسخ ولا منسوخ فيها ولا يوجد في القرآن سورة بدئت أو ختمت بما بدئت أو ختمت به ، وقد نزلت في غار حراء بمكة يوم الجمعة في 17 رمضان سنة 41 أو 27 رمضان سنة 41 من ميلاده صلّى اللّه عليه وسلم ومثلها في عدد آياتها سورتا الأعلى والانفطار.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «اقْرَأْ» يا محمد ما أوحيته إليك على لسان رسولي جبريل من القرآن الذي أردنا إنزاله عليك لتتلوه على أمتك ، مبتدأ «بِاسْمِ رَبِّكَ» الذي رباك وأنعم عليك به واختارك لإرشاد عباده ، وهذا أول أمر أمره به ربه بأن يذكر اسمه تيمّنا به ثم يقرأ ما يوحيه إليه تأدبا لحضرته الكريمة وتعريفا لعنوان الربوبية المنبئة عن حال التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق به شيئا فشيئا ، وبإضافة الضمير إليه تعالى اشعار بتبليغه عليه السلام الغاية القصوى من الكمالات البشرية بإنزال هذا القرآن عليه ، ثم وصف ذاته جلت وعظمت بقوله «الَّذِي خَلَقَ 1» كل شيء وبدأ خلقه من لا شيء وصور جميع خلقه على غير مثال سابق باسمه البديع الذي «خَلَقَ الْإِنْسانَ» الذي هو أشرف المخلوقات وأبدع المصنوعات الذي منه تقتبس المكونات البشرية وبه تقوم المكونات الإلهية ، قال علي كرّم اللّه وجهه :
دواؤك فيك ولا تشعر وداؤك منك ولا تبصر
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر(1/66)
ج 1 ، ص : 67
مطلب معنى العلق وفضل الإنسان
هذا وان اللّه تعالى يعلّم خلقه بأن هذا المخلوق العظيم خلقه «مِنْ عَلَقٍ 2» يريد بذلك بني آدم كلهم ، أما آدم عليه السلام فقد خلقه من تراب لأن العلق هو الدم الذي تجمد عن ولوج الحيوان الذي يطلق عليه لفظ علق أيضا ، وهذا بيان لكمال قدرته بإظهار ما بين حالتي الإنسان الأولى والأخرى من التباين.
وقد ذكّر اللّه نبيه بأول نعمة فائضة عليه منه وهي الخلق لأنه أقدم الدلائل الدالة على وجوده ، وجاء علق بلفظ الجمع لان (أل) فيه للاستغراق لتشمل جميع أفراد الإنسان.
هذا ومن فسر الإنسان بآدم قال إن أل فيه للجنس الصادق بالواحد والقدر ، وعليه يكون المعنى أصل الإنسان وجنسه آدم عليه السلام ، وليس بشيء ، لأن اللّه تعالى صرح في كتابه بآيات متعددة بأنه خلقه من الطين ومن التراب هذا.
وفي قوله اقرأ إشارة إلى أنه تعالى خلق الإنسان للقراءة كما خلقه للعبادة لأنه ذكر الخلق بعد الأمر بالقراءة كما في قوله جل قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) الآية 4 من سورة الرحمن في ج 3 بعد قوله (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) تنبيه لهذا ، وانظر لقوله عز قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات في ج 2 وذلك لأن القراءة أصل العبادة كيف لا وفيها البعد عن الجهل المفني للأمم ، وما فازت أمة إلا بقدر علومها ومعارفها الدينية والدنيوية ، ولهذا كرر تعالى الأمر لحبيبه بقوله «اقْرَأْ» لنفسك ولغيرك فتعلّم وعلّم ، ثم مهد له جل شأنه ما بينه من العذر إلى جبريل عليه السلام حين ضمّه وقال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ على النحو المار ذكره في المطلب الثاني عشر ، وازاحه عنه بقوله «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3» الذي لا يوازيه كريم ، الذي منّ عليك بالرسالة من غير طلب ، يمنّ عليك بالقراءة من غير تعليم ، كيف لا وهو «الَّذِي عَلَّمَ» بفضله وكرمه وعطفه ولطفه أنواع العلوم وفهّم القارئ الكتابة «بِالْقَلَمِ 4» لمعرفة الأمور الغائبة وحفظ الحاضرة والمستقبلة وضبطها وتدوينها ، واثبات علوم الأولين وسيرهم والاطلاع على منافعها(1/67)
ج 1 ، ص : 68
لئلا يتطرق إليها الضياع والنّسيان ، إذ لو بقيت في الصدور دون تدوين لنسيت وضاعت الفائدة منها ، والكريم هو الذي يعطي لا لغرض ولا لعوض وهو اللّه الذي «عَلَّمَ الْإِنْسانَ» انواع العلوم وهداه إلى معرفة الحقائق الكلية والجزئية الجلية والخفية «ما لَمْ يَعْلَمْ 5» من المكونات الأرضية والسماوية مما لم يخطر بباله ولا يتصوره بخياله ، فقد علّم آدم الأسماء كلها كما سيأتي في الآية 30 من سورة البقرة في ج 3 ، وعلم محمدا علوم الأولين والآخرين مع انه أمي ، وفيه دلالة على كمال كرمه جلّ كرمه بأنه علم عباده مالا تحيط به عقولهم عفوا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم.
مطلب ما رثي نوما لا بعد قرآنا ، وأصل الكتابة بفوائدها :
انتهت الآيات الخمس التي نزلت دفعة واحدة أول الوحي فينبغي لمن يريد حفظ القرآن أن يحفظه خمسا خمسا فهو أعون على حفظه كله لأن الرسول قد حفظها حال نزولها ، وما قاله بعض المفسرين من أنه تلقى هذه الآيات الخمس من الملك في سنة من النوم ثم تلقاها يقظة لا طائل تحته ولا قيمة له بل ولا صحة له ، والحديث في هذا رواه الطبراني عن ابن الزبير موقوفا وهو يقابل ما جاء في الصحيحين على فرض صحته لأن الصحيح ما جاء في الصحيحين بأنه تلقاها حال اليقظة نهارا كما أثبتناه آنفا في المطلب الثاني عشر ، لأن ما يراه الرسول في النوم لا يسمى قرآنا ، وسيأتي لهذا البحث صلة في تفسير سورة الكوثر الآتية فراجعها.
قال قتاده : لو لا القلم لم يقم دين ولم يصلح عبش لأن الكلام عبارة عن هواء فإذا لم يقيد ضاع ، وفيه قيل :
العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الموثقه
وليعلم أنه لو لم يكن على دقيق حكمته تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا القلم والخط به لكفى ، قالوا الكتابة قديمة في غير العرب وأول من نقلها من الحيرة إلى الحجاز حرب بن أمية أخذها من أسلم بن زيد ، وأخذها أسلم من مرار بن مرّة ، (1/68)
ج 1 ، ص : 69
فقد أخرج بن الأنباري في كتاب الكلمة عن عبد اللّه بن فروخ قال : قلت لابن عباس يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث اللّه فيكم محمدا تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام والنون ؟ قال نعم ، قلت ممن أخذتموه ؟ قال من حرب بن أمية ، قلت وممن أخذه حرب ؟ قال من عبد اللّه بن جدعان ، قلت وممن أخذه عبد اللّه بن جدعان ؟
قال من أهل الأنبار ، قلت وممن أخذه أهل الأنبار ؟ قال من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن ، قلت وممن أخذه ذلك الطارئ ؟ قال من الخلّجان بن القسم كاتب الوحي لنبي اللّه هود عليه السلام وهو الذي يقول :
أفي كل عام سنة تحدثونها ورأي على غير الطريق يعيّر
وللموت خير من حياة تسيئنا بها جرهم فيمن يسبّ وحمير
هذا وأول من اشتهر بالكتابة من الأصحاب أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي اللّه عنهم.
واعلم ان أصول كتابات الأمم اثنا عشر : 1 - السريانية ، 2 - العبرانية ، 3 - الحميرية ، 4 - الفارسية ، 5 - اليونانية ، 6 - الرومية ، 7 - القبطية ، 8 - البربرية ، 9 - بالهندية ، 10 - الأندلسية ، 11 - الصينية ، 12 - العربية ، ولها فروع كثيرة ، هذا ، وبعد هذه الآيات الخمس بتسع سنين وعشرة أشهر نزل قوله تعالى ردّا لغلو أبي جهل وتمرده وبغيه «كلآ» حقا «إِنَّ الْإِنْسانَ» جنسه إذا تكاثرت.
عليه النعم «ليطغى 6» على غيره ويستكبر ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع الهوى ولا يشكرها «أَنْ رَآهُ» أي ان راى نفسه «استغنى 7» وكثر ماله وولده فيأنف ويترفّع على غيره في المأكل والمشرب والملبس والركب والمسكن والترف وكان نزولها وما بعدها لآخر السورة بعد فرض الصلاة ، بدليل النهي فيها عنها ، وقد ألحقت بالآيات الخمس الأول على الصورة التي ذكرناها في مطلب جمع القرآن فراجعها.(1/69)
ج 1 ، ص : 70
مطلب سبب عدم انفراد الآيات عن سورها :
وهكذا فإنا نشير إلى الآيات التي لم تنزل مع سورها ونبين محالها ، لأنا إذا أفردناها على حدة يتبعض نظام القرآن وهو منزه عن التبعيض ويتغير نسق السور وهو منهي عنه شرعا لأن ترتيبه توقيفي كما بيناه هناك ، ولهذا السبب لم نفرد الآيات التي نزلت منفردة عن سورها بل نثبتها في سورها ونكتفي بإلماع إليها ، هذا وان الصلاة فرضت ليلة الإسراء في 27 رجب سنة 51 من ميلاده الشريف في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين.
وسبب نزولها في أبي جهل أنه كان قبل بعثة الرسول فقيرا ثم أصاب مالا كثيرا ، فزاد في عناده وتجبره ، وفي معتاده كله ، فوبخه اللّه تعالى في هذه الآية ، ونبهه بأن يشكر نعمته ويعمل لآخرته ، لأن ما يعمله للدنيا فان والعاقل من يعمل لآخرته ، لأن اللّه تعالى يقول : «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى 8»
في العقبى الباقية ، وهناك ترى أنت وغيرك عاقبة الأمر.
وفيها تهديد وتحذير من القهور والبغي ، وتنبيه بأن النعم يجب أن تقابل بالتواضع والشكر طلبا لدوامها وتأدية لحق المنعم بها ، قال تعالى : تعجبا أي يعجب اللّه الناس من حال أبي جهل «أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى 9 عَبْداً» نون للتنكير تعظيما له ، لأن المراد به حضرة الرسول «إِذا صَلَّى 10» لربه ، أخبرنا أيها العاقل هل يفعل ذلك أحد ؟ لأن الرؤية إذا كانت للعلم أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها سواء كانت بصرية أو قلبية ، قال محمد بن أحمد الجزي في تفسيره التسهيل : إن فعل أراه للعلم ، بدليل عمل الفعل بالفجر لأن فعل أراه للخير ، لا يعمل بضمير المتكلم وهو كذلك ، وتقدير الجواب ، ألم يعلم بأن اللّه يطلع عليه فيعاقبه ، لأن المنهي على رشد وهدى من ربه ،
ولهذا قال جل قوله : «أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى 11» ، فهل له أن يمنعه من ذلك ؟ أما يخشى عقاب اللّه «أو» يزعم هذا الخبيث أنه «أَمَرَ بِالتَّقْوى 12» التي أساسها التوحيد والإخلاص ، وملاكها الخوف والرجاء ، وهي الجامعة لكل خير ، المانعة من كل شر.
كلا.
بل أمر فيما(1/70)
ج 1 ، ص : 71
يأمر به من عبادة الأوثان وانكار البعث كما يعتقد «أَ رَأَيْتَ» يا سيد الرسل «إِنْ كَذَّبَ» هذا الناهي بما أنزل عليك «وَتَوَلَّى 13» عن الإيمان بك وبربك ، أخبرني يا حبيبي هل كان أو يكون أعجب من هذا ، وأقل عقلا ، «أَ لَمْ يَعْلَمْ» هذا المكذب «بِأَنَّ اللَّهَ يَرى 12» طغيانه ، وانه قادر على أخذه حالا فيجازيه أو يمهله فيعاقبه في الآخرة على اجترائه هذا.
واعلم أن حكم هذه الآيات عام ، وأن ما فيها من الوعيد يتناول كل من ينهى عن شيء من العبادات والأعمال الصالحة.
ولا يلزم منها منع المولى عبده ، والرجل زوجته عن قيام الليل وصوم التطوع والاعتكاف وصلاة الجمعة ، لأن ذلك استيفاء لمصلحة السيد والزوج.
ولا يلزم ايضا جواز المنع من الصلاة في الأرض المغصوبة وعلى الثوب المغصوب لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
روى البخاري عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند البيت لأطان على عنقه ، فبلغ ذلك رسول اللّه فقال : لو فعل لأخذته الملائكة ، زاد الترمذي عيانا.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقيل نعم ، قال :
واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب ، قال : فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته ، قال : فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبه ويتقي بيديه ، فقيل له مالك ؟ قال : ان بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة! فقال صلّى اللّه عليه وسلم : لو دنا لا ختطفته الملائكة عضوا عضوا.
وأنزل اللّه الآيات من كلّا إلى آخر السورة.
هذا ، وقول الحسن إن المنهي سلمان الفارسي والناهي أمية بن خلف ، لا يصح ، لأن سلمان أسلم في المدينة بعد الهجرة بلا خلاف ، وهذة الآيات نزلت بمكة بلا خلاف أيضا ، وما قيل إن الصلاة المنهي عنها كانت بجماعة ، وكان أبو بكر وعلي يصليان مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وإن أبا طالب قال لابنه جعفر : صل جناح ابن عمك بعيد عن الثبوت أيضا ، لأن أبا طالب مات في السنة العاشرة من البعثة ، وتلته خديجة بعد ثلاثة أيام قبل فرض الصلاة وقبل وقوع الإسراء ، وقد فرضت الصلاة كما مر آنفا ، ولو كان أبو طالب حيا لما تجرا أبو جهل(1/71)
ج 1 ، ص : 72
على ما تكلم به ، لأنه صلّى اللّه عليه وسلم لم ير الجفاء من قومه إلا بعد موته ، قال تعالى :
«كلّا» لا يعلم أبو جهل رؤية اللّه لعمله القبيح الذي يقوم به عنادا وعتوا وتكذيبا لحضرة الرسول ، وعزتي وجلالي «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ» عن إيذاء الرسول ولم يرجع عما هو عليه «لَنَسْفَعاً» لناخذنّه ونجذبه «بِالنَّاصِيَةِ 15» ونقذفنه بالنار والسفع أخذ الشيء وجذبه بشدّة وكتب نسفعا بالألف اعتبارا بحال الوقف ، ويجوز في غير القرآن كتابته بالنون كسائر الأفعال المتصل بها نون التوكيد الخفيفة وعليه قوله :
يحسب الجاهل ما لم يعلما شيخا على كرسيه معمّما
فلم تكتب بالنون للروى ، والروى كحال الوقف.
والسفع والصفع الضرب على الرقبة ، واللطم الضرب على الوجه ، واللكم الضرب بمجموع اليد ومثله الوكز ، راجع الآية 15 من سورة القصص الآتية «ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ 16» أي صاحبها موصوف بهذه الصفات الخسيسة ، ويشمل هذا كل من يعمل عمل أبي جهل ، قال ابن عباس : لما نهى أبو جهل حضرة الرسول عن الصلاة انتهره ، فقال : أتنهرني واللّه لأملأن عليك هذا الوادي خيلا جردا ورجالا مردا وإنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني.
فأنزل اللّه جل شأنه ما به يتحداه فقال : «فَلْيَدْعُ نادِيَهُ 17» اي أهل ناديه من اطلاق المحل وإرادة الحال فيه مثل «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» الآية 82 من سورة يوسف في ج 2 ، أي فليدع أهله وعشيرته ومن يضمه مجلسه.
مطلب معرفة بعض الألفاظ.
واعلم أن المجلس لا يسمى مجلسا إلا وفيه ناس وإلا فهو بيت ، كما لا تسمى المائدة مائدة إلا وعليها الطعام وإلا فهي خوان ، والكأس لا تسمى كأسا إلا وفيها الشراب وإلا فهي زجاجة ، والقلم لا يسمى قلما إلا وهو مبري وإلا فهو قصبة ، هذا ، ويطلق الأخذ بالناصية على الأخذ بمقدم شعر الرأس ، قال عمرو بن معديكرب :
قوم إذا كثر الصياح رأيتهم ما بين ملجم مهره أو سافع(1/72)
ج 1 ، ص : 73
ثم هدده بقوله : «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ 18» إذا دعوت قومك ، ومن في ناديك على رسولنا.
والزبانية الملائكة الغلاظ الشداد ، الموكلون بدفع أهل النار ، وسيأتي وصفهم في تفسير الآية 30 من سورة المدثر ، والآية 23 من سورة التكوير الآتيتين ، والآية 7 من سورة التحريم في ج 3) فيدفعونك معهم ويزجونك في النار ، والزّبن الدفع بشدة اهانة للمدفوع ، إذ لا يتركونهم يدخلون على هينتهم ، وهو لفظ خاص بالأعوان : كالشرطة والدرك والحوذية وما شابههم ، ويطلق على كل من اشتد بطشه وإن لم يكن من أعوان السلطان والولاة وفيه قيل :
مطاعم في القصوى مطاعين في الوغى زبانية غلب عظام حلومها
وقال جرير :
لهم مجلس مهب السبال ادلة سواسية امراؤها وعبيدها
وقال زهير :
وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل
وقال ابن عباس : واللّه لو دعا ناديه لأخذته زبانية اللّه ، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، ثم كرر اللّه عليه الردع والزجر بقوله : «كلا» تحقيرا لشأنه ، وتثبيتا وتأييدا لنبيه المخاطب بقوله عز قوله : «لا تُطِعْهُ» في ترك الصلاة ولا تلتفت إلى ما تفوّه به ، ودم على ما أنت عليه من العبادة ، فإنا حافظوك منه وكافوك شره وناصروك عليه ، «وَاسْجُدْ» لعظمتي وكبريائي يا حبيبي «وَاقْتَرِبْ 19» من جلالي وبهائي بكثرة الصلاة ذات الركوع والسجود ، ولا تكترث بذلك الخبيث واستمر على خلافه.
مطلب الحكم الشرعي في سجود التلاوة الحكم الشرعي : وجوب السجود عند تلاوة كل سجدة من سجدات القرآن الأربع عشرة فورا امتثالا لأمر اللّه ، ويسن عند تلاوة آية السجدة آخر سورة الحج في ج 3 خروجا من الخلاف ، وتجب على السامع ولو من وراء جدار ولو بسماعها(1/73)
ج 1 ، ص : 74
من المذياع «الراديو» لأن المسموع منه - معين لا يكون بتسجيلا - صوت القارئ نفسه لا صداه ، ولذلك لا يجب لسماعها من الصندوق «فوتو غراف» لأنه صدى الصوت نفسه كما يسمع من الدار والجبل كما أوضحه الفقهاء.
وهي سجدة واحدة يسبح فيها تسبيحات سجود الصلاة ويسن أن يزيد عليها (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ، اللهم اكتب لي بها أجرا ، وضع عني بها وزرا ، واجعلها لي عندك ذخرا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من نبيك داود عليه السلام).
وإذا كان عند التلاوة أو السماع غير متوضئ فليقل «سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ، الآية 285 من البقرة ج 3 ، ثم يقضيها بعد ، فإذا سمعها وهو في الصلاة نواها في ركوعه أو سجوده.
روى مسلم عن أبي هريرة : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا من الدعاء ، أي في السجود ، وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) و(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ، وجاء في صحيح مسلم من حديث لثوبان مرفوعا : عليك بكثرة السجود ، فإنه لا تسجد للّه سجدة إلا ورفعك بها درجة وحط عنك بها خطيئة.
ولهذا البحث صلة في سجدة سورة مريم الآتية.
واعلم انه إذا لم يرد بالصلاة هذه المبينة في الآية 17 المارة الصلاة المفروضة على فرض نزول هذه الآية قبل فرض الصلاة على النبي وأمته فيكون المراد بها في هذه الآية وما بعدها من السور الآتية إلى نزول سورة الإسراء صلاة الركعتين التي فرضها اللّه تعالى عليه خاصة وتابعه بعض من أسلم معه عليها تطوعا ، إلا أن القول المعتمد ان المراد بها الصلاة المفروضة على القول بأنها نزلت بعد فرض الصلاة كما علمت مما ذكرناه آنفا وقول القائل يتجه في غير هذه الآية من الآيات الأخر الوارد فيها لفظ الصلاة النازلة قبل فرضها اتفاقا.
هذا ، واللّه أعلم.
واستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(1/74)
ج 1 ، ص : 75
تفسير سورة القلم
عدد 2 - 68 وتسمى سورة نون
نزلت بمكة بعد سورة العلق عدا الآيات من 17 إلى 33 و48 إلى 50 فإنها نزلت بالمدينة ، وهي اثنتان وخمسون آية وثلاثمائة كلمة ، والف ومائتان وستة وخمسون حرفا.
ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدأت به.
لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
ومثلها في عدد الآي (الحاقة) (وابراهيم) فقط.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
«ن» هو حرف من حروف الهجاء المعجمة واللّه أعلم بمراده فيه وقد ذكرنا ما يتعلق فيه في بحث الإرهاص في المطلب الثاني عشر المار وسنبحث في المراد منه على ما يتوصل إليه عقل البشر في سورة ق الآتية إذ لا يوجد في القرآن غير هاتين السورتين سورة بدئت بحرف معجم واسم للحوت الذي بلع سيدنا يونس عليه السلام ولهذا سمي ذا النون ، ويأتي بمعنى الدواة قال الشاعر :
إذا ما الشوق برّح بي إليهم الفت النون بالدمع السجام
وقال ابن عباس هو حرف من حروف الرحمن وأول أسماء اللّه نافع وناصر ونصير واسم للسورة.
ويوقف عليه بالقراءة ومع السكون ويجوز إدغامها بواو.
مطلب في القلم وما جرى به وأحاديث قيمة «وَالْقَلَمِ» الذي كتب الذكر في اللوح المحفوظ واللّه أعلم بصفته ولا داعي لبيانه.
قيل أول ما خلق اللّه القلم فنظر اليه فانشق لهيبته نصفين ثم قال له اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى بذلك على اللوح.
والناس يجرون على أمر قد فرغ منه.
وروي عن عبد اللّه بن عباس قال : كنت خلف النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات (وفي رواية مسلم زيادة ينفعك اللّه بهن) : احفظ اللّه يحفظك ، احفظ اللّه تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه ، واعلم ان الأمة لو اجتمعت(1/75)
ج 1 ، ص : 76
على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللّه لك ، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللّه عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف.
وفي رواية : احفظ اللّه تجده أمامك تعرف إلى اللّه بالرخاء يعرفك بالشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر وان الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا.
ولهذا البحث صلة في الآية 17 من سورة الأنعام ج 2.
وفي الآية 41 من سورة الرعد ج 3.
فراجعها.
وبعد أن ابتدأ جل ثناؤه في هذه السورة بهذا الحرف الذي هو رمز بينه وبين حبيبه أقسم فقال «وَالْقَلَمِ» الجاري بما كان وما يكون «وَما» وأقسم ايضا بالذي «يَسْطُرُونَ 1» أي تسطره ، حفظته من أعمال الخلق ويدونونه بكتبهم ، أو باللوح الذي سطرت عليه أعمالهم إذا كان الضمير عائدا إلى القلم وجمع الضمير تعظيما لشأنه وعبر عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم ولذا جعله فاعلا «ما أنت» يا أكمل الرسل «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» التي منّ بها عليك وهي النبوة والرسالة «بِمَجْنُونٍ 2» بطائش كما يزعم جهلة قومك فاشكر هذه النعمة ولا تكدر جنانك بما يقولون وعاملهم بما أنت عليه ، وهذه الجملة جواب القسم وفيها تنبيه على كذب قومه فيما رموه به من الجنّة لأنهم لا يعقلون ان من أكرمه اللّه بالنبوة لا يكون إلا كاملا في جميع الأوصاف فكيف يكون مجنونا «وَإِنَّ لَكَ» عندنا «لأجرا» عظيما لا يقدر البشر قدره «غَيْرَ مَمْنُونٍ 3» به عليك والمنة لا تكدره كامل غير منقوص دائم غير مقطوع وقد زيدت اللام في (لأجرا) تأكيدا بتحققه كما زيدت الباء في (بمجنون) تأكيدا للنفي أي فاستمر على تحمل أذاهم وجفاهم واصبر على طعنهم وتحقيرهم واجر على الحق الذي أنت عليه ولا يمنعك ما يفترون به عليك من جراء تبليغ الرسالة لأنه كذب محض وافتراء ومنشؤه الحسد على ما منّ به عليك ربك دونهم «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4» لا أعظم منه بدليل التنكير والوصف يسع جهلهم وغيرهم وهو خير ما أوتي الرجل ، لأن حسن الخلق جامع لمحاسن الأفعال ، قالت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها : ما كان(1/76)
ج 1 ، ص : 77
أحد أحسن خلقا من رسول اللّه ، ما دعاه أحد إلا قال لبيك فأنزل اللّه عليه هذه الآية وكان متحليا بأحمد الأخلاق وأرضى الأفعال وأكمل الآداب.
مطلب أخلاق الرسول صلّى اللّه عليه وسلم كيف لا وقد تأدب بتأديب اللّه عز وجل المبين بقوله الكريم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الآية 198 من الأعراف الآتية ولهذا فإنه كان متحليا بكثير من صفاته تعالى كالحلم والعفو والرأفة والرحمة والكرم والعلم وغيرها جاء في حديث مسلم وأبي داود والنسائي والإمام أحمد وغيرهم عن سعد بن هشام قال : قلت لعائشة يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول اللّه قالت ألست تقرأ القرآن ؟ قلت بلى.
قالت : فإن خلق نبي اللّه كان القرآن.
وفي رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه صلّى اللّه عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه.
قال العارف باللّه المرصفي أرادت تخلقه بأخلاق اللّه لكنها لم تصرح تأدبا.
وروى البخاري ومسلم عن البراء قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير.
ورويا عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال ان رسول اللّه لم يكن فاحشا ولا متفحشا وكان يقول خياركم أحاسنكم أخلاقا.
ورويا عن أنس قال : خدمت النبي صلّى اللّه عليه وسلم عشر سنين واللّه ما قال لي أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا زاد الترمذي وكان صلّى اللّه عليه وسلم من أحسن الناس خلقا وما مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول اللّه ، ولا شمت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول اللّه عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس.
ولقد قالوا الإثم خراز القلوب لأن الإنسان إذا فعل شيئا غير مشروع لا بد وأن يتردد ذلك في صدره المرة بعد الأخرى حتى يعرف ماهيته ، فاذا منّ اللّه عليه رجع عما فعل واستغفر اللّه ، وإذا أراد أن يستدرجه والعياذ باللّه سلط على قلبه الشيطان فحسنه له فطبع على قلبه.
حفظنا(1/77)
ج 1 ، ص : 78
اللّه وأجارنا من ذلك.
وروى البخاري عن أنس قال : ان كانت الأمة لنأخذ بيد رسول اللّه فتنطلق به حيث شاءت أي ليقضي لها ما تريده في الحوائج ، فاذا كان مع الأمة هكذا فكيف هو مع الغير ؟ وفقنا اللّه لاتباعه وطبعنا بطباعه ، كيف لا وقد قال تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) الآية 195 من آل عمران في ج 3.
وفي رواية زيادة :
ويجيب إذا دعي.
وعنه قال.
كان رسول اللّه إذا استقبله الرجل فخافه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس.
أخرجه الترمذي.
وروى مسلم عن الأسود قال : سألت عائشة ما كان رسول اللّه يفعل في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة (خدمة) ، أهله فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة.
ورويا عن أنس قال كنت أمشي مع رسول اللّه وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة (جذبه جذبة) شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول اللّه قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال اللّه الذي عندك ، فالتفت اليه وضحك وأمر له بعطاء ورويا عنه قال : كان صلّى اللّه عليه وسلم أحسن الناس خلقا ووجها وكان لي أخ يقال له أبو عمير وكان فطيما كان إذا جاءنا قال يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به (طائر صغير يشبه العصفور إلا أن منقاره أحمر) ورويا عن عائشة قالت ما خيّر رسول اللّه بين أمرين قط الا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فان كان إثما كان أبعد الناس عنه ، وما انتقم لنفسه من شيء قط إلا أن تنتهك حرمة اللّه.
(أي للّه) زاد مسلم : وما ضرب رسول اللّه شيئا بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل اللّه.
وفي متن الشمائل للحافظ الترمذي ...
عن عائشة قالت : ما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم اللّه شيء ...
.
وروى جابر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان اللّه بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال.
وعن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ان المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم.
أخرجه أبو داود.
وعنها قالت قال صلى اللّه عليه وسلم ان من أكمل الناس إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله.
أخرجه الترمذي.
وعن أبي الدرداء أن رسول(1/78)
ج 1 ، ص : 79
اللّه قال ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيمة من خلق حسن ، وان اللّه تعالى يبغض الفاحش البذيء.
أخرجه الترمذي أيضا.
وله عن جابر أن رسول اللّه قال ان من أحبكم إلى اللّه وأقربكم مني مجلسا يوم القيمة أحاسنكم أخلاقا.
ولهذا كان صلى اللّه عليه وسلم إذا أمر أمر بمعروف وإذا نهى نهى بمعروف راجع قوله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) إلى آخر الآيات في سورة النحل في ج 2.
تجد ما يتعلق في هذا البحث وبه كفاية والا لو كتبت لآخر حياتي عن أخلاقه ما وفيت بها قال تعالى «فَسَتُبْصِرُ» يا محمد ظهورك ونصرتك عليهم «وَيُبْصِرُونَ 5» أي يرى مكذبوك خذلانهم وإنزال العذاب بهم وإذ ذاك يعلمون «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ 6» المجنون الطائش هم أم أنت وهذا من الأخبار بالغيب الذي حققه اللّه له فيهم في واقعة بدر ، وكانوا لوثوقهم بصدقه فيما بينهم إذا سمعوا منه شيئا يرسخ في قلوبهم ويخافون عاقبته فاذا أوعدهم أو وعدهم لا يزالون يرتقبون وقوعه ولكن عنادهم وحسدهم وتعاظمهم عليه حال دون طاعتهم له «إِنَّ رَبَّكَ» يا حبيبي «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» المستقيم الحق من كفار مكة واضرابهم الضالين «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 7» من خلقه أنت وأمثالك وأتباعك «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ 8» لك الذين يدعون إلى دين آبائهم الفاسد.
نزلت هذه الآية حينما كلفه كفار مكة عبادة أصنامهم ليكفوا عن أذاه فقال له ربه «وَدُّوا» هؤلاء الكفار «لَوْ تُدْهِنُ» تلين لهم في قولك وفعلك وتوافقهم على طلبهم من داهن الرجل في دينه وأمره إذا خان فأظهر خلاف ما يبطن كالمنأفق «فَيُدْهِنُونَ 9» يلينون لك ويصيرون معك فيصافونك ويتقربون إليك ، فإياك إياك يا حبيبي احذرهم.
مطلب في الأوصاف الذميمة والنميمة.
«وَلا تُطِعْ» منهم (كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ 10» حقير ذليل كذاب ولا تطع الآخرين أمثالهم أيضا لأنهم لا يريدون لك مثل ما تريد لهم من الخير ، والمهانة تعتري الإنسان من قلة الرأي والتمييز وكثرة الكذب وعدم المبالاة بما يقع منه(1/79)
ج 1 ، ص : 80
وعليه ، والمراد به واللّه أعلم الوليد بن المغيرة لقول ابن قتيبة : لا نعلم أن اللّه وصف أحدا ولا ذكر من عيوبه مثل ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة.
يريد ما وصفه اللّه به في هذه الآية ، وقيل هو الأسود ابن يغوت أو الأخنس بن شريق والأول أولى وكلهم يستحق ذلك
«همّاز» عياب طعان يغمز على إخوانه في المجلس وسيأتي تفسير هذه اللفظة بأوسع مما هنا في تفسير سورة الهمزة الآتية «مشّاء» كثير المشي «بِنَمِيمٍ 11» أي نقّال للحديث السّيء ، راجع الآية/ 11/ من سورة الحجرات في ج 3 ، تجد ما يتعلق بهذا البحث.
تراه دائما يسعى بالنميمة ليفسد بين الناس ويبلغهم طعن الغير بهم ويعيبهم ليفسد بينهم وهو مع هذا كله «منّاع» كثير المنع «للخير» لا يفعله ولا يترك الغير يفعله «معتد» على الناس مجاوز في الظلم حده «أثيم 12» كثير الإثم عظيم الوزر فاجر باغ طاغ عات بخيل ، يمنع نفسه وولده وعشيرته من أفعال الخير ، ومن الإسلام والإيمان ، ويهددهم ان دخلوا فيهما ، ويندد لهم بعدم لفظه ، وبأن ما يخبرهم به الرسول من الحشر والنشر لا حقيقة له.
قاتله اللّه ، وأطلقوا لفظ الإثم على الخمر بعد الإسلام لما فيه من الضرر ، قال ابن الفارض :
وقالوا شربت الإثم كلا وإنما شربت التي في تركها عندي الإثم
إلا أن هذا الإطلاق لم يعرف قبل الإسلام البتة فلا يستدل ، على أنه في معانيها أو من سماتها كما نوضحه في تفسير الآية 32 من الأعراف الآتية «عتل» غليظ جاف فاحش سيىء الخلق ، شديد الخصومة في الكفر وهو «بعد ذلك» الذي وصف به من المثالب والمعايب «زَنِيمٍ 13» دعيّ ملصق في قريش إذ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من عمره وكانت له زنمة «قطعة لحم زائدة معلقة» في عنقه ، وتطلق هذه اللفظة على ابن الزنا ، قال حسان رضي اللّه :
زنيم تداعته الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وقال عكرمه :
زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم(1/80)
ج 1 ، ص : 81
وهذا الخبيث إنما حدا به ذلك بسبب «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ 14» غرورا منه فأعرض يا حبيبي عنه ولا تركن اليه ، فإن كثرة ماله وولده لا تغني عنه من اللّه شيئا ، وان اللّه كافيك شره وولده ومغنيك عن ماله ونسبه ، ولهذا تراه «إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا» المنزلة عليك «قال» هي «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 15» خرافاتهم وأقاويلهم وانا «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ 16» الأنف منه وهذا أعيب ما يكون عند العرب حتى انهم إذا هددوا رجلا يقولون : (لنقطعن أنفك) وقد نهى عنه صلى اللّه عليه وسلم في الحيوانات ولعن فاعله فكيف بالإنسان وبأكرم موضع منه لأنه تمام الحسن وقيل فيه :
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل فكيف إذا ما الخال كان له حليا
وهو مكان العزة والأنفة قال جرير :
لما وضعت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
ويقولون فلان شامخ الأنف عالي العرنين ، وفي الذليل جدع أنفه رغم أنفه ، والوسم الكي بالنار إذ لا يذهب أثره على مر السنين ، وهذا أول الآيات المدنيات من 17 إلى 33 كما حكاه السخاوي في جمال القراء وهي عبارة عن قصة قصها اللّه على رسوله عظة لقومه قال تعالى «إِنَّا بَلَوْناهُمْ» أي أهل مكة اختبرناهم بالقحط والجوع امتحانا لهم علّهم يؤمنون حتى أكلوا الجيف والجلود وذلك بسبب دعائك عليهم إذ قال ، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، وذلك بعد أن أنعم عليهم بكثرة الأموال والأولاد وجمع كلمتهم بوجوده فيهم وعزّز نعمهم بإرساله إليهم وهي أكبر نعمة لو قدروها كما سيأتي في تفسير الآية 28 من سورة ابراهيم في ج 2 فبدل أن يشكروا ذلك كفروا وتمادوا بالكفر والأذى لحضرته فكأنه قال تعالى لقد كان ابتلاؤنا لهم «كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» أي كامتحاننا واختبارنا أهل البستان المسمى القروان دون صنعاء بفرسخين وهم جماعة مصلّون قيل انهم من ثقيف وقيل من بني إسرائيل بعد رفع المسيح ت (6)(1/81)
ج 1 ، ص : 82
عليه السلام ، وكانت هذه القصة معروفة عندهم يتناقلها الخلف عن السلف بدليل التعريف فيها المعهود ذهنا ، وكانت لأبيهم وكان يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقي على الفقراء فلما انتقلت إليهم بعد موته قالوا إن فعلنا مثل أبينا ضاق علينا الأمر لأنا أولو عيال ، فحكى اللّه عنهم ما تذاكروا به بينهم بقوله جل قوله :
«إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها» يقطعون ثمرها «مُصْبِحِينَ 17» قبل خروج الناس من بيوتهم حتى لا يراهم أحد يستعطيهم منها «وَلا يَسْتَثْنُونَ» أي لم يقولوا إن شاء اللّه أيضا «فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ» أي طرأ عليها طارئ ليلا لأن الطائف كالطارق لا يكون إلا ليلا ، وهذا الطائف لا يرد لأنه «مِنْ رَبِّكَ» يا رسولي ولا رادّ لما أريده ، وذلك بأن أرسل عليها نارا أحاطت بها فأحرقتها كلها «وَهُمْ نائِمُونَ 19» قبل أن يفيقوا ويأتوا إليها «فَأَصْبَحَتْ» تلك البستان الغزيرة بالأشجار والثمار «كَالصَّرِيمِ 2» أي كالرماد الأسود على لغة خزيمة ومن كثرة الدخان كالليل المظلم ، والصريم كناية عن البستان الذي صرمت أي فطعت أثماره كلها بحيث لم يبق فيها شيء.
ورملة باليمن معروفة لا تنبت شيئا أي كأنها لم يكن فيها شيء من نبات ما ، قال تعالى واصفا حالهم فيما جاؤوا إليها
«فَتَنادَوْا» نادى بعضهم بعضا بعد أن أفاقوا من نومهم «مُصْبِحِينَ 21» صبحة الليلة التي تحالفوا فيها قائلين لبعضهم «أَنِ اغْدُوا» اخرجوا غدوة «عَلى حَرْثِكُمْ» جنتكم لقطع ثمارها وقسمتها بينكم «إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ 22» عازمين على ما تقاولتم عليه من قصد قطف ثماركم قبل أن يحضركم أحد «فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ 23» يتسارون همسا لئلا يحس بهم أحد قائلين بعضهم لبعض امضوا أو اجزموا على «أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) 24» أبدا فيسألكم منها كما كان الحال زمن أبيكم فيأخذوا ما يفضل عن قوت سنتكم «وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ 25» بزعمهم على ما صمموا عليه من القصد والمنع على اجرائه وان لا يحول بينهم حائل عنه ولم بزالوا سائرين حتى قاربوها «فَلَمَّا رَأَوْها» أرضا سوداء رمداء لا شجر(1/82)
ج 1 ، ص : 83 ولا نبات فيها ولا ماء «قالوا» بعضهم لبعض «إِنَّا لَضَالُّونَ 26» طريقها مخطئونه فليست هي هنا فلما تحققوا قالوا لا بل هي نفسها «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ 27» ثمرها وخيرها ونفعها لتصميمنا على منع المساكين ما كانوا يأخذونه زمن أبينا ولعدم استثنائنا في حلفنا أي لم نقل إن شاء اللّه متصلا بكلامنا ذاك ولما رأوا ان سقط في أيديهم «قال أوسطهم» أعقلهم وأفضلهم واعدلهم لأن الأوسط خيار في كل شيء «ألم أقل لكم» يا اخوتي هلا «لَوْ لا تُسَبِّحُونَ 28» أي تستثنون في حلفكم وقد سمى الاستثناء تسبيحا لأنه تعظيم للإله واقرار بأن أحدا لا يقدر أن يفعل شيئا دون مشيئنه «قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ 29» أنفسنا بمنعنا حق الفقراء وعدم سلوكنا ما كان يسلكه أبونا من القناعة بمؤنة السنة وانفاق الباقي لوجهه «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ 30» على ما وقع منهم نادمين على فعلهم
ثم دعوا على أنفسهم «قالُوا يا وَيْلَنا» يا هلاكنا «إِنَّا كُنَّا طاغِينَ 31» في ذلك القصد السيء ومخالفتنا عمل أبينا الحسن وحرماننا من جنتنا لتصميمنا على حرمان الفقراء منها.
ثم تراجعوا إلى أنفسهم بعد أن عنف بعضهم بعضا وسألوا اللّه تعالى بقولهم «عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ 32» طالبون الخير منه راجعون لعفوه ، قال مجاهد تابوا فأبدلوا خيرا منها ، وقال ابن مسعود بلغني أن القوم أخلصوا للّه فأعطوا جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل عنقودا واحدا منه ، قال تعالى «كَذلِكَ الْعَذابُ» الذي نفعله بمن تعدى حدودنا وخالف أمرنا بمن تقدم من الأمم نفعله بكم يا أمة محمد إذا لم ترجعوا عن غيكم فإنا نحرمكم من النعم في الدنيا «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ» الموعودون به «أَكْبَرُ» من هذا لأنه فان منقطع وذاك باق دائم «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 33» ما هو لأنه فوق ما تتصوره عقولهم.
هذا آخر الآيات المدنيات وقد نزلت بالمدينة بمناسبة ذكر قريش وما كانوا يفعلونه بالرسول الأعظم ، واعلم على سبيل الفرض والتقدير بأنك إذا طويتها وقرأت ما بعدها متصلا بما قبلها لاستقام النظم لأن هذه(1/83)
ج 1 ، ص : 84
القصة كالمعترض التي يؤتى بها استطرادا بين كلامين غير أنه لا يجوز طي حرف واحد من القرآن أبدا ، وهكذا كل الآيات المدنيات في السور المكية كالآيات المكيات في السور المدنية ، فتدبر هذا الكتاب العظيم وانظر مغزى قوله تعالى :
(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) الآية 82 من سورة النساء في ج 3.
وسبب نزولها أن أبا جهل قال يوم بدر لأصحابه خذوا أصحاب محمد فاربطوهم بالحبال ولا تقتلوا منهم أحدا يقول اللّه تعالى ان ما صوره من قدرتهم عليهم كما صور أهل الجنة اقتدارهم على قطف ثمارها توبيخا لهم قال تعالى «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ 34» جزاء عملهم بالدنيا.
ولما سمع المشركون هذه الآية قالوا سنعطى في الآخرة إن كان هناك آخرة أفضل مما يعطى أصحاب محمد فكذبهم اللّه بقوله «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ 35» استفهام انكاري أي لا نفعل ذلك لأن التسوية بينهم غير جائزة فكيف يعطون أفضل وكيف نحيف بالحكم ونحن أعدل الحاكمين ونأمر عبادنا بالعدل.
ثم قال استنكارا واستبعادا لحكمهم المعوج «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 36» وهذا استفهام آخر بمعنى التعجب من قولهم الناشئ عن فساد رأيهم وضلال فكرهم لأن حكمهم هذا لا يصدر عن عاقل قال تعالى «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ 37» تقرءون فتعلمون منه «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ» أي الكتاب «لَما تَخَيَّرُونَ 38» من مأربكم وتشتهونه من آمالكم «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ» موثقة بالعهود ومؤكدة بالحلف عاهدناكم بها على ان نعطيكم ما ذكرتم فاستوثقتم بها «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» لا تقطع أبدا «إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ 39» لأنفسكم في هذا الميثاق من الخير والكرامة ثم خاطب نبيه بقوله «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ 40» كفيل بأن لهم ما للمسلمين في الآخرة
«أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ» يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم منه أم لهم شهداء يشهدون بصدق دعواهم هذه فاذا كان لديهم شيء من ذلك «فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ» الذين يزعمون أن لهم تلك القدرة على ما يقولونه(1/84)
ج 1 ، ص : 85
«إِنْ كانُوا صادِقِينَ 41» في زعمهم والمعنى لا يسلم لهم أحد هذا القول ولا يساعدهم عليه أحد كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ولا عهد ولا كفيل وإذا كان عندهم شيء من ذلك فليحضروه «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» عن أمر فظيع يوم يشتد الكرب ويصعب الأمر وقد كنّى بالساق عن يوم القيامة لشدة هولها.
مطلب معنى الساق :
وقال بعض المفسرين إن الساق في السريانية الهزل ونقل بعضهم أنها عربية في هذا المعنى أيضا إلا أن معنى الآية لا ينطبق عليه وما جرينا عليه في تفسير الساق أولى من غيره لأن ابن عباس لما سئل عن معنى هذه الآية قال هو يوم كرب وشدة وإذا أخفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر :
سنّ لنا قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق
فان العرب لتقول عند الشدائد شمر عن ساقك ، وقال أبو عبيدة لقيس بن زهير :
فإن شمرت لك عن ساقها فدتها ربيع ولا تسأم
وقال جرير :
ألا ربّ ساهي الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمّوا
وكثر هذا المثل عند العرب حتى صار كالمثل السائر للأمر العظيم قال تعالى :
«وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ» الذي أمروا به في الدنيا (في ذلك اليوم المهول) ولم يفعلوه مع قدرتهم عليه «فَلا يَسْتَطِيعُونَ 42» عليه إذ تصير أصلابهم كصياصي (قرون) البقر لا تثنى عند الخفض والرفع فيعجزون عنه ولا يقدرون عليه «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» مطرقة إلى الأرض من شدة الخوف المحيط بهم أمره وإذ ذاك «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» تغشاهم حينما تسود وجوههم وتستنير وجوه المؤمنين «وَقَدْ كانُوا» في الدنيا «يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ» فيسمعون داعي اللّه إلى(1/85)
ج 1 ، ص : 86
الصلاة ولا يجيبونه ليركعوا ويسجدوا له «وَهُمْ سالِمُونَ 43» أصحّاء قادرون عليه ولا يفعلونه فلذلك منعوا منه في الآخرة لأنها ليست محلا للعبادة «فَذَرْنِي» يا حبيبي «وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» القرآن الذي نطرفك به آونة بعد أخرى وسمي حديثا بالنسبة لحدوث انزاله وإلا فهو قديم أزلي ، أي دعني وهذا المكذب ، كله إليّ فأنا أكفيكه ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل علي بالانتقام منه ، وهذا تسلية لحضرة الرسول وتطمينا لضميره وتطبيبا لخاطره الشريف وتهديدا للمكذبين العائد لهم ضمير «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» نستدنيهم للعذاب درجة درجة ونستنزلهم له أولا بأول حتى نورطهم فتوقعهم فيه بما كسبت أيديهم وذلك ان اللّه تعالى يرزق العصاة أحيانا ويكثر نعمه عليهم فيجعلون هذه ذريعة لارتكاب المعاصي ويغفلون عما يراد بهم فيأخذهم على غرة «مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 44» أن اللّه لهم بالمرصاد لأنهم كلما ازدادوا من الذنوب جدّد لهم النعم فيغروا بها فينسون التوبة والاستغفار والشكر ويحسبون ذلك تفضيلا لهم على المؤمنين فيسبب هلاكهم ، قال عليه الصلاة والسلام : (إذا رأيت اللّه ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج) وتلا هذه الآية.
مطلب النسخ لا يدخل الأخبار والوعد والوعيد :
ولا معنى للقول بنسخها بآية السيف وكذلك آية (واصبر) الآتية لأنهما من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ وكذلك الآيات المشتملة على الوعد والوعيد وما فيه معنى التعجيل كقوله تعالى (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) الآية 109 من سورة البقرة في ج 3 بإجماع علماء التفسير قال تعالى «وَأُمْلِي لَهُمْ» فأمتعهم بالنعم وأطيل أعمارهم وامهلهم فلا أعجّل عليهم «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 45» قوي جدا لا يقدر الخلق على نقضه وليعلم ان ما جاء في القرآن من ألفاظ الكيد والمكر والخداع والنسيان من قبل اللّه تعالى عز وجل هي على سبيل المقابلة لأن ذاته تعالى منزهة عنها وقد أجريتها علي ظاهرها لمعلوميتها وقد آتي بما يراد منها لفظا أو معنى تقريبا لفهم القارئ(1/86)
ج 1 ، ص : 87
قال تعالى «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً» على تبليغ الرسالة لهم وإرشادك إياهم «فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ 46» لا يستطيعون حمل تلك الغرامة المالية حتى يمتنعوا من الإيمان بك ويعرضوا عنك كلا لا تطلب منهم شيئا ، فكان اعراضهم عنك عنادا وتكبرا ليس إلا ، وهذه الجملة معطوفة على جملة (أم لهم شركاء) المارة «أم عندهم الغيب» بما هو باللوح المحفوظ لدينا «فَهُمْ يَكْتُبُونَ 47» منه ما يحكمون به ويستغنون عن علمك ، وهذا الاستفهام على طريق الإنكار أي ليس لهم ولا عندهم شيء من ذلك.
وهذه الآيات المدنيات الأخيرة من 48 إلى 50 النازلة في واقعة أحد مع الآيات 122 فما بعدها من آل عمران فى ج 3 كما سنبينه هناك ، قال تعالى «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» على أذى قومك وامهلهم «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» السيد يونس عليه السلام في الضجر والعجلة فتبتلى كما ابتليناه.
مطلب معنى الكيد والمكر والآيات المدنيات الأخر :
واذكر «إِذْ نادى » ربه وهو في بطن الحوت الذي ابتلعه عقوبة استعجاله أمر ربه باهلاك قومه وغضبه لرفع العذاب عنهم وقد تركهم وذهب «وَهُوَ مَكْظُومٌ 48» ممتلىء غيظا واعلم أنه «لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ» بإلهامه التوبة والندم واجابة دعائه الذي الهمناه إياه وهو في بطن الحوت كما سيأتي في الآية 88 من سورة الأنبياء ج 2 وقبول عذره الذي اعتذر به الآتي أيضا هناك «لَنُبِذَ بِالْعَراءِ» بفضاء من الأرض ولم ننبت عليه ما يقيه من الشمس والهواء مع ما هو عليه من الضعف الذي لحقه في بطن الحوت «وَهُوَ مَذْمُومٌ 49» على ما وقع منه معاتب بما فعله مؤاخذ بزلّته ، ولكن تداركته الرحمة فأنبت عليه ما أظله ووقاه ، وحميته من كافة الهوام والوحوش كما حميته في بطن الحوت ولهذا فلم ينبذ مذموما ، واعلم أن ما وقع منه يعد ذنبا بالنسبة لمقامه على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين وإلا فهو بالنسبة لغيره عبارة عن خلاف الأولى وليس بذنب(1/87)
ج 1 ، ص : 88
ويماثل هذه الآية الآية 24 من سورة يوسف في ج 2 وهي : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي لهمّ ولكنه لم يهم لوجود البرهان كما سيأتي تفصيله هناك ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 146 من سورة الصافات في ج 2 فراجعه ، قال تعالى «فَاجْتَباهُ» اصطفاه واختاره «ربّه» ورد عليه حالته الأولى من الصحة والعافية والنبوة والرسالة «فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ 50» الكاملين في الصلاح ومحى زلته وما قيل أن هذه الحادثة كانت قبل النبوة مردود بقوله تعالى في الآية 140 من سورة الصافات المذكورة «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ»
وهذه آخر الآيات المدنيات وسبب نزولها أن حضرة الرسول أراد أن يدعو على الذين انهزموا في واقعة أحد السنة الثالثة من الهجرة في شهر شوال سنة 56 من الولادة الشريفة إذ اشتد بالمسلمين الأمر فنزلت تذكيرا لحضرته بما وقع للسيد يونس عليهما الصلاة والسلام وهي أيضا كالمعترضة كما ذكرناه في تفسير الآية 33 المارة فراجعها ،
قال تعالى «وَإِنْ» مخففة من الثقيلة والفرق بينها وبين أن النافية أنّ أن النافية لا يعقبها اللام والمخففة لا بد أن يعقبها ولذلك يسمونها اللام الفارقة «يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ» بضم الياء وفتحها أي يزلّون قدمك ليرموك وقرأ بن عباس والأعمش وعيسى ليزهقونك أي يهلكونك وهي كالتفسير وليست من القرآن كما ذكرنا لك في المطلب العاشر في بحث القراءات «بأبصارهم» بشدة نظرهم إليك بها سزرا بعين العداوة فيكادون يصيبونك بأعينهم ، روي أن بني أسد كانوا عيّانين حتى أن الناقة أو البقرة إذا مرت بهم يعاينونها ثم يقولون لجارتهم خذي المكتل والدراهم وآتينا بلحم منها فما تبرح حتى تقع فتنكسر أو ترض فتذبح ، وكان الرجل منهم يتجوع يومين أو ثلاثة فلا يمر به شيء إلا ويقول لم أر مثله ليعيبه فيهلك ، فكلفوا هذا الرجل أن يصيب الرسول بالعين وصارت قريش تقول كلما مر الرسول ما رأينا مثله قط بذلك القصد وليصرفوه عن القيام بما أمره به ربه فعصمه اللّه منهم ولم يستطيعوا بوجه من الوجه أن يصرفوه عن تبليغ رسالته وانزل هذه الآية(1/88)
ج 1 ، ص : 89
«لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ» القرآن العظيم لكرامتهم إياه «وَيَقُولُونَ» عند سماعه منه «إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ 51» لجهلهم حقيقته ولتنفير الناس عنه فرد اللّه عليهم بقوله الأزلي «وَما هُوَ» الذي تصفون به رسولي بالجنة لقراءته لكم إن هو «إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 52» أجمع يتذكرون به ما وقع على الأمم السابقة ويتعظون بأوامره ونواهيه فليس بخرافات الأولين ولا سحر ولا كهانة ولا شعر بل هو كلام اللّه الأزلي المشتمل على ما كان وما يكون من أمر الدنيا والآخرة فمن وفقه اللّه لفهمه شرح صدره ، ومن خذله جعله ضيقا حرجا لا يعيه ولا يفهمه ، راجع تفسير الآية 125 من سورة الأنعام في ج 2.
ترشد إلى هذا.
قال ابن عباس وقال الحسن دواء إصابة العين قراءة هذه الآية.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال العين حق.
وزاد البخاري ونهى عن الوشم ، وروى مسلم عن أبي عباس أن رسول اللّه قال العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا.
وعن عبد اللّه بن رفاعه الرزقي أن أسماء بنت عميس كانت تقول يا رسول اللّه إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم قال نعم ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين.
أخرجه الترمذي.
وجاء في روح البيان قد صح من طرق عديدة أن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر ، وعن أبي ذر مرفوعا أن العين لتولع بالرجل بإذن اللّه تعالى جى يصعد حالقا (الجبل الشامخ) ثم يتردى منه.
فيفهم من هذا الخبر ان المعان تعتربه حالة الجنون لذلك تسوقه إلى طرح نفسه إرادة قتلها ، هذا وقد أنكر المبتدعة هذه الأحاديث التي أخذ بها جماهير العلماء ويرد قولهم ويدحض انكار (القاعدة) وهي أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فانه جائز عقلا فإذا أخبر الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه كهذا فان مذهب أهل السنة والجماعة ان العين إنما تفسد وتهلك عند مقابلة الشخص العاين بشخص آخر فتؤثر فيه بقدرة اللّه تعالى وفعله وقوله صلى اللّه عليه وسلم (ولو كان شيء سابق لقدر لسبقته العين) فيه اثبات القدر وانه حق ومعناه أن الأشياء كلها(1/89)
ج 1 ، ص : 90
بقدر اللّه ولا يقع شىء على أحد إلا بحسب ما قدره وسبق به علمه راجع الآية 78 من سورة النساء في ج 3 فما بعدها ، هذا ولا يقع ضرر العين من خير أو شر إلا بقدرة اللّه وفيه حجة اثبات المعين وانها قوية الضرر إذا وافقها القدر وليعلم أن العين من خصائص بعض النفوس وللّه أن يخص من شاء بما شاء ، ويعطي بعض الحواس قوة لا تكون في العين وذلك من عجائب قدرته وعظائم صنعه لأنه تعالى طوى في هذه النفس أسرارا تتحير منها العقول ولا ينكرها إلا الجهول ولهذا البحث صلة في الآية 67 من سورة يوسف في ج 2 (ومن باب التأثير) التأثير بالقوة الكهربائية فقد شوهد أن بعض الناس يكرر النظر إلى بعض الأشخاص من فرقه إلى قدمه فيصرعه كالمغشي عليه وقد يوجه نفسه إليه فيضعف قواه فيغشاه النوم ويتكلم بالعجائب.
الحكم الشرعي : لا يسع العاقل انكار تأثير العين بالصورة التي وصفناها لكثرة الأحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها قديما وحديثا ، وقد تقع من النفوس الزكية عند استحسان بعض الأشياء كما تقع من النفوس الخبيثة عند كراهتها إياه وعلى المعاين أن يجتنب ذلك ويعتزل الناس وإلا فعلى الامام حبسه ومنعه من مخالطتهم كفا لضرره وينفق عليه من بيت المال ، وان لم يفعل ، فعلى الأمة أن تطالبه بذلك.
هذا ويوجد أربع سور في القرآن مختومة بما ختمت به هذه السورة ، هذه والتكوير والصافات والزمر ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تفسير سورة المزمل
عدد 3 - 72 أو قيام الليل
نزلت بمكة بعد القلم عدا الآيات 10 و11 و20 فإنها نزلت بالمدينة ، وهي عشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمئة وثلاثون حرفا ومثلها في عدد الآية سورة البلد.(1/90)
ج 1 ، ص : 91
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قال تعالى : «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ 1» بفراشه الملتف به كان صلى اللّه عليه وسلم في بدء نبوته يقول عند انفصام الوحي عنه زمّلوني أي لفوني فرقا من شدة الوحي وعظم رؤية ملكه ، فخاطبه اللّه تعالى بالحالة التي هو فيها إذ كان يتزمّل في ثيابه ، ويوجد في القرآن عشر سور مبدوءة بلفظ يا أيها هذه والنساء والمائدة والحج والأحزاب والحجرات والممتحنة والمدثر والطلاق والتحريم.
هذا وبعد أن ناداه ربه أمر بقوله «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا 2» منه وهذا الأمر للوجوب راجع ما فيه في الخاتمة المارة ، ثم بين هذا القليل المستثنى من الكل بقوله «نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3» أي السدس بأن تقوم الثلث «أَوْ زِدْ عَلَيْهِ» سدسا بأن يبلغ النصف إلى الثلثين فكان صلى اللّه عليه وسلم يقوم من كل ليل تلك المقادير امتثالا للآمر وأصحابه يقومون معه تهجدا نفلا لأنه لم يفرض عليهم.
مطلب ما يجب على القارئ عند التلاوة :
وكان القيام في بداية الإسلام فريضة عليه ، سنة على الأصحاب «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ» يا حبيبي عند قراءته «تَرْتِيلًا 4» تبيينا فصيحا على تؤدة وتأن وتفكر يثير حضور القلب بمعانيه ولذيذ النّفس بمبانيه واشتغل بعبادتي تحظ بعبوديتي.
يفيد هذا الأمر وجوب الاعتناء بقراءة القرآن يعضده قوله صلى اللّه عليه وسلم (أعربوا القرآن واعرفوا غرائبه) إذ بالعجلة تفوت الغرض المطلوب منه فعلى القارئ أن يستشعر بعظمة القرآن وهيبة منزله عند ذكره والرجاء عند ذكر الوعد والخوف عند الوعيد والعبرة عند القصص والذكرى عند الأمثال ليستنير قلبه بنور كلام اللّه ويوقر في صدره مغزى معناه ومبناه وليخذن من الاسراع المخل والتطويل الممل ففيهما الحرمة والاساءة.
روى البخاري ومسلم عن قتادة قال : سئل كيف كانت قراءة رسول اللّه فقال كانت مدا ثم قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم ويمد الرحمن ويمد الرحيم ، وروى البخاري ومسلم عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : جاء رجل إلى ابن مسعود وقال إني(1/91)
ج 1 ، ص : 92
لا قرأ المفصل في ركعة قال عبد اللّه هذّ كهذا الشعر أي صرعة وعجلة مخلّين بأصوله لا ثواب بقراءته كما يفهم من تتمة الحديث وهي : إن أقواما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم (العظام التي بين النحر والعاتق) ولكن إذا وقع في القلب فرسخ ، يقع منه موقعا ينيره فيخضع له الجسد وتخشع الجوارح كلها إن أفضل الصلاة الركوع والسجود إني لأعرف النظائر التي كان رسول اللّه يقرن بينهن سورتين من كل ركعة) فظهر أن المقصود من الترتيل حضور القلب وكمال المعرفة لأن النّفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية والسرعة تنافي الحضور والعجلة تباين المعرفة ، وفي رواية فذكر عشرين سورة من المفصل وهو من الحجرات إلى الناس بحسب ترتيب القرآن وسمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة وقصر أكثر آياته ، قال تعالى «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ» يا أكمل الرسل «قَوْلًا ثَقِيلًا 5» ايحاءه شاق تلقّيه صعب تحمله لأن كلام العظيم عظيم في مبناه رزين في معناه لما فيه من الأوامر والنواهي التي فيها صعوبة وكلفة على النفس وليس ذلك بالخفيف الهين.
مطلب في صفة الوحي وحالاته :
روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت قال : كان صلى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب وتربد له وجهه.
وفي رواية كان إذا نزل عليه الوحي عرفنا ذلك في فيه وغمض عينيه وتربد وجهه (الربدة غبرة مع سواد) وفي رواية فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض ، وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول اللّه فقال : يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحي ؟
فقال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرص (أي كالصوت الشديد الصلب الحاصل من الأشياء الصلبة كالجرص) وهذا أشده علي فيفصم عني (أي يفارقني) وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول.
قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا(1/92)
ج 1 ، ص : 93
(أي يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد) ، وأخرج أحمد وعيد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحكم وصححه عن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقة وضعت جرانها (أي مقدم عنقها من مذبحها إلى نحرها جمعه جرن) فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه.
وكان يوحى إليه ورأسه على فخذ زيد بن ثابت وكان يحس بثقله حتى كأن فخذه كادت ترضّ من شدة ثقل رأس رسول اللّه.
والحالة الثالثة هو أن ينفث في روعه الكلام نفثا لقوله صلى اللّه عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي وجلّ القرآن من هذه الأنواع الثلاث راجع مطلب الوحي تجد الفرق بين الوحي والإلهام.
الرابعة أن يأتيه الملك في النوم وما يعبه عنه لا يعد قرآنا كما نوهنا به قبلا وذكرنا أن من قال بأن سورة الكوثر نزلت فيه لا عبرة ، وأن الصحيح أنها أنزلت عليه يقظة وبما أنه عند نزول الوحي تتغير حالته كما علمت فيظن من لم يعلم منه ذلك أنه يتيقظ من نوم ، ولهذا تسمى هذه الحالة برحاء الوحي أي ثقله فيحمل الحديث الذي رواه مسلم بشأن سورة الكوثر على هذه الحالة ، وإن ما يراه نوما معتبر لأن رؤيا الأنبياء صادقة ولكن لا يكون قرآنا كالأحاديث القدسية فإنها معتبرة ولكنها ليست بقرآن ولعله رأى الكوثر في نومه أو خطرت له السورة عند تيقظه من النوم فذكرها لمن كان عنده وهو الأشبه ويسمى ما يراه في النوم الوحي النومي.
الخامسة أن يكلمه اللّه يقظة كما كان في ليلة الإسراء راجع قصة المعراج الآتية في أوائل سورة الإسراء آخر هذا الجزء ، أو في النوم كما في حديث معاذ (أتاني ربي فقال فيم يختصم الملأ الأعلى) الحديث ، وليس في القرآن شيء من هذا النوع البتة أما الحديث الذي رواه عدي بن ثابت وخرّجه ابن أبي حاتم على فرض صحته فإن ما جاء فيه ليس من ألفاظ القرآن واللّه أعلم ، قال تعالى «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ» أي القومة بعد النوم وكل ما حدث وبدأ ليلا فهو ناشئة وكل ساعة في الليل ناشئة لأنها تنشأ عن الأخرى ، فإذا قام من نومه ونهض لعبادة ربه فقد أنشأ أي أحدث(1/93)
ج 1 ، ص : 94
وأبدى عبادة أخرى جديدة «هي أشدّ» أقوى وأصعب على المصلي من غيرها وتختلف باختلاف المصلين إذ تكون لذيذة على البعض ثقيلة على الغير «وطأ» أي موافقة يتواطأ فيها القلب واللسان لانقطاع رؤية الخلائق فيها وانصراف المصلي بكليته إلى ربه «وَأَقْوَمُ قِيلًا 6» أثبت قراءة واركن للسّماع لهذه الأصوات ، فتكون عبادة الليل أكثر نشاطا للراغب فيها وأتم إخلاصا وأبلغ تأثيرا وأعظم توبة وأبعد عن الرياء وأدخل حلاوة في القلب «إنّ لك» يا حبيبي ويشمل هذا الخطاب من تبعه من أمته لأن مخاطبته مخاطبة لأتباعه أجمع «فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا 7» يكفي لإشغالك ففرغ نفسك في الليل لعبادة ربك ، وأصل السبح المر السريع في الماء ثم استعير للذهاب مطلقا وفيه قيل :
أباحوا لكم شرق البلاد وغربها ففيها لكم يا صاح سبح من السبح
«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ» ليل نهار بالتسبيح والتهليل والصلاة والقراءة دواما «وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا 8» انقطع إلى عبادته وحده (ولم تكرر هذه الجملة في القرآن) وارفض ما سواه طلبا لما عنده المرة بعد المرة لأنه هو «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» وما بينهما من مخلوقات علوية وسفلية ، مائية وهوائية ، نارية وترابية ، روحية ونورية ، فهو الإله الذي «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» وحده المستحق للعبودية «فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا 9» لك وفوض أمرك إليه وحده لأن التبتل لا يليق إلا إليه وهو كفيل بما وعدك به من النصر ورفع الكلمة ، وتعقيب التوكيل يدل على أن مقامه صلى اللّه عليه وسلم فوق مقام التبتّل لما فيه من رفع الاختبار ، وفيه دلالة على غاية الحب أيضا وقيل في المعنى :
هواي له فرض تعطّف أو جفا ومنهله عذب تكدر أم صفا
وكلت إلى المعشوق أمري كله فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا
قال تعالى «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» كفرة قومك من تكذيبك ورميك بما لا يليق «وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا 10» لا حقد فيه بأن تجتنبهم وتداويهم بإرشادك(1/94)
ج 1 ، ص : 95
ولا تكافئهم على ما يقع منهم.
وهذه أولى الآيتين المدنيتين والأخرى التي تليها كان نزولها قبل الأمر بالقتال ولا معنى لقول من قال إنهما منسوختان بآية السيف لأن بداية الرسالة وطنّت على الرفق واللين والترغيب والوعد لا على الشدة والقسوة وما وقع من التهديد والترهيب والوعيد إنما هو لاستمالتهم والقائل بالنسخ يزعم أنهما مكيتان وليس كذلك وكان نزولهما قبل حادثة بدر وحديث عائشة هو في الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي ، فيا حبيبي الأمين اعتزل هؤلاء الكفار
«وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ» هي غضاضة العيش وكثرة المال والولد وهي بالفتح بمعنى التنعّم وبالكسر بمعنى الانعام وبالضم المسرة ، أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إليّ فان فيّ ما يفرغ بالك ويجلي همك فلا تستعجل عليهم «وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا 11» كي يؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم وإني سأكفيكهم.
انتهت الآيتان المدنيتان ، وقد نزلتا في صناديد قريش وقيل في المطعمين الذين تعهدوا بإطعام الجيش عند تأهبهم لغزوة بدر فكان جزاؤهم بالدنيا أن قتلوا فيها أما جزاؤهم في الآخرة فهو ما قال تعالى «إِنَّ لَدَيْنا» لأمثالهم «أنكالا» قيودا ثقالا وسلاسل طوالا ننكّلهم بها «وَجَحِيماً 12» نارا محرقة سوداء لشدة اتقادها نحرقهم بها «وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ» ينشب بالحلق ولا يساغ كالزّقوم والضريع (وهي لم تكرر في القرآن) «وَعَذاباً أَلِيماً 13» لا تطيقه أجسامهم نذيقهم إياه في ذلك اليوم العظيم «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ» تضطرب لشدة الهول «وَالْجِبالُ» تتزلزل منه «وَكانَتِ الْجِبالُ» «كثيبا» رملّا مجتمعا «مَهِيلًا 14» رخوا سائلا بحيث إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده بخلاف حالتها اليوم فاعتبروا أيها الناس فان هذه الآية من أعظم الآيات المرهبات ، أخرج الإمام أحمد في الزهد وأبو داود في الشريعة والبيهقي في الشعب وابن عدي في الكامل من طريق حمران بن أعين عن أبي حرب بن الأسود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع رجلا يقرؤها فصعق.
وفي رواية أنه صلى اللّه عليه وسلم قرأها نفسه فصعق ، وقال خالد بن حسان أمسى عندنا الحسن وهو صائم(1/95)
ج 1 ، ص : 96
فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية فقال ارفعه وهكذا ثلاث ليال ولم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
وفي هذا عذر واضح للصوفية المخلصين الذين يقع منهم الصعق عن غير اختيار عند سماع بعض الآيات.
ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 147 من الأعراف الآتية وفي الآية 22 من سورة الزمر في ج 2 فراجعهما ، قال تعالى يا أيها الناس «إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ» بايمان من آمن وكفر من كفر وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم الذي بلغكم أمرنا «كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا 15» شاهدا على قومه القبط وعلى بني إسرائيل وهو موسى عليه الصلاة والسلام وخص بالذكر دون سائر الأنبياء لأن القبط كذبوه وبني إسرائيل آذوه وازدروه كما فعلت قريش بمحمد من الإيذاء والإهانة «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ» ولم يمتثل أمره وقاومه وتحداه بسحرته فأخسأه اللّه ووفق السحرة للإيمان به وآب هو وقومه بالإصرار على الكفر «فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا 16» شديدا غليظا لا رحمة فيه بأن أغرقه وقومه ، وهذا تخويف لكفار مكة بأنهم إذا لم يذعنوا لنبيهم يوقع بهم عذابا مماثلا بعذابهم في الدنيا وأما في الأخرى فانظر ما هو «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ» العذاب الأكبر الدائم «إِنْ كَفَرْتُمْ» وبقيتم على كفركم «يوما» مهولا عظيما «يجعل» يصيّر فيه «الولدان» لشدة هوله «شِيباً 17» شيوخا شمطاء أي لو فرض لكان لأن الآخرة لا شيب ، فيها وإنما هو مثل ضربه اللّه لشدة الغمّ والكرب والهم ، قال المتنبي :
والهم يخترم الجيم نحافة ويشيب ناصية الفتي ويهرم
وقال حسان بن ثابت :
إذا واللّه نوميهم بحرب يشيب الطفل من قبل المشيب
وذلك أن كل ما يخاف منه يورث الهم والهرم والمشيب أي إن كنتم لا تخافون أن تؤخذوا بالدنيا كأخذ فرعون ألا تخافون هول اليوم الآخر الذي يصيّر الشباب شيبا وكلكم صائر إليه وذلك حين يقول اللّه تعالى لآدم قم فابعث بعث النار من(1/96)
ج 1 ، ص : 97
ذريتك كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال صلى اللّه عليه وسلم : يقول اللّه عز وجل يا آدم ، فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك ، فينادى بصوت عال إن اللّه يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النار (أي أهلها المخلوقين لها ازلا من بين الخلائق الموجودين في المحشر) راجع تفسير الآية 38 من سورة مريم الآتية وذلك بعد الحساب وقبل أن يقول اللّه تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس الآتية بدليل قوله (قال يا رب وما بعث النار ؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون) فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى راجع الآية الأولى من سورة الحج في ج 3 ، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قالوا يا رسول اللّه أيّنا ذلك الرجل ؟
فقال : أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعا وتسعين ومنكم واحد ، ثم قال : أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وفي رواية كالرخمة (الأثرة بباطن عضد الحمار) في ذراع الحمار ، وإني لأرجو أن تكونوا رباع أهل الجنة فكبّرنا ثم قال ثلاث أهل الجنة فكبّرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبّرنا ، وفائدة هذا التدريج من الربع إلى الثلاث إلى الشطر المبالغة في الإكرام وهو أوقع في النفس من الإعطاء دفعة واحدة ، وفي تكرير البشارة حملهم على الشكر مرة بعد أخرى ، وما قيل إن هذا اليوم عند زلزلة الساعة قبل خروجهم من الدنيا جريا على ظاهر الآية المارة حقيقة وان إجراءها على يوم القيامة مجاز بعيد عن السياق فإن ظاهر الآية وحقيقتها هو ما ذكر واللّه أعلم بالواقع يؤيده قوله تعالى «السَّماءُ» هذه التي تشاهدونها الآن مع عظمتها «مُنْفَطِرٌ بِهِ» منشقة في ذلك اليوم من شدة الهول فما بالك بغيرها وهل يكون انفطارها إلا في يوم القيامة وهذا وعد حق من اللّه «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» واقع لا محالة إن اللّه لا يخلف وعده «إِنَّ هذِهِ» الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل «تذكرة» عظات وعبرا لقومك «فَمَنْ شاءَ» منهم قبل حلوله «اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا 19» طريقا للخلاص من هوله بالإيمان والطاعة لما أمر به ونهي ت (7)(1/97)
ج 1 ، ص : 98
عنه وإلا فلا مناص عن الهلاك فيه والوقوع في شره ، وهذه الآية المدنية الأخيرة قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ» يعلم أنك تقوم «نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» لعلمه أنهم يقومون أيضا مثل قيامه «و اللّه» المطلع عليكم هو «يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» لا يفوته علم ما تفعلونه فيه أنتم وسائر مخلوقاته ولكنه جلّت قدرته «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» ولن تستطيعوا ضبط ساعاته ولا يتأتى لكم حسابها على النحو المطلوب منكم بالتعديل والتسوية.
ولما كان في ذلك مشقة عليكم وكلفة «فَتابَ عَلَيْكُمْ» ورفع التبعة عنكم ورخص لكم ترك قيامه كله وأسقطه عنكم تخفيفا عليكم بعفوه ولطفه وذلك أن الأصحاب كانوا يقومون الليل كله مخافة أن لا يصيبوا القدر الذي أمروا به لأنهم لا يدرون متى الثلث والنصف والثلثان على الضبط فاشتد ذلك عليهم حتى تورمت أقدامهم فأنزل اللّه «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» أي جزءا من أجزائه حسب استطاعتكم.
هذا ، وما قيل إنه كان بين نزول الآيات أول السورة وهذه الآية سنة وستة عشر شهرا لأن فرض القيام كان قبل فرض الصلاة ، يردّه ما يأتي آخر هذه الآية على أن فرضيته قبل فرض الصلاة على فرض صحتها لا تدل على أنه كان بعد تلك المدة وإنما كان قيام الليل بالمقدار الأول الوارد أول السورة فرضا كما ذكر آنفا فخففه اللّه في هذه الآية إلى النقل وكان بمقدار معين فجعله اللّه بشيء يسير منه وبمطلق قراءة آية ما بين المغرب والصبح حسب الاستطاعة.
والصحيح ان قيام الليل بقي ما يقارب عشر سنين فرضا على حضرة الرسول نفلا على من تبعه ممن آمن به من أمته ، ثم خففت فرضيته في حقه وبقي سنة في حق أمته بدليل قوله تعالى (فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) الآية 79 من سورة الإسراء الآتية كما سنبينه في تفسيرها إن شاء اللّه.
وتقدم في مطلب الناسخ والمنسوخ التوجيه بين هذه الآية والآيات التي في صدر هذه السورة فراجعه ومنه تعلم أن لا ناسخ ولا منسوخ هنا خلافا لما قاله بعض المفسرين بل أكثرهم بأن الآيات الأول منسوخة في هذه الآية الأخيرة ، روى مسلم عن سعيد بن هشام قال : انطلقت إلى عائشة فقلت(1/98)
ج 1 ، ص : 99
يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول اللّه ، قالت الست تقرأ القرآن ؟ قلت بلى ، قالت فإن خلق رسول اللّه القرآن ، قلت فقيام رسول اللّه يا أم المؤمنين ؟
قالت ألست تقرأ المزّمل ؟ قلت بلى ، قالت فإن اللّه افترض القيام أول هذه السورة فقام رسول اللّه وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك اللّه خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بغير فريضة.
وهذا إذا صح يكون التخفيف نزل بمكة أيضا إلا أن السياق ينافيه ولأن الزكاة لم تفرض إذ ذاك كما أن الصلاة لم تفرض أيضا ، ولأن هذه السورة نزلت بعد فترة الوحي إلا أن يقال أن تلك المدة المذكورة في الحديث بالنسبة إلى وجود حضرة الرسول بالمدينة وإعلانه وأصحابه أمر القيام ومداومتهم عليه لأنهم كانوا لا يقدرون على إعلان العبادة في مكة ، وروى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه ألم أخبر أنك تقوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ قلت بلى يا رسول اللّه ولم أرد بذلك إلا الخير ، قال : نعم فصم صوم داود [كان عليه السلام يصوم يوما ويفطر يوما] وكان أعبد الناس في زمانه ، واقرأ القرآن في كل شهر مرة ، قال : قلت يا رسول اللّه إني أطيق أفضل من ذلك ، قال فاقرأ في كل عشر ، قال : قلت يا نبي اللّه إني أطيق أفضل من ذلك.
، قال فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك.
مطلب تخفيف قيام الليل ونقل الكسب والصدقة :
ثم ذكر اللّه حكمة التخفيف المعبر عنه بالنسخ في أغلب كتب المفسرين فقال :
«عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى » يشق عليهم القيام أو يزيد في مرضهم أو يسبب لهم مرضا آخر إذا بقوا على حالتهم الأولى بدليل الحديث المتقدم ذكره إذ جاء فيه ان انتفخت أقدامهم وهذه حكمة أخرى غير حكمة عسرة الإحصاء تقدير الأوقات مقتضية للتخفيف «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ» يسافرون للتجارة والزيارة والعمل وغيره «يَبْتَغُونَ» الربح «مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» وطلب العلم وصلة الرحم وأداء الفرض والسنة من حج وعمرة طلبا للأجر ، وهذه حكمة ثالثة(1/99)
ج 1 ، ص : 100
في التخفيف ، والحكمة الرابعة هي «وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» غزاة مجاهدين أو مرابطين وهؤلاء لا يتمكنون من قيام الليل لأنهم في مشقة فلا يتحملون مشقة أخرى فوقها ، وقد سوى جل جلاله بين المكتسب والمجاهد ، لأن كسب الحلال جهاد أيضا.
روي عن أبن مسعود قال : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بعد يوم كان عند اللّه بمنزلة الشهداء ، ثم قرأ «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ».
الآية وقال ابن عمر رضي اللّه عنهما : ما خلق اللّه موتة أموتها بعد القتل في سبيل اللّه ، أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض ، أبتغي من فضل اللّه.
وأخرج سعيد بن منصور البيهقي في شعب الإيمان ، وغيرهما عن ابن عمر قال : ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل اللّه أحب إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل التمس من فضل اللّه ، وتلا هذه الآية ، قال تعالى : «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» أي القرآن ، وأعاده تأكيدا على كفاية قراءة جزء يسير منه وحصول المقصود فيه في الصلاة بقوله تعالى : «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة بما تيسر لكم من قراءته.
واستدل أبو حنيفة ومن رأى رأيه في هذه الآية على أن المفروض في الصلاة هو قراءة مطلق آية منه مثل «ثُمَّ نَظَرَ» الآية 21 من المدثر الآتية.
وقال مالك والشافعي ومن رأى رأيهما أن ما تيسر هو الفاتحة ، ولكل وجهه ، قال تعالى : «وَآتُوا الزَّكاةَ» الواجبة عليكم المعلومة في كتب الفقه ، وسنين ما يتعلق بها في تفسير الآية (260) من البقرة والآية 60 من سورة التوبة في ج 3 ، قال تعالى : «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» بأداء زكاة أموالكم المفروضة عليكم لأربابها ، وفي وصف القرض بالحين تنبيه على إعطائها كاملة عن طيب قلب ، ولأجل أن يطمئن المتصدق على ذلك ينبغي أن يتصدق زيادة على الفرض كصدقه التطوع وصلة الرحم وقرى الضيف والتصدق على أهل الذّمة المعدمين وعلى الحيوان ، فإن في كل كبد حرّاء أجرا ، ويخص الأقرب فالأقرب ويدل قوله تعالى «حَسَناً» على أن يكون المتصدّق به من كسب طيب ولا يقبل اللّه إلا الطيب ، وتدل إضافة القرض لذاته الكريمة على عدم المنّ على(1/100)
ج 1 ، ص : 101
الفقير بما يعطيه لأنه معاون له على الأجر ، فالمنة للّه وحده ، وأن تكون من وسط الأموال ان لم تكن من أحسنها كما سيأتي في الآية 267 من البقرة أيضا ، ولهذا يقول تعالى قوله : «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» أيها المؤمنون «مِنْ خَيْرٍ» ما ولو قليلا جدا ، فإنكم «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ» في اليوم الآخر هو «خيرا» من الذي ادخرتموه «وَأَعْظَمَ أَجْراً» من الذي قضيتم فيه مصالحكم ، وقرىء خير بالرفع على لغة تميم الذين يرفعون الفاصلة ، فيقولون : كان زيد هو العاقل.
روى البغوي بسنده عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أيكم ماله أحب اليه من مال وارثه ؟ قالوا : يا رسول اللّه ما منا أحد إلا وماله أحب اليه من مال وارثه ، قال : اعلموا ما تقولون ، قالوا ما نعلم الّا ذلك يا رسول اللّه ، قال : ما منكم رجل إلا مال وارثه أحبّ اليه من ماله ، قالوا : كيف يا رسول اللّه ؟ قال : إنما مال أحدكم ما قدّم ، ومال وارثه ما أخر ، هذا «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» في تقصيركم فيما فرضه اللّه عليكم من الصلاة والزكاة.
ولذلك شرعت الواجبات إكمالا للفرائض والسنن إكمالا للواجبات.
لأنه إذا اقتصر على الفرض ، فلو بما أن يكون قصّر فيه فيكون في شكّ في إتمام ما أمر به «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما وقع منكم من التقصير ، دون علم وتعمد في هذين الفرضين وغيرهما «رَحِيمٌ 20» بعباده لا يؤاخذهم على الخطأ والنسيان فيما أمرهم به ونهاهم عنه.
والدليل على نزول هذه الآية بالمدينة الأمر فيها بإقامة الصلاة حيث فرضت ليلة الإسراء 27 رجب سنة 51 السنة العاشرة من البعثة بمكة ولم تكن إقامتها علنا إلا بالمدينة.
مطلب فرض الزكاة والصلاة وتاريخهما ومحلهما أما الزكاة فقد فرضت في السنة الثانية من الهجرة سنة 55 من ميلاده ، فيكون بين آيات القيام المبينة أول السورة وبين آية التخفيف فيه ، هذه ما يقارب عشر سنين ، وعليه يكون نزول هذه السورة سنة 45 من ميلاده الشريف الرابعة من البعثة ، ثم فتر الوحي بعد هذه السورة وما قيل ان آية (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) المارة نسخت بآية (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) المارة بعدها ، وكذلك آية «فَمَنْ شاءَ(1/101)
ج 1 ، ص : 102
اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا»
بآية «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» المارة بعدها ، أو بآية السيف لا وجه له كما سيأتي.
واعلم أن هذه الآية عدا آية المداينة 280 والآيتين من سورة البقرة 101 و258 والآيتين من النساء 44 و91 والآية من المائدة 109 في ج 3 تعد من أطول آي القرآن مما يدل على مدنيتها أيضا ، لما ذكرناه في بحث مميزات المكي والمدني بأن غالب آيات المدني طوال والمكي قصار.
مطلب لا محل للبحث في ترتيب الآيات والسور وتدل أيضا على أن ترتيب الآيات مع سورها توقيفي كما ذكر قبلا في بحث وضع السور والآيات ، وانه أمر من حضرة الرسول ولا دخل لأحد من الأصحاب في ذلك ، وهو موافق لما في لوح اللّه المحفوظ ولا يعلم الحكمة في هذا الترتيب إلا اللّه والمنزل عليه ، ولذلك فإن العلماء تحاشوا البحث فيه ، وإنما أشاروا إلى بعض المناسبات مما في السورة الأولى للتي تليها.
إذن لا مجال للقول والتقول في هذا الشأن البتة.
تأمل وحسن نيتك وعقيدتك تفز وتنجح ويفتح عليك هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة المدّثر
عدد 4 - 74
نزلت بمكة بعد فترة الوحي ، وبعد سورة المزمل بثلاث سنين أو ثلاثين شهرا ، وهي ست وخمسون آية ، ومائتان وخمس وخمسون كلمة ، وألف وعشرة أحرف.
بسم اللّه الرحمن الرحيم ،
قال تعالى «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» بدثار النبوة تنبّه لما يلقى عليك من الوحي.
وإنما خاطبه ربه بذلك لأنه كان يقول بعد نزول الوحي عليه :
دثروني دثروني ، ثم صار يخاطبه مرة بيا أيها النبي ، وأخرى يا أيها الرسول وتارة يكنى عنه بالضمير ، وطورا يسميه باسمه ، وقد أمره جل شأنه في هذه السورة بما يجب عليه من أمر الرسالة التي شرفه بها بعد أمره قبلا بالقراءة ، وهو أول أمر من نوعه فقال : «قم» من دثارك «فأنذر» قومك وحذّرهم عذاب ربك ، (1/102)
ج 1 ، ص : 103
وقد ذكرنا أن هذه السورة أول سورة نزلت بعد فترة الوحي لانه بدأ بأول العلق ثم بسورة القلم ثم المزمل عدا الآيات المستثنيات منها كما أشرنا إليها في مواضعها ، ثم فتر الوحي ثلاث سنين أو ثلاثين شهرا على اختلاف في ذلك لم ينزل فيها على النبي شيء من القرآن ، ولم يتل على الناس غير السور الثلاث المذكورات ، ولم يدعهم إلى شيء ، ثم نزلت المدثر كما ذكرناه في حديث جابر المتقدم في مطلب فترة الوحي المارّ الذي رواه الشيخان إذ قال فيه : (سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي) ويدل أيضا قوله فيه : (فإذا الملك الذي جاء بحراء) وتقدم تفصيله هناك ، وعقبه بقوله وأنزل اللّه يا أيها المدثر.
هذا ، ومن قال إن المدثر أول سورة نزلت أراد أنه بعد فترة الوحي أولية اضافية لا مطلقة ، ومن أراد الأولية المطلقة لا برهان له بها ، وقد صرح الزهري بضعفه وعدم الاعتداد به ، وقد وقعت فترات أخرى كالفترة التي وقعت بعد سورة الفجر وهي خمسة عشر يوما ، وقد ظن البعض وتبعهم (درمنغام) المار ذكره في المقدمة ، في بحث الشهادة في مدح الكتب الأربعة في مطلب الناسخ والمنسوخ
مطلب أول سورة نزلت وفترة الوحي وسببها
إن الضحى نزلت بعد فترة الوحي وهي أول ما نزل والحال قد نزل قبلها بضع سور كما ستعلم ، وان الذي نزل أولا هو المدثر كما ذكرنا.
وسبب الفترة الأولى هو تحريك قوى الرسول إلى اشتياق نسمات الوحي القدسية ، فيذهب عنه ما كان يجده من الرعب والخوف ، ويتلقّى الوحي بقبول وشوق وتعطش وانشراح صدر ، وأ تزداد رغبته فيه.
وأما الفترة الثانية فقد جاء في الصحيحين عن جندب بن سليمان ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم اشتكى (توجع) فلم يقم ليلتين أو ثلاثا إلى تهجده وتلاوته فقالت امرأة : (هي أم جميل بنت أبي سفيان زوجة أبي لهب) يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، فلم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، فأنزل اللّه «وَالضُّحى » كما رواه الحاكم عن زيد بن أرقم أيضا.
وكان هذا بعد نزول «تَبَّتْ يَدا».
وروى ابن(1/103)
ج 1 ، ص : 104
جرير من طريقين مرسلين أن جبريل أبطأ على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة : إني أرى ربك قد قلاك مما يرى من جزعك ، فنزلت.
ومعارضة رواية الصحيحين بهذه الرواية المرسلة تسقط اعتبارها.
وقد جمع الحافظ ابن حجر بينهما بأن خديجة قالت ما قالت توجعا عليه صلى اللّه عليه وسلم ، وحمّالة الحطب قالت ما قالت شماتة به ، من الوحي المحمدي ص 100 من باب فترة الوحي ، وأول ما نزل بتصرف ، وما ذكرناه هو المعتمد عند المحدثين في أول ما نزل من القرآن ، وفي مدة الفترة وأول ما نزل بعدها ، وفي فترة سورة الضحى ، وقد غلط مجاهد في قوله : «ن وَالْقَلَمِ» أول ما نزل هذا ، وما روي عن علي عليه السلام ، إن أول سورة نزلت هي الفاتحة واعتمدها الإمام محمد عبده ، فإذا صحت هذه الرواية يكون المراد منها أنها أول سورة تامة نزلت بعد بدء الوحي بالتمهيد الكوني ثم بالأمر بالتبليغ الإجمالي ، وتلاها فرض الصلاة وآية المزمل ، أو نزلتا في زمن واحد.
وقد ذكرت آخر (العلق) المارة أن المراد بالصلاة الواردة بالآيات المكية من بدء نزول الوحي إلى نزول سورة الإسراء الآتية هي الركعتان اللّتان فرضها اللّه على الرسول صلى اللّه عليه وسلم وحده التي لم يزل يعمل بها هو ويعفي أصحابه من غير أن تفرض عليهم حتى فرضت الصلوات الخمس.
قال تعالى : «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3» عظمه ونزهه عن عبادة الأوثان التي انكب عليها قومك «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ 4» عن كل مستقذر لان قومك يجرّون ثيابهم في الأرض تكبرا وخيلاء ولا يحترزون من النجاسة 8 وطهر نفسك مما هم عليه من القبائح ، وقد كشنى بالثياب عن الجسد لاشتمالها عليه ، وقد جاء بمثله عنترة في قوله :
وشككت بالرمح الأصم ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرّم
أراد نفسه وجسمه ، والعرب تعبّر بطهارة الثوب عن وصف صاحبه بالصدق والوفاء والعفاف.
ولما كان الثوب ملازما للانسان كنّوا به عنه يقال : الكريم في ثوبه ، والعفة في إزاره ، كما يقال للغادر خبيث الرداء دنس الثياب ، وحيث وإن كانت الطهارة مطلوبة فى الثوب والجسد فالأمر هنا يشملهما معا «وَالرُّجْزَ»(1/104)
ج 1 ، ص : 105
الذي يعبده قومك من دون اللّه «فَاهْجُرْ 5» ولا تقربه أبدا «وَلا تَمْنُنْ» بما أعطاك اللّه في الرسالة والذكر على قومك وغيرهم «تَسْتَكْثِرُ 6» به في طلب الأجر منهم ولا تقل دعوتهم فلم يقبلوا مني ، بل عد عليهم المرة بعد الأخرى وادعهم إلى عبادة اللّه ولا تستكثر تكرار دعوتك لهم ، فإن لك الأجر العظيم بذلك ، وقال بعض المفسرين لا تعط مالك وترى ما تعطيه كثيرا أو تطلب أكثر منه بناء على ما اعتاد قومه من العادات غير المرضية ، انهم كانوا يعطون الهدية بقصد أن يهدى لهم أكثر منها ، ومن أمثالهم ، الهدية تأتي على حمار ، وترجع على جمل ، حثا للمهدي على إهداء الكثير ، فنهى رسوله عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة لأنه مأمور بأجل الأخلاق وأشرف الآداب ويدل على ما جرينا عليه قوله تعالى : «وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ 7» لأن المعنى الذي ذكروه لا يحتاج إلى الصبر حتى يأمر به ، ولأن من أعطى شيئا لغيره طلبا للزيادة لا بد وأن يتواضع الذي أعطاه ، ومنصب النبوة يجل عن ذلك كيف وهي تعلم الناس الإباء عن كل ما يخل بالاحترام ومكارم الأخلاق ، وقيل هما رباءان حلال كالهدية الكثيرة لمن أهدى أقل منها وحرام لمن أعطى شيئا بأكثر منه ، وقد استدلوا بالآية 38 من سورة الروم ج 2 وهي (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ).
وهو لعمري بعيد لأن الظاهر يأباه والمعنى لا ينطبق عليه وتفسيرها بالصورة التي ذكرناها أوّلا أولى وأوفق كما لا يخفى على بصير ، وسيأتي لهذا البحث تفصيل في تفسيرها إن شاء اللّه ، وعلى كل يقول اللّه جل قوله فاصبر يا أكمل الرسل على أذاهم كيفما كان ، فكل مصبور عليه مصبور عنه ، واصبر على العمل بأوامر ربك ونواهيه فالدنيا كلها فانية «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ 8» أي نفخ إسرافيل في البوق النفخة الأولى «فَذلِكَ» يوم النفخ «يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ 9» شديد هوله «عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ 10» بل عسير جدا ، وهي بلفظ يسير لتكرار التأكيد ، وفي تخصيصه بالكافرين دلالة على أنه هين على المؤمنين إن شاء اللّه.(1/105)
ج 1 ، ص : 106
مطلب ما نزل في الوليد بن المغيرة ثم في خبث أبي جهل
«ذَرْنِي» خل بيني «و» بين «مَنْ خَلَقْتُ» في بطن أمه «وَحِيداً 11» لا مال له ولا ولد ولم يشاركني في خلقه أحد ، فدعه وكله لي فأنا أكفيكه «وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً 12» كثيرا غير منقطع إنماؤه ، وكان له أرض بالطائف لا ينقطع ثمرها ومن النقد تسعة آلاف مثقال وإبل وخيل وغنم وعبيد وجوار كثيرة وكان قبل لا شيء عنده كما ذكر ابن عباس «وَبَنِينَ شُهُوداً 13» لا يغيبون عنه ولا يضعفون صيفا ولا شتاء لغنائهم ويحضرون معه المحافل ليعتزبهم وهم عشرة أسلم منهم خالد وهشام وعمارة فقط «وَمَهَّدْتُ» بسطت له من العيش وكل ما يحتاجه «تَمْهِيداً 14» مع الرئاسة على قومه وطول العمر ، وكان يدعى ريحانة قريش.
والمراد به من هذه الآيات من ذرني فما بعد الوليد بن المغيرة المخزومي إن كان بدأ البعثة فقيرا لاسعة له في المال والولد ، وكان عليه بعد أن منّ اللّه عليه بتلك السعة أن يؤمن بحضرة الرسول لا أن يكفر به حتى اقتضى نزول هذه الآيات فيه.
ومن هذا يستدل على أن هذه السورة لم تنزل جملة واحدة بل نزل القسم الأول منها ، ثم نزل ما هو بحق الوليد بعد حيث لم تنزل سورة بتمامها قبل الفاتحة كما ذكرنا آنفا انه كانت تنزل الآية والآيتان والجملة والجملتان على حضرة الرسول ليتمّرن على تلقي كلام ربه ، وما قيل ان هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له لأنها من الأخبار وقد ذكرنا قبلا أن الأخبار لا يدخلها النسخ في الآية/ 44/ من سورة القلم المارة قال تعالى : «ثُمَّ يَطْمَعُ» يرجو مع كفره وتكبره وعدم شكره وإيمانه «أَنْ أَزِيدَ 15» له مالا وبسطة وولدا «كلا» لا يطمع ولا يرجو فلا أفعل له ذلك مادام على ما هو عليه «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «لِآياتِنا» المنزلة على رسولنا «عَنِيداً 16» عاتيا لا يميل لدلائل توحيدنا منكرا لا يصدق رسولنا جاحدا النبوة واليوم الآخر والتوحيد قال مقاتل ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من المال والولد والرفعة والجاه حتى هلك وكان كفره عنادا وهو أفحش انواع الكفر الأربعة المبينة في الآية 4 من سورة البروج(1/106)
ج 1 ، ص : 107
الآتية في ج 2 «سَأُرْهِقُهُ» ألجئه وأضايقه بشدة وقسر أن يصعد «صَعُوداً 17» جبلا شامحا في جهنم زيادة في مشقة العذاب لاراحة له معها ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال صلى اللّه عليه وسلم الصعود عقبة في النار يتصعد فيها الكافر سبعين خريفا ثم يهوي بها سبعين خريفا فهو كذلك أبدا! أخرجه الترمذي بلفظ غريب وهو ما رآه راء قط وسيأتي له بحث في تفسير الآية 8 من سورة الإسراء الآتية - وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال هو جبل من نار يكلف أن يصعده.
فإذا وضع يده ذابت ، فإذا رفعها عادت يؤيده قوله تعالى : «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» الآية 56 من سورة النساء في ج 3 ، ثم عدد مثالب الوليد الأخرى زيادة على ما بينه قبلا وفي الآية 9 فما بعدها في سورة القلم المارة فقال جل قوله : «إِنَّهُ» عند سماع القرآن «فكّر» ماذا يقول فيه «وَقَدَّرَ 18» هيأ كلاما في نفسه وذلك لما أنزل اللّه سورة حم الجاثية وقيل فصلت ، وكان يصلي في المسجد ، كان الوليد بن المغيرة قريبا منه يسمع قراءته ففطن له النبي صلى اللّه عليه وسلم فأعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال : واللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، واللّه إنّ له لحلاوة «و ان عليه لطلاوة ، وإن عليه لثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يعلى عليه ، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش : صبأ واللّه الوليد ولتصبون قريش كلها ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا ، فقال له ما لي أراك حزينا يا ابن أخي فأجابه الخبيث : وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة ليعينوك بها على كبر سنك ، ويزعمونك أنك زيّنت كلام محمد وأنك تدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما ، فغضب الوليد وقال : ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدا ، وهل شبع محمد من الطعام حتى يكون له
فضل ؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم : تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يحنق قط ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كاهن فهل(1/107)
ج 1 ، ص : 108
رأيتموه تكهّن قط ؟ قالوا : اللهم لا ، قال تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط ؟ قالوا اللهم لا ، قال تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب قط ؟ قالوا : اللهم لا ، وكان يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه ، فقالت قريش للوليد :
فما هو إذن ؟ فتفكر في نفسه ثم قال : ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر ، وما يقوله ما هو إلا سحر يؤثر ، فذلك قوله عز وجل «فَكَّرَ وَقَدَّرَ» وهذا مما يدل أيضا على أن هذه السورة لم تنزل دفعة واحدة ، فإن الآيات من ذرني إلى آخرها متأخرة في النزول عنها ، لأن سورة حم هذه لم تنزل بعد والحواميم كلها نزلت متتابعة كما سيأتي في الجزء الثاني.
وعلى القول بأنها نزلت معها تكون من قبيل الإخبار بالغيب ، وسنزيد هذا البحث بحثا عند تفسيرها إن شاء اللّه القائل «فَقُتِلَ» وعذّب وأهين «كَيْفَ قَدَّرَ 19» وهذا الاستفهام على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ «ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ 20» كرره تأكيدا اشعارا بأن هذا دعاء عليه أبلغ من الأول
«ثُمَّ نَظَرَ 21» في وجوه الناس يبين لهم ما يدفع به القرآن ويردّه «ثُمَّ عَبَسَ» كلح وجهه واغبر «وَبَسَرَ 22» تقطب وجهه واكفهر وزاد في التقبض ، وأظهر العبوس قبل أو انه ومنه قيل لما لم ينضج من الثمر بسر.
ويأتي بمعنى العبوس مطلقا ، وعليه قول ثوبة :
لقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها
قال تعالى : «ثُمَّ أَدْبَرَ» ولى بظهره عن الحق «وَاسْتَكْبَرَ 23» عن الإيمان به واختلق ما افتراه «فَقالَ إِنْ» ما «هذا» الذي يتكلم به محمد «إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ 24» يروى عن السحرة إن «هذا» الذي يقوله محمد «إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ 25» يتلقاه عنهم ويحكيه لنا ما هو قول اللّه كما يزعم ، قال تعالى : فدعه يا محمد وما يقول «سَأُصْلِيهِ» أحرقه وأدخله «سَقَرَ 26» علم لجهنم لا ينصرف لعلتي التعريف والتأنيث «وَما أَدْراكَ» يا حبيبي «ما سَقَرُ 27» صدر الجملة بالاستفهام على سبيل التهويل والتعظيم ، أي ما أعلمك ماهي هي «لا تُبْقِي» لحما «وَلا تَذَرُ 28» عظما فلا يلقى فيها شيء إلا أحرقته وأذابته «لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ 29» مغيرة جلودهم(1/108)
ج 1 ، ص : 109
البيض سودا «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ 30» ملكا هم خزنتها عدا مالك فإنه بوّابها ، قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم اسمع من ابن أبي كبشة يخبر قومه ، أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن تبطش بواحد منهم ، فقال أبو الأشعر بن أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، واكفوني أنتم اثنين.
ويروى عنه أنه قال : أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فادفع عشرة بمنكبي الأيمن ، وتسعة بمنكبي الأيسر في النار.
ونمضي فندخل الجنة ، فأنزل اللّه جل إنزاله
«وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ» خزنتها «إِلَّا مَلائِكَةً» لا رجالا فمن ذا يغلبهم ، وإن واحدا منهم كاف لتعذيب الثقلين ، وليس فيهم مظنة الرحمة والرأفة لأنهم ليسوا من جنس المعذّبين.
راجع الآية 6 من سورة التحريم في ج 3 ، «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً» امتحانا «لِلَّذِينَ كَفَرُوا» يقولوا ما قالوه وقد جئنا بهذا العدد «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» صحة ما أنزلناه على محمد لأن هذا العدد مكتوب في التوراة والإنجيل وليتيقنوا أن محمدا لم يقل شيئا من نفسه وان كل ما يقوله من عند اللّه تعالى مصدق لكتابهم.
مطلب الحواس الباطنة والظاهرة والأخبار بالغيب
وقيل المخصّص لهذا العدد اختلاف البشرية في النظر والعمل بسبب القوى الحيوانية الاثني عشر يعني الحواس الخمس الباطنة أو الخمس الظاهرة والقوة الباعثة كالغضبية والشهوية والقوة المحركة ، فهذه اثنا عشرة ، والطبيعيات السبع ثلاث منها مخدومة وهي النامية والغازية والمولدة ، وأربع منها خادمة وهي الهاضمة والجاذبة والدافعة والماسكة ، وهذا مع ابتنائه على الفلسفة لا يكاد يتم ، كما لا يخفى على من وقف على كتبها ، والحقيقة في حكمة هذا العدد لا يعلمها إلا اللّه القائل : «وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا» من أهل الكتابين والذين آمنوا بالقرآن «إِيماناً» تصديقا بمحمد وما أنزل عليه بأنه وحي سماوي لأنه أخبر به دون تعلم أو دراسة «وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ» في عددهم وليخالف حالهم حال المشركين والكفار(1/109)
ج 1 ، ص : 110
«وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» نفاق وشك وريب «وَالْكافِرُونَ» من المشركين «ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» أي ما معنى هذا العدد العجيب ولأي شيء اختاره على غيره ، وهذه الآية من الإخبار بالغيب قبل الوقوع فهي من معجزاته صلى اللّه عليه وسلم لأنه أعلم بإعلام اللّه إياه بأنه سيكون منافقون يرتابون في هذا القرآن ، لأن هذه السورة مكية بالاتفاق ولا يوجد زمن نزولها منافقون ، والنفاق ظهر بالمدينة ، ولهذا جاء الفعل بلفظ المستقبل «كَذلِكَ» مثلما أضل اللّه منكري عدد الخزنة «يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ» من غيرهم ممن اقتفى آثار الكفر وأعرض عن الإيمان «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ممن آمن به وصدق رسله «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ» الذين من جملتهم خزنة جهنم «إِلَّا هُوَ» وحده لأن ملائكته لا يحصون وهذا كالجواب للخبيث أبي جهل لقوله : ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر ، أي له أعوان كثيرون لا يعلمهم إلا اللّه ، فكما أن مقدراته غير متناهية فكذلك جنوده ، وإن الواحد منهم كاف لخراب الدنيا بما فيها ، راجع الآية 81 من سورة هود في ج 2 «وَما هِيَ» أي سقر الموصوفة آنفا «إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ 31» وموعظة وما مواعظ القرآن وآياته إلا عبرة للناس يتذكرون بها «كلّا» إن البشر لا يتعظون بها ولهذا فانه تعالى أقسم جل قسمه فقال «وَالْقَمَرِ 32» الذي جعلته نورا لخلقي «وَاللَّيْلِ» الذي خلقته راحة لعبادي «إِذْ أَدْبَرَ 33» ولّى وقرىء دبر بمعنى أدبر كقبيل بمعنى اقبل تقول دبرني فلان جاء خلفي والليل يأتي خلف النهار «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ 34» اعترض مضيئا بالأفق وقرىء سفر وقد أقسم اللّه بها لعظم منافعها كما لا يخفى وجوب القسم لهذه الأيمان الثلاث قوله جل قوله «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ 35» الأمور العظام لأنها احدى دركات النار السبعة وهي : 1 جهنم ، 2 والحطمة ، 3 لظى ، 4 السعير ، 5 سقر ، 6
الجحيم ، 7 الهاوية.
وكل واحدة منها داهية دهماء عظيمة في البلاء جعلت «نَذِيراً لِلْبَشَرِ 36» قال الحسن واللّه ما أنذر بشيء أدهى من النار وهذا النذير قد حصل للجميع «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ» أيها الناس «أَنْ يَتَقَدَّمَ» للطاعة ويبادر لفعل الخير فينجو منها «أَوْ يَتَأَخَّرَ 37»(1/110)
ج 1 ، ص : 111
عنها فيقع في الشر والمعصية فيهلك في تلك النار هذا ولا دلالة في هذه الآية لقول من قال إن العبد مجبر على الفعل ومتمكن من فعل نفسه لأن مشيئته تابعة لمشيئة اللّه وانها على حد قوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية 29 من الكهف في ج 2 أي بعد أن بينا لكم أيها البشر طريقي الخير والشر وأمرناكم باتباع الخير والانكفاف عن الشر وهذا على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 40 من سورة فصّلت في ج 2 أي افعلوا ما شئتم فكل مجاز بعمله إن خيرا فخير وان شرا فشر قال «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» من الأعمال «رَهِينَةٌ 38» عند ربها غير مفكوك عنها لأنها مأخوذة بعملها ورهينة اسم فعل بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم وليست بتأنيث رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث مثل قتيل وجريح لتكون بمعني اسم الفاعل والمفعول بل هي واحد الرهائن ، ثم استثنى اللّه تعالى من هذا العموم فقال «إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ 39» الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم المؤمنون المخلصون لأنهم فكوا رقابهم بالطاعة كما يفك الراهن رهنه بأداء ما عليه من الحق ، وقد روي عن علي كرم اللّه وجهه انهم أطفال المؤمنين لأنهم لم يكتسبوا إثما يرتهنون فيه.
وقال ابن عباس هم الملائكة.
وقيل هم الذين كانوا على يمين آدم يوم أخذ الميثاق وحين قال تعالى هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي لأن
اللفظ عام لا يوجد ما يخصصه وهؤلاء الميامين المباركون «فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ 40» فيما بينهم
«عَنِ الْمُجْرِمِينَ 41» فيقولون لهم على سبيل التوبيخ والتقريع «ما سَلَكَكُمْ» أدخلكم وأوصلكم ونفحكم فحبسكم «فِي سَقَرَ 42 قالُوا» لهم زججنا فيها لأنا «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ 43» في الدنيا ولم نعتد فرضيتها «وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ 44» في الدنيا بما تفضل اللّه به علينا ولم نتصدق عليه كما فعل المؤمنون الذين يؤثرون على أنفسهم ولم نكن معدمين لنعذر «و» مع هذا كله فإنا «كُنَّا نَخُوضُ» بالباطل وقول الزور في آيات اللّه «مَعَ الْخائِضِينَ 45» في البهتان والافتراء والاختلاف «وَكُنَّا نُكَذِّبُ» ننكر أيضا ولا نصدق «بِيَوْمِ الدِّينِ 46» يوم الجزاء والحساب وبقينا متمادين في ذلك كله «حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ 47» الموت(1/111)
ج 1 ، ص : 112
وسمي يقينا لأن كل البشر موقن به فصار علما على الموت ، قال تعالى ردا لما يقال من أسباب الخلاص لمثل هؤلاء «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ 48» عندنا من الملائكة والأنبياء والشهداء والصالحين في ذلك اليوم الذي تقبل فيه الشفاعة لمن يشاء اللّه.
مطلب الشفاعة والمحروم منها :
في هذه دليل ثبوت الشفاعة فيما عدا الأصناف الأربعة المذكورين ، وهو كذلك ، لأنهم يشفعون بإذن اللّه لمن يرتضيه ، فلا يرد عليه ما جاء بالآيات الأخر.
قال ابن مسعود رضي اللّه عنه : تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ، ثم تلا هذه الآية (قالُوا لَمْ نَكُ) قال عمران ابن حصين الشفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون المذكورين في الآية وروى البغوي عن أنس رضي اللّه عنه قال : قال صلى اللّه عليه وسلم يصف أهل النار فيعذبون قال : فيمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول للرجل منهم يا فلان فيقول ما تريد ؟
فيقول أما تذكر رجلا سقاك شربة ماء يوم كذا وكذا فيقول وإنك لأنت هو ، فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه ، قال ثم يمر بهم الرجل فيقول يا فلان فيقول ما تريد ؟
فيقول أما تذكر رجلا وهب لك وضوءا يوم كذا وكذا ؟ فيقول وانك لأنت هو ؟ فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه قال تعالى «فَما لَهُمْ» أي شيء جعل لهؤلاء الكفرة من قومك يا حبيبي (إذا كان حال المعذبين على ما ذكر) «عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ 49» أي عن سماع هذا القرآن مولين ظهورهم عنه بعد أن سمعوا ما سمعوا من آياته ونصح من أنزل عليه ولم يتعظوا «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ» وحشية «مُسْتَنْفِرَةٌ 50» بكسر الفاء أي نافرة وقرىء بفتحها فتكون بمعنى منفرة مذعورة خائفة كأنها
«فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ 51» أي الأسد أو جماعة أو جماعة الرماة الصيّادين ، لا واحد له من لفظه مثل ذلك ورهط راجع الآية الأولى من سورة الفاتحة الآتية ، شبه جل جلاله نفور المشركين من سماع مواعظ القرآن ونصائح حضرة الرسول بنفور الحمر الوحشية عند ما تشاهد الأسد أو الرماة فلا يرى مثل نفورها وكذلك هروب(1/112)
ج 1 ، ص : 113
المشركين عند سماع كلام حضرة الرسول في قرآن أو غيره ، راجع الآية 127 من سورة التوبة في ج 3 «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ» أي هؤلاء المعرضون «أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً 52» قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها الناس ، أي أنهم لا يكتفون بتلك التذكرة من حضرة الرسول ولا يرضون بها وذلك أن كفار قريش قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان نؤمر فيها باتباعك ، ونحو هذا القول ما يأتي في الآية 92 من سورة الإسراء الآتية.
مطلب ما يطلبه قريش من الرسول :
وقالوا بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح وعند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك ، وقالوا إن كان محمد صادقا فيصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار ، فرد اللّه عليهم بقوله عزّ قوله «كَلَّا» لا يؤتون شيئا من ذلك ، وهذه كلمة ردع وزجر ونهي لهم عن طلب تلك الاقتراحات والتمنّيات «بَلْ لا يَخافُونَ» بالياء والتاء هؤلاء هول «الْآخِرَةَ 53» ولا يخشون عذابها وما أو عدوا فيها إذ لو خافوا ذلك لما اقترحوا شيئا من هذه الاقتراحات الواهية ولأن ما حصل من المعجزات وما قام من الأدلة على اثبات نبوته وصحة ما جاءهم به كاف على وجوب الإيمان به ، ولكنهم لن يؤمنوا ولو جئنهم بكل آية ، راجع الآية 95 من سورة يونس في ج 2 ، فطلبهم هذا زيادة في التعنّت والعناد ولهذا زجرهم بقوله «كلّا» حقا «إنّه» القرآن «تَذْكِرَةٌ 54» عظيمة وعظة بليغة كافية لمن وفقه اللّه للايمان «فَمَنْ شاءَ» منكم أيها الناس أن يذكره «ذَكَرَهُ 55» ولم ينسه واتعظ به ولم يطلب غيره لأن نفعه عائد عليه «وَما يَذْكُرُونَ» هؤلاء وغيرهم بمشيئتهم إذ لا يقدرون أن يذكروه «إلّا» وقت «أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» لهم ذلك فإن شاء لهم الهدى تذكروا فيه فاهتدوا وإلا لا ، فانه «هو» وحده جل جلاله «أَهْلُ التَّقْوى » وبالحري أن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا به ويطيعوه «وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ 56» وحقيق أن يغفر للطائعين ما سلف ت (8)(1/113)
ج 1 ، ص : 114
منهم إذا آمنوا وصدقوا نيتهم واللّه أحق أن نتقي محارمه وأكرم من أن يرد من يقبل عليه بإخلاص.
هذا ولا يوجد غير هذه السورة مختومة بمثل هذه اللفظة ، أخرج أحمد والترمذي وحسنه الحاكم وصححه النسائي وابن ماجه وخلق كثير آخرون عن أنس أن رسول اللّه قرأ هذه الآية (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى ) إلخ فقال :
قد قال ربكم أنا أهل بأن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له.
وأخرج ابن مردويه عن عبد بن دينار عن أبي هريرة وابن عمر عن ابن عباس مرفوعا ما يقرب من ذلك ، هذا ، واللّه أعلم واستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الفاتحة
عدد 5 - 1
نزلت بعد المدثر في مكة بدليل قوله تعالى في سورة الحجر (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي إلخ) ، الآية 87 في ج 2 ، وهي مكية فلا برهان لمن قال إنها مدنية كمجاهد رحمه اللّه حتى قال الحسين بن فضيل هذه هفوة من مجاهد لأن العلماء على خلافه ، ولا دليل لمن قال انها أول ما نزل أولية مطلقة كما نوهنا به أوائل سورة المدثر المارة ، وأضعف من هذين القولين ، القول بنزولها مرتين أولا بمكة ثم بالمدينة ، وقد جزم جابر بن زيد أن أول ما نزل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ثم (ن) ثم (المزمل) ثم (المدثر) ثم (الفاتحة) وهي سبع آيات ومنها في عد الآي سورة الماعون فقط ولو أنها نزلت مرتين لأثبتت بالقرآن مرتين كما هو الحال في الآيات والقصص المكررة ، وهذا كاف للرد على من يقول بنزولها مرتين ، تدبر ، والبسملة ليست آية منها.
مطلب أسماء الفاتحة وما يتعلق بها وهي تسع وعشرون كلمة ومائة وأربعون حرفا ، وتسمى فاتحة الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني لأنها تثنى في الصلاة وغيرها ، والوافية لأنها لا تقسم في الصلاة بخلاف غيرها من السور ، والكافية لأنها تكفي عن غيرها ولا يكفي عنها(1/114)
ج 1 ، ص : 115
غيرها عند الإمام الشافعي رحمه اللّه اعتمادا على قوله صلى اللّه عليه وسلم : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وعلى ما رواه مسلم عن أبي هريرة : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج وكررها ثلاثا ، أي غير تمام ، قال الراوي فقلت يا أبا هريرة إنا أحيانا نكون وراء الإمام ، فغمز ذراعي وقال : اقرأها بنفسك يا فارسي (يريد سلمان رضي اللّه عنه) فاني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : قال اللّه تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، فاذا قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال حمدني عبدي ، وإذا قال (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال أثني عليّ عبدي ، وإذا قال (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال مجّدني عبدي ، وإذا قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، وإذا قال (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
وقد أول الحنفية الحديث المارّ بأن المراد به الصلاة الكاملة وإلا فهي تصحّ بكل ما قرىء من القرآن ولو كلمتين كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت المار في آخر سورة المزمل المتعلق في هذا البحث.
وتسمى سورة الحمد ، وفي القرآن خمس سور مبدوءة بالحمد للّه ، هذه والأنعام والكهف وسبأ وفاطر.
هذا ولا يقدح في قول القائل ان الفاتحة مشتملة على معان كثيرة بل على الكتاب كله وجامعة لما فيه ، عدم اشتمالها على الأحرف السبعة وهي : (الثاء والجيم والزاي والشين والخاء والظاء والفاء) لأن المراد الكمال المعنوي لا اللفظي ولا ينقصها نقصان الصورة فقد جاء بحق البشر وهو مادي (إن اللّه لا ينظر إلى صوركم) فكيف بالأمور المعنوية.
على أن هذه الأحرف من الحروف الظلمانية التي(1/115)
ج 1 ، ص : 116
خلافا لبقية الأئمة ، وقال رحمه اللّه بكفاية آية طويلة أو ثلاث آيات قصار من أي سورة كانت من القرآن بل تصح بأقصر آية مثل (ثُمَّ نَظَرَ) الآية 21 من المدثر المارة لأنه الفرض عنده استنادا لقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) الآية الأخيرة من سورة المزمل المارة ، وقوله صلى اللّه عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته : ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن - كما في الصحيحين - أما كون البسملة ليست بآية منها فقد تقدم بحثه في الخاتمة.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم.
تقدم البحث عنها بالخاتمة أيضا وقد أسقطت الألف من الياء للخفة وطول الباء خطا ليدل عليها ، والاسم ما يعرف به ذات الشيء والتسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء فالاسم هو اللفظة المعنية واشتقاقه من السموّ أي العلو لأن اسم الشيء ما علاه وظهر به وصار علما له «اللّه» اسم علم خاص له تعالى وهو غير مشتق ومن خصائصه أنك إذا حذفت الالف بقي للّه ، وإذا حذفت اللام بقي إله ، وإذا حذفتهما معا بقي هو ، فالواو عوض عن الضمير ، وإذا حذفت اللامين بقي آه فهو دائما يدل عليه دون غيره ، ولم يسبق أن تسمى به أحد قطعا ، قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الآية 65 من سورة مريم الآتية ومعناه المستحق للعبادة وحده «الرّحمن» ذي الرحمة العامة و«الرّحيم» ذي الرحمة الخاصة وهما اسمان من صفات الذات مشتقان من الرحمة ، وقد ذكرنا بعض ما يتعلق بمعنى البسملة على القول بانها آية من الفاتحة بالحالة المارة قال تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ» استحقاقا لذاته الكريمة المستوجبة لجميع المحامد «رَبِّ» المربي الأكبر المالك لجميع الخلق «الْعالَمِينَ 1» جمع عالم بفتح اللام لا واحد له في لفظه مثل خيل ونساء ، راجع الآية 5 من سورة المدثر المارة وهو اسم لكل موجود ما سوى اللّه الموجد للوجود ، قالوا إن للّه ألف عالم ، ستمائة في البحر واربعمائة في البر وقيل ثمانون الف عالم نصفها في البر ونصفها في البحر والحقيقة ان له عوالم لا يعلمها غيره وما العمران في الخراب الا كفسطاط (خيمة) في فلاة «الرَّحْمنِ» المنعم على خلقه بما لا يتصور صدوره من العباد «الرَّحِيمِ» المنعم بما يمكن تصوره من عباده ويجوز التسمية به وهو في جملة أسمائه(1/116)
ج 1 ، ص : 117
صلّى اللّه عليه وسلم لأنه أخص من الرحمن كما تقدم في الخاتمة أيضا «مالِكِ» أبلغ من ملك لأنه لا يكون مالكا للشيء إلا وهو يملكه ولأن الملك لا يكون إلا بالمبايعة والمالك يكون بالقهر ، وجاز قراءة ملك بالصلاة لمن يقتصر على الفاتحة في الركعة الثانية لتكون الأولى أطول منها بحرف وهو في سنن القراءة في الصلاة ولأنها قراءة أيضا ، ومن لم يفهم هذا المعنى من الأئمة يداوم على قراءة ملك في الثانية مع أنه يقرأ معها شيئا من القرآن ويظن أنه يحسن عملا أو ان قراءة ملك مطلوبة او انه واقف على القراءات ، وقيل أن ملك أولى لأن كل ملك مالك أيضا وليس بشيء «يَوْمِ الدِّينِ 3» أي الجزاء المتصرف بأمره ونهيه فيه ، وجملة الحمد إخبارية لفظا انشائية معنى وما بعدها إخبار فقط ، ثم رجع الخطاب لعباده فأمرهم ان يقولوا «إِيَّاكَ» يا ربنا «نَعْبُدُ» نخصّك بالعبادة ونوحدك طائعين خاضعين لك كما حققتها بالعبودية وسمي العبد عبدا لذلته لمولاه وانقياده لأوامره «وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 4» لا نطلب المعونة إلا منك يا إلهنا ، وتقديم المفعول يكون دائما للحصر ، أي أن إعانتنا على عبادتك وأمورنا المحصورة فيك لا نقدر على القيام بها كما ينبغي إلا بقدرتك ومعونتك ، وقال في المعنى :
إليك وإلّا لا تشد الركائب ومنك وإلّا فالمؤمل خائب
وفيك والّا فالغرام مضيّع وعنك والا فالمحدّث كاذب
ثم أمر عباده أن يسألوه ما يهمهم شأنه ، وعلمهم كيف يدعونه بقوله عزّ قوله «اهْدِنَا» أرشدنا يا ربنا لسلوك الطريق «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 5» السويّ الموصل إلى رضاك ، قال ابن عباس : هو دين الإسلام وقال غيره : القرآن ، والحق أن يقال هو عام في كل ما من شأنه أن يكون عدلا حقا قال جرير :
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموادد مستقيم
واعلم أن السين قد ينوب عنها الصاد وبالعكس في كل كلمة فيها سين يأتي طاء أو خاء أو غين أو قاف ، نقول صراط وسراط ، وصخر وسخر ، ومصبغة ومسبغة ، وصيقل وسيقل ، وما شابهها ، أما في غيرها فلا نقول صلح سلح ،(1/117)
ج 1 ، ص : 118
كما لا نقول صالح صالح ، تدبر «صِراطَ» بدل من الأول «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ» مننت «عَلَيْهِمْ 6» بالهداية والتوفيق وهم الأنبياء ومن تابعهم على حقهم وصدّق بما أنزل عليهم قال :
لو لم ترد نيل ما نرجو ونطلبه من فيض جودك ما علمتنا الطلبا
«غَيْرِ» طريق «الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» الذين غيروا وبدلوا ما أمرتهم به فاستحقوا غضبك والغضب هو ثوران الدم لإرادة الانتقام قال عليه الصلاة والسلام اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه ، وإذا وصف اللّه به فالمراد منه الانتقام فقط وغضبه تعالى يلحق الكافرين دون المؤمنين «وَلَا» طريق «الضَّالِّينَ 7» عن طريقك السوي المائلين عن هدى أنبيائك والضلال الهلاك ومنه قوله تعالى : (أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) الآية 10 من سورة السجدة في ج 2 أي هلكنا وقوله تعالى : (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) الآية 13 من سورة محمد في ج 3 أي محقها والضلال في الدين الانصراف عن الحق.
مطلب المراد بالمغضوب عليهم والضالين ، وحكم (آمين) وعلوم الفاتحة :
ومن خصّ اليهود بالغضب والنصارى بالضلال في هذه الآية مستدلا ببعض الآيات القرآنية كقوله تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) الآية 26 من سورة المائدة في ج 3 وقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا) الآية 80 منها أيضا لم يصب الهدف ، لأن الغضب والضلال وردا في القرآن بحق جميع الكفار على العموم فلم يخص بها اليهود والنصارى قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً) الآية 166 من النساء في ج 3 وسياق الآية ينافي ذلك الإختصاص ، لأنها عامة والعبرة لعموم اللفظ عند عدم المخصص ولا مخصّص هنا.
واعلم أن كلمة آمين ليست من الفاتحة كما قدمناه في الخاتمة وانما يسن قراءتها بعدها بسكتة خفيفة لمواظبة النبي ومن بعده من الأصحاب والعلماء عليها حتى اليوم ومعناها أللهم استجب ، وقد جاء فيما رواه البخاري أن الإمام إذا قرأ غير المغضوب عليهم(1/118)
ج 1 ، ص : 119
ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وفيها لغتان المد والقصر ويكون المدّ بإشباع الهمزة وهو اسم فعل بمعنى استجب ، قال ابن عباس سألت رسول اللّه عن معنى آمين فقال :
(أفعل) وقال عليه الصلاة والسلام : لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب وقال انه كالختم على الكتاب.
الحكم الشرعي سنّية قراءتها بعد الفاتحة في الصلاة واسماع نفسه بها وقراءتها بعدها في الدعاء أيضا وعند مقطعات الأدعية لما ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا دعا أمّن الأصحاب على دعائه.
وهذه السورة لا ناسخ ولا منسوخ فيها ولا يوجد سورة ختمت بما ختمت به ، وليعلم أن هذه السورة اشتملت على أربعة أنواع من العلوم :
الأول علم الأصول ومعاقد معرفة اللّه تعالى وصفاته وإليه الاشارة بقوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) ومعرفة النبوات وهي المراد بقوله (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ومعرفة المعاد المؤمى إليه بقوله (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
الثاني علم الفروع وهو المعين بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وأسسه العبادات وما يتفرع عنها من المعاملات.
الثالث علم الكمال والأخلاق ومن إليه الإيعاز بقوله (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وفيه الوصول إلى الحضرة الصمدانية وبلوغ المراتب العلية (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) الآية 35 من سورة فصلت في ج 2.
الرابع علم القصص والأخبار عن الأمم السعيدة والشقية السالفة وإليه الالماع بقوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وفيها علوم أخرى لا محل لبسطها هنا وفقنا اللّه للصواب وألهمنا حب أولي الألباب وجعلنا منهم آمين.
يا رب لا تسلبنّي حبّها أبدا ويرحم اللّه عبدا قال آمينا
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/119)
ج 1 ، ص : 120
تفسير سورة المسد
عدد 6 - 111
ومثلها في العدد الفلق والفيل نزلت بمكة بعد الفاتحة ، وهي خمس آيات ، وعشرون كلمة ، وسبعة وسبعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، وتسمى سورة تبّت ، وسورة أبي لهب ، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة أو مختومة بما بدأت وختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «تَبَّتْ» أي هلكت وخسرت وخابت «يَدا أَبِي لَهَبٍ 1» عبد العزّى بن عبد المطلب بن هاشم عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمراد هو ذاته لأن العرب تعبر عن كل الشيء ببعضه ، وكنّي بأبي لهب لحسنه واشراق وجهه ، وكناه اللّه بذلك لشهرته بها دون الاسم لا لتكريمه ولأن في تسمينه باسمه نسبة العبد للشرك ، والكل عبيد اللّه لا يشاركه فيهم أحد ، واخبار بأنه من أهل النار ذات اللهب لتوافق كنيته بما يؤول إليه حاله ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه لم يرد اللّه له الخير ، وهو عم حبيبه وصفيه ، وأراده لصهيب وعمار وبلال وسلمان ، ورحم اللّه من قال :
لعمرك ما الإنسان الا ابن دينه فلا تترك التقوى اتّكالا على النسب
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك الحسيب أبا لهب
وهكذا يفعل اللّه ما يشاء ويحكم ما يريد «وَتَبَّ 1» وكان يقول ابن مسعود وقد تبّ لأنه هلك حقيقة ، ولا تجوز القراءة بها لما فيها من الزيادة وهي عبارة عن كلمة قالها ليست من القرآن ، راجع بحث القراءات في المقدمة ويقال عن هكذا زيادات (سيف خطيب) وقد جاء في التأويلات النجمية أن أبا لهب كان بداية أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم يحسن إليه ويكرمه ويقول إلى قريش : إن كان الأمر إلى محمد فلي عنده يد ، وإن كان لقريش فلي عندها يد أيضا ، لأنه كان يحسن إليها ، وبعد أن ظهر أمر الرسول أظهر له العداوة وصار يهينه ويؤذيه ، فأنزل اللّه فيه هذه السورة إعلاما بخسران يده عنده لتكذيبه إياه وخسران يده عند قريش أيضا لعدم بقاء يد لهم عند الرسول وإذلالهم لعدم الإيمان به وهذا أحسن ما قيل في أسباب نزول(1/120)
ج 1 ، ص : 121
هذه السورة أما ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : لما نزلت «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» الآية 215 من سورة الشعراء الآتية صعد النبي صلى اللّه عليه وسلم على الصفا ونادى : يا بني فهر ، يا بني عدي ، (بطون من قريش) ، حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولا لينظر ما هو الخبر ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال :
أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ ؟ قالوا نعم ما جرّبنا عليك إلا صدقا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فقال أبو لهب تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا! فنزلت السورة ، ونقله أكثر المفسرين.
مطلب سبب نزول السورة :
فلا يصح هذا أن يكون سببا لنزولها ، لأن هذه الآية لم تنزل بعد ولا يصح أن يكون المؤخر سببا للمقدم كما لا يصح أن يكون المقدم ناسخا للمؤخر.
على أن هذا لا يقدح في صحة الحديث لأنه صحيح لا غبار عليه وواقع عند نزول هذه الآية حقا إلا أنه لم يكن سببا لنزول السورة هذه ، ولا يبعد أن يكون قول أبي لهب لحضرة الرسول (تبّا لك سائر اليوم) ردا على ما جاء في هذه السورة المتقدمة على هذه الحادثة ، والأجدر أن يكون كذلك ، لأن العرب قد ترد على كلمة قيلت لهم ولو بعد حين ، ألم تر أن المعرّي حين قال للشاعر مهيار الديلمي لما سمع شعره بالعراق بعد أن سمعه في الشام «و أشعر من في العراق» عطفا على قوله قبل عشرين سنة وهو في الشام «أنت أشعر من في الشام» وهذا الشاعر له ديوان يحتوي على ثمانية عشر الف بيت ، وهو مطبوع وموجود في مكاتب مصر وغيرها وهذا من بعض ذكاء المعرّي.
وحين سقط في يدي أبي لهب يقول اللّه تعالى «ما أَغْنى عَنْهُ» أي لم ينجه من عذاب اللّه «مالُهُ وَما كَسَبَ 2» في دنياه وولد الرجل من كسبه أي ولا ولده.
أخرج أبو داود عن عائشة قالت إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه أي من ربحه.
وأخرجه الترمذي بلفظ الجمع أي إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم(1/121)
ج 1 ، ص : 122
وكان لأبي لهب ثلاثة أولاد عتبة ومتعب أسلما ، وعتيبة أهان حضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأساء الأدب معه بأمر أبيه وطلق ابنته أم كلثوم ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : أللهم سلط عليه كلبا من كلابك.
فقتله السبع على طريق الشام ومن أسماء السبع الكلب ، ثم هلك أبو لهب بالعدسة أي مرض الطاعون بعد وقعة بدر ، وهذا المرض يجتنب مخافة العدوى فاستأجروا له بعض السودان ، فدفنوه مخافة العار وإلا لتركوه وهذه العادة توجد حتى الآن عند بعض البدو ، فانهم إذا مات أحدهم بمرض يزعمون أنه يعدي فإنهم يتباعدون عنه ويتركونه ، وقد يهجرونه إبّان مرضه مخافة العدوى كالجدري والطاعون وغيره ، هذا وقد صدق اللّه فلم يغن عنه ماله ولا كسبه ، ولم يحل بينه وبين ما حل به ، وكان صاحب مواشي.
قال ابن مسعود : ولما دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أقرباءه إلى اللّه ، قال أبو لهب : إن كان ما تقول يا ابن أخي حقا فأنا افتدي نفسي بمالي وولدي ، فأنزل اللّه هذه السورة وهذا يصح إذا وقع منه نزولها لا عند نزول آية الشعراء الآنفة الذكر.
وبعد أن حقق اللّه وعده فيه بهلاكه في الدنيا على الصورة المذكورة أوعده بانه في الآخره أيضا (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ 3) تتوقد وتنلهب في قلبه لشدة حسده له في الدنيا وفي الآخرة تحرقه (وَامْرَأَتُهُ) أم جميل المتقدم ذكرها في بحث فترة الوحي في المقدمة وصفها بقوله «حَمَّالَةَ «الْحَطَبِ 4» في جهنم ، ذمها مع ما هي عليه من الشرف وكريم المحتد ، لأنها كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريق رسول اللّه وأصحابه وتنم عليهم لشدة عداوتها لهم.
مطلب ما قالت أم جميل وما قيل فيها :
ولما نزلت هذه الآية جاءت حاملة فهرا (حجرا صغيرا) وقالت لأبي بكر والنبي بجانبه :
لأفعلن كذا وكذا بصاحبك لأنه هجاني وأنا أماثله بالشعر وأنشدت :
مذمما أبينا ودينه قلينا
وأمره عصينا
وقد أعمى اللّه بصرها عن رؤية محمد صلى اللّه عليه وسلم ولما سأله أبو بكر قال : حجبتني عنها الملائكة «فِي جِيدِها» عنقها «حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ 5» ليف كانت تنقل فيه(1/122)
ج 1 ، ص : 123
الحطب ، فأبدلها اللّه سلسلة من حديد محماة في عنقها تعذب فيها في نار جهنم.
هذا وقد عيّر بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب فرد عليه بقوله :
ماذا أردت بشتمي أو بمنقصي أم ما تعيّر من حمالة الحطب
غراء شادخة في المجد غرتها كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب
أي وقد وقع منها ما وقع من قومها فذمها اللّه لا غير ، أي لم تنتقد في شيء تعاب به عند العرب إذ ذاك ولا بعد هذا واللّه أعلم.
أستغفر اللّه العظيم ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تفسير سورة التكوير
عدد 7 - 81 وتسمى كورت
نزلت بمكة بعد (المسد) وهي تسع وعشرون آية ومثلها في عد الآي الفتح والحديد ومائة وأربع كلمات ، وخمسمائة وثلاثون حرفا ، ويوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بلفظ إذا : هذه ، والواقعة ، والمنافقون ، والانفطار ، والانشقاق ، والزلزلة ، والنصر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «إِذَا» ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه «الشَّمْسُ» الجرم المعهود أحد الكواكب السيارة السبع وقد أخبر اللّه بما تؤول إليه عند إرادته ابادة هذا الكون بقوله «كُوِّرَتْ 1» لغت وغورت واضحات وذهب نورها «وَإِذَا النُّجُومُ» يشمل بقية السيارات وغيرها كالثريا والشعرى وبنات نعش وغيرها «انْكَدَرَتْ 2» اغبرّت وذهب ضوءها وانقضت من أماكنها وسقطت من مواقعها وفرط نظامها وتناثرت «وَإِذَا الْجِبالُ» الشامخات الرّواسي «سُيِّرَتْ 3» من أماكنها فارتجت عن وجه الأرض وصارت هباء «وَإِذَا الْعِشارُ» الإبل العشر التي مر عليها عشرة أشهر وهي أنفس مال العرب وكذلك غيرها من الحيوانات «عُطِّلَتْ 4» أهملت وتركت بلا راع لهول ما يشاهدون في ذلك اليوم وكانوا قبله يلازمونها «وَإِذَا الْوُحُوشُ» دواب البر والبحر «حُشِرَتْ 5» جمعت في المحل الذي يريده اللّه بذلك اليوم ليقتص بعضها من بعض ومن القرناء للجلحاء ثم تكون ترابا فيتمنى الكافر إذ ذاك(1/123)
ج 1 ، ص : 124
لو كان مثلها تخلصا من العذاب الأليم ، وفي هذه الآية إيذان بأن هول القيامة لا يقتصر على البشر وما يألفه من الحيوانات بل يتعدى إلى دواب البحر والبرّ وإلى الجمادات أيضا ، وهذا يكون بعد النفخة الثانية.
ثبتنا اللّه وعافانا ومن شره وقانا - راجع تفسير الآية الأخيرة من سورة النساء في ج 2 - «وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ 6» التهبت بالنار وذهب ماؤها وصارت تضطرم ، يؤيده قوله صلّى اللّه عليه وسلم : إن البحر غطاء جهنم أو طباقها.
وقيل امتلأت أخذا من سجر التنور إذا امتلأ حطبا وعليه يكون المعنى تفجرت على بعضها فصارت بحرا واحدا إلا أنه لم يبق بحر إذ ذاك (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) راجع هذه الآية 40 من سورة ابراهيم في ج 2 «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ 7» قرنت أرواحها بأجسادها وكل نفس مع من يشاكلها الصالحة بالصالحة والعاصية بالعاصية وألحق كل امرئ بشيعته «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ» الطفلة المقبورة حية «سُئِلَتْ 8» أي سئل وائدها فيقال له من قبل الملائكة «بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ 9» هذه الموءودة كبيرة كانت أو صغيرة وهكذا كل مقبور حيّ يسأل وائده عن سبب واده فيصمت إذ لا جواب له ولا عذر فيذبح الوائد في نار جهنم ذبحا زائدا على عذابه الذي يستحقه للقتل بلا ذنب وهذا الذبح لا يميته لأن النار لا موت فيها وإنما يذيقه عذاب الذبح ثم يبقيه حيا للعذاب الآخر.
أو سئلت هي سؤال تلطف لتقول : وأدني فلان بلا ذنب ، ويكون سؤال توبيخ لواندها بصرف الخطاب إليه ، وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى : (أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية 115 من المائدة في ج 3 وقرىء قتّلت بالتشديد ، وفي هذا دليل على أن أطفال المشركين لا يعذّبون وان التعذيب لا يكون بلا ذنب ، وهو كذلك في الآخرة أما في الدنيا فقد يقع من بعض الناس جورا ومن اللّه عدلا قال :
وله أن يؤلم الأطفالا ووصفه بالظالم استحالا
قال ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية تحفر حفرة عند ولادتها فتتمخض فإن ولدت جارية دفنتها وإن ولدت غلاما حبسته ، وكان الرجل في الجاهلية إذا أراد(1/124)
ج 1 ، ص : 125
بقاء ابنته حية ألبسها جبة صوف ورعاها بالمواشي فاذا أراد قتلها بعد قال لأمها زينيها لأذهب بها لا حمائها وكان قد هيأ لها قبرا فيأخذها اليه فيدفنها فيه ويهيل عليها التراب ، يا ويلهم مما يعملون.
مطلب أول من سنّ الوأد ومن منعه :
أول من سنّ الوأد ربيعة ، وذلك أنه أغير عليهم فنهبت بنت أميرهم وقيل زوجته وبعد الصلح أراد استردادها فخيرت بينه وبين من هي عنده فاختارت من هي عنده فغضب وسن الوأد ففعلوه غيرة وقلدهم غيرهم.
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت : سألت رسول اللّه في العزل (هو ان يجامع الرجل زوجته وينزل خارجا) فقال ذلك الوأد الخفي ومن هنا قال من قال بحرمته ، الصحيح أنه مكروه لما فيه من قطع النسل وأذية الزوجة.
وتسميته بالوأد الخفي لا يستلزم حرمته ولا يدل على أن حكمه حكم الوأد فقد صح عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال (الربا شرك خفي) ولم يقل أحد أن حكمه حكم الشرك.
مطلب الاستمناء باليد والعلاج لمنع الحمل :
أما الاستمناء باليد فجائز إذا خشي الزنا وإلا فهو حرام لورود : (ناكح اليد ملعون) وإن الاقتران باللعن يدل على الحرمة كما ذكره الأصوليون وما يستعمله بعض الناس من العلاجات لعدم الحمل فلا يتعدى الكراهة ، وهو دون العزل ، لأنه لا يحمل على الاسقاط لعدم تكون الجنين.
أما إذا كان استعمال الدواء لقطع النسل خوفا من عدم القدرة على تربيته كما يقوله بعض قليلي الإيمان ففيه عدم الاعتماد على اللّه والثّقة برزقه فهذا وليد الذين ذمهم اللّه بقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) الآية 152 من الأنعام في ج 2 ونظيرتها (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) الآية 31 من الاسراء الآتية وهؤلاء الذين لا يتوكلون على اللّه ويسيئون الظن به وهو القائل (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) قد(1/125)
ج 1 ، ص : 126
يخشى على إيمانهم.
أما استعمال الأدوية بعد تكون الجنين وقبل نفخ الروح فهو حرام لما فيه من معنى الإتلاف ، أما بعد نفخ الروح فهو حرام قطعا وفعله جناية لما فيه من إتلاف النفس وأول من منع الوأد صعصعة بن ناجية فافتخر به الفرزدق بقوله :
ومنا الذي منع الوائدات وأحيا الوليد فلم يوءد
وفي رواية : وجدّي الذي إلخ ، قال تعالى «وَإِذَا الصُّحُفُ» التي اثبتت فيها أعمال الخلق «نُشِرَتْ 10» للحساب والجزاء
«إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ 11» قلعت فطويت ونزعت «وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ 12» بالوقود فاشتد لهيبها للنكال والتنكيل بأعداء اللّه ، ونقل ونكّل يخفف ويشدد ويتوب أحدهما عن الآخر في المعنى الا أن المشدد يدل على التكثير «وَإِذَا الْجَنَّةُ» التي وعدها اللّه للمتقين «أُزْلِفَتْ 13» قربت منهم ليدخلوها وحينذاك «عَلِمَتْ نَفْسٌ» أي كل نفس فالتنوين للعوض وهو جواب إذا المكررة من أول السورة إلى هنا «ما أَحْضَرَتْ 14» لذلك اليوم من خير أو شر فيفوز الطائع ويهلك العاصي.
مطلب علامات الساعة :
قال أبيّ بن كعب : ستّ آيات قبل القيامة : بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ، فتحركت الأرض واضطربت وفزعت الانس والجن ، واختلطت الدواب والطير والوحش ، وماج بعضهم في بعض ، فذلك قوله تعالى «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» «أي سجرت» فحينذ تقول الجن للانس نحن نأتيكم بالخبر فينطلقون إلى البحر فإذا هو نار تأجج ، فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السفلى وإلى السماء السابقة العليا إذ جاءتهم ريح فأماتتهم.
وقال ابن عباس هي اثنتا عشرة خصلة ست في الدنيا وست في الآخرة.
فالتي في الدنيا أي في آخر يوم من أيامها من أول السورة إلى (سُجِّرَتْ) والتي في الآخرة من (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) إلى (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) ، وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : الشمس والقمر يكوران يوم القيامة ، وعن ابن(1/126)
ج 1 ، ص : 127
عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، (وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، (وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) قال تعالى «فَلا أُقْسِمُ» لا هنا للتأكيد وليست بزائدة كما قاله بعض المفسرين لأن كلام اللّه لا زيادة فيه كما أنه لا نقص فيه البتة كما نوهنا به في بحث القراءات في المقدمة وسيأتي لهذا البحث صلة في سورة القيامة الآتية.
وأعلم أنه لا يقال ما معنى القسم من الحضرة الإلهية لأن المؤمن يصدقّه القسمين الأولين بقوله : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) الآية 18 من آل عمران في ج 2 والأقسام الموجودة في القرآن على نوعين قسم بنفسه الكريمة وهي في سبعة مواضع فقط : 1 (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) الآية 53 من سورة يونس ، 2 (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) الآية 92 من سورة الحجر ، 3 (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) من سورة المعارج ، 4 (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) الآية 23 من سورة الذاريات في ج 2 ، 5 (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية 64 من سورة النساء ، 6 (قُلْ بَلى وَرَبِّي) الآية 7 من سورة التغابن في ج 3 ، 7 (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) الآية 68 من سورة مريم الآتية وقسم بمخلوقاته وهو كثير مثل : (وَالضُّحى ، وَالشَّمْسِ ، وَاللَّيْلِ ، وَالْعَصْرِ ، وَالتِّينِ) وغيرها.
واقسم اللّه «بِالْخُنَّسِ 15» ثم فسرها على طريق عطف البيان فقال «الْجَوارِ الْكُنَّسِ 16» وهي النجوم الجاريات الباديات ليلا المستترة نهارا.
شبه اللّه تعالى ظلام الليل بكناس الأسد لاجتماع الستر في كل فكأن النجوم حينما تغيب وتتأخر طيلة النهار مثل الأسد الذي يخنس في كناسه ثم يظهر وإنما أقسم فيها لما فيها من النفع للبشر وغيره ، قال علي كرم اللّه وجهه هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد فإنها تخنس في مجاريها تحت ضوء الشمس والقمر وهي تتمة السيارات السبع الشمس والقمر وانها تجري في محورها بانتظام(1/127)
ج 1 ، ص : 128
لا يتغير ولا يتبدل إلى اليوم الذي نوّه به والخنس تأخر الأنف عن الشفة مع الارتفاع قليلا في الارنبة ويوصف به بقر الوحش والظباء «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ 17» أقبل ظلامه وأدبر لأن عسعس من الأضداد يكون للاقبال والأدبار ومثله الصريم يطلق على الليل والصبح ، والسدفة الظلمة والضياء ، الجون الأسود والأبيض «وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ 18» بدا واسفر واقبل ضوءه وقيل انه شبه الليل بالنسمة (المكروب) وهو الحيوان الصغير الذي قد لا يرى الا بالمكبرات لأنه مخزون فاذا تنفس الصبح وجد رائحته فكأنه تخلص من المخزن فعبر بالتنفس عنه فهو استعادة لطيفة وانما قال تنفس لأن في أقبال الصبح روحا ونسيما فيجعل ذلك نفسا على المجاز وجواب القسم قوله (انه) اي القرآن العظيم مطلب مكانة جبريل وقوته :
المنزل عليك يا حبيبي «لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ 19» علينا هو جبريل عليه السلام لأنه تلقاه من ربه ونزل به على محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهذا الرسول «ذِي قُوَّةٍ» قدرة عظيمة على ما يكلفه به ربه وله مقام عال «عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ» تعالت عظمته «مَكِينٍ 20» في المنزلة والجاه مكانة ورفعة وشرفا
«مطاع» في السموات من قبل الملائكة أجمع ومن طاعتهم له امتثالهم أمره يفتح أبواب السموات ليلة المعراج ومن قوته وشدة بأسه اقتلاع قرى قوم لوط من الماء الأسود اي من أقصى تخوم الأرض المتصلة بالماء وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها بأهلها اجمع فأنه أبصر إبليس يوما يكلم عيسى عليه السلام على عقاب الأرض المقدسة فنفحه بجناحه فالقاه إلى أقصى جبل بالهند وانه صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وانه يهبط إلى الأرض ثم يصعد إلى السماء في اسرع من رد البصر «ثَمَّ أَمِينٍ 21» على الوحي الذي يتلقاه من ربه فيوصله إلى الأنبياء كما أخذه «وَما صاحِبُكُمْ» يا اهل مكة المنزل عليه هذا القرآن المجيد «بِمَجْنُونٍ 22» كما تزعمون وان ما يقوله ليس من نفسه بل هو من عند اللّه ، أقسم جل شأنه بأن هذا القرآن نزل به جبريل من عنده وأخبرهم بأن جبريل أمين على وحيه وأقسم لهم بأن محمدا ليس(1/128)
ج 1 ، ص : 129
مجنونا كما يقولون ولم يؤثر ذلك فيهم لهذا قال تعالى (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الآية 46 من سورة الحج في ج 3 وقال جل قوله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) من الآية 115 من الأعراف الآتية ، وهذا قسم آخر على تصديق ما اخبر به محمد ورقه بن نوفل الذي مر ذكره في مطلب الوحي في المقدمة بانه أي جبريل حقيقة وتلقى منه أوائل سورة العلق المارة بقوله «وَلَقَدْ رَآهُ» وعزتي وجلالي لقد رأى محمد جبريل على صورته الحقيقية «بِالْأُفُقِ» الشرقي على القول الصحيح وما قيل بالغربي ليس بشيء وهو قوله بالحديث المار في المقدمة في بحث نزول الوحي انه جالس على كرسي بين السماء والأرض «الْمُبِينِ 23» الظاهر البين الذي لا خفاء عليه روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال رسول اللّه لجبريل إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها بالسماء ، فقال لن تقوى على ذلك ، قال بلى ان شاء اللّه ، قال فأين تشاء ان اتخيل لك ؟
قال بالأبطح ، قال لا يسعني ، قال فبمنى ، قال لا تسعني ، قال بعرفات ، قال لا تسعني ، قال بحراء ، قال ان يسعني ، فواعده ، فخرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم في ذلك الوقت فاذا هو بجبريل قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض فلما رآه صلّى اللّه عليه وسلم خر مغشيا عليه فتحول جبريل عن صورته وضمه إلى صدره وقال يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت اسرافيل ورأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وان العرش لعلى كاهله ، وانه ليتضائل أحيانا من مخافة اللّه جل جلاله وسما شأنه حتى يصير كأنه حصو (حيوان صغير كالعصفور) حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته وهذه الرؤية التي وقعت ليلة الاسراء غير التي اخبر اللّه عنها في هذه السورة بل التي ذكرها في بحث نزول الوحي وانما أتى بها هنا تأييدا لرؤيته الأولى التي أتت عليه من غير طلب منه ورجع يرجف بها فؤاده من شدة ما لحقه من الخوف كما تقدم مفصلا قال تعالى «وَما هُوَ» اي رسولكم محمد «عَلَى الْغَيْبِ» مما يخبر به من ت (9)(1/129)
ج 1 ، ص : 130
الوحي واخبار السماء وما اطلع عليه مما كان غائبا في علمه لوحينا اليه «بضّنين» بخيل لا يبوح به إليكم وقرىء بظنين بالظاء ، أي ليس بمثلهم لأنه أمين أرسل مبلغا ما يوحى اليه من ربه إلى البشر كما تلقاه ، اي انه لا يتهم بالبخل لأنه لا يريد أجرا على ما يبلغه كالكاهن ولا يظن به انه يزيد او ينقص من الوحي وأنتم تسمونه الأمين فإذا كان أمينا على ما عندكم أفلا يكون أمينا على ما عند اللّه ؟
والقراءة بالظاء حسنة على التأويل الذي جرينا عليه لأن قومه لا يتهمونه بالبخل ويعرفون كرمه ، ولو أريد البخل على القراءة بالضاد لقال (بالغيب) لأن فعله يتعدى به ويقال بخل به لا عليه فلا تجوز «وَما هُوَ» أي القرآن بقول «شَيْطانٍ رَجِيمٍ 25» تتلقاه الكهنة والسحرة كما تزعم قريش ولا عن لسان الشيطان بل وحي إلهي من اللّه إلى رسوله «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ 26» فيما تتقولون مذاهب شتى لا نصيب لها من الصحة ، وهذا استفهام تضليل لهم كما يقال لتارك الجادة المستقيمة إذا ضل السبيل وسلك السبل العديدة المنشعبة عن الطريق يمينا وشمالا : اين تذهب فقد ضللت أي اي طريق تسلكونه ، أبين من طريق محمد الذي فيه الهداية إلى النجاة «إِنْ هُوَ» ما هذا القرآن المنزل عليه «إِلَّا ذِكْرٌ» عظة وعبرة «لِلْعالَمِينَ 27» اجمع وهو تذكرة ايضا «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ» ايها الناس «أَنْ يَسْتَقِيمَ 28» على الحق ويتمسك بطريق الاستقامة وذلك لان مشيئة العبد بسلوك ما يوصل المعبود موقوفة على مشيئته قال سلمان بن موسى لما نزلت هذه الآية قال أبو مهل ، ذلك إلينا ان شئنا استقمنا وإلا فلا فأنزل اللّه بعدها «وَما تَشاؤُنَ» أيها الناس فعل شيء ولا تركه «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 29» فعله لأنه مالك الخلق كلهم وأعمالهم فلا يقدر أحد ان يعمل خيرا الا بتوفيقه ولا شرا الا بخذلانه.
وفقنا اللّه لما به سعادة الدارين آمين ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى صحبه أجمعين.(1/130)
ج 1 ، ص : 131
تفسير سورة الأعلى
عدد 8 - 87
نزلت في مكة بعد التكبير ، وهي تسع عشرة آية ، واثنتان وسبعون كلمة ، ومائتان وواحد وتسعون حرفا ، وتسمى سبح ومثلها في عدد الآي سورتا العلق والانفطار ، ويوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بلفظ التسبيح واحدة بلفظ الأمر وهي هذه ، وثلاث بلفظ الماضي وهي : الحديد والحشر والصف ، واثنتان بلفظ المضارع وهي : الجمعة والتغابن ، وواحدة بالمصدر وهي الاسراء.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله : «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ» نزهه عما يقول الملحدون مما لا يليق بذاته وهو المستحق للتقديس «الْأَعْلَى 1» علوا يليق بذاته لا علو مكان تعالى اللّه عنه الموصوف بالعلو أي القهر والاقتدار «الَّذِي خَلَقَ» كل شيء وأوجده من لا شيء «فَسَوَّى 2» ما خلقه بما يناسبه إذ جعل كل خلقه مستويا معتدلا لا تفاوت فيه محكما منسقا سبحانه فقد أحسن كل شيء خلقه لأن ما يصدر عن الحكيم لا يكون الا كذلك «وَالَّذِي قَدَّرَ» أرزاق مخلوقاته تقديرا حكيما لكل بحسبه «فَهَدى 3» كلا منها لطريق اكتسابه ويسّر كلا لما خلق له وسهل له سلوكه فجعل كلا يتناول ما قسم له بوسائل مختلفة والهدف واحد «وَالَّذِي أَخْرَجَ» في الأرض انواع النبات وأظهر منها «الْمَرْعى 4» للحيوان وصيره أنواعا وأصنافا يناسب كلا منها فلم يترك صغيرا ولا كبيرا إلا وخلق له ما يرعاه وينفعه «فَجَعَلَهُ» أي ذلك المرعى بعد أن كان أخضر وأصفر وأحمر وما بينهما في الألوان العجيبة والأشكال الغريبة البديعة «غُثاءً» هو ما يرى فوق السيل وما يقذفه على جانبي الوادي من هشيم الحشيش وغيره «أَحْوى 5» مائلا إلى السواد يابسا وقد يتحجر بكر الأيام ولا يبعد ما يقوله الأثريون بأن الفحم الحجري أصله نبات والحوادث تدل عليه وهو في معجزات القرآن العظيم إذ لا يوجد في نزوله على وجه الأرض من يعرف هذا غير منزله جل وعلا الا فليعتبر المعتبرون «سَنُقْرِئُكَ» يا محمد من معلومات غيبنا ومكنونات علمنا مما لا يعلمه أحد «فَلا تَنْسى 6»(1/131)
ج 1 ، ص : 132
ما نقرئك أبدا ، ونظير هذه الآية الآية 16 فما بعدها من سورة القيمة الآتية كان صلى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يكد يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم بها رسول اللّه مخافة نسيانها فأنزل اللّه عليه هذه الآية فأمن نسيان شيء من بعدها.
وهي بشارة له من ربه منّ عليه بها بحفظ وحيه وأن لا يفلت منه شيء.
وقيل المراد فلا تنسى العمل به ، والأول أولى بالمقام لإنه ابعد ان يقع منه ذلك «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» وقوعه ولم يشأ جل شأنه أن ينسى حبيبه شيئا من كلامه ، جاء في الحواشي العصامية على أنوار التنزيل ان الاستثناء على هذا الوجه لتأكيد عموم النفي لا لنقض عمومه ، فهو استثناء من أعم الأوقات أي فلا تنسى في وقت من الأوقات شيئا من الوقت الا وقت مشيئة اللّه نسيانك ، لكنه سبحانه لا يشاء ذلك وهذا على حد قوله تعالى : «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» الآية 108 من سورة هود من ج 2 ، وإليه ذهب الفراء فقال أنه تعالى ما شاء أن ينسى رسوله إلا أن المقصود من الاستثناء بيان أن اللّه تعالى لو أراد أن يصيره ناسيا لقدره عليه كما في قوله : «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» الآية 86 في سورة الاسراء الآتية ، ولا شك أنّا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك ولو شاء لفعل ولكن يأبى كرمه أن يسلب حبيبه شيئا منّ به عليه وشرّفه تفضلا منه ، كيف وقد تعهد له «بحفظه راجع الآية 9» في سورة الحجر من ج 2.
مطلب عصمة النبي من النسيان :
هذا وقد قال له «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» الآية 65 من سورة الوتر من ج 2 مع القطع بأنه لم يشرك البتة ، وفائدة ذلك ان يعرفه كمال قدرته حتى يعلم أن عدم النسيان من فعله وإحسانه وليعرف الغير ذلك ، فعلى هذا يكون نفيا مجازيا من باب قوله من المعنى :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب(1/132)
ج 1 ، ص : 133
وما قيل من أن المراد بالمستثنى هو ما نفى اللّه نسخه أو ارتفاع حكمه أو تلاوته فليس بسديد لأن النسخ لا يأتي بمقابلة القراءة حتى يستثنى منها ، وما استدل به على هذا في حديث عائشة الذي أخرجه الشيخان بأنه كان فيما أنزل عليه عشر معلومات فنسخن بخمس معلومات وأنه صلّى اللّه عليه وسلم نسي الجميع بعد تبليغه وبقي ما بقي عنده بعض من سمعه منه بعيد جدا عن الحقيقة ، لأنه لا يعقل أن المنزل عليه الذي بلغه ينساه ويبقى بفكر الغير ، ولأن رفع الحكم يؤدي إلى ترك التلاوة لعدم التعبّد بها ، ورفع التلاوة يؤدي لعدم اخطارها بالبال لعدم بقاء الحكم.
وما قيل ان المراد إلا ما شاء اللّه أن تنساه ثم تذكره بعد استدلالا بما جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة قالت : سمع رسول اللّه رجلا يقرأ في سورة والليل فقال رحمه اللّه لقد ذكرني كذا وكذا ، وفي رواية كنت أسقطهن من سورة كذا وفي رواية أسقط آية في قراءته في صلاة الصبح فحسب أبي أنها نسخت ، فسأله عليه السلام فقال نسيتها ، غير وجيه وحاشا رسول اللّه أن ينسى شيئا تعهد له به ربه وان هذا النسيان الوارد في هذه الأحاديث غير مقصود بهذه الآية ولا متعلق بها وان الذكر بعد النسيان وان كان واجبا إلا أن العلم به لا يستفاد منه في هذا المقام ولا يصلح أن يستدل به.
راجع بحث تهديد من نسي القرآن وبحث ترتيب آي القرآن في المقدمة تحظ بما يزيل عنك ما يحدس ببالك قال تعالى «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ» في أقوال عباده وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم «وَما يَخْفى 7» منها وما يحوك في صدر الإنسان قبل أن يخش به «وَنُيَسِّرُكَ» يا أكمل الرسل ونوفقك «لِلْيُسْرى 8» الطريقة التي هي أهون وأكمل من كل ما تريد ونجعل شريعتك يسرة سمحة لا غرابة فيها ولا تعقيد ولا حرج ولا شدة قال عليه الصلاة والسلام بعثت بالحنفية السمحاء أي بين الرخاء والقسوة «فَذَكِّرْ» يا حبيبي قومك أجمع بما نوحيه إليك وعظهم به «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى 9» أي ما نفعت وجاءت إن هنا شرطية استبعادا للتأثير فيهم لما هم عليه من عتو وعناد ، وقد يراد بمثلها التذكر(1/133)
ج 1 ، ص : 134
مطلقا غير مقيد بالنفع ، أي ذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع فتكون من معضل المفهوم ، قال تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) الآية 21 من سورة الغاشية في ج 2 لأن الذكرى إذا لم ينتفع فيها الكافر ينتفع بها غيره ، قال تعالى :
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 58 من الذاريات في ج 2 أيضا يدل عليه قوله تعالى «سَيَذَّكَّرُ» بوعظك وإرشادك «مَنْ يَخْشى 10» اللّه فيخاف عاقبة أمره
َتَجَنَّبُهَا»
الكافر الذي ينكر المعاد والنبوة والتوحيد وهولْأَشْقَى 11»
من غيره كثير الإثم المنهمك في المعاصي «الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى 12» نزلت في الوليد بن المغيرة أو في عتبة بن ربيعة واضرابهما ممن ينكرون البعث المتوغلين في عداوة الرسول ، ولذلك وصف المراد منهم بها بالأعظم شقاوة بوصف النار التي يؤول أمره إليها بالأكبر عذابا وهي نار الآخرة لأن نار الدنيا جزء من سبعين جزءا منها ، فكل من تباعد عن الذكرى في الدنيا يقربه اللّه في الآخرة لنارها «ثُمَّ» يكون حاله فيها كما ذكره اللّه تعالى «لا يَمُوتُ فِيها» فيستريح من عذابها لأن دار الآخرة خلود بلا موت «وَلا يَحْيى 13» حياة طيبة بل تعسة مشوبة بأنواع العذاب.
مطلب المراد بالصلاة والزكاة ومما تأخر حكمه عن نزوله :
«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى 14» تطهر من الشرك ونظف ثوبه وبدنه ومكانه «وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ» وحده ولم يشرك معه غيره «فَصَلَّى 15» له مطلق صلاة ولو دعاء لأن الصلاة في اللغة الدعاء قال أكثر المفسرين إن المراد بالزكاة هنا زكاة الفطر وبالصلاة صلاة العيد.
وعليه فيكون المعنى قد أفلح من زكى عمله وصيامه بزكاة الفطر وخرج يكبر إلى مصلّى العيد فصلّى صلاته أو الصلاة المفروضة عليه وقال هذا الزركشي في البرهان ورواه عن ابن عمر ، ولكنه لا يصح إلا أن يقال بأن هذه الآية مما تأخر حكمه عن نزوله أي مما تقدم القول فيها على الحكم لأنها مكية وليس بمكة صلاة عيد ولا زكاة فطر لوجوبها في المدينة ولأن الصلاة المفروضة وان كانت فرضت بمكة إلا أنها لم تفرض بعد ، وعليه فتكون من قبيل الإخبار(1/134)
ج 1 ، ص : 135
بالغيب أي بأنه سيكون ذلك لسابق علم اللّه به وأمثال هذا في القرآن كثير منها (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) الآية الثانية من سورة البلد الآتية فهذه مكية ظهر أثرها يوم الفتح حتى قال عليه السلام : (أحلت لي ساعة من نهار) ومنها قوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) الآية 11 من سورة ص الآتية فقد وعده اللّه وهو بمكة أنه سيهزم جندا من المشركين ، وكذلك قوله جاء الحق (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) الآية 49 من سورة سبأ في ج 2 فإنه ظهر مفعولها يوم الفتح أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال : دخل النبي مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود كان في يده ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) الآية 81 من الإسراء الآتيه ويقول (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) وكذلك قوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) الآية 46 من سورة القمر الآتية فقد بان مفعولها يوم بدر حتى أن عمر بن الخطاب قال كنت لا أعلم أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يثب في الدرع ويقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وغير ذلك فيما يأتي ، قال تعالى «بَلْ تُؤْثِرُونَ» على العموم والإطلاق وهو إضراب عن مقدر ينساق الكلام اليه كأنه قيل بعد بيان الفلاح وجهته وطريقه الموصل إليه : انكم لا تفعلون ذلك ولا تميلون إليه بل تفضلون أيها الناس «الْحَياةَ الدُّنْيا 16» الفانية «و» الحال «الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى 17» لكم منها لأن نعيمها دائم والباقي خير من الفاني ، قال عرفجة : كنا عند ابن مسعود نقرأ هذه الآية فقال : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة قلنا لا قال لأن الدنيا أحضرت وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها وان الآخرة زويت وتغيبت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل.
ومن المفسرين من خص هذه الآية بالمؤمنين وليس بشيء إذ لا قيد يقيدها ، كما أن من قال إنها خاصة بالكفار على معنى أنهم لا يؤمنون بها على حد قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) الآية 7 من سورة يونس في ج 2 غير وجيه لأن المطلق يجب أن يبقى على إطلاقه حتى يقيد ، كما أن العام يجب أن يبقى على عمومه حتى(1/135)
ج 1 ، ص : 136
يخصص والآية المحتج بها مقيدة كما يفهم من ظاهرها لأن الذين لا يرجون الآخرة هم منكر والبعث ، والذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا إليها قد صرفوا النظر عن الآخرة فيجوز أن يكونوا الكفار أيضا ، أما هذه الآية فليس فيها ما يحصرها على المؤمن والكافر فأجريناها على إطلاقها.
مطلب ما في صحف ابراهيم وموسى والحكم الشرعي في العيد :
قال تعالى «إِنَّ هذا» أي قد أفلح إلى هنا «لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى 18» التي نزلت قبل القرآن على الأنبياء والرسل ونظير هذه الآية الآيتان 36 و37 من سورة والنجم والآية 196 من الشعراء ثم أبدل من عموم الصحف الأولى «صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى 15» أي أن ذلك كله مذكور فيها وان جميع الشرائع متفقة على ما في صحفهما وما أنزل على غيرهما ممن تقدمهما داخل فيهما من حيث أصول الدين الثلاثة ، راجع بحثها في المطلب الحادي عشر من المقدمة.
عن أبي ذر قال : دخلت المسجد فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم للمسجد تحية ، فقلت وما تحيته يا رسول اللّه ؟ قال ركعتان «أراد صلّى اللّه عليه وسلم مسجده الشريف وهكذا حكم المسجد الأقصى وسائر المساجد ، أما المسجد الحرام فتحيته الطواف» قلت يا رسول اللّه هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف ابراهيم وموسى ؟ قال أباذر اقرأ قد أفلح إلخ أي من هذه السورة ، قلت يا رسول اللّه فما كانت صحف موسى ؟ قال : كانت كلها عبرا :
عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن ، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يغضب ، عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل.
أخرجه رزين في كتابه وذكره ابن الأثير في جامع الأصول.
وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال قلت يا رسول اللّه كم أنزل اللّه من كتاب ؟ قال مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
قلت يا رسول اللّه فما كانت صحف ابراهيم ؟ قال أمثال كلها : أيها الملك المتسلط(1/136)
ج 1 ، ص : 137
على المبتلي المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عنّي دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر ، على العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات : ساعة يناجي بها ربه وساعة يحاسب بها نفسه ويتذكر ما صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عونا لتلك الساعات واستجماما للقلوب وتفريغا لها ، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقلّ من الكلام إلا فيما يعنيه.
على العاقل أن يكون طالبا لثلاث مرمّة «هي شفة كل ذات ظلف ، والشفة للانسان فقط ، والبرطام وجمعه براطم يطلق على الشفة الغليظة فقط» والمراد منها هنا ما يحتاجه الإنسان من القوت بدليل قوله لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم.
وقرىء إبرهم بلا الف وياء ويفتح الهاء وكسرها وقرىء ابراهام وابراهيم وهو اسم أعجمي وقيل عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر.
مطلب في صلاة العيد والحكم الشرعي فيها :
صلاة العيد واجبة عند أبي حنيفة ويسن أن يقرأ فيها هذه السورة وسورة الغاشية وفي عيد النحر الضحى والكوثر للأحاديث لواردة فيها ، ويسن التكبير من طلوع الفجر من يوم عرفة في عيد الأضحى إلى عصر اليوم الرابع من أيام العيد الخامس من عرفة وفي عيد الفطر من طلوع هلال شوال إلى أن يصعد الإمام المنبر للخطبة أو إلى قيام الصلاة وسنة عند الشافعي وأحمد ومالك رضي اللّه عنهم.
وزكاة الفطر واجبة.
ولها تفصيل في كتب الفقه فراجعها.
هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في القرآن هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان.(1/137)
ج 1 ، ص : 138
تفسير سورة الليل
عدد 9 و92
نزلت بمكة بعد الأعلى وهي إحدى وعشرون آية ، وإحدى وسبعون كلمة وثلاثمائة وعشرة أحرف ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءه بما بدئت به ولا مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى مقسما عزّ قسمه : (وَاللَّيْلِ) الذي هو سكن يأوى فيه جلّ الحيوان إلى مأواه.
واعلم أنه لا يقال كيف يقسم اللّه بخلقه وقد نهى رسوله عن الحلف بغيره لأن القسم يكون مما يعظمه المقسم ولا يجوز تعظيم غيره بالحلف لأن القسم بمصنوعاته يستلزم القسم به ولهذا قال بعضهم في القسم حذف مضاف أي ورب الليل ، ورب القمر ، وهكذا على أن اللّه تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لعباده أن يقسموا ، الآية ، وقد أقسم بحضرة رسوله «بقوله لَعَمْرُكَ» الآية 72 من سورة الحجر في ج 2 ، ليعرف الناس عظمته ومكانته عنده ، وهو لا يسأل عما يفعل «إِذا يَغْشى 1» النهار بظلمته ، ويغطي نور الشمس «وَالنَّهارِ» واقسم به لأن جل الحيوان يسعى فيه لطلب رزقه ، وإنما قلنا جل الحيوان لأنه يوجد حيوانات وحشرات على خلاف ذلك «إِذا تَج
مطلب في أنواع الخلق :
«وَما خَلَقَ» ، ثم أق لغير العاقل ، والأولى إجراء الآية على عمومها.
وخص بعض المفسرين «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » بآدم وحواء عليهما السلام ، وقال : إنما أقسم بهما لأنهما ابتداء خلقه ، وإذا كان أقسم بالشمس والضحى وغيرهما ، فلأن يقسم بأول(1/138)
ج 1 ، ص : 139
أنبيائه أولى ، لانهما أفضل من الجميع وهو كذلك ، لكن ما جرينا عليه اولى لأن الآية لم تقيد أو تخصص.
وجدير بأن تبقى على إطلاقها وعمومها.
واعلم أن أنواع الخلق من البشر أربعة : من غير أب وأم وهو آدم ، ومن أب بلا أم حواء ، ومن أم بلا أب عيسى ، ومن أم وأب سائر البشر ، وغير البشر أنواع.
راجع تفسير الآية 45 من سورة النور في ج 3 ، وجواب القسم «إِنَّ سَعْيَكُمْ» أيها الناس في هذه الدنيا وعملكم فيها «لَشَتَّى 4» مختلف متفرق متباين ، وهي جمع شتيت ، وأتى بلفظ الجمع باعتبار ضمير سعيكم ، والمعنى أن منكم من يسعى لخلاص نفسه ، ومنكم من يسعى لهلاكها ، ومنكم من يجمع بين الأمرين.
روى أبو مالك الأشعري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
ثم بين ما يؤول اليه ذلك الاختلاف بقوله جل قوله : «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى » ماله في سبيل اللّه وصلة الرحم والنفقة في طريق الخير «وَاتَّقى 5» ربه فيما أنعم به عليه ، واجتنب ما حرم عليه وفعل ما أمر به «وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى 6» كلمة التوحيد ، وأيقن أن اللّه يخلف له ما أنفقه في طاعته ، وانه يثيبه عليه في الآخرة ، وآمن بما وعد به المتقين في الجنة المعبر عنها بالحسنى في الآية 26 من سورة يونس في ج 2 ، وقيل : ان الحسنى هي ملة الإسلام وهو كذلك إلا أنها غير مراده هنا واللّه أعلم «فَسَنُيَسِّرُهُ» في الدنيا «لِلْيُسْرى 7» الخلال الطيبة والأفعال الحسنة ونسهل له كل ما نرضاه له من أعمال وأقوال توصله إلى الجنة «وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ» بماله فكنزه ومنع الفقراء من حقهم فيه ولم يصرف جوارحه لما خلقت لها في الدنيا «وَاسْتَغْنى 8» عما قدره اللّه من الثواب المخصص للمتقين فى سبيله وخصّ ماله للشهوات وأنفقه فيما لا يرضي ربه «وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى 9» بكلمة التوحيد والخلف بالوعد والجنة وما وعد اللّه المتقين فيها لأجله «فَسَنُيَسِّرُهُ» بالدنيا التي آثرها على الآخرة «لِلْعُسْرى 10» الخلال الخبيثة والأنكال المذمومة والأحوال السيئة والأعمال القبيحة من كل ما يغضب الرب من الخصال المؤدية إلى النار التي لا أعسر من عذابها.
روى البخاري ومسلم عن علي رضي اللّه عنه قال : كنا في جنازة في بقيع الفرقد ، (1/139)
ج 1 ، ص : 140
فأتانا رسول اللّه فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة (عصى رفيعة في رأسها مثل الهلال) فنكس وجعل ينكت (يضرب الأرض) بمخصرته ثم قال : ما منكم أحد إلّا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة.
زاد مسلم : إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة (وفي روايته بدل أحد نفس.
فقالوا يا رسول اللّه : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ فقال : اعملوا فكل ميسّر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فيعد لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فيعدّ لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى ) إلى (لِلْيُسْرى ).
وفي هذا دليل أهل السنة في القدر وصحة قولهم فيه وان التوفيق والخذلان والسعادة والشقاوة بيد اللّه يسرها لمن يشاء من عباده ووجوب العمل للمرء بما سبق له في الأزل ويستدل على الإنسان من أي الفريقين هو بعمله ، فإذا عمل عمل أهل السعادة من البرّ والتقوى فهو من أهل الجنة أزلا ، وان عمل عمل أهل الشقاوة من الشر والعصيان فهو من أهل النار ، وعمل كل دليل عليه مطلب قوة إيمان بلال :
نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي اللّه عنه لما اشترى بلال بن رياح بن حمامة من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه لأنه كان صادق الإسلام طاهر القلب ، وكان أمية يعذبه فيبطحه بالشمس إذا حميت على ظهره ثم يضع الصخرة الحامية العظيمة على صدره ويقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد ، فيقول وهو في تلك الحالة : أحد أحد ، بالتخفيف أي اللّه واحد ، وبالتشديد أي لا تشرك مع اللّه أحدا.
فمر به أبو بكر يوما وهم يصنعون به ذلك فقال لأمية ألا تتقي اللّه في هذا المسكين ، قال : أنت أفسدته فأنقذه مما ترى ، فقال : عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى وهو على دينك أعطيكه ، قال : قد فعلت ، فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا وأعتقه وأعتق ست رقاب معه.
أما ما قيل : إنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري الذي اشترى النخلة فلا يصح لأن حادثه النخلة في المدينة ، وهذه السورة مكية والحادثة في مكة.
فانظر رعاك اللّه إلى إيمان هذا العبد كيف كان في بداية الإسلام.
ولعمري لو عذب الآن بعض الناس بالضرب لكفر هلعا ، ولو أرشي بأوقية(1/140)
ج 1 ، ص : 141
لتنصر طمعا ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه ،
قال تعالى : «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ» أي أمية بن خلف الذي فعل ما فعل في بلال بقصد تكفيره «إِذا تَرَدَّى 21» بأكفانه وطرح في قبره ، ثم هوى وسقط في نار جهنم فهل يغنى عنه في الآخرة ماله وولده وهل يحول دون هلاكه فيها ؟ كلا لا شيء ينجيه من ذلك «إِنَّ عَلَيْنا» نحن إله الكل «لَلْهُدى 12» فتبين طريقه من طريق الضلال ، وعلى العبد سلوك أيهما شاء «وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ» فنثيب من اهتدى «وَالْأُولى 13» لنا أيضا نيسر لخيرها من أراد هدانا فكلاهما في تصرفنا كما نشاء.
فمن طلبهما من غيرنا آب بالخسران وأخطأ الطريق السوي ، ولا يضرنا ترككم الاهتداء له لأن مضرته عليكم ، ثم التفت جل شأنه من الاخبار إلى الخطاب فقال : «فَأَنْذَرْتُكُمْ» يا أهل مكة ويا أمة محمد «ناراً تَلَظَّى 14» بتاء واحدة ، وقرأ بعضهم بتاءين أي تتلظى وتتوقد وتتلهب وتتوهج أجارنا اللّه منها «لا يَصْلاها» يحرق بها «إِلَّا الْأَشْقَى 15» الكافر المتوغل بالكفر والشقاء «الَّذِي كَذَّبَ» الرسل ومجد الآلهة «وَتَوَلَّى 16» عن الإيمان مصرا على كفره «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى 17» المبالغ في تقواه المتقى الكفر ودواعيه المشرّب بالإيمان ومراميه «الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ» للمساكين طلبا لما عند اللّه من الثواب في الآخرة «يَتَزَكَّى 18» يطهر نفسه من دون الكفر فيلقى اللّه تعالى طاهرا من شوائبه ، خاليا من الرياء والسمعة.
قال أبو عبيدة : الأشقى بمعنى الشقي وهو الكافر ، والأتقى بمعنى التقي وهو المؤمن ، لأنه لا يختص بالصّلي أشقى الأشقياء ، ولا يختصّ بالنجاة أتقى الأتقياء ، ولا يقال إنه أراد نارا مخصوصة بالأشقى ، لأن هذه النار نفسها هي التي يجنبها الأتقى فلأن يجنب غيرها من باب أولى.
«وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ» أي أبي بكر لأن هذه السورة نزلت في حقه وفي بطل أمية ، والذي يؤيد نزولها ، ما رواه سعيد بن المسيب قال : بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر في بلال حين قال له : أتبيعه ، قال بفسطاس ، عبد لأبي بكر وكان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ومواشي.
وكان مشركا ، وقد حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له فأبى فأبغضه ، فلما قال له أمية : (1/141)
ج 1 ، ص : 142
أتبيعه بغلامك فسطاس ، اغتنمه أبو بكر وباعه ، فقال المشركون : ما فعل ذلك إلا ليد كانت له عنده فأنزل اللّه هذه الآية تكذيبا لهم بقوله : ليس لأحد عند أبي بكر «نِعْمَةٍ تُجْزى 19».
مطلب في أبي بكر رضي اللّه عنه وأمية غضب اللّه عليه :
وقد أجمع المفسرون على عود الضمير لأبي بكر ، وان ليس لفسطاس ولا لبلال ولا لغيرهما عنده نعمة سابقة يكافئه عليها بالإعتاق ، وان السياق والسباق يؤيده لذلك فإن من قال أن الضمير في عنده يعود إلى اللّه أراد أنه ينعم على عبده تفضلا منه ، وهو كذلك.
إلا أنه بعيد عن المغزى مخطئ المرمى ، لما فيه من نفي التخصيص بأبي بكر وجعل الآية عامة في المؤمن والكافر ، لأن نعمة اللّه غير مقصورة على أحد ولكنها على المؤمن نعمة حالا ومآلا ، وعلى الكافر في الدنيا فقط لأنها نقمة عليه في الآخرة استيفاء لما يقع من الخير على يده كي يلقى اللّه ولا حسنة له.
وليعلم انه ما فعل أبو بكر ما فعله من الاعتاق «إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى 20» أي طلب مرضاته لا غير
«وَلَسَوْفَ يَرْضى 21» في الآخرة من عطاء ربه بالكرامة والجنة ونعيمها كما طلب هو مرضاة ربه في الدنيا بالإنفاق من ماله واعتاق عبيده واللام في ولسوف جواب القسم المضمر وتقديره واللّه لسوف يرضى رضاء ما فوقه رضاء ، ويجوز أن يعود ضمير يرضى إلى اللّه ويكون المعنى ولسوف يرضى عنه ربه وهو أبلغ لأن رضاء اللّه عن عبده أكمل للعبد من رضاه على ربه ، وما جرينا عليه يحتمل المعنيين.
هذا ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تفسير سورة الفجر
عدد 10 و89
نزلت في مكة بعد سورة والليل ، وهي ثلاثون آية ، ومثلها من عدد الآي تبارك ، والملك والسجدة.
ومائة وتسع وثلاثون كلمة ، وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفا ، لا يوجد سورة في القرآن مبدوءة بما بدئت به ولا مختومة بما ختمت به ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.(1/142)
ج 1 ، ص : 143
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «وَالْفَجْرِ 1» أقسم تعالى بانبلاج الصبح لما فيه من انقضاء الليل وظهور الضوء وانتشار الخلائق في طلب أرزاقها ، قال ابن عباس أراد به صلاة الصبح لأنها مفتتح النهار وتشهدها الملائكة مستدلا بقوله تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية 18 من سورة الإسراء الآتية والأرجح أن المراد واللّه أعلم هلال ذي الحجة بدليل اقترانه بقوله «وَلَيالٍ عَشْرٍ 2» ولا عشر إلا عشر ذي الحجة لما فيها من الفضل العظيم ، لأنها أيام الاشتغال بالحج أخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال ما من أيام العمل فيهن أحب إلى اللّه من هذه الأيام العشر.
قيل يا رسول اللّه ولا الجهاد في سبيل اللّه ؟
قال : ولا الجهاد في سبيل اللّه إلا رجل جاهد في سبيل اللّه بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء.
وهناك أقوال أخرى بأنها عشر المحرم ، أو عشر رمضان الأواخر ، أو مطلق فجر ، وليست بشيء تجاه هذه لا تصالها بفجر العيد ولتأييدها بالحديث المار ذكره «وَالشَّفْعِ» الذكر والأنثى ، والحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والهدى والضلال ، والسعادة والشقاوة ، والليل والنهار ، والأرض والسماء ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، والنور والظلمة ، والجن والإنس ، والعزة والذلة ، والقدرة والعجز والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، والغنى والفقر ، والعمى والبصر ، والموت والحياة ، وغيرها من كل ما خلق اللّه «وَالْوَتْرِ 3» من ذلك كله أو هو يوم عرفة أو يوم النحر وقد جاء في الحديث المروي عن جابر المرفوع الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي أنه يوم النحر ويوم عرفه وجاء في حديث عمران بن حصين حين الذي أخرجه أحمد والترمذي بلفظ حديث غريب أنهما الصلاة شفعها ووترها وإذا صح هذان الحديثان على علة تضاربهما فإنهما لا يخصصان المدلول بل يكونان على طريق التمثيل فيما رؤي بتخصيصه بالذكر فائدة معتمدا بها وعليه فيجوز للمفسر أن يحمل اللفظ على معنى آخر من مشتملاته ومحتملاته لفائدة أخرى «وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ 4» أي سرى فيه من عرفات إلى مزدلفة وهي ليلة النحر وقيل ليلة القدر لأن الناس تقومها ، والأول أولى لمناسبة السياق والسباق ، وقد حذفت الياء في يسر(1/143)
ج 1 ، ص : 144
بلا حاذف وأكتفي بالكسرة عنها للدرج.
وقد سأل رجل الأخفش عن سقوط هذه الياء ، فقال : لا أجيبك حتى تخدمني سنة ، ففعل ثم سأله فقال الليل لا يسري وإنما يسرى فيه فلما عدل في معناه عدل عن لفظه موافقة.
ويقال ليل نائم أي ينام فيه وصلّى المقام أي صلّى فيه أنظر رحمك اللّه فضل العلم من أجل كلمة خدم سنة ألا لمثل هذا فليعمل العاملون ، وبه فليتنافس المتنافسون هذا ، وإذا أريد مطلق ليل فيصح أيضا على أن يلاحظ نعمة السير فيه للحفظ والوقاية من حر الشمس ومن قطاع الطريق وقطع المسافات ولهذا قيل (عند الصباح يحمد القوم السرى) وجواب القسم محذوف تقديره ليعذبن الكافر ولينعمنّ المؤمن ، ثم التفت في الاخبار إلى الخطاب فقال «هَلْ فِي ذلِكَ» المقسم به أيها الناس «قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ 5» عقل أم لا وسمي العقل حجرا لأنه يحجر صاحبه عن النقائص وعقلا لأنه يعقله عن القبائح ونهى لأنه ينهاه عن ما لا يليق وحجى لأنه يحاج به وهذا الاستفهام تقديري أتى به للتأكيد ولا يجاب إلا ببلى أي نعم إن هذه الأقسام فيها مقتنع ومكتفى لمن له لب ويسمى العقل لبا لأنه قلب الشيء وخلاصته وإنما أقسم بتلك الأشياء لما فيها من عجائب ودلائل على كمال قدرته ووحدانيته ثم خاطب حبيبه بقوله «أَ لَمْ تَرَ» يا أكمل الرسل وهذا استفهام تقديري أيضا أي ألم تعلم يقينا علما يوازي المعاينة «كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ 6» حيث أهلكهم فلم يبق لهم أثرا ولما كانت عادا أولى وأخيرة وإن الأولى تسمى عاد إرم ليدل منها قوله «إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 7» يدل عليه قوله في الآية 50 من سورة النجم الآتية (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) فإذا أطلقت عادا دون إرم فالمراد بها الأخيرة والعماد هي السواري والأساطين المرتفعة أي ذات البناء الرفيع المرتكز على على العمد العالية «الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ 8» أي لم يقدر أحد أن يبني أو يعمل
قبلهم ولا بعدهم حتى الآن مثلها وهذه المدن التي نوه اللّه بعظمتها واقعة بين عمان وحضر موت بأرض رمال قال تعالى (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) الآية 21 من سورة الأحقاف ج 2 والأحقاف هي الرمال(1/144)
ج 1 ، ص : 145
وما قيل إنها بالإسكندرية أو الشام ينافيه سياق الآيات إلا أن يقال ما هنا يراد به عادا الأولى وما في الأحقاف الأخيرة ويلزم أيضا عدم اتحاد منازلهما لأن بينهما مسافات عظيمة بعيدة عن التوفيق.
وفي هذه الآية تخويف للكافرين وهو أنه تعالى الذي أهلك هؤلاء الذين كانوا أشد منكم يا أهل مكة قوة وأكثر أموالا وأولادا قادر على إهلاككم ، راجع تفسير الآية 15 من قسم السجدة في ج 2 أي سورة فصلت ، وكانوا مع ذلك جسيمين طوالا ، قالوا
وسميت ذات العماد لأن عادا كان له ابنان شداد ، وشديد ، فلما مات شديد خلص الملك إلى شداد ودانت له ملوك الأرض وكان يقرأ الكتب القديمة فلما جاء على ذكر الجنة قال سأبني مثلها فبنى بناية عظيمة في مجارى عدن استغرقت ثلاثمائة سنة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وشجرها من جميع أصناف الأشجار ونسّق فيها الأنهار.
وعند ما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته وكانت على مسيرة يوم وليلة فبعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا جميعا ، روى وهب بن منبه عن عبد اللّه ابن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في مجارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن ، وحول الحصن قصور كثيرة ، فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا ليسأله عن إبله ، فلم ير داخلا فيها ولا خارجا منها ، فنزل عن دابته وعقلها وسل سيفه خوفا من أن يصادفه فيها أحد فيقاتله ، ودخل من باب المدينة فإذا هو ببابين خطيرين مرصعين بالياقوت الأحمر ، فدهش وفتح الباب ودخل فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف فوقها غرف مبنية بالذهب والفضة ، ومرصعة بأحجار اللؤلؤ والياقوت ، وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضا ، وكلها مفروشة باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران ، فلما عاين ذلك ولم ير أحدا هاله ما رأى ثم نظر إلى الأزقة فاذا فيها أشجار مثمرة وتحت الأشجار انهار مطرّدة يجري ماؤها في قنوات من فضة ، فقال في نفسه هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤها وترابها وبنادق مسكها وزعفرانها ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه ، وحدث بما رأى ، فبلغ ت (10)(1/145)
ج 1 ، ص : 146
ذلك معاوية فأرسل اليه فقدم ، فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فبعث إلى كعب الأحبار فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أسقر على حاجبه خال وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب أبل له ، ثم التفت فأبصر من قلابة على الوصف الذي ذكره كعب ، وهذه كالسد إذ رآه جماعة زمن الواثق باللّه.
راجع تفسير الآية 92 من الكهف في ج 2.
هذا وكلما جاء لفظ كعب بلا نسبة فالمراد به هذا ، واني لم أنقل عنه ما يتعلق بأمر الدين البته خشية التهمة لأنه متوغل بالكتب القديمة وهو تابعي والتابعيون غيره كثير أكتفى بالنقل عنهم عند الحاجة.
قالوا ولما أراد عملها ، اخرج جماعة يطوفون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة ، فوقفوا على صحراء نقية من التلال فيها عيون ماء وحروج فاختاروها وكان عمر الملك عند بنائها تسعمائه سنة ، ولما فرغوا منها قال لهم اجعلوا حولها حصنا وابنوا حوله الف قصر واجعلوا على كل قصر علما ليقيم بها الوزراء ففعلوا ، ولما أمر بالنقلة استغرقت نقلتهم عشر سنين ولما قربوا منها عن يوم وليلة اخذتهم الصيحة كما تقدم قال تعالى «وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا» قطعوا «الصَّخْرَ بِالْوادِ 9» فعل بهم أيضا كما فعل بعاد وهم أول من قطعوا الصخور في الوديان ونحتوه واتخذوا منه مساكن وبيوتا وقالوا انهم بنوا ألفا وتسعمائة مدينة من الحجارة المنحوتة وسنأتي قصتهم مفصلة في تفسير الآية 79 من الأعراف الآتية «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ 10» أي الملك الراسخ ذي الجنود الكثيرة الشديد البطش قال الأسود بن يعقر بن عنينة.
ولقد غنوا فيها [بأنواع ] النعم في ظل ملك راسخ الأوتاد
وكان إذا عذب أحدا (عذبه اللّه) ربطه بين أوتاد اربعة ثم أوقع عليه عذابه.
قاتله اللّه فلذلك سمى من الأوتاد وكانت مضارب (بيوت شعر) يضربونها إذا نزلوا في البادية وخباء كثيرة لكثرة جنده وما يدل على أنه كان يعذب بالأوتاد.
مطلب قصة ما شطة بنت فرعون :
ما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس أن ماشطة بنت فرعون زوجة حزقيل الذي كان يكتم إيمانه كما سيأتي في الآية 20 من سورة القصص الآتية والآية(1/146)
ج 1 ، ص : 147
78 من سورة المؤمن في ج 2 وكانت هي تكتم إيمانها أيضا بينما كانت تمشط ابنة فرعون إذ سقط من يدها ، فقالت تعس من كفر باللّه.
فقالت بنت فرعون :
وهل إله غير أبي ؟ قالت إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له.
فأخبرت أباها بذلك فسألها قالت صدقت فحملها على الكفر فأبت فمدها بين أربعة أوتاد وأرسل عليها الحيات والعقارب ، وقال إن لم تكفري عذبتك هكذا شهرا.
قالت لو عذبتني سبعين شهرا ما كفرت.
فلما رأى إصرارها هددها بذبح أولادها ، ولم تفعل ، فذبح ابنها الكبير على صدرها وقال إن لم تكفري ذبحت الاخر على فيك ، قالت لو ذبحت أهل الأرض ما كفرت.
فبادر بذبحه فجزعت فأنطقه اللّه وقال يا أماه اصبري ولا تجزعي فقد بنى اللّه لك بيتا في الجنة.
فصبرت ولم تلبث ان ماتت رحمها اللّه ، فأسكنها اللّه الجنة.
وهكذا فعل بآسية بنت مزاحم زوجته كما سيأتي في الآية 11 من سورة التحريم في ج 3 ، وصبرت هذه وعذابها أشد من عذاب بلال المار ذكره في الآية 10 من سورة والليل المارة ، قالوا وبعث رجلين في طلب زوجها فوجدوه يصلي والوحوش وراءه صفوفا ، فتركوه وانصرفوا فقال حزقيل اللهم انك تعلم اني كتمت إيماني مائة سنة فأيما هذين الرجلين كتم علي فاهده إلى دينك وأيما منهما أظهر علي فعجل عقوبته.
فأخبر أحدهما فرعون وكتم الآخر فقتل الذي أخبره وأنعم على الآخر اجابة لدعوته
قال تعالى «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ 11» وتجبروا على أهلها وارتكبوا انواع المعاصي «فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ 12» قتلا ونهبا وسبيا وغصبا وأخذوا ظلما وعدوانا وتعذيبا وتوغلوا في سائر البشر بانواع التعدي وهم يتنعمون بنعم اللّه ، فلما أظهر اللّه عتوهم وعنادهم للملأ وعلم إصرارهم أزلا وانه أمهلهم ليطلع خلقه على أفعالهم المستحقة لتعذيبهم ولم ينجع بهم ذلك الإمهال حتى قضي أمرهم وحان وقت أخذهم المقدر عنده ، جنح إلى هلاكهم «فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ» يا محمد «سَوْطَ عَذابٍ 13» لونا من ألوانه ونوعا من أنواعه ، والسوط يشعر بزيادة الألم أي عذبهم عذابا شديدا ، كان الحسن إذا قرأ هذه الآية يقول ان عند اللّه أسواطا كثيرة فأخذهم بسوط منها «إِنَّ رَبَّكَ(1/147)
ج 1 ، ص : 148
لَبِالْمِرْصادِ 14»
يرقب أعمال عباده كلها فيرى ويسمع ما يقع منهم لا يفوته شيء لأن المرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد ومن كان عالما بأحوال خلقه لا يفوته شيء من أمرهم ، وهذا جواب القسم ، والجمل ما بين القسم وجوابه اعتراضية ، وقيل جواب القسم محذوف وتقديره ليعذبن الكافر وربّ هذه الأشياء ويجزي كلا بفعله إن خيرا فخير وإن شرا فشر قال.
ابن عطية المرصاد صيغة مبالغة كالمطعام والمطعان ، ورده أبو حيان بأنه لو كان كما زعم لما دخلت الباء لإنها ليست في مكان دخولها لا زائدة ولا غير زائدة ، ثم شرع يفصل أحوال خلقه فقال «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ» أختبره وامتحنه «رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ» بالمال والولد والعافية والجاه «وَنَعَّمَهُ» بما وسع عليه من النساء والقصور والبساتين وغيرها من خدم وحشم «فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ 15» بما أعطاني وفضلني بما اولاني «وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ» ما هذه هنا وفي الآية الأولى وما شابهها في غير القرآن يعدونها زائدة اما في القرآن فتسمى صلة يؤتى بها لتأكيد القول وتحسينه لأن كلام اللّه مبرأ عن الزيادة كما هو منزه عن النقص وسيأتي لهذا بحث في الآية 135 من سورة التوبة في ج 3 «فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» ضيقه وقلله عن مقدار بلغته وكفايته «فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ 16» بما افقرني واذلني بما أعوزني.
وهذه الآية عامة لتصدرها بلفظ الإنسان فتشمل كل فرد وما قيل انها نزلت في امية بن خلف الحمجي خاصة فعلى فرض صحته لا ينفي عمومها لان العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص المعنى أو السبب ، لذلك ردّ اللّه تعالى على من ظن ان سعة الرزق إكرام وضيقه اهانة بقوله «كلّا» اي ليس الأمر كذلك فلا يظن به إذ ليس كل من اعنيته لكرامته ولا كل من أفقرته لاهانته لان الغنى والفقر بحكمتي وتقديري وإنما أكرم المؤمن بطاعته لي وأهين الكافر بمعصيته واني أنعم على عبدي لا ختبره أيشكر نعمتي أم يكفر وأضيق عليه لأمتحنه أيصبر أم يفجر.
وليعلم الناس ذلك راجع تفسير الآية 26 من سورة الأنبياء في ج 2 ، ولئلا يقولوا كما قال قارون (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) الآية 76 من سورة القصص الآتية مع أنه أوتيه من غير استحقاق(1/148)
ج 1 ، ص : 149
ابتلاء «بل» هناك ما هو أشر وهو أنكم «لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ 17» فلا تبرّونه ولا تراعون حقه مما أنعم اللّه عليكم به «وَلا تَحَاضُّونَ» بحث بعضكم بعضا «عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ 18» من فضلكم بل تهملونه ولا تنظرون في أمره «وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ» الميراث «أَكْلًا لَمًّا 19» لا تعطون منه أحدا ، واللّهم الجمع بين الحلال والحرام وعليه قول النابغة :
ولست بمستبق أخا لا تلمّه على شعث أي الرجال المهذب
وذلك انهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون نصيبهم فذمهم اللّه لشدة حرصهم على جمعه جمعا شديدا من غير نظر إلى حل وحرمة «وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا 20» كثيرا جدا قال امية :
ان تغفر اللهم فاغفر جمّا وأي عبد لك لا ألما
لأنهم كانوا ولعين به مع الحرص عليه والبخل به ومنع الحقوق منه
«كلّا» ردع وزجر لمن هذه حاله اي لا ينبغي ان يتكالبوا على ذلك ، ولا ان يشغفوا به ، بل كان عليهم ان يعملوا بما أمر اللّه قبل ان يأتيهم يوم يتلهفون على ما أسلفوا ويتندّمون على ما فرطوا من حيث لا ينفعهم الندم «إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ» زلزلت بما فيها من بناء وجبال وبحار وغيرها «دَكًّا دَكًّا 21» مرة بعد اخرى حتى لا يبقى فيها ولاء عليها شيء «وَجاءَ رَبُّكَ» جلت عظمته وهذا تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين لآثار قهره وسلطانه لأن الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من امارات الهيبة وعلامات العزة وإشارات العظمة ما لا يحضر بحضور غيره من خواصه.
مطلب آيات الصفات والقول فيها :
وهذة من آيات الصفات التي سكت عن تفسيرها السلف الصالح وبعض الخلف وأجروها على حالها كما جاءت من غير تأويل ولا تشبيه ولا تكييف ، والتزموا(1/149)
ج 1 ، ص : 150
فيها الإيمان بظاهرها ، وتأولها المتكلمون وبعض المتأخرين فقالوا جاء أمره او قضاؤه او دلائل آياته وجعلوا مجيئها مجيئا له تفخيما وإجلالا لأن الحركة والسكون محال عليه جل شأنه ولكل وجهة ، واجراؤها على ما هي عليه أولى «وَالْمَلَكُ» أل فيه للجنس فيشمل جميع ملائكة السماء أما ملائكة الأرض فأنهم يقفون في ذلك الموقف لاداء التحية والتكريم قياما بأبّهات الكبرياء والتعظيم «صَفًّا صَفًّا 22» أي تقف ملائكة كل سماء صفا على حده فيحدقون بالجن والإنس ويحيطون بهم «وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم المهيب الذي تأتي فيه ملائكة اللّه وهو يوم القيامة «بِجَهَنَّمَ» نفسها وينادى من قبل اللّه هذه التي أعدت للكافرين ، كما تبرز الجنة وينادى هذه المعدة للمتقين.
اخرج مسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال رسول اللّه : يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون الف زمام مع كل زمام سبعون الف ملك يجرونها.
وفي رواية : تنصب عن يسار العرش لها تغيظ وزفير.
وجاء في بعض الآثار عن علي كرم اللّه وجهه انه سأل حضرة الرسول فقال كيف يجاء بها يا رسول اللّه ؟ فقال تقاد بسبعين الف زمام يقوده الف ملك.
هذا وفي أول المجيء بالبروز ، وقال هو على حد قوله تعالى (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى ) الآية 31 من النازعات في ج 2 وجمل الآية على المجاز لزعمه ان الحقيقة متعذرة في ذلك قال باستحالة الانتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي على جهنم وهو لعمري جائز إذ لا يستحيل على مالك أمر ذلك اليوم بل يجوز أن تخرج وتنتقل من محلها إلى المحشر والى الموقف ليطلع عليها أهله ثم تعود إلى مكانها بمجرد أمره لها بين الكاف والنون ، وان في ذلك اليوم وراء ما تتخيله الأذهان ، وليس ذلك بأعظم من أنزال العرش.
راجع تفسير الآية 17 من سورة الحاقّة في ج 2 فإنكار مجيء جهنم يستدعي إنكار نزول عرش الرحمن لأن العلة فيهما واحدة وهي دعوى الاستحالة وذلك كفر والعياذ باللّه ، لذلك يجب الاعتقاد بظاهر آيات الصفات كما هي طريقة السلف الصالح إذ لا يجوز أن يخطر بالبال أن اللّه تعالى يعجزه شيء قبله العقل أم لا.
راجع(1/150)
ج 1 ، ص : 151
تفسير الاية 67 من سورة الزّمر ج 2 ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 15 من سورة فاطر الآتية فراجعه.
قال تعالى «يَوْمَئِذٍ» أي يوم يجاء بجهنم ويراها أهلها وسائر من بالموقف على ما وصفها اللّه لهم على لسان أنبيائهم «يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» ما فرط في دنياه من انكار البعث وتكذيب الأنبياء ويندم على ما وقع منه من المخالفات «و» لكن «أَنَّى لَهُ الذِّكْرى 23» أي لا تنقعه إذ ذاك حيث لا مجال للرجوع للدنيا لقبول التوبة ولا للاتعاظ ولكنه «يقول» متحسرا متأسفا «يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ» عملا صالحا «لِحَياتِي 24» هذه في هذا اليوم الذي لا موت بعده يوم الحياة الأبدية التي كنت أنكرها في الدنيا «فَيَوْمَئِذٍ» يوم يكون ما ذكر «لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ 25» من مخلوقاته «وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ» بالسلاسل والأغلال «أَحَدٌ 26» أيضا أي أن اللّه تعالى هو ذاته المقدسة تتولى العذاب للإنسان العاتي المذكور في الآية السابقة بما يعم أمية بن خلف وغيره وهذا على حد قولهم «قاتل السلطان» والمراد جنده لأنه لا يقاتل عادة.
وقرىء الفعلان على البناء للمفعول وعليه يكون المعنى ، إن الإنسان أشد عذابا من غيره لأن اللّه ميّزه بالعقل على سائر الحيوانات ليميّز بين الخير والشر أما وأنه لم يفعل وصرف ذلك العقل إلى شهواته ولذاته فقد جعل اللّه عذابه أعظم من غيره لتناهيه بالكفر.
وجرى على هذه القراءة ابن سيرين وابن أبي اسحق وأبو حيوه وابن أبي عبلة وأبو بحرية والكسائي وسلام ويعقوب وسهل وخارجة تلقيا عن ابن عمر رضي اللّه عنهما.
قال ابن الحاجب إن في عود الضمير على اللّه على قراءة عاصم ورواية حفص الجارية في المصاحف على بناء الفعلين للفاعل فوات للتعظيم الذي يقتضيه السياق وفوات المعنى ، إذ عليها ان اللّه تعالى هو الّذي يتولى عذاب الكافر ووثاقه ليس بسديد لأن اللّه ذكر ملائكة للعذاب ووصفهم بالغلظة والشدة وانهم هم الذين يتولون ذلك قال تعالى «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ 27» الآمنة المتأنسة
، وأل فيها للجنس أيضا فتشمل كل فرد من أفرادها ، وقد خاطبها جلّ خطابه مخاطبة إكرام تكريما(1/151)
ج 1 ، ص : 152
لها ، وما قيل إن هذه الآية نزلت في حمزة أو خبيب الأنصاري الذي صلبه كفار قريش في مكة أو في عثمان لأنه اشترى بئر رومة ، بعيد عن الصحة ، لأن عثمان اشتراها بالمدينة وحمزة قتل في بدر وكذلك حادثة صلب خبيب وقعت والرسول بالمدينة.
وهذه السورة نزلت بمكة قولا واحدا لذلك فإنها عامة في كل نفس طاهرة موقنة بالحساب ، وكذلك لا دليل على القول بأنها نزلت في أبي بكر أيضا لتجهيزه جيش العسرة لذلك السبب.
على ان كل هؤلاء داخلون في عمومها دخولا أوليا لانهم ممن أكرمهم اللّه القائل «ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ» لتري ما وعدك به من الثواب حالة كونك «راضِيَةً» بلقائه وبما منّ عليك من النعيم المقيم الذي وعدك به رسوله في الدنيا «مَرْضِيَّةً 28» عنده محظية بسبب عملك الصالح ، ويقول لك ربك بلسان ملائكته الكرام «فَادْخُلِي فِي» زمرة «عِبادِي 29» الصالحين المرضى عنهم وعليهم «وَادْخُلِي جَنَّتِي 30» معهم.
هذا ومن قال ان المراد بالنفس هنا الروح فيكون المعنى ادخلي في أجساد عبادي ، وليس بوجيه إذ ينافيه «وَادْخُلِي جَنَّتِي» فتكون الروح هي الداخلة لا الجسد.
تأمل.
قال سعيد بن جبير : مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط ، فدخل نعشه ثم لم ير خارجا منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها ، قال بعض أهل الإشارات «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى الدنيا ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ بتركها والرجوع اليه هو سبيل الآخرة ، وفقنا اللّه اليه.
وقال الشيخ محي الدين العربي :
ادخلي في زمرة عبادي المخلصين في أهل التوحيد الذاتي وادخلي في جنتي المخصوصة بي أو جنة الذات.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
تفسير سورة الضحى
عدد 11 - 93
نزلت بمكة بعد سورة الفجر على أثر انقطاع الوحي أياما ، وهي احدى عشرة آية ومثلها في عدد الآي القارعة والعاديات والجمعة والمنافقون ، وهي أربعون كلمة ، ومائتان وسبعون حرفا ، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.(1/152)
ج 1 ، ص : 153
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»
قال تعالى «وَالضُّحى 1» هو الوقت المعلوم من النهار أقسم اللّه به لأنه من الأوقات المباركة وفيه صلاة مسنونة وفيه كلّم اللّه موسى وفيه سجد سحرة فرعون للّه حينما ظهرت لهم آية العصا اعترافا بأنها معجزة وليست بسحر كما يقوله من غضب اللّه عليه «وَاللَّيْلِ إِذا سَجى 2» سكن الناس فيه قال الأعشى الشاعر المعروف :
وما ذنبنا ان جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج لا يواري الدعا صما
أي ساكن ، والد عاصم كثيب الرمل ، وسجّى بالتشديد بمعنى غطّى وجواب القسم «ما وَدَّعَكَ» ما تركك «رَبُّكَ» منذ اختارك نبيا لخلقه واصطفاك حبيبا لنفسه كما رعاك بعنايته في الأزل وفي عالم الذر وحينما كنت نطفة في المستقر والمستودع.
والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك فقد بالغ في تركك «وَما قَلى 3» وما أبغضك منذ أحبك واجتباك ولذلك قال ما ودعك لأن الوداع انما يكون بين الأحباب ومن تقر مفارقته قال المتنبي :
حشاشة نفس ودّعت يوم ودعوا فلم أدر أي الظاعنين أودع
مطلب نزول هذه السورة وبشارة اللّه اليه :
أما الترك فلا يختص بالمحين وهذا من لطائف القسم ، انه أقسم على انعامه على رسوله وإكرامه له ، وهو يتضمن أيضا لتصديقه له على صحة نبوته وعلى جزائه في الآخرة بالحسنى ، وقسم أيضا على النبوة والمعاد ، وتقدم في بحث فترة الوحي سبب نزول هذه السورة فراجعه في أوائل سورة المدثر.
وما قيل إنّ اليهود سألوا رسول اللّه عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف وانه قال لهم سأخبركم غدا ولم يستثن لا حجة له لأن السورة مكية ومجادلة اليهود لحضرته واسئلتهم كانت في المدينة وكل ما وقع له معهم في قضية الروح وغيرها كان هناك.
وما جاء في حديث خولة خادمة الرسول أن جروا دخل تحت سرير رسول اللّه ومات ولم تشعر به وأن الوحي انقطع بسببه أربعة أيام لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو تصاوير ، ثم انها نفضت البيت فاخرجته ميتا وطرحته فأنزل اللّه هذه السورة ، ورواية ابن(1/153)
ج 1 ، ص : 154
الكلبي بأن انقطاع الوحي خمسة عشر يوما ، ورواية ابن جريح اثنى عشر يوما ، وهناك روايات بخمس وعشرين وأربعين ، عن ابن عباس والسدي ، لا يوثق به كله ، لأن أربعة الأيام لا تستوجب حزن النبي بالدرجة المار ذكرها في المدثر لا سيما وأن الوحي لم يحجم بعد ، على أنه قد جاء في بعض الآثار أن حضرة الرسول قال لجبريل ما جئتني حتى اشتقت إليك فقال بل كنت إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا قوله تعالى «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» الآية 64 من سورة مريم الآتية وفي رواية أنه عاتبة فقال أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ؟ على أن هذه الآية لم تنزل بعد وعلى كل فلا مانع من تعدد الأسباب إذا قلنا بجواز ذلك كله يشرط أن يكون السائل كفار قريش على لسان اليهود كما سيأتي في الآية 85 من سورة الإسراء الآتية والآية 29 من سورة الكهف في ج 2 واللّه أعلم بالصواب قال تعالى «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى 4» وهذه بشارة عظيمة من ربه اليه بأن ما أعده له من المقام المحمود في الآخرة أحسن وأعظم مما إعطاء في الدنيا ، روى البغوي عن ابن مسعود أنه صلى اللّه عليه وسلم قال إنا أهل بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا ، ثم اقسم جل قسمه تطمينا لقلب حبيبه وإقرارا لعينه وقال «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى 5» من جزيل عطائه وجليل رضائه وعظيم مواهبه ومن الحوض المورود واللواء المعقود والشفاعة العظمى في اليوم الموعود وغيرها مما وعده به وهذا العطاء كائن لا محالة.
روى ابن عباس أنه صلى اللّه عليه وسلم عرض عليه ما هو مفتوح على أمته من بعده ، فسرّ فأنزل اللّه هذه الآية بشارة له بأنه سيعطيه من النعيم الدائم في الآخرة ما لا يقاس بما أعطاه له ولإمته في الدنيا.
ولما نزلت هذه الآية قال صلى اللّه عليه وسلم لا أرضى وواحد من أمتي بالنار.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه صلى اللّه عليه وسلم رفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي وبكى ، فقال اللّه يا جبريل اذهب إلى محمد واسأله ما يبكيك ؟ وهو أعلم ، فأتى جبريل وسأله فأخبره بما قال وهو أعلم ، فقال : يا جبريل اذهب إلى محمد وقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك فيهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن(1/154)
ج 1 ، ص : 155
النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته واني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي فهي نائلة إن شاء اللّه من مات من أمتي لا يشرك باللّه شيئا.
وهذه بشارة عظيمة لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وتأميل لهم بالنجاة هذا وان اللّه أعطاه في الدنيا النصر والظفر وكثرة الأتباع والفتوح في زمنه وزمن خلفائه واتباعهم ومن بعدهم وإلى يوم القيمة إن شاء اللّه وان ما وقع فهو من فترات الزمن وسيعيد اللّه التاريخ الناصع لهم إذ أحسنت الناس ظنها باللّه واتبعت أوامره واجتنبت نواهيه وإلا لا.
وليعلم ان اللّه تعالى أعلى رتبة محمد على سائر الأنبياء وجعل أمته خير الأمم وأعطاه في الآخرة الشفاعة الخاصة والعامة والفضيلة والوسيلة.
قال حرب بن شريح سمعت جعفر بن علي يقول
انكم يا أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية 53 من سورة الزمر في ج 2 وإنا أهل البيت نقول ان أرجى آية في كتاب اللّه «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى » ولهذا البحث صلة في الآية 8 من الإسراء الآتية.
ثم شرع يعدد نعمه على نبيه فقال «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً» فاقد الأبوين صغيرا ووجد هذه وما بعدها بمعنى علم ويقال لفاقد الأب يتيم ولفاقد الأم عجي ولفاقدهما لطيم وكان والده صلى اللّه عليه وسلم توفي بعد حمله بشهرين ثم توفيت أمه وهو ابن ست سنين «فَآوى 6» جعل لك مأوى تأوي اليه بأن ضمك أولا إلى جدك عبد المطلب الذي كان يقدمك على كل أحد ويفتخر بك ويتفرض بك الخير وبعد وفاته ضمك إلى عمك أبى طالب فأحسن تربيتك وحماك من أعدائك وكفاك مؤنتك ، فكنت كالدرّة اليتيمة التي لا نظير لها ، فأيدك وشرفك ربك بالنبوة المشعر بها قوله جل قوله «وَوَجَدَكَ ضَالًّا» عاقلا عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول قال تعالى «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» الآية 53 من الشورى في ج 2 أي خاليا من الهام النبوة غير عالم بمعالمها «فَهَدى 7» أرشدك إليها وعرفك الشريعة التي أنزلها عليك وما يتعلق بها من أصول وفروع بما أنزله عليك من الوحي.(1/155)
ج 1 ، ص : 156
مطلب هدايته صلى اللّه عليه وسلم ومعاملته اليتيم :
ولا يقال انه صلى اللّه عليه وسلم كان على ملة قومه استفادة من معنى «ضالا» فهداه للاسلام لأن سائر الأنبياء منذ يولدون ينشأون على التوحيد والأيمان وأنهم قبل النبوة وبعدها معصومون من الجهل بعصمة اللّه ، يدل على هذا أنه لما سافر مع عمه أبي طالب ورأى بحيرا الراهب فيه علامة النبوة فاستحلفه باللات والعزى فقال صلى اللّه عليه وسلم : لا تسألني بهما فو اللّه ما أبغضت شيئا كبغضهما ويؤكد هذا شرح صدره واستخراج العلقة منه وقول جبريل هذا حظ الشيطان منك وملأه حكمة وإيمانا.
وقوله جل قوله (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) الآية 2 من سورة النجم الآتية قال الزمخشري في كشافه : من قال انه كان على دين قومه أربعين سنة ، فإن أراد أنه على خلوه من العلوم السمعية فنعم ، وإن أراد أنه على دين قومه ، فمعاذ اللّه ، أما ما قيل انه ضل في شعاب مكة وردّه فرعونه أبو جهل ، وأنه أركبه وراءه فلم تقم الناقة فأركبه امامه فقامت وقالت يا أحمق هذا الإمام ، فكيف يكون خلف المقتدي ؟ فكان ارجاعه إلى جده على ما يدعوه كإرجاع موسى لأمه ، أو أنه ضل في طريق الشام واقتاد ناقته إبليس فنفحه جبريل ورد ناقته إلى طريقها ، أو أنه ضل مرة أخرى في مكة فتعلق جده بأستار الكعبة وصار يتضرع إلى اللّه بردّه فسمع مناديا لا تضجوا فان محمدا لا يضيعه اللّه ربه وأنه بوادي تهامة.
فذهب إليه جده وورقة بن نوفل ، فأتيا به من تحت شجرة يلعب عندها ، أو أنه ضل عند مرضعته حليمة فهذا كله على فرض وقوعه حقيقة غير مقصود هنا لأنه من ضل الطريق إذا سلك غيره على أن إضلاله الطريق قد يؤدي إلى المقصود المقدر من علم اللّه مثل إضلال سيدنا موسى الآتي في الآية 30 من سورة القصص الآتية قال ابن الفارض :
ما بين ضال المنحني وظلاله ضل المتيّم واهتدى بضلاله
ولكن نفس الأضلال لا يستوجب أن يعده اللّه عليه نعمة بالصورة المذكورة لأنه يقع لكل واحد ، وانما القصد واللّه أعلم هو ما ذكرناه في تفسير الآية لإن الهداية منه نعمة كبرى لا تحصل لبشر غيره ولن تحصل أبدا «وَوَجَدَكَ عائِلًا»(1/156)
ج 1 ، ص : 157
ذا عيال فقير ليس لك شىء «فَأَغْنى 8» فيسر لك ما أغناك به عن الناس ولم يحجك إلى أحد من خلقه إذ أرضاك بما أعطاك من القناعة التي وفرت في صدرك روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النّفس.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمر بن العاص أن رسول اللّه قال قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه اللّه بما آتاه.
وما قيل أغناه بمال خديجة غير سديد لإن مال الزوجة لا يستوجب عده من قبل اللّه نعمة أما كونها وبنيها من عياله وبهم صار ذا عيال فنعم وما قاله بعض المفسرين بما أفاء عليك من الغنائم لا صحة له ، إذ لا يوجد في مكة غنائم وانما كانت الغنائم والحروب في المدينة وهذ السورة مكية ولكنه صلى اللّه عليه وسلم جبل منذ كان في مهده بإلهام من ربه على القناعة وفيه قيل :
في المهد يعرب عن سعادة جده أثر النجابة ساطع البرهان
ثم طفق بوصيه بقوله «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ 9» لا تذله ولا تظلمه ولا تحقره ولا تعمل به عملا يوجب انزعاجه ، وهذا لا يتصور من حضرة الرسول وانما نهاه ليتجنب الناس ظلم اليتيم على حد إياك اعني واسمعي يا جارة ، وذلك لان قومه كانوا لا يورثون اليتيم ويغلبونه على ماله ويهضمون حقه روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال قال صلى اللّه عليه وسلم أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما.
وروى البغوي عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن اليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء اليه ثم قال أنا وكافل اليتيم هكذا ويشير بأصبعيه.
مطلب عدم رد السائل واللطف باليتيم :
«وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ 10» لا تزجره إذا سأل ولا ترده إذا طلب ولا تمنعه إذا أراد من فضلك وابذل اليه مما عندك ولو قليلا ولا تردّ وجهه فيرجع صفر اليدين وإذا لم تجد ما تعطيه فرده بكلمة طيبة ردا جميلا من غير تقطب وجه قال ابراهيم بن أدهم ، نعم القوم السؤّال يحملون زادنا إلى الآخرة.
وقال ابراهيم(1/157)
ج 1 ، ص : 158
النخعي ، السائل بريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول أتوجهون إلى أهلكم أي موتاكم شيئا ، قال جرير :
اللّه نزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل
وقرىء فلا تكهر لغة أعرابية والاعراب حتى الآن يبدلون القاف القولي بالكاف الفارسي والكاف بالجيم الفارسي على أن تفشي هذين الحرفين لديهم يوقع في الخلد أنهما عربيان وضعا واللّه أعلم.
وما قيل ان السائل هنا هو طالب العلم ليس بشيء ، على أنه لا يجوز منع السائل عنه بل يجب عليه اجابته.
هذا وقد عاتب اللّه رسوله في الفقراء في ثلاثة مواضع أحدها في ابن أم كلثوم إذ أنزل اللّه فيه مبادئ سورة عبس الآتية ، والثانية فيما كلفته قريش بأن لا يجلس الفقراء معهم إذ أنزل قوله :
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية 38 من سورة الكهف في ج 2 ، والثالثة أن سائلا وقف ببابه وكان أمامه عنقود من التمر فسأل فأعطاه إياه فقام عثمان فاشتراه منه ووضعه أمام الرسول ، فعاد وطلب فأعطاه إياه ثانيا ، فعاد عثمان واشتراه منه ، ثم عاد ثالثا فقال صلى اللّه عليه وسلم أسائل أنت أم بائع ، فأنزل اللّه هذه الآية
«وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 11» بها أداء لشكرها وأراد بالنعمة هنا واللّه أعلم النبوة التي شرفه بها فكل نعمة دونها ، فأمره في هذه الآية أن يبلغ ما يوحيه إليه إلى قومه ، وأن يتحدث بما فضله اللّه به ، واعلم أنه كما يجب على العبد شكر نعم الخالق ، ينبغي له أن يشكر نعمة المخلوق ، روى جابر عن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : من أعطى عطاء فليجز به إن وجد ، فإن لم يجد فليثن عليه ، فإن من أثنى عليه فقد شكره ، ومن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور.
أي الذي يقول فلان أعطاني كذا وفلان عمل لي كذا من حيث لم يعطه ولم يعمل له شيئا ، وكذلك الضرّة إذا قالت لضرّتها إن زوجي فعل لي كيت وكيت من حيث لم يفعل.
ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبى زور - أخرجه الترمذي - (1/158)
ج 1 ، ص : 159
مطلب الشكر للّه ولخلقه :
عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : من لا يشكر الناس لا يشكر اللّه.
وله عن أبي هريرة : الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن النعمان بن بشير صاحب معرة النعمان بين حلب وحماة قال :
سمعت رسول اللّه على المنبر يقول : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر اللّه ، والتحدث بالنعمة شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب.
وورد أشكركم للناس أشكركم للّه.
هذا وبما أن هذه السورة نزلت بعد انحباس الوحي مدة ، كبّر النبي صلّى اللّه عليه وسلم عند نزولها فرحا بنزول الوحي وإدغاما لما قاله المشركون فيه.
كما مر في سورة المدثر ، فاتخذ قراء مكة هذا التكبير عادة من هذه السورة إلى آخر القرآن بحسب ترتيب المصاحف وحتى الآن يكبرون بختام كل سورة منها الناس ، وصيغة التكبير : اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلا اللّه واللّه أكبر اللّه أكبر وللّه الحمد.
أخرجه الحاكم وصححه ابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن البزي البغوي قال : سمعت عكرمة بن سليمان يقول : قرأت على إسماعيل بن قسطنطين فلما بلغت والضحى قال كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم ، فإني قرأت على عبد اللّه بن كثير ، فلما بلغت والضحى قال كبر حتى تختم وأخبره عبد اللّه بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس أمره بذلك وأخبره أن أبي بن كعب أمره بذلك وأخبره أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أمره بذلك.
هذا وما قيل إن هذه السورة هي الثالثة بالنزول لا صحة له بل هي الحادية عشرة كما أنها احدى عشرة آية ، وما قيل إنها نزلت في العام الثالث من البعثة أو انها بعد فترة الوحي الطويلة لا يلتفت إليه ، كما بيناه أول المدثر المارة ايضا فراجعها ففيها ما يركن إليه العقل ويسلم له العاقل ويرتاح له الضمير.
هذا ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وأصحابه واتباعه صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.(1/159)
ج 1 ، ص : 160
تفسير سورة الانشراح
عدد 12 - 49
نزلت في مكة بعد الضحى ، وقيل إنها نزلت متصلة بها ، ولم يفرق بينها بالبسملة وليس بشيء ، وهذا كالقول بأن سورة براءة نزلت متصلة بالأنفال وهو غير صحيح أيضا بل كل منها نزل على حدة ، وقد ثبت بالتواتر أن سور القرآن 114 سورة ، فإذا جعلنا هاتين السورتين متصلتين ينقص العدد ، وهو غير جائز وسنأتي على بيان هذا مفصلا في سورة قريش الآتية إذ قيل إنها نزلت متصلة بالفيل وفي سورة براءة في ج 3 ، وهي ثماني آيات ، ومثلها في العدد التكاثر والزلزلة والبينة والتين ، وسبع وعشرون كلمة ، ومائة وثلاثة أحرف ، ويوجد في القرآن سورة أخرى مبدوءة بما بدئت به وهي الفيل الآتية ، وسورة البينة بلم النافية دون همزة الاستفهام.
وتسمى سورة الشرح وألم نشرح أيضا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى : «أَ لَمْ» استفهام تقريري لا يجاب إلا ببلى «نَشْرَحْ» نفسح ونشق «لَكَ» يا سيد الرسل «صَدْرَكَ 1» كي يحوي عالم الغيب والشهادة نوعهما فيهما ، ولذلك صار لم يعقه التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق لما أودعنا فيه من العلوم والحكم حينما شقه أميننا جبريل فوسع هموم النبوة ودعوة الثقلين ، وأزلنا عنك الضيق والخرج لتكون لين الجانب لا يستفزّك الغضب ، وقد وقع له صلّى اللّه عليه وسلم الشرح فعلا ثلاث مرات.
مطلب شرح صدره الشريف :
المسألة الأولى عند ما كان عند ظئره حليمة ، فقد روى مسلم عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه فاستخرجه واستخرج منه علقة فقال هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ، ثم أعاده إلى مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا إن محمدا قد قتل ، فاستقبلوه ممتقع اللون وسألوه فقص عليهم ما ذكر أنس ، وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره.
والأخريان سنأتي على ذكرهما أول الإسراء الآتية خشية التكرار فراجعهما «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ 2»(1/160)
ج 1 ، ص : 161
الذي سلف منك خطأ أو نسيانا أو سهوا ، أو ما تظنه مستوجب السؤال عندنا نظرا لعلو مقامك ورفعة شأنك وخفّفنا أعباء النبوة عليك لتقوم بها دون تكلف فرفعنا عنك ذلك التكليف «الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ 3» حمله وأوهى قولك رزؤه وحططنا عنك كل ما تراه ثقيلا مما شرعناه على من قبلك.
واعلم أنه إذا حمل هذا الوزر على حالته قبل النبوة فيكون المراد اهتمامه بأمور كان يفعلها قبل النبوة ، إذ لم يرد عليه شرح بتحريمها فلما حرمت عليه بنزول الوحي عدّها أوزارا أثقلت عليه وأشفق منها ، فوضعها اللّه عنه وغفرها له ، وإذا حمل ذلك على حالته بعد النبوة ، فيكون عبارة عن ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى وما تركه أحسن من فعله على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين.
قال تعالى «وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ 4» على سائر الأنبياء والمرسلين قبلك ، وقرناه بذكرنا.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية قال : قال اللّه عز وجل إذا ذكرت ذكرت معي ، قال ابن عباس يريد الأذان والاقامة والخطب على المنابر.
فلو أن عبدا عبد اللّه وصدقه في كل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول اللّه لم ينتفع بذلك بشيء ، وكان كافرا ، قال حسان رضي اللّه عنه :
أغر عليه للنبوة خاتم من اللّه مشهود يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النبي لإسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود وهذا محمد
وقرن طاعته بطاعته فقال : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية 59 من النساء ج 5 وكررها معنى ولفظا في الآية 17 من الأحزاب و14 من التوبة و31 و32 من آل عمران وكررها في الآية 80 من النساء في ج 3 وقرن خوفه بخوفه ، ورضاه برضاه ، ومحبته بمحبته ، وغضبه بغضبه ، وهكذا قد ذكره اللّه في كتب الأنبياء ، ولا يخفى أن حضرة الرسول إبّان بعثته كان مقلا مخفا من الأموال والمواشي وكانت قريش تعيره بالفقر حتى أنهم صاروا يقولون له عند ما يدعوهم إلى اللّه : إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالا ، فاغتم لذلك وظن إنما كذبه ت (11)(1/161)
ج 1 ، ص : 162
قومه لفراغ ذات يده ، وكان يحزن ويغتم لهذه الغاية لأنه منشرح الصدر بما هو فيه من فضل ربه ويراه غنيا إذ لا هم له في الدنيا ولا في أهلها إلا بغية إيمانهم قال ابن الفارض :
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل
فعدد اللّه عليه نعمه في هذه السورة تسلية لجنابه الشريف عما خامره من الغم ووعده الغنى فقال «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 5» أي لا يحزنك قولهم فإن مع الشدة فرجا وإن لك مما تقاسيه مخرجا ، ثم كرر الوعد تأكيدا وتمكينا فقال «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ» الذي أنت فيه «يُسْراً 6» قريبا بإظهاري إياك عليهم وإعلاء كلمتك وتقدير النصر لك حتى تغلبهم وتغنم ما عندهم ، قال الحسن لما نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه وسلم : أبشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين.
وذلك لأنه جل ذكره كرر العسر بلفظ المعرفة ، والمعرفة إذا كررت كانت غير الأولى ، وكرر اليسر بلفظ النكرة والنكرة إذا كررت كانت غير الأولى ، فصار يسران تجاه عسر واحد ولن يغلب الواحد الاثنين غالبا.
وإنما قال أبشروا إذ كان نزولها على أثر تعيير المشركين المسلمين بالفقر فلا شك أنه صلّى اللّه عليه وسلم انشرح صدره بما رأى من عطف ربه عليه فأقبل على عبادته فقال له ربه «فَإِذا فَرَغْتَ» من دعوة الخلق «فَانْصَبْ 7» لعبادة ربك ، وداوم عليها واجتهد فيها «وَإِلى رَبِّكَ الذي أنعم عليك بما ذكر وما لم يذكر» «فَارْغَبْ 8» في إجابة دعائك ورفع مقامك عنده وإظهار كلمتك لديه ينصرك على أعدائك ، واجعل رغبتك في اللّه وإلى اللّه ومن اللّه وتضرّع اليه رغبة في جنته ورضاه ورهبة من ناره وعقابه ، ولا تخل وقتا من أوقاتك دون عمل يرضيه فكلما فرغت من عبادة أتعبت نفسك فيها فاتبعها بغيرها وابتهل اليه فهو لا يردك.
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته ، السبهلل الذي لا شيء معه والعاطل الذي لا عمل له ومعناه الفارغ.
ولا غرو أن يكون قعود الرجل من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه من أمور دنياه ودينه من سفه الرأي وسخافة العقل(1/162)
ج 1 ، ص : 163
واستيلاء الغفلة.
أعاذنا اللّه من ذلك وحفظنا ووقانا ، ومن الخمول حمانا ، هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
تفسير سورة العصر
عدد 13 - 103
نزلت بمكة بعد الانشراح ، وهي ثلاث آيات ومثلها في عدد الآي النصر والكوثر ، وأربع عشرة كلمة وستون حرفا ، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت أو ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى : «وَالْعَصْرِ 1» أقسم جل قسمه سبحانه بزمان رسوله كما أقسم بمكانه في سورة البلد الآتية تنبيها على أن زمنه أفضل الأزمنة ومكانه أشرف الأمكنة عدا البقعة التي ضمته فلا يوازيها بالشرف مكان ، حتى قال بعض العلماء بأنها أفضل من عرش الرحمن ولم يعارضه أحد دلالة على اتفاقهم على هذه وإجماعهم على أنه أحب خلق اللّه اليه وأفضلهم ، وانه عند ربه بمكان لا يوازيه مكان وقال ابن عباس المراد به الدهر وذلك لأنهم يضيفون النوائب والنوازل إليه فأقسم اللّه به تنبيها على فضله ، وأن اللّه هو المؤثر فيه وان ما يحصل فيه كان بتقديره وقضائه.
وهناك أقوال بأنه اليوم والليلة لأن العرب تعبر عنها به قال حميد بن ثور :
ولم يلبت العصران يوما وليلة إذا طلبا أن يدركا ما تيمّما
وإنه الوقت المعلوم لأنه خلق اللّه آدم فيه ولأنه بمقابل الضحى حيث أقسم أوّلا بأول النهار فناسب أن يقسم بآخره ، وأنه صلاة العصر لأنها على أكثر الأقوال أنها الصلاة الوسطى وانه زمان حياته صلّى اللّه عليه وسلم وما بعده إلى يوم القيامة ، ومقداره بالنسبة لما مضى بمقدار العصر من اليوم والليلة روى البخاري عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن بقاءكم فيمن سلف من قبلكم من الأمم كما بين صلاة(1/163)
ج 1 ، ص : 164
العصر إلى غروب الشمس.
ولشرفه صلّى اللّه عليه وسلم وشرف أمته الذين فيه.
قال تعالى :
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 109 من آل عمران في ج 3 وجواب القسم «إِنَّ الْإِنْسانَ» أي جنسة المشتمل على أفراده كلها «لَفِي خُسْرٍ 1) من عمره لأن كل ساعة تمر منه لا بد أن تكون في طاعة أو معصية فان في معصية فهي الخسران المبين وإن في طاعة فلعلّ غيرها أفضل منها وهو قادر على الإتيان بالأفضل فكان فعل غير الأفضل نقصانا وخسرانا ، وقد ورد في الحديث ما منكم إلا ندم يوم القيامة إن كان محسنا ندم إن لم يكن ازداد وإن كان مسيئا ندم إن لم يكن أقلع.
ولا دلالة في هذه الآية لقول من قال إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأن المستثنى محصور فيمن آمن وعمل صالحا لأنه لا دلالة فيها على اكثر من كون المستثنى في خسر ليس إلا ، والخسر عام فيكون بالخلود إذا مات كافرا ويمطلق الدخول في النار إذا مات مؤمنا عاصيا فلا معنى للقول بان المستثنى ناسخ للمستثنى منه فيها كما لا منسوخ في المستثنى منه وهو «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فهم مستثنون من الخسران لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وسعدوا وفازوا لاستبدالهم الفاني الخسيس بالباقي النقيس.
وهذا اللفظ يشمل كل من اتصف بالايمان والعمل الصالح لا يختص بعلي كرم اللّه وجه أو سلمان الفارسي كما يتوهم من اقتصار ابن عباس عليها ، على أنها من الطراز الأول في هذا المضمار كما وأنه لا يختص بمعنى الخاسر أبي جهل أو غيره من أضرابه ، لأن اللفظ عام يدخل فيه كل من خسر الدنيا والآخرة وكل المؤمنين الذين يعملون صالحا «وَتَواصَوْا» عند الاجتماع والمفارقة فيما بينهم بان يوصي بعضهم بعضا «بِالْحَقِّ» في كل نوع من أنواعه ومنه القرآن وكل عمل خير «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ 3» بسكون الباء وقوىء بكسر الباء بنقل حركة الراء إلى الباء في الوقف لئلا يحتاج القارئ إلى الإتيان ببعض الحركة في الوقف ، ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين وهي لغة شاذة ولكنها في دمشق مستفيضة ، وكذلك في حلب ، أن يوصي بعضهم بعضا عند الشدائد وغيرها بالصبر وعن المعاصي التي تشتاق إليها النفس الخبيثة(1/164)
ج 1 ، ص : 165
وعلى الطاعة التي يشق أداؤها حتى على النفس الطاهرة ، قال تعالى (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) الآية 24 من البقرة في ج 3 وأين هؤلاء الأخيار والسادة الأبرار ، وبالصبر على ما يبلو اللّه به عباده من المصائب ، هذا وإن سعادة الإنسان في طلب الآخرة والإعراض عن الدنيا لأن الا نهماك فيها خسران عظيم ، ولما كانت الأسباب الداعية لحب الدنيا ظاهرة والأسباب الداعية لحب الآخرة خفية ، صار أكثر الناس يشتغل في دنياه ويستغرق في طلبها فخسر وبار وأهلك نفسه بتضييع عمره ونفاده في دنياه ، فالسعيد من كان شغله الشاغل في آخرته وأجمل في طلب الدنيا قال صلّى اللّه عليه وسلم الدنيا حلوة خضرة وإن اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون وقال عليه السلام اجملوا في طلب الدنيا (أي لا تنكالبوا عليها) فإن كلا ميسر لما خلق له وإن ما هو مقدر لك واصل إليك لا محالة راجع الحديث أول سورة القلم المارة ، قال الشافعي رحمه اللّه لو لم ينزل اللّه غير هذة السورة لكفت الناس لاشتمالها على علوم القرآن.
وأخرج الطبراني والبيهقي عن أبي حذيفة قال كان الرجلان من أصحاب الرسول إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر.
أي ليبقيا متيقطين.
هذا ، واللّه أعلم وأستغفر اللّه العلي العظيم وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
تفسير سورة العاديات
14 - 100
نزلت بمكة بعد العصر ، وهي إحدى عشره آية وأربعون كلمة ، ومائة وثلاثون حرفا ، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى «وَالْعادِياتِ) الخيل الغازية في سبيل اللّه تعدو عدوا سريعا وتضبح عند جريها «ضَبْحاً 1» هو صوت أجوافها قال ابن عباس ليس شيء يضبح سوى الفرس والكلب وأصل العاديات بالواو أي العادوات لأن فعلها واوي فقلب ياء لانكسار ما قبلها وضبحا مفعول مطلق وهو أنفاس الخيل عند العدو وقال علي كرم اللّه وجهه الضّبح من الخيل(1/165)
ج 1 ، ص : 166
الحمحمة وفي الإبل التنفس قال عنترة :
والخيل تكدح حين تضبح في حياض الموت ضبحا
«فَالْمُورِياتِ» الخيل التي توري النار بسبب اصطدام حوافرها في الأرض الصلبة تقدح «قَدْحاً 2» يقال قدح فأورى إذا أخرج النار ، وقدح فأصلد إذا لم يخرجها «فَالْمُغِيراتِ» الخيل التي تغير بفرسانها بسرعة إلى مجابهة العدو «صُبْحاً 3» لأن الناس في غفلة عن الاستعداد وكانوا يمدحون هذه الحالة وقيل فيها :
قومي الذين صبحوا الصباحا يوم النخيل غادة ملحاحا
وقال تعالى : (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الآية 177 من سورة الصافّات في ج 2 «فَأَثَرْنَ» هيجن تلك الخيل المغيرة «بِهِ» بحوافرها الموريات في الصباح الذي أغارت فيه «نَقْعاً 4» غبارا علا المكان الذي مرزن فيه قال ابن رواحة :
عدمت خيلنا ان لم تروها تثير النقع من كتفي كداء
وقد حقق اللّه قوله يوم الفتح حيث دخلوها من كداء «فَوَسَطْنَ بِهِ» بذلك النقع الناشئ عن الاغارة «جَمْعاً 5» أي صرن بعدوهن وسط الجمع من الأعداء.
وقد أقسم اللّه بخيل الغزاة أتى هذا وصفها تنبيها لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية.
الأجر والغنيمة وأظهار الكلمة وإذلال الأعداء وتعظيما لشأن الغزاة وحثا لهم على الاقدام وعلى أقتناء الخيل ولهذا وردت أحاديث كثيرة في فضل رباطها منها قوله صلّى اللّه عليه وسلم الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة وقال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الآية 6 من الأنفال في ج 3 وسيأتي ما ورد فيها عند تفسيرها إن شاء اللّه وجواب القسم قوله «إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ 6» كفور لنعمة ربه والكند الجحد قال :
كنود لنعماء الرجال ومن يكن كنود لنعماء الرجال بعيد
مطلب في وصف خيل الغزاة :
وقال الفضيل بن عياض : الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان ، وضده الشكور ...
«وَإِنَّهُ» أي ذلك الإنسان الشامل لافراده لا يختص(1/166)
ج 1 ، ص : 167
به واحد دون آخر «عَلى ذلِكَ» الحال «لَشَهِيدٌ 7» لأنه لم يظهر أثر أنعام اللّه عليه فقد كفرها فيكون لسان حاله شاهدا عليه دون لسان قاله وأعاد بعض المفسرين الضمير إلى اللّه أي أن اللّه تعالى شاهد على جحوده ، والأول أولى يؤيده قوله جل قوله «وَإِنَّهُ» أي جنس الإنسان قولا واحدا «لِحُبِّ الْخَيْرِ» المال ، وأتى بهذا المعنى هنا ، وفي قوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) الآية 181 من البقرة في ج 3 أي مالا كثيرا ولا يجوز عود الضمير هنا إلى اللّه إذ لا يجوز أن يوصف بقوله «لَشَدِيدٌ 8» بخيل ممسك لاستحالته عليه تعالى ولأن الضمير راجع إلى الجاحد في الجملة الاولى وهنا أيضا وأن اتساق الضمائر وعدم تفككها اولى عند الإمكان كما هنا ، وجاء بكلام العرب شديد بمعنى بخيل ومن قول طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى عقيلة مال الفاحش المتشدد
وإذا لم يكن الرجل هشا منبسطا عند الإنفاق يسمى شديدا عبوسا ولهذا هدده اللّه وأوعده بقوله «أَ فَلا يَعْلَمُ» هذا البخيل مغبة بخله «إِذا بُعْثِرَ» بعث «ما فِي الْقُبُورِ 9» من الموتى واخرجوا من برزخهم وأبرزوا للحساب والجزاء وزيدت الراء في بعثر لأن قيامهم من القبور يكون بعد بعثرة اجزائهم وتفتتها كالتراب ، وعبر عن المبعوثين بلفظ ما دون من ليعم الإنسان وغيره من سائر الحيوان «وَحُصِّلَ» أظهر وجمع «ما فِي الصُّدُورِ 10» من الخير والشر الكامن فيها وميز بينهما
«إِنَّ رَبَّهُمْ» أي أولئك المبعوثون من أجداثهم «بِهِمْ يَوْمَئِذٍ» يوم إخراجهم من قبورهم يوم القيامة وأفرازهم عن بعضهم يوم يقول اللّه جل قوله :
(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس الآتية «لَخَبِيرٌ 11» بما عملوه في دنياهم لا يخفي عليه شيء منه فيجازيهم بحسبه وخص أعمال القلوب بالذكر دون الجوارح لأن أعمالها تابعة لها فلو لا البواعث والواردات في القلب لما حصلت أعمال الجوارح ، هذا وأن ما أخرجه البزار وغيره عن ابن عباس من أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعث خيلا ولبث شهرا لا يأتيه خبر عنها فنزلت هذه السورة لا قيمة له إلا أن يقال تلاها حينذاك لأن هذه السورة مكية ، وبعث السرايا لم يكن إلا(1/167)
ج 1 ، ص : 168
في المدينة بعد الهجرة فلا مجال للقول بصحته من جهة النزول أما التلاوة فنعم.
هذا ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
تفسير سورة الكوثر
عدد 15 - 108
نزلت بمكة بعد العاديات وهي ثلاث آيات ، وعشر كلمات ، واثنان وأربعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، ويوجد في القرآن أربع سور مبدوءة بما بدئت به هذه والفتح ونوح والقدر ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولم تكرر بالقرآن كله.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «إِنَّا» نحن إله السموات والأرض وما فيهما وما فوقهما وتحتهما «أَعْطَيْناكَ» يا أكمل الرسل «الْكَوْثَرَ 1» نهرا في الجنة يدعى بهذا الاسم روى البخاري ومسلم عن أنس قال بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلت ما أضحكك يا رسول اللّه قال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) إلخ قال : أتدرون ما الكوثر قلنا اللّه ورسوله أعلم : قال فإنه نهر في الجنة وعدنيه ربي عز وجل ، خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد نجوم السماء فيختلج (أي يذاد عنه ويمنع) العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي ، فيقول ما تدري ما أحدث بعدك.
وقد ذكرنا في تفسير الآية 6 من سورة المزمل المارة أنها نزلت في اليقظة وأن حضرة الرسول حينما أغفى هذه الاغفاءة رأى نفس النهر الذي أخبره به ربه في هذه السورة فذكره لأصحابه ويؤيد هذا قوله في الحديث (آنفا) أي قبل الوقت الذي ذكر لهم الحديث عنه ، لأن هذه اللفظة تفال على ما قبل المتكلم ويطلق الكوثر على الخير الكثير أي أن اللّه تعالى إعطاء خيرا كثيرا جزيلا في جملة نهر الكوثر ، قالت عائشة : ليس أحد يدخل إصبعيه في أذنه إلا يسمع خرير ذلك النهر وهو على التشبيه البليغ وإذا كان كذلك وهو كذلك «فَصَلِّ» يا حبيبي وادع واذكر وتفرغ «لِرَبِّكَ» الذي رباك وأغدق عليك نعمه وأعزّك بعطائه وشرفك بانتسابك اليه وصانك من منن الخلق مراغما لقومك(1/168)
ج 1 ، ص : 169
الذين يعبدون غيري «وَانْحَرْ 2» ما تذبحه من الأنعام لوجهي وباسمي مخالفا عادة قومك الذين يذبحون للأوثان ويذكرون أسمائها على ذبائحهم «إِنَّ شانِئَكَ» مبغضك «هُوَ الْأَبْتَرُ 3» المنقطع عن الخير الذي لا يذكر بعد موته بخير ما والأبتر في عرفهم الذي لا عقب له.
نزلت في العاص بن وائل إذ أطلق على حضرة الرسول لفظ الأبتر بسبب موت أولاده الذكور فرد اللّه عليه بأنه هو الأبتر المنقطع دابره وأنت الأعز الأشرف الذي يبقى ذكره مرفوعا لآخر الدهر ، وقد ذكرنا عدم اتجاه قول من نسى هذه الصلاة وفي كافة السور التي نزلت قبل الاسراء بالصلاة المفروضة أو بصلاة العيد لأنهما لم يفرضا بعد ولم يكن في مكة صلاة عيد البتة والقول بأن السورة مدنية ضعيف مخالف لما عليه الجمهور وأضعف منه القول بأنها نزلت مرتين وأن تلاوتها عند وجوب صلاة العيد ونحر الضحايا لا يعني أنها نزلت ثانيا ولا مانع أن يقال أنها من المقدم نزوله على حكمه المار ذكره في الآية 10 من سورة الأعلى ، واللفظ يحتمل ذلك وفيها من الأخبار بالغيب بأن اللّه تعالى بوسع على نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ويكثر من النحر ، وأنها ستكون صلاة تسمى صلاة العيد ، وتكون بعكس ما تأخر حكمه عن نزوله كما في الآية 15 من سورة الأعلى المارة.
وما قيل إنها نزلت في أبي جهل عند وفاة ابراهيم ابن حضرة الرسول لا صحة له لأن الخبيث قتل قبل وفاته على التحقيق لأنه من مارية القبطية وقد أهديت للرسول وهو بالمدينة.
وكذلك القول بنزولها في أبي لهب غير صحيح للعلة نفسها وقد فندنا القول بنزول بعض القرآن مرتين من سورة الفاتحة المارة ، هذا وهذه أقصر سورة في القرآن من حيث الآيات والكلمات وقد جرى على ألسنة بعض الجهلة (أقصر من سورة الكوثر) وهذا لا يجوز البته لأن القرآن عبره ومواعظه جليلة في قليله وكثيره ، وهو انما أنزل ليعتبر ويتعظ به لا ليتمثل به فحسب مما هو غير لائق بجلالته راجع سورة الفيل الآتية تجد ما يتعلق بهذا البحث.
هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم كثيرا.(1/169)
ج 1 ، ص : 170
تفسير سورة التكاثر
عدد 16 - 102
نزلت بمكة بعد الكوثر ، وهي ثماني آيات ، وثمانية وعشرون كلمة ، ومائة وعشرون حرفا ، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدئت وختمت به ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى «أَلْهاكُمُ» عاقكم وأخركم أيها الناس واشغلكم «التَّكاثُرُ 1» بالأموال والأولاد والمباهات والمفاخرة والتباري بالعدوان والمناقب والسمعة عن طاعة ربكم وإدامة ذكره وبقيتم في ذلك منهمكين معرضين عما ينجيكم من الآخرة «حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ 2» أي متم ودفنتم فيها يقال لمن مات زار قبره أو رمسه ، أي منعكم حرصكم على تكثير أموالكم عما يقربكم من ربكم إلى أن هلكتم.
روى مطرف بن عبد اللّه بن الشخير عن أبيه قال انتهيت إلى رسول اللّه وهو يقرأ هذه الآية فقال : يقول ابن آدم مالي ، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأبقيت وما أكلت فأفنيت وما لبست فأبليت ؟! أخرجه الترمذي ، وروى البخاري عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقي واحد ، يتبعه ماله وأهله وعمله ، فيرجع ماله وأهله ويبقى عمله ، نزلت هذه الآية في بني عبد مناف وبني سهم بن عمرو كل يقول نحن أكثر سيدا وأعز عزيزا وأعظم نفرا وأكثر عددا حتى ان كلا منهم عد موتاه فكثر بنو سهم بني عبد مناف بثلاثة أبيات ، فرد اللّه عليهم بلسان نبيه «كَلَّا» أي ليس التكاثر المحمود الذي يتنافس به المتنافسون بكثرة الأموال والأولاد ولكنه بالأعمال الصالحة ، وما قيل إنها نزلت في الأنصار الذين تفاخروا بأحيائهم وأمواتهم لا يصح ، وكذلك القول بأنها نزلت في طائفتين من اليهود غير صحيح لأن الأنصار واليهود في المدينة ، ولم ينزل عنهما شيء في مكة وهي مع وجود السبب عامة ، في كل من هذا شأنه ، لما ذكرنا بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ثم هدد اللّه المتكاثرين بقوله «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» عاقبة هذا التباهي والتفاخر في برزخ القبر ، إذا أنزل بكم الموت الذي هو خاتمة ايام الدنيا ومفتتح أيام الآخرة(1/170)
ج 1 ، ص : 171
«ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ 3» مخافة يوم الحشر والنشور ، قال علي كرم اللّه وجهه كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة التي فيها هذه الآية فأيقنا ، قال تعالى مكررا الردع والزجر تأكيدا لعظم ما يلاقونه عند البعث «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ 4» الحال الذي أنتم فيه بأنه زائل ، وأن ما بين أيديكم لا ينفعكم نفعا دائما إذ لا يكون إلا بالعمل الصالح «عِلْمَ الْيَقِينِ 5» كالأمور التي تتحقون صحتها وتتيقنون وقوعها لما ألهاكم تكاثركم ولأشغلكم خوف الآخرة وعذابها عن كل ما في الدنيا ، راجع تفسير آخر سورة الواقعة الآتية ، ثم أكد الإنذارات الثلاثة بالقسم وعزتي وجلالي «لَتَرَوُنَّ» أيها المتفاخرون المتكاثرون «الْجَحِيمَ 6» بأبصاركم عيانا بعد الموت قبل الجزاء ، وهي التي أوعدكم العذاب فيها على لسان رسله ، ثم كرر القسم تشديدا للتهديد وتهويلا للأمر فقال عز قوله «ثُمَّ لَتَرَوُنَّها» أي الجحيم المذكورة «عَيْنَ الْيَقِينِ 7» بالمشاهدة لاخفاء فيها ، وهذا القسم من نوع الأقسام المضمرة التي تدل عليها اللام وقد يستدل عليها بالواو معنى كقوله تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) الآية 75 من سورة مريم الآتية والأولى في القرآن كثير ، وإن غالب الأقسام المحذوفة الفعل تكون بالواو وإذا ذكر حرف القسم أتى بالفعل كقوله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الآية 52 من سورة النور وقوله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ) الآية 73 من سورة التوبة في ج 3 وإذا لم يوجد الفعل لا توجد الياء قطعا ولهذا أخطأوا عند قوله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية 12 من سورة لقمان في ج 2 ، وقوله (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) الآية 12 من الأعراف الآتية (وقوله إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) 119 من المائدة في جزء 3 ومن القسم.
واليقين اعتقاد الشيء أنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا اعتقادا مطابقا المواقع غير ممكن الزوال ثم كرر القسم التهديدي تأييدا للتأكيد فقال «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ) يوم الحساب الذي سينال فيه كل أحد جزائه «عَنِ النَّعِيمِ» الذي شغلكم الالتذاذ به في الدنيا عن القيام بأمر الدين.
روي عن ابن الزبير أنه قال لما نزلت هذه الآية قال الزبير رضي اللّه عنه يا رسول اللّه وأي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء قال أما إنه سيكون(1/171)
ج 1 ، ص : 172
وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ.
ولهذا فسر بعضهم النعيم بالصحة والأمن وفسره بعضهم بما جاء في قول الشاعر :
خبز وماء وظل هو النعيم الأجل
جحدت نعمة ربي ان قلت اني مقلّ
وقال الحسن هو ما سوى كنّ يؤويه ، وأثواب تواريه ، وكسرة تغذيه.
والآية عامة في كل ما يطلق عليه اسم النعيم وسيأتي بحث معنى اليقين في الآية 52 من سورة الحاقة وإن النعيم نسبي بحسب الأشخاص والأحوال والأمكنة.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا.
محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
تفسير سورة الماعون
عدد 17 و107
نزلت بعد التكاثر في مكة وهي سبع آيات ، الثلاث الأول نزلت في مكة في العاص بن وائل والأربع الأخر نزلت في المدينة في عبد اللّه بن أبي بن سلول ، وتسمى سورة أرأيت ، ويوجد في القرآن خمس سور مبدوءة بهمزة الاستفهام هذه والإنسان والغاشية والانشراح والفيل ، ولا يوجد سورة بسبع آيات إلا هذه والفاتحة ، وهي خمس وعشرون كلمة ، ومائة وخمسة وعشرون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى «أَ رَأَيْتَ» من رأي البصرية تنزيلا للمعقول منزلة المحسوس إشعارا بأن ذلك المعقول صار أمرا محققا لا شبهة فيه أي أأبصرت أيها العاقل هذا «الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ 1» بعد ظهور دلائله ووضوح بيانه وقرىء أريت بلا همز بحمل الماضي على المضارع المطرد فيه حذف الهمزة «فَذلِكَ» المكذب الكافر هو الّذي «يَدُعُّ» يدفع بعنف وجفاء «الْيَتِيمَ 2» عن حقه ويرده ردا قبيحا بزجرا وخشونة ليزيد في قهره «وَلا يَحُضُّ» مع ذلك الردع ولا يحث «عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ 3» فضلا عن انه(1/172)
ج 1 ، ص : 173
لا يطعمه هو فلو كان هذا يؤمن بالحساب والجزاء لما فعل ذلك وانما نزلت هذه الآيات في العاص المذكور لاتصافه بهذه الأخلاق الذميمة.
وقيل إنها نزلت في الوليد بن المغيرة أو عمر بن عائد المخزومي وهي صادقة في كل من هذا ديدنه عامة إلى يوم الدين وهذه الآيات المدنيات التي نزلت بالمنافق المذكور آنفا وتشمل أضرابه الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ولا يتقيدون بأمور الدين إلا رياء وتقية فقال جل قوله «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ 4 الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ 5» لا يلقون لها بالا ولا حرمة ولا يخشعون فيها خضوعا لربهم لأنهم يراءون بها رياء إذا حضرهم المؤمنون ويتركونها إذا غابوا عنهم لعدم اعتقادهم بها وعدم رجاء الثواب على فعلها وهذا شأن المنافقين كلهم فيما يتعلق بأمور الدين وقد نصحهم اللّه بقوله عز قوله «الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ 6» الناس بجميع أعمالهم ولا يعملون شيئا خالصا للّه فيدخلون أنفسهم في زمرة المصلين وطائفة المتصدقين وجماعة المتقين تقية وإلا فهم غافلون عن حقيقة الصلاة ولا يعلمون ماهية التقوى «وَيَمْنَعُونَ» مع ذلك كله أن يعيروا جارهم أو غيره «الْماعُونَ 7» الذي من شأنه ألا يمنع كالقدر والدلو والقدحة والماء والملح والنار والبئر والتنور مما يتساهل الناس في طلبه واستعماله ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن كله وفي هذه الآية حث على إعارة هذه الأشياء وشبهها وإباحة استعمالها وزجر عن منعها والبخل بمثلها لحقارتها وتفاهتها ، لذلك قال العلماء يستحب للقادر أن يكثر في بيته مما يحتاجه الجيران ليعيرها ويتفضل عليهم بما فضله اللّه به ولا يقتصر على حاجته من ذلك قال انس والحسن الحمد للّه الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم لأن معنى أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة مبالاة والتفات إليها وهو فعل المنافقين الذين يجب الابتعاد عنهم.
مطلب السهو بالصلاة ولزوم الخشوع فيها :
معلوم أن السهو قد يعتريهم بوسوسة أو حديث نفس وهذا لا يخلو المسلم ، منه حتى أن الرسول كان يقع منه سهو فيها لغيبوبته عن نفسه الطاهرة عما سوى اللّه تعالى وفيه قيل : (1/173)
ج 1 ، ص : 174
يا سائلي عن رسول اللّه كيف سها والسهو في كل قلب غافل لاهي
قد غاب عن كل شيء سوه فها عما سوى اللّه فالتعظيم للّه
وليعلم أن الخشوع من واجبات الصلاة وعدمة يفضي إلى التهاون بها فينبغي للمصلي أن يجتهد لاحضار قلبه فيها ويخطر فيه أنه واقف بين يدي اللّه عز وجل فجدير به أن يكون خاضعا خاشعا له حاصرا فكره فيما يقرأه فيها من كلام اللّه ليؤديها بوجه كامل ولئلا يدخل في قول القائل :
تصلي بلا قلب صلاة بمثلها يكون الفتى مستوجبا للعقوبة
أما تستحي من خالق الملك أن يرى صدودك عنه يا قليل المروءة
فعلى العاقل أن يعلم حين صلاته بين يدي من هو واقف ، وليجتهد بإفراغ قلبه عما سوى اللّه ، فيلازم الخشوع والخضوع والخوف ويتذكر وقوفه في موقف القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم ولهذا البحث صلة في أول سورة المؤمنين في ج 2 ، وليعلم أن اللّه لا يقبل عملا من قلب غافل لاه هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
تفسير سورة الكافرون
عدد 18 - 109
نزلت في مكة بعد الماعون وهي ست آيات ، ومثلها سورة الناس فقط ، وعشرون كلمة ، وأربعة وتسعون حرفا ، ويوجد في القرآن خمس سور مبدوءة بما بدأت به هذه والجن والإخلاص والفلق والناس ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ 1» أمر اللّه رسوله أن يخاطب الرهط من قريش الذين قالوا له يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك بأن تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة ، وهم أناس مخصوصون ، علم اللّه أنهم لا يؤمنون فأذن له أن يقول لهم «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ 2» من الآلهة لأنها أوثان لا تضر ولا تنفع وهي من عمل البشر الذي هو من عمل اللّه ربي فمعاذ اللّه(1/174)
ج 1 ، ص : 175
أن أشرك به غيره.
قالوا فاستلم لبعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك (الاستلام يكون باليد على طريق التبرك كاستلام الحجر الأسود» فلم يفعل وأنزل اللّه هذه السورة قال تعالى «وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ 3» لأنكم تعبدون الأوثان وأنا أعبد الرحيم الرحمن الواحد الذي لا شريك له ولا رب غيره «وَلا أَنا عابِدٌ» الآن ولا في المستقبل «ما عَبَدْتُّمْ 4» من الأصنام وغيرها «وَلا أَنْتُمْ» الآن «عابِدُونَ ما أَعْبُدُ 5» ولعل اللّه أن يهديكم فيما بعد إذا أراد بكم خيرا ، أما إذا بقيتم مصرين على ما أنتم عليه ولم تتابعوني إلى ما أرشدكم إليه في الدين القويم فأقول «لَكُمْ دِينُكُمْ» الذي تدينون به هو الإشراك باللّه وعليكم وزره «وَلِيَ دِينِ 6» الذي أدين به وهو الإخلاص للّه وحده ولي أجره ، ولم يقل ديني لأن الآيات قبلها مختومة بالنون ، ويجوز حذف الياء بلا حاذف مثل قوله تعالى يهدين ويحيين ويسقين ويشفين من سورة الشعراء ، وقوله (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) من سورة الفجر وما أشبه ذلك ، فلما قرأها عليهم ايسوا منه وبادروا بأذاه ، وقد سمى كفرهم دينا على حسب اعتقادهم ، ولمشاكلة اللفظة وفي معنى الآية الأخيرة تهديد على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 20 من سورة فصلت في ج 2 والتكرار في الجملة الاولى يفيد التأكيد وكلما كانت الحاجة ماسة إلى التأكيد كان التكرار أحسن ولا موضع أحوج منه هنا ، وذلك لأن القرآن نزل بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم ، وبما أنهم كانوا وثنيين ينكرون البعث والتوحيد والنبوة فلا جرم أن التكرار لازم لهم لأجل التقرير ، وقد تقربى في علم الاجتماع أن الدعوة تستدعي التأكيد والتكرار ، وإذا تأملت في نظم القرآن وجدت أن ما ذكر موضوع منه لنكتة ، لا يذكر في اخرى إلا لنكتة أخرى وإذا أمعنت النظر في قصة بدء الخليقة المكررة في مواقع كثيرة من القرآن عملت أنها في كل موقع لنكتة
لا تجدها في الموضع الآخر كما سيتضح لك من إنعامك النظر فيما سيأتي من هذا القبيل إذا تذكرت وأبقيت هذا في فكرك.
وأن العرب من مذاهبهم التكرار ارادة التوكيد والإفهام ، كما أن من مذاهبهم الاختصار وارادة التخفيف ولا يجاز.
روي أن(1/175)
ج 1 ، ص : 176
ابن مسعود دخل المسجد والنبي صلّى اللّه عليه وسلم جالس فقال له نابذ يا ابن مسعود ، فقرأ هذه السورة في الركعة الأولى ، ثم قال له في الركعة الثانية أخلص ، فقرأ سورة الإخلاص ، فلما سلم قال يا ابن مسعود سل تجب.
وهذه السورة محكمة غير منسوخة لأن القصر المستفاد من تقديم المستند قصر إفراد حتما ، لأن المعنى فيه أن دينكم هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول إليّ ، فلا تعلقوا فيه أمانيكم الفارغة فإن ذلك محال وان ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لما لا يتجاوزه إلى الحصول لكم ، لأن اللّه تعالى ختم على قلوبكم فلا تنالونه ، وقد مر أنهم كفار مخصوصون سبق في علم اللّه عدم إيمانهم وهم على ما قيل قيس السهمي والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عيد يغوث والأسود بن عبد المطلب بن أسد وأمية بن خلف وأضرابهم كأبي جهل وأبي لهب الذين ماتوا وقتلوا على كفرهم.
واعلم أن من الناس من يتمثل بالآية الأخيرة على معنى المتاركة وهو غير جائز لأن القرآن نزل ليتدبر ويعمل فيه لا ليتمثل به ، راجع سورة الكوثر المارة وسورة الطارق الآتية لنقف على مثل هذا ، وأعلم أن هذه السورة المبدوءة بلفظ قل يجوز قراءتها بغير قصد القرآن بلا لفظ قل ، كأن يقول عند الخطاب يا أيها الكافرون ، هو اللّه أحد ، أعوذ برب الفلق ، أعوذ برب الناس ، لأن الخطاب فيها وإن كان لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلم فهي عامة لجميع المؤمنين ، أما قل أوحي فلا ، لأنها خاصة بحضرة الرسول فقط لأن اللّه خاطبه بها ليقصها على الجن والإنس وإذا سأله قومه عما ذكر فيها يقول لهم إن اللّه تعالى أوحى إليّ بها ، تأمل هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تفسير سورة الفيل
عدد 19 - 105
نزلت بعد (الكافرون) بمكة وهي خمس آيات ، وثلاث وعشرون كلمة ، وستة وتسعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، لأنها من الاخبار ولا يدخلها النسخ.(1/176)
ج 1 ، ص : 177
«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم»
قال تعالى : «أَ لَمْ تَرَ» يا سيد الرسل رؤية علم لا رؤية بصر ، لانه لم يحضر هذه الحادثة وكانت ولادته في سنتها «كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ 1» عجب اللّه نبيه لصنعه فيهم وعدم اعتبار كفار العرب الذين شاهدوا تلك الآية العظيمة التي أوقعها اللّه عليهم وبقيت أخبارها متواترة مستفيضة كأنها مشاهدة رأي العين إذ لا يستطيع أحد إنكارها لوقوعها سنة 571 من ميلاد عيسى عليه السلام وذلك على ملأ من أهل مكة ومجاوريها وكثير منهم ان لم نقل كلهم رآها بأم عينه من غير نكير من أحد ما ، ولهذا قال تعالى :
«أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ» الذي كادوه وسعيهم الذي جاءوا من أجله لتخريب الكعبة «فِي تَضْلِيلٍ 2» تضييع وخسران إذ لم يتمكنوا من تنفيذ ما صمموا عليه لأن اللّه تعالى أبطله باهلاكهم المبيّنة كيفته بقوله «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ» عند ما وصلوا إلى حرم مكة وجزموا على دخولها وتخريب البيت ولم تنههم حرمثه وتعظيمه ولم يبالوا بسكانه وسدنته «طَيْراً أَبابِيلَ 3» مثال الخطاف وهو جند من جنود اللّه صارت «تَرْمِيهِمْ» بما في منقارها وأرجلها «بِحِجارَةٍ» كأنها «مِنْ سِجِّيلٍ 4» طين متحجر كالآجر أي اللبن المحرق بقصد اشتداد قوته وسمى سجيلا لأن سجيل علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفّار كما سيأتي في سورة المطففين في ج 2 ، أي أن تلك الطير رمت أبرهة وجيشه بعذاب من جملة العذاب المدون لأهل النار «فَجَعَلَهُمْ» ربك يا سيد الرسل «كَعَصْفٍ» زرع وتبن مهشم بوطئه «مَأْكُولٍ 5» من الدواب ثم راثت به وفرقت أجزاءه ، شبه تفرق القوم وتقطع أوصالهم بتفرق الروث بعد فتاته بجامع عدم الاجتماع في كل ، أي أنهم صاروا كالروث ولكن لهجنته لم يذكره فجاء به بلفظ آخر يدل عليه على نمط الآداب القرآنية ليتعلم عباده التأديب عن مثلها ، ولهذا ترى كثيرا من العارفين ينزهون ألسنتهم عن النطق بما يستهجن.
مطلب آداب العارفين وقصة الفيل :
وقد شاهدت شيخنا الشيخ بدر الدين الحسني شيخ دار الحديث بدمشق رحمه اللّه حين سأله أحد تلامذته في شهر رمضان سنة 1343 عن معنى القذرة إذ مرت ت (12)(1/177)
ج 1 ، ص : 178
لنا أثناء الدرس الذي كنا نتلقاه عنه ، فقال هي مثل ونيم الذباب ، فسأله عنه فقال كرجيع الكلاب ، فسأله عنه فقال كخشي البقر ، فسأله عنه فقال كزرق الحمام ولم يزل يسأل حتى قال له مثل بعر الغنم والإبل ، والروث للحمار والفرس هو الغائط للانسان محاولا بذلك عدم النطق بلفظها المشهور.
وأظن أن هذا الطالب أراد إلجاء الشيخ للنطق بها فلم يفلح ، وما قيل إن اللّه سلط عليهم الجدري أو ردهم بما يشبه التسمم (ميكروب) ينافي صراحة الآية وحقيقتها.
اللهم إلا أن يقال ان ذلك نشأ عن رميهم واللّه أعلم ، وخلاصة قصة الفيل هي أن أبرهة الحبشي لما ولي اليمن ورأى الناس يتجهزون أيام الموسم لزيارة الكعبة المشرفة ، بنى كنيسة في صنعاء ودعا العرب لحجها وكتب إلى النجاشي بذلك ، فسمع مالك بن كنانة فذهب إليها وتفوط فيها ، وزعم مقاتل أن فئة من قريش أجّجوا نارا في يوم عاصف فهاجت الريح واضطرم الهيكل أي في البيعة المذكورة التي بناها أبرهة وسماها القليس ، فاغتاظ أبرهة وعزم على هدم الكعبة انتقاما ، فسار بجيشه نحوها وكان دليله أبو رغال الثقفي جد الحجاج فمات بالمغمس - محل قريب من مكة على طريق الطائف كان نزل به أبرهة بجيشه ودفن فيه - وصارت العرب ترجم قبره كلما مروا به جزاء لفعله حتى صار مثلا قال جرير :
إذا مات الفرزدق فارجموه كرجم الناس قبر أبي رغال
هذا ، وما يقوله البعض من أن رمي الجمار الثلاث بمنى كناية عن رجم قبر المذكور ، ليذوم ذكر فعله القبيح على ألسنة الناس فقد اخطأ ، لأن الرمي في منى من المواضع التي تمثل بها إبليس عليه اللعنة لسيدنا ابراهيم عليه السلام حينما ذهب بابنه إسماعيل ليقربه إلى اللّه تصديقا لرؤياه ، والرمي معروف قبل الإسلام وقبل ابرهة لأنه من شعائر الحج ، وقبر أبي رغال ليس في محل الرجم في منى ، بل هو على طريق الطائف للقادم منه إلى مكة وقد أجمع الفقهاء والمحدثون والمفسرون عل هذا وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 113 من سورة الصافات في ج 2(1/178)
ج 1 ، ص : 179
والآية 97 من آل عمران والآية 25 من الحج في ج 3 فراجعها ففيها الكفاية.
على أن ما بين حادثة ذبح إسماعيل عليه السلام وحادث ابرهة وموت أبي رغال ما يقارب الفين وثمنمئة سنة فأي عقل يقبل هذا ، وأي عاقل يقول ان الرمي الذي أحدث من زمن الذبح أحدث عند موت ابي رغال ، عليك بالمرجفين بإذا الجلال فانا أحلناهم إليك يا اللّه.
هذا ولما دخل ابرهة حرم مكة عسكر بالمحصب بالشعب الذي مخرجه إلى الأبطح قريب من منى وأرسل الأسود بن مسعود فجمع نعم أهل مكة وأتى به اليه ثم أرسل حناطة الحميري ليخبر شريف مكة بأنه لم يأت لقتال بل لهدم الكعبة فقط فجاءه شريفها عبد المطلب بن هاشم جد محمد صلّى اللّه عليه وسلم فاحترمه أبرهة ونزل عن كرسيه وجلس معه على البساط لئلا يترفع عليه ، ثم انه طلب من ابرهة أن يرد عليه الإبل قبل أن يفاتحه بأمر الكعبة فقال له ابرهة : زهدت فيك لأنك لم تطلب أولا الكف عن التعرض للبيت الذي هو شرفكم وعصمتكم وأعطاه الإبل لأنه يعلم أن مثله لا يرد ، ولكن أثرت كلمة ابرهة فيه فقال له : إنك لا تستطيع أن تعمل شيئا في البيت لأن له ربا يحميه منك ومن غيرك ، وبما أني رب الإبل طلبتها منك لقدرتك على إتلافها.
ثم تركه وذهب إلى البيت وأخذ بحلقة بابه وقال :
لا هم أن المرء بمنع رحله فامنع رحالك وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك جرّوا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم جهلا وما رقبوا جلالك إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك
ثم قال :
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع عنهمو حماكا
إن عدو البيت من عاداكا امنعهمو أن يخربوا فناكا
ثم انطلق إلى شعف الجبال ينظر ما اللّه فاعل بأبرهة وجيشه فأصبح ابرهة وقد تهيأ للدخول إلى مكة ووجه الفيل نحوها وكان نفيل بن حبيب الخثعمي رأس خثعم لما رأى ابرهة متوجها إلى الكعبة بذلك القصد ، قاتله مع عشيرته فقهره ابرهة لكثرة عدده وعدده وأخذه معه أسيرا إلى مكة ، ولما رأى الفيل توجه نحو الكعبة أخذ(1/179)
ج 1 ، ص : 180
بإذنه وقال له : أبرك أبا محمود وارجع راشدا فإنك ببلد اللّه الحرام ، من حيث لم يعلم ابرهة بذلك ، فألقى اللّه في قلب الفيل البروك ، كما ألقى في قلب نفيل أن يقول له ذلك ، فبرك واستعصى فضربوه بالمعاول فأبى التوجه نحو الكعبة فوجهوه نحو اليمن فقام يهرول ، فوجهوه نحو الشمال فقام يهرول ، ثم صعد نفيل إلى الجبل وتركهم يعالجون أمر الفيل فرأى طيرا كثيرا أقبل من نحو البحر ، وغشي القوم وصار يرميهم بأحجار من منقاره ورجليه ، فتصيب الرجل فتخرقه وتنزل إلى الأرض ، ولم يزل ذلك الطير يرميهم حتى بدد اللّه الجيش بأجمعه وحمى حماه.
قالوا إن الأحجار كانت ما بين العدسة والحمّصة وإن من هرب من الجيش عند ما صار الرميء من قبل الطير لم يهتد إلى الطريق فصاروا يصيحون نفيلا ليدلهم عليه فقال نفيل في ذلك :
فإنك ما رأيت ولن تراه لدى حين المحضب ما رأينا
حمدت اللّه إذ أبصرت طيرا وحصب حجارة تلقى علينا
وكلهم يسائل عن نفيل كأن عليّ للحبشان دينا
وقال نفيل وصاروا يتساقطون على الطريق ويهلكون.
وأرسل اللّه على ابرهة داء فتساقطت أنامله ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الطير فانصدع صدره عن قلبه ومات فيه ، قال ابن الزبعرى :
سائل امير الجيش عنا ما ترى ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون الفا لم يؤبوا أرضهم بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
وقال أمية بن الصلت :
إن آيات ربنا ساطعات ما يماري فيهن إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى ظل يعوي كأنه معقور
فلما بلغ هذا عبد المطلب رفع رأسه إلى السماء وقال مخاطبا ربه عز وجل :
أنت منعت الجيش والأفياله شكرا وحمدا لك ذا الجلالة
هذا وإنه جل شأنه لم يفعل ذلك لنصرة قريش لأنهم كانوا كفارا بل صيانة لبيته المعظم مما عزم عليه ابرهة ، وتكريما لنبيه المكرم إذ ولد فيه إذ ذاك فهو(1/180)
ج 1 ، ص : 181
أول خير اتي قريشا منه.
هذا وإن المغمس المذكور في شعر أمية آنفا دفن فيه أبو رغال المار ذكره ، والمحصب الذي نزل فيه ابرهة دار بين مكة ومنى ، عن يمينه غار ثور الذي تخبأ به حضرة الرسول وأبو بكر وقت الهجرة وعن يساره غار حراء الذي نزل أول وحي به ، ووقعت حادثة الفيل فيه بعد موت أبي رغال.
مطلب رمي الجمار بمنى :
ورمي الجمار بمواقع مخصوصة في منى ، فكيف تلوك بعض الألسن بما هو خلاف المحسوس ، قاتل اللّه أهل السمعة الذين يريدون أن يعرفوا بالمخالفة على حد خالف تعرف.
ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في القرآن العظيم هذا.
وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الفلق
عدد 20 - 113
نزلت بمكة بعد سورة الفيل ، وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة ، وأربعة وسبعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها :
«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم».
قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل إذا أردت أن تحترز مما تخاف وتحذر «أَعُوذُ» التجئ واعتصم «بِرَبِّ الْفَلَقِ 1» الّذي فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد ، والصبح بنور النهار ، لأن الليل ينفلق عنه ، قال ابن عباس الفلق سجن أو واد في جهنم تستعيذ منه أهل النار ، وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة ظلمة الليل عن العالم بفلق الصبح ، قادر على أن يدفع عن المستعيذ به ما يخافه ويخشاه ، وخصصه بالتعوذ لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة دعوة الملهوفين «مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ 2» ومن شر كل ذي شر وخاصة فتنة الدجال ومن النار ، وإبليس وأعوانه من الجن والإنس لأنهم شر الخلق وفيه تنبيه على أن الذي فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد ، قادر على أن يجير المستعيذ به من شر خلقه المضلين والضالين «وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ» هو الليل عند اشتداد ظلمته وقد أمر(1/181)
ج 1 ، ص : 182
بالتعوذ منه لانتشار الآفات فيه ، وانعدام الغوث غالبا «إِذا وَقَبَ 3» اعتكر ظلامه وقيل هو القمر إذا خسف أخرج الترمذي عن عائشة أنها قالت : إن رسول اللّه نظر إلى القمر فقال لها : استعيذي باللّه من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب.
والمراد منه ، واللّه أعلم إذا خسف وسقط لأن هذا يكون يوم القيمة وهو جدير بان يتعوذ منه ، وهناك أقوال بأنه الحية إذا انقلبت بعد اللسع وغير ذلك ، وليست تلك الأقوال بشيء.
«وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ» السواحر اللاتي يتفثن «فِي الْعُقَدِ 4» في الخيط الذي يرقين عليه ، والنفث النفخ مع قليل من الريق وقيل بلا ريق ، وقيل النفث في العقد إبطال العزائم وآراء الرجال بالحيل استعارة من عقد الحبال لأن حب النساء المتغلغل في قلوب الرجال صيرهن يتصرّفن من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة فأمر رسول اللّه بالتعوذ من كيدهن ومكرهن.
قال الإمام الفخر : هذا قول حسن لو لا أنه على خلاف رأي أكثر المفسرين «وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ 5» أظهر حسده وعمل بمقتضاه.
مطلب في الحسد والتعاويذ :
والحاسد الذي يتمنى زوال نعمة الغير أو يسعى في زوالها ، وهو أول ذنب عصي اللّه فيه في السماء من إبليس ، وأول ذنب عصي اللّه فيه في الأرض من قابل وقصتهما ستأتي ، الأولى في الآية 10 فما بعدها من سورة الأعراف الآتية وهي مكررة في القرآن كثيرا والثانية في الآية 21 من سورة المائدة في ج 3.
واعلم إن دواء المحسود لداء الحاسد هو الصبر لا غير قال :
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
وهو في الحقيقة اعتراض على اللّه لأن الحاسد يحسد المحسود على ما أولاه ربه من النعم وحرمه منها ، أما الغبطة وهي تمني مثل ما عند الآخر مع بقائها عنده فهي جائزة.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه اللّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ورجل(1/182)
ج 1 ، ص : 183
آتاه اللّه مالا فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار.
والحكم الشرعي أنه يجوز النفخ في الرقى والتعاويذ الشرعية المستحبة بدليل حديث عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها قالت : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات.
وأما التفل فهو منكر.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد اشتكيت ؟ قال نعم.
قال : بسم اللّه أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد اللّه يشفيك ، بسم اللّه أرقيك.
وجاء في حديث آخر ، جواز أخذ الأجرة على الرقيا.
وقالوا إن العين والحاسد يشتركان في أن كلا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من تريد أذاه إلا أن المعاين تتكيف نفسه عند مقابلة المعيون ، والحاسد يحصل حسده في الحضور والغيبة وقد مر بحث إصابة العين آخر سورة القلم وكررت كلمة الحسد في الآية 109 من البقرة والآية 53 من النساء والآية 15 من الفتح فقط.
هذا ، واللّه أعلم وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا آمين.
تفسير سورة الناس
عدد 21 - 114
نزلت بمكة بعد الفلق ، وهي ست آيات ، وعشرون كلمة ، وتسعة وسبعون حرفا.
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»
قال تعالى «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1» أي كما أمرناك أن تستعيذ برب الفلق فاستعذ برب الناس وحافظهم مما يضرهم مادة ومعنى ، وهو «مَلِكِ النَّاسِ 2» ومالك أمرهم ومدبر أمورهم وقد وصف جل شأنه نفسه بأنه رب الناس ، لأن الرب قد يكون ملكا ، وقد لا يكون ملكا ، فنبه جل شأنه على أنه ربهم.
ثم ان الملك قد يكون إلها وقد لا يكون ، فنبه على أنه «إِلهِ النَّاسِ 3» وأن الإلهية الحقيقية خاصة به ، وكرر لفظ الناس لشرفهم على غيرهم من خلقه ، وكما ينبغي التعوذ من الناس وأقوالهم وأفعالهم ، ينبغي التعوذ أيضا «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ» الشيطان ومعنى الوسواس والوسوسة الصوت الخفي والهمز ، وقد وصفه بقوله «الْخَنَّاسِ 4» أي الرجاع(1/183)
ج 1 ، ص : 184
لأنه كلما ذكر اللّه يخنس ويتأخر ، ويطلق على المختفي لأنه عند الغفلة ينهض ويوسوس قال سعيد بن جبير : إذا ذكر الإنسان ربه خنس وتأخر وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة ولم تنقل لعدم الوقوف على صحتها ، وان كان معناها صحيحا.
واعلم أن الوسوسة للانسان من الشيطان تأتيه لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) الآية 200 من الأعراف الآتية وقال تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) الآية 35 من الزخرف ج 2 ، وبوصفه في قوله تعالى «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ 5» بإلقاء كلام خفي في قلوبهم يصل مفهومه إليها من غير سماع ولا مانع عقلا في ذلك ، لما جاء في الحديث الصحيح أن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم ، وأخرج ابن شاهين عن أنس قال سمعت رسول اللّه يقول : إن للوسواس خطما كخطم الطائر فاذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر اللّه نكص وخنس فلذلك سمى الوسواس الخناس وهو قد يكون «مِنَ الْجِنَّةِ» الأشخاص المتسترين عن أبصار الخلق وهم المعنيون بقوله تعالى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» الآية 46 من سورة الأعراف الآتية «و» يكون من «النَّاسِ 6» ويفعل فعل الجنّة وأكثر لأن وسوسة الناس بعضهم لبعض مشاهدة بمثابة الناصحين فاذا قبل منه زاد في الوسوسة وإذا كره أمسك عنه وجاءه من طريق آخر قال تعالى (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية 113 من الانعام في ج 2 فقد قدم الأنس على الجن وأمر بالاستعاذة من كليهما قال الإمام الأبوصيري ان بعض الأولياء سأل اللّه تعالى أن يريه كيف يأتي الشيطان ويوسوس فأراه اللّه تعالى هيكل الإنسان في صورة بلّور وبين كنفيه شامة
سوداء كالعش والوكر فجآء الخنّاس يتجسس من جميع جوانبه وهو في صورة الخنزير له خرطوم كالفيل ، فأدخل خرطومه من بين الكتفين من قبل قلبه فوسوس اليه فذكر اللّه فخنس ورآه ، لذلك سمي الخناس لأن نور الذكر ينكصه على عقبه ولهذا السر الإلهي كان(1/184)
ج 1 ، ص : 185
خاتم النبوة في هذا المحل إشارة إلى عصمته صلّى اللّه عليه وسلم منه.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم أعانني اللّه عليه فأسلم بالختم وما أسلم قرين آدم فوسوس اليه.
هذا على الرواية بأن الفعل فعل ماض ، وعلى رواية انه فعل مضارع يكون بمعنى السلامة لا بمعنى الإسلام ، تدبر.
وكان صلّى اللّه عليه وسلم يحتجم من بين الكتفين ويأمر بذلك لتضعيف مادة الشيطان وتضييق مرصده لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم كما مر في الحديث ، وقال بعض العارفين أراد برب الناس الأطفال لان معنى الربوبية يدل عليه وبملك الناس الشباب لأنّ لفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه ، وبإله الناس من الشيوخ لان لفظ الإلهية المنبئ عن العبادة يدل عليه ، وبالذي يوسوس إلخ الصالحين لان الشيطان يطمع بإغوائهم وبمن الجنة والناس المفسدين لعطفه على المعوذ منه فهم أكثر من غيرهم لقرب لحوقهم به.
اخرج مسلم والترمذي والنسائي ان رسول اللّه قال أنزلت عليّ الليلة آيات لم أر مثلهن قط : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، وجاء عن عائشة ان رسول اللّه كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات (الإخلاص ، والفلق والناس) وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيديه رجاء بركتهما ، أخرجه مالك في الموطأ وللبخاري ومسلم بمعناه ، وروى البخاري ومسلم أن رسول اللّه كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ المعوذات ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاثا.
هذا وما قيل أنه صلّى اللّه عليه وسلم سحر من قبل اليهود في المدينة وصار يتعوّذ بهما ولم يزل حتى برىء ، فبعيد عن الصحة ، لأن هاتين السورتين نزلنا بمكة في أوائل البعثة ولا خلطة له ولا مراجعة مع اليهود حتى يغتاظوا منه فيسحروه وكيف يسحر وهو معصوم بعصمة اللّه ، وقد نفى اللّه عنه وصفه بالسحر وحماه من السحرة وغيرهم ، وعليه فكل ما ورد في هذا لا عبرة به ولا قيمة لناقليه البتة ، وما قيل أن المعوذتين نزلتا بالمدينة لا صحة له ، لأن القول المعتمد أنهما مكيتان وأن تعوذه بهما استدار للأمر به من سحر وعين وحسد وغيرها له ولأمته إلى يوم(1/185)
ج 1 ، ص : 186
القيامة ، أما كونه صلّى اللّه عليه وسلم سحر في المدينة وصار يتعوذ بهما من السحر فغير صحيح.
مطلب في السحر وعدم وقوعه على الأصول :
وكل ما نقل في هذا مطعون فيه.
والسحر حق لا ينكر وقوعه ولا يجوز نفيه لوروده في القرآن ووروده أنه مما يتعلم وأنه مما يكفر فيه وأنه مما يفرق بين الناس كما سيأتي في سور كثيرة من القرآن ، فلا يمكن القول بعدم حقيقة السحر ومذهب أهل السنة والجماعة على ثبوته وأن له حقيقة كغيره من الأشياء الثابتة ، ولا يستنكر عقلا لأن اللّه تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام مغلق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى لا يعرفها الا الساحر ، فإنه لا فاعل في الحقيقة إلا اللّه القائل : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من سورة الصّافات في ج 2 فما يقع من الساحر عبارة عن عادة أجراها اللّه على يد من شاء من عباده ، وأن كل ما يقع في الوجود بقضاء اللّه وقدره ، والاستشفاء بالرقي والتعوذ من قضاء اللّه وقدره ، يدل على هذا حديث عائشة المتقدم وحديث اسماء الذي ذكرناه آخر سورة القلم المارة وفيه بحث نفيس فراجعه ، وما رواه الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه قال : سألت رسول اللّه فقلت يا رسول اللّه أرأيت رقيا نسترقي بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر اللّه شيئا ؟
قال هي من قدر اللّه.
وقال عمر نفر من قدر اللّه إلى قدر اللّه ، وزعم بعض المبتدعة أن ما جاء في حديث عائشة المتفق عليه الذي رواه البخاري ومسلم من أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم سحر حتى كان يخيل اليه أنه يضع الشيء ولم يضعه إلخ.
يحط من منصب النبوة ويشكك فيها وتجويزه يمنع الثقة بالشرع ، وهو كذلك فيما يتعلق بالدين فقط لأن الدلائل العقلية والنقلية قامت على صدقه صلّى اللّه عليه وسلم وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة على ذلك ، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل ، أما ما يتعلق بأمور الدنيا مما يعرض للبشر عادة فغير بعيد أنه يخيل اليه حال مرضه من أمور الدنيا مالا حقيقة له ، مثل ما يتخيل الإنسان في المنام ، إذ أنه ورد في رواية البخاري أنه كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن يبعد أن يتخيل مثل هذا في اليقظة حال المرض من حيث لا حقيقة له ومن قال أنه صلّى اللّه عليه وسلم سحر أراد هذا المعنى(1/186)
ج 1 ، ص : 187
لا غير لأن اللّه نزهه من أن يكون ساحر أو مسحورا فمن أول النّفاثات في سورة الفلق المارة بنيات لبيد بن الأعصم اليهودي وقال أنهن سحرن رسول اللّه وأن جبريل أخبره بذلك وأن السحر كان على مشاطة منه عقدن عليه أحدى عشرة عقدة ورموها بالبئر ، وأن رسول اللّه حينما نزلت عليه المعوذتان أرسل علينا فأخرج المسحور عليه من تحت صخرة في ذلك البئر وجاء إلى حضرة الرسول وقرأ عليه المعوذتين وانه كلما قرأ آية انحلت عقدة لأنها إحدى عشرة آية والعقد إحدى عشرة عقدة إلى آخر ما ذكره المفسرون وجاءت به الأحاديث من كل حدب وصوب ، لا اعتماد عليه ولا صحة ولا حقيقة له ، إلا أن حضرة الرسول بشر فيصيبه ما يصيب البشر من المرض وغيره ويقع ما يقع منه مثل ما يقع منهم فيما يتعلق بأمور الدنيا ، أما بأمور الدين والتبليغ فلا ، لأنه معصوم من قبل اللّه ومحفوظ بحفظه لا يتطرق اليه شيء من ذلك أبدا قال تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم الآية 111 من الكهف في ج 2 ومثلها في معناها كثير في القرآن قال القاضي عياض : قد جاء في بعض روايات هذا الحديث (الذي يعتقدون صحته) بنية أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه لا على قلبه وعقله واعتقاده وليس في ذلك ما يوجب لبسا في الرسالة ولا طعنا لأهل الزيغ والضلالة ، ولو قال رحمه اللّه إن هذا الحديث قالوا بصحته فهو غير صحيح ، وإنما اعتمد الجمهور صحته لكونه في الصحيحين ، ولعمري ليس كل شيء مما في الصحيحين صحيحا قطعا ، فإن فيهما الضعيف والمنكر ، وإن البخاري ومسلم رحمهما اللّه وإن كانا من أحسن الناس نقلا لكنهما نقلا عن أناس قد يطعن فيهم ، أو انه دسّ هذا فيما نقلاه ، لأننا بعد أن نسمع أن اللّه عصمه من السحر ومن أن يكون ساحرا وأبطل بحقه سحر السحرة وكيد الفجرة ، فكيف يسوغ لنا أن نصدق بأنه سحر ، عصمنا اللّه من ذلك ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 59 من سورة طه الآتية فراجعها.
هذا ، واللّه أعلم وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى الأصحاب وأتباعهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم.(1/187)
ج 1 ، ص : 188
تفسير سورة الإخلاص
عدد 22 - 112
نزلت بمكة بعد سورة الناس وهي أربع آيات وخمس عشرة كلمة ، وسبعة وأربعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»
قال تعالى : «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1» أي واحد من حيث العدد بل واحد في الإلهية والربوبية من حيث لا شريك له ولا معين ولا وزير وهو جل شأنه فرد في الكمالية والخالقية ، موصوف بصفات العظمة والجلالة ، منفرد عن الشريك مبرأ عن الضد والند ، منزه عن الشبيه والمثيل والنظير ، لا يوصف بالأحدية غيره لأن كلمة أحد من صفاته تعالى استأثر بها نفسه والواحد يدخل في الأحد من غير عكس ، ولهذا قال تعالى : إذا أردت يا سيد الرسل أن تنزه ربك الذي اختارك حبيبا ، له فقل (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، روى مسلم عن أبي الدرداء أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن اللّه تعالى جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ جزءا من القرآن.
وروى أبو هريرة ما بمعناه بلفظ اقرأ عليكم ثلث القرآن أي قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كما سيأتي وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقللها فقال صلّى اللّه عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن وذلك أن القرآن أما ارشاد إلى معرفة اللّه أو تقديس أوصافه وأسمائه ، أو معرفة أفعاله وسنته مع عباده.
ولما اشتملت هذه السورة على التقديس وازنها الرسول بثلث القرآن وسبب نزولها ، قال ابن عباس ، قالت قريش صف لنا ربك الذي تدعوا اليه فأنزل اللّه هذه السورة أي أن الذي سألتموني عنه هو اللّه أحد إلخ «اللَّهُ الصَّمَدُ 2» الذي يصمد اليه كل مخلوق ، الغني عن كل شيء وهو من صفات الكمال ، روى البخاري في أفراده عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال الصمد السيد الذي انتهى سؤدده وفي راوية عن ابن عباس السيد الذي كمل فيه جميع أوصاف السؤدد وهو السيد المقصود في جميع الحوائج المرغوب اليه في الرغائب المستعان به عند المصائب وتفريج الكروب.
ومعناه لغة هو الذي لا جوف له والشيء(1/188)
ج 1 ، ص : 189
الصمد الصلب الذي ليس فيه رطوبة ولا رخاوة ، وهذه من صفات الأجسام تعالى اللّه عنها ، ووجهه على هذا أن الصمد الذي لا يأكل ولا يشرب وهو الغني عن كل شيء فعلى هذا الاعتبار يكون أيضا من صفات الكمال ، والقصد من قوله الصمد التنبيه على أنه تعالى بخلاف من أثبتوا ، له الإلهية واليه الإشارة بقوله (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) الآية 75 من سورة المائدة في ج 3 ، وقالوا الصمد الذي ليس بأجوف شيئان أحدهما دون الإنسان وأسفل منه وهو سائر الجمادات الصلبة ، والثاني أشرف من الإنسان وأعلى وأكمل منه وهو الباري جل جلاله ، وقال أبيّ ابن كعب هو الذي «لَمْ يَلِدْ» أحدا «وَلَمْ يُولَدْ» منه أحد ، وفيه رد على قول العرب القائلين أن الملائكة بنات اللّه ، وعلى اليهود القائلين أن عزيرا ابن اللّه وعلى النصارى القائلين ان المسيح ابن اللّه ، راجع تفسير الآية 27 من سورة التوبة في ج 3 تر تكذيب زعمهم وافترائهم.
هذا إذ قالوا ، ومن المعلوم أنه إذا لم يكن له ولد ينفى عنه اسم الوالد والصاحبة ، لأن الولد يكون منهما أو من أحدهما كآدم وحواء والمسيح ، واللّه تعالى هو الأول الذي لم يتقدمه والد والآخر الذي لا يتفزع عنه ولد ومن كان كذلك صح أن يقال «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 3» يكافئه في كونه لأن كل ما فيه خلقه ولن يكافيء المخلوق خالقه قال تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» الآية 11 من سورة الشورى في ج 2 ، ولا يخفى أنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث واللّه جل شأنه لا يموت ولا يورث فلا يعوله أو يضاهيه أحد من خلقه ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : قال اللّه تعالى عز وجل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا وإني أنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وقد جاء في فضل
هذه السورة وتلاوتها(1/189)
ج 1 ، ص : 190 أحاديث كثيرة أعرضنا عنها لعدم الحاجة ولأن في بعضها مبالغة لم نعتمد صحتها وقد اكتفينا بما ذكرناه مما هو صحيح لاغبار عليه وللشيخ الرئيس أبي الحسين علي بن سينا كراسة لطيفة فسّر بها المعوذتين والإخلاص على طريقة الصوفية أبدع فيها رحمه اللّه ، وهو في كل فن مبدع فمن أراد الوقوف عليها والتمتع بما فيها من الإبداع الذي تلذّ به الأسماع وينشرح له الصدر ، فليراجعها فإني وأمثالي عيال عليه ، هذا واللّه أعلم واستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين.
تفسير سورة والنجم
عدد 23 - 52
نزلت في مكة بعد الإخلاص عدا الآية 32 فإنها نزلت بالمدينة ، وهي اثنتان وستون آية ، وثلاثمائة وستون كلمة ، وألف وأربعمائة وخمسة أحرف ، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدئت وختمت به.
مطلب معنى النجم وأنواع قسم اللّه تعالى :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى : «وَالنَّجْمِ» خصه أكثر المفسّرين بأنه الثريا لأن العرب تسميها نجما لأنها نجوم مجتمعة سبعة فأكثر على حسب النظر وقوته ، وأنّها تطلع وتغرب بمواسم مخصوصة عندهم لأنها تظهر أوائل الشتاء وتغيب أوائل الصيف عند حصاد الزرع ، وانهم يتفاءلون بغيابها إذا كان الهواء غربيا وبالعكس إذا كان شرقيا «إِذا هَوى 1» سقط وغاب عن الأبصار ، أقسم اللّه تعالى به لشيء أراده غير ما ذكرناه وهو لا يسأل عما يريد.
ويطلق لفظ النجم على الجنس منه فيشمل كل نجم في السماء ، وعلى النبات الذي لا ساق له ، وعلى القرآن لنزوله نجوما متفرقة ، وعلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم لصعوده السماء ليلة المعراج كالنجم.
واعلم أن أقسام اللّه تعالى تنحصر في ثلاثة أشياء : بذاته المقدسة وبفعله كالسماء والأرض وبمفعوله كالقمر والشمس ، وهي إما لفضيلة خاصة كقوله : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أو لمنفعة عامة نحو (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ).
والقسم إما ظاهرا كالآيات السبع التي أشرنا إليها في الآية 15 من سورة التكوير المارة ، وإما مضمرا وهو قسمان قسم دلت(1/190)
ج 1 ، ص : 191
عليه اللام نحو : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ) الآية 186 من آل عمران في ج 3 ، وقسم دل عليه المعنى كقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) الآية 71 من سورة مريم الآتية (يا ويلتاه الورود محقق ، والخروج مظنون ، فلا حول ولا قوة إلا باللّه ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) وجواب القسم هنا «ما ضَلَّ» عن الحق ولا زاغ عن الصواب فيما تلاه عليكم من الآيات البينات «صاحِبُكُمْ» محمد بن عبد اللّه «وَما غَوى » في اتباع الباطل وما جهل قط ، لأن الضلال نقيض الهدى والغي ضد الرشد ، وهو هاد مهتد راشد مرشد ليس كما تزعمون يا كفار قريش في نسبتكم إياه للضلال والغي والجهل «وَما يَنْطِقُ» قط «عَنِ الْهَوى 3» من تلقاء نفسه عن لا شيء كلاما «إِنْ هُوَ» الذي يتلوه عليكم «إِلَّا وَحْيٌ يُوحى 4» إليه من قبلنا على لسان رسولنا لا من رأيه ولا من قبل الغير «عَلَّمَهُ» إياه ونزل به إليه من لدنا ملك عظيم «شَدِيدُ الْقُوى 5» هو جبريل عليه السلام وقد مرّ شيء من قوته في تفسير الآية 19 من سورة التكوير المارة وهو «ذُو مِرَّةٍ» قوّة عظيمة ، وبأس شديد ، ومنظر حسن ، وخلق جميل «فَاسْتَوى 6» في خلقه على أحسن صورة واعتدل قائما على صورته الحقيقية حينما رآه عبدنا محمد عيانا على غير الصورة التي تمثل بها حين هبوطه بالوحي ، إذ كان على صورة دحية الكلبي.
مطلب مقر جبريل ومعنى قاب قوسين :
ولم يره في صورته الحقيقية التي خلقه اللّه عليها غير مرة في الأرض ، وهي المشار إليها في سورة التكوير المارّة «وَهُوَ» أي جبريل «بِالْأُفُقِ الْأَعْلى 7» الشرقي ومحمد بحراء كما مرّ فيها ، ومرة في السماء ليلة المعراج كما سيأتي أول سورة الإسراء الآتية «ثُمَّ دَنا» جبريل من محمد «فَتَدَلَّى 8» ازداد نزوله فتقرب منه «فَكانَ» جبريل من محمد «قابَ» وقبّ وقيب وقاد وقيس كلها بمعنى المقدار القليل ، أي ان مسافة قربه منه «قَوْسَيْنِ» من الأقواس العربية المعروفة عندهم إذ لكل قوس قابان وقاب القوس ما بين وترها ومقبضها «أَوْ أَدْنى 9» من ذلك وأقرب بحسب تقديركم أيها الناس إذ لا أقرب من هذا عندكم وأما عندنا نحن مولى(1/191)
ج 1 ، ص : 192
الكل وسيذهم فهو أقرب مما تتصوره عقولكم وهو من حيث القلّة (كأف) في زجر الوالدين في الآية 33 من الإسراء الآتية ، وفي التحقيق (كأو) في الآية 46 من سورة الصافات في ج 2 ، وقد جاء التعدد بالقوس والرمح والذراع والسوط والباع والقدم على حسب لغة العرب واستعمالها ، لأن اللّه خاطبهم بما يفهمون ، ومن هذا لا صلاة حتى ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحين ، ومنه ولقاب قوس أحدكم في الجنة وموضع قدّه أي سوطه خير من الدنيا وما فيها ، وفيه اشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله عند مخالفتهم وارادة الصفاء بينهم وتوثيق العهود ، فإنهم كانوا يخرجون بقوسين فيلصقانهما حتى يكونا ذا قاب واحد ثم ينتزعونهما ويرمون بكل منها سهما واحدا دلالة على أنهما تظاهرا وتعاقدا وتوافقا على أن يحمي أحدهما الآخر وأن يكون رضى أحدهما وسخطه رضاء الأخر وسخطه قال قل «فَأَوْحى »
جبريل عليه السلام وأعبد الضمير إليه لأنه أقرب ، ولأن سياق الآية يدل عليه وسياق اللفظ يؤيده «إِلى عَبْدِهِ»
عبد اللّه محمد لأن العبودية الحقيقية لا تضاف إلا إليه ولا حاجة لأن يتقدم ذكره لأنه في غاية الظهور ولا لبس فيه مثل قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فالضمير فيه يعود للقرآن دون ذكر له لمعلوميته مع أنه لم يسبق له ذكر ، وكذلك قوله تعالى (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية 62 من سورة النحل في ج 2 ، فالضمير يعود إلى الأرض في كلمة ظهرها ولم يسبق لها ذكر للعلة نفسها ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 32 من سورة ص الآتية فراجعه «ما أَوْحى 1»
اللّه إليه أي إلى جبريل فأوحاه جبريل إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم بنصه حرفيا ، وقد أبهم الموحي به للتفخيم على حد قوله تعالى (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الآية 78 من سورة طه الآتية فراجعا ، أي شيء عظيم جليل خطير أوحاه اللّه إليه ، ومن المفسرين من أعاد الضمير في أوحى إلى اللّه عز وجل وأعاد ضمير دنا فتدلى كذلك وأعاد ضمير عبده إلى محمد وهذا لا يتأتى إلا على القول من أن الإسراء وقع بعد مبعثه صلّى اللّه عليه وسلم بخمس سنين أي زمن نزول هذه السورة ، وهو قول الزّهري ويعضده قول ابن اسحق ، ويؤيده ما جاء في الفتاوى بأنه سنة خمس أو ست من النبوة ، أما القول بأنه وقع بعد مبعثه بخمسة عشر شهرا فلا يكاد يعقل فضلا عن عدم وجود ما يؤيده من راو(1/192)
ج 1 ، ص : 193
أو رواية ، وأضعف منه قول شريك بأنه وقع قبل أن يوحى اليه ، وهذا كله لا ينطبق على ما نحن فيه وقال الحريّ انه قبل الهجرة بسنة ، ويقرب من قوله قول النووي انه بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ، وجزم الملا أمين العمري في شرح ذات الشفاء بأنه في السنة الثانية عشرة من البعثة ، وادعى ابن حزم الإجماع عليه ، وضعف ما في الفتاوى ، وكأنهم يريدون بهذا زمن نزول سورة الإسراء ، وعليه يقتضي أن يكون نزول هذه السورة بعد سورة الإسراء ولم يقل به أحد ، والقول بنزولها قبلها لم يعارض فيه أحد ، والمعارضة في نزولها بين سنة خمس أو ست فقط ورجح الأول لأن قول الثاني هو من باب التداخل في عدد السنين ليس إلا واللّه أعلم ، فيظهر من هذا كله أن القول الموافق للحال والمطابق لترتيب نزول السورتين هو قول الزهري وعليه فتكون سورة الإسراء اخبارا عنها.
مطلب زمن الإسراء والمعراج والرؤية :
واني رغم تتبعي وسؤالي أهل العلم لم أقف على غير هذا ، وسأتابع البحث فيه والسؤال عنه حتى إذا وقفت على غيره ذكرته إن شاء اللّه القائل
«ما كَذَبَ الْفُؤادُ» أي قلب الموحى اليه محمد صلّى اللّه عليه وسلم «ما رَأى 11» بعينه وبصره من جبريل أو ما رأى ليلة المعراج من عجائب مكونات ربه وذاته المقدسة «أَ فَتُمارُونَهُ» تجادلونه يا كفار قريش ، وقرىء أفتمرونه أي تغلبونه أو تجحدونه كما قرىء كذّب بالتشديد «عَلى ما يَرى 12» ويعاين من صورة جبريل الحقيقة التي ذكرها لكم أو مما قصه عليكم في ما شاهده في الإسراء والمعراج من العجائب وذلك أنه لما أخبرهم بإسرائه وقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا فوصفه لهم وأخبرهم عن عيرهم وثبت لهم صدقه ومع هذا كذبوه كما سيأتي أول الإسراء الآتية «وَلَقَدْ رَآهُ» رأى محمد جبريل «نَزْلَةً أُخْرى 13» مرة ثانية في صورته الحقيقية حال بلوغه «عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى 14» الكائنة في السماء السابعة وهي شجرة نبق عن يمين العرش التي ينتهي عندها كل أحد ولا يتجاوزها أحد من الملائكة أو رأى ربه عز وجل «عِنْدَها أي السدرة التي ت (13)(1/193)
ج 1 ، ص : 194
بقربها «جَنَّةُ الْمَأْوى 15» التي تأوى إليها أرواح الشهداء في الدنيا والمتقون أجمع في الآخرة «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ 16» من تكبير وتعظيم وتهليل وتمجيد من الخلائق المختلفة الدالة على عظمة الخالق مما لا يحيط به الوصف ولا تسعه الأذهان ويعجز عنه النطق به كل لسان «ما زاغَ الْبَصَرُ» من محمد ولا حال عن رؤية ومشاهدة العجائب التي أبدعها المبدع وأمر رسوله برؤيتها حينما عرضها عليه ومكنه من رؤيتها في تلك الحضرة المقدسة لا يمينا ولا شمالا وهو غاية في أدبه صلّى اللّه عليه وسلم في ذلك المقام الجليل إذ لم يلتفت اليه وهذا يؤيد كون الذي يغشى السدرة هو نور رب العزة لا الملائكة ولا الفراش الذهبي ولا أنواع المخلوقات وان نظر الرسول ما حال دون رؤية ربه عز وجل بصعقة أو غشية كما حصل لموسي وابراهيم عليهما وعليه أفضل الصلاة السلام.
وقد ثبت في ذلك المقام الذي تحار به العقول وتزل به الأقدام وتشخص فيه الابصار ، ولهذا فقد وصفه ربه بالقوة والسكينة في ذلك المقام بقوله جل قوله «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى 17» أي ما جاوز بصره غير ما أمر بالنظر اليه وهو المعنى بقوله مقسما «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى 18» التي هي أكبر آية وأعظمها وأجلها وهي رؤية ذاته المقدسة التي لا يضاهيها آية وتصغر دونها كل آية قال الأبوصيري :
أرآى من الآيات أكبر آية ما زاغ حاشا أن يزيغ المبرأ
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما رآه بفؤاده وقال الحسن وأنس وعكرمة رآه بعينه حقيقة وسنذكر ما جاء في الأحاديث الواردة بالرؤية القلبية والعينية هنا وما جاء في حق جبريل أيضا ، روي عن مسروق أنه قال قلت لعائشة يا أماه هل رأى محمد ربه ؟ فقالت لقد قفّ شعري (أي قام من الفزع مثل اقشعر جلدي واشمأزت نفسي عند سماع مالا ينبغي) مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن بها فقد كذب ، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت لا تدركه الأبصار الآية 102 من الانعام في ج 2 وقرأت (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) الآية 56 من سورة الشورى في ج 2 أيضا ، ومن(1/194)
ج 1 ، ص : 195
حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وقرأت (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) الآية الأخرى من سورة لقمان 24 ومن حدثك أنه كتم أمرا فقد كذب ثم قرأت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية 70 من المائدة في ج 3 ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين أخرجاه في الصحيحين ، وروى مسروق بن الأجدع قال قلت لعائشة فأين قوله (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ) إلخ قالت ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وأنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسدّ الأفق ، أخرجاه في الصحيحين.
وروى مسلم عن ابي هريرة ولقد رآه نزلة أخرى قال رأى جبريل ، وروى مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى ، قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح ، وفي رواية مسلم عن مسروق قال كنت متكئا عند عائشة فقالت يا أبا عائشة ، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على اللّه الفرية قلت ماهن قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على اللّه الفرية ، فجئت فقلت يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل اللّه تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) الآية 43 من سورة التكوير ، المارة (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) الآية المارة ؟ فقالت انها أول هذه الآية سئل عن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ، الحديث.
وروى مسلم عن أبي ذر قال سألت رسول اللّه هل رأيت ربك ؟ قال نور أنى أراه! وفي رواية نورانيّ أراه.
، بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء.
وروى البخاري عن عبد اللّه بن مسعود قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى الآية قال لقد رأى رفرفا أخضر سدّ أفق السماء.
وجاء في الصحيحين من حديث المعراج عن شريك ابن عبد اللّه بن ابي بحر عن أنس (ودَنا الجبار ذي العزّة فَتَدَلَّى حتى كان قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) وهي رواية أبي سلمة عن ابن عباس ، وروى مسلم عن ابن عباس (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) الآيتين قال رآه بفؤاده مرتين.
وأخرج أحمد عن ابن عباس انه قال : قال رسول اللّه رأيت ربي ، ذكره(1/195)
ج 1 ، ص : 196
محمد الصالحي الشامي في الآيات البينات وصححه وهو تلميذ الحافظ السيوطي.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال إن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين ، مرة ببصره ومرة بفؤاده.
وجاء عن ابن عباس أتعجبون ان تكون الخلّة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد ؟! وعن عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه ، قال نعم ، وكان الحسن يحلف بأن محمدا رأى ربه.
هذا وقد بلغت الرؤية حد الإجماع ، وكلام ابن عباس لا يكون إلا بالسماع من رسول اللّه ولا يشك فيه أحد ، كيف لا وهو خير الأئمة وعالمها المرجوع اليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر فأخبره أنه رآه ، وهذا إثبات والإثبات مقدم على النفي ، على أن عائشة رضي اللّه عنها لم تقله عن رسول اللّه وإنما قالته متأولة الآيات التي ذكرتها من قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ) و(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) والصحابي إذا خالفه مثله لا يكون قوله حجة ولو كان معها شيء عن رسول اللّه لذكرته فضلا عن انها عند نزول هذه السورة وسورة الاسراء كانت صغيرة دون سن التمييز ، وليست هي بأعلم من ابن عباس ، على
أن الإدراك الوارد بالآية معناه الإحاطة واللّه تعالى لا يحيط بعلمه أحد ولا يحاط به ، وإذا ورد النفي بنفي الإحاطة لا يلزم نفي الرؤية بغير إحاطة ، واللّه تعالى يرى بلا كيفية ولا احاطة فلو كانت الرؤية غير جائزة لما طلبها موسى ، أو يلزم مع الرؤية وجود الكلام ليصح الاحتجاج بآية (وَما كانَ لِبَشَرٍ) بل تجرز من غير كلام ، فارتفع الاحتجاج بها على أن ما من عموم إلا وخصّ منه البعض ، فيمكن أن يقال : نفي الرؤية عام في حق البشر في الدنيا مخصوص بسيدنا محمد عليه السلام فيها ثابت بما تقدم من الأدلة ، ولهذا فإن ثبوت الرؤية لسيدنا محمد ثابتة قاله كعب واحمد ابن حنبل وابو الحسن الأشعري وجعفر بن محمد ومحمد بن كعب والقاضي عياض والشيخ محي الدين النووي وغيرهم من أكابر السلف والخلف فمن أنكرها فجزاؤه حرمانها واعلم أن في جملة ما زاغ البصر إلخ أخبار من اللّه تعالى عن حسن أدبه صلّى اللّه عليه وسلم لدى الحضرة الإلهية وعن اعتدال قلبه المقدس في الإقبال اليه بكلية والإعراض عن سواه وعدم الالتفات إلى ما في(1/196)
ج 1 ، ص : 197
السموات والأرض وما فيهما ، وتركه وراء ظهره ، وفيه دلالة على أنه كان معتدل القوى لم تشغله حاسة عن حاسة حال تلقى ما ورد عليه من مقام الروح والقلب المشير اليه قوله (قابَ قَوْسَيْنِ) لذلك كان ثابتا في مقام تجلي الإله صارفا قواه العشرة لما يرد عليه من تلك الحضرة مستظلا بهيبته فلم يتخلف بصره عن بصيرته بل استقام معها حالة التجلي لئلا يتجاوز حده بالسبق لها كما أن البراق لم يتجاوز حافره غاية نظره صلّى اللّه عليه وسلم حالة السير به من مكة إلى البيت المقدس ، وهذه غاية في الأدب ونهاية في التأدب قال تعالى «أَ فَرَأَيْتُمُ» أعلمتم «اللَّاتَ وَالْعُزَّى 19 وَمَناةَ» أسماء أصنام انتقوها من أسماء اللّه ، الآله والعزيز والمنان وقيل انها في الأصل اللآت مأخوذة من لوى لأنهم يلوون عليها بعبادتهم وهي صنم من الحجارة يشبه الإنسان ولذلك قال بعضهم انه كان رجلا يلت السويق للحجاج وكان صنما لثقيف ، والعزى تأنيث الأعز شجرة كانت لغطفان فقطعها خالد بن الوليد بأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقال عند قطعها مرتجزا.
يا عز كفرانك لا سبحانك اني رأيت اللّه قد أهانك
ومناة كانت صنما في مكة أو بقديد لخزاعة وهذيل وقيل لثقيف ، وكانوا يستمطرون عندها تبركا بها ، وقيل بيت بالمشلل تعبده بنو كعب وسميت مناة لأن دماء النسائك تمنى عندها ، وهي عبارة عن صخرة يعظمونها فعاب اللّه عليهم ذلك على طريق الاستفهام توبيخا وتقريعا ، أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها هل لها من القدرة والعظمة شيء وكانوا يسمونها والملائكة بنات اللّه ويزعمون أنها تشفع لهم مع ما هم عليه من وأد البنات واستحلال المحرمات والكفر ثم وصف مناة بقوله :
«الثَّالِثَةَ الْأُخْرى 20» المتأخرة أو أن في الكلام تقديما وتأخيرا أي أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة ، ثمّ أنكر عليهم ما ينسبونه اليه تعالى عنه
«أ لكم» أيها الكفرة «الذَّكَرُ» تختصون به «وَلَهُ» جل شأنه «الْأُنْثى 21» مع أنكم تكرهونها قال تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) الآية 59 ، وقوله وإذا بشر أحدهم بالأنثى إلخ الآية 63 من سورة النحل في ج 2(1/197)
ج 1 ، ص : 198
«تِلْكَ» القسمة التي قسمتموها بينكم وبين ربكم «إِذاً» بعد اختياركم الأحسن «قِسْمَةٌ ضِيزى 22» عوجاء جائرة لم ترضوها لأنفسكم فكيف ترضونها لربكم «إِنْ هِيَ» ما الأصنام المذكورة بشيء البتة «إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» عفوا من تلقاه أنفسكم ودعيتموها آلهة افتراء على اللّه وهي ليست بشيء يستحق الذكر «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» حجة أو برهان بما تزعمون من آلهيتها «إِنْ» ما «يَتَّبِعُونَ» في ذلك الاتخاذ «إِلَّا الظَّنَّ» والوهم الذي لا حقيقة له «و» ما يتبعون في ذلك الا «ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» وتزينه لهم وتشهيهم بعبادة الأوثان وأتباع الشيطان «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى 23» بكتابه المنزل على رسوله بأن الأصنام ليست بآلهة ولا أهلا للعبادة وأن العبادة لا تكون الا اللّه الذي يخذل من يعبد غيره ، ويقهر من يكذب آياته فلم يرتدعوا ولم ينتهوا عن ذلك ، قال تعالى منّددا صنيعهم ذلك بقوله «أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى 24» استفهام على طريق الإنكار أي أيظن الكافر ان له ما يتمناه ويشتهيه من كل ما يصوره عقله ، كلا ليس له ذلك بل لا يكون الا ما يريده اللّه «فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى 25» كليهما وما فيهما ولا يقع فيهما إلا ما يشاء اللّه ليس لأحد فيها دخل ولا شيء البتة ، ثم قال ردا على ما يزعمون من شفاعته أصنامهم «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً» لأحد ما لأنهم لا يشفعون «إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ» الشفاعة له ومن يؤهله للتشفع «وَ
يَرْضى 26» له أن يكون شافعا فكيف إذن تشفع أصنامهم لهم وهم ليسوا بشيء «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» ويجحدون كونها ووجودها «لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى 27» بقولهم أنهم بنات اللّه ولم يقل تسمية الإناث لأن المراد الجنس وهو أليق لمناسبة رؤس الآي وما يسمونه بالروى في النظم «وَما لَهُمْ بِهِ» أي الذين يقولونه «مِنْ عِلْمٍ» يحتجون به في تلك التسمية والعبادة «إِنْ» ما «يَتَّبِعُونَ» في عبادتهم وتسميتهم «إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً 28» أبدا لأنه ناشىء عن التقليد والوهم والتخمين ، والشيء(1/198)
ج 1 ، ص : 199
لا تدرك حقيقته إلا باليقين ، فاذا كان هذا مبلغ علمم «فَأَعْرِضْ» أترك يا حبيبي وصدّ «عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا» الذي أنزلناه عليك لانهم أعرضوا عنه وتولوا عن الايمان به «وَلَمْ يُرِدْ» كل منهم «إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا 29» لإنها بغيتهم ولا همّ لهم بالآخرة لانهم لم يؤمنوا بها «ذلِكَ» ظنهم واختيارهم هو «مَبْلَغُهُمْ» وغاية مطلبهم ونهاية ما توصلت اليه عقولهم «مِنَ الْعِلْمِ» الذي لا يحيط ببعضه عقلاؤهم لقلة إدراكهم وشدة توغلهم في الدنيا «إِنَّ رَبَّكَ» يا سيد الرسل «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» السوي وطريقه المستقيم الذي يجب أن يسلك دون غيره من السبل المضلة «وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى 30» اليه فيجازى كلا بعمله
«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وما بينهما وما فيهما وما تحتهما وفوقهما ملكا وعبيدا.
وهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين قوله «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا» من السوء «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى 31» أي الجزاء الحسن وفي الجنة أيضا لقاء عملهم الحسن ، لأن اللّه تعالى لم يخلق الجنة والنار إلا ليكافيء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
مطلب الآية المدنية ومعنى الكبائر والصغائر :
وهذه الآية المدنية المستثناة في هذه السورة قال تعالى «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ» منها المستوجبة للحد الشرعي (إلا اللّمم) صغائر الذنوب ، وهذا استثناء منطقع ، لأن اللّمم ليس من الكبائر والفواحش ، فهو كالقبلة والنظرة والغمزة والشتم بغير اذن وما ضاهى ذلك ، وسبب نزولها قول المشركين ان المسلمين بالأمس كانوا يعملون ما نعمل والآن يعيبوننا به.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن اللّه عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين النظر ، وزنى اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج ، يصدق ذلك أو يكذبه.
ولمسلم قال كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ، العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل(1/199)
ج 1 ، ص : 200
زناها الخطى ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه.
فهذه الأولى كلها لمم ، والأخير من الكبائر والفواحش ، فالكبيرة كل شيء نهى اللّه ورسوله عنه أو أوعد عليه بنار أو غضب أو عذاب أو عقاب أو لعنة أو حد ، والصغيرة كل ما لم يذكر اللّه ورسوله عليه حدّا في الدنيا أو عذابا في الآخرة فيدخل في الكبائر ، من غيّر معالم الأرض ومن تزوج امرأة للتحليل ، والواشمة والموشومة وكل ما اقترن بلعن من حضرة الرسول كمن أمسك امرأة محصنة ليزني بها غيره ، أو قادها للزنى أو أمسك مسلما لمن يقتله ، ومن دل الكفار على عورة المسلمين وفضح لهم عددهم وعددهم ومن كذب على إنسان كذبة أدت إلى قتله أو تعطيل عضو منه أو تعذيبه ، لأن حد الكبيرة كل شيء كبر وعظم مما يعد ذنبا وكان فعله قصدا ، فدلالة المسلم الكفار على مواقع المسلمين مع علمه أنهم سيستأصلونهم أعظم من الفرار عند الزحف ، والكذب الموجب للقتل وأخذ المرأة للزنا والمسلم للقتل اكبر من أكل الربى وأكل مال اليتيم وشرب الخمر المعدودة من الكبائر المترتب عليها حد شرعي ، وليعلم أن اكبر الكبائر الشرك باللّه ثم القتل بغير حق ثم الزنا واللواط ثم شهادة الزور ثم السحر ثم قذف المحصنات ثم عقوق الوالدين ، إذ عدها رسول اللّه من الموبقات أي المهلكات ثم كل ما يدخل تحت الحد وما اقترن باللعن إلخ ما تقدم ، والصغيرة ما سوى ذلك على أنها إذا فعلت تهاونا واستخفافا أو اعتيد على ارتكابها جرأة تنقلب كبيرة ، ولهذا أبلغوا عدد الكبائر إلى سبعين وبعضهم إلى سبعمائة كما في كتاب الزواجر المستقصى لأنواعها فراجعه ، وعلى هذا إذا لم تقترن الفعلة بشيء مما ذكر من الوعيد وغيره وما يقع من فلتات
اللسان وشهوات النفس في غير ما نصّ عليه وما ينشيء من فترة مراقبة التقوى فليس من الكبائر بل من الصغائر وهي أقرب للمغفرة ويوشك أن يكفرها الصوم والصلاة والصدقة ، وقد يغفرها اللّه عفوا نكرما منه ويكاد أن يجعلها حسنات إذا اقترنت بالندم والاستغفار راجع الآية 71 من سورة الفرقان الآتية وكذلك الكبائر إذا أعقبها بتوبة خالصة وعمل صالح من صوم أو صلاة أو صدقة فيوشك أن يقلبها اللّه له صغائر ويغفرها(1/200)
ج 1 ، ص : 201
أما ما يتعلق فيه حق الغير من الكبائر والصغائر فلا بد من إرجاع ما أخذ لأهله وإرضائه واستعفائه ، وإن لم يقدر على شيء من ذلك فيعود إلى مشيئة اللّه ويسعها قوله «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» لمن تاب وأتاب وحسنت نيته وقد يغفر بدون شيء من ذلك لمن شاء عدا الشرك راجع الآية 48 من سورة النساء في ج 3 وإذا أراد أن يطمئن على نفسه من عذاب اللّه وقبول توبته فليجتهد برد المظالم لأهلها أو ورثتهم أو يتصدق بها على الفقراء وينوي ثوابها إليهم ، هذا واللّه تعالى «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ» أيها المؤمنون وأعلم بما تفعلونه قبل خلقكم «إِذْ أَنْشَأَكُمْ» براكم من النطفة وخلق أباكم آدم «مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ» أي وهو أعلم بأحوالكم حالة كونكم «أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» وما أنتم صائرون اليه بعد فاعملوا خيرا لدينكم ودنياكم وآخرتكم «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» وتمدحوها بالطهارة من الذنوب فانه يعلم كل نفس وما هي صائرة اليه وما تصنعه في الدنيا وما تناله في الآخرة ، فلا تفضلوا أنفسكم على غيركم في الحالة التي أنتم فيها لأنكم لا تعلمون العاقبة واللّه وحده «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى 32» منكم ومن أذنب فأكتفوا بعلمه عن علم الناس وجزائه عن جزائهم وثنائه عن ثنائهم.
روى البخاري ومسلم عن خارجة بن زمعة بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار كانت بايعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا ابن صفعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي غسل وكفن في أثوابه وصلى عليه رسول اللّه ، فقلت رحمة اللّه عليك أبا السائب فشهادتي عليك قد أكرمك اللّه فقال صلّى اللّه عليه وسلم : وما يدريك أن اللّه أكرمه ؟ فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول
اللّه فمن يكرمه اللّه ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أما هو فقد جاءه اليقين واللّه اني لارجو له الخير ، واللّه لا أدري وأنا رسول اللّه ما يفعل بي.
قالت فو اللّه لا أزكى بعده أحدا قالت : ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري ، فجئت رسول اللّه فذكرت له ذلك ، فقال : ذلك عمله وهذه الآية نزلت في أناس من المدينة يعملون أعمالا حسنة ثم يتبرمون بها ، وهي عامة في كل من يتصف بذلك ، هذا وقد سبق أن بينا أن الآيات(1/201)
ج 1 ، ص : 202
المستثناة من السور إذا طويتها وقرأت ما بعدها تبعا لما قبلها يستقيم المعنى والنظم وهذه كذلك ، إلا أنه لا يجوز بوجه من الوجوه إسقاط حرف واحد من القرآن أو تغيره عن محله ، حتى ان العلماء كرّهت ان يقرأ المصلي آية أو سورة ثم يترك التي تليها ويقرأ ما بعدها ، كما كرهوا أن يقرأ القرآن على عكس ترتيبه قال تعالى :
«أَ فَرَأَيْتَ» يا أكمل الرسل هذا «الَّذِي تَوَلَّى 33» عن الإيمان وعاد إلى الكفر «وَأَعْطى قَلِيلًا» مما تعهد به إلى من أغواه «وَأَكْدى 34» قطع عطاءه وبخل بما وعد به وأصل الكدي من الكدية وهي حجر يظهر في البئر فيمنع من الحفر ، نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان اتبع حضرة الرسول فعيره المشركون بقوله تركت دين الأشياخ وضللت قال أني خشيت اللّه وعذابه قال فأنا أضمن لك إن أعطيتني كذا من المال ورجعت إلى دين آبائك فأتحمل عنك عذاب اللّه فرجع الوليد إلى الشرك واعطى الذي عيره وتعهد له بعض الذي ضمنه له من المال ومنعه الباقي ثم وبخه اللّه بقوله «أَ عِنْدَهُ» اي هذا الذي تولى «عِلْمُ الْغَيْبِ» بأن صاحبه يتحمل عنه ما يخافه من عذاب اللّه يوم القيامة «فَهُوَ يَرى 35» ما خفى عنه وهل يبصر شيئا من الغيب «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ» بخبر «بِما فِي صُحُفِ مُوسى 36» أسفاره وتوراته «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى 37» ما أمره به ربه من تبليغ الرسالة وبما فرض عليه فيها من التكاليف التي منها امتثاله الأمر بذبح ولده ، قال عطاء بن السائب : عهد ابراهيم على نفسه ان لا يسأل أحدا غير اللّه فلما قذف في النار قال له جبريل ألك حاجة ، قال أما إليك فلا ، وفاء بعهده فأنجاه اللّه ثم أخبر اللّه عما في صحفهما فقال : «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى 38» اي لا تحمل نفس غير ذنبها كما لا تعاقب الا عليه راجع تفسير الآية 19 من سورة الأعلى المارة والمعنى لم يبلغه ذلك قبلا إذا كان لم يبلغه شيء من هذا المعنى الآن قال ابن عباس : كانوا قبل ابراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره فيقتلونه بأبيه وأخيه وامرأته وعبده وتعلقاته كما يفعل اعراب البادية الآن إذ جرت عادتهم أن يقتلوا الرجل أو أن يسلبوه بقتل او سلب أحد من أقاربه وكانت الجاهلية(1/202)
ج 1 ، ص : 203
قبل الإسلام تفعل هذا فما يقع الآن منه فهو من بقايا عوائدهم القبيحة فلا حول ولا قوة الا باللّه ، فنهاهم اللّه عن ذلك وبلغهم أمره بأن لا تؤاخذ نفس بدل نفس.
مطلب ما هو موافق من شرع من قبلنا لشرعنا وما هو مخالف ، وعوائد الجاهلية :
وعلى هذا شرعنا الذي جاء به رسولنا وهو موافق لشرع جده ابراهيم ومؤيد له وقد مضى على نزول هذه الآية خمس وخمسون سنة وثلاثمائة والف وهي تتلى عليهم ليل نهار ولم يرتدع أولئك الأعراب عن هذه العادة الخبيثة وكان في صحفهما ايضا ما ذكره اللّه بقوله : «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى 39» اي لا يثاب الإنسان بعمل غيره له كما لا يعاقب ولا يضاعف له الأجر كأنه محمد بل يعطي له أجره بحسب عمله فقط.
وهذا مخالف لشريعتنا التي جاءنا بها محمد صلّى اللّه عليه وسلم إذ يضاعف لنا الأجر من واحد إلى سبعمائة إلى ما شاء اللّه وان سعى الغير لها ينفعها ، قال تعالى (مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) الآية 74 من الفرقان الآتية وقال (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) الآية 87 من سورة الأنعام من ج 2 ، وقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية 20 من سورة الطور والآية 9 من سورة المؤمن من ج 2 أيضا ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ، 2 من سورة الرعد في ج 3 ، ومن هنا تعلم أن اللّه تعالى أدخل الأنبياء الجنة بعمل آبائهم الصالحين يؤيده ما ورد عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول اللّه ان أمي توفيت أينفعها ان تصدقت عليها قال نعم.
وفي رواية ان سعد ابن عبادة أخا بني سعد وذكر نحوه ، وأخرجه البخاري وفي هذا البحث أحاديث كثيرة صحيحة سنأتي بها هناك ، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بالأحاديث المذكورة أعلاه لا وجه له لان الحديث لا ينسخ القرآن كما بيناه في بحث الشيخ في المقدمة وكما سيأتي في تفسير الآية 10 من البقرة من ج 3 ولأن هذه الآية مما قصه اللّه علينا من شرع من قبلنا وكل ما شرع للأنبياء أن كان موافقا لشرعنا قبلناه ، وإلا فنعمل بما هو لدينا ، لأن ذلك من خصائصهم والمقدم لا يسري حكمه على المؤخر قال تعالى «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى 40» يعرض عليه في الآخرة ويوضع(1/203)
ج 1 ، ص : 204
في ميزانه وفي هذه الآية بشارة بأن اللّه تعالى يري المؤمن أعماله الصالحة ليفرح بها والكافر أعماله الطالحة ليحزن
«ثُمَّ يُجْزاهُ» أي يجزى الإنسان بفعله «الْجَزاءَ الْأَوْفى 41» الأتم الأكمل ان خيرا فخير كثير وان شرا فشر مثله ، راجع الآية 160 من سورة الانعام من ج 2 «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى 42» المرجع والمصير بعد هذه الدنيا إذ ينتهي كل شيء يوم القيامة اليه لا لأحد غيره ، كما أن الأفكار لا تزال تسير في بدء حقائق الأمور وما هيأتها فتنتقل من بحث إلى بحث ومن برزخ إلى برزخ حتى إذا وصلت إلى اللّه انتهت ووقفت وتعطل سيرها في بحر غيبه ، لأن الغيب ما غاب عن الناس وتفرد به ربهم عز وجل إذ لا غيب عليه ، ومن قال ان اللّه لا يعلم الغيب أراد هذا المعنى يعني لا غيب عليه لأن كل شيء عنده معلوم ، غير.
أنه لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة النفي عليه تعالى وتنزه عنه ، حتى ان الإمام الرباني لما عرضت عليه هذه المسألة اغتاظ جدا لما فيها من النقص عليه ، تنزه عنه ، وعليه فإن من يقدم على هكذا أسئلة فإنه في غاية من الفتنة ونهاية من الجهل ، وأفظع من هذا من يقول ان اللّه لا يقدر على أن يخرجني من ملكه في معرض سماعه ان اللّه على كل شيء قدير ، لأنه وإن كان من حيث المعنى صحيح لأنه أينما قذفته فهو في ملكه ، إلا أنه لا يقال لما في ظاهره من إيقاع الشك للجاهل ، تدبر ، وإياك أن تقدم على مثله.
مطلب في الغيب وأنه قسمان :
واعلم أن الغيب قسمان غيب حقيقي لا يعلمه إلا اللّه ، وغيب اضافي قد يعلمه بعض الخلق بأسباب تختلف باختلاف الاستعداد الفطري والعمل الكسبي ، ومن أظهره اللّه على بعض الغيب الحقيقي من رسله فليس لهم كسب فيه لأنه من خصائص النبوة ، والنبوة غير مكتسبة لأحد ولو رقى في العلم أعلى رتبة ، راجع ص 421 إلى ص 469 من الجزء السابع وص 513 من الجزء التاسع في تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا المنسوب إلى الإمام محمد عبده.
هذا ومن دون الأنبياء خواص قد أوتوا نصيبا من الإشراف على العالم باكتشاف للحجاب وإدراك ما بشيء من تلك(1/204)
ج 1 ، ص : 205
الأنوار قال صلّى اللّه عليه وسلم لو كشف الحجاب وفي رواية الغطاء ما ازددت يقينا ، وذلك لأن اللّه تعالى شرح صدره فكان على نور من ربه بلغ به مقام الاطمئنان ، ووقع لمن دونه في العرفان ، رواية النور العيني عيانا ورأوا الملائكة ، عدا أن جبريل كانت رؤيته في صورة دحية الكلبي ووقع لمن دون الآخرين ممن لهم سلامة فطرة أو معالجة النفس بالرياضة ، أو طروء مرض يصرف قوى النفس عن الاهتمام بشهوات الجسد ، أو من سلطان إرادة قوية على إرادة ضعيفة تصرفها عن حسها وتوجه قواها النفسية إلى ما شاءت أن تدركه لقوتها الخاصة بها ، فقد يكون لبعض هؤلاء في بعض الأحوال من قوّة الروح ما يلمحون به بعض الأشياء أو الأشخاص البعيدة عنهم.
وتتمثل لهم بعض الأمور قبل وقوعها في عالم الشهادة ، فترتسم بخيالهم فيخبرون بها فنقع كما أخبروا ، وقد ثبت هذا وذاك عند بعض الماديين في هذا الزمن مما يسمونه قراءة الأفكار ، أو مراسلتها ، ومن هذا ما ذكرت جريدة المقطّم في 1 صفر سنة 1354 (الموافق مايو سنة 1935) عن العرافة (مدام ترفران ليلى) أنّها قالت للوزراء والملوك والرؤساء بأنه سيقتل رئيس جمهورية فرنسا.
ويعود كارول ملك رومانيا المنفي إلى بلاده ، ويصير أحمد زوغو ملكا على ألبانيا ، وبصير انقلاب في ألمانيا ، ثم وقع ما قالت على علم من قبل الملأ.
هذا وإن الأمور التي تكون على غير السنن المعروفة ، والعادات المألوفة الخارقة للعادة ، نقلتها جميع الأمم في كل العصور نقلا متواترا جنسا لا نوعا.
فهذه ليست كلها خوارق حقيقية لأن منها ماله أسباب مجهولة ، ومنها ما هو صناعي بتعليم خاص ، ومنها ما هو من خصائص قوى النفس في توجهها لمطالبها.
وفي تأثير قوى الإرادة على ضعيفها ، ويدخل فيها المكاشفة والتنويم المغناطيسي وشفاء بعض المرضى بالأمراض العصبية التي يؤثر فيها الإعتقاد والوهم وبعض أنواع العمى والفالج.
ومنه انخداع البصر بالتخيل الذي يحذقه المشعوذون ، ومن هذا سحرة فرعون.
ومنه انخداع السمع لمن يدعى استخدام الجن ويسمع الناس أصواتا غريبة ، أو يتكلمون في بطونهم.
فيظن الناس أنه صوت الجن ، وقد انفضح كثير من أمثال هؤلاء بالاطلاع على حيلهم ، فهذا كله لا يوثق(1/205)
ج 1 ، ص : 206
به ، لأنهم لو كانوا صادقين لتنافس فيهم الملوك ، ولما كانوا سائلين ، راجع المجلد 2 و6 من المنار تجد ما تتبعته وتبتغيه.
واعلم أن الذين يخضعون لهؤلاء الدّجالين ويجهلون ما كشفه العلماء من حيلهم فيسلبون أموالهم ، ويهتكون أعراضهم ، لا سيما الذين يدعون أنها كرامات وهم مشهورون بالجهل واللهو ، والذين يدعون معرفة علم الكيمياء من قلب الصفر ذهبا والرصاص فضة ، وغير ذلك من هذه الترهات المنشورة في الغرب أكثر منها في الشرق ، فيجب على أولي الأمر تنويرهم وتفهيمهم.
مطلب الكرامة ومصدرها والشعرى ومن يعبدها :
أما المشهورون بالصلاح والفقه والعلم فقد تظهر على أيديهم كرامات ، لكن لا كسب لهم بها ، كما ان المعجزات لا كسب للأنبياء بها ، لأنها قد تكون عفوا من اللّه.
والقاعدة أن كل ما جاز أن يكون معجزة للنبي ، جاز أن يكون كرامة للولي.
ولو كانت بكسب البشر لما خاف موسى من عصاه حينما تحولت حية ، تأمل قوله تعالى «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى » الآية 17 من الأنفال في ج 3 ، وقوله تعالى «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» الآية 92 من الإسراء الآتية ، وقوله جل قوله (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) الآية 109 من الانعام في ج 2 ، وقد أخبر عمر رضي اللّه رجل بأنه رأى رجلا يعلم الغيب فقال له : لا يعلم الغيب إلا اللّه.
وقال له : اقبض قبضة من شيء لا تعلم عدده واسأله عنها ليظهر لك كذبه ، فذهب اليه وفعل ما أمره به عمر وسأله فلم يعرف عدده ولا نوعه ، فرجع إلى عمر وأخبره الخبر فقال له : إذا كنت تعرف شيئا هو راسخ في قلبك ، فيمكن أن يعرفه أمثال هؤلاء ، إذ يوشك أن ينقله وسواسك إلى وسواسه في قلبه فيخربه.
ومن هذا ما يسمونه بقراءة الافكار ، ومن أراد أن يطلع على بعض حيل المشعوذين ، فليراجع كتاب كشف أسرار المحتالين يجد فيه العجاب طهر اللّه قلوبنا من الزيغ ووفقنا لمعرفة عيوبنا.
قال تعالى : «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ» العبد بخلق ما يسره ويبهره «وَأَبْكى 43» عبده بخلق ما يسوءه ويحزنه ، فأفرح(1/206)
ج 1 ، ص : 207
المؤمن في الجنة بثواب عمله الصالح في الدنيا ، وأحزن الكافر في النار بعقاب عمله الطالح في الآخرة.
روى البخاري ومسلم عن النبي قال : خطب النبي صلّى اللّه عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط ، فقال : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، فغطّى أصحاب رسول اللّه وجوههم لهم خنين بكاء مع صوت يخرج من الأنف - «وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ» خلقه في الدنيا بعد انتهاء آجالهم فيها «وَأَحْيا 44» من أماته في الآخرة بعد انقضاء أجلهم في البرزخ.
وجاء بلفظ الماضي لتحقق وقوعه مثل أتى أمر اللّه بمعنى يأتي وأعقبه بالجملة قبله ، لأن الموت يعقبه البكاء ، والولادة أي الإحياء يعقبها الضحك ، وقيل في هذا المعنى :
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا والناس حولك يضحكون سرورا
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكا مسرورا
أي عند ربك بما قدمت من عمل صالح ، راجع الآية 11 من سورة غافر في ج 2.
قال تعالى : «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ» راجع تفسيرها في الآية 3 من سورة الليل المارة ، وكذلك ما يتعلق في قوله : «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى 45» المخلوقين «مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى 46» تقذف وتنصب في الرحم (أما النبات فبالاختلاط والتلقيح ...) وفي هذا تنبيه عظيم على قدرة القادر وعظمها وكمالها ، لأن النطفة واحدة ويكون فيها أنثى وذكر بتقديره ، وهذا مما لم يصل إليه الفهم ولم يتصوره العقل بعد ، لأنهم حتى بعد تكوينه ووجوده في الرحم لم يعرفوا ما في الرحم هل هو ذكر أم أنثى ؟ حتى ولا بعد تمام خلقه ، لذلك كان في الخمس التي لا يعلمهن على الحقيقة إلا اللّه «وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى 47» الإحياء بعد الإماتة للحساب والجزاء كما كان عليه النشأة الأولى للعمل والثواب «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى » عباده من الذهب والفضة والجواهر ، وصنوف الأموال ، وإضراب الأعيان ، مما يدخر ومما لا «وَأَقْنى 48» خلقه المذكورين من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير والبغال وسائر أصناف النعم والمواشي «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى 49» هي نجمتان الأولى شامية والأخرى يمانية وتفصل بينهما المجرة ، فالأول كوكب يضيء خلف الجوزاء(1/207)
ج 1 ، ص : 208
ويسمى العبور ، والأخرى كوكب في ذراع الأسد المبسوط وتسمى العميصاء وهي أخفى من العبور ، وسميت عبورا بفتح العين لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا ، وكانت خزاعة تعبدها ، وأول من سنّ لهم عبادتها شريفهم أبو كبشة لأن سيرها يخالف سير النجوم لأنها تقطع السماء طولا والنجوم عرضا فأخبرهم اللّه بأنه هو رب معبودهم ، ولذلك لقب أبو جهل غضب اللّه عليه حضرة الرسول صلوات اللّه عليه بابن أبي كبشة ، لأنه جاءهم على ما يزعم بدين على خلاف دينهم الذي اعتادت العرب عليه تشبها له به في خلافه إياهم كما خالفهم أبو كبشة ، وإنما خص اللّه تعالى الشعرى بالذكر دون غيرها لهذا السبب.
ويقول الفلكيون بأنها أعظم من الشمس بملايين وان نورها لا يصل إلى الأرض إلا بمدة اثنتين وعشرين سنة بيد أن نور الشمس يصل إلى الأرض في بضع دقائق ولا يخفى أن هذا من قبيل الظن لأن مبنى مذهبهم في تقدير النجوم وسيره على الحدس إذ غاية ما يعتمدون عليه المكبرات والقياس ولا يخلوان من خطأ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى 50) هم قوم هود عليه السلام وهم أول الخلق هلاكا بريح صرصر بعد قوم نوح عليه السلام وصار لهم عقب فسموا عادا الأخرى أهلكهم اللّه أيضا راجع تفسير الآية 6 من سورة الفجر المارة تجد قصتهم مفصلة (وثمود) قوم صالح عليه السلام أهلكهم بالصيحة
«فَما أَبْقى 51» منهم أحدا «وَقَوْمَ نُوحٍ» أهلكهم بالغرق من قبل عاد وثمود «إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى 52» ممن تقدمهم من الأمم إذ بقي يدعوهم إلى اللّه تسعماية وخمسين سنة وهم مكبون على الطغيان لا يصغون لما اليه يدعوهم من الإيمان «وَالْمُؤْتَفِكَةَ» قرى قوم لوط عليه السلام «أَهْوى 53» أسقطها بعد أن رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء «فَغَشَّاها» من البلاء العظيم «ما غَشَّى 54» منه فيه تهويل وتفظيع للعذاب الذي صبه عليهم فكأنه ألبسها إلباسا راجع قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم في تفسير الآية 58 فما بعدها من سورة الأعراف الآتية ، وفي الآية 44 فما بعدها من سورة هود في ج 2 ، قال تعالى «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ» أيها الإنسان «تَتَمارى 55» تشك وتكذب لأنها نعم عظيمه لا تستطيع حصرها قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ(1/208)
ج 1 ، ص : 209
اللَّهِ لا تُحْصُوها)
الآية 34 من سورة ابراهيم من ج 2 ، فيا أيها الناس «هذا» نبيكم محمد «نَذِيرٌ» لكم بهذا القرآن «مِنَ النُّذُرِ الْأُولى 54» الذين أرسلوا إلى أقوامهم لينذروهم بما أوحى إليهم ربهم من الشرائع فعليكم أن تطيعوه وتؤمنوا به ولا تتوانوا إذ «أَزِفَتِ» قربت الساعة «الْآزِفَةُ 57» أي القيامة الموصوفة بالقرب وانها إذ حضرت «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ 58» أي الحالة التي تقع فيها على الناس لا يقدر أن يزيلها عنهم أحد الا اللّه إذ كل نفس عاجزة عن ازاحة ما يصيبها ولا يعلم وقتها إلا اللّه ، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان من ج 2 ، قال تعالى (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) الآية 156 من الأعراف الآتية «أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ» القرآن القديم المحدث نزوله عليكم في علم اللّه الأزلى «تَعْجَبُونَ 59» أيها الناس وتنكرون حقيقته «وَتَضْحَكُونَ» منه استهزاء به وبمن أنزل عليه «وَلا تَبْكُونَ 60» خشوعا وخوفا من منزله وتعرضون عما فيه من الوعيد
«وَأَنْتُمْ سامِدُونَ 61» غافلون لا هون بما لديكم من الدنيا معرضون عن الآخرة.
والسمود بلغة اليمن الغناء وفي اللغة رفع الرأس يقال سمد البعير إذا رفع رأسه وجد في السير والسامد اللاهي ، أي وأنتم لاهون عنه بالغناء غافلون عن سماعه بلعبكم ، فتيقظوا أيها الناس وإذا آمنتم به «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ» شكرا على إرسال واحد منكم من قبل ربكم لإرشادكم وهدايتكم لسبيله «وَاعْبُدُوا 62» اللّه وحده ولا تشركوا به شيئا مما يعبده المشركون الضالون المهلكون.
مطلب في السجود وقصة الغرانيق :
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود أن رسول اللّه قرأ سورة النجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش (هو أمية بن خلف) أخذ كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفي هذا ، قال عبد اللّه فلقد رأيته بعد قتل كافرا.
وروى البخاري عن ابن عباس أن رسول اللّه سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
والحكم الشرعي سجود التلاوة واجب عند الحنفية استدلالا بهذين الحديثين لأن الأمر في هذه الآية للوجوب وبه ت (14)(1/209)
ج 1 ، ص : 210
قال سفيان الثوري.
وقال الشافعي وأحمد ومالك سنة استنادا لما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت قال : قرأت على رسول اللّه والنجم فلم يسجد فيها.
وهذا لا ينفي الوجوب لأنه عبارة عن واقعة حال إذ يجوز ترك السجود لوقوع القراءة في وقت مكروه أو على غير وضوء لأنهم كانوا يقرأون القرآن عن ظهر الغيب لا بالمصاحف تلقيا وحفظا من رسول اللّه أو أن الرسول لم يسجد ليبين للناس أن السجود غير واجب على الفور ، وهذا محمل حديث عمر المروي في الموطأ من أنه رضي اللّه عنه قرأ سجدة وهو على المنبر فلما نزل سجد وسجد معه الناس ثم قرأها في جمعة أخرى فتهيأ الناس للسجود فقال على رسلكم ، إن اللّه لم يكتبها علينا إلا ان نشاء ، فلم يسجد ، ومعنى هذا أن اللّه لم يفترضها كالصلوات الخمس ولم يوجبها حالة قراءتها ولو أوجبها حالا لما جاز أن يقرأها أحد عن ظهر غيب إلا وهو متوضئ.
هذا ، ومن أراد زيادة التفصيل في هذا البحث فليراجع ص 414 من الجزء الأول من الهداية.
والسبب في سجود المشركين أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا قرأ يرتل القرآن ويفصل الآي أي يسكت سكتة خفيفة بين الآيتين ، ولما قرأ (أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) إلخ بمحضر المسلمين وقريش ، ترصد الشيطان تلك السكتة فدسّ فيها ما اختلقه وهو جملة (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى) محاكيا بها صوت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فسمعه ممن دنا من الكفار فظنوها من الرسول ورأوه قد سجد هو ومن معه من المؤمنين فسجدوا معه ، سرورا بذكر آلهتهم وشاع الخبر في الآفاق حتى ان المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة أوائل سنة خمس من البعثة سنة نزول هذه السورة عادوا فرأوا الأمر على خلاف ما سمعوا فمنهم من دخل بجيرة غيره ومنهم من اختبأ ومنهم من عاد لهجرته ، ولما عرف رسول اللّه ذلك حزن وضاق ، فأنزل اللّه عليه مساء ذلك اليوم تسلية له وتعزية عما لحقه من الأسف قوله جل قوله «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» الآية 52 فما بعدها إلى 55 من سورة الحج من ج 3 ، ومعنى تمنى قرأ ، قال حسان في عثمان بن عفان رضي اللّه عنهما حين قتل وهو يقرأ : (1/210)
ج 1 ، ص : 211
تمنى كتاب اللّه أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال غيره :
تمنى كتاب اللّه أول ليلة تمني داود الزبور على رسل
ومعنى «فِي أُمْنِيَّتِهِ» قراءته كما سيأتي في تفسير تلك الآيات في محلها ان شاء اللّه ، ولهذا ظن بعض المفسرين أن سورة الحج مكية والحال أنها مدنية عدا هذه الآيات ، ولما تحقق عند حضرة الرسول ذلك أخبر المسلمين وقريشا بأن تلك الكلمات من الشيطان القاها أثناء سكوته بين الآيتين ، أما من قال ان تلك الكلمات صدرت عن حضرة الرسول فقد أخطأ وزاغ ، لأنه إذا قال تكلم بها عمدا فقد كفر لأنه يعد مادحا للأصنام التي ذمها اللّه وبعثه لأجل تحطيمها ومنع الناس من عبادتها فكيف يتصور منه مدحها ؟ وإذا قال أجراها على لسانه سهوا أو غفلة فمردود لأنه لا يجوز وجود الغفلة والسهو حال تبليغ الوحي لأنه يسبب عدم الاعتماد على قوله ولأن اللّه تعالى وصف القرآن بقوله «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» الآية 42 من سورة فصلت ج 2 وقال جل شأنه «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» الآية 9 من سورة الحجر من ج 2 أيضا فعليه لا يجوز أن يدخل في التزيل شيء من ذلك ، وإذا قال ان الشيطان أجرى تلك الكلمات على لسان الرسول جبرا بحيث لا يقدر أن يمتنع منه فهو ممتنع أيضا لأن الشيطان عاجز عن ذلك في حق الغير فكيف في حق الرسول ، وقال تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الآية 65 من سورة الإسراء الآتية وقال (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية 40 من سورة الصافات الآتية أيضا ، إذا لم يبق الا ان حضرة الرسول سكت عند قوله تعالى «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى » كما هو شأنه بين الآيات فتكلم الشيطان بتلك الكلمات متصلا بقراءته فوقع عند البعض أن النبي تكلم فيها وهذا معنى الإلقاء في هذه الآية المارة الذكر من سورة الحج ، ولا يخفى أن الشيطان كان زمن الرسول ومن قبله من الأنبياء صلوات اللّه عليهم وسلامه يظهر بصورة الإنسان ويتكلم ويسمع كلامه كسائر البشر
كما هو ثابت في الكتب القديمة وفي حادثة قريش(1/211)
ج 1 ، ص : 212
حينما اجتمعوا في دار الندوة للتداول في كيفية التخلص من حضرة الرسول كما سنبينه في تفسير الآية 41 من سورة العنكبوت في ج 2 ، وفي تفسير الآية 30 من سورة الأنفال ج 3 ، وقد ذكر اللّه عنه بأنه قال يوم بدر لكفار قريش (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ إلخ) الآية 51 من سورة الأنفال أيضا.
وروي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمدا قتل ، كما سيأتي في الآية 122 من آل عمران في ج 3 أيضا.
أما سجود المسلمين فلم يقدح فيهم لأنهم سجدوا مع حضرة الرسول لتحققهم من حاله في ذم الأوثان وأنهم كانوا يحفظون السورة عند تلقيها منه كما أنزلها اللّه ولم يسمعوا تلك الكلمات لذلك لم يأت ذكرها في الحديثين المارين وأن ما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لما تولى عنه قومه وشق عليه بعدهم تمنى أن يأتيه اللّه بما يقارب بينه وبينهم حرصا على إيمانهم وأنه لما قرأ سورة والنجم بينهم القى الشيطان على لسانه تلك الكلمات فلا عبرة به حيث رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدا لا يعتمد عليه ولم يؤيده أحد من أهل الصحة ولا لسنده ثقة بسند صحيح أو سليم متصل.
ومما يدل على توهين هذه الرواية اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها ، لأن منهم من قال أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان في الصلاة ومنهم من قال أنه كان في نادي قومه وآخر يقول أنه قرأها في حالة سنة من النوم ، وغيره يقول أنه حدث بها نفسه ، فجرت على لسانه ، والبعض قال ان الشيطان قالها على لسانه أو بعض الكفرة تكلم بها أثناء قراءته حتى ظنوها منه ، وبعضهم قال انه لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا اقرأتك ، مما يدل على تلفيق هذه القصة ولا غرو أن كثيرا من المفسرين والمؤرخين ولعون بنقل كل غريب شاذ ، لذلك فانهم ينقلون هذين النوعين بلا ترو لينقل عنهم هكذا مخالفات على حد خالف تعرف.
واعلم أن التمني ينحصر في معنيين لا ثالث لهما بمعنى حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأخير لا شيء فيه كما علمت ، وعلى الأول يكون معنى تمنى خطر بباله وتمنى بقلبه ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة ، الا أنه يستحيل وقوعه من النبي في كل ما يتعلق بأمر تبليغ الوحي بدليل ما مر(1/212)
ج 1 ، ص : 213
من الآيات المستشهد بها أعلاه ، وإذ قامت الدلائل على صدقه صلّى اللّه عليه وسلم فضلا عن أن الأمة أجمعت على أنه معصوم من الإخبار بخلاف الواقع من قبل اللّه لا قصدا ولا سهوا ولا غلطا ولا نسيانا ولا خطأ ، كيف وقد قال تعالى :
(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) الآية 3 المارة ، وعلى هذا فلا يجوز ذلك عليه إلا زنديق مارق منافق خائن لا حظ له في الآخرة إلا النار ، ولا نصيب له في الدنيا إلا العار هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
تفسير سورة عبس
عدد 24 - 80
نزلت بمكة بعد سورة والنجم ، وهي اثنتان وأربعون آية ، ومائة وثلاثون كلمة وخمسمائة وثلاثون حرفا لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به ، ويوجد ستة سور في القرآن بدئت بالفعل الماضي هذه والنمل والأنبياء والفرقان والملك والمعارج.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «عَبَسَ» تقطب واكفهر وجه الرسول المرسل إليكم أيها الناس «وَتَوَلَّى 1» أعرض وأدبر من «أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى 2» عبد اللّه بن شريح بن مالك بن أم مكتوم عاتكة بنت عبد اللّه المخزومي «وَما يُدْرِيكَ» يا حبيبي «لَعَلَّهُ» ذلك الأعمى الذي لم تعبأ به ولم تلق له بالا «يَزَّكَّى 3» من دون الكفر بما يتعلمه منك فيطهر بطهارة الإيمان «أَوْ يَذَّكَّرُ» بمواعظك القيمة المنزلة إليك من قبلنا «فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى 4» التي يتلقاها منك من وحينا فيكون خيرا من هؤلاء الذين اشتغلت بهم عنه وهم المعنيون بقوله تعالى «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى 5» بماله وعشيرته عن الإيمان بك والانقياد لما تتلوه من الذكر «فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى 6» تنقصد الإقبال عليه والإصغاء لقوله مكبا بكلك اليه ومجهدا نفسك به حرصا على إيمانه «وَما عَلَيْكَ» فرض والتزام «أَلَّا يَزَّكَّى 7» من شركه فيطهر ويهتدي للايمان وانما عليك تبليغه وإنذاره فقط قال تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) الآية الاخيرة من سورة ق الآتية(1/213)
ج 1 ، ص : 214
وقال تعالى (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) الآية 22 من الغاشية في ج 2 ، «وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى 8» كهذا الأعمى «وَهُوَ يَخْشى 9» اللّه واليوم الآخر طائعا مختارا راغبا راهبا «فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى 10» بغيره ومتشاغل عنه بهم وهم يظهرون الاستغناء عنك
«كَلَّا» لا تعد لمثل هذا أبدا كيف تقبل على الخطير وتعرض عن الحقير فكم من حقير عند اللّه لا يوازيه الف خطير في المنزلة واعلم يا أكمل الرسل «إِنَّها» الآيات المنزلة عليك من لدنك «تَذْكِرَةٌ 11» عظيمة للناس أجمع لا يختص بها إلا من شملته العناية ولا يعرض عنها إلا من سخط عليه «فَمَنْ شاءَ» أن يتعظ بها ويؤمن بك وبربك «ذَكَرَهُ 12» أي ذكر اللّه ربه منزلها بإلهام منه فاهتدى وهذه الآيات المعبر عنها بالتذكرة مدونة عند اللّه «فِي صُحُفٍ» عظيمة جليلة «مُكَرَّمَةٍ 13» على اللّه الكريم والتنوين فيها يدل على التفخيم ولذلك وصفها بقوله (مَرْفُوعَةٍ) القدر عالية الاحترام «مُطَهَّرَةٍ 14» مقدسة لا يمسها هناك إلا المطهرون من الملائكة الكرام كما أنه لا يمسها في الدنيا إلا المطهرون من البشر كما سيأتي في الآية 79 من سورة الواقعة الآتية «بِأَيْدِي سَفَرَةٍ 15» جمع سفير وذلك أنه عند ما يأمر اللّه بايجاد شيء منها بوحيه بأن يأمر هذا النوع من الملائكة فيسفرون به بين اللّه ورسله فيكونون كالسفير بينهما وقد أنشد :
وما أدع السفارة بين قومي وما أمشي يغش إن مشيت
ويقال لكتبة الوحي سفرة أيضا وللكاتب سافر ، لأنه يسفر بكتابته عن الأحوال التي يكتبها أي يبينها ويكشفها (كِرامٍ) على اللّه هؤلاء «بَرَرَةٍ 16» أنقياء بارين طائعين لا يخالفونه قيد شعرة ، بل لا يعرفون المخالفة وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم بينما كان يدعو أشراف قريش إلى الإسلام ويناجيهم أتاه ذلك الأعمى وقال له علمني يا رسول اللّه مما علمك ربك وهو مدبر عنه ومقبل على أولئك والأعمى لا يدري بتشاغله في غيره فصار يكرر النداء عليه فكره الرسول قطعه لكلامه وقطب وجهه وأعرض عنه وقال في نفسه لعلي إذا أقبلت عليه(1/214)
ج 1 ، ص : 215
وتركتهم يقولون ما قاله أحزابهم من الصناديد ما تبعه إلا الصبيان والسفلة فصد عنه وأقبل على أولئك يكلمهم ، فأنزل اللّه هذه الآيات يعاتبه فيها ، فكان كلما رآه يكرمه ويقول له مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ، ويقول له هل لك من حاجة ؟ واستخلفه على المدينة مرتين وهو من المهاجرين الأولين وقتل شهيدا في القادسية وواراه أنس وعليه درع ومعه راية سوداء ودفن بدمشق وقبره معروف حتى الآن.
ثم أنزل اللّه في عتبة بن لهب وأضرابه كأمية ابن خلف المتعصبين بالكفر (قُتِلَ الْإِنْسانُ) الذي لم يؤمن باللّه ولم يطع رسوله «ما أَكْفَرَهُ 17» ما أشد تعنته بالكفر تعجبا من عناده مع كثرة إحسان اللّه اليه وهي عامة في كل كافر متصلب في كفره ، ثم بين اللّه من أمر هذا الكافر وما ينبغي له أن يعلم «مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ 18» اللّه فإذا علم ذلك كان عليه أن يؤمن به لخلقه على الأقل ، ثم فسر ماهية خلقه بقوله (مِنْ نُطْفَةٍ) نقطة دموية قليلة حقيرة وهي عبارة عن بعض ماء الرجل المختلط ببعض ماء المرأة فمن هذا (خَلَقَهُ) فسواه بشرا سويا «فَقَدَّرَهُ 19» على ما أراد من مخلوقاته وعلى أنواع كثيرة من المصنوعات وعلى الخط والكتابة والقراءة وفضّله على كثير من خلقه وأكرمه بأنواع كراماته «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ 20» له فسهل عليه خروجه من بطن أمه أولا ويسر له سلوك الطريق الموصل اليه ويسره لما خلق له من عمل ورزق مدة حياته
(ثُمَّ أَماتَهُ) بأجله المحتوم بعد استيفاء ما قدره له في الدنيا «فَأَقْبَرَهُ 21» في الأرض التي خلق أمله منها وتكونت منها نطفته وقد أمر بدفنه كرامة له فلم يجعله كالبهائم تطرح للوحوش ومن فعل معه هذا الفعل بحياته ومماته جدير بأن يطيعه ولكن الإنسان كفور «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ 22» أحياه للحساب والجزاء بالوقت المقدر لبعثه بعد انتهاء الوقت المقدر له في برزخه (كلا) ردع وزجر لذلك الإنسان المتكبر المتجبّر المترفع المصر على الكفر وإنكار البعث وهو «لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» ربه من الإيمان به ولم يؤد ما افترضه عليه ولم يقم بشكر ما أنعم به عليه ولم يف بعهده الذي أخذه عليه في عالم الذر كما سيأتي في الآية 172 من الأعراف الآتية وبقي على حالته تلك من حين ولد إلى أن مات ، ثم أنه(1/215)
ج 1 ، ص : 216
تعالى بعد أن بين له ذلك وعلم أنه لم ينجع به ذكره بما لا بدّله منه في دنياه لعله يعتبر فقال «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ 24» كيف يسره له وكيف يأكله وكيف يبقي ما فيه حياته وينتفع به وجوده ويخرج منه فضلاته التي لو بقيت أهلكته وكيف علمه الضار منه فاجتنبه والنافع فأكله مما يحار به العقل ، ولهذا كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول عند خروجه من المستراح الحمد للّه الذي أذهب عني الأذى وعافاني ثم بين كيفية خلق طعامه فقال «أَنَّا» نحن الإله المنفرد في ملكوته «صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا 25» من السماء على الأرض لتنعش وتربو «ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا 26» بالنبات والأشجار الخارجة ، ثم بين جل شأنه ثمانية أنواع من النبات فقال «فَأَنْبَتْنا فِيها» أي الأرض بسبب ذلك الماء «حَبًّا 27» يتغذى به الإنسان والحيوان مختلفا لونه وشكله وطعمه ويفيد التنوين التعميم بما يشمل الحنطة والذرة والشعير والعدس وغيرها «وَعِنَباً» يتفكه به كسائر الفواكه الأخرى ، لأنه ذكر أمهات الأشياء اكتفاء عما يتفرع عنها «وَقَضْباً 28» في كل ما يقضب ويقطع مرة بعد أخرى كالبقدونس والنعنع والفصة فانها كلما حصد شيء منها ظهر بدله والقضبة الرطبة فإذا يبست تسمى قثا ، وقال بعض المفسرين القضب كل ما يعلف للدواب وهو جدير لو لا أن تأتي كلمة الأب بعد ، فهي أولى بهذا المعنى وهو من خصائص الحيوان لأن اللّه تعالى ذكر أولا ما يخصّ الإنسان وقد عطف عليه قوله «وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا 29» وهاتان الشجرتان أكثر نفعا من غيرهما لأنهما فاكهة وإدام ويؤكل ثمرهما رطبا ويدخر أيضا «وَحَدائِقَ» جنات وبساتين عظيمة منافعها «غُلْباً 30» غلاظ أشجارها ملتفة على بعضها
ثم عمم فقال «وَفاكِهَةً» من كل يتفكه به الإنسان من تفاح وخوخ وإجاص وكمثرى وسفرجل ومشمس وغيرها «وَأَبًّا 31» من كل نبات وشجر وحب يتغذى به الحيوان ويتملح به يابسا أو أخضر وما قيل أن الأب بلغة الحبشة الفاكهة وفسرها بها فغير سديد لانها تكون مكررة إذ ذكرت الفاكهة قبله قال تعالى : وجعلنا هذه النباتات «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ 32» الأب خاصة فاشكروا نعمة اللّه عليكم أيها الناس لأنّا نمتعكم بذلك كله وغيره متاعا زائلا(1/216)
ج 1 ، ص : 217
سريع الاضمحلال «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ 33» صيحة القيامة وسميت صاخّة لأنها تصخ الآذان لشدتها وهذه هي الصيحة الثانية بدليل قوله «يَوْمَ» يوم مجيئها «يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصاحِبَتِهِ» زوجته لملازمتها له أكثر من غيره «وَبَنِيهِ 36» لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا إذ ذاك ولا يخففون عنه ما أثقل ظهره من الذنوب لهذا لا يلتفت إليهم ، وهم أيضا لا ينظرون اليه لأنهم لا يتوخون منه نفعا في ذلك اليوم إذ «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ» يوم تكون الصّيحة «شَأْنٌ يُغْنِيهِ 37» عنهم أيا كانوا لشدة الهول والفزع ويشغله عن التواد الذي كان في الدنيا.
أما الصيحة الأولى فلا يكون فيها الا موت الخلائق أجمع روى ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : تحشرون حفاة عراة عزلا فقالت امرأة أينظر أحدنا أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال يا فلانه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) - أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح - وأخرج بن مردويه والبيهقي مثله وصححه الحاكم وأن السائلة سودة بنت زمعة أم المؤمنين وجاء في رواية الطبراني عن سهل ابن سعد أنه قيل له عليه الصلاة والسلام ما شغلهم ؟ فقال نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل! ثم ذكر اللّه تعالى حال الخلائق المكلفين وبدأ بالسعداء فقال : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ 38» مضيئة مشرقة من آثار أعمالها الصالحة في الدنيا كغبار الجهاد ومعاملة الناس بالحسنى وآثار الصوم والصلاة والزكاة والصدقة وقيام الليل مستنيرة من آثار السجود والوضوء وغيرها فهي «ضاحِكَةٌ» سرورا وفرحا بثواب اللّه «مُسْتَبْشِرَةٌ 39» بكرامة اللّه لها ورضوانه بعد الحساب ثم ذكر أهل الشقاء أجارنا اللّه منهم وجعلنا من السعداء.
بقوله «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» أني بعد الفراغ من الحساب تراها منكمشة «عَلَيْها غَبَرَةٌ 40» تعارها والعياذ باللّه فتصيرها كدرة مائلة إلى السواد
«تَرْهَقُها» تغشاها فتدركها عن قرب بسرعة هائلة «قَتَرَةٌ 41» ظلمة كالدخان فلا يرى أوحش منها لاجتماع العبرة والدخان عليها «أُولئِكَ» الذين صنع بهم ذلك من كشف وجوههم وتغيرها «هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ 42» لأنهم جمعوا في الدنيا بين الكفر والجحود فجمع اللّه عليهم في الآخرة(1/217)
ج 1 ، ص : 218
الغبرة والقترة ، هذا ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين صلاة وتسليما إلى يوم الدين.
تفسير سورة القدر
عدد 25 - 97
نزلت بمكة بعد عبس ، وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ، ومائة واثنتان وعشرون حرفا ، ويوجد في القرآن سورتا الكوثر ونوح بدأتا بما بدأت به هذه السورة ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» أي القرآن العظيم وعود الضمير إلى غير مذكور جائز إذا كان معلوما كما هنا ، وقدمنا البحث في هذا عند الآية 10 من سورة النجم المارة وفي التعبير بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره تعظيما له وتفخيما بعلو شأنه باعتباره كأنه حاضر عند كل أحد ، وكان هذا الإنزال جملة واحدة في اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا «فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1» العظيمة عند اللّه وسميت بذلك ، لأن الآجال والأرزاق والأحكام والأمور كلها مما يكون في السنة التي هي فيها إلى مثلها من السنة الأخرى يقدرها فيها أي يظهر تقديرها وما يقع فيها إلى الملائكة ويأمرهم بإنقاذه وإلا فهو جل جلاله عالم فيها قبل في الأزل قيل للحسين ابن الفضيل أليس قد قدر اللّه المقادير قبل خلق السموات والأرض قال نعم قال فما معنى ليلة القدر ؟ قال : سوق المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء والقدر.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، وهي ليلة سبع وعشرين من رمضان كما تقدم في بحث نزول القرآن في المقدمة ، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها وتعيينها أعرضنا عن إثباتها لمعلوميتها وقد استدل العلماء على كونها ليلة السابع والعشرين بان كلماتها إلى كلمة هي سبع وعشرون وبعضهم بحروفها إي حروف كلمة ليلة القدر المكرمة فيها ثلاث مرات لأنها أيضا سبع وعشرون حرفا ولكل وجهة ، ثم أشار اللّه تعالى منوها بتعظيمها بقوله «وَما أَدْراكَ»
يا سيد المرسلين «ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ 2» استفهام على سبيل التعظيم والتبجيل والتفخيم والتكريم تنويها بفضلها أي لن تبلغ درايتك أيها الإنسان الكامل ما هي لما قدر فيها الإله لعباده من الخير والفضل(1/218)
ج 1 ، ص : 219
وقد جاء في الحديث من أدرك أي من رأى ليلة القدر فليقل اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ، وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت كان رسول اللّه يجاور العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان.
وروى مسلم عن رزين بن حبيش قال سمعت أبي بن كعب يقول (وقيل له إن عبد اللّه ابن مسعود يقول من قام السنة فقد أصاب ليلة القدر) قال أبي واللّه الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ولا يتسنى فو اللّه اني لأعلم أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول اللّه بقيامها وهي ليلة سبع وعشرين وامارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها لا شعاع لها وهذا أصح ما ورد فيها قالوا والحكمة في اخفائها احياء الليالي الكثيرة لمن يريدها حرصا على أن يخطىء بها كما أخفيت الصلاة الوسطى للمحافظة على سائر الصلوات وأخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة ليستغرق أبعد نهارها بالدعاء أملا بمصادفتها ليسأل ربه ما يسأله فيها وليعلم أن رضاء اللّه تعالى في الطاعات لترغيب الإنسان بفعلها ليثيبه عليها وان غضب اللّه في المعاصي ليرهب الناس فيجتنبوها ليرضى عليهم قال تعالى «لَيْلَةُ الْقَدْرِ» يكون العمل فيها «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ 3» خالية منها ليقوموها فيحصل لهم الاجر المترتب على إحيائها وسبب نزولها ما قاله ابن عباس ذكر لرسول اللّه رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل اللّه الف شهر فتعجب وتمنى ذلك لأمته فقال يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا وأقلها أعمالا فأعطاه اللّه تبارك وتعالى ليلة القدر ، فقال ليلة القدر خير من الألف شهر التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل اللّه لك ولأمتك إلى يوم القيامة وهي عبارة عن ثلاث وثمانين سنة واربعة أشهر ، فالعمل الصالح ليلة القدر يعدل هذه المدة كلها وما جاء بأن هذه السورة وسورة الكوثر نزلتا حين رأى رسول اللّه بني امية على منبره فساءه ذلك فهو غير
صحيح والحديث الوارد فيه قال عنه المزني انه منكر والدليل على عدم صحته ان هاتين السورتين مكيتان ولم يكن بمكة منبر قبل الهجرة ولا قبل الفتح ، وانما اتخذ المنبر بالمدينة بعد نزولهما بسنين كثيرة ، ثم بين اللّه تعالى(1/219)
ج 1 ، ص : 220
سبب ارتفاع فضلها بقوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ» جبريل عليه السلام أو نوع من الملائكة تدعى بهذا الاسم ، وهم ذوات مخلوقة خفية من عالم القوى التي عجز البشر عن ادراكهم وهي تنجسد وتتشكل عند الاقتضاء ، وان الإيمان بهم فرض وكذلك الجان كما سيأتي في الآية 37 من سورة عمّ من ج 2 ، ينزلون إلى سماء الدنيا «فِيها» في ليلة القدر وهذا النزول يكون «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» وقيد بالإذن تعظيما لأمر تنزلهم والا لا يكون الا بإذنه قال تعالى «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» الآية 67 من سورة مريم الآتية وإشارة لرغبتهم في أهل الأرض واشتياقهم لرؤية ثواب طاعتهم واستماع حنين الذاكرين وأنين العاصين منهم وقد جاء في الحديث القدسي : لأنين المؤمنين أحب إلى من زجل المسبحين «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ 4» أي أن نزولهم لأجل كل أمر يتعلق به التقدير في تلك السنة من قضاء اللّه وقدره وهذه الليلة المباركة «سَلامٌ هِيَ» على أولياء اللّه وأهل طاعته من كل ما يخافون ويرهبون.
لما كانت الملائكة رأت أفعال الجن وافسادهم في الأرض وقالوا لربهم حينما قال لهم «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» الآية 30 من البقرة من ج 3 ، وظهر لهم الأمر بخلاف ما قالوه نزلوا باستيذان من اللّه إلى أهل الأرض ليسلموا عليهم ويعتذروا منهم ويستغفروا لهم جاء في الحديث الذي رواه أنس أن رسول اللّه قال إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كيكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه عز وجل ويكون هذا دأبهم «حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ 5» من ليلتها ، فعلى الراغب بذلك أن يقوم تلك الليلة المباركة ليحظى بما من قدر له فيها الثواب العظيم المعلق على القيام فيها فأين الطالبون لنفحات اللّه أني الراغبون لعطائه هذا واللّه أعلم.
هذا ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(1/220)
ج 1 ، ص : 221
تفسير سورة والشمس
26 - 91
نزلت بمكة بعد القدر ، وهي خمس عشرة آية ، وأربع وخمسون كلمة ، ومائتان وسبعة وأربعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «وَالشَّمْسِ» القرص المعهود «وَضُحاها 1» الوقت المعلوم لأن فيه زيادة ضوئها وقيام سلطانها «وَالْقَمَرِ» المستفاد نوره منها بدليل قوله «إِذا تَلاها 2» تبعها لأنه دائما يكون بمقابلتها تخلفه ويخلفها أنظر رعاك اللّه أي فلكي أخبر محمدا صلّى اللّه عليه وسلم أن أول شيء تكون من الأجرام هو الشمس حتى أقسم اللّه بها ، ثم أقسم بما يكون بعدها لأن هذه الأمور لم تعرف إلا بعد نزول هذا القرآن ولم يسبق أي نقل فيها عن أحد قبله فهو الذي نور قلوب الناس وعقولهم ، فيجب علينا نحن المؤمنين أن نتمسك به ونجيل النظر في معانيه وما يرمي اليه بإمعان لا نظرا سطحيا وأن نلازمه ونجول حول حرمه ليمنّ اللّه علينا بالوقوف على بعض مغازيه النافعة لنا دينا وأخرى قال تعالى «وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها 3» أي الشمس فإنها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار وتنجلي فيه ظلمة الليل حيث يغشاه ضياؤه بظهور الشمس «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها 4» أي الشمس إذ بغيابها يظلم الأفق ويبسط الظلام سلطانه «وَالسَّماءِ وَما بَناها 5» قال بعض المفسرين آثر ما ، على من ، في هذه الآية لارادة الوصفية تفخيما أي والقادر العظيم الذي بناها «وَالْأَرْضِ.
وَما طَحاها 6» دحاها وبسطها من كل جانب ودحاها ومهدها لمنافع الخلق والإنس أن يقال جيء بما في هاتين الآيتين بدل من لتفيد المصدرية ويكون المعنى والسماء وبنائها ومعنى البناء هنا الخلق.
مطلب كون السماء مبنية والقوى البشرية :
وظاهر لفظ البناء يدل على أن للسماء جرما وهذا كاف للرد على من يقول أن السماء خلاء تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، كيف وقد قال اللّه (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) الآية 57 من سورة غافر من ج 2.
فإذا كانت خلاء كما يزعمون فليست بأعظم من خلق الناس إذ لا أعظم من خلقه(1/221)
ج 1 ، ص : 222
إلا خلقها ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية المذكورة والآية 47 من سورة الذاريات من ج 2 أيضا فراجعها ، قال تعالى «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها 7» أبدعها وأنشأها وعدل أعضائها وسوى خلقها على غير مثال سابق في أحسن صورة هذا على جعل ما مصدريه ، لا وصفيه ، وهو الصواب ويجوز أن تجعل ما ، بمعنى من ، وعليه فتقول والذي سواها والذي بناها والذي طحاها وهكذا ، ونكّر لفظ النفس للتكثير ولتشمل آدم ومن بعده إذا أريد بالنفس الجسد ، وإذا أريد بها المعنى القائم بالجسد فيكون معنى سوّاها أعطاها القوى الكثيرة كالناطقة والسامعة والشامة واللامسة والذائقة والمخيلة والمفكرة والمدبرة والحافظة والباصرة وغيرها من القوى التي أودعها اللّه فيها ليفكر الإنسان في آلاء اللّه ويتدبر في مصنوعاته ويعقل كيفية مخلوقاته ، هذا ومعنى قوله تعالى «فَأَلْهَمَها» أي فهم أو علم تلك النفس ما يضرها وينفعها وبين لها الحالتين اللتين يؤول الإنسان إلى أحدهما «فُجُورَها» وما يؤول اليه من العذاب وثانيتها «وَتَقْواها 8» وما يوصل اليه من الثواب بحيث عرّفها ما تأتي وما تذر وما تأخذ وما تتقي وعاقبة كل من ذلك روى مسلم عن جابر قال جاء سراحة بن مالك بن خثعم فقال يا رسول اللّه بيّن لنا ربنا أمر ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما يستقبل قال لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، قال ففيم العمل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له.
راجع تفسير الآية الأولى من سورة القلم المارة فيما يتعلق بها.
وروى مسلم عن جابر بمعناه من طريق آخر هذا وقد أقسم اللّه تعالى في هذه الأشياء لعظم شرفها وجريان منافعها للخلق وما فيها لمصالحهم وجواب القسم «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها 9» أي فاز وسعد من طهّر نفسه وأصلحها من درن الذنوب ووسخ العيوب «وَقَدْ خابَ» خسر «مَنْ دَسَّاها 10» دنسها بالمعاصي وأفسدها بالكفر وأغواها بالملاهي فأهلكها وأتلفها ، روى مسلم عن زيد بن أرقم قال كان رسول اللّه يقول اللهم أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم اني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن دعوة لا تستجاب
ثم طفق على شأنه يقص على بنيه شيئا من أخبار(1/222)
ج 1 ، ص : 223
الأمم الماضية ليعظ قومه ويحذرهم من مخالفته ويرغبهم بطاعته ، فقال «كَذَّبَتْ ثَمُودُ» قوم صالح عليه السلام «بِطَغْواها 11» عليه وتكذيبهم له بعد أن أظهر لهم الناقة التي طلبوها منه معجزة على صدقه «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها 12» قام مسرعا لعقر الناقة أشقى قومه وهو قدار بن سالف ، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه ابن أبى زمعة أنه سمع رسول اللّه يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال : انبعث لها رجل عزيز منيع في أهله مثل أبي زمعة ولفظ البخاري عارم أي شديد ممتنع (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ) صالح عليه السلام احذروا «ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها 13» لا تعقروها ولا تتعرضوا لها بسوء ولا لمائها في نوبتها ولا تقربوه.
وذلك ان اللّه أمر صالحا أن يجعل الماء الموجود في قريتهم يوما لهم ويوما لها ، وأضافها لجلالته تشريفا كبيت اللّه (فَكَذَّبُوهُ) بما أخبرهم عن ربه من قسمة الماء ولم يكتفوا بمنعها حتى عمدوا إلى الناقة (فَعَقَرُوها) نسب العقر لهم مع أن العاقر واحد لموافقتهم على عقرها قال تعالى (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) الآية 29 من سورة القمر الآتية ولما لم يلتفتوا إلى نهي نبيهم استأصلهم بعذابه المنوه به بقوله (فَدَمْدَمَ) دمر وأطبق العذاب (عَلَيْهِمْ) جميعهم لرضاهم بفعل العاقر والراضي بالشيء كفاعله فأهلكم كلهم (رَبُّهُمْ) لمخالفته امره وتكذيبهم لنبيه (بِذَنْبِهِمْ) الذي اقترفوه عمدا وعدوانا وقصدا «فَسَوَّاها 14» سوى قراهم بالأرض وعمهم بالدمدمة فلم يفلت منهم أحد «وَلا يَخافُ عُقْباها 15» ولا تبعتها كما يخاف الملوك عاقبة أفعالهم لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وستأتي القصة مفصلة في الآية 72 من الأعراف الآتية هذا ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به هذه السورة من الألفاظ.
وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وصحبه وسلم.(1/223)
ج 1 ، ص : 224
تفسير سورة البروج
عدد 27 - 85
نزلت بمكة بعد سورة والشمس ، وهي اثنتان وعشرون آية ، ومثلها في عدد الآي المجادلة فقط ، ومائة وتسع كلمات ، واربعمائة وخمسة وستون حرفا ، ويوجد سورة الطارق مبدوءة بما بدئت به ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ 1» القصور الاثني عشر ستة منها شمالية ، ثلاثة ربيعية وهي الحمل والثور والجوزاء وابتداء الحمل من الاعتدال الربيعي وثلاثة صيفية : السرطان والأسد والسنبلة وابتداء السرطان من نقطة الانقلاب الصيفي والشمال يسار القبلة ، وستة جنوبية ثلاثة خريفية وهي الميزان والعقرب والقوس وابتداء الميزان من الاعتدال الخريفي ، وثلاثة شتائية :
الجدي والدلو والحوت وابتداء الجدي من الانقلاب الشتوي والجنوب يمين القبلة فتكون السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم وهي مدة دخول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من تلك البروج ، وكل برج ثلاثون درجة فمجموعها ثلاثمائة وستون درجة ، كل درجة بمقدار أربع دقائق ، ومجموعها أربع وعشرون ساعة وأن الشمس تقطع هذه البروج كلها مرة في السنة كل برج في شهر ، وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمان وعشرين يوما وكسور ، وسيأتي تفصيلها عند تفسير الآية 39 من سورة يس الآتية ومعناها لغة القصر ، والحصن وأصله الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لظهوره ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وشبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها والمراد بها هنا اجزاء الفلك الأعظم المسمى بالفلك الأطلس وفلك الأفلاك ، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع ، لكنها لم تكن ظاهرة حساد لّوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة أي الاثني عشر برجا المار ذكرها لأنها في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت أو بالكرسي بلسان الشرع على ما زعموا ، فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من أثنى عشر جزءا من الفلك الأعلى سامته صورة الحمل من الثوابت وقت(1/224)
ج 1 ، ص : 225
التقسيم وبرج الثور كذلك مسامتة صورة الثور منها في ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت اليوم الحمل برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا ، وطول كل برج ثلاثون درجة وعرضه مائة وثمانون درجة منها تسعون في جهة الشمال ، وتسعون في جهة القبلة.
وقال مجاهد وعكرمة وقتاده المراد بالبروج النجوم.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه حديثا بلفظ الكواكب وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنها النجوم والكواكب العظام والأول أولى وأنسب بالمقام ، وقد أقسم اللّه بها لما فيها من عظيم حكمته ومرور الكواكب السيارة فيها ومسيرها على قدر معلوم لا يختلف أبدا إلى حلول اليوم المعلوم «وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ 2» لخرابها وبعث الخلق وحسابهم وجزائهم «وَشاهِدٍ» فيه على الأعمال الواقعة من الخلق «وَمَشْهُودٍ 3» فيه من أهوال وخوارق أقسم اللّه تعالى بيوم القيامة لعظمة ما فيه ، وبأنبيائه الذين يشهدون على أممهم بما وقع منهم قال تعالى : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) الآية 41 من سورة النساء في ج 3 وباليوم المشهود لما فيه من العجائب التي يطلع عليها كافة الخلق قال تعالى :
«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» الآية 35 من سورة مريم الآتية وقال تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) الآية 103 من سورة هود من ج 2.
وما قيل ان ذلك اليوم هو يوم الجمعة أو يوم التروية أو يوم عرفه اللّه جل شأنه والمشهود يوم عرفة أو يوم النحر أو آدم عليه السلام لا وجه له ، وسياق النظم ينافيه وكل ما جاء في هذا من الأحاديث لا عبرة بها لأنها لم تثبت بصورة يصح الإحتجاج بها وجواب القسم (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ 4) الشقوق المستطيلة في الأرض المعمولة لتعذيب الناس ، واعلم أن الذين وصفوا بهذا ثلاثة ولم يعلم المراد به منهم في هذه الآية وهي تنطبق عليهم الأذل أبطاموس الرومي عملها بالشام.
والثاني بختنصر بفارس والثالث دو نواس باليمن إلا أن التي بالشام وفارس لم تشتهر عند العرب.
ت (15)(1/225)
ج 1 ، ص : 226
مطلب قصة أصحاب الأخدود :
وإنما المشهور عندهم حادثة اليمن التي وقعت بنجران وهي أقرب إلى مكة ونزل بها القرآن تذكير لكفار قريش وتسلية لأصحاب الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لحملهم على الصبر مما يلاقونه في قومهم وتحمل المشاق في الدين طلبا لزيادة الثواب ، وأصح ما جاء في هذه القصة ما رواه صهيب في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه السحر لأنه قد يحتاج إليه فيما يتعلق بملكه ورعيته وكان في طريق الغلام عند ما يذهب إلى الساحر راهب فإذا مر به سمع منه فيعجبه كلامه ، فرأى ذات يوم بطريقه دابة حبست الناس فأخذ حجرا وقال اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها فضربها فقتلها وصار بعد ذلك مرجعا للناس يبرىء الأكمه والأبرص فعمي جليس الملك فذهب إليه فأبرأه ، فقال له الملك من رد عليك بصرك ؟ فقال ربي ، فغضب من سماع كلمته لزعمه أن لا رب غيره فعذبه وقال له لا أتركك حتى تعلمني من رد عليك بصرك ، فقال الغلام ، فجاء به فعذبه حتى دله على الراهب فجاء به واراده على الرجوع عن دينه إلى دينه ، فلم يفعل ، فقصه بالمنشار ثم كلف الغلام بالرجوع فأبى فأمر عونته ان يطرحوه في ذروة الجبل فأخذوه فرجف بهم الجبل فسقطوا ونجا الغلام ، فأمر الملك ان يوضع في قرقوب ويلقى وسط البحر ، فوضعوه وذهبوا ليقذفوه فانكفأت السفينة فغرقوا ونجا ، ثم جيء به امام الملك ليرى كيف يتمكن من قتله فقال له لا تقدر حتى تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جزع وتأخذ سهما من كنانتي ونقول باسم رب الغلام ثم ترميني ، ففعل فرماه فمات ، فقال الناس آمنا برب الغلام وفي رواية مسلم كررت ثلاثا راجع آخر الجزء الأخير من صحيحه قبل كتاب التفسير ، فقيل للملك نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بحفر أخدود وأضرمها نارا وأتى بالناس واحدا واحدا فمن رجع عن دين الغلام تركه ومن أصر ألقاه فيه وبقي هكذا حتى جيء له بامرأة معها صبي وهي
مصرة على دين الغلام ولما أرادوا طرحها بالأخدود تقاعست فقال لها ابنها لا تتأخري يا أماه فإنك على الحق فصبرت فرماها فيه اه باختصار من الخازن.
وفي هذا الحديث الذي أخرجه مسلم إثبات كرامة الأولياء(1/226)
ج 1 ، ص : 227
وجواز الكذب للمصلحة لأن الغلام كان يتأخر عند الراهب ويقول للساحر تأخرت عند أهلي ، ويقول لأهله تأخرت عند الساحر وفي رواية ابن عباس أن الملك كان بنجران من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل في الفترة قبل مولد النبي صلّى اللّه عليه وسلم بسبعين سنة وكان الغلام اسمه عبد اللّه ابن ثامر ، وكان أبوه أسلمه إلى الساحر ليعلمه وصار يتردد على الراهب وذكر الحديث ، وذكر منبّه نحوه ، وقال محمد بن اسحق عن عبد اللّه بن أبي بكر أن خربة احتفرت في زمن عمر فوجدوا فيها عبد اللّه بن ثامر واضعا يده على ضربته في رأسه إذا أميطت عنها انبعثت دما وإذا تركت ارتدت مكانها ، وفي يده خاتم حديد مكتوب عليه ربي اللّه فأعادوا عليه حفرته وما ذلك على اللّه بعزيز.
قال تعالى «النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ 5» بدل من الأخدود ووصفها تعظيما لأمرها وارتفاع لهيبها من الحطب وأجساد الناس «إِذْ هُمْ» الكفرة عونة الملك المأمورون بإلقاء من لم يرجع عن دين الغلام «عَلَيْها» أي الأخدود «قُعُودٌ 6» على شفريها لئلا ينفلت منهم أحد «وَهُمْ» الكفرة المذكورون «عَلى ما يَفْعَلُونَ» من التعذيب والإلقاء «بِالْمُؤْمِنِينَ» الممتنعين عن الكفر «شُهُودٌ» بأنهم لم يفرطوا بما أمرهم به الملك ويشهد بعضهم لبعض بعدم التقصير في تنفيذ أمره «وَما نَقَمُوا» عابوا وكرهوا «مِنْهُمْ» أي المصرين على دين الغلام شيئا ما «إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا» أي غير إيمانهم «بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ 8» وهذا استثناء مفصح عن براءتهم مما يعاب وينكر وينتقد على منهاج قولهم :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما بينهما وما فيهما ، وصف اللّه نفسه المقدسة بكونه عزيزا قادرا غالبا يخشى عقابه وحميدا شكورا منعما يرجى ثوابه ، وبأن له عموم الخلق ملكا وعبيدا ومن كان كذلك وجبت طاعته والإيمان برسله وكتبه (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 9) بما فعلوه بالمؤمنين وفيه تهديد ووعيد للكافرين وأمان ووعد للمؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وأرادوهم على تغيير دينهم وعذبوهم على امتناعهم في الكفر بالأنبياء (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) حال(1/227)
ج 1 ، ص : 228
حياتهم ولم يؤمنوا قبل وفاتهم وماتوا على كفرهم (فَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابُ جَهَنَّمَ) لكفرهم باللّه وعدم تصديق رسله (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ.) لتعذيبهم غيرهم أي أن لهم عذابين قال تعالى «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ» أي المخصص لهم الآية 88 من سورة النحل في ج 2.
أي عذابا لكفرهم وعذابا لصدهم الناس عن الإيمان وفي هذه الآية.
دليل على أن توبة القاتل مقبولة بالنسبة لعمومها ، وبالنظر لخصوصها لا لأن الإسلام يجب ما قبله تأمل ،
قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في دنياهم وماتوا لى ذلك (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ) وعد اللّه فيه (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ 11» الذي لا أكبر منه لأنه حق ثابت لكل من هذه صفته ولكل من عذّب لأجل دينه من أهل الأخدود وغيرهم ، راجع تفسير الآية 10 من سورة والليل المارة «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ 12» قوي جدا لا يضاهيه بطش أبدا ، وهو الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تفاقم فيا ويل الظالمين الجبارين من انتقام اللّه «إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ» خلقهم في الدنيا فيغريهم بالمال والولد ويخدعهم بالجاه والسلطان ويملي لهم بما يشتهون ويؤملون ليختبرهم «وَيُعِيدُ 13» خلقهم ثانيا كما كانوا عليه في الدنيا حتى القلقة يعيدها لموضعها ويعرض عليهم أعمالهم حتى الذرة فما فوقها ليجازيهم «وَهُوَ الْغَفُورُ» كثير المغفرة لمن أراد من عباده وهو «الْوَدُودُ 14»بهم عظيم الحب لأهل طاعته وهو «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ 15» علوه وعظمته وهيبته ، يقرأ بالرفع على أنه صفة للّه وبالكسر على أنه صفة للعرش «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ 16» تكوينه في خلقه ورحمة من يريد رحمته وعذاب من يريد تعذيبه ، لا يعجزه شيء ولا يسأل عما يفعل ، ثم ذكر نوعا من شدة بطشه وانه لا يمنعه مانع مما يريد فعله تعالى «هَلْ أَتاكَ» يا حبيبي «حَدِيثُ الْجُنُودِ 17» الذين تحزبوا على رسلهم ضد حقهم وأخص منهم «فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ 18» كيف فعلنا بهم حين تجمعوا على أنبيائهم ، وإنما خصّ قصتهما لتداولها على ألسنة العرب ومعلوميتها عند أهل مكة لعلهم يتعظون بما حل فيهم ، ويرتدعون عما هم عليه ، ولكنهم لم ينجع بهم ، لذلك أضرب(1/228)
ج 1 ، ص : 229
عن تأميل رسوله بإيمان من لم يقدر له الإيمان من كفرة قومه بقوله «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ 19» مستمر لك ولما جئت به من القرآن كما كذب أولئك رسلهم ولم يعتبر قومك بمن أهلكناهم من الأمم السالفة «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ 20» قادر على إنزال العذاب بهم مثل من تقدمهم لا يفلت منهم أحد لأنهم في قبضته ولا نجاة لهم من بأسه وهذا هو معنى الإحاطة من محيط ومحاط به وفيها تعويذ للكفرة لأنهم نبذوا اللّه وراء ظهورهم وأقبلوا على شهواتهم واعلم يا سيد الرسل أن الذي تتلوه على قومك ليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا هو من تلقاء نفسك ولا من خرافات الأولين ولا مما يتقوله الأقدمون ولا من تعليم الغير
«بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ 21» عظيم الشأن عالي البرهان ثابت عندنا ومدون «فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ 22» من التبديل والتغيير والتحريف والنقص والزيادة وقرىء بالكسر على أنه صفة للوح وبالرفع على أنه صفة للقرآن مثل لفظ المجيد المتقدم في الآية 15 المارة وكلاهما جائز هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة التين
عدد 28 - 95
نزلت بمكة بعد البروج وهي ثمان آيات ، وأربع وثلاثون كلمة ، ومائة وخمسة أحرف ، لا يوجد سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدأت وختمت به ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «وَالتِّينِ» أي الجبل الذي عليه دمشق المنبثق بأشجار التين من الفواكه الطيبة الخالصة من الشوائب المنقصة لا عجم فيها تشبه فواكه الجنة مغذ سريع الهضم طيب الرائحة مبارك في بقعة مباركة قال تعالى (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2 «وَالزَّيْتُونِ 1» الجبل الذي عليه البيت المقدس المتفطر بأشجار الزيتون(1/229)
ج 1 ، ص : 230
المبارك لما فيه من أدم وغذاء ودهن يؤكل ويدخر ويستفاد به لا يحتاج شجره إلى خدمة بعد نباته يعيش ألوفا من السنين ، ترى أشجاره من بقايا الرومان في قضاء الزوية ويسمونه بالروماني لأنه من غرسهم لا يسقط ورقه صيفا ولا شتاء نبت كريم في بقعة كريمة وقد سماه اللّه في كتابه شجرة مباركة في الآية 35 من سورة النور في ج 3 ، وما جرى عليه بعض المفسرين بأن القسم به نفس التين والزيتون لا يستقيم مع قوله تعالى «وَطُورِ سِينِينَ 2» الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى عليه السلام وسطع عليه نور الإله ، ومكانه سيناء وسمي سينين لحسنه وبركته ، وكل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سينين وسيناء ، هذا والعطف يؤيد ما جرينا عليه وكذلك قوله «وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ 3» مكة حرسها اللّه حيث يأمن الناس فيها على أهلهم وأموالهم ونفوسهم حتى ان الرجل ليرى قاتل ابنه فلا يتعرض له فيها احتراما لشأنها ولهذا لقب بالأمين وإن تأويل التين بالشام والزيتون بالقدس يناسب ذكر ما بعدها من الطور ومكة وهو من تسميته المحل باسم الحال فيه ، ومناسبة المتعاطفات تدل دلالة صريحة على أن المراد بها الأماكن والأشجار ، ويؤيد هذا ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنهما مسجد أصحاب الكهف ومسجد إيلياء لأن الأول قريب من الشام ، والثاني قريب من القدس هذا وقد أقسم اللّه في هذه البقاع المقدسة لما فيها من البركات ولأنها معظمة بحد ذاتها ، راجع الآية الأولى من الإسراء والآية 31 من سورة القصص الآتيتين ، وجواب القسم «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 4» شكلا وصورة ولونا وتسوية أعضاء واعتدال قامة مزينا بالعلم والحلم والعقل والفهم والنطق والتمييز يأكل بيده جالسا وقائما ومتكئا وغيره مكبا على وجهه يأكل بفمه محروما من القوى التي ألمعنا إليها في الآية 4 من سورة الشمس المارة وقد متعه اللّه بما ذكر
آنفا في سن الشباب والكهولة والشيخوخة ، وقد سوى أصله من التراب ابداعا لا عن سابق مثل ولا من أصل آخر كالقردة كما يتقول به من لاخلاق له ولا إيمان «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ 5» بعد ما كان عليه من الكمال(1/230)
ج 1 ، ص : 231
إلى أرذل العمر لما توقعه فيه من الهرم والضعف ونقص العقل والسمع والبصر والشم والشهوة وانقطاع صالح العمل بالعجز عن الصيام والصلاة بصورة كاملة ، هذا مصيره في الدنيا ، وأما في الآخرة فإذا كان غير شاكر ما متعناه به وجحد ما أنعمنا به عليه وكفر بنا وبرسولنا وكتابنا فنرده إلى أسفل دركة من جهنم ، وهكذا شأن كل كافر جحود «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ 6» وافيا غير ناقص لأن المؤمن الصالح لا ينحرف غالبا فلا يرد إلى أرذل العمر ولا ينقطع عمله ويدوم عليه أجره وقد شاهدت كثيرا من العلماء العاملين تجاوزوا المائة سنة وهم على أحسن خطة كالشيخ حسين الأزهري مفتي دير الزور والشيخ بدر الدين الحسني مدرس دار الحديث بدمشق رحمهما اللّه وأتباعهما كثير ، على أن الرجل الصالح إذا أصيب بشيء ما يمنعه من ذلك فيكتب له ثواب ما كان يعمله قبل ، قال ابن عباس هم نفر ردّوا إلى أرذل العمر على زمن رسول اللّه فانزل اللّه عذرهم وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم ، وإذا صح هذا فالسبب خاص والحكم عام وقال عكرمة ما يضرّ هذا الشيخ كبره إذا ختم اللّه له بأحسن ما كان يعمل ، وقال ابن عباس إن الذين آمنوا أي الذين قرأوا القرآن لم يردوا إلى أرذل العمر وهذا يؤيد ما ذكرنا آنفا قال تعالى : «فَما يُكَذِّبُكَ 7» أيها الإنسان ، وهذا التفات من المغيبة إلى الخطاب ، وهو من محسنات البيان ومقتضيات البديع «بَعْدُ» أي بعد البيان الذي ذكرناه لك «بِالدِّينِ» الحق والبعث بعد الموت والحساب والجزاء
وقد بينا لك البرهان القاطع والحجة الواضحة فما عليك إلا أن تصدق به وتعمل لأجله ليحكم لك بالحسنى من ربك الكريم القوي المتين «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ 8» صنعا وتدبيرا وعدلا وإذا كان كذلك ، فكيف تتوهمون أنه لا يعيدكم بعد الموت وأن لا حساب ولا عقاب ولا جزاء ولا ثواب لا بل لا بد لكم من ذلك وأن اللّه سيحكم على كل بما يستحقه حكما عدلا وقضاء مبرما وهذا الاستفهام تقريري وجوابه بلى إنه أقضى القاضين وإنه قادر على ما يريده.
جاء عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال من قرأ والتين فليقل(1/231)
ج 1 ، ص : 232
وأنا على ذلك من الشاهدين ، أخرجه الترمذي وقال الشافعي رحمه اللّه ، يقولها حتى في الصلاة هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
تفسير سورة قريش
عدد 29 - 109
نزلت بمكة بعد سورة التين وهي أربع آيات ، وسبع وعشرون كلمة ، وثلاثة وسبعون حرفا ، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، وتسمى سورة الإيلاف ومثلها في عدد الآي الإخلاص.
مطلب في قريش ومن خصهم بالعهد :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «لِإِيلافِ» أي عهد «قُرَيْشٍ 1» اسم لعشيرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم والعهد بالبداوة شبه الاجازة بالخفارة ، وأول من أخذه منهم هاشم جد رسول اللّه محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم من ملك الشام كما سيأتي في الآية 67 من سورة العنكبوت في ج 2 واللام فيه للتعجيب أي أعجبوا أيها الناس بأهل مكة لهذا العهد الذي أخذته قريش بسبب سكناهم في الحرم الشريف وكيف صاروا به آمنين من كل أحد ببركة البيت الحرام وقد كثر خيرهم بسبب «إِيلافِهِمْ» وائتلافهم بصورة دائمة مطردة «رِحْلَةَ الشِّتاءِ» إلى اليمن «وَالصَّيْفِ 2» إلى الشام ليختاروا منها ويتجروا آمنين في تنقلاتهم هذه والناس يتخطفون من حولهم ، وإذا تعرض لهم من لا يعرفهم وقالوا نحن أهل حرم اللّه تركوهم واحترموهم ، وهذه ميزة عظيمة خاصة لهم لم يتحف بها غيرهم فإذا كانوا بعد هذا لا يؤمنون باللّه الذي أنعم عليهم بالعقل والسمع والبصر فجدير بهم أن يؤمنوا لهذه النعمة فقط التي خصوا بها دون غيرهم ، وإذا كان كذلك «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي» بسبب وجودهم فيه «أَطْعَمَهُمْ» اللّه «مِنْ جُوعٍ 3» وكانوا في غاية الشدة منه قبل هذا العهد «وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ 4» عظيم كانوا عليه قبله والتنكير في الكلمتين يدل على أنهم كانوا في حاجة ماسة للأمن والطعام لأنهم كانوا قبل نزولهم الحرم الشريف وقبل أخذ هذا العهد الممتاز يقاسون الأمرين(1/232)
ج 1 ، ص : 233
فسخر اللّه لهم هاشما وألقى في قلبه أخذ هذا العهد وسخر له ملك الشام والقى في قلبه إعطاءه له لأنه سادن الكعبة المعظمة وذلك بسبب دعوة إبراهيم عليه السلام أولا ووجود المصطفى أخيرا (راجع تفسير الآية 128 من البقرة في ج 3) وسبب نزولها أن قريشا لما كذبت محمدا دعا عليهم فقال اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، فاشتد عليهم القحط فقالوا يا محمد أدع لنا ربك فإنا مؤمنون فدعا فأخصبت بلادهم ثم أصروا على كفرهم.
وقريش ولد النضر بن كنانة فمن لم يلده النضر فليس بقريشي.
روى مسلم عن وائلة بن الأسقع قال صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم وسموا قريشا لشدتهم ومنعتهم تشبيها بالقرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تصاد إلا بالنار وقد يأتي التصغير للتعظيم وكانوا متفرقين فجمعهم اللّه يواسطته.
قص بن كلاب وهو الذي أنزلهم الحرم واتخذوه مسكنا ولذلك سمي مجمعا والتقرش التجمع قال شاعرهم :
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا به جمع اللّه القبائل من فهر
روى البخاري ومسلم أن رسول اللّه قال إن الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم ، وعن جابر أن رسول اللّه قال : الناس تبع لقريش في الخير والشر ، قال الكلبي أول من حمل السمراء (القمح الحنطة) من الشام هاشم بن عبد مناف وفيه يقول شاعرهم :
قل للذي طلب السماحة والندى هلا مررت بآل عبد مناف
هلّا مررت بهم تريد قراهم منعوك من حر ومن اكفاف
الرائشين وليس يوجد رائش والقائلين هلمّ للأضياف
والخالطين غنيهم بفقيرهم حتى يكون فقيرهم كالكافي
والقائمين بكل وعد صادق والراحلين برحلة الإيلاف
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
سفرين سنّهما له ولقومه سفر الشتاء ورحلة الأصياف(1/233)
ج 1 ، ص : 234
هذا ومما تفاخر به قريش قول القائل :
زعمتم أن إخوتكم قريش لهم ألف وليس لكم إلاف
أولئك أومنوا جوعا وخوفا وقد جاعت بنو أسد وخافوا
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : الناس يتفاضلون بالدنيا بالشرف والبيوتات والإمارات والغنى والجمال والهيئة والمنطق ، ويتفاضلون في الآخرة بالتقوى واليقين وأتقاهم أحسنهم يقينا ، وأزكاهم عملا ، وأرفعهم درجة.
واعلم أن ما قاله أبي بن كعب بأن هذه السورة وسورة الفيل واحدة ، قول لا قيمة له ، كما أن ما قاله غيره من أن أحرف الجر من الإيلاف متعلق بكلمة مأكول من آخر سورة الفيل لأنه يخالف أقوال الجمهور وآرائهم بأنها منفصلة عنها وانها لم تنزل بعدها كما علمت مما تقدم ، وهو كالقول بأن الانشراح والضحى واحدة ، والأنفال والتوبة واحدة ، وانهما نزلنا سوية ولم يفصل بينهما بالبسملة ، بل القول المعتمد هو أن كلا من هذه السور الست نزلت منفردة عن الأخرى ، وهذه منفردة بالنزول وترتيب القرآن أيضا ، ولا يؤيد قول أبي رضي اللّه عنه قول من جعلهما سورة واحدة بأخبار القرآن كله ، كالسورة الواحدة من حيث انه يصدق ويبين بعضه بعضا لإطباق الصحابة على معارضته ، وإجماع القراء على مخالفته وعلى الفصل بينهما وأنهما سورتان ، وقد مرّ أول الضحى بعض ما يتعلق بهذا وله صلة أول سورة التوبة في ج 3.
هذا ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
تفسير سورة القارعة
عدد 30 - 101
نزلت بمكة بعد قريش ، وهي إحدى عشرة آية ، وست وثلاثون كلمة ، ومائة واثنان وخمسون حرفا ، لا يوجد سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدئت وختمت به ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.(1/234)
ج 1 ، ص : 235
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «الْقارِعَةُ 1» كناية عن يوم القيامة وقد كررها تهويلا لما يقع فيها فقال «مَا الْقارِعَةُ 2» أيها الناس شيء عظيم هي وكل قارعة مخوفة ، دونها في الفظاعة ثم كررها ثالثا مع الاستفهام على سبيل التعظيم إيذانا بشدة أهوالها فقال «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان العاقل أي شيء أعلمك «مَا الْقارِعَةُ 3» فإنك مهما بلغت من الإدراك لا تدري كنهها ، وانك كيفما قد صورت وصورت فهي فوق ذلك لأنها تقرع القلوب بالفزع قرعا هائلا «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ» فيه في مشيهم وتراصهم «كَالْفَراشِ» الحشرات التي تتهافت على الضياء والنار فإنها تترامى فوق بعضها لا تتجه إلى جهة واحدة مع أن القصد واحد لذلك وصفها اللّه بقوله «الْمَبْثُوثِ 4» المتفرق شبه اللّه تعالى الخلائق في ذلك اليوم المهول بهذا النوع من الطير الصغير وتهافته على بعضه نحو الضياء لأنهم يوم يبعثون يتبعون صوت الداعي حيارى لا يعرفون أين يذهبون ، يموج بعضهم في بعض من شدة الفزع الحاصل من شدة صوت الملك راجع تفسير الآية 305 من سورة طه الآتية ، فكما أن الفراش يظن أن في الضياء طريقا فيقصده ليمر به ويتهافت عليه فيتراكم بعضه على بعض فكذلك أهل الحشر حين يساقون إليه ولهذا شبههم به «وَتَكُونُ الْجِبالُ) الشامخات فيه أيضا «كَالْعِهْنِ» الصوف «الْمَنْفُوشِ» وقيل المصبوغ ألوانا مستدلا بقوله تعالى :
«جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ» الآية 27 من سورة فاطر الآتية ، وما جرينا عليه أنسب بالمقام لأن الآية المستدل بها تبين ماهية الطرق في الجبال وأن كل طريق بلون أرضه بمناسبة تعداد نعم اللّه على خلقه ، وهنا يبين كيفية اضمحلال الناس معنى بالنسبة للجملة قبلها المبينة من تشتت الناس والجبال مع عظمتها أما الطرق فلم يسبق لها ذكر ولا مناسبة بينها وبين ما نحن فيه فتنبه أيها القارئ واعتبر ، فإذا كان هذا حال الجبال الصلبة في ذلك اليوم تكون هباء وتتطاير كالصوف حالة النّدف.
فكيف بك أيها الضعيف عند ما تقرع القارعة.
وتأمل ما ذكره اللّه أول سورة الحج في ج 3 وابك على نفسك ، وقل اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وبك المستغاث وأنت المستعان وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
ثم انه(1/235)
ج 1 ، ص : 236
جل شأنه قسم عباده إلى قسمين فقال «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ 6» بعمله الصالح وطاشت سيئاته لقلتها «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ 7» في جنة عالية يرضاها صاحبها برضاء اللّه «وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ 8» بعمله الطالح وطاشت.
وثقلت أعماله السيئة «فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ 9» في نار حامية يزج فيها ويقال للمأوى أم على التشبيه لأن الولد يفزع لأمه عند ما يخاف والأم تأوى له فإذا كبر لجأ إلى أبيه عند النوائب فإذا كبر لجأ إلى الحاكم فإذا فقه لجأ إلى السلطان ، وهكذا يتدرج بسبب انكشاف القوة التي هي أعلى حتى يتم عقله فيلجأ إلى اللّه حتى يتبين له أن كل أحد عاجز عما يريده إلا اللّه ، وهكذا الناس الآن فلو أنهم لجأوا إلى اللّه قبل كل شيء بعقيدة راسخة لما احتاجوا لمن هو دونه والهاوية اسم من أسماء النار لا يدرك قعرها يأوي إليها المجرمون أجارنا اللّه منها.
وقال بعض المفسرين المراد بأمه أمّ رأسه لأنهم يطرحون فيها على رؤوسهم ، والأول أولى وأن أهل النار يدفعون فيها دفعا وطرحا وزجا على وجوههم ورؤوسهم لا يؤبه بهم لحقارتهم ، والحكم أنه لا يقال أن الأعمال أمور معنوية لا يتأتى فيها الوزن لأنها تجسّم يوم القيامة ، ولا يستبعد هذا على من يسخر الجوارح بالشهادة على ذويها لأن في القيامة ما لا يخطر على قلب بشر ، ولا يتصوره العقل راجع تفسير الآية 23 من سورة الفجر المارة والآيتين 107 و109 في ج 2 تجد أن القيامة يقع فيها أشياء خارقة للعادة «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان «ما هِيَهْ 10» هي داهية دهماء تصفر منها الأعضاء وهي
«نارٌ حامِيَةٌ 11» جدا بلغت حرارتها النهاية وعذابها الغاية ، نعوذ بعظمة اللّه منها ومن أهلها.
روي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم ، وحق لميزان بوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا ، وانما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم ، وحق لميزان بوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه واتباعه أجمعين.(1/236)
ج 1 ، ص : 237
تفسير سورة القيامة
عدد 31 - 77
نزلت بمكة بعد القارعة ، وهي أربعون آية ، ومثلها في عدد الآي سورة النّبإ وهي تسع وتسعون كلمة ، وستمائة واثنان وخمسون حرفا ، ويوجد سورة البلد مبدوءة بما بدئت به هذه السورة ، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» اتفق أكثر المفسرين عن أن المعنى أقسم لأن العرب تدخل لا على أقسامها فتقول لا واللّه لا وأبيك ، والقرآن نزل بلغتهم ، قال امرؤ القيس الكندي :
لا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم اني أفر
ويقولون لا ورب الكعبة ، ويريدون وربها وفائدتها التأكيد ، ويجوز حذفها في غير القرآن ، وما قيل إنها زائدة لا أصل له ، فضلا عن ضعفه إذ لا زائد في كتاب اللّه لأن كل حرف فيه له معنى لا يتأتي الكلام بدونه كاملا ، وما استدل من قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية الأخيرة من سورة الحديد في ج 3 ، مردود لأن لها مغزى هناك ستقف عليه عند تفسيرها ، فضلا عن أنها وسط الكلمة لا في أولها كهذه وكونها ليست للقسم لتفيد المعنى المطلوب في هذه التي للقسم ، فهي هناك نافية ، وقد تأتي زائدة في أقوال العرب لضروره الوزن في نظم أشعارهم كقوله :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد ضمير القلب لا يتقطع
أما في القرآن فلا ، وانظر إلى ما قاله الفراء : إن لا هنا ردّ لانكار المشركين البعث المار ذكره في السورة قبلها لأنه مما يناسب تتابع السور ، إذ قد يكون غالبا مناسبة بين الأولى والثانية بعدها من كلمة أو جملة مما ينتبه له من له المام بمعاني كتاب اللّه فكأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون من جحود القيامة وعذابها ثم قال أقسم.
وقرأ ابن كثير لأقسم بلام التوكيد ولا يرد على هذا القول من قال ان لام التأكيد لا بدّ وأن يصحبها نون التوكيد لأنها تفارقه أحيانا وكلاهما وجيه ، وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى أقسم بيوم القيامة «وَلا أُقْسِمُ(1/237)
ج 1 ، ص : 238
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ 2»
إلا إعظاما وتفخيما لهما يكون الغرض إجلال القسم به وتبجيله والأول أولى ، وهذا كله تحاشيا عن القول بأنها زائدة إذ ما من حرف في القرآن إلا ويؤدي معنى خاصا ، واللوامة النفس التي تلوم صاحبها بعد إيقاعه الفعل المنهي عنه الذي حسنته له والتي تقول له دائما لم فعلت ولم لم تفعل وغيرك يفعل ؟
مطلب : على الإنسان أن يتفقد حاله :
قال المغيرة بن شعبة : يقولون القيامة ، وقيامة أحدهم موته ، وهذه القيامة ليست مرادة هنا واللّه أعلم ، وانما هي القيامة الكبرى ، لأن سياق الآية يدل عليها ويأبى صرفه لما في قول المغيرة ، والأحسن في تفسير اللوامة أن نقول هي التي تلوم صاحبها على مافات منه إن كان خيرا لم لم يزدد منه ، وإن كان شرا لم لم يقلع عنه ، يدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلم : ما منكم يوم القيامة إلا ندم ، إن كان محسنا ندم أن لا ازداد وان كان مسيئا ندم ان لا أقلع ، لأن المؤمن لا بد له أن يحاسب نفسه دائما على كل ما يقع منه ويزنه في ميزان الشرع ، حتى كلامه المباح وأكله الحلال هل أراد بهما وجه اللّه والتقوي على طاعته أم لا ، وينبغي أن يستحقر أعماله واجتهاده في طاعة اللّه لأنه كلما رأى نفسه مزدادة فهي مقصرة إذا عقل قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من سورة الذاريات في ج 2 والآية عامة ، وما قيل إن المراد بها نفس آدم عليه السلام ، لأنها لمّا تزل تلومه على ما وقع منه ، وفرط به لا دليل له عليه ، ولا يوجد ما يؤيده ، بل هي شاملة لكل نفس ، وجواب القسم محذوف تقديره لتكوننّ القيامة ولتبعثنّ فيها وتحاسبون على ما وقع منكم ، بدليل قوله عز قوله «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ» الذي ينكر البعث ، ولم يؤمن به جحدا وكفرا «أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ 3» بعد تفرقها وصيرورتها رفاتا ، واختلاطها بالتراب ونسفها بالرياح ، وبعد أن أكلتها الوحوش والطيور والحيتان ، يقول اللّه تعالى : تستعظم علينا أيها الإنسان هذا كلا لا تستكثره على من خلقك من العدم ، «بلى» أيها الكافر نفعل ذلك حالة كوننا «قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ 4» عظام رؤوس أصابعه ، وإنما(1/238)
ج 1 ، ص : 239
خصّ هذه العظام لأنها قوالب النفوس ، ولا يستوي الخلق إلا باستوائها ، وخص رؤوس الأصابع لأنها سلامات صغار كثيرة لطيفة ، ومهما كانت الدقة فإنه جل شأنه ، يعيدها لأماكنها ، ويؤلفها كما كانت ، فإعادة كبار العظام القوية الظاهرة من باب أولى ، لأن القادر على الإبداء إبداعا ، قادر على الإعادة اتباعا ، وهو قادر عليه ، وله المثل الأعلى.
فانظر هداك اللّه قبل رقي علم التشريح ، هل يوجد أحد يعلم أن أقوى شيء درّاك في الإنسان هو أنامله ، التي هي جواسيس الدماغ وانها أدق جوارح الإنسان وأهمها ، وإن البشر عاجز عن تركيبها كما كانت ، إذا اعتراها ما يوهنها ، وان الخطوط التي في رؤوسها لا يشبه بعضها بعضا أبدا ، ولهذا اختاروا التوقيع بها بدلا من الختم لأنه يقلد ، وهذه لا تقلد ، ولهذا ولأمر لا نعرفه ذكرنا اللّه بها ، واعلم أن للانسان ثلاثمائة وستين مفصلا ، كل واحد منها يسمى سلامى ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : كل سلامى من الناس عليه صدقة ، وفيه تعدل بين اثنين صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ، رواه البخاري ومسلم ، فكما أن اللّه تعالى تصدق بتلك السلامات على عباده فينبغي للعبد أن يتصدق بما استطاع على سبيل الشكر للّه تعالى ، على عدد مفاصله التي مكنه منها ، وتمكّن بسببها من القبض والبسط والمد ، واستخدمها بمنافعه ليدفع عنه حدوث البلاء ، لأن الصدقة تدفعه وتزيد في العمر ، وتمام الحديث : (كل يوم تطلع فيه الشمس) ، أي إن استطاع التصدق كل يوم فليفعل ، وفيه وتعين الرجل في دابته فتحمل عليها ، وترفع له عليها متاعه صدقة ، لأنك إذا لم تفعل ذلك تأخر أخوك المسلم لعدم قدرته بنفسه أن يفعل ذلك ، وفيه الكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة أي فمن لم يجد ما ينفق شاكرا على هذا فليفعل ما جاء في هذا الحديث فذلك بمعاملة الصدق بالمال وسبب نزول هذه الآية ان عديا بن ربيعة أو أبا جهل جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال له يا محمد حدثني عن القيامة وكيف أمرها وحالها فأخبره صلّى اللّه عليه وسلم فقال لو عاينت ذلك لم أصدقك ولم أو من بك فأنزل اللّه هذه الآية قال تعالى (بَلْ) إضراب وانتقال من معنى لآخر (يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ 5) بأن(1/239)
ج 1 ، ص : 240
يقدم قبائحه وإذا كان كذلك فدعه ولا تعنفه ، وأنى يسمع منك فيرتدع وينزجر وهو يريد الإدمان على الفجور حالا ومستقبلا ولا يريد أن يتوب أو ينزع هما هو عليه ومعنى الفجور في
الأصل الميل وسمي الكافر فاجرا لميله عن الحق وكذا الفاسق «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ 6» إلى متى يكون استبعادا له فقل له يا حبيبي يكون ذلك لا محالة «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ 7» شخص عند الموت لما يشاهد من أهواله وعجائبه قال ذو الرمة : ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق وقرىء برق بكسر الراء أي دهش من شدة الفزع «وَخَسَفَ الْقَمَرُ 8» ذهب ضوءه بحيلولة الأرض ما بينه وبين الشمس وكذلك كسوف الشمس يكون بحيلولة الأرض بينهما وبين ما تشرق عليه منها.
هذا في الدنيا أما بالآخرة وهو المراد هنا فيذهب ضوءه وضوءها ويسقطان يدل عليه قوله «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ 9» بطلوعهما معا من جهة المغرب وذهاب نورهما ثم يسقطان كسائر الكواكب راجع أول سورة التكوير المارة وللبحث صلة في سورتي الانفطار والانشقاق في ج 2 ، وهذا لا يكون بالحيلولة كما يقوله الفلكيون ولا شيء آخر مما يقوله علماء الهيئة حيث تضمحل هناك المعارف والعوارف أما ما قاله الملاحون ان خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر فهو انكار لقدرة اللّه القادر أن يجعله منخسفا سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس أو لم تكن لأن الأجسام متماثلة فيصح على كل منها ما يصح على الآخر ، واللّه قادر على كل الممكنات والمستحيلات ، ومن جملة قدرته إزالة ضوء القمر في كل حال ، ولهذا لما كسفت الشمس يوم موت إبراهيم ، وقال الناس إنها كسفت لأجله لأنهم يزعمون أنها تنكسف لموت عظيم ، أو لأمر عظيم وحادث خطير ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : إنهما - أي الشمس والقمر - لا ينكسفان لموت أحد أو حياته ، وإنهما آيتان يخوّف اللّه بهما عباده ، الحديث.
قال تعالى واصفا ذلك الوقت العصيب الذي يحار فيه اللبيب ، ويذهل عنه البعيد والقريب «يَقُولُ الْإِنْسانُ» المكذب لذلك «يَوْمَئِذٍ» يوم وقوع هذه الأشياء «أَيْنَ الْمَفَرُّ» والمهرب والمخلص من هذا فيقال
«كَلَّا» انزجر وارتدع «لا وَزَرَ 11» لا ملجأ(1/240)
ج 1 ، ص : 241
يلجأ إليه ولا واق يقي منه راجع الآية (20) من سورة ابراهيم في ج 2 تجد ما يتعلق بهذا ، واعلم أن الوزر هو الجبل المنيع ، وكل ما يتحصّن به ويلجأ إليه.
قال كعب بن مالك :
الناس آلت علينا ليس فيك لنا إلا السيوف وأطراف القنا وزر
وقال الآخر :
لعمرك ما يلقى من وزر من الموت يدركه والكبر
وكانوا إذا فزعوا من شيء يلجأون إلى الجبال ولذلك قال ابن نوح عليه السلام :
(سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) الآية 43 من سورة هود ، في ج 2 ، فتقدم اللّه تعالى لهؤلاء بما يقطع أملهم بأن لا شيء هناك يعصبهم من عذاب اللّه إلا هو ، ولهذا قال «إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ 12»
، أي يكون قرار خلقه يوم فرارهم إليه ، وخلاصهم منوط به وحده ، لا يشاركه أحد ، وهو إما إلى الجنة أو النار لا توسط بينهما ، أما أهل الأعراف فسيأتي بيانهم في الآية 46 من سورتهم الآتية ، قال تعالى حينذاك «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ»
يوم الحساب والجزاء «بِما قَدَّمَ»
من أعماله الحسنة والسيئة «وَأَخَّرَ 13»
من آثاره كسنة حسنة سنّها أو وصية خير أوصى بها أو وقف ، أوقفه في دنياه ، فيفهم هل أراد به وجه اللّه تعالى ، فإن كان فيوضع في جملة أعماله الصالحة ، وإلا فإن كانت النيّة سيئة والوصية لحب المال ، أو كراهية بالورثة أو رياء ، فيكون في جملة أعماله الطالحة ، ومما يعد مؤخر الولد ان كان صالحا انتفع به وإلا لا ، ومما يدل على حسن النية وسوئها قوله عز قوله «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ»
وكافة جوارحه «بَصِيرَةٌ 14»
شاهد لا يحتاج إلى الإشهاد عليه ، فهو يعلم مغزى ما يفعل وما يقدم وما يؤخر ، والهاء في بصيرة للمبالغة كعلامة وشهامة فالسمع يشهد بما سمع ، والبصر بما ابصر ، واليد بما بطشت ، والرجل بما مشت ، والأنف بما شم ، والفم بما ذاق وتكلم ، وهكذا فلا يظن انه ينجو إذا كان عمله لغير اللّه «وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ 15»
كلها بأنواعها وأجناسها فلا ينفعه ذلك لأن شاهده من نفسه قال تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» الآية 24 من ت (16)(1/241)
ج 1 ، ص : 242
سورة النور في ج 3 ومثلها في فصلت الآية 22 في ج 2 وقال تعالى «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» الآية 14 من الإسراء الآتية وانشد الفراء بما يلائم هذا :
كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمجلسه أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم من الخوف لا يخفى عليه سرائره
وفسر بعضهم المعاذير بالستور وعليه يكون المعنى ولو أرخى ستوره عند ارتكاب المعاصي لئلا يراه أحد فاللّه يراه وتشهد عليه جوارحه وجاء العذار بمعنى الستر ، ومنه سمى الشعر الثابت ما بين الأذن والوجه عذار ، ومنه عذار الفرس فانه يستر جزءا من وجهها والأول أولى وأنسب بالمقام ، ثم التفت جل شأنه يخاطب رسوله بما يراه يعالجه حين تلقى الوحي فقال «لا تُحَرِّكْ بِهِ»
أي القرآن حينما تتلقاه من جبريل «لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16»
وتسيء تلاوته على اثر فراغك من سماعه لتوقره في صدرك خشية نسيأنه كلا لا تخف هذا «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ»
وإثباته في لبّك الآن وفي المصاحف بعد ، حتى لا يفلت منه حرف «وَقُرْآنَهُ 17»
وعلينا وبكفالتنا قراءته بلسانك على قومك وان يقرأه من بعدك إلى قرب أن نرث الأرض ومن عليها «فَإِذا قَرَأْناهُ»
عليك يا حبيبي بواسطة أميننا جبريل «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18»
قراءته واستمع لها وأنصت فهذا الذي عليك «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ 19» لك وان كان صلّى اللّه عليه وسلم في بدء الوحي يحفظ ما ينزل عليه ، الخمس آيات والأقل والأكثر ولما حمي الوحي احتاج إلى شدة اجتهاد به حرصا على ان لا ينسى منه شيئا ، وكان لشدة حرصه على وحي ربه حال سماعه يتلوه اثر سماعه وإذا أشكل عليه شيء سأل جبريل عنه فقال له ربه لا تتعب نفسك بشيء تكفلنا لك بحفظه وبيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام ، هذا (وقرآنه) في الآيتين بمعنى القراءة وهي لغة معروفة عند العرب قال
ضحوا بأشمط غوان السجود له يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال كان صلّى اللّه عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان مما يحرك شفتيه.
قال ابن جبير قال ابن عباس أنا أحركهما كما كان صلّى اللّه عليه وسلم يحرك شفتيه فحرك شفتيه فأنزل اللّه هذه الآية ، وكان بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق قرأه(1/242)
ج 1 ، ص : 243
كما قرأه.
وفي رواية كما وعده اللّه ، ورواه البغوي من طريق البخاري بزيادة يحرك لسانه وشفتيه بشدة وكان يعرف منه.
وفيه فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده.
لذلك فإن هذه الآية كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كما ترى «كَلَّا» حقا انكم لا تميلون إلى الآجلة «بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ 20» الفانية فتنهكون فيها
«وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ 21» الباقية فلا تلتفتون إليها وكان الأحرى بكم العكس «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» يوم تكون الآخرة التي اخترتم الدنيا عليها «ناضِرَةٌ 22» حسنة ناعمة جميلة مضيئة مسرورة بما رأت «إِلى رَبِّها» في جنته العالية «ناظِرَةٌ 23» مبصرة مشاهدة عيانا بلا حجاب ولا كيفية ولا كمية ولا ثبوت جهة أو مسافة.
قال في بدء الأمالي :
يراه المؤمنون بغير كيف وادراك وضرب من مثال
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
ومن قال ان ناظرة بمعنى منتظرة ، فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته بل تقول نظرت فلانا أي انتظرته قال الحطيئة :
وقد نظرتكم أعشاء صادرة للورد طال بها حوري وتنساسي
وعليه إذا قلت نظرت إليه فلا يكون إلا بالعين ، أما إذا قلت نظر بالأمر احتمل معنى تفكر وتدبر بعقله ولأن الوجه إذا وصف بالنظر لا يحتمل غير الرؤية ولا يعدى بإلى إلا إذا كان بمعنى الرؤية.
مطلب رؤية اللّه في الآخرة :
وقد أجمعت أهل السنة والجماعة على جواز رؤية المؤمنين ربهم بالآخرة دون الكافرين ، قال تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) الآية 15 من المطففين في ج 2 فيفهم منها صراحة ان المؤمنين غير محجوبين عن رؤيته ، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة واجماع الأئمة الأصحاب فمن بعدهم من السلف الصالح والخلف الناجح على إثبات رؤية اللّه تعالى وقد روى ذلك أكثر من عشرين صحابيا وان الرؤية(1/243)
ج 1 ، ص : 244
قوة يجعلنها اللّه فيمن يوفق لها ، ولا يشترط فيها اتصال ولا مقابلة ولا سعة ولا غير ذلك ومن أنكرها فجزاؤه حرمانها.
روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد اللّه البجلي ، قال كنا عند رسول اللّه فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال انكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون (بفتح التاء أي لا ينال أحدكم ضيم إذ ترونه جميعكم وبضمها مع تشديد الميم أي لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا تزدحمون وقت النظر إليه) في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) الآية 39 من سورة ق الآتية.
وروى مسلم عن صهيب ان رسول اللّه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم والأحاديث في هذا الباب كثيرة عن ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي رزين العقيلي وقد خرجها أبو داود والترمذي وغيرهما ، واعلم بان الأحاديث التي يتشهد بها على معاني الآيات في هذا التفسير لا نعتي بها أن حضرة الرسول قالها عند نزول الآيات وخاصة المكيات لا وإنما كان صلّى اللّه عليه وسلم يقولها عند حدوث سؤال أو وقوع حادثة أو حالة وعظ وخطبة ، تدبر.
هذا واعلم أن من لم يقنع بهذا فلو أتيته بما في الدنيا لا يصدقه على حد قوله تعالى (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) الآية 144 من البقرة في ج 3 وهؤلاء كذلك من هذه الحيثية ولعلهم إن أصروا يدخلون في قوله جل قوله «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ 24» كالحة عابسة مكفهرة مقطبة أجارنا اللّه (تَظُنُّ) أيها الإنسان وتيقن وتحقق «أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ 25» شيء عظيم يقصم فقار الظهر وذلك حين ترى ما ناله السعداء من نعيم الآخرة ورحمة ربها حينما تمر بين أهل الجنة وأهل النار (كلا) زجر وردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتنبيه إلى حالة الموت المبينة بقوله (إِذا بَلَغَتِ) الروح الدال عليها سياق الكلام ويجوز في مثله أن يعود الضمير إلى غير مذكور قال تعالى (حَتَّى(1/244)
ج 1 ، ص : 245
تَوارَتْ بِالْحِجابِ)
الآية 32 من سورة ص الآتية أي الشمس لم تذكر ولكن سياق الكلام أو سياق المعنى دل عليها وجاء مثله في قول حاتم :
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
راجع تفسير سورة إنا أنزلناه المارة واعلم انه إذا وصلت الروح «التَّراقِيَ 26» العظام المكتنفة لثغرة النحر من اليمين والشمال جمع ترقوة قال دريد بن الصمة في هذا :
ورب عظيمة دافعت عنها وقد بلغت نفوسهم التراقى
(وَقِيلَ)
أي قال من حضر المحتضر «مَنْ راقٍ 27»
أي هل من يرقيه هل من يداويه هل من ينجيه ويخلصه مما هو فيه فيشفيه مما حل فيه كلا لا شيء من ذلك يحول دون موته (وَظَنَّ) ذلك المحتضر فتيقن وتحقق (أنّه) الحال الذي نزل به هو «الْفِراقُ 28» من الدنيا وما فيها من مال وأهل وولد وزوجة وحبيب وان لا نجاة من قضاء اللّه وقدره ولم تغن عنه الرقيا ولا الأطباء شيئا وانه الموت نفسه قد حضر «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ 29» التوت الساقان على بعضها عند هلع الموت وقلقه فمات ثم لفّ في أكفانه وحمل يتوارى في برزخه الأخير ورمسه المقدر له وإذ ذاك يقال (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) يوم الفراق يوم موته «الْمَساقُ 30» إلى غيره وهو يأمر بسوقها إلى الجنة أو إلى النار وفي اضافة السوق اليه تعالى بشارة لمن حسن ظنه باللّه ومات على ذلك.
قالوا غدا نأت ديار الحمى وينزل الركب بمغناهم
فقلت لي ذنب فما حيلتي بأي وجه أتلقّاهم
قالوا أليس العفو من شأنهم لا سيما عمّن ترجّاهم
وقال أبو بكر الصديق في مرضه :
غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه
وجواب إذا محذوف تقديره وجد الإنسان نتيجة عمله ان خيرا فخير وان شرا فشر ، وحذف الجواب في مثل هذا كثير في كلام العرب وهو من محسنات البيان ومقتضيات البديع وهو في المعنى كأنه موجود ولا يخفى على من له المام باللغة
قال تعالى (فَلا(1/245)
ج 1 ، ص : 246
صَدَّقَ)
ذلك الإنسان المذكور في صدر السورة.
رسول اللّه الذي وعظه وبشّره وأنذره «وَلا صَلَّى 31» لربه وسبحه وعزره (وَلكِنْ كَذَّبَ باللّه وبما أنزل على رسوله «وَتَوَلَّى 32» عنه ولم يؤمن به «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى 33» يختال ويتبختر في مشيته لانّها مأخوذة من المط أي يتمطط لأن المتبختر يمد خطاه فقلبت الطاء ياء كراهية اجتماع الأمثال (أَوْلى لَكَ أيها الفاسق الفاجر «فَأَوْلى 34» لك «ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى 35» هذا جملة موضوعة للتهديد والوعيد وفي تكرارها ما يدل على شدة ما يراد به وقيل معناه أنك أجدر وأحق بالعذاب القاسي وأولى به من غيرك وهو وجيه ، منطبق على المعنى المراد ، وقيل في معناها : ويل لك ثم ويل لك دعاء عليه بالهلاك ، وعلى كل فهو تهديد ووعيد اليه مكرر من اللّه المرة بعد المرة ، أي أن ذلك الإنسان السيء أجدر بهذا العذاب وأحق به من غيره.
قال قتادة : ذكر لنا رسول اللّه لما نزلت هذه الآية (في حق عدي بن ربيعة حليف بني زهرة ختن الأخنس بن شريق الثقفي الذي كان يقول فيهما حضرة الرسول : (اللهم اكفني جاري السوء بعينهما) أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء ، وقال له (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) فقال أبو جهل - عليه اللعنة - أتوعدني يا محمد ؟ واللّه ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني لأعزّ من مشى بين جبليها ، فلما كان يوم بدر صرعه اللّه ، فأذله وقتله شر قتلة.
وكان صلّى اللّه عليه وسلم يقول : لكل أمة فرعون ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل ، وأنزل اللّه في حقه «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» الآية 39 من سورة الدخان ج 2 أي يقال له هذا عند إدخاله جهنم بمقابلة قوله ذلك قال تعالى «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ» أل فيه للجنس فيشمل كافة أفراده إذ لم يرد به إنسان مخصوص بل مطلق إنسان «أَنْ يُتْرَكَ سُدىً 36» هملا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف ولا يحاسب ولا يعذّب ، (وكلمة سدّى) لم تكرر في القرآن كلا لا يترك بل لا بد له من ذلك ، ثم طفق جل شأنه يذكرهم مبدأ الخلقة ، ومن أين هي ، وما هي ؟
وعوده إلى جيفة قذرة ، يتذكر الإنسان بها حالة طيشه فقال عز قوله «أَ لَمْ يَكُ(1/246)
ج 1 ، ص : 247
نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى 37»
يزرق في الرحم «ثُمَّ كانَ عَلَقَةً» قطعة دم جامد بعد ذلك «فَخَلَقَ» جعل اللّه تلك العلقة جنينا «فَسَوَّى 38» خلقه وجعله بشرا سويا معتدلا كاملا «فَجَعَلَ مِنْهُ» في أصل البشر وهو آدم عليه السلام أو من المني المذكور «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى 39» الصنفين الزوجين : الإنسان والحيوان والطيور والحيتان ، وغيرها مما هو مخلوق بحسب التوالد ، راجع تفسير الآية 3 من سورة والليل المارة وللبحث صلة في الآية 45 من سور النور في ج 3 ، وإنما ذكر جل شأنه خلقه بخلقهم بسائق ذكر منكري البعث ، والمختالين في مشيهم المتكبرين على حضرة الرسول يشير إليهم فيها أن من كان هذا حاله أولا وبيدنا تكوينه ، كيف ينكر علينا قدرتنا عليه ، وإعادته بعد الموت ويتعاظم ويتجبر على نبينا «أَ لَيْسَ ذلِكَ) الذي فعل هذا كله هو الإله العظيم الآلاء ، البديع الإنشاء «بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى 40» بعد إماتتهم كما بدأهم أول مرة ، بلى واللّه قادر ، أخرج أبو داود عن موسى ابن أبي عائشة قال : كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ (أَ لَيْسَ ذلِكَ) قال سبحانك بلى فسألوه عن ذلك فقال :
سمعته عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين.
تفسير سورة
الهمزة عد 32 - 104
نزلت بمكة بعد القيامة ، وهي تسع آيات وثلاثون كلمة ، ومائة وثلاثون حرفا ، ويوجد سورة المطففين مبدوءة بما بدئت به فقط ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «وَيْلٌ» هلاك وقبح وحسرة وندامة وذم وسخط ، وأصله (وي لفلان) فكثر استعمالها فوصلت والويل جبل أو واد في جهنم «لِكُلِّ» ذي «هُمَزَةٍ» هي كالهزم الكسر بالعين أو بإحدى الجوارح «لُمَزَةٍ 1» هي كالهمز الطعن في عرض الناس وكل ما من شأنه أن يعيبهم بمواجهتهم أو بغيابهم وقيل الهمز يكون باللسان والرأس واللمز بالعين(1/247)
ج 1 ، ص : 248
والحاجب وعلى كل فكل إشارة أو لفظ ما من شأنه إفادة القدح في الناس أو ذمهم داخل في هذا.
قال الشاعر :
إذ لقيتك عن سخط تكاشرني وان تغيبت كنت الهامز اللمزا
ومنه : تشير فأدري ما تقول بطرفها وأطرق طرفي عند ذاك فتفهم
حواجبنا تقضي الحوائج بيننا فنحن سكوت والهوى يتكلم
وقدمنا في تفسير الآية 11 من سورة القلم ما يتعلق بهذا وله صلة في الآية 11 من سورة الحجرات في ج 3.
قال أبو الجوزاء لابن عباس من هؤلاء الذين ذمهم اللّه بالويل قال المشاءون بالنميمة ، المفرقون بين الاحبة ، الناعتون الناس بالمعيب وتتناول كل من يعيب الناس بما يفعلونه جهرا أو بظهر الغيب أو ما يبطنونه ولذلك قال تعالى :
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ 2» مرّة بعد أخرى حبا له وشعفا به ولذلك يستصغر الناس ويهزأ بهم فيهمز هذا ويلمز ذاك ، وينم على ذلك ويعيب الآخر «أ يَحْسَبُ» هذا للعجب بنفسه «أَنَّ مالَهُ» المتكبر به جعله يسخر بالناس أو أنه «أَخْلَدَهُ 3» في هذه الدنيا أيضا ويحسب انه لا يموت ولا يبعث ولا يحاسب ولا يقاص «كَلَّا» لا يظن ذلك إذ لا حقيقة لهذا الحسبان فلا شيء يخلد في الدنيا ، ولا يبقى شيء بلا جزاء ، على أن الذي يخلد الذكرى يتوقع منه الخير ، هو العمل الصالح ، قال علي كرم اللّه وجهه : مات خزّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر.
ثم أقسم جل شأنه فقال : «لَيُنْبَذَنَّ» ليقذفن هذا الخبيث واضرابه «فِي الْحُطَمَةِ 4» الدركة الثانية في النار ، وسميت حطمة لأنها تحطم العظام لأول وهلة «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان «مَا الْحُطَمَةُ 5» شيء عظيم هي لا ينالها عقلك ، وفيها تهويل وتفظيع لأمرها ، لأنها هي «نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ 6» التي لا تخمد أبدا ، فويل لك أيها العياب الطّعان المتعظم على الناس بالمال منها ، فإنها لشدة إحراقها «تَطَّلِعُ» حال القائك فيها وأمثالك «عَلَى الْأَفْئِدَةِ 7» فيصل ألمها للقلوب لأنها موطن الكفر والنيات السيئة والعقيدة الفاسدة ، أي أن هذه النار تدخل من أفواه المعذبين فتصل إلى صدورهم ، فتصلي أفئدتهم من غير أن تحرقها(1/248)
ج 1 ، ص : 249
لأنها لو حرقت لماتوا.
والنار كالجنة لا موت فيها كما مر في الاية (13) من سورة الأعلى ، وإنما خصّ الأفئدة حيث لا ألطف منها في الوجود ، وألمها أشد من غيرها لأنها حساسة ، فتتألم بأدنى أذى يصيبها حتى الخطرة ، فكيف إذا أحاطت بها النار والعياذ باللّه.
قال صلّى اللّه عليه وسلم : إن النار تأكل أهلها حتى إذا طلعت على أفئدتهم انتهت ، ثم ان اللّه تعالى يعيد لحمهم وعظامهم مرة أخرى.
وهكذا دواليك ، راجع تفسير الآية 55 من سورة النساء في ج 3 «إِنَّها» أي الحطمة تكون «عَلَيْهِمْ» أي جماعة الكفر كلهم ، وذلك لأن النكرة إذا اختصت عمّت «مُؤْصَدَةٌ 8» مغلقة مطبقة قال :
تحنّ إلى جبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده
وقال الآخر :
قوما يعالج حملها أبناؤهم وسلاسلا ملسا وبابا مؤصدا
وذلك الإيصاد في «عَمَدٍ» غلاظ عظام من وراء أبوابها «مُمَدَّدَةٍ 9» توصد عليها بها ، فلا يمكن أن يفتح بابها ، ولا يدخل عليها روح.
وقرىء عمد بضمتين وبفتح العين مع كسر الميم مثل أرم وأرم وأريم ، وعقم وعقم وعقيم ، وهو كل مستطيل من حجر أو خشب أو حديد ، وهو جمع عمود على غير واحد ، أما ما يجمع على واحد فهو ما ينظم مثل رسل جمع رسول ، وزبر جمع زبور ، سبل جمع سبيل.
وجاء بهذا اللفظ لأن العرب اعتادوا أن يضعوا أحجارا أو أعمدة مستطيلة وراء الباب لئلا تفتح بالدفع جريا على عاداتهم فيدخلون أطرافها بشعوب يجعلونها في ساريتي الباب من الداخل ، وإن الأبواب القديمة التي رأيناها في حلب والشام ودرعا وتدمر وبصرى كانت توصد على هذه الطريقة.
وفي جهتي الباب من الداخل ثقوب لإدخال العمد فيها ، ومنها ما هو موجود حتى الآن ، ولكن لا قياس بين الأحجار والعمد التي يجعلها الناس ، وبين العمد التي يجعلها ربهم.
مطلب الكهرباء من الخوارق :
ويؤخذ من هذا لا من حيث التأويل ، بل من حيث نفوذ النور ما أحدث(1/249)
ج 1 ، ص : 250
في هذا الزمان الكهرباء وما يسمونه (أشعة رونتجن) إذ أن نورها يطلع على الافئدة وغيرها ، ويبين ما فيها ويصورها فيظهر للرائي سلامة الأفكار والأعضاء ومعايبها.
وما ندري ما يظهر لنا الزمن من أسرار هذا القرآن الذي قال عنه منزله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 من الأنعام في ج 2.
وأشار حيث أشارته في الآية 24 من سورة يونس في ج 2 أيضا ، بأن أهل الدنيا يقدرون بتقدير اللّه على كل ما يتعلق بأمرها ، وإن أعمالهم التي ظهرت الآن من طائرات سريعة الطيران وقاذفات تمحق المدن فضلا عن المذياع وشبهه والأوائل التي ينوب عمل يوم منها عن عمل شهر وأشهر تشير إلى قرب الساعة واللّه أعلم.
نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق لكونه اعتاد الغيبة والنميمة والوقيعة في أعراض الناس ، إلا أن الوعيد فيها عام يتناول كل من يباشر ذلك الفعل القبيح لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الغيبة والنميمة والهمز واللمز سنأتي عليها عند كل بحث يتعلق بها.
حفظنا اللّه منها ، هذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى ، اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين.
تفسير سورة المرسلات
عدد 33 - 77
نزلت بمكة بعد الهمزة ، وهي خمسون آية عدا الآية 48 فإنها نزلت بالمدينة ، ومائة وثمانون كلمة ، وثمانمائة وستة عشر حرفا ، لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ، وختمت بما ختمت به سورة يوسف فقط ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى مقسما : «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً 1» الرياح المرسلة المتتابعة الكثيرة تهب بعضها اثر بعض ، ومنه طار القطن عرفا أي بعضه خلف بعض ، وجاء القوم عرفا أي جماعات بعضهم وراء بعض «فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً 2» الرياح الشديدة الهبوب تعصف ، أي تكسر الأشجار كسرا أو تدحرج الأحجار دحرجة «وَالنَّاشِراتِ نَشْراً 3» الرياح المنبثة التي تنشر السحاب في السماء(1/250)
ج 1 ، ص : 251
«فَالْفارِقاتِ فَرْقاً 4» الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل فيشكرون من يقوم بالأول ويمقتون الثاني ، وسمي القرآن فرقانا لأنه يفرق بين الكذب والصدق وقيل هي فارقة السحب الحائلة بين تتابع الهواء كما قيل ان المراد بالناشرات الرياح التي تنشر لأخبار كالمذياع ، وعليه ليكون من معجزات القرآن لفقدانه أبان نزوله «فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً 5» الريح الشديدة المخوفة الملقية في النفوس اللجوء إلى اللّه تعالى ، أو الملائكة الذين يلقون الوحي إلى الأنبياء بما يوحي لهم اللّه «عُذْراً» للمتقين المتمسكين به «أَوْ نُذْراً 6» للمبطلين الذين يعرضون عنه أو عذرا من اللّه إلى خلقه على حد قوله تعالى : (وقالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) الآية 164 من الأعراف الآتية ، أي لئلا يقولوا ما جاءنا من نذير.
هذا ، وقد جمع اللّه بين الرياح والملائكة في هذا القسم لمشابهتهم الرياح في اللطافة وسرعة الحركة ، وجواب القسم «إِنَّما تُوعَدُونَ» به أيها الناس على لسان رسلكم «لَواقِعٌ 7» لا محالة وانه سينزل بكم عند حدوث الآيات التي جعلت علامة على قربه المبينة في قوله تعالى (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ 8» ومحي نورها «وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ 9» فتحت بالأبواب قال تعالى : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) الآية 19 من سورة النبأ في ج 2 ولا مانع عقلي من ذلك سواء كانت جسما لطيفا أو صلبا ، وأدلة استحالة الخرق والالتئام مخروقة هنا لا تشرى ولا تسام ، لأنها لا تحول حول خوارق الملك العلام ، هذا وسيأتي بحث الخرق والالتئام في تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء والأولى من سورة القمر الآتيتين فراجعهما «وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ 10» قلعت وفتتت وصارت هباء منثورا راجع تفسير الآية 5 من سورة القارعة المارة والآية 88 من سورة النمل الآتية
«وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ 11» حضّرت للميقات الذي وقته اللّه لهم للشهادة على أممهم وجمعت لذلك اليوم المشهود وإذا قلتم أيها الكفرة «لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ 12» وأخرت المواعيد التي توعدنا بها من إنزال العذاب فقل لهم يا سيد الرسل «لِيَوْمِ الْفَصْلِ 13» بين الخلائق ، ثم أتبع هذا التعجب الذي هو من خصائص ذلك(1/251)
ج 1 ، ص : 252
اليوم المهول بما يدل على تعظيمه وتفخيمه والتخوف من هوله بقوله عز قوله «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان أي شيء أعلمك «ما يَوْمُ الْفَصْلِ 14» هو يوم ناهيك به من شدة وبلاء وأسف وعناء انه «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 15» به من هلاك وخسار وخطر ودمار فقل يا حبيبي للمكذبين بك وبربك المنكرين يوم المعاد والبعث والحساب والجزاء «أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ 16» من الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم لما كذبوا رسلهم وفعلنا بهم ما فعلنا «ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ 17» الذين سلكوا سبيلهم بالكفر والتكذيب كقوم لوط وفرعون وقوم شعيب ومن بعدهم فإنا دمرناهم كما أهلكنا من قبلهم «كَذلِكَ» مثل ما فعلنا بأولئك من العذاب الفظيع «نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ 18» من قومك لأن سنتنا ماضية على ذلك «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 19» بالبعث من العذاب الذي نوقعه بهم فيه وفي هذه الآيات تهديد لأهل مكة وتخويف لمن لم يؤمن منهم برسوله ولمن بعدهم إلى يوم القيامة ولا تكرار هنا لأن الجملة الأولى لعذاب الآخرة وهذه لعذاب الدنيا فتفكروا أيها الناس واعتبروا «أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ 20» قذر قليل
«فَجَعَلْناهُ» أي ذلك الماء في قرار» هو الرحم «مَكِينٍ 21» ومكنون ثابت لا يطلع عليه أحد ولا يعرف ما فيه غيرنا وأبقيناه «إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ 22» هو وقت الولادة المقدر لخروج الجنين المكون من تلك النطفة «فَقَدَرْنا» نحن الإله العظيم أجله عند كماله «فَنِعْمَ الْقادِرُونَ 23» نحن لتمام خلقه فلم نبقه بعد ذلك ولم نخرجه قبله طرفة عين ، ومع هذا تكذبون أيها الناس «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 24» بالفطرة التي فطرنا الناس عليها والقدرة التي قدرناها ولا تكرار أيضا لاختلاف المتعلق «أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً 25» وعاء تضمكم «أَحْياءً وَأَمْواتاً 26» على ظهرها وفي بطنها وقد خلقناكم منها ، قال الصمصام بن الطرماح :
فأنت اليوم فوق الأرض حيّ وأنت غدا تضمك في كفات
«وَجَعَلْنا فِيها» الأرض «رَواسِيَ» جبالا ثوابت تثقلها «شامِخاتٍ» عاليات عظيمات لئلا تميد بكم رحمة بكم أيها الناس «وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً 27»(1/252)
ج 1 ، ص : 253
عذبا حلوا وكل حلو فرات وأما نهر الفرات فقد اختص بهذا الاسم لشدة عذوبته بالنسبة لغيره من الأنهر ، وقد ثبت بالتحليل أنه أحسن ماء إذا صفي تصفية صحيحة ويليه نهر العاصي وأما ماء الفيجة بدمشق فليس بشيء بالنسبة لها وأخسّ المياه ماء حلب وهذا في محيط سورية إذ قد يوجد ما هو أخس ولا تحديد لخلق اللّه «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 28» بقدرتنا على الاعادة وانكار نعمتنا المتتابعة وجحود أنبيائنا المرسلين لإرشاد خلقنا وإذ كان متعلق هذه الجملة غير الأول أيضا فلا تكرار ، والاستفهام في هذه الجمل كلها للتقدير أي أتنكرون شيئا من ذلك ، وإذا كنتم تقرونه فلما ذا لا تؤمنون ولا تحذرون أن يقال لكم حين تدنو الشمس من الرؤوس ويلجم الناس العرق لعدم وجود ما يستظلون به «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 29» من البعث والجزاء والنار التي لم تصدقوا بوجودها حينما خوفكم أنبياؤكم عذابها «انْطَلِقُوا» أيها الفسقة «إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ 30» وهو ناشىء من دخان جهنم إذا علا وارتفع وتشعب كالمثلث الطائش
وقد فسره بقوله «لا ظَلِيلٍ» يظل من الحر لأنه لا ظل له «وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ 31» أي لا يرد عنهم لهب جهنم الذي أو شك أن يلتهمهم في الموقف بل يزيدهم حرا على ما هم فيه من الحر ، وهكذا كل مثلث هندسي يوشك أن لا يكون له ظل وارف بخلاف بقية الأشكال المربعة والمسدسة والمثمنة والمدورة وغيرها كالمستطيلة والبيضوية والمخمسة فانظر هداك اللّه انه جلّ شأنه لم يغفلى كتابه حتى من الأمور الهندسية فاحفظوا أنفسكم أيها الناس واحذروا هذه النار «إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ» هو ما يتطاير منها لكنه ليس كشرر نارنا بل إن كل شرارة منها «كَالْقَصْرِ 32» البناء العظيم الشامخ «كَأَنَّهُ» ذلك الشرر المتطاير منها «جِمالَتٌ» جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع «صُفْرٌ 33» من حيث اللون قال :
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
وكانت العرب تسمي الأصفر أسود وقرىء بضم الميم جمع جمال وهو الحبل العظيم من حبال السفن وقلوس الجسور مفرده قلس وهو حبل من ليف أو خوص النخل(1/253)
ج 1 ، ص : 254
وتربط بها السفن وتسحب فيها في البحر والنهر والتشبيه في امتداده والتفافه وقرىء بكسر الجيم جمل أيضا مثل حجر وحجارة «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 34» الذين تغافلوا عن ذلك اليوم وهنا لا تكرر أيضا للعلة السابقة.
مطلب مواقف يوم القيامة :
ثم يقال لهم عند ما يريدون إبداء أعذارهم «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ 35» بحجة أو برهان يدافعون بهما عن أنفسهم وهذا موقف من مواقف يوم القيامة إذ يختم على أفواههم.
وفيها موقف آخر يتكلمون فيه وفيها موقف يتخاصمون فيه فيما بينهم وفيها موقف يتخاصمون فيه مع الملائكة وفيها موقف يخاطبون به ربهم وفيها موقف يتعاتبون فيه بينهم وفيها وفيها وكل ذلك لا ينفعهم حيث تتكلم جوارحهم بما فعلوا فلا يخلصهم من عذاب اللّه شيء وسيأتي بيان هذه المواقف في الآية 167 من سورة البقرة في ج 3 والآية 12 من سورة السجدة والآية 11 من سورة ابراهيم في ج 2 والآية 60 من سورة ص الآتية وغيرها ، ولهذا يقول اللّه «وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ 36» حيث تقدم اللّه لهم بالاعتذار على لسان رسله في الدنيا وأنذرهم سوء العاقبة إذا أصروا على كفرهم فلم يقبل منهم عذر يعتذرون به في الآخرة فتكم أفواههم «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 37» بذلك اليوم الذي لا قدرة لهم على دفع العذاب فيه ولا يقبل منهم عذر إذ تقول لهم ملائكة العذاب «هذا» اليوم الذي أنتم فيه «يَوْمُ الْفَصْلِ» بين المحق والمبطل لا يوم الاعتذار الذي سبق أو انه لأن من أنذر فقد أعذر لذلك «جَمَعْناكُمْ» فيه بأمر ربنا أنتم يا مكذبين محمد «وَالْأَوَّلِينَ 38» الذين كذبوا الرسل قبلكم «فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ» من حيلة أو مكر في رفع ما نزل بكم من العذاب «فَكِيدُونِ 39» أيها الكفرة بما تقدرون عليه من أصناف الخداع ولستم بقادرين على شيء وهؤلاء الذين كنتم تعبدونهم وتقلدونهم في الدنيا موجودون معكم استصرخوهم إن كانوا ينقذونكم فإنهم أعجز منكم اليوم وأذل وسترونهم معكم في جهنم يعذبون بأشد مما تتعذبون لأن لهم ضعفين من العذاب لإضلالكم وإضلال أنفسهم وأنهم سيتبرءون عن عبادتكم(1/254)
ج 1 ، ص : 255
لهم وينكرونكم أيضا ، وهذا نهاية في التوبيخ وغاية في التقريع لأن ذلك اليوم تنقطع فيه الحيل والأعذار ولهذا عقب هاتين الآيتين بقوله «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 40» بعدل اللّه فيه ، ولما انتهى جل جلاله من بيان مآل حال الكفرة في هذه السورة
شرع يبين ما للمؤمنين عنده فقال «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» الإنكار والجحود والتكذيب بما تقدم يكونون يوم القيامة «فِي ظِلالٍ» عند ربهم يظلهم بها يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله ، وهذا بمقابلة قوله للكافرين «ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ» وضد الظّل الضحّ وهو أعم من الفيء لأنه يقال لظل الليل وظل الجنة وكل موضع لم تصل إليه ظل ولا يقال الفيء إلا لما زاحت عنه الشمس ويعبر بالظل عن الرفاهية والمعزة والمناعة «وَعُيُونٍ 41» من ماء جارية في جنة عالية بدلالة قوله «وَفَواكِهَ» في تلك الجنة ذات الظلال الوافرة «مِمَّا يَشْتَهُونَ 42» من أنواعها وأصنافها يتلذذون بثمارها وتقول لهم الملائكة «كُلُوا وَاشْرَبُوا» من هذه النعم المتنوعة «هَنِيئاً» لكم ومريئا «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 43» في الدنيا من العبادات والخيرات ، ونظير هذه الجملة في الآية 45 من سورة الأعراف الآتية والآية 32 من سورة النحل في ج 2 «إِنَّا كَذلِكَ» بمثل هذا الجزاء «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 44» لأنفسهم وغيرهم في هذا اليوم جزاء إحسانهم في الدنيا «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 45» بما وعدنا المؤمنين ، وهلاك وخسران وحسرة لحرمانهم من هذا النعيم الدائم وتعذيهم بما أوعدناهم به ويقال لهم أيضا «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا» أيها الكفار من هذه الدنيا الفانية «قَلِيلًا» لأنها مهما طال أمرها فهي قليلة بالنسبة للآخرة «إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ 46» والمجرم يستحق العذاب والعقاب وقول كلوا وإن كان ظاهره أمرا فهو في المعنى نهي بليغ على حد قوله تعالى «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» الآية 67 من سورة
فصلّت في ج 2 ، ففيه زجر عظيم لانهماكهم في الدنيا وانكبابهم على شهواتهم وإعراضهم عن الآخرة ونبذها وراءهم «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 47» بهذه النعم الدائمة التي غرتهم الدنيا الفانية بزخارفها البالية فأبعدتهم عنها «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا» للّه واخضعوا لعظمته وتواضعوا لجلاله «لا يَرْكَعُونَ 48» أنفة واستكبارا.(1/255)
ج 1 ، ص : 256
مطلب الآية المدنية في هذه السورة :
هذا على القول بأن هذه الآية مكية ، وعلى القول بأنها مدنية فيكون المراد الركوع في الصلاة الذي هو جزء منها ، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود أن هذه السورة نزلت في غار بمنى وأن هذه الآية نزلت معها دفعة واحدة فإذا صح هذا فتكون مكية ويؤول الركوع فيها على الخشوع لغة ، وإذا أريد وقوعه في الركعتين التي فرضت عليه قبل فرض الصلاة في الغداة والعشي فيؤول على معناه الشرعي ومن قال انها مدنية احتج بلفظ الركوع لأن نزولها قبل فرض الصلاة «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 49» بأنبيائهم الجاحدين المنكرين آيات اللّه الباهرة وهؤلاء إذا لم يؤمنوا بهذا الكتاب المنزل من لدنا على نبيهم الجامع لما في الدنيا والآخرة من خير وشر وقد كررت جملة «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» عشر مرات كل لمعنى كما علمت «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ» بعد هذا القرآن المشتمل على سير كتب الأولين كلهم «يُؤْمِنُونَ 50» أي لا يؤمنون البتة.
آمنا باللّه وحده واتبعنا ما جاءنا به عبده وهذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وأصحابه والتابعين أجمعين.
تفسير سورة ق
عدد 34 - 50
نزلت بمكة بعد المرسلات وهي خمس وأربعون آية ، عدا الآية 38 فإنها نزلت بالمدينة وثلاثماية وسبع وخمسون كلمة ، وألف وأربعمائة وتسعون حرفا ، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «ق» مفتاح اسمه القادر والقاهر والقريب والقدوس والقيوم والقدير وهي اسم للسورة أيضا والأحسن في معاني هذه الحروف أن يكل أمرها إلى منزلها وتقول اللّه أعلم بمراده بها وقد ذكرنا في تفسير نون أنها رمز بين المحب والمحبوب لا يعرفه غيرهما وسنذكر أوائل السور المبدوءة بالحروف معاني متفرقة أولا بأول فراجعها ففي كل منها ما ليس في الأخرى ، راجع بحث الفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة ، هذا وقد افتتح جل(1/256)
ج 1 ، ص : 257
شأنه سورا من كتابه ببعض حروف الهجاء على سبيل التحدي والتنبيه لكونه معجزا لا يضاهى ، ودلالة على عظمته ، أتبعه بالقسم فقال «وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» العالي الشرف وجواب القسم هذا محذوف تقديره انه لبالغ الإعجاز وإنه جدير أن يؤمن به من يسمعه وأنه لحقيق أن يعذب جاحده ، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما ق جبل محيط في هذه الدنيا ، وقال غيره معناه قضي الأمر بما هو كائن إلى يوم القيامة «بَلْ» إضراب عما تقدم من معنى القسم إلى ما هم عليه من الجهل فقال «عَجِبُوا» أولئك الكفار قوم محمد «أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ» رسول ينذرهم ويخوفهم عاقبة أمرهم إن أصروا على كفرهم وذلك المنذر «مِنْهُمْ» في أنفسهم عرفوا صدقه وأمانته ونسبه ومكانته وآيته في القرآن البليغ الذي هو في لغتهم ومع ذلك أعرضوا «فَقالَ الْكافِرُونَ هذا» الذي جاء به محمد من عند ربه «شَيْءٌ عَجِيبٌ 2» غريب في بابه ونوعه إذ يقول فيه «أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً» فإنا نحيا مرة ثانية ونسأل عما فعلناه «ذلِكَ» القول الذي يخبرنا به في رجوعنا بعد الموت إلى حالتنا الأولى بعد تفتتها وفنائها «رَجْعٌ بَعِيدٌ» عن العقل لا يوافقه عليه أحد ولا يكاد يصدقه إذ لم يخبرنا به آباؤنا فلا يكون ذلك أبدا وكلامك هذا يا محمد مرجوع عليك لبعد إمكانه قال تعالى ردّا لاستبعادهم ذلك «قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ» من الموتى وما تأكله الأرض من لحومهم وتشربه من دمائهم وترمه من عظامهم بحيث لا يشتبه عليه جزء أحد من الآخر ولا يعزب عن علمه ما تداخل منها في تخوم الأرض وما دخل في بطون الوحوش «وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ 4» بعددهم وأسمائهم وما ينقص منهم وما يبقى في كل لحظة.
وفي هذا رد لاستبعادهم النشأة الأخرى ، أي فالذي هو كذلك أيها الناس وقد خلقكم من العدم ألا يقدر على إعادتكم ؟ بلى قال تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الآية 28 من الأعراف الآتية ، ثم اتبع الأضراب عن معنى القرآن باضراب آخر عن مغزى الإعادة فقال «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ» الحياة بعد الموت الثانية بالبراهين المتلوة عليهم من الأنبياء من لدن آدم بادي الرأي ولأول وهلة دون تفكر وتدبر كما أنكروا الإله والنبوة والقرآن ت (17)(1/257)
ج 1 ، ص : 258
والآيات الدالة على صدقها «فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ 5» مضطرب مختلط فكل تكذيب منهم يكون أفظع من الذي قبله ، فتارة يكذبون نفس الرسول وأخرى يتهمونه بالسحر والكهانة والجنة والشعر ، وطورا يقولون أن ما جاءنا به من أساطير الأولين وخرافاتهم وانه يتعلمه من أهل الكتاب وأنه يتقوله من تلقاء نفسه ومرة يدّعون ألوهية الملائكة والنجوم والأصنام والأوثان فتراهم لا يثبتون على شيء وتقلبهم هذا دليل على كذبهم ، قال تعالى موبخا فعلهم ومذكرا لهم بصنعه ببعض حلقه «أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها» بلا عمد يرونها أو بلا عمد أصلا ، راجع تفسير الآية 2 من سورة الرعد في ج 3 والآية 10 من سورة لقمان في ج 2 «وَزَيَّنَّاها» بأنواع الكواكب والشمس والقمر «وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ 6» شقوق أو صدوع ، فاعجبوا من هذا فإنه أعظم من الإعادة بعد الموت ، راجع الآية 57 من سورة غافر «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها» على الخلاء لا شيء يمسكها ولا يقلها بشيء «وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ» جبالا عظاما لئلا تتحرك بكم فتزعجكم وهذا دليل على كونها قائمة بالهواء وإلا لما قال ذلك «وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ» صنف ونوع من مأكول وغيره «بَهِيجٍ 7» نظارة وحسنا ولطافة فكل من يراه يبتهج ويسر ، أي اغفلوا عن هذا الذي جعلناه «تَبْصِرَةً» للعاقل يتفكر به «وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ 8» إلى ربه تبصر في بدايع صنعه «وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً» فيه حياة كل شيء «فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ» بساتين يستدلون بها على جنات الآخرة «وَحَبَّ الْحَصِيدِ 9» البر والشعير والذرة والسمسم والدّخن والعدس والرز وكل ما يقطف ويحصد من مأكول الإنسان والحيوان فهل يجهل أحد صنعنا لهذا «وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ» مرتفعات في السماء طوالا مستويات «لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ 10» ثمر متراكب بعضه فوق بعض وهو في أكمامه فإذا خرج من الكم بأن انشق عنه فيكون منضودا ولهذا قال تعالى في حق الموز (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الآية 29 من الواقعة الآتية لأنه يطلع بعضه فوق بعض ولم يخلق في الكم أولا ثم يخرج منه ، ولهذا فان ثمر النخيل قبل أن ينشق(1/258)
ج 1 ، ص : 259
عنه الكم يسمى طلعا ، وقد جعلنا هذا كله
«رِزْقاً لِلْعِبادِ» فضلا من لدنا ورحمة بهم «وَأَحْيَيْنا بِهِ» أي الماء المبارك «بَلْدَةً مَيْتاً» جف نباتها واسودت أرضها «كَذلِكَ» أي كما نحيي الأرض الميتة بانزال الماء وإخراج النبات يكون «الْخُرُوجُ 11» من المقابر وإحياء الخلق راجع الآية 56 من الأعراف الآتية واعلم يا أكمل الرسل أن قومك ليسوا بأول من كذب الرسل بما جاءوهم من عندنا فقد «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ» نوحا «وَأَصْحابُ الرَّسِّ» شعيبا بعد إرساله إلى أصحاب الأيكة كما سيأتي في الآية 85 من الأعراف الآتية ، والرس البئر المطوية كانت لبقية من ثمود كذبوا نبيهم ورسوه في بئر لهم في اليمن قاتلهم اللّه ، وقيل هم قوم باليمامة وأن صاحبهم الذي كذبوه قسطلة بن صفوان وقيل هم أصحاب الأخدود وصاحبهم الغلام الذي مر ذكره في الآية 4 من سورة البروج المارة «وَثَمُودُ 12» كذبت صالحا «وَعادٌ» كذبت هودا «وَفِرْعَوْنُ» كذب موسى وهارون «وَإِخْوانُ لُوطٍ 13» كذبوا لوطا وسماهم إخوانا لأن بينه وبينهم نسبا قريبا لأنهم طائفة من قوم إبراهيم عليه السلام ومعارفه وهو ابن أخت ابراهيم «وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ» الأشجار الملتفة كذبوا شعيبا أيضا «وَقَوْمُ تُبَّعٍ» أي كرب الحميري حيث آمن وكذبه قومه لذلك خصه اللّه بالذكر كما خص فرعون نفسه لأنه هو المكذب راجع الآية 37 من سورة الدخان في ج 2 فكان «كُلٌّ» من هؤلاء الأمم «كَذَّبَ الرُّسُلَ» المرسلين إليهم فلا تحزن يا حبيبي على قومك «فَحَقَّ» على المصرين منهم على الكفر إنقاذ «وَعِيدِ 14» فيهم ووعد الرسل بالنصر عليهم ، فقل يا سيد الرسل لهؤلاء المنكرين اعادتهم بعد موتهم «أَ فَعَيِينا» أعجزنا أم تعبنا «بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ» لهم حتى نتعب باعادتهم ثانيا ، كلا وعظمتنا إنما هو بين الكاف والنون ، وقل لهم يا أكمل الرسل كيف تعترفون ببداية الخلق وتنكرون الإعادة وليس بشيء أهون علينا منها.
وهذا جواب لقولهم (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) «بَلْ هُمْ» هؤلاء الجاحدون «فِي لَبْسٍ» شك وخلط وشبه ألقاها الشيطان في قلوبهم وأوقع الحيرة منه فيها بتسويله لهم بأن إحياء الموتى محال وأنساهم(1/259)
ج 1 ، ص : 260
التفكر بأن من قدر على الإنشاء لا تعبيه الإعادة بل هو على الإعادة أقدر «مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ 15» بعد الموت ، وقيل إن هذه الآية عامة في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فهي أن اللّه تعالى يعدم كل موجود في كل لحظة ويحييه وهذا معنى التجدد ، وأما في الآخرة فإنه يحيي من أماته إلى الحساب والجزاء ولا يعظم هذا على اللّه ، كيف وهو يقول «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ» من الخطرات والهواجس الحادثة الآن والتي ستحدث بعد في قلبه ، لا يخفى علينا شيء من ضمائره ، وكيف تخفى علينا «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 16» العرق الذي يجري فيه الدم المتصل بكل جزء من أجزاء الإنسان ، وهو بين الحلقوم والمري ، ولذلك سمي وربدا ، واذكر لهم يا محمد «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ» الملكان الموكلان بكل نفس يكتبان ما تعمل من الخير والشر ويحفظانه إلى يوم الحساب أحدهما «عَنِ الْيَمِينِ» يكتب الحسنات «وَعَنِ الشِّمالِ» الآخر يكتب السيئات «قَعِيدٌ 17» كل منهما بمحله لا يفارقه طرفة عين ، وقد اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر كقوله :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الهوان رماني
أي وكان والدي بربئا.
وقوله :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف أي نحن راضون ، وهنا يكون عن اليمين قعيد أيضا إذ الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وبالعكس من أبواب البلاغه وسمي احتباكا وهو فضلا عن أنه لا يخل بالمعنى فلا يخفى على بصير ، ولفظ قعيد يدل على الملازمة فهو أبلغ من قاعد ولهذا قال تعالى «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ» يقوله الإنسان «إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ» يراقبه لا يبرح عنه «عَتِيدٌ 18» تهيأ لتدوين ما يخرج من فيه ، وهذان الملكان لا يفارقان الإنسان إلا عند الغائط والجماع ، ولذلك يكره الكلام في هاتين الحالتين لئلا يؤذيهما في كتابة ما يقع منه فيهما لأنهما لا يهملان شيئا حتى أنينه في المرض ليثيبه اللّه عليه.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : (1/260)
ج 1 ، ص : 261
كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين حالا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر ، وهذان غير المعقّبات الآتي ذكرهم في قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ) الآية 11 من سورة الرعد في ج 3 لأن اللّه وكل في بني آدم ملائكة كثيرين من حين يكون في بطن أمه إلى أن يدفن في قبره ، ومن لطفه على عباده أنه يكتب للمريض والمسافر مثل ما كانا يعملان في الصحة والإقامة من الحسنات فقط أما السيئات فلا ، لأن العقاب فيها متوقف على الفعل فلو نوى ولم يعمل لا يكتب عليه شيء بل تكتب له حسنة كما سيأتي في تفسير الآية 84 من سورة القصص الآتية.
أخرج بن أبي شيبة والدارقطني في الافراد والطبراني والبيهقي في الشعب عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر اللّه تعالى الحفظة فقال اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح مادام مشدودا في وثاقي.
واخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم : من مرض أو سافر كتب اللّه تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما قال تعالى «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ» أي شدته المذهبة لعقلة وغمرته التي تغشى المحتضر حالة نزعه إذ تحول بينة وبين عقله فتصيّره كالسكران «بِالْحَقِّ» عند بلوغ الأجل اليوم الذي يتبين به الإنسان من أمري الدنيا والآخرة ويعلم فيه ما يوصل إليه حاله من السعادة والشقاوة ويراه عيانا.
واعلم أن الإنسان خلق لشيئين : لعبادة ربه مادام حيا قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات في ج 2 ، وللموت عند انقضاء أجله قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية 185 من آل عمران ج 3 ، وهي مكررة في الأنبياء والعنكبوت 35 و57 الآتيتين ج 2 وهو لا ينجو منه أحد ، قال : مناديه ينادي كل يوم : لدوا للموت وابنوا للخراب ويقال له «ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» تميل تعدل عن الموت الذي تنفر عنه ولا تريده بحالة من الأحوال ، فها هو قد جاءك.
أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة وصححه الحاكم قالت : لقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو(1/261)
ج 1 ، ص : 262
بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول اللهم أعني على سكرات الموت.
وجاء في بعض الآثار ما أخرجه ابن سعد عن عروة قال : لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت :
يا عين فابكي للوليد بن الوليد بن المغيرة كان الوليد أبو الوليد فتى العشيرة
فقال صلّى اللّه عليه وسلم لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي (وجاءت سكرة الموت بالحق) وأخرج أحمد وابن جرير عن عبد اللّه مولى الزبير بن العوام قال : لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت :
أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر ، ليس كذلك يا بنية ولكن قولي : (وجاءت سكرة الموت بالحق) وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال رضي اللّه عنه : بل قولي (وجاءت سكرة الموت) إلخ.
ولما بين جل شأنه بعضا من حالة الإنسان في حياته ومماته طفق يبين شيئا من أحوال القيامة التي لا بد له منها فقال «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» النفخة الثانية للبعث بدليل قوله «ذلِكَ» أي وقت هذه النفخة هو «يَوْمُ الْوَعِيدِ 20» للحساب والجزاء الذي وعدكم اللّه به في الدنيا على لسان رسله وحذركم من هوله لأن النفخة الأولى تكون لإماتة من بقي في الدنيا وبينهما كما قيل أربعون سنة ، وفي النفخة الثانية يقوم الخلق من كفاتهم
قال تعالى «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ» برة كانت أو فاجرة «مَعَها سائِقٌ» ملك يسوقها إلى الحشر الذي يقف الناس فيه للحساب «وَشَهِيدٌ 21» ملك آخر يشهد عليها بما عملت في الدنيا ويقال له «لَقَدْ كُنْتَ» أيها الإنسان في دنياك وبرزخك مدة طويلة «فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا» اليوم العظيم وقد كنت تنكره وتجحده وتكذب رسلنا الذين أنذروكه «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ» الذي كان على بصرك والرين الذي كان على بصيرتك ، وأزحناه عنك الآن لتنظره عيانا ، وأمطنا ما كان على سمعك من الثقل لتسمعه جهرا حقيقة وأجلينا الصدأ الذي على قلبك لتعيه يقينا(1/262)
ج 1 ، ص : 263
«فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ 22» قوي جدا يرى ما كان محجوبا عنه في الدنيا بسبب غفلتك عن النظر إلى قدرتنا والسماع لأوامرنا والتفكر في مصيرك ومصنوعاتنا «وَقالَ قَرِينُهُ» الملك الموكل به الشهيد عليه الكاتب لأعماله «هذا ما» أي الديوان الذي «لَدَيَّ» عن سجل أعمالك «عَتِيدٌ» مهيأ ظاهر حاضر فينظر فيه فإذا هو والعياذ باللّه جامع لكل شيء ، وهو الكتاب المنوه به في الآية 14 من الإسراء الآتية ، فيقول اللّه حينذاك ، وهو أعلم بما فيه قبل إظهاره لأنه مدون في لوحه للسائل وللمشاهد اللذين جاءا به «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ 24 مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ» في الدنيا «مُعْتَدٍ» على نفسه وعلى غيره ، يمنع خيره ، ويوقع شره وضره «مُرِيبٍ 25» شاك في التوحيد وفي هذا اليوم وهو «الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» من أصنام وغيرها «فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ 26» الكائن في الطبقة السفلى من طبقات النار أعاذنا اللّه منها «قالَ قَرِينُهُ» شيطانه الذي قيض له السوء المنوه به في الآية 30 من سورة الزخرف في ج 2 والوارد ذكره في قوله صلّى اللّه عليه وسلم ما من أحد الا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا ولا أنت يا رسول اللّه ؟ قال ولا أنا ، إلا أن اللّه أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني الا بخير هذا وإن بعض المفسرين فسر القرين الأول بالشيطان ، وبما أن الجمهور على خلافهم فسرناه بالملك لأن سياق الآية بدل عليه ، ويأبى الآخر ، فانظر ماذا ترى.
ولفظ القرين من النوع المبهم أحد أقسام البديع في الكلام ، ولهذا فإنه يفسر بنسبة المقام كما جرينا عليه «رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ» أي ما أجبرته على الطغيان ولا أوقعته فيه ، وهذا بعد أن سئل وقال أطغاني الشيطان ، فيدافع الشيطان عن نفسه معتذرا ثم يقول «وَلكِنْ كانَ» هو يا رب غارقا «فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ 27» عن الحق وسبله ، إذ اختار بطوعه ورضاه الضلال على الهدى وأكب على الردى ، فيقول الكافر يا رب كذب هو الذي سوّل لي الشر وحسّن لي القبيح فأراد الشيطان أن يكذبه ثانيا فقطع اللّه.
عليه كلامه «قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ» الآن اسكتوا لأني أرسلت إليكم رسلا «وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ 28» على ألسنتهم وبالكتب(1/263)
ج 1 ، ص : 264
التي أنزلتها عليهم ، وقد أنذروكم وحذّروكم هول هذا اليوم وبينوا لكم منافع الإيمان ومضار الكفر فلم تفعلوا فلا فائدة من خصامكم الآن وقد قضي الأمر عليكم بالعذاب «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» فلا تطمعوا أن أغيره لأنه حق عليكم «وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 29» لأني لا أعذب أحدا بغير ذنب ، وأنا العلام بما وقع منكم قبلا راجع تفسير الآية 22 من سورة ابراهيم في ج 2 والآية 30 من سورة المرسلات المارة تقف على مواقف القيامة ، واذكر يا محمد لقومك «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ» إيفاء بوعده لها في سابق علمه وانجازا لقوله : «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» الآية 119 من سورة هود في ج 2 قال ابن عباس فلما سيق أعداء اللّه إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملأها شيء فتقول مخاطبة ربها عز علاه ، ألست قد أقسمت لتملأني ؟ قال فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت ، فتقول قط قط أي حسبي حسبي قد اكتفيت.
وفيها ثلاث لغات بإسكان الطاء وكسرها وتنوينها ، أي قد امتلأت وليس في مزيد وكانت تقول قبل هذا زدني فيزيدها «وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ 30» ولا يقال أن النار معنى وان كانت جسما فلا يأتي منها النطق ، ولانها ليست صالحة للخطاب لأن اللّه الذي أنطق كل شيء في الدنيا وأنطق جوارح الإنسان بما صنعت ، والحيوان بما اعتدى ، والجماد بما وقع منه وعليه ، قادر على إنطاق النار وجعلها صالحة للخطاب بإبداع سر من أسراره فيها ، وقد خاطبها اللّه في غير هذا الموضع في الآية 79 من سورة
الأنبياء وخاطب الجبال في الآية 10 من سورة سبأ وخاطب النحل في الآية 69 من سورة النحل وخاطب السماء والأرض في الآية 11 من سورة السجدة في ج 2 وأمثاله كثير في القرآن العظيم كما نبين كلا في محله ان شاء اللّه.
مطلب في آيات الصفات وما يجب فيها :
ولنورد ما يتعلق في هذه الآيات من الأحاديث : روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع ربّ العرش ، وفي رواية رب العزة ، فيها قدمه فينزوي بعضها إلى(1/264)
ج 1 ، ص : 265
بعض وتقول قط قط بعزتك ولا يزال في الجنة فضل ، حتى ينشيء اللّه لها خلقا فيسكنهم فيها ، فتقول الجنة قط قط.
ولأبي هريرة بزيادة : ولا يظلم اللّه من خلقه أحدا.
وهذا من أحاديث الصفات التي سبق البحث عنها في الآية 21 من سورة الفجر المارة ، وذكرنا أن جمهور المتكلمين وطائفة من العلماء يصرفونها عن ظاهرها بالتأويل ، فيضعون بدل القدم المقدم أي حتى يضع اللّه من قدم من أهل النار لقيام الدليل على استحالة الجارحية على اللّه تعالى ، وجمهور من السلف وطائفة من المتكلمين بحروفها على ظاهرها ويؤمنون بها من غير تأويل وهو الأقرب وعليه فيكون معنى الرجل الجماعة كما تقول رجل من جراد أي جماعة منه أي يضع فيها جماعة أو قوما مسميين بلفظ الرجل القدم والإضافة هنا اختصاصية راجع تفسير هذا الحديث في شرحي البخاري ومسلم.
وقال البغوي القدم والرجل في هذا الحديث من صفات اللّه المنزه عن الكيفية والتشبيه ، والإيمان بها فرض ، والامتناع عن الخوض فيها واجب ، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم ، والخائض فيها زائغ والمنكر معطل ، والمكيف مشبّه ، وهو ليس كمثله شيء هذا واللّه أعلم
قال تعالى «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ» قربت وهيئت للمتقين المساعدين عما نهوا عنه الفاعلين ما أمروا به «غَيْرَ بَعِيدٍ 31» مكان قريب منهم كي يروها وتقر أعينهم بها ويقال لهم «هذا ما تُوعَدُونَ» في الدنيا على لسان رسلكم وهي لكم و«لِكُلِّ أَوَّابٍ» رجاع توأب من الذنوب.
«حَفِيظٍ» على حدود اللّه مبالغ في طاعته وهو «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ» خافه وأطاعه وصدق رسله «بِالْغَيْبِ» وآمن به من غير أن يراه «وَجاءَ» يوم القيامة إلى ربه «بِقَلْبٍ مُنِيبٍ 33» اليه خاضع له خاشع لهيبته مخلص لعبادته مقبل اليه بكليته فهذا وأمثاله يقال لهم «ادْخُلُوها» أي الجنة التي قرّبت إليكم «بِسَلامٍ» وأمن من زوالها وسلام من اللّه وملائكته عليكم «ذلِكَ» يوم يدخل أهل الجنة الجنّة ، وأهل النار النّار ، هو «يَوْمُ الْخُلُودِ 34» لا موت ولا خروج بعده أبدا «لَهُمْ» لأهل الجنة «ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ 35» لهم مما لم يخطر على بالهم وهو رؤية(1/265)
ج 1 ، ص : 266
اللّه عز وجل إذ لا مزيد عليه لأهل الجنة بعدها ، ولهذا فان جمهور المفسرين فسروا المزيد بالجنة كما فسروا الزيادة الواردة بالآية 26 من سورة يونس في ج 2 بها وبين مزيد وزيادة مناسبة باللفظ وبالآيتين بالمعنى ، والقرآن يفسر بعضه ، وبعد أن بين تعالى حال أهل النار وحال أهل الجنة للذكرى والاعتبار قال مهددا أهل مكة بما فعله من قبلهم بقوله «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ» يا محمد من الأمم الماضية الذين لم تنفعهم الذكرى ولم يعتبروا بما وقع عليهم «مِنْ قَرْنٍ» أي قرون كثيرة ممن لم يتعظ بنذرنا «هُمْ» أي المهلكون «أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً» من قومك الذين يزعمون أنهم أشداء كثيرون ، وأكثر عددا وعددا ، وأعظم سطوة وجولة «فَنَقَّبُوا» طافوا وتقلبوا «فِي الْبِلادِ» شرقا وغربا جنوبا وشمالا ليروا ما يعصمهم من عذاب في الدنيا فلم يجدوا ما يقيهم منه فلينظر قومك «هَلْ مِنْ مَحِيصٍ 36» مخلص أو مهرب لهم أو مأمن أو ملجأ من عذابي فلم يجدوا وهل وجد أحد من العصور الخالية وزرا مني ؟ كلا بل لا بد من الموت والرجوع إلي ، قال الحارث بن كلدة :
نقبوا في البلاد من حذر الموت وجالوا في الأرض كل مجال
وقال امرئ القيس :
وقد نقّبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
«إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي قصصناه عليكم يا أمة محمد بشير إلى أنكم ومن قبلكم ومن بعدكم صائرون إلينا وإن هو «لَذِكْرى » عظيمة وعبرة باهرة وعظة بالغة «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» واع وعقل ثابت وفكر ثاقب «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» لما يتلى عليه من القرآن ، وسمعه سماع قبول لا يحدث نفسه بخلافه مصغيا لإرشاده «وَهُوَ شَهِيدٌ 37» فطن لا غافل ولا نسيان ، لأن من لا يحصر ذهنه ولبه وسمعه وبصره لآيات اللّه لا يدخل في هذه الآية بل يكون في عداد الذين ذكرهم اللّه في الآية 187 من الأعراف ، الآتية أعاذنا اللّه من ذلك.
مطلب الآية المدنية في هذه السورة وخلق السموات والأرض والتسبيح :
وهذه الآية المدنية قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما»(1/266)
ج 1 ، ص : 267
من الجن والإنس والملائكة والطير والوحش والمياه وغيرها «فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا» لحقنا ولا أصابنا «مِنْ لُغُوبٍ 38» إعياء أو تعب فكيف تستعظمون علينا إعادتكم أيها الناس وهي لا شيء بالنسبة لهذا الذي لا تفي به القوى لأنه أعظم من الخلق كله راجع الآية 57 من سورة غافر من ج 2 ، وهذه الآية أيضا كالمستطردة بالنسبة لما قبلها وبعدها كسائر الآيات المدنيات في المكيات ، وسبب نزولها أن اليهود قالوا أن اللّه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فلذلك تركوا العمل فيه كما هو موجود في التوراة الموجودة الآن راجع الاصحاح الأول والثاني من التكوين في التوراة ، فكذّبهم اللّه عز وجل في هذه الآية ، نافيا عن ذاته المقدسة التعب والاعياء المستلزمين للراحة.
ومما يدل على كذبهم أن الأيام أزمنة مستمرة بعضها بعد بعض فلو كان بدأ خلقها بالأحد كما يزعمون لكان الزمان مخلوقا قبل الأيام مع أن الزمان لا ينفك عن الأجسام فيكون قبل خلق الأجسام لأن اليوم عبارة عن سير الشمس من طلوعها إلى غروبها وقبل خلق السموات والأرض ما كان شمس ولا قمر لأن اليوم يطلق ويراد به الوقت والحين وقد يعبر به عن مدة من الزمن أيّ مدة كانت فبطل قول اليهود وثبت التحريف في التوراة الموجودة الآن بين أيديهم وأن ما ينسبونه إلى اللّه من الاستراحة والاستلقاء محض زور وبهتان تعالى اللّه عنهما علوا كبيرا.
انتهت الآية المدنية.
قال تعالى «فَاصْبِرْ» يا حبيبي «عَلى ما يَقُولُونَ» فيك من التكذيب والبهتان فإني بالمرصاد لهم ، يعلمون أنهم يجحدون آياتي بتكذبيك راجع الآية 32 من الأنعام في ج 2 وإنما أمره ربه بالصبر مع تطاولهم عليه الذي كاد أن يمحق صبره لأنه لم يؤمر بقتالهم بعد «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» إنما أمره بالتسبيح فيه لأنه سيفرض عليه وعلى أمته فيه صلاة الصبح كما في أزله وكذلك الأمر في قوله «وَقَبْلَ الْغُرُوبِ 39» لأنه ستفرض فيه صلاة المغرب وقبله صلاتا الظهر والعصر «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أيضا حيث يفرض فيه صلاة العشاءين وتسمى فيه النافلة والتهجد «وَأَدْبارَ السُّجُودِ 40»(1/267)
ج 1 ، ص : 268
سبحه بعده أيضا والسجود كان يفعله صلّى اللّه عليه وسلم قبل فرض الصلاة إذ أنه سجد في آخر اقرأ والنجم وغيرها ، والمراد من هذه الآية مطلق التسبيح لأن الصلاة التي فيها التسبيح لم تفرض بعد وقال علي وعمر رضي اللّه عنهما : المراد بأدبار السجود الركعتان بعد المغرب (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) الآية الأخيرة من سورة الطور في ج 2 الركعتان قبل الصبح إلا أن هذه بكسر الهمزة إذ يراد بها ذهابها لجهة سيرها الذي تغيب فيه عن يمين الرائي وهناك بفتح الهمزة حيث يراد بالإدبار البعدية المطلقة ، أي سبحه بعد كل سجود حين الهدى اليه ، لأن التسبيح يكون فيه وهو المراد هنا وإن كان مطلوبا في غيره وفي كل حال ، إذ ينبغي للانسان أن لا يغفل عن ذكر اللّه كما جاء في الآية 191 من آل عمران في ج 3 وبعض المفسرين يجوزه في هذا أيضا ويقولون ان المراد بآية الطور الركعتان قبل الصبح.
روى مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.
يعني سنة الفجر.
وروى البخاري عن ابن عباس قال : أمر رسول اللّه أن يسبح في أدبار الصلوات كلها.
وهذا كله كان بعد فرض الصلاة ، ولا يخفى أن عائشة وابن عباس كانا صغيرين دون سن التمييز ، حيث كان سن عائشة عند الهجرة سبع سنين ، وابن عباس أربع سنين ، بما يدل على أن ليس المراد بها السجود في الصلاة ولذلك قال بعضهم المراد بالتسبيح هنا التسبيح بعد الصلاة مستدلا بما رواه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه من سبح اللّه في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد اللّه ثلاثا وثلاثين وكبر اللّه ثلاثا وثلاثين فذلك تسعة وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت ذنوبه وان كانت مثل زبد البحر.
وفي حديث ابن عباس المتقدم أن هذا
جاء بمعرض الثواب لمن لا يقدر على تحصيله من جهة أخرى.
يدل على هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن نفرا من المسلمين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه ذهب أهل الوتور بالأجور وفي رواية بالدرجات والنعيم المقيم فقال وما ذاك ؟ قالوا صلوا كما صلينا ، وجاهدوا كما جاهدنا ، وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال ، قال : (1/268)
ج 1 ، ص : 269
أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم.
وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله ؟ تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا.
وتكبرون عشرا.
وفي رواية أبي ذر الغفاري : ان لكم بكل تسبيحة صدقة وبكل تكبيرة صدقة وبكل تحميدة صدقة وفي بضع أحدكم صدقة إلخ قالوا يا رسول اللّه أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر ؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ،
قال تعالى «وَاسْتَمِعْ» يا سيد الرسل لما أخبرك به من حال يوم القيامة الذي قصصناه عليك كيف يكون «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ» أهلها بالنفخة الثانية «مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ 41» قربا نسبيا من السماء إذ يقف على صخرة بيت المقدس ، وهي على ما قيل بمكان أقرب إلى السماء من الأرض بثمانية عشر أو اثني عشر ميلا وانها وسط الأرض ، فيقول بصوت يسمع فيه أقطار الأرض كلها ولحج البحار وبطون الأودية ورؤس الجبال بدلالة قوله تعالى «يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ» وكيفيّتها أيتها العظام النخرة البالية والأوصال المنقطعة واللحوم الممزقة والشعور المتفرقة إن اللّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء «بِالْحَقِّ» يوم البعث والجزاء والحشر ، ويقال هلموا لهذا فتستجيب تلك الذرات لأمر الرب وتلنئم كلها على بعضها ، لا يعزب منها ذرة حتى تكون جسدا كما كانت في الدنيا ، وتدبّ فيها الحياة بأمر محيي الموتى ، فيا أيها الناس «ذلِكَ» يوم النداء هذا هو «يَوْمُ الْخُرُوجِ 42» أي خروج الأموات من مدافنها والذرات من أماكنها وهو يوم التئامها وتكوينها في بعضها كما كانت في الدنيا ، ليعلم هؤلاء المنكرون حقيقته عيانا «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي» الخلق في الدنيا «وَنُمِيتُ» من نخلقه فيها بعد انقضاء أجله «وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ 43» اي الحياة الأخرى في الآخرة «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ» بالبناء للفاعل وقرىء المفعول وقرىء بتشديد الشين للتكثير وقرىء بتاءين ، وهذه كلها جائزة ، راجع بحث القراءات في المقدمة.
فيخرجون «سِراعاً» إلى أرض الحشر بدليل قوله «ذلِكَ» أي يصير هذا الأمر العظيم «حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ 44» جدا هين بالنسبة لقدرتنا إذ(1/269)
ج 1 ، ص : 270
لا يشغلنا شأن عن شأن ، فاترك با أكمل الرسل كفار قومك ولا تجادلهم «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ» من جحد البعث وانكار الآيات ولا يضرك تكذيبهم لك لأنك لم تؤمر بقتالهم «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ» الآن «بِجَبَّارٍ» لأنك لم تسلط عليهم بعد وما أنت الآن إلا منذر ومبلغ «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ 45» لأن الذي لا يخشاه لا تنفعه الذكرى ولا تؤثر فيه الموعظة.
قال ابن عباس قالوا لو خوفتنا يا رسول اللّه ، فنزلت هذه الآية مما يدل على أن هذه السورة لم تنزل دفعة واحدة فضلا عن الآية المدنية فيها.
هذا ، وقد ذكرنا آنفا أن قرب المنادى قربا نسبيا على أنه يمكن ان يكون حقيقيا لأنه إذا كان المذياع يسمع كافة أطراف الأرض وما فيها بآن واحد بلا فرق بين البعيد والقريب منها ، وهو من مصنوعات العبيد فلأن يسمع أهل البرزخ كلهم بوق اسرافيل كسماع رجل واحد من باب أولى ، ولا تحديد لقدرة اللّه.
هذا ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة البلد
عدد 35 - 90
نزلت بعد سورة ق ، وهي عشرون آية كالمزمّل المارة ، واثنتان وثمانون كلمة ، وثلاثمائة وثمانون حرفا ، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «لا أُقْسِمُ» تقدم الكلام في هذا أول سورة القيامة المارة فراجعها ففيها بحث نفيس «بِهذَا الْبَلَدِ 1» مكة شرفها اللّه «وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ 2» كرره لشرفه تأكيدا ، وأقسم به تعظيما لقدره وتكريما لمن ولد فيه وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلم وان وجوده فيه أكبر تعظيم وتقديس له فلا حاجة إلى القسم به وفي قوله «حِلٌّ» اشارة إلى أنه سيفتحها على يديه(1/270)
ج 1 ، ص : 271
بعد إخراجه منها ، وأنه سيحلها له وهذا من الإخبار بالغيب ، راجع الآية 10 من سورة الأعلى والآية 3 من سورة التكوير المارتين ، لأن اللّه أخبره بهذا وهو في مكة ، وقد أنجز اللّه له وعده يوم الفتح المبين كما سيأتي في سورة الفتح في ج 3 حيث أحلها له وقتا من الزمن ، وأباح له ان يصنع فيها ما يشاء ، حتى انه أمر بقتل ابن حنظل وهو معلق بأستار الكعبة وكذلك مقيس بن حباية وقد أحل دماء قوم وحرم دماء آخرين وأمّن من دخل البيت ودار أبي سفيان ومن أغلق بايه ومن ألقى سلاحه ، ثم قال إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار فهي حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة قال تعالى : «وَوالِدٍ وَما وَلَدَ 3» آدم عليه السلام فمن بعده من الأنبياء والعالمين ، لأن الكفرة والعصاة لا حرمة لهم حتى يقسم بهم ، وقيل المراد بالوالد ابراهيم وبالولد إسماعيل ومحمد عليه الصلاة والسلام ، إلا أن الآية عامة وما ذكرناه أليق بعمومها لأن آدم أول والد لنوع الإنسان ، وجواب القسم «لَقَدْ خَلَقْنَا» نحن خالق السموات والأرض «الْإِنْسانَ» جنسه وأهله وما تولد منه «فِي كَبَدٍ 4» شدة ومشقة وتعب وبلاء ومحنة ونصب ، لأنه كابد مصائب الدنيا وحمله وولادته ورضاعه وفطامه ، وفصاله ومعاشه في الدنيا ، وموته وقبره ، وحشره ونشره وحسابه يوم الجزاء على ما وقع كله كبد ، وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول عما هو فيه من أذى قومه ، وان الإنسان لا يخلو من مقامات الشدائد والمحن ، وما أنت يا محمد إلا إنسان ويجري عليك ما يجري عليه ، فلا تحزن ولا تجزع ، وعليك بالصبر والاحتساب إلى أن يأتيك بالنصر والفتح.
قال ابن عباس الكبد الاستقامة والاستواء أي خلقنا الإنسان منتصبا معتدلا لا كسائر الحيوان وليس بشيء في هذا المقام.
قال تعالى «أَ يَحْسَبُ» الإنسان لإنسان مخصوص ويشمل غيره ممن هو على شاكلته «أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ 5» بما يزعم من قوته (كلّا) نزلت هذه الآية في أسيد ابن كلدة بن جمح المكنّى بأبي الأشد من صناديد قريش الذي كان يضع الأديم العكاظي وهو أقوى أنواعه تحت رجله ويقول من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فلا(1/271)
ج 1 ، ص : 272
يطيق أحد أن يزيله عنه حتى يتقطع الأديم فلا يبقى إلا موضع قدمه ، وكان يكابد حضرة الرسول مفتخرا بقوته هذه ، وسياق الآية الأولى يدل على نزولها فيه لوجود لفظ كبد لأن الرسول يكابد من هذا الخبيث زيادة على ما كان من أذى قومه وكان ينتهك حرمته وحرمة البيت ويزداد فى تعنته عليه ، والتهديد في الآية موجه إليه خاصة والى من يفعل فعله عامة ، ولأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وهذا الخبيث من جملة من تولى كيد عداوة الرسول كالوليد بن المغيرة وعمرو بن عبد ود وأبي جهل والحارث بن عامر وأمية بن خلف والأخنس وكان ذلك الملعون المتعاظم بقوته على أضرابه المتفاخر على حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم «يقول» غير مبال بما بترتب على قوله من طعنه بحضرة الرسول «أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً 6» كثيرا متراكبا على بعضه في عداوة محمد ، ويتباهى على المؤمنين بذلك ، ولم يقل أنفقت قاتله اللّه لعدم الاكتراث به ولأنه لم يرج نفعه بل قال أهلكت وأذهبت وأضعت مالا جسيما في عداوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وكان يغري به السفهاء والعبيد ليتطاولوا على حضرة الرسول ويتجاوزوا عليه «أَ يَحْسَبُ» هذا الملعون «أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ 7» حينما كان يهدر ماله في سبيل إيذاء الرسول ، ألم يعلم أن اللّه يراه ويقدر على الانتقام منه في الدنيا ، وأنه سيسأله عنه في الآخرة مم اكتسبه وفيم أنفقه ، ثم شرع يعدد نعمه عليه التي يجب أن يشكرها ويؤمن بمن أنعم بها عليه ويحترم رسوله من أجلها لا أن يكفر ويجحد ويتعدى فقال «أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ 8» يبصر بهما «وَلِساناً» يتكلم به «وَشَفَتَيْنِ 9» يشد بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغيره فضلا عن أنهما زينة له «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 10» طريقي الخير والشر ، والحق والباطل ، والهدى والضلال ، بما منحناه من العقل الذي يميز به بين ذلك ويمتاز به
على غيره ، وقال ابن عباس هما الثديان لاهتداء الإنسان والحيوان لتناولهما دون تعليم حال خروجه من بطن أمه ، والأول أولى وهما داخلان في المعنى لأنهما من الخير الذي وهبه اللّه له في بداية خلقه ، والنجد المكان المرتفع ولذلك سميت نجد نجدا ، قال امرؤ القيس : (1/272)
ج 1 ، ص : 273
فريقان منهم جازع بطن نخلة وآخر منهم قاطع بطن كبكب
قال تعالى «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ 11» الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة بأن يرمي نفسه بالأمر الذي يريده بلا روية ولا تؤدة ، والعقبة الطريق الذي فيه صعود ، أي الا فعل الخير ولم يقصر في شكر نعم ربه ، ولم يتبع نفسه هواها بالأذى والإضرار والمباهاة «وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ 12» جاء السؤال هنا على طريق الاستفهام تعظيما لشأنها والجواب ، هي شيئان خفيفان على من وفق ، الأولى «فَكُّ رَقَبَةٍ 13» مملوكة بأن تعين في ثمنها ، أو تعتقها ابتغاء مرضاة اللّه ، والثانية «أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ 14» من أيام احتكار أو مجاعة شديدة عامة والأولى بالإطعام فيها أولا أن يطعم «يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ 15» لأنه أولى من غيره ففيه يجمع بين الصدقة والصلة وفيهما من الأجر ما فيهما والقربة مطلق القرابة في النسب ، قال الزجاج لا يقال فلان قرابتي لأن القرابة مصدر بل يقال ذو قرابتي ، وفيه قيل :
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور
أي بنيل إرثه والاستيلاء عليه «أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ 16» أي لاصق جنبه بالأرض لشدة فقره ولعدم من ينظر إليه من ذويه وغيرهم ، ولا شيء يقيه من التراب لأنه ينام على الأرض.
مطلب الحكمة الشرعية من الصدقات :
وأفضل الصدقة التي تكون على مثل هؤلاء ، أما الذين لهم شيء يعلم به المتصدّق فينبغي ألا يعطيه من فضله بل يصرفه على الأحوج ، هذا في الصدقة ، أما الهدية فهو بالخيار والحكم الشرعي هو أنه ينبغي على الرجل أن يعطي صدقته إلى الأحوج من أقربائه ثم من جيرانه ، ثم من أصدقائه ومعارفه وأن يختار الأتقى وقليل المسألة.
قال صلّى اللّه عليه وسلم اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم.
أي كما أن الرجل إذ أراد أن يتزوج يختار الأحسن تقى ونسبا إذ قال (عليك بذات الدين) لمن سأله ممن يتزوج ، لأن الفقير المتقي يستعين بما يأخذه على تقوى اللّه ، وأما الفاسق فقد يصرفها في المعصية.
«ثُمَّ كانَ» هذا الذي وفق لاقتحام العقبة وعمل الخير «مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وعملوا الصالحات» يفعلهم ذلك وسيلقى ثوابه عند ت (18)(1/273)
ج 1 ، ص : 274
ربه لأن الكافر يعطى جزاء أعماله الحسنة في الدنيا حتى لا يبقى له عند اللّه شيء يكافئه عليه في الآخرة «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» على فعل الطاعة وترك المعصية مع إيمانهم وعملهم الصالح «وَتَواصَوْا» وصّى بعضهم بعضا عند ما يجتمعون ويتفارقون «بِالْمَرْحَمَةِ 17» على عباد اللّه وسائر خلقه «أُولئِكَ» المتواصون والمار وصفهم هم «أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ 18» المباركون المعنيّون في الآية 100 من الإسراء الآتية الذين يعطون كتبهم بأيمانهم أو من جهة اليمين وهم السعداء (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس الآتية فهم الذين يكونون من جهة الشمال ويعطون كتبهم بشمالهم المعنيون بقوله عز قوله «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا» وماتوا على كفرهم «هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ 19» المتموتون المشئومون الذين «عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ 20» قدمنا ما يتعلق في تفسير هذه الجملة في تفسير الآية 8 من الهمزة المارة فراجعها هذا واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الطارق
عدد 36 - 86
نزلت بمكة بعد سورة البلد ، وهي سبع عشرة آية ، وإحدى وستون كلمة ، ومائتان وتسعة وثلاثون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى :
«وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ 1» أقسم جل قسمه بسمائه لأنها مسكن لملائكته الكرام ومعدن أرزاق الناس وغيرهم من خلقه.
قال تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية 22 من الذاريات في ج 2 والطارق هو النجم الذي يظهر ليلا ، وتنفصل منه الشهب للشياطين الذين يسترقون السمع فتستوحي منه الشياطين ما تقدمه للمنجمين فيعتمدونه في علومهم ، مما يخرجون الناس به من نور الإيمان إلى ظلمة الكفر ، والرجم هو التكلم بالظن ومنه الرجم بالغيب.
راجع الآية 5 من سورة تبارك ، والآية 18 من سورة الحجر في ج 2 ، وكل من أتاك ليلا فهو طارق ، ويطلق على العلو والرفعة قالت هند : نحن بنات طارق نمشي على النمارق.
تريد ان أباها نجم في علوه وشرفه.
وليعلم ان القسم بهذه الأشياء هو قسم بربها ، وعليه يكون المعنى ، ورب السماء(1/274)
ج 1 ، ص : 275
ورب الطارق ، ورب الشمس ، ورب القمر ، ورب التين ، وهكذا.
ثم نوه جلّ شأنه بعظم هذا النجم على سبيل الاستفهام الدال على التفخيم فقال «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان الكامل «مَا الطَّارِقُ 2» الذي أقسمنا به ، هو «النَّجْمُ الثَّاقِبُ 3» في إضاءته وإنارته المتوهج المتوقد الذي يتقد سناه في الظلام ، وسبب نزول هذه السورة هو ان أبا طالب جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم ذات ليلة ، فأتحفه بخبز ولبن ، فبينما هو يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم نارا ففزع أبو طالب وقال أي شيء هذا ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم هذا نجم رمى به وهو آية من آيات اللّه فعجب أبو طالب ونزلت ، وجواب القسم «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ 4» من ربها موكل بحفظها من الآفات ويحفظ عليها عملها ويحصيه ويهيء لها رزقها إلى بلوغ أجلها ، وإن في صدر الآية نافية بمعنى إلا أي ما كل نفس الا عليها حافظ وقرنت لما بالتخفيف وعليه تكون ان مخففة من الثقيلة ، واللام في لما اللام الفارقة بين ان النافية وان المخففة من الثقيلة ، وما للتأكيد وعليه يكون المعنى أن كل نفس لعليها حافظ ، وكلاهما جائز ، والأول أحسن وأبلغ وعليها المصاحف.
قال تعالى «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ» الذي يرى نفسه كبيرا ويتعظم بقوته على غيره ، وفي هذه الآية إشارة إلى أبي الأشد المار ذكره في السورة السابقة ، وهذا من جملة المناسبات التي قد تأتي بين السور ، وهكذا قد يكون بين كل سورة والتي تليها مناسبة على ترتيب النزول ، وقد يكون أيضا على ترتيب المصاحف ، أي فليتفكر ذلك الإنسان المعجب بقوته «مِمَّ خُلِقَ 5» أخفى مادة خلقه لكونها لا شيء ، ثم صرح بها بقوله «خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ 6» الدفق صب مع دفع أي مصبوب بشدة في الرحم لعظم ما ينتج عنه من هذا الإنسان المنطوي على كمالات لا تعد ولا تحصى ثم بيّن منبع ذلك الماء بقوله «يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ» من الرجل و«التَّرائِبِ 7» من المرأة وإنما خصّ هذين الموضعين وهو في الأصل يخرج من جميع الأعضاء لأن أكثره من الدماغ فينصب في عروق الظهر من الرجل ، وينزل من عروق كثيرة من مقدم المرأة ، فيما بين الثديين.
ولهذا قال من بين الصلب وهو عظام الظهر : (وليراجع في(1/275)
ج 1 ، ص : 276
هذا الموضوع بحث طبي في مجلة التمدن الإسلامي الدمشقية ص 655 من المجلد 21 عام 1374) والترائب وهي عظام الصدر والنحر ومركز الثديين ، ومفرده تريب ، قال المثقب العبيدي :
ومن ذهب يبين على تريب كلون العاج ليس بذي غصون
وقال امرؤ القيس :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسّجنجل
أي فمن كان أصله من هكذا شيء مهين ، لا يليق به أن يتفاخر ويتباهى ويتطاول ، وليعلم أن الذي خلقه مما علم وأماته بانقضاء أجله في الدنيا «إِنَّهُ» ولا شك «عَلى رَجْعِهِ» إحيائه مرة أخرى وإعادته بعد موته كما كان في الدنيا «لَقادِرٌ 8» حقا حقا واعلموا أيها الناس أن هذا الإحياء له أجل عند اللّه الحاكم العدل «يَوْمَ تُبْلَى» تختبر «السَّرائِرُ 9» مكامن القلوب ومخابيها من العقائد والنيات السيئة وهو يوم القيامة يوم تظهر فيه خبايا الناس وتتكشف ضمائرها على ملأ الأشهاد ليعرف من أدى حقوق اللّه ممن ضيعها ، ويتميز الأمين منها عليها من الخائن المقصر فيها ، وفي ذلك اليوم العصيب يستسلم العبد لربه «فَما لَهُ» فيه «مِنْ قُوَّةٍ» يمتنع بها من عذاب اللّه كأبي الأشد وأضرابه المذكورين في الآية 4 من سورة البلد المارة «وَلا ناصِرٍ 10» ينصره من قريب أو حميم ويتباعد عنه أقاربه (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) الآية 35 من سورة عبس المارة ،
ثم أقسم جل قسمه فقال «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ 11» أي التي ترجع في كل دورة إلى الوضع التي تتحرك منه ، أو المطر لأنه من أسمائه حيث يجيء ويرجع قالت الخنساء :
يوم الوداع دموعها جارية كالرجع في المدجنة السارية
أو أنها ترجع إلى ما كانت عليه قبل الفتق قال تعالى (أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الآية 30 من سورة الأنبياء في ج 20 «وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ 12» المتصدعة بالأشجار والأنهار المنشققة بالنّبات والمعادن التي كانت كتلة واحدة مع السماء فانشقت عنها بأمر اللّه القادر فرفع(1/276)
ج 1 ، ص : 277
السماء وأهبط الأرض وهو على كل شيء قدير وجواب القسم «إِنَّهُ» أي هذا القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل «لَقَوْلٌ فَصْلٌ 13» جزم قاطع بين الحق والباطل وصل بين الهدى والضلال «وَما هُوَ» كما يقول كذبة قومك وغيرهم «بِالْهَزْلِ 14» بل حق جد وحق جزم يترفّع قارئه عليكم ان يلم بهزل أو يتفكه بمزاح أو يتهم بتعليم أو نقل.
وقد بلغ الغاية القصوى في الصدق والأمانة فمن شأنه أن يهتدي به الغواة وتخضع لهيبته رقاب العتاة ليس بلعب ولا باطل ولا سحر ولا كهانة ولا خرافة وإذا كان قومك لم يزالوا يتمارون بتقولاتهم وترهاتهم تلك ، فدعهم يا حبيبي ولا تبال بهم ولا يهمك أمرهم وما يريدونه بك «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ» ويحيكون لك «كَيْداً 15» حقدا ويدبرون لك حيلة تافهة يسيرة ليمكروا بك «وَأَكِيدُ» أنا الملك الجبار قاهر الأكاسرة ومبيد الأمم «كَيْداً 16» عظيما لا يقدر قدره البشر جزاء كيدهم بك فأستدرجهم لهوة هلاكهم منحيث لا يعلمون ، فأنتقم منهم في الدنيا بالقتل والأسر والذلة والحقار والجلاء وبالآخرة بعذاب لا تطيقه أجسامهم ، وإذا كان كذلك وهو واقع لا محالة «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ» أنظرهم وافسح لهم المجال ولا تستعجل بالدعاء عليهم ودعهم يطيلون أملهم ليزدادوا غرورا وتطاولا في البغي والغي والطغيان.
ولمّا كان الإمهال يكون كبيرا بعيدا أو قليلا قريبا نبه عليه بقوله «أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً 17» شيئا يسيرا ومدة جزئية ، فالعذاب آتيهم لا محالة وفيها تهديد عظيم ووعيد بالغ وقد أخذهم اللّه بعد نزول آية السيف وأمره بقتالهم ، ثم فتح اللّه عليه بلدهم عنوة ومكنه منهم حتى صاروا كلهم من طلقائه وهذه الآية من الإخبار بالغيب المنوه به مما تأخر حكمه عن نزوله ، راجع سورة الكوثر المارة وما نرشدك اليه ، لأن فيها الماعا لاجتماعهم في دار الندوة وتشاورهم في أمر إهلاكه أهلكهم اللّه ، كما سيأتي تفصيله في بحث الهجرة في سورة العنكبوت في ج 2.
هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في اللفظ ولم تكرر في القرآن أيضا ، هذا واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا(1/277)
ج 1 ، ص : 278
ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة القمر
عدد 37 - 54
نزلت بمكة بعد طارق ، عدا الآيات 44 و45 و46 فانها نزلت بالمدينة ، وهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة ، والف وأربعمائة وثلاثة عشر حرفا ، وتسمى سورة اقتربت ويوجد سورة الأنباء مبدوءة بلفظ اقترب ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به في القرآن.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «اقْتَرَبَتِ» وفي وقت «السَّاعَةُ» القيامة «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ 1» انشقاقا حقيقيا علامة على قربها ومعجزة لرسول اللّه ، والسبب في نزول هذه الآية ، أن قريشا سألت رسول اللّه أن يريهم آية دالة على صدقه في ادعاء النبوة ، لأنهم لم يعتبروا بما نزل في القرآن الذي هو أعظم آية وأدومها ولم يكتفوا به فأراهم انشقاق القمر مرتين ، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس وزاد الترمذي : فنزلت هذه السورة أي عدا الآيات المدنيات.
وقوله مرتين قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقا ، فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير.
وفيه إشارة إلى أنها رؤية لا شبهة فيها.
وقد فعل نحوه الكفرة لأنهم لما رأوه مسحوا أبصارهم ثم أعادوا النظر فلما رأوه لم يتغير قالوا ما هذا إلا سحر فلو قال أحد هؤلاء رأيته ثلاث مرات أو أكثر صح بلا غبار.
قال الأبوصيري رحمه اللّه :
شق عن صدره وشق له البدر ومن شرط كل شرط جزاء
مطلب معجزة انشقاق القمر :
فتعدد الرؤية لا يقتضي تعدد الانشقاق إذ لم يقل به أحد ، وأخرجا عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول اللّه شقتين فقال صلّى اللّه عليه وسلم اشهدوا : وفي رواية قال : بينما نحن مع رسول اللّه إذ انفلق القمر فلقتين ، فلقة فوق الجبل وفلقة أدناه فقال لنا صلّى اللّه عليه وسلم اشهدوا.
ولا يعارض هذا ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة(1/278)
ج 1 ، ص : 279
لأنه لم يصرح بأنه كان ليلتئذ بمكة فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلّى اللّه عليه وسلم مقيم بمكة أي قبل الهجرة.
ولهما عن ابن عباس قال : إن القمر انشق في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
وروى مسلم عن ابن عمر قال : انشق القمر على عهد رسول اللّه فلقتين فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : اشهدوا.
وعن جبير بن مطعم قال : انشق القمر على عهد رسول اللّه فصار فلقتين فقالت قريش سحر محمد أعيننا فقال بعضهم لئن كان سحرنا أما يستطيع أن يسحر الناس كلهم ؟ أخرجه الترمذي ، وزاد غيره : فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم.
وروى مسروق عن عبد اللّه بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول اللّه فقالت قريش سحركم ابن أبي كبشة فسألوا السفارة فقالوا نعم رأيناه.
وقال مقاتل انشق ثم التأم.
فهذه الأحاديث مصدق بعضها لبعض وكلها صحاح ، قد وردت في هذه المعجزة العظيمة مع شهادة القرآن بها الذي هو أول دليل وأقوى شاهد مثبت لوقوعها ، ولا يشكّ فيها مؤمن ، وقد أخبر بها الصادق المصدوق ، وناهيك باخباره من برهان ، فيجب الاعتقاد بوقوعه والإيمان به ، وذلك في السنة السادسة من البعثة ولا يقدح في صحة الحديثين المرويين عن ابن عباس وأنس كونهما لم يولدا إذ ذاك لأنهما ثقتان ولا ينقلان إلا عن ثقة كما هو المشهور عنهما وأنهما لم يقولا رأيناه انشق ليقدح في رؤيتهما وإنما يخبران عن الانشقاق الذي بلغهم عن رسول اللّه وهما أصدق صادق فيما يخبران به ، ولا يقال لو كان لما خفي على أهل الأقطار الأخر ولو رأوه لنقلوه متواترا لأن الطباع جبلت على نشر العجائب ، إذ يجوز ان اللّه حجبه عنهم بغيم أو نحوه ولا سيما أنه وقع ليلا حال غفلة الناس لقلة من يتفكر في ملكوت السموات ، وكثيرا ما يخسف القمر وتكسف الشمس ويحدث في السماء ليلا من العجائب والبدائع والأنوار والطوالع والشهب العظام ، ولا يتحدث بها إلا آحاد الناس لغفلة الآخرين عنها ، ولأنها قد تكون في موضع آخر ، وكثيرا ما نقرأ الآن في الصحف على سبيل التواتر أن الشمس كسفت في محل كذا والقمر خسف في مكان كذا ، ولم نر شيئا من ذلك في بلادنا ، تأمل على أن الركبان(1/279)
ج 1 ، ص : 280
والمسافرين الذين قدموا مكة وخرجوا منها إذ ذاك أخبروا بوقوع ذلك كما ثبت بالأحاديث الصحيحة التي درجت آنفا وغيرها مما لم يدرج كثير ، ويجوز أن يكون القمر في مجرى ومنزلة يظهر فيه لبعض الأماكن دون بعض كما يكون ظاهرا عند قوم غائبا عند آخرين ، هذا ولم ينكر هذه المعجزة المشهورة المشهودة الا المبتدعة والملاحدة الذين أعمى اللّه أبصارهم كما أعمى بصائرهم وطبع على قلوبهم ولا صحة لهم بعدم معقوليتها لأن العقل يجوزها ، إذ أن القمر مخلوق للّه يفعل به خالقه ما يشاء ، فكما أنه يسلب نوره ويفنيه ويكوره في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة ، يفلقه في الدنيا معجزة لنبيه على أن المعجزات هي نفسها خوارق للعادات يظهرها اللّه على أيدي رسله لإيمان البشر وهي فوق العقل ، فهل إحياء الموتى وجعل الطين طيرا معقول وإبراء الأكمه والأبرص دون عقاقير يقبله العقل ، فان إنكار ذلك يؤدي لإنكار هذا الذي يؤدي إنكاره إلى الكفر والعياذ باللّه ومثل انشقاق القمر وكسوف الشمس الثابت بالأحاديث الصحيحة بدعوته صلّى اللّه عليه وسلم عليه لعلي كرم اللّه وجهه حتى صلّى العصر حيث قال صلّى اللّه عليه وسلم اللهم انه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد له الشمس فردت وصلّى الوقت فيها.
وهذا ثابت بالتواتر ، واختار العلامة ابن السبكي أن الأحاديث صحيحة ومتواترة كما جاء في شرح الواقف الشريفي في شرحه مختصر ابن الحاجب قال : الصحيح عندي الانشقاق وأنه متواتر ومنصوص عليه في القرآن ومروى في الصحيحين وغيرهما وقد جاء اخبار اللّه بلفظ الماضي لأن السورة نزلت بعد إظهار هذه المعجزة تحقيقا لوقوعها ومن قال إن الفعل بمعنى المضارع فقد أخطأ لإجماع المفسرين على خلافه ولأنه شاذ لا يصح ، باطل لا يثبت ، لان حمل الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله أو دليل يدل عليه كما في قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أول سورة النحل في ج 2 فان جملة فلا تستعجلوه أدت إلى نقله إلى المستقبل وهنا لا شيء من ذلك فتصور ذلك هنا بعيد عن الحقيقة وهو من قول المبتدعة والملحدين حتى ان حذيفة قرأ وقد انشق أي افتريت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق(1/280)
ج 1 ، ص : 281
وذلك تحقيقا لما ثبت عنده من أمر الانشقاق ، جعل الجملة حالية تقتضى المقارنة بزيادة قد التحقيق بقراءته من حيث لا وجود لها في القرآن تفسيرا منه لإثبات الانشقاق ، هذا وإن ما احتج به المنكر من استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ولأن خرقها يوجب صوتا هائلا يهلك أكثر أهل الأرض ولذهاب قوة التجاذب يلزم بقاؤه منشقا كالجبل إذا انشق مردود أيضا ، لإن إرادة الله
كافية في الانشاق وفي كل المعجزات الخارقة للعادة ، ولو اشترط لكل حادث سبب لزم التسلسل ، وقد قامت الأدلة على بطلانه ، وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع أيضا فيما نحن فيه ، وكذلك التجاذب لأن الأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتخاذ جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها تعاسر مثلا جذبته اليه إذا لم يخرج عن حد جذبتها على زعمهم.
ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حد الجذب.
على أننا في غنى عن ذلك كله بعد اثبات الإمكان وشمول قدرة القادر عز وجل ، وانكار هذا بحجة الخرق والالتئام تستوجب إنكار المعراج أيضا ، تدبر ما يحوكه هؤلاء الفسقة المارقون ، وأعلم أن غاية الحجة استبعاد هذا الأمر بدون دليل على الاستحالة الذاتية واستبعاد الخوارق جنون قد يؤدي إلى الكفر ، إذ لا مجال للعقل فيها أما إنكار الانشقاق نفسه من حيث الكيفية والكمية فلا يكفر فيه لامكان التأويل في الآية فقط فظهر من هذا أنه لا مانع عقلا ولا حسا من أن اللّه تعالى خلق السرعة في الانشقاق والالتئام بمقدار ما رآه الناس وأمعنوا نظرهم فيه للتأكيد عن صحته مرتين أو أكثر أما ما قاله الحكماء من أن بين الشمس والأرض ثلاثمائة الف فرسخ وأربعين الف فرسخ وأن ضوء الشمس يصل إلى الأرض في ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية ، وأن الضوء يقطع في كل ثانية سبعين الف فرسخ ، ويستبعدون الانشقاق لهذا السبب ، فيقال لهم : أن الذي خلق هذه السرعة في الشمس والضوء ألا يخلقها في الإنشقاق وهو الفعال لما يريد ، وهل من مانع يمنعه من ذلك وهو على كل شيء قدير ولا شيء عليه بعزيز.
هذا والمراد باقتراب الساعة المنوه به في(1/281)
ج 1 ، ص : 282
الآية القرب الزماني ، وكل آت قريب ، وإن ما بقي من الدنيا نسبة لما مضى منها يسير جدا لا يقدر أن يعارض به أحد وهو أمر مقطوع به ، واستعمال القرب في الآية كاستعمال لعل في قوله تعالى (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) الآية 63 من الأحزاب في ج 3 وأن الأمر معلوم عند اللّه وانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب.
هذا وقد ذكرت الصحف الأجنبية مقالة عربتها جريدة الإنسان التي كانت بالأستانه حاصلها أنه عثر في ممالك الصين على بناء قديم مكتوب عليه أنه بني عام كذا أي الذي وقع فيه حادث سماوي عظيم ، وهو انشقاق القمر نصفين.
وقد حرر الحساب فوجد موافقا سنة انشقاقه لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
فينبغي لمن فيه مسكة من عقل ألا يرتاب في شيء مما جاءت به الشريعة الإسلامية.
وقد نقل هذا على ورقة التقويم العربي الهاشمي حمزة فتح اللّه في 11 جمادى الأولى سنة 1348 الموافق 13 تشرين الأول سنة 1929 قال تعالى : «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً» من آيات اللّه الباهرة الدالة على صدق محمد الصادق الأمين «يُعْرِضُوا» هؤلاء الكفرة عنها ويولوها أدبارهم «وَيَقُولُوا» هذه «سِحْرٌ» سحرنا به محمد وقد قالوا ذلك فيما تقدم من آياته الظاهرة حتى انهم قالوه في هذه الآية بأنها سحر «مُسْتَمِرٌّ 2» مطرد دائم يأتينا بمثله ، وأنه وإن كان استمر وجود هذه الآية بضعة من الزمن فإنها ذاهبة لا تبقى فلا تصدقوا به ، وفي تنوين (آية) دلالة على أنهم ينكرون كل الآيات لأن النكرة إذا نونت عمت فتشمل كثيرا من نوعها هذا وما ذكره بعض القصاص من أن القمر حينما انشق دخلت فلقة منه جيب رسول اللّه وخرجت من كمه وفلقة كللت رأسه صلّى اللّه عليه وسلم باطل لا أصل له ، إلا أنه شاع أن حضرة الرسول لما طلب منه بعض كفار قريش ، العاص بن هشام ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن عبد المطلب ، وربيعة بن الأسود ، والنضر بن الحارث ، واضرابهم المار ذكرهم في الآية 5 من سورة القيامة المارة أن يظهر لهم آية ليؤمنوا ، وكانت ليلة بدر فسأل ربه وأشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق وبقي لحظات ثم التأم «وَكَذَّبُوا» بعد إظهار هذه الآية الباهرة «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» التي زينها لهم الشيطان ولم يصدقوا(1/282)
ج 1 ، ص : 283
بها وقالوا سحر مستمر ولكنه زائل مهما بقي «وَكُلُّ أَمْرٍ» يأتي به الرسول لا يكون سحرا وإنما هو حق ثابت «مُسْتَقِرٌّ 3» لا يتغير ولا يتبدل ويتبين أنه حق وهذه جملة مستأنفة مسوقة للرد على الكفار بمقابلة قولهم سحر مستمر ، وإنما قالوا مستمر
،
لأن السحر لا يدوم وهو كذلك ولكنهم لما رأوا آيات الرسول متتابعة قالوا إن ما يأتي به سحر ولكنه مستمر «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ» أخبار الأمم الماضية التي قصها عليهم والمعجزات التي أظهرها على أيدي رسلهم من غير آيات محمد «ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ 4» منتهى الاتعاظ لو كانوا يؤمنون بمحمد وما أنزل عليه ولكنهم لم يتعظوا وأصل مزدجر مزتجر أبدلت التاء دالا لأنها حرف مهموس والزاي حرف مجهور فأبدل التاء المهموس بالدال المجهور ليتناسبا ، وهكذا كل تاء من هذا القبيل ومعناه الزجر والمنع.
واعلم أن هذا القرآن وحده «حِكْمَةٌ بالِغَةٌ» واصلة حد الإحكام في الوعظ فاذا لم ينتهوا به «فَما تُغْنِ النُّذُرُ 5» أي الأنبياء والرسل بعد القرآن «فَتَوَلَّ» يا سيد الرسل «عَنْهُمْ» فانهم لم ينتفعوا بوعظك وإرشادك لأنهم بعد اعراضهم عن إنذار اللّه لا يغنيهم إنذارك شيئا فاتركهم واذكر لهم «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ» إسرافيل عليه السلام ويناديهم ببوقه في النفخة الثانية من قبورهم يقول لهم هلموا «إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ 6» فظيع هائل ينكرونه لعدم رؤيتهم مثله قبل وما قيل ان هذه الآية منسوخة لا قيمة له لأنه لم يؤمر بعد بقتالهم بل بإرشادهم تدريجا لأن الحكمة الإلهية اقتضت إنزال الشرائع تدريجا أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وإرشادا وانذارا وتبشيرا وتهديدا ، وهكذا من المقدمات التي اقتضتها الحكمة الإلهية ليتعظ من يتعظ ، وتحق الكلمة على المصر ، وتظهر الحكمة فيمن يؤمن فيقومون من مدافنهم «خُشَّعاً» منصوب بالفعل بعده وفيه معنى الحال «أَبْصارُهُمْ» ذليلة خاضعة خائفة حين «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» القبور وما شابهها من مكامنهم وخص الأبصار مع أن كل الأعضاء ترجف وتختلج من شدة الهول ، لانها علامة على الحزن والذلة للأشقياء ، والفرح والعزة للسعداء ، قال : (1/283)
ج 1 ، ص : 284
والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها
فتظهر الكآبة على وجه الفاسق ، والصباحة على وجه الطائع لأول وهلة «كَأَنَّهُمْ» في الكثرة «جَرادٌ مُنْتَشِرٌ 7» يموج بعضهم في بعض حيارى لا يعرفون أين يتوجهون وشبههم بالجراد لانه يركب بعضه بعضا عند سيره لكثرته وتفرقه في كل جهة حالة كونهم «مُهْطِعِينَ» مسرعين خائفين لا ينظرون إلا «إِلَى الدَّاعِ» أي لجهة صوته مادّين أعناقهم شاخصين بأبصارهم مهرولين نحوه وإذ ذاك «يَقُولُ الْكافِرُونَ» بعضهم لبعض «هذا يَوْمٌ عَسِرٌ 8» شديد الصعوبة وفي تخصيص الكافرين بشارة على أن المؤمنين يكون عليهم سهلا يسرا راجع تفسير الآيتين 25 - 26 من سورة الفرقان والآية 10 من سورة طه الآتيتين ، واعلم يا أكمل الرسل أن قومك لم يبتدعوا التكذيب حيث «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا» نوحا عليه السلام وكرره لأنه عاش فيهم مالم يعشه نبي في قومه بالدعوة وعدم الإيمان وكلما كذب أهل قرن تبعه القرن الآخر ، إذ كانوا يتواصون أي أن كل جيل يوصي من بعده بعدم اتباعه وتصديقه ويقولون لهم إنه ساحر كذاب قاتلهم اللّه «وَقالُوا» له مثل ما قال لك قومك «مَجْنُونٌ» ولم يقتصروا على تكذيبه ، بل إنهم منعوه عن أداء الرسالة التي كلفه ربه أداءها ، بدليل قوله «وَازْدُجِرَ 9» أي منع وهدد بالقتل عدا السب والشتم الذي فعلوا مثله بك وازدجر مثل مزدجر فعل به ما فعل به ، ولما ضاق بالسيد نوح الحال وتأكد عدم ايمانهم زهد فيهم ورفع يديه «فَدَعا رَبَّهُ» وقال في دعائه يا رب «أَنِّي مَغْلُوبٌ» على أمري الذي أمرتني به من جهة قومي ولا قدرة لي عليهم «فَانْتَصِرْ 10» لي بنصرك الذي وعدتنيه وانتقم لي منهم وذلك بعد إياسه من قبول دعوته وايحاء اللّه له بعدم إيمانهم ، راجع الآية 36 من سورة هود ج 2 ، فأجاب دعاءه قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية 110 من سورة يوسف في ج 2 ،
ثم بين كيفية نصره له بقوله «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ 11» متدفق بشدة انصبابه وعظمة نبعه(1/284)
ج 1 ، ص : 285
وكثرة هطوله المنبئ عنه قوله تعالى «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً» شققناها عن عيون جارية «فَالْتَقَى الْماءُ» النازل من السماء مع النابع من الأرض «عَلى أَمْرٍ» حال ووقت «قَدْ قُدِرَ 12» زمانا ومكانا ، حسبما هو مقدر في علم اللّه وقوعه عليهم بهذه الصورة المقدرة على عدم ايمانهم بأن يخالفوا رسولهم ويموتوا غرقا ، فقضى عليهم قضاء مبرما لا مرد له فأهلكوا جميعا غيره ومن آمن به لقوله جل قوله «وَحَمَلْناهُ» أي نوحا وأهله المؤمنين ومن آمن به لأنهم تبع له «عَلى ذاتِ أَلْواحٍ» من الخشب «وَدُسُرٍ 13» مسامير «تَجْرِي» بهم تلك السفينة التي أمرنا بصنعها الموصوفة بصفة تقوم مقامها ونعت ينوب منابها ، وهو جائز إذا لم يفصل بينها وبين صفتها فاصل كما هنا ، وهو ومن فصيح الكلام وبديعه كما تقول حيّ مستقيم القامة عريض الأظفار كناية عن الإنسان ، ومنه قوله :
مفرشي صهوة الحصان ولكنّ قميصي مسرودة من حديد
أي أنه درع ، وقد يكون من باب حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه حسب القواعد النحوية أي سفينة ذات ألواح ودسر ، وهو جائز فيما هو معلوم كهذه وجريانها ذلك «بِأَعْيُنِنا» ومرأى منا بحفظنا ورعايتنا ، وكان هلاكهم بهذه الكيفية «جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ 14» به وهو نوح عليه السلام لأنه كان نعمة لهم فكفروا به ، وهكذا كل نبي فإنه يرسل نعمة لقومه لينقذهم من الهلاك ، قال تعالى :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً) الآية 28 من سورة إبراهيم في ج 2 ، قال تعالى «وَلَقَدْ تَرَكْناها» أي تلك السفينة وأبقيناها «آيَةً» دالة على قدرتنا ليعتبر بها من رآها ومن يأت بعدهم «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 15» متعظ بها فيعتبر وعود الضمير هنا للسفينة على ما جرينا عليه لسبق ذكرها أولى من عوده إلى الواقعة أي الحادثة نفسها ، وهي الفعلة التي فعلها اللّه بهم وأبقى ذكرها مستمرا تتناقله الأجيال وتذكره الكتب القديمة والحديثة بأن أبقاها بأرض الجزيرة حتى رآها أوائل هذه الأمة ، وحتى الآن يشار إلى موضعها فيها.
وأصل مدكر مذدكر ، أبدلت الدال والتاء دالين وأدغمتا في بعضها ، وهكذا كل كلمة من باب افتعل يفعل بها(1/285)
ج 1 ، ص : 286
هكذا ، قال تعالى «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ 16» بحق المنكرين المكذبين وهذا الاستفهام تعظيم وتعجب أي أنهما كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف وستأتي القصة مفصلة في الآية 25 من سورة هود في ج 2 ، «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ» سهلناه لقومك يا محمد بأن جعلناه بلغتهم وشحناه بأنواع المواعظ والعبر والأمثال ، وكررنا فيه الوعد والوعيد والقصص والأخبار «لِلذِّكْرِ» التذكر به «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 17» متعظ يعتبر به ، وهذه جملة قسم كررها اللّه في آخر هذه القصة والقصص الثلاث الآتية تقريرا لمضمونها وتنبيها على أن كل منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار ، وفيها حث على تعليم القرآن ولزوم العمل به لأن اللّه يسره للكبير والصغير والعربي والعجمي ، ولما انتهى من ذكر قصة نوح مع قومه ذكر قصة أخرى فقال «كَذَّبَتْ عادٌ» نبيهم هودا عليه السلام «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ 18» في هؤلاء المكذبين الآخرين وكيفية عذابهم الفظيع بعد أن وعظناهم ونصحناهم بواسطة رسلنا ولم يؤمنوا «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً» شديدة الهبوب باردة ذات حول هائل «فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ 19» دائم الشؤم وهو مطلق الزمن لقوله تعالى في الآية 16 من سورة فصلت «فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ» وقال جل شأنه في الآية 7 من سورة الحاقة من ج 29.
(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً)
مطلب في أربعاء صفر وعيادة المريض.
قيل كان وقوع هذا الريح يوم الأربعاء من آخر شهر صفر قال ابن عباس آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ به كثير من الناس وتطيروا منه حتى أنهم تركوا السعي فيه ونسبو لعلي كرم اللّه وجهه أنه قال :
وآخر أربعا في الشهر ترك .........
ولكن ابن عباس وسيدنا علي على فرض صحة ما نسب إليهما لم يعيناه في صفر ولكن الناس خصوه فيه ، وحتى الآن تراهم يتركون أعمالهم ويخرجون إلى النزهات ويعملون فيه أعمالا واهية كتكسير الجرار والسبح في الماء وغيرها من الترهات(1/286)
ج 1 ، ص : 287
مع أنه لم يثبت فيها شيء صحيح يركن اليه ، وجزم ابن الجوزي بوضع ما روي عن ابن عباس ، وقال ابن رجب لا يصح ورفعه غير متفق عليه.
وقال السخاوي طرقه كلها واهية وما جاء في الفردوس عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها لو لا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء إلخ غير معلوم الصحة.
وما أخرجه ابن يعلى عن ابن عباس يوم السبت يوم مكر وخديعة ، ويوم الأحد يوم غرس وبناء ، ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق ، ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس ، ويوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء ، ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلطان ، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح قد ضعفه السخاوي ، وضعفوا أيضا خبر الطبراني وهو يوم الأربعاء يوم نحس مستمر ، إذ جاء في الأخبار ما يشعر بمدحه فقد جاء في منهاج الحليمي وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء وذكر برهان الإسلام في شرح تعليم المتعلم نقلا عن صاحب الهداية (ما بدأ شيء يوم الأربعاء إلا وتم) ، ولذلك فإن بعض المشايخ يبدأون تدريس طلبتهم فيه وروى عن جابر مرفوعا في غرس الأشجار يوم الأربعاء ، وقال سبحان الباعث الوارث آتته أكلها ، وهناك أخبار أخر منها ما رواه ابن ماجه ، وخرجه الحاكم عن ابن عمرو مرفوعا أيضا لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء ومنها ما يفيد النهي عن قص الأظفار فيه وانه يورث البرص وكرّه بعضهم عيادة المريض فيه وفيه يقال :
لم يؤت في الأربعاء مريض إلا دفناه في الخميس
ولهذا فإن أهالي دمشق يتورعون عن عيادة المريض فيه وقد يغضب أهل المريض إذا وقع هذا ممن لا يعرفه ويولولون عند دخوله ، لهذا ينبغي التحاشي عن عيادة المريض يوم الأربعاء لمن يعتقد ذلك لما فيه من إلقاء الرعب على أهل المريض والمريض أيضا لأن العائد لم يقصد بعيادته إلا الأجر وسرور المريض واهله ، فإذا علم أن ذلك على العكس كان عليه التباعد عنه ، حكي أن رجلا قال لأخيه أخرج في حاجة فقال إنه في يوم الأربعاء ، فقال له : ولد فيه يونس عليه السلام ، قال قد بانت بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه اللّه.
فقال(1/287)
ج 1 ، ص : 288
فيه ولد يوسف عليه السلام ، قال ما أحسن ما فعل به إخوته حتى طال حبسه وغربته ، فقال فيه نصر المصطفى ، قال بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر هذا وقد نسب الحافظ الوميطي لعلي كرم اللّه وجهه هذه الأبيات :
فنعم اليوم يوم السبت حقا لعيد إن أردت بلا امتراء
وفي الأحد البناء لأن فيه تبدى اللّه في خلق السماء
وفي الإثنين إن سافرت فيه سترجع بالنجاح وبالثراء
ومن يرد الحجامة فالثلاثا ففي ساعاته هرق الدماء
وإن شرب امرؤ يوما دواء فنعم اليوم يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس قضاء حاج فإن اللّه يأذن بالقضاء
وهذا العلم لا يرويه إلا نبيّ أو وصيّ الأنبياء
قال الآلوسي لا أظنها تصح عنه ، وإن الأيام كلها لا تنفع ولا تضر بذاتها ومن تطيّر بها حاقت به نحوستها ، ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا اللّه لم يؤثر فيه شيء ، وعلى فرض صحة بعض الأخبار من حضرة الرسول من نحوسة آخر أربعا في الشهر من باب النظير ضرورة أنه ليس من الدين بل من فعل الجاهلية ، ولا يبني على قول المخمنين أنه يوم عطارد وهو نحس مع النحوس سعد مع السعود فإنه قول باطل أيضا ، ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير عن مثل ذلك اليوم الذي نزل فيه العذاب ووقع فيه الهلاك أي احذروه وجددوا التوبة فيه خشية أن يلحقكم بؤس كما وقع فيمن قبلكم ، وهذا كما قال صلّى اللّه عليه وسلم حينما أتى الحجر : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين.
وهكذا ينبغي أن لا يقف أحد في كل موضع وقع فيه عذاب اللّه على بعض خلقه ويتحاشى المرور فيه إلا لقصد الاعتبار وجاءت آثار في غير الأربعاء لم تصح أيضا ، منها نعوذ باللّه من يوم الأحد فإن له حدا أحد من السيف ، ولو فرض صحته فهو في يوم مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه.
ومنها ما جاء في الفردوس من حديث ابن مسعود : خلق اللّه الأمراض يوم الثلاثاء ، وفيه أنزل إبليس إلى الأرض ، وفيه(1/288)
ج 1 ، ص : 289
خلق اللّه جهنم ، وفيه سلط ملك الموت على أرواح بني آدم ، وفيه قتل قابيل هابيل ، وفيه توفي موسى وهارون ، وفيه ابتلي أيوب.
وهذا ان صح لا يدل على نحو سعة ، وغاية ما فيه أنه وقع فيه ما وقع ، وجاء في رواية مسلم (خلف المنفق) أي ما يقوم به المعاش.
يوم الثلاثاء هذا واللّه أعلم أنه لا اختصاص ليوم أو ساعة بالنحس والسعد فما من يوم أو ساعة إلا وهما على أناس سعد ونحس على آخرين ، باعتبار ما يحدث اللّه تعالى فيهما على خلقه من نعم ونقم.
وإذا تتبعت التواريخ وجدت في كل يوم حوادث عظيمة ، وناهيك حادثة عاد فإنها استغرقت الأسبوع كله ، فإذا كانت النحوسة لذلك فلم يخل يوم منها فعلى العاقل أن لا يتقيد بشيء من ذلك ويتوكل على اللّه ، وليعلم أنه لا دخل للأوقات بما يوقعه اللّه فيها ، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك ، نعم جاء لبعض الأوقات فضل لا ينكر كيوم الجمعة والساعة فيه للإجابة ويوم عرفة وشهر رمضان وليلة القدر وليلتي العيدين ، وليلة البراءة ، والعاشر من المحرم ، ولبعضها ذم كالأوقات التي تكره فيها الصلاة والمحال التي وقع فيها العذاب على الكافرين ولأيام التي كان الهلاك فيها بخصوصها لا مثلها ، فقد ثبت أن العنكبوت عشش على الغار الذي دخله محمد صلّى اللّه عليه وسلم وأبو بكر ، فهذا بخصوصه ممدوح أما غيره فلا ، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام اقتلوا العنكبوت فإنه شيطان.
وقس على هذا قال تعالى في وصف تلك الريح «تَنْزِعُ النَّاسَ» تقلعهم من محالهم فتدق رقابهم بالأرض فتصيرهم «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ» أي أصولها من غير فروعها «مُنْقَعِرٍ 20» منقلع من مغارسه ساقط على الأرض ، أي كل واحد من قوم عاد صار كجذع نخل خاو لا حراك به وإنما شبههم بالنخل لطول قامتهم وعظم أجسادهم
«فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ 21» فانظروا أيها الناس وتفكروا فيه واستعيذوا من مثله باللّه وتعجبوا منه «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 22» يتذكر به ويتدبر عاقبة أمره ثم بدأ يذكر القصة الثالثة فقال : «كَذَّبَتْ ثَمُودُ» نبيهم صالحا «بِالنُّذُرِ 23» الرسل وجاء بلفظ الجمع ، لأن تكذيب واحد منهم كتكذيبهم كلهم ، لأنهم كلهم ت (19)(1/289)
ج 1 ، ص : 290
مرسلون من اللّه ، ومتفقون على أصول الدين والتشريع ، ولأن ثمود منحدرون من عاد التي كذبت هودا فلما كذبوا صالحا فكأنهم كذبوا هودا أيضا فمن قبله ، ثم بين صورة تكذيبهم بقوله : «فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ» أي لا نتبع واحدا منا لأن الاستفهام انكاري ولا يجاب إلا بلا كما أن الاستفهام التقريري لا يجاب إلا ببلى مثل (أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وقالوا «إِنَّا إِذاً» إذا اتبعنا فردا من جنسنا «لَفِي ضَلالٍ» عن الصواب والسداد منحطين عن الحق والهدى «وَسُعُرٍ 24» جنون أو جمع سعير أي في شدة من العذاب وهذه الجملة في الأصل قول صالح عليه السلام لهم بأنكم إذا لم تتبعوني تكونوا في ضلال عن الحق في الدنيا وفي سعر النار في الآخرة فعكسوا عليه قوله لتعنتهم وعتوهم المشعر به حكاية اللّه عنهم وقالوا «أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ» الوحي الذي يزعم أنه نزل «عَلَيْهِ» من ربه «مِنْ بَيْنِنا» وفينا من هو على زعمهم أحق منه به وهذا كقول قريش في الآية 31 من سورة الزخرف في ج 2 «بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ 25» متكبر حمله بطره لأن يتعظم علينا مع أن فينا من هو أحسن منه للنبوة ، فرد اللّه عليهم رد تهديد وتخويف بقوله عز قوله : «سَيَعْلَمُونَ غَداً» حين نزول العذاب بهم «مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ 26» هم أم هو «إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ» نختبرهم فيها هل يمتثلون أمرنا أم لا «فَارْتَقِبْهُمْ» يا صالح وانظر ماذا يفعلون بها «وَاصْطَبِرْ 27» على أذاهم ولا تعجل عليهم ، وأصل اصطبر اصتبر فأبدلت التاء طاء وهكذا كل ما كان فعله افتعل فان تاءه تقلب طاء ، وهو مبالغة اصبر «وَنَبِّئْهُمْ» يا رسولي «أَنَّ الْماءَ» الموجود في القرية هو «قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ» يوم للناقة ويوم لهم كلهم «كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ 28» في نوبته قال قوم صالح ان كنت نبيا فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة فدعا اللّه فأجابه
وامتحنهم بقسمة الماء فأبوا وأجمعوا على قتلها الدال عليه قوله «فَنادَوْا صاحِبَهُمْ» الذي أجمع رأيهم عليه بأن يتولى قتلها «فَتَعاطى » اجترأ دون اكتراث بأنها آية اللّه على صدق نبيهم «فَعَقَرَ 29» الناقة بالسيف الذي ناولوه إياه «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي(1/290)
ج 1 ، ص : 291
وَنُذُرِ 30»
لأمثال هؤلاء أي شيء عظيم هو وبينه بقوله :
«إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً» من قبل عبدنا جبرائيل «فَكانُوا» بسببها «كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ 31» كيبيس الشجر إذا كسر وحطم وصار محتضرا لوم البهائم وقدمنا في الآية 11 من سورة الشمس ما يتعلق بهذا وله صلة في الآية 157 من سورة الشعراء الآتية وسنفصل القصة إن شاء اللّه في الآية 119 من الأعراف الآتية أيضا قال تعالى :
«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 32» ثم طفق يبين القصة الرابعة فقال : «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ 33» ثم وصف تعذيبهم بقوله : «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً» ريحا ممزوجة بالحصى الصغار المسمى حصباء وأمرناها بحصبهم جميعا «إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ 34» إذ أوحينا اليه أن يخرج أهله معه آخر الليل لئلا يصيبهم ذلك وأنعمنا عليهم بالنجاة منه «نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا» نحن إله الكل «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «نَجْزِي مَنْ شَكَرَ 35» نعمنا من عبادنا الطائعين وقرىء نعمة بالرفع على الخبرية ، أي وهذا الإنجاء نعمة من لدنا.
وبالنصب مفعول مطلق وعليه المصاحف وهو أليق «وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ» نبيهم لوط عليه السلام «بَطْشَتَنا» هذه وحذرهم عقوبتنا القاسية ليؤمنوا فلم ينجح بهم بل أصروا على تكذيبه والسخرية به كما يدل عليه قوله «فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ 26» وشكوا بصدقهم بل كذبوهم لأن الفعل يتضمن معنى التكذيب إذ عدي بالياء ، ولو كان المراد الشك لعدي بالفاء إذ يقال شك في الأمر وكذب به ، تأمل «وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ» أي طلبوا منه أن يفتعلوا بهم وحاولوا فتح الباب ليفجروا بهم وقد عجز عن مقاومتهم «فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ» بصفقة من جناح عبدنا جبريل فصير عيونهم من جملة وجوهم حتى كأنها لم تنشق ، ومنعناهم من التعرض لأضيافه بعد أن خالفوه وأرادوا أن يدخلوا داره قسرا عنه ليتعرضوا لأضيافه فنصره ربه وقال «فَذُوقُوا» أيها الفاحشون الخبثاء «عَذابِي» الذي أوقعه عليكم «وَنُذُرِ 37» أي ما أنذرتكم به على لسان نبيكم من العذاب «وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) هي أخص في الصباح لأنها تطلق على الغدوة أيضا بخلافه «عَذابٌ(1/291)
ج 1 ، ص : 292
مُسْتَقِرٌّ 38»
ثابت دائم إلى يوم القيامة حتى يقضى بسوقهم إلى النار ويقال لهم فيها «فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ 39» تشديدا للعذاب وزيادة للحسرة «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 40» وفي تكرير هذه الآية معنى آخر وهو حث للسامع على تجديد الاتعاظ وتكرير الانتباه عند سماع تكرار هذه الآية آخر كل قصة لتكون عبرة دائمة في القلوب مستمرا تصورها في الأذهان وكذلك الأمر في تكرار (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في سورة المرسلات المارة ، وجملة فبأي آلاء ربكما تكذبان من سورة الرحمن في ج 3
قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ 41» أي موسى وهرون «كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها» أي الآيات التسع الآتية في سورة الأعراف مفصلة من الآية 102 فما بعد «فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ 42» غالب قهار جبار لا يعجزه شيء ولا يحول دون أمره شيء «أَ كُفَّارُكُمْ» يا أمة محمد ويا أهل مكة «خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» الذين قصصنا عليكم أمرهم وكيفية تعذيبهم في الدنيا وما خبأناه لهم في الآخرة أدهى وأمر وأدوم «أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ» يأمنكم من الإهلاك أخبرتم بها أم نزلت عليكم «فِي الزُّبُرِ 43» الكتب المتقدمة ، كلا لا مأمن لكم من العذاب البتة ولستم بأحسن ممن قبلكم ولا أقل كفرا منهم ولم ينزل بأمتكم من عذاب اللّه شيء وسيصيبكم ما أصابهم إن لم تؤمنوا.
مطلب الآيات المدنية وحكم ما تأخر حكمه عن نزوله :
وهذه أولى الآيات المدنيات قال تعالى «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ» الذين حضروا واقعة بدر كما سيأتي بيانها في الآية 5 من سورة الأنفال في ج 3 «جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ 44» كثيرون أقوياء ممتنعون لا نظلم ولا نرام فردّ عليهم بقوله «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ 45» هاربين لا يلوون على أحد ، واعلم يا حبيبي أن ليس الأمر كما يقولون ويتوهمون «بَلِ السَّاعَةُ» هذه التي يتوخون النصر فيها هي «مَوْعِدُهُمْ» للقتل والأسر والسبي في الدنيا وهذه من علامات النبوة حيث صدق اللّه وعده رسوله «وَالسَّاعَةُ» الداهية الدهماء الموعودون بها يوم القيامة «أَدْهى » من عذاب هذه(1/292)
ج 1 ، ص : 293
الساعة الدنيوية «وَأَمَرُّ 46» منها مذاقا وأدوم عذابا من القتل والأسر والسبي.
انتهت الآيات المدنيات.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه وهو في قبة يوم بدر : اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبدا.
فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول اللّه فقد ألححت على ربك ، فخرج وهو في الدرع وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر.
وقد مر في الآية 14 من سورة الأعلى المارة أن هذه الآية مما تأخر حكمها عن نزولها وهو الصحيح واللّه أعلم لأنها إحدى الآيات السبع المبينين هناك أربع منها وهذه الخامسة والسادسة الآية 56 من سورة النور ج 3 وهي (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) والسابعة قوله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ) الآية 21 من سورة الفتح في ج 3 أيضا وللبحث صلة في تفسير هاتين الآيتين الأخيرتين بمحلهما إن شاء اللّه.
أما الأربع الأول فقد تقدم في سورة الأعلى بيانها وسببها قال تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ» من الأولين والآخرين «فِي ضَلالٍ» في هذه الدنيا «وَسُعُرٍ 47» في الآخرة «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ» وتقول لهم زبانية العذاب «ذُوقُوا» أيها المجرمون «مَسَّ سَقَرَ 48» ألمها عند ما تمس جلودكم كما يقال الآن ذق طعم الضرب ومس الحمّى قال تعالى ردا لما يقال من قبل أهل الضلال «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ 49» معلوم وتقدير سابق مثبت في اللوح المحفوظ وسنظهره عند إرادتنا له قال ابن عباس كل شيء بقدر حتى وضع يدك على خذك ، روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول كتب اللّه مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال وكان عرشه على الماء ، أي قبل خلقهما.
راجع الآية 6 من سورة هود في ج 2.
مطلب في القدر وما يتعلق به :
والمراد من هذا تحديد وقت الكتابة في اللوح لا أصل القدر لأنه أزلي لا أول له ، وروي أيضا عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية.
وروي عن طاووس قال : أدركت أناسا من أصحاب(1/293)
ج 1 ، ص : 294
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر اللّه تعالى.
وسمعت عبد اللّه بن عمر يقول :
قال صلّى اللّه عليه وسلم : كل شيء يقدر حتى العجز (عدم القدرة على الفعل) والكيس (النشاط والحذق بالأمور) أي قدر اللّه ذلك في البشر أيضا وأخرج الترمذي عن علي كرم اللّه وجهه قال : قال رسول اللّه : لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا اللّه ، واني رسول اللّه بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت وبالبعث ، ويؤمن بالقدر.
وأخرج أيضا عن جابر قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وهذا حديث غريب يعرف من طريق عبد اللّه بن ميمون وهو منكر الحديث.
أما الحديث المتفق عليه فهو حديث جبريل عليه السلام المشهور الذي فيه ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال صدقت.
وهو الذي رواه مسلم عن عمر رضي اللّه عنه ، والحديث الآخر الذي رواه الترمذي عن ابن عباس وكلاهما في حديث الأربعين ، وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه ابن ماجه وابن عدي وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام : المرجئة والقدرية ، أنزلت فيهم آية في كتاب اللّه (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الآية المارة وإن الذين ينكرون القدر هم خصماء اللّه لأنهم يقولون لا يقدر اللّه المعصية على العبد ثم يعذبه عليها ويسمون القدرية لإنكارهم القدر وزعمهم ان اللّه تعالى لم يتقدم علمه بالأشياء وانه يعلمها بعد وقوعها ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، وقد أجمعت الأئمة من أهل السنة والجماعة على اثبات القدر وانه تعالى قدر جميع الأشياء في القدم وعلم انها ستقع في أوقات معلومة عنده على صفات مخصوصة فتقع بحسب ما قدرها.
والحكم الشرعي هو وجوب اعتقاد ما قرره هذا المذهب الحق وأجمع عليه جمهور المحققين ورفض قول المبتدعة وتفسيقهم.
قال امام الحرمين قال رسول اللّه : القدرية مجوس هذه الأمة رواه أبو حاتم عن ابن عمر عن رسول اللّه وأخرجه أبو داوود في سننه والحاكم أبو عبد اللّه في المستدرك على شروط الصحيحين ، وقال صحيح على شرط الشيخين ان صح سماع ابي حاتم عن ابن عمر.
قال الخطابي : انما جعلهم حضرة الرسول مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم(1/294)
ج 1 ، ص : 295
بالأصلين النور والظلمة أي الخير في النور والشر في الظلمة ، فصاروا ثنوية ، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى اللّه والشر إلى غيره مع أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة اللّه فالخير والشر مضافان إلى اللّه خلقا وإيجادا ، وإلى العبد فعلا واكتسابا.
ويزعم كثير من الناس ان معنى القضاء والقدر إجبار اللّه العبد على ما قدره وقضاه عليه ، وليس الأمر كذلك بل معناه الاخبار عن تقدم علم اللّه بما يكون من اكساب العبد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها ، ومعنى القدر ما صدر مقدرا عن فعل القادر ومعنى القضاء الخلق.
قال تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) الآية 12 من فصلت في ج 2 أي خلقهن قال محمد بن قتيبة في كتاب غريب الحديث ، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتاب الإرشاد في أصول الدين : ان بعض القدرية قالوا لسنا بقدرية بل أنتم يا أهل السنة والجماعة القدرية ، لاعتقادكم اثبات القدر ، وهذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهتة وتواقح لأن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى اللّه تعالى ويضيفون القدر والأفعال إلى اللّه وهم يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها اولى بأن ينسب إليه من يعتقده لغيره ، وينفيه عن نفسه ، والمرجئة الذين يقولون بالتأخير أي يؤخرون حتى ينزل اللّه فيهم ما يريد فهؤلاء يؤخرون العمل عن الرتبة وعن الاعتقاد أو لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم خمس فرق ، ومن أراد أن يطلع على عقائدهم وماهيتهم فليراجع ص 193 من الجزء الثالث من المواقف ففيه كفاية.
قال تعالى «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ» أي كلمة أو إشارة مفردة إذا أردنا شيئا نقول له «كُنْ» فيكون بين الكاف والنون وليعلم ان الارادة غير الأمر وغير القول والفرق بينهما ان الارادة قدر والقول قضاء وقد يؤمر بالشيء ولا يراد وضدّه النهي وضد القول السكوت ، وفي قوله تعالى واحدة اشارة إلى إنفاذ الأمر بلا تكرار القول.
ثم بين سرعة ذلك الأمر بالنسبة إلينا وهو عنده دون ذلك فقال إذا رمزنا إلى شيء بالكونية كان حالا ووجد «كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ 50» أي بقدر ما يرد أحدكم طرفه وهذا تمثيل لما تقبله عقولنا والا فهو أقل وأقل فالذي جاء بعرش بلقيس من سبأ إلى القدس بلمحة بصر هو عبد من عبيده فكيف برب ذلك العبد الذي أقدره على ذلك راجع الآية 40 من سورة النمل الآتية
قال تعالى «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا(1/295)
ج 1 ، ص : 296
أَشْياعَكُمْ»
أشباهكم في الكفر ونظرائكم في العناد يا قوم محمد ويا أهل مكة المشرفة من الأمم السابقة «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 51» يخاف ويعتبر بمن سلف قبل ان يحل فيه ما حل بهم «وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ» المتقدمون وما يفعله المتأخرون مثل كفار مكة ومن قبلهم وبعدهم الخير والشر كله مدون «فِي الزُّبُرِ 52» من قبل الحفظة في اللوح المحفوظ مما وقع وسيقع إلى يوم القيمة قدره ونوعه وجنسه ومكانه وزمانه وصفته «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ» من العوالم وأفعالهم «مُسْتَطَرٌ 53» عند اللّه أزلا لا يعزب شيء منه عنه ، الذرة فما فوقها وما دونها «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ 54» أنهار كثيرة وإنما جاء بلفظ نهر لموافقة رؤوس الآي وهذه الأنهار من ماء صاف بارد وعسل مصفى وخمر لا غول فيه ولبن خالص واشربة متنوعه ممالذ وطاب مهيئة هذه الأنهار للمتقين «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ» مجلس لا لغو فيه ومسرح لا فجور فيه ومكان مرضي لا غضب فيه لا نظير له ولا شبيه «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ 55» على كل شيء وتحت ملكه كل شيء عظيم القدرة على كل شيء فأي منزلة أكرم من هذه وأجمع للسعادة والغبطة.
وفقنا اللّه لها بمنه وكرمه وجعلنا من أهلها بجوار حرمه.
قال الإمام جعفر الصادق رضي اللّه عنه وصف اللّه تعالى المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق وهو منهم جعلنا اللّه من أتباعه وقال بعض أهل المعرفة ان اللّه تعالى أبهم العذبة والقرب ونكر مليكا ومقتدرا اشارة إلى ان ملكه وقدرته لا تدرك الأفهام كنهها ، وان قربهم منه سبحانه بمنزلة من الكرامة والسعادة بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يجل عنه اللسان وتكل دونه الأذهان.
وهذه الآية من المتشابه الذي سبق أن نوهنا به في الآية 30 من سورة ق المارة إذ درجنا فيها ما يتعلق بآيات الصفات وأحاديثها هذا ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه ، العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.(1/296)
ج 1 ، ص : 297
تفسير سورة ص
عدد 38 - 38
نزلت بمكة بعد القمر وهي ثمان وثمانون آية ، وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة ، وثلاثة آلاف وسبعة وتسعون حرفا ، وتسمى سورة داوود ، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت أو ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «ص» ابتدأ تعالى بعض سور كتابه العظيم بحرف من الحروف على سبيل التحدي والبينة والاعجاز وان إتباعه بقسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه واعجاز البشر عن الإتيان بمثله وقد تسمى السورة بما بدئت به كهذه وسورتي ن وق ويجوز أن يكون مفتاحا لبعض أسمائه الحسنى كالصمد والصادق والصبور والصانع ويقرأ بالسكون وبالكسر اختلاسا ومع التنوين وبالضم ، أيضا وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه سورة ص أو مبتدأ لخبر محذوف أي سورة ص هذه سورته المعجزة «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ 1» والموعظة الحسنة وجواب القسم أنك يا محمد لمن المرسلين وأنه ما كفر من كفر بك لخلل وجده فيك أو فيما أنزل عليك «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ 2» أنفة وخلاف وإنما اخترت أن يكون جواب القسم جملة (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لمناسبتها للمقام وموافقتها للمعنى وإن من المفسّرين من قدره بجملة (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ) الآية الآتية ومنهم من جعل جملة (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) الآية الآتية بعد تلك جواب للقسم ومنهم من قال جوابه (كَمْ أَهْلَكْنا) الآية أيضا ومنهم من قدره (بَلِ الَّذِينَ) إلخ الآية المارة وكلها أقوال تعقبت وفندت لعدم انطباقها على المراد في الآية المقسم بها لذلك لم نعتمد شيئا منها ولما كان القرآن يفسر بعضه وتشير بعض آياته إلى بعض وإلى شيء لا يوجد في بعضها وكان مثل هذا الحذف المقدر هنا موجودا في مثل هذه الآية في سورة يس الآتية قدرناه هنا بمثل ما هو هناك ، ويقويه ذكر النذارة هناك وهنا أيضا لأن الرسالة تتضمن البشارة والنذارة وعليه(1/297)
ج 1 ، ص : 298
تكون (بَلِ) في الآية المتقدمة بعد القسم للانتقال من القسم والمقسم به والمقسم عليه إلى ذكر أنفة المشركين وغلظتهم ومخالفتهم لما جاء به حضرة الرسول لأن عزتهم تلك عبارة عن حمية جاهلية وتكبر عن الحق الصريح مشاحنة وعداوة به صلّى اللّه عليه وسلم ليس إلا قال تعالى «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ» أي قومك أيها المخاطب النبيل «مِنْ قَرْنٍ» أي أهله من اطلاق الظرف وإرادة المظروف «فَنادَوْا» عند نزول العذاب بهم بالويل والثبور والاستغاثة قصد النجاة منه فلم يجابوا وأرادوا الفرار فلم يقدروا «وَلاتَ حِينَ مَناصٍ 3» أي ليس الحين حين فرار وخلاص مما نزل بهم وجاء هذا على ما كانت تعتاده كفرة قريش عند مضايقتها في الحروب إذ يقول بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخذوا حذركم والمعنى هنا أن عذاب اللّه لا مخلص منه.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في حادثة بدر لا صحة له لأن هذه السورة كلها مكية والآية جارية في معرض ذكر هلاك الأمم الماضية المنوه بها في السورة قبلها وأن سياقها يأبى ذلك «وَعَجِبُوا» هؤلاء الكفرة «أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» من أنفسهم نسبا وأحسنهم حسبا وأعظمهم مكانة «وَقالَ الْكافِرُونَ» أني بالظاهر بدل المضمر في معرض الذم اعلاما بأنه لا يقدم على هذا إلا المنهمك في الكفر المتوغل في الفسوق «هذا» أي محمد الذي جاءكم يدعي النبوة «ساحِرٌ كَذَّابٌ 4» مع أنهم يسمونه الأمين قبل أن يكون نبيا ، ويعلمون أنه ليس بساحر ولا يوجد بمكة من يعرف السحر إذ ذاك ، ولم يخرج من بين أظهرهم فوصمهم لحضرته بالسحر محض افتراء وبهتان.
قالوا : لما أسلم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه شق إسلامه على قريش وفرح المؤمنون به فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم خمسة وعشرون صنديدا امشوا إلى أبي طالب ، فأتوه ، وبينوا له حال ابن أخيه واستغوائه قريشا واحدا بعد واحد واشرحوا له حالته التي لم يبق بوسعنا السكوت عليها ، فأتوه فقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء (يعنون محمد وأصحابه) وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك وأنك قاضينا فيه وفي غيره.
فدعاه فقال : يا ابن أخي إن هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا(1/298)
ج 1 ، ص : 299
تمل كل الميل فقال صلّى اللّه عليه وسلم : وماذا يسألون ؟ قالوا ارفض آلهتنا وندعك وإلهك.
فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم الأمم.
فقال أبو جهل نعطيكها وعشرة أمثالها ، فقال : قولوا لا إله إلا اللّه ، فنفروا وقالوا كيف يسع الخلق إله واحد ؟ فأنزل اللّه جل أنزاله «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا» الذي يقوله محمد «لَشَيْءٌ عُجابٌ 5» بليغ في العجب والتعجب «وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ» من مجلس ابي طالب قائلين بعضهم لبعض «أَنِ امْشُوا» عنه حيث كان هذا مراد ابن أخيه ولم يصده عنه «وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ» واثبتوا على عبادتها وتحملوا ما يقدح فيها «إِنَّ هذا» الذي قاله محمد وتعليمه على دعوته لإله واحد وما نراه من ازدياد أتباعه يوميا وسكوت عمه عليه وعدم اصغائه لشكايتنا منه «لَشَيْءٌ يُرادُ 6» بنا بأن يتحكم فينا وفي ذرارينا ، ويترفع علينا ويستولي على أموالنا وأملاكنا ، ثم قال بعضهم لبعض «ما سَمِعْنا بِهذا» الذي يقوله محمد قبلا ولا «فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ» ملة عيسى عليه السلام التي هي آخر الملل وهي ملة غير موحدة إذ يدعون آلهة ثلاثة ومن أدركنا من آبائنا لهم آلهة متعددة «إِنْ هذا» القول بالتوحيد الذي يدعوا اليه محمد ما هو «إِلَّا اخْتِلاقٌ 7» من تلقاء نفسه لم يسبقه به أحد وانه يريد به التولي علينا وان نكون تبعا له فيما يريد ، فيا قومنا أخبرونا «أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» الذي يدعيه وحيا من ربّه ، هل اختص به وحده «مِنْ بَيْنِنا» يتفوق به علينا ويحتفي به دوننا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم ، وما هي هذه الميزة التي اختص بها وحده.
قال تعالى «بَلْ هُمْ» هؤلاء الحسدة لرسولي على ما فضلته به عليهم «فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» الذي أنزلته عليه المشحون بالتوحيد وهذا دائما من التعجب بتخصيص محمد به «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ 8» حتى يزول حسدهم لرسولي ورميهم لذكري فاذا ذاقوه زال ذلك منهم واتعظوا بمن قبلهم واعترفوا برسالته وإلهه وإن ما يقوله حق لا مرية فيه «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ» يا محمد ليهبوا ما فيها من مفاتح النبوة لمن شاءوا وأرادوا ويصرفوها عنك.
قال تعالى «أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» الآية 32 من سورة الزخرف وبمعناها الآية 134 من الأنعام في ج 2(1/299)
ج 1 ، ص : 300
كلا لا دخل لهم بها ولا بشيء من مختارات الإله بل هو من خصائص «الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ 9» القاهر الذي لا يقابلة شيء ، كثير المواهب التي من جملتها تخصيصك بالنبوة «أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما» حتى يتداخلوا فيما بستأثر به مالكهما من إعطاء ومنع فإذا كان لهم شيء من ذلك «فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ 10» التي توصلهم إلى أقطارها ليديروا أمر العالم وينزلوا الوحي على من يريدونه في الأرض ، وهذه الجملة في معرض التهديد إذ ليس لأحد من قدرة على ذلك غيره ، واستدل حكماء الإسلام بهذه على ان الاجرام الفلكية وما أودع فيها من خواص وقوى اسباب لحوادث العالم السفلي لأن اللّه تعالى سمّى الفلكيات أسبابا ومهما كان ذلك ، ولهذا فإن ما يزعمه الفلكيون من صعودهم إلى المريخ والقمر وغيرهما من الكواكب زعم بعيد عليهم لم يدركوه ولن يدركوه لأن اللّه تعالى قال لا تنفذوا إلا بسلطان راجع الآية 32 من سورة الرحمن إذ تحدى بها الجن والإنس وأذلهم ذلك السلطان الذي يتوصلون به إلى النفوذ في أقطار السموات والأرض.
هذا ثم وعد نبيه بالنصر على هؤلاء العتاة المعاندين بقوله انهم «جُنْدٌ ما» قبل هذا بالنسبة لمن سبقهم من الجنود الذين تحزبوا على أنبيائهم قبلك وسيكون لك يا حبيبي معهم شأن «هنالك» عند اللقاء الآتي في بدر ، عند ما يكون ذلك الجند «مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ 11» كما هزم من قبلهم فلا يهمنك شأنهم ، ولا تكترث بهذيانهم.
مطلب الآيات السبع التي تأخر حكمها عن نزولها :
وهذا من الإخبار بالغيب لأنها من الآيات السبع التي سبق ذكرها في الآية 46 من سورة القمر المارة وقد أنزلت تسلية لحضرة الرسول داعية لحمل أذاهم مادام في مكة وأن قريشا كغيرها من الأجناد الذين أجمعوا على تكذيب الرسل وأنه سيظهر عليهم ويرى مصارعهم في محل غيهم ، وإشارة إلى حادثة بدر الآتية في الآية 5 من سورة الأنفال في ج 3 التي حققها اللّه له وأقر عينيه بها.
ثم شرع يعزيه بما لاقى منهم ويقول له ليس أمتك أول من كذبت الرسل ولا أنت أول من سخر به وأوذي فقد «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ 12» الذين كانوا أكثر عددا وعددا من قومك الذين ليس بشيء بالنسبة لهم «وَثَمُودُ»(1/300)
ج 1 ، ص : 301
«وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ» أيضا لا يقاسون بقومك من حيث القلة والكثرة ، وتقدم تفسير ذي الأوتاد في الآية 10 من سورة الفجر وقصته مفصلة كما تقدم بيان قصص الآخرين في الآية 12 من سورة ق المارة «أُولئِكَ الْأَحْزابُ 13» الذين بضرب بهم المثل «إِنْ كُلٌّ» من أولئك «إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ» المرسلين إليهم «فَحَقَّ عِقابِ 14» على كل من الطوائف الأول لتكذيبهم أنبيائهم ، لأن كل هؤلاء يا سيد الرسل عملوا برسلهم ما عمل بك قومك وقد أصابهم البلاء لعدم إيمانهم بهم «ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ» الذين يجادلونك من قومك إذا لم يؤمنوا «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من ملكنا إسرافيل «ما لَها مِنْ فَواقٍ 15» إذا جاءتهم لم تصرف عنهم ولم تتأخر عن الوقت المقرر لها ولو بمقدار فواق الناقة (وهو الزمن بين الحليتين) بل هو أقل من ذلك بكثير ، وإنما جاء هذا اللفظ على عادتهم ، لأنهم يستقلون هذا الزمن ويضربون به المثل في القلة والسرعة ، وفي هذه الآية زجر لهم عظيم ، وتهديد وخيم ، إذ خوفهم فيها مغبة أمرهم ، وقيل معنى فواق رجوع أي إذا جاءت تلك الصيحة لم ترد عنهم بقطع النظر عن الزمن ، والمراد بهذه الصيحة الصيحة الثانية لأن سياقها يدل عليها ولأن الصيحة الأولى لا يشاهد هولها ، وإنما بصعق فيها من كان حيا من الخلق عند وقوعها حالا ، ولا يكون العذاب الموعودون به إذ ذاك واقعا ، ولا العذاب المطلق مؤخرا لوقوعها ، وما قاله صاحب الغالية بأن النفخات ثلاثة ، نفخة الإماتة ونفخة الإحياء ونفخة الفزع المنوه بها آخر سورة النمل الآتية لا يتجه لأن نفخة الفزع هي النفخة الثانية التي يكون فيها الخروج من القبر والحشر والنشر.
تدبر ، قالى تعالى «وَقالُوا» كفرة قريش عند سماعهم من حضرة الرسول ما وعد اللّه به المؤمنين وأوعد به الكافرين أمثالهم «رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا» حظنا ونصيبنا من هذا العذاب الذي توعدنا به على لسان محمد «قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ 16» على الأعمال ، الذي يذكره لنا ويهددنا فيه ، وقائل هذا ، النضر بن الحارث على سبيل السخرية والاستهزاء ، أي أسرع بإنزاله علينا إن كان ما تقوله حقا ، قال تعالى يا محمد : «اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» فيك وفي ربك وكتابك «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ» القوة(1/301)
ج 1 ، ص : 302
العظيمة واذكر ذلته التي عاتبته عليها مع كرامته عليّ ومعزته عندي وتأسّ به «إِنَّهُ أَوَّابٌ 17» أي كثير الرجوع إلى ربه بالتوبة والندم ، ثم شرع يقص نعمه على داود فقال «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ» بتسبيحه إذا سبح «بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ 18» صباح مساء ، فالعشي من العصر إلى الليل ، والإشراق من طلوع الشمس إلى الضحى ، قال ابن عباس ما عرفت صلاة الضحى إلا في هذه الآية «وَالطَّيْرَ» تسبح بتسبيحه أيضا «مَحْشُورَةً» حالة كونها مجموعة لديه ، قال ابن عباس كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير «كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ 19» رجّاع يردد تسبيحه كل منهم «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» قوّيناه بالحرس والجنود ، كما قويناه بأمر الدين ولهذا وصفه بكلمة ذي الأيد بما يشمل القوتين ، ويدل على الأخير قوله أواب ، وعلى الأول وشددنا ملكه «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ» هي المعرفة بحقائق الأشياء وكنهها وماهيتها وكل كلام وافق الحق فهو حكمة «وَفَصْلَ الْخِطابِ» التمييز بين الحق والباطل والحكم بما يوافق مراد اللّه ، فاجتمعت له القوى الأربع : قوة الدين وقوة الملك وقوة الحكمة وقوة الحكم وقيل فصل الخطاب جملة (أما بعد) لأنه أول من تكلم بها ، لأن الأمر الذي له شأن يستفتح فإذا أراد الشروع في الغرض المسوق إليه فصل بين الخطبة وبينه بها والأول أولى ، ومن جملة نعم اللّه على داود إذ أعطاه النبوة والسلطان ، راجع نسبه وكيفية إعطائه الملك بتفسير قوله تعالى (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الآية 250 من البقرة في ج 3 وكان قبله الملك في سبط والنبوة في سبط آخر من أسباط يعقوب الاثني عشر أي أولاده
ثم طفق يقص على رسوله زلة داوود فقال «وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ» يطلق على الجماعة المتخاصمين «إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ 21» بيت عبادة داوود وخلوته مع ربه ، إذ كانوا يسمونه محرابا ومنه محراب زكريا ومريم الواردين في الآية 15 من مريم الآتية و37 من آل عمران في ج 3 ويطلق على صدر المسجد ومحل وقوف الإمام عندنا أي هل بلغك ذلك «إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ» لعدم دخولهم من الباب وقفزهم من أعلى الجدار وعدم استئذانهم إذ لم يحس بهم إلا وهم بين يديه ، (1/302)
ج 1 ، ص : 303
فقال لهما : لما ذا دخلتما متسورين الجدار ولم تستأذنوا وتدخلوا من الباب وكان عليه علامة الفزع لما رأى من جراءتهما هذه «قالُوا لا تَخَفْ» ولا تظن بنا سوءا انما نحن «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» وهذا من معاريض الكلام لا من تحقيق البغي لأنهما جبريل واسرافيل عليهما السلام أوفدهما اللّه إلى نبيه داود ليعرفاه زلته وذلك انه عليه السلام رأى آباءه إبراهيم ويعقوب وإسحق أفضل منه فسأل ربه عن ذلك ، فقال : إنهم ابتلوا فصبروا ففضلوا ، فقال يا رب لو ابتليتني لصبرت ولم يسأله العافية مما ابتلاهم طلبا لعلو الدرجات عنده لا اختبارا ، فامتحنه اللّه بما ذكرهنا قال تعالى «فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ» تجر وتحف وتملّ عنه «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ 22» في هذه الخصومة بان تتبع الحق فيها وتعدل عن الباطل ، قال تكلما ، فقال أحدهما «إِنَّ هذا أَخِي» في الدين والخلقة لأن الملائكة لا تناسب بينهم ولا تقارب لأنهم خلقوا بلا شهوة ولا توالد بل بطريق التولد بلفظ كن بين الكاف والنون وإذا لم يكن توالد فلا تكون قرابة «لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» امرأة والعرب تكني عن المرأة بالنعجة ، قال ابن عون :
أنا أبوهن ثلاث هن رابعة في البيت صغراهن
ونعجتي خمس توفيهن آلا فتى سمح يغذيهن
«وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» وهذا على سبيل التعريض وتصوير المسألة إذ ليس في الواقع هناك نعاج ولا يعني ولا يمنع فعل ذلك على فرض وجوده على الملائكة «فقال» صاحب للتسع والتسعين لصاحب الواحدة «أَكْفِلْنِيها» أعطينها وتنازل عنها واجعلها نصيبي لأن الكفيل النصيب «وَعَزَّنِي» غلبني وفي المثل من عزيز أي تفوّق عليّ وأخذني بفصاحته «فِي الْخِطابِ 23» المخاطبة أو في الخطبة حين طلبها منه وقد صور الملكان الحادثة ومثلاها حرفيّا ولم يتركا منها الا إبدال المرأة بالنعجة قال داود عليه السلام بعد أن سأل الخصم الآخر واعترف له بالحادثة كما قررها الخصم الأول ، لأنه لا يمكن أن يحكم قبل أخذ الجواب من الخصم ولهذا بين بحكمه سبب الظلم فقال واللّه انّ هذا «لَقَدْ ظَلَمَكَ» يا صاحب النعجة(1/303)
ج 1 ، ص : 304
الواحدة «بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ» وضمها «إِلى نِعاجِهِ» التسع والتسعين ولكن ليس هذا وحده الباغي «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ» الشركاء أمثاله الذين يخلطون أموالهم باموال غيرهم وتطلق كلمة الخلطاء على غير المحمودين من الناس ولذلك قال «لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» بسائق الطمع والحرص وحب التكاثر بالأموال التي تميل بذويها إلى الباطل إن لم يتولّهم اللّه بلطفه وهم المتشبثون بقوله عز قوله «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم لا يبغون ولا يطمعون «وَقَلِيلٌ ما هُمْ» الصالحون المؤمنون المبعدون عن الظلم جدا قليلون ولما فهمهما حكمه هذا نظرا إلى بعضهما وصعدا إلى السماء على مرأى من داود فعرفهما أنهما أنها ملكان بعثهما اللّه اليه ليذكراه ما وقع منه من الخطيئة ، ويروى أن داود حينما سأل المدعى عليه عن سبب أخذه النعجة أجابه بانه يريد إكمال نعاجه مائة بها فقال داود ان رمت ذلك ضربنا منك هذا وأشار إلى أنفه وجبهته ، فقال يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا ، لأنك فعلت كيت وكيت ، ثم نظر داود فلم ير أحدا.
فإن صح قول الملك إلى داود هذا الكلام يحمل على ان ذنوب الأنبياء مهما صغرت فهي كبائر بالنظر لعلو شأنهم.
والقصد من قوله فعلت كيت وكيت انك كلفت الرجل بالتنازل عن زوجته أو خطيبته لك مع استغناءك عنها تبعا لإرادة نفسك قال ابن عباس : ان داود لما دخل عليه الملكان وقضى على نفسه تحولا في صورتها وعرجا إلى السماء وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم أنهما عنياه وانهما ملكان وتنبه لعمله ولهذا قال تعالى «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ» ابتليناه واختبرناه حتى عرف زلته «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ» مما وقع منه «وَخَرَّ» سقط على الأرض «راكِعاً» ساجدا لأن الركوع مجاز من السجود ولأن الخرّ السقوط وتقول العرب نخلة راكعة وساجدة إذا رأوها ساقطة على الأرض.
قال قائلهم :
فخر على وجهه راكعا وتاب إلى اللّه من كل ذنب
فمعناه السجود الا انه يعبر عنه أحيانا بالركوع مجازا «وَأَنابَ 24» إلى ربه راجعا عن خطأه تائبا من زلته تعظيما لامتحان ربه واستعطافا لجلب رحمته فقبل(1/304)
ج 1 ، ص : 305
اللّه منه وسترها عليه وأظهر له قبول توبته بقوله «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ» الذي وقع منه «وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى » قرية ومكانة حسنة «وَحُسْنَ مَآبٍ 25» مرجع ومعاد فوق المغفرة بسبب اعترافه وندمه الآتي ، وهذه السجدة عند أبي حنيفة من عظ ثم السجود لما روى البخاري.
قال مجاهد قلت لابن عباس أأسجد في (ص) فقرأ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الآيات 84 إلى 91 من الأنعام في ج 2.
فقال نبيكم أمران نقتدي بهم فسجدها داود وسجدها محمد صلوات اللّه عليهم وسلامه.
وعند الشافعي ، انها سجدة نبيّ لا توجب سجود التلاوة ، وقدمنا ما يتعلق بهذا أواخر سورتي والنجم والعلق المارتين فراجعهما ففيهما كفاية.
هذا ما قصه اللّه علينا من زلة داود عليه السلام ،
مطلب قصة داود وسجود أبو بكر :
ولكن القصاص ذكروا وجوها كثيرة فيما وقع من السيد داود عليه السلام ، أقوالا أعدلها وأقربها إلى المنطق وأصدقها عقلا هو ان داود عليه السلام كان رأى زوجة عامله أوريا فأعجبته ، وكان في زمانه جواز سؤال الرجل أن يتنازل للغير عن زوجته ، وكانت هذه عادة متفشية بينهم فسأله النزول عنها إليه ، فلم يسعه أن يرده لما له من الهيبة والوقار في مقام النبوة والملك ، فتنازل له عنها ثم تزوجها وأولدها سليمان عليه السلام ، فعتب اللّه عليه لعظم منزلته عنده وكثرة نسائه ووجود أمثالها في أمته وعدم منع إرادته ، وانه لا ينبغي لمثله وعنده النساء الكثيرات وقدرته على تزوج من شاء فيهن أن يسأل رجلا من رعيته ليس له غير امرأة واحدة التنازل عنها له ، بل كان عليه أن يغلب هواه ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به من رؤيتها وإعجابها ، وليس في هذا ما يدل على الذنب بمعناه الحقيقي ، لأن أهل زمانه لا يرون به بأسا لكثرة وقوعه ، إلا أن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها شرفا ، فيطالبون بأكمل الأخلاق وأسمى الأوصاف فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشر الذين هم دونهم مرتبة ومقاما وعزة عاقبهم اللّه عقاب معاتبة ليتيقظوا ويتنزهوا عن أمثاله ، ثم يغفره لهم.
وإن مثل هذا لا يعدّ ذنبا في حق بقية البشر ، ألا ترى أن المهاجرين لما نزلوا على الأنصار في المدينة ساووهم بمالهم وتشبهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم ، فتزوجوهن ولم يروا بأسا بذلك ، ولم ت (20)(1/305)
ج 1 ، ص : 306
يتورعوا عن زواجهن ، لأن هذا مما تعورف عند الأعراب ، ولا تزال هذه العادة حتى الآن لدى عرب البادية ، وإن الرجل منهم قد يأتي إلى الآخر ويقول له على ملأ من الناس (خلّ لي زوجتك) أي تنازل لي عنها طلقها وأعطنيها لأتزوجها فيفعل ، وكثيرا ما تقول المرأة لزوجها خلني لفلان فيخليها أي يطلقها فتتزوج به ، الا ان الأنبياء لما فضلوا على غيرهم ورفعهم اللّه بالنبوة لا يليق بمقامهم الشريف التنازل لبعض ما فيه بأس من عادات الناس لأنها تحط بقدرهم ، وكذلك الأمثل فالأمثل ينبغي أن لا يقارب أمثال هذا وأن يتورع عنه كل ذي مروءة لأن الزمن هذا غير ذاك ، ورحم اللّه امرأ جب المغيبة عن نفسه ، هذا وقيل أن أوريا خطب تلك المرأة وغاب في غزاة فخطبها داود بعده وتزوجها ، فاغتم أوريا لذلك ، فعاتب اللّه داود عليه ، واستدل صاحب هذا القيل بقوله تعالى (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي الخطبة ، ووجه العتب عليه خطبة على خطبته وقد جاءت شريعتنا بها حيث نهى رسول اللّه الخطبة على الخطبة والبيع على البيع راجع كتب الفقه بذلك ، فالحادث عبارة عن إحدى هاتين وهي موافقة في المعنى لما أخبر اللّه به عنه وقد اعتمد جهابذة المفسرين ، أما ما ذكره بعض الأخباريين ، في أنه عليه السلام حين رأى المرأة أحبها وبعث زوجها أوريا إلى الغزو أو أمر بإرساله ، وأن يتقدم التابوت لا يرجع حتى يقتل بقصد أخذ زوجته ، فهو باطل بعيد عن الصحة ، تتحاشى غير الأنبياء ومروءتهم عنه ، وإن إرشادهم للخلق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يحول دون ذلك ، ويتباعد مقامهم الشريف عنه ، بل غيرهم من الصالحين لا يقدر عليه ، ولأنه لو نسب إلى آحاد المؤمنين لاستنكف عن قربه وأنف من إحداهما مثله ، فكيف يجوز إذا نسبته إلى صفوة خلق اللّه وأمينه على الوحي ، روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن علي كرم اللّه وجهه أنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة جلدة مضاعفا.
لأن الجلد غايته ثمانون وهذا حد الفرية على الأنبياء ، قال القاضي عياض لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطر الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا في مثل حادثة داود وسليمان(1/306)
ج 1 ، ص : 307
ويوسف وأيوب عليهم السلام لانهم لم ينقلوها من كتاب صحيح ، ولم يتلقوها من ثقة.
وإن اللّه تعالى لم ينص على شيء من ذلك ولا رسوله أخبر به ، وقال الإمام فخر الدين الرازي : حاصل ما ذكره القصاص يرجع إلى أمرين : السعي إلى قتل رجل مؤمن بغير حق ، والطمع في أخذ زوجة ذات زوج ، وكلاهما منكر عظيم ، فلا يليق بعاقل أن يظن أبدا بداود عليه السلام أنه أقدم على ذلك ، كيف وإن اللّه أثنى عليه قبل ذكر القصة المسطورة في القرآن وبعدها ، مما يدل على استحالة ما نقله القصاصون
، وكيف يتوهم من له مسكة من عقل ، أن يقع ذم بين مدحين في كلام اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، إذ لو وقع مثله بين كلام الناس لاستهجن ، ولقال العقلاء للقائل أنت في مدح فكيف تذم من تمدح أثناء مدحك له ؟
ومن المعلوم أن الأنبياء أنموذج البشر فلا يقع منهم إلا ما يكون قدوة لهم في الأخلاق والآداب لأنهم كاملون ولا يصدر من الكامل إلا الكامل ، وقيل كلام اللّه ملك الكلام ، ورأي العاقل عقل من الآثام.
قال تعالى «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً» عنا «فِي الْأَرْضِ» لتدبير أمر أهلها في معاشهم ومعادهم نيابة عنا وأعلم أن هذه الآية تشير إلى أن التوبة تمحو الذنب كما جاءت الآثار الصحيحة به وإلى أن حالة داود عليه السلام بعد التوبة كحالته قبلها فلم يتبدل أو يتغير عليه شيء من اللّه بدلالة قوله «فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» الذي شرعته لك لتقوم به بينهم ، وبما أوحيه إليك فيما تردد فيه «وَلا تَتَّبِعِ» منه في حكمك «الْهَوى » فنقض بما تراه نفسك لان اتباع هوى النفس لا يكاد يقع من معصوم مثلك ، وهذا على سبيل الإرشاد لمقتضى الخلافة وتنبيه لغيره ممن يتولى القضاء بين الناس ، ولان الحكم بغير ما شرعه اللّه غير مناسب لمقامه تعالى ، ولهذا كان حضرة الرسول الأعظم عند ما يسأل عن شيء لم ينزل به اللّه قرآنا ، يرجىء الجواب حتى يتلقى الوحي فيه خوفا من أن يفتي بغير مراد اللّه «فَيُضِلَّكَ» اتباع الهوى في القضاء وغيره «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» طريقه السوي الذي سنه لعباده.
ومما يدل على أن في هذه الآية تنبيه ولاة الأمور على الإطلاق من الوقوع في الخطأ والحكم بالرأي أو العلم قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ(1/307)
ج 1 ، ص : 308
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»
في الأحكام وغيرها «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» في الآخرة «بِما نَسُوا» غفلوا عما أمروا به في الدنيا ، ومن أعظم ذلك عذابا ترك العدل في القضاء «يَوْمَ الْحِسابِ 26» والجزاء لأنهم لو تذكروا عذاب اللّه في ذلك اليوم العظيم لما فرطوا في الأمر ولما حصلت لهم الغفلة والنسيان والخطأ.
كان إسماعيل الساماني إذا قضى بشيء قال : إلهي هذا جهدي وطاقتي ولا أعلم أجنفت أم ظلمت فاغفر لي.
وأنا ممن يقول هذا ، وأستغفر اللّه.
هذا ، وإذا أردت استيفاء هذا البحث فعليك بمراجعة تفسير الآية 58 من النساء في ج 3 لأنا سنبين فيها إن شاء اللّه ما تقف عليه مما يتعلق في هذا البحث ، قال بعض المفسرين إن ذنب داوود الذي أستغفر منه ليس بسبب أوريا وزوجته ، بل بسبب قضائه للخصم قبل سماع كلام الآخر ، ولحكمه بالظلم عليه بمجرد الدعوى ، وهذا مخالف للعدل ، فتاب وقبلت توبته ويستدل بهذا على نزاهة داود عليه السلام مما أسند اليه ولكن الأول أولى وأحرى.
مطلب الحكم الشرعي في الأحكام :
الحكم الشرعي : لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه ولا قبل سماع دفاع الخصم وإن فصل الخطاب في شريعتنا ، هو البينة على من أدعى واليمين على من أنكر ويجب عليه أن يتبصر بكلام الطرفين ويسوي بينهما بالمكان والكلام ، والنظر ويتروى بالحكم بأن يتحقق من صحة الدعوى ، ومطابقة الشهادة لها ، ولبعضها ، ومن عدالة الشهود وعدم المانع من قبولهم حتى تقطع الخصومة بوجه صحيح يكسر من عزم المنكر وجحوده ، وأن يفهم حكمه إلى المحكوم عليه بلين ورفق ويبين له خطأه في إنكاره ويفصل أسباب الحكم وصحة الدعوى ليقع في قلبه عدم الحيف عليه ومنه ، فهذا إذا لم يحمل المدعى عليه على الانحراف بالحق يحمله على الاعتراف بعدل الحاكم ويحمل ما يراه من الخطأ حسب زعمه على اجتهاد القاضي ، والاجتهاد قد يحتمل الخطأ فيسلك طريق المراجعة إلى محكمة أخرى إذا كان يعتقد الخطأ فيه برضى واختيار وسكينة ، راجع حديث البطاقة في الآية 7 من الأعراف الآتية ، وهذا كله يتوقف(1/308)
ج 1 ، ص : 309
على تحري العدل ومعرفه العلم وأصول القضاء ، فيا ويل قضاة زماننا - وأنا منهم - إذا لم يسلكوا ما سنه اللّه لهم ورسوله ، ويا ويل من ولاهم إذا كان في رعيته من هو خير منهم ، ولا حول عن اجتناب المعصية ، ولا قوة على فعل الطاعة إلا بإرادة اللّه وتوفيقه ، قال بعض المفسرين : لما أنتبه داوود إلى خطأه الذي هو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين ، سجد للّه أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لصلاة مكتوبة عليه ، ثم يعود ساجدا تمام الأربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه ، وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله قبول توبته وكان من جملة دعائه في سجوده : سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور ، سبحان الحائل بين القلوب ، إلهي خليت بيني وبينك عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خلقتني وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداوود يوم يكشف عنه الغطاء ، فيقال هذا داوود الخاطئ ، سبحان خالق النور ، إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة ، وإنما ينظر الصالحون من طرف خفي ، سبحان خالق النور ، إلهي بأي قدم أقوم أمامك يوم القيامة يوم تزل فيه أقدام الخائنين ولم يزل كذلك حتى قبل اللّه توبته ، على أن ظاهر القرآن يشعر بقبول توبته آنيا لقوله تعالى : «فَغَفَرْنا لَهُ» والفاء تفيد التعقيب والترتيب وهناك أخبار أخرى من قبول توبته أعرضنا عنها لعدم الوقوف بها اكتفاء بما ذكره اللّه القائل «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا» عبثا لعبا ولهوا «ذلِكَ» أي خلقهما باطلا «ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» ليس إلا «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ 27» على ظنهم الباطل هذا لأنا لم نخلق شيئا إلا لحكمة بالغة «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» الذين يتفكرون في عجائبهما ويمعنون النظر
فيما بينهما من الصنع البديع والمخلوقات المتنوعة والانتظام في سير الكواكب وما يحدث عنها من المنافع وكيفية نبات الأرض واختلاف أصنافه وألوانه وأشكاله وما فيها من المياه والأودية والجبال وما خد فيها من الطرق والمغاور والوديان ، وما أودعه فيها من المعادن والدواب والحيات والطير(1/309)
ج 1 ، ص : 310
وما أودع فيها من الداء والدواء في نباتها ومعادنها ، أي لا نجعل الصالحين المصلحين «كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ» الذين لا يفقهون شيئا من ذلك ولا يتدبرون مراد اللّه فيهما وما فيهما ، وفضلا عن هذا يزعمونها باطلا ، كلا لا يجعلهم اللّه سواء في الدنيا ولا في الآخرة «أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ» ما نهوا عنه الملازمين ما أمروا به لأن الخير كل الخير في التقوى وما أحسن ما قيل فيها :
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقيّ هو السعيد
وتقوى اللّه خير الزاد ذخرا وعند اللّه للأتقى مزيد
وما لا بدّ أن يأتي قريب ولكنّ الذي يمضي بعيد
أي لا نجعل هؤلاء المتقين أبدا «كَالْفُجَّارِ 28» في الآخرة وان اتفقا في بعض الأشياء في الدنيا فبينهما في الآخرة بون شاسع ، فهذا التقي يكون في عليين ، وذلك الشقي في سجين ، وهذا منعم ، وذاك معذب «و أم» هذه والتي قبلها منقطعة وتقدر ب (بل) لأنها تفيد الإضراب والانتقال ، والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين وتعيينها على أبلغ وجه وهذا القرآن العظيم هو «كِتابٌ» كثير البركة والخير «أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «مُبارَكٌ» جليل النفع في الدنيا والآخرة فأمر قومك «لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ» فيعرفوا أسرار التكوين والتشريع منها «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ 29» فيه بأنا لم ننزله إلا لهذه الغاية كما انا لم نخلقهم إلا للعبادة ونظير هذه الآية الآية 155 من الأنعام والآية 50 من الأنبياء في ج 2.
قال تعالى «وَوَهَبْنا لِداوُدَ» زيادة على نعمنا السابقة «سُلَيْمانَ» خلفا له في نبوته وملكه ونعم الهبة الولد الصالح وهو «نِعْمَ الْعَبْدُ» المخصوص بالمدح هو سليمان عليه السلام وبعض المفسرين جعل المخصوص بالمدح داود وهو أهل للمدح إلا أن القول به غير سديد لأن سياق الآية ينفيه ، وما بعده لا يقتضيه ، لأن عود الاختصاص لا قرب مذكور هو المشهور ، وإن اللّه مدح داود قبل ، وإن قوله «إِنَّهُ أَوَّابٌ 30» يصلح رجوعه إلى كل منهما وإن كانت بحسب الواقع تنصرف للقريب أيضا ، ومعناه كثير الرجوع إلى ربه بالتوبة والندم الذي ديدنه الالتجاء(1/310)
ج 1 ، ص : 311
إلى فضل اللّه والخضوع لأمره ، وهو من أسماء المبالغة أي كل ما بدرت منه بادرة ، أو فرط منه شيء تاب منه واستغفر ربه عنه.
مطلب صلاة الأوّابين وقصة سليمان وفي حادثة السيد سليمان هذه شرعت صلاة الأوابين وهي من السنن في شريعتنا وتسمّى صلاة الغفلة ، لأن سيدنا سليمان غفل عن صلاة العصر بسبب اشتغاله باستعراض الخيل ، صلاها بعد المغرب ، مع أن المفروض عليه صلاة العصر ، فلما غفل عنها صلاها بعد المغرب وقبل العشاء وهو وقت غفلة.
وأقلها ركعتان ، وغالبها ست وأكثرها عشرون كما في البيجوري علي ابن قاسم ، ونقل الطحطاوي عن شرح الوقاية لشيخي زاده أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال أفضل الصلوات عند اللّه المغرب ، لم يحطها عن مسافر ولا مقيم ، فتح اللّه بها صلاة الليل ، وختم بها صلاة النهار ، فمن صلّى بعد المغرب ركعتين بنى اللّه له قصرين في الجنة ، ومن صلّى بعدها أربعا غفر له ذنوب عشرين سنة ، وقال المنادي الصلاة بين العشاءين هي ناشئة الليل المنوه بها في الآية 6 من المزمل المارة.
وقال الغزالي إحياء ما بين العشاءين سنة مؤكدة ، ولهذا البحث صلة في الآية 25 من الإسراء الآتية فراجعها ،
واذكر يا محمد لقومك قصة «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ» على سليمان قولا واحدا متفق عليه «بِالْعَشِيِّ» هو من العصر إلى الليل «الصَّافِناتُ الْجِيادُ 31» سميت الخيل صافنات لأنها تصفن أي تقوم على ثلاث وطرف الرابعة وسميت جيادا لسرعة ركضها وجريها ، وما لم يكن كذلك فهي الكدش أي غير الأصيل من الخيل ، وبقي يستعرضها حتى غابت الشمس فقال «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ» سميت الخيل خيرا لسبق الخير فيها لأنها آلة الجهاد ، قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) الآية 60 من الأنفال في ج 3.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
ومصداق هذا الحديث ظاهر لأنه مع احداث العجلات والسيارات والطيارات وغيرها لم يستغن عن الخيل ، أي آثرتها فأشغلتني «عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» في صلاة العصر لأنها مكتوبة عليه ، وعلى أبيه قبله كتبت صلاة الظهر ، ولا زال يستعرضها «حَتَّى تَوارَتْ»(1/311)
ج 1 ، ص : 312
الشمس «بِالْحِجابِ 32» أي غربت ولم تر.
وقيل الحجاب جبل دون جبل (ق) بمسيرة سنة تغرب الشمس وراءه وبعض أهل العصر يقولون : ق هو جبل القوقاز وسيقولون غير هذا إذا انكشف لهم غير ما اطلعوا عليه الآن من مكنونات اللّه تعالى القائل (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الآية 85 من الإسراء الآتية وعود الضمير إلى غير معهود إذا كان معلوما جائز.
راجع تفسير (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) المارة لا سيما وذكر العشى قبله ولما رأى عليه السلام انه اخطأ بتمادي استعراضه لضياع صلاة العصر ، قال لحرسه «رُدُّوها عَلَيَّ» فردوا الخيل عليه «فَطَفِقَ» شرع يضربها «مَسْحاً» ضربا شديدا مبرحا «بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ 33» وكان ذلك جائزا في شريعته لأن فيها ، من يتسبب بالذنب يعاقب عليه كفاعله ، وهذا مخالف لشريعتنا لأن فيها (جناية العجماء جبار) وجاء في التنزيل (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) الآية 38 من النجم المارة ومثلها في الآية 18 من سورة فاطر والآية 15 من الإسراء الآتية ، وفي الآية 162 من الأنعام ، والآية 7 من الزّمر في ج 2.
وكان في شريعته يجوز أكل لحم الخيل فلا تترك بعد قتلها عبثا ، ولأنه يعتبر أن قتلها كفارة لما فرط منه في شريعته ، وشكرا للّه حيث ردّ له الشمس وأدى صلاته على قول آخر ، مروي عن علي كرم اللّه وجهه ، وقد سبق أن ردت الشمس لسيدنا يوشع عليه السلام كما سيأتي بيانه وسببه في تفسير الآية 24 من سورة المائدة في ج 3.
مطلب في رد الشمس لسيدنا محمد وغيره :
وقد صارت هذه المعجزة لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ايضا إذ ردت له الشمس حينما شغله المشركون بحفر الخندق يوم الأحزاب ، وصلّى العصر ، وهي مشهورة متعارفة ، وردت لعلي كرم اللّه وجهه حينما نام المصطفى في حجره كما روى عن أسماء رضي اللّه عنها وروى الطبراني في معجمه بإسناد حسن ، كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب ، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة ، وكان احمد بن صالح يقول لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة ، وفيه بالغ ابن الجوزي وابن تيمية في عدم صحته حتى عدّاه من الموضوع وهذا هو ديدنهما(1/312)
ج 1 ، ص : 313
رحمهما اللّه ، في كل ما كان من شأنه أن يعد كرامة أو خارقا للعادة ، على ان انكار هذا قد يؤدي إلى انكار انشقاق القمر وما وقع في الإسراء والمعراج وأن ما أورده من الطعن فيه هو ذاك لا غير فراجعه في أوائل سورة القمر المارة لينشرح صدرك وتتيقن مغالاة النافين له ، هذا وما جرينا عليه في تفسير هذه الآية أولى من التفسير بخلافه لأن ظاهر الآية يؤيده وسياق التنزيل يؤكده وهدف العقل يأبى غيره.
ثم ان بعض المفسرين أعاد ضمير (توارت) إلى الخيل وهو غير وجيه ، ولا يستحسن عود ضميرين إلى كلمة واحدة إذ يصير المعنى حتى توارت الخيل رودا على الخيل وان صاحب هذا القول يعبّر عن الحجاب بالاصطبل ، قال الإمام الرازي في تفسيره :
احتاج سليمان عليه السلام إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وإجرائها أمامه حتى غابت الشمس عن بصره ، ثم أمر برد الخيل اليه ، وهو قوله تعالى (رُدُّوها عَلَيَّ) فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها لكونها عونا في دفع العدو ، وليظهر للناس حيطته لسياسة الملك ، حتى انه يباشر هكذا أمرا بنفسه ، وانه عالم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها ، وقال هذا التفسير ينطبق على لفظ القرآن.
على ان مسح تأتي بمعنى ضرب في اللغة الفصحى وعليه يكون ما مشينا عليه من تأويل المسح بالضرب لا يخالف ظاهر القرآن الذي جعلناه أساسا في تفسيرنا هذا وبعض المفسرين أعاد ضمير (رُدُّوها) إلى الملائكة أي ردوا عليّ الشمس أيها الملائكة لأصلي العصر مستدلا بما جاء عن علي كرم اللّه وجهه أنه قال معنى ردوها علي يقوله للملائكة الموكلين بالشمس ردوها عليّ بأمر اللّه ، فردوها حتى صلّى العصر بوقتها ، على أنه لو كان لهذا القول صحة لقال سليمان لرب الملائكة لأنه أعلى رتبة منهم ، وأقدم عند ربهم فكان الأجدر أن يخاطب ربه لا الملائكة فضلا عن انه لم يسبق ذكر للملائكة حتى يعود الضمير إليهم.
مطلب قصة سليمان عليه السلام :
وقال القصاص والأخباريون : إن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس وصلّى الظهر وقعد على كرسيه واستعرضها فعرض له تسعمائة رأس ثم تنبه لصلاة العصر عند غروب الشمس ، ولم يقدر أحد من رجاله أن يعلمه(1/313)
ج 1 ، ص : 314
بضيق الوقت لعظمة هيبته ، فاغتمّ لذلك ، وقال ردوها عليّ ، فصار يضرب سوقها وأعناقها بالسيف.
كفارة لما وقع منه ، وتقربا إلى اللّه تعالى وطلبا لمرضاته ، وإعلاما بأنها من حطام الدنيا ، وأن الدنيا لا قيمة لها عنده ، وان ذلك كان مباحا في شريعته ، وبقي منها مائة فرس ، وان جلّ ما في أيدي الناس من نسلها ، فأبدله اللّه خيرا منها إذ سخر له الريح وجعلها تحت أمره كما سيأتي.
وقد ذكرنا أن أقوال القصاص والأخباريين لا ننقلها ثقة بصحتها لأنهم مولعون بنقل كل غريب من غير تثبيت ، ولكن ننقلها على طريق الاستئناس أسوة بأكثر المفسرين للاطلاع عليه ، إذ قد يوافق نقلهم الواقع أحيانا كما هي الحال هنا من حيث المعنى على ما نرى ، ولا ننقل إلا المعقول منه شرعا ، وهذا مما يوافق ما جرينا عليه في التفسير قال تعالى :
«وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ» ابتليناه لنختبره كسائر الأنبياء الذين امتحناهم لنظهر له وللناس ما كان معلوما ومدونا في لوحنا من قصة «وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ» المختص بجلوسه للملك «جَسَداً» لا روح فيه «ثُمَّ أَنابَ 34» إلى ربه وندم على ما وقع منه ، وخلاصة قصته أنه ولد له ولد فقالت الشياطين لئن عاش لم ننفك عن الخدمة كما هي الحال في زمن أبيه ، وتآمروا على قتله ، فلما علم بذلك صار يغذيه في السماء خوفا عليه منهم فلم يحس إلا وقد ألقي ميتا على كرسيه فتنبه بأنه لم يتوكل على اللّه بشأنه ، فطلب مغفرة ربه فغفر له ، يؤيد هذا ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه ولم يقل إن شاء اللّه ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا واحدة منهن جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره ، فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون ، وجاء مثله في صحيح البخاري عدا أربعين بدل سبعين وزيادة أن الملك قال له إن شاء اللّه فلم يقل ، فالشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه عقوبة له لأنه لم يستثن ، وفيه قال المعري :
خاف غدر الأنام فاستودع الريح سليلا تغذوه درّ العهاد(1/314)
ج 1 ، ص : 315
ومكسور له النجاة وقد يو قن أن الحمام بالمرصاد
مكسور به على جانب الكر سي أم اللهيم أخت الناد
أي الميتة الداهية ، والعهاد الأمطار المتتابعة ، وغاية ما وقع منه عليه السلام عدم الاستثناء وهذا عبارة عن خلاف الأولى وليس بذنب ، وإنما عده ذنبا لأن ترك الأفضل والأولى وما لا يعد ذنبا عند الغير ، وصغار الذنوب أيضا تعدها الأنبياء ذنوبا كبارا بالنسبة لمقامهم ، لأنه إذا كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فمن باب أولى أن تكون هذه من الكبائر عند الأنبياء والمرسلين ، ويحتمل أن هذا الشق هو الذي رباه بالسحاب على ما جاء في القصة ، أما ما ذكره وهب بن منبه من أنه أمر الشياطين أن تصور له أبا زوجته التي أصابها بالغزو في جزيرة حيدون وصارت هي وجواريها يسجدن عند غيابه حتى أخبره آصف بن برخيا بعد أربعين يوما ، ونسي أن شيطانا جاء إلى أم ولده أمينة بصورته وأخذ خاتمه منها وكان ملكه فيه وكان يضعه عندها إذا دخل الخلاء أو أتى إحدى نسائه ، وان ذلك الشيطان لبس الخاتم وجلس على كرسيه ، وان سليمان جاء إلى أمينة وطلب منها الخاتم فقالت لست بسليمان وقد أعطيته له ، وانه إذ ذاك عرف خطيئته ، وصارت الناس تحثو عليه التراب كلما قال أنا سليمان ، وبقي أربعين يوما ينقل الحيتان لأهل السوق بالأجرة وهي مدة عبادة الصنم في بيته ، وأن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حاله في التشبيه وسألوا نساءه فقالوا مثل ذلك ، ولما علم الشيطان ذلك طار وطرح الخاتم في البحر فبلعته سمكة أعطاها الصيادون لسليمان عن أجرته فبقر بطنها ليشويها فوجد الخاتم فلبسه ووقع ساجدا للّه تعالى ورجع كما كان وغير هذا من الترهات كذب محض من أباطيل اليهود أهل الجحود الناقضين للعهود أهل كل شر في الوجود ، والعجيب كل العجيب كيف نقلوا هذه الحكاية السخيفة مع ما فيها من الطعن في عصمة الأنبياء المتفق عليها وعلى حصانة نسائهم الطاهرات ، قال الحسن ما كان اللّه سبحانه ليسلط الشيطان على نساء نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ثم إنه عليه السلام سأل ربه المغفرة عما
وقع منه ، «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي(1/315)
ج 1 ، ص : 316
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ 35»
كثير العطاء غزير المن وهذا لا يقصد التفوق على غيره من الأنبياء لأن الملك يعطى للنبي وغيره بل يقصد المعجزة الخارقة للعادة لان ملكه إذا لم يكن بالغا المنتهى لم يكن معجزة خارقة وأنه عليه السلام أراد بدعوته هذه تخصيصه بشيء خاص كما خصص أباه من قبله بإلانة الحديد وغيرها ولم يكن حرصا على الدنيا والانغماسة فيها وانظر لقول المعري :
إذا عامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم
وروى في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : ان عفربتا من الجن انفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني اللّه منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان (في الآية المارة) فرددته خاسئا ، فيعلم من هذا أن اللّه تعالى أعطى حبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم جميع معجزات الأنبياء أي في نوعها كلها وهو كذلك قال تعالى مجيبا لدعوته «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً» لينة لا تزعج الراكب عليها فتعدمه الراحة إتماما للنعمة فتوصله «حَيْثُ أَصابَ 36» قعد وأراد في الامكنة التي يرومها دون انزعاج «و» سخرنا له أيضا «الشَّياطِينَ» جميعهم ثم خص منهم على طريق البدلية «كُلَّ بَنَّاءٍ» يبتون له ما يشاء من محاريب وقصور «وَ» سخرنا أيضا منهم «كلّ غَوَّاصٍ 37» ماهر في غوص البحار ليخرجوا له الدر واللؤلؤ وغيره «وَآخَرِينَ» من الجن المسخرين تركهم «مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ 38» والاغلال بالقيود والجوامع ، ومنها الأغلال التي توضع بالأعناق ، لان الجوامع لليدين والاغلال لها والرأس ويطلق الغل على العطاء لانه ارتباط للمنعم عليه قال علي كرم اللّه وجهه من برّك فقد أسرك ، ومن جفاك فقد أطلقك ، وقال غيره ، غل يدا مطلقها وفك رقبة معتقها ، قال أبو تمام :
هممي معلقة عليك رقابها مغلولة إن العطاء إسار(1/316)
ج 1 ، ص : 317
وقال المتنبي :
وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
إلا أنهم فرقوا بين الفعل فقالوا صفده قيده وأصفده ، أعطاه عكس ، وعد وأوعد وقد صفد هذه الطائفة بأمر اللّه درأ لأذاهم الناس لعلمه تعالى أن ذاك ديدنهم قال تعالى «هذا» العطاء العظيم «عَطاؤُنا» أيها الناس فتعرضوا له نصبكم منه «فَامْنُنْ» به يا عبدنا سليمان إلى من شئت وأحسن به على من أردت فهو غير نافد «أَوْ أَمْسِكْ» امنع من شئت منه من لا تريد إعطاءه وارفع رفدك عنه فأنت مخير بذلك مطلق الارادة «بِغَيْرِ حِسابٍ 39» عليك فيما تعطي وتمنع وهذه خصوصية له عليه السلام لانه يؤجر إن أعطى ولا يأثم إذا منع بخلاف غيره «وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا» نحن الإله العظيم المانّ عليه بما ذكر عدا ذلك «لَزُلْفى » قربة وكرامة «وَحُسْنَ مَآبٍ 40» في الآخرة وقد جمع له خيرهما وهو للآخرة أتوق لأنها دار راحة ونعيم دائم وفيها يقول المعري :
متى أنا للدار المريحة ضاعن فقد طال في دار الفناء مقامي
وقد ذقتها ما بين شهد وعلقم وخبرتها من صحة وسقام
وقال أبو العتاهية :
ألم تر ريب الدهر في كل ساعة له عارض فيه المنية تلمع
أيا باني الدنيا لغيرك تبتني ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع
أرى المرء وثابا على كل فرحة وللمرء يوما لا محالة مصرع
هذا ومن عرف أن هذا حال الدنيا رغب عنها إلى الآخرة
قال تعالى «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ» في معرض الأنبياء المبتلين أمثالك يا محمد «إِذْ نادى رَبَّهُ» لما اشتد به البلاء فقال يا رب «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ» اتعاب كثيرة ومشقات «وَعَذابٍ 41» أضربي لا طاقة لي عليه يا رب فأعني فأجابه بقوله جل جلاله «ارْكُضْ» اضرب الأرض «بِرِجْلِكَ» فضربها فنبعت ماء فقال له ربه «هذا» الماء لك منه «مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ 42» تشرب منه فاغتسل فذهب(1/317)
ج 1 ، ص : 318
ما فيه ظاهرا من آثار المرض ، وشرب فذهب ما فيه من آلامه الداخلية «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ» أي مثل ما فقد له منهم من المال والولد «وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» على سبيل التفضل «رَحْمَةً مِنَّا» وجزاء لصبره على ابتلائنا وثباته على عبادتنا «وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ 43» العقول السليمة والبصائر الحاذقة ، ليعلموا أن من صبر على بلائي ولم يضجر وشكر نعمائي ولم يفرح ، أعامله معاملة أخصّائي ، ثم بين له المخرج من صلفه كما سيأتي في القصة بعد مفصلة في الآية 84 من الأنبياء في ج 2 ، وكذلك قصص الأنبياء الآتي ذكرهم فراجعها ، ثم قال له «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً» حزمة حشيش صغيرة بملء اليد.
«فَاضْرِبْ بِهِ» امرأتك التي حلفت عليها أن تجلدها «وَلا تَحْنَثْ» بيمينك لأن البرّ به واجب.
مطلب التخفيف وكفارة اليمين بحيلة في محله الملائم :
وقد حلل اللّه يمينه بأهون شيء عليه وعليها شكرا لصبرها عليه مدة مرضه الحكم الشرعي اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده مائة سوط فجمعها بيده وضربه بها ضربة واحدة ، فقال مالك والليث بن سعد وأحمد لا يبرّ ، وقال مجاهد : هذا خاصّ بأيوب عليه السلام.
وقال أبو حنيفة والشافعي : إذا ضربه بها ضربة واحدة فأصابه كل سوط على حدة فقد برّ بيمينه ، استدلالا بهذه الآية.
وقال ابن عباس وعطاء ابن أبي رباح إنه يبرّ مطلقا بقطع النظر عن خصوص السبب.
وهذا هو الأوفق بالقاعدة وهي العبرة للعام ما لم يقيّد ، وهذا إذا استوعبت يد الضارب المائة سوط لا المائة قصلة من الحشيش لأنها خاصة ولا يسقط بها الحنث ، ويشترط ان يصيب جسد المضروب كل واحد منها وإلا لا ، وسنأتي على بحث كفارة اليمين وما يتعلق بها في الآية 92 من المائدة في ج 3.
قال تعالى مبينا سبب إعطائه ضعفي أهله رماله وولده وتخفيف الكفارة عليه بقوله «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً» على بلائنا ولم يشك منه ولم يضجر ولم يتوسل بغيرنا على كشفه ولذلك أجبنا دعوته وزدناه على ما طلب لأنه أظهر لعدوه إبليس وللناس أنه يعبدنا لذاتنا لا للمال والولد والأهل وغيرها ، وإنما أفتيناه بتخفيف الكفارة لأنه حلف عليها من أجلنا بسبب المحنة(1/318)
ج 1 ، ص : 319
التي قدرناها عليه «نِعْمَ الْعَبْدُ» أيوب الصابر الشاكر «إِنَّهُ أَوَّابٌ 44» رجاع إلينا كثير الأيادي على غيرنا «وَاذْكُرْ» يا أكمل الرسل «عِبادَنا» الصابرين الشاكرين أمثال أيوب «إِبْراهِيمَ» إذ امتحناه بإلقائه بالنار واختبرنا وفاءه بالعهد حينما ألقي فيها ، إذ جاءه جبريل ليغيثه فقال : إني عاهدت ربي أن لا أسأل غيره.
وقد قال له سله ليكشف عنك فقال : علمه بحالي يغني عن سؤالي «وَإِسْحاقَ» إذ ابتلي بالذبح وهذا على القول بأنه هو الذبيح وليس بشيء كما سنبينه في الآية 88 من يوسف في ج 2 ولعله ابتلي ببلاء آخر لم نعلمه أو بما كان على أبيه وأخيه إسماعيل عليهم السلام «و يعقوب» إذ ابتلي بفقد ولده وغشاوة بصره من البكاء عليه «أُولِي الْأَيْدِي» القوة العاملة على الطاعة والعبادة والجهاد والصبر على المصائب وعدم الاستعانة بغير اللّه ، وفي هذه الآية تنديد على أولي البطالة والكسالى بأمر الدين والدنيا لأن اللّه يبغض العبد البطال وكتبت الأيدي بالياء ويجوز حذفها بلا حاذف كياء (يسر) في الآية 4 من الفجر المارة وقوله «وَالْأَبْصارِ 45» جمع بصيرة لا جمع بصر لأن البصيرة تجمع على أبصار وبصائر والمراد بها هنا واللّه أعلم القوة العالمية والمعرفة الحاذفة اللتين يصدر عنهما معرفة اللّه والعلم بخصائص مكوناته فهؤلاء وأمثالهم «إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ» لعبادتنا «بِخالِصَةٍ» أي خصلة خالصة لا شوب فيها «ذِكْرَى الدَّارِ 46» الدائمة وهي الآخرة أي اصطفيناهم ليذكروا الناس في الآخرة فيعملوا لها يزهدوهم في الدنيا لئلا يتوغلوا فيها «وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا» بسبب صبرهم وشكرهم وتفاديهم في سبيلنا وقيامهم بأوامرنا «لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ 47» المصفّين من الأدناس المختارين من جنسهم «وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ» المبتلين الصابرين أيضا «و كلّ» منهم عندنا «مِنَ الْأَخْيارِ 48» إذ كل منهم امتحن واختبر فرضي وشكر وسنأتي على قصة كل منهم بانفراده عند ذكره إن شاء اللّه كي لا تتكرر وقد عدد اللّه تعالى جمعا من رسله المصابين بالبلاء بأجسادهم وأهلهم ومن قومهم تسلية لحضرة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وتشجيعا له على تحمل أذى قومه وجفاهم له والصبر على سوء أخلاقهم معه إرشادا لأن يسلك
طريقهم ويقتفي أثرهم ويفكر بما كان على(1/319)
ج 1 ، ص : 320
هؤلاء الأبرار من أقوامهم الفجار ، وكيفية نصرهم عليهم بالوقت الذي قدره ، لا الذي أرادوه ، وانه سينصره عليهم بالوقت المقدر لذلك في علمه الأزلي.
قال تعالى : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) الآية 85 من مريم الآتية قال تعالى :
«هذا» الذي نتلوه عليك يا محمد «ذِكْرٌ» عظيم شريف جميل يذكر فيه هؤلاء الأنبياء الأبرار مدى الدنيا «وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ» هؤلاء وأمثالهم في الآخرة «لَحُسْنَ مَآبٍ 49» مأوى جليل ومرجع كريم هو «جَنَّاتِ عَدْنٍ» خالدة وحينما يأتونها يرونها «مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ 50» حيث تتقدمهم الملائكة فتفتحها لهم زيادة في إكرامهم لا يكلفون فتحها بأيديهم ومفتحة هنا واقعة حالا كالواو في قوله تعالى :
(وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) الآية 73 من الزمر في ج 2 فإنها واو الحال ولهذا البحث صلة في تفسير هذه الآية ، هناك يجلسون في تلك الجنان حالة كونهم
«مُتَّكِئِينَ فِيها» على الأرائك الطرية القوية زيادة في البسط والتنعم «يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ» متنوعة مختلفة بالطعم واللون والشكل والرائحة «وَشَرابٍ 51» كثير يحضر لهم معها وحذفت كلمة كثير هنا لدلالة الأولى عليها راجع الآية 17 من ق المارة تجد الشاهد والمثل «وَعِنْدَهُمْ» مع ذلك النعيم العظيم بنات أبكار «قاصِراتُ الطَّرْفِ» على كل منهم دون غيره فكل زوجة مقصور نظرها على زوجها فقط ، وفي تمام السرور أنهن «أَتْرابٌ 52» متساوين في السن والحسن والخلق والخلق وكل منهم يتحقق أن زوجته لا مثيل لها وكذلك الزوجة «هذا» الذي أعددناه لكم في الدار الآخرة أيها المتقون هو «ما تُوعَدُونَ» به في كتبنا على لسان رسلنا مهيا لكم «لِيَوْمِ الْحِسابِ 5» والجزاء على الأعمال «إِنَّ هذا» كله وأضعافه معه «لَرِزْقُنا» الذي قدرناه لكم جزاء أعمالكم «ما لَهُ مِنْ نَفادٍ 54» دائم أبدا إذا أخذت منه شيئا صار مثله مكانه لا ينقص أبدا فهو باق كالدار الآخرة باقية لا نفاد لها ولا يتطرق لما فيها تغيير أو تبديل بخلاف ما في الدنيا فإنه معرض لذلك وللفناء مثلها «هذا» الأمر الذي ذكرناه لمن ذكرنا من عبادنا الخاشعين الخاضعين لأوامرنا ، وفي هذه الاشارة تنبيه على هول ما قاله تعالى بعدها وهو(1/320)
ج 1 ، ص : 321
«وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ 55» مرجع قبيح ومصير مخزي ومأوى مخجل ، وهذا بمقابلة ما للمتقين.
ثم بين ذلك المآب بقوله : «جهنم» يجوز أن تكون بدلا من المآب أو عطف بيان وهي منصوبة على الذم «يَصْلَوْنَها» يحرقون فيها حرقا فظيعا «فَبِئْسَ الْمِهادُ 56» جهنم المخصوصة بالذم فهي شر الفراش أعاذنا اللّه منها «هذا» العذاب الأليم «فَلْيَذُوقُوهُ» الطغاة أعداء اللّه فهو «حَمِيمٌ» ماء شديد الغليان «وَغَسَّاقٌ 57» ماء آخر شديد البرودة يؤذي كالشديد الحرارة ، ألم تر أيها القارئ فعل البرد في الزرع كيف يصيره أسود كأنه محروق بالنار لا بالحر الشديد لأنه يسوده بل ييبسه فقط وقد تصيبه سمرة راجع الآية 5 من الأعلى المارة قال تعالى : «وَآخَرُ» نوع وجنس آخر من العذاب «مِنْ شَكْلِهِ» أي الحميم والغساق «أَزْواجٌ 58» كثيرة وأضعاف متنوعة ثم يقال للقادة والرؤساء إذا أدخلوا النار وجاءت الزبانية بأتباعهم وزجوهم فيها معهم «هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» العذاب أيضا كما اقتحموا أسبابه معكم في الدنيا ، أي هؤلاء أتباعكم الضلال فيقولون «لا مَرْحَباً بِهِمْ» ضاقت الدار بهم لا وسعت وهذا على ما تعورف عند العرب إذ يقولون للقادم مرحبا أي دارنا رحبة واسعة بمقدمك ، وأهلا أي نزلت على أهلك ، وسهلا أي ما تطلبه يسر علينا إنفاذه هذا إذا كان خيرا وإذا كان شرا فبالعكس ، كما هنا ، ويقولون «إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ 59» مثلنا فيردون عليهم بقولهم : «قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ» لأنكم رؤساؤنا بالكفر والشرك والضلال والإضلال لأنكم «أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ» أي العذاب المذكور «لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ 60» الذي أوصلتمونا اليه ثم يبادرون بالدعاء عليهم إذ لم تنفعهم المخاصمة
«قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا» العذاب الأليم أي تسبب به «فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ 61» لضلالهم أنفسهم وإضلالهم إيانا «وَقالُوا» أي الرؤساء والقادة الطغاة بعضهم لبعض ، الأولون والآخرون ، ومنهم بغاة قريش «ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ 62» في الدنيا يعنون بذلك أتباع الرسل إذ كانوا يسمونهم في الدنيا أشرارا قال قوم هود لهود عليه السلام (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ ت (21)(1/321)
ج 1 ، ص : 322
إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) الآية 27 من ج 2 وقال قوم محمد لمحمد عليه الصلاة والسلام أنؤمن كما آمن السفهاء الآية 13 من البقرة حتى ان قريشا لم ترض بمجالسة فقراء المسلمين كما سيأتي في الآية 51 من الأنعام والآية 27 من الكهف في ج 2 وقالوا أيضا «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا» بهمزة الاستفهام أسقطت معها همزة الوصل أي ما لهم لم يدخلوا معنا النار وكنا نسخر منهم في الدنيا ولا نرضى مجالستهم ، سموهم أشرارا لكونهم على خلاف دينهم ، وأراذل لأنهم فقراء «أم» أنهم موجودون ولكن «زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ 63» فلم ترهم لكثرة أهل النار ، واعلموا أيها الناس «إِنَّ ذلِكَ» الأخذ والرديين التابعين والمتبوعين «لحق» واقع لأنه «تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ 64» في النار كائن لا مرية فيه وهذا التشاحن بين العابدين والمعبودين والضالين والمضلين لا محالة صائر بينهم في بعض مواقف القيامة راجع الآية 35 من المرسلات المارة والآية 21 من ابراهيم في ج 2 والآية 166 من البقرة في ج 3 «قُلْ» يا سيد الرسل لمشركي قومك «إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ» لكم من هذا المصير السيء «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ 65» لكل شيء وان ما تزعمونه من الآلهة كلها مخلوقة للّه ومقهورة له لا تملك من خلقه شيئا ولا لنفسها نفعا وان إلهي «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ» الغالب الذي لا يمتنع عنه شيء «الْغَفَّارُ 66» لمن رجع اليه نادما من ضلاله وأن عظمت ذنوبه كرما منه لأنه واسع المغفرة.
قال الأبوصيري :
يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت إن الكبائر في الغفران كاللمم.
أي إذا أراد غفرانها راجع الآية 52 من سورة الزمر في ج 2 «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك ان هذا الذي أنبأتكم به من حالتي أهل الجنة والنار وكوني رسولا منذرا بأن الإله واحد وأن القرآن منزل من لدنه وأن شركاءكم لا يغنون عنكم من اللّه شيئا «هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ 67» قدره ، جليل أمره ، ولكنكم «أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ 68» مع أنه لا يغفل عنه ويجب الانتباه له والتمسك به وأن اللّه تعالى أنزله إليّ لأقصه عليكم والا أنا «ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ» أبدا(1/322)
ج 1 ، ص : 323
«بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ 69» لأني لم اقرأ الكتب القديمة ولا أحسن الكتابة لأنقلها إليكم وأن جميع ما قرأته لكم من الآيات وما سأتلوه عليكم بعد ليس من نفسي «إِنْ يُوحى إِلَيَّ» أي ما علمته إلا بوحي إليّ من اللّه «إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ» لكم من عذاب اللّه وبشير لكم بما عنده للمؤمنين «مُبِينٌ» ما يأمرني به ربي وشارح لكم عاقبة أمره معكم وكلما أذكره لكم عن الملأ الأعلى وعن أحوال الدنيا والآخرة ما هو من تلقاء نفسي ، إنما هو بوحي منه ، وأراد بالملأ الأعلى الملائكة وبالخصومة هو ما وقع بينهم وبين آدم عليه السلام مما قصه قبل وما يقصه بعد من اعتراضهم على خلافته كما سيأتي في الآية 30 من البقرة في ج 3.
قال تعالى.
واذكر يا محمد لقومك «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ 71» لا من نور كالملائكة ولا من نار كالجن «فَإِذا سَوَّيْتُهُ» أتممت خلقه كما هو في علمي «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» أضاف الروح لنفسه المنزهة على سبيل التشريف اضافة ملك كبيت اللّه وناقة اللّه ، والروح جوهر لطيف يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء ، والنار في الفحم ، والماء في العود ، والشمس في الظل ، والرائحه في الماء ، أي إذا أفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة المقدسة الشريفة التي هي أمري وجعلته حيا حساسا متنفسا «فَقَعُوا لَهُ» حالا بلا توان «ساجِدِينَ» تعظيما له واحتراما لقدرتي حيث خلقته من تراب على غير مثال سابق وجعلته على أحسن صورة ، فلما سمعوا ما أمرهم به ربهم أجابوه فورا كما يدل عليه قوله : «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ 73» لم يتخلف منهم أحد امتثالا لأمره «إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ» على ذلك المخلوق آدم عليه السلام الذي اصطفاه اللّه واجتباه أن يكون أبا لأكمل الخلائق وأحسنها «وَكانَ» هذا الخبيث بسبب امتناعه عن السجود «مِنَ الْكافِرِينَ 74» الملعونين المطرودين «قالَ» تعالى «يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ» على آدم الذي توليت خلقه بنفسي «أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ 75» المتفوقين عليه ، والعالون صنف من الملائكة المقربين كحملة العرش والروح ، قيل إن هؤلاء لم يؤمروا بالسجود(1/323)
ج 1 ، ص : 324
وإنما الأمر صدر من اللّه تعالى لعوام الملائكة ، فظن هذا الخبيث نفسه منهم فلم يسجد مع علمه أنه داخل فيمن أمر بالسجود ولهذا احتج وقال «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» فلا أسجد لمن هو دوني لانك «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ 76» والنار على زعمه أشرف من الطين فيكون على ظنه أنه أفضل منه والفاضل لا يتواضع المفضول عادة ولم يعلم الخبيث خطأ قياسه الذي سنبينه في الآية 11 من الأعراف الآتية لأن النار مصيرها الرماد ولا ينتفع به والطين أصل كل نام من الحيوان والأشجار ، ولا شك أن من الأشجار ما هو مثمر ومن الحيوان الإنسان ، وكل منها خير من الرماد وإذا كان للنار خاصة الإحراق والضياء فللطين خواص كثيرة فلو فرض أن رجلا نسيبا مجردا من كل فضيلة وآخر غير نسيب جامع للفضائل كلها فهل يفضل ذلك عليه لمجرد نسبه كلا ، وكان على الخبيث أن يمتثل لمجرد الأمر من غير أن ينطرق للسبب وللمسجود له لما هو عليه من معرفة ربه على أن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع قال ابن الوردي :
إنما الورد من الشوك وما ينبت النرجس إلا من بصل
قد يسود المرء من غير أب وبحسن السبك قد ينفى الدغل
لكنه عليه اللعنة لم يكن هذا قصده ومغزاه وإنما أراد التكبر عليه لأنه يقول في نفسه قبل أن يصرح بما انتحله من السبب والعلة أنه لو فرض أنه خلق من النار ما سجدت له لأنه مثلي فكيف وقد خلق من الطين ويريد التفوق علي فإني ان سجدت له صرت دونه ولا أرضى لنفسي الدون.
هذا وجاء لفظ أستكبرت بهمزة الاستفهام وأصلها بهمزة الوصل ولكن لما دخلت همزة الاستفهام حذفتها ويجوز بدون الاستفهام لدلالة (أم) التي أتت بعدها عليها «قال» تعالى تنفيذا لما هو في سابق علمه الأزلي أن يكون «فَاخْرُجْ مِنْها» أي الجنة ، وإنما رمز إليها بالضمير ولم يسبق لها ذكر لشهرة كونه من سكانها ، والمعلوم دائما يرمز إليه بالضمير كما بيناه في أول سورة القدر المارة وزاد في إخسائه بقوله : «فَإِنَّكَ رَجِيمٌ 77» طريد منها «وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ 78» الجزاء والحساب(1/324)
ج 1 ، ص : 325
ولا يقال ان غاية هذه اللعنة منتهية إلى يوم القيامة ، لأنه إذا كان مطرودا في أوان الرحمة الشاملة للمؤمن والكافر فلأن يكون مطرودا في غير أوانها يوم القيامة من باب أولى لأن الرحمة فيها خاصة بالطائعين وكيف تنقطع وقال تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية 43 من الأعراف الآتية وعلى هذا فإن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا كان يوم القيامة زيد له عليها من أجناس العذاب ما ينسيه إياها ويكون كأنها انقطعت عنه ، والرجيم في الآية الاولى محمول على الطرد من الجنة والمعنى في الآية الثانية محمول عن الطرد من الرحمة فلا تكرار فيهما ولما أيس الخبيث ورأى ان صورته تغيرت عما كانت عليه لظهور آثار غضب اللّه عليه حيث اسود جسمه وازرقت عيناه بعد أن كان يباهي الملائكة بخلقه وعرف ان لا يبدل قول اللّه ولا يتغير لفرط حذاقته التي استعملها بالخبث «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي» أخرني ولا تمتني «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 79» يعني آدم وذريته ، وقد استمهل الملعون ليتمادى في البغي والطغيان وليجد فسحة للاضلال مع علمه ان لا سبيل للبقاء ليأخذ ثأره من آدم وذريتة باغوائهم وعلى زعمه انه بإجابة دعوته ينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث موت وهو امر معروف عند الملائكة وقد كان معهم كأنه منهم ولشدة مخالفته لهم علموا أنه منهم «قالَ» تعالى : «فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 80» جمع الضمير مع عدم وجود منظر غيره لأن الذين يحضرون القيامة الاولى منظرون إليها بآجالهم فجعله منهم في هذه الحيثية ليس إلا وهذا الانظار
«إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ 81» للنفخة الأولى الموقت والمقدر لموت كافة الخلق اجمع ولما لم يفز الملعون ببغيته كما أراد صرح لربه عما في ضميره ، وهو أعلم به «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 82» آدم وذريته ولما عرف أنه لم يقدر على إغواء الجميع استثنى فقال «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 83» بفتح اللام اي الذين استخلصتهم لعبادتك وبكسرها أي المخلصين لك منهم ، أقسم الخبيث بسلطان اللّه وقهره على إغواء عامة الخلق اولا ، ثم استثنى منهم من لم يقدر على اغوائه والتوصل إليه لا لأجل إخلاصهم ، قاتله اللّه ما ألعنه «قالَ» تعالى «فَالْحَقُّ»(1/325)
ج 1 ، ص : 326
أنا الإله القاهر «وَالْحَقَّ أَقُولُ 84» أقسم بذاته جلت وعلت وهذا أعظم قسم به «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ» نفسك وذريتك وجنسك من الشياطين والجن والمردة «مِمَّنْ تَبِعَكَ» في الإغواء والضلالة والغواية والإضلال «مِنْهُمْ» من ذرية آدم الذين أقسمت على إغوائهم «أَجْمَعِينَ 85» توكيد للضميرين في منك ومنهم أي التابعين والمتبوعين.
وليعلم القارئ الفطن أن هذه القصة قد تكرر في سور أخرى كثيرة في القسم المكي والمدني ولكن يوجد في بعضها ما لا يوجد في الأخرى للايجاز ، وقد يكون فيها لفظان متحدان مآلا ، مختلفان لفظا رعاية للتفنن وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال إنه أقسم مرة بعزة اللّه كما هنا وأخرى باغوائه كما في الأعراف الآتية في الآية 67 ، وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقام كإثبات الفاء هنا في (فانظرني) وتركها في الأعراف وغيرها ، فالذي يجب اعتباره هو أصل المعنى ونفس المدلول ، وحيث أن مقام الحكاية اقتضى ذلك وهو ملاك الأمر ، فلا يخلّ تغير الألفاظ في أصل المعنى كما ترى ، وسنأتي على تفصيل القصة في الآية المذكورة من الأعراف إن شاء اللّه بأوضح من هذا.
قال تعالى يا محمد «قُلْ» لقومك ان ما أنذركم به عن اللّه واجب عليّ حتما تنفيذا لأمر اللّه به واثبه إليكم مجازا «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ» ما أبدا ولا أطلب منكم جعلا البتة «وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ 86» المتعصّبين المتحلّين بما ليسوا من أهله ، ولا المتخلفين المتقولين من أنفسهم ، ولا من المدعين بما ليس عندهم حتى أنتحل لكم وأتقول بالقرآن والادعاء بالنبوة «إِنْ هُوَ» الذي أنذركم به ليس «إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 87» أجمع ، أنزله اللّه عليّ لأذكركم به علّكم تتعظون بأوامره ونواهيه «و» إن لم تفعلوا وعزة ربي وجلاله «لَتَعْلَمُنَّ» يا قومي ويا أيها الناس أجمع «نَبَأَهُ» الصادق وخبره الحق اليقين «بَعْدَ حِينٍ 88» أي مطلق زمن معلوم عند اللّه لم يظهر لأحد ، إلا أن الآية تفيد أن من بقي حيا علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا ، ومن يموت علمه بعد موته ، والكل يعلمه يوم القيامة حقا ، قال الحسن : عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
أخرج ابن عدي عن ابي برزة(1/326)
ج 1 ، ص : 327
قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم : ألا أنبئكم باهل الجنة ، قلنا بلى يا رسول اللّه ، قال : هم الرحماء بينهم ، قال ألا أنبئكم بأهل النار ، قلنا بلى يا رسول اللّه قال : هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون.
والمتكلف من ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم.
وروى البخاري ومسلم عن مسروق قال دخلنا على ابن مسعود فقال : يا أيها الناس من علم شيئا فليقل ومن لم يعلم فليقل اللّه أعلم ، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم اللّه أعلم ، قال اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) الآية المارة ، فعلى العاقل ان يتعظ بما تضمنه هذا الخبر الكريم.
هذا ، وأستغفر اللّه ، واللّه أعلم ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه واتباعه ومن تبعهم بإحسان أجمعين إلى يوم الدين.
تفسير سورة الأعراف
عدد 39 - 7
نزلت بمكة بعد ص ، عدا الآيات من 162 إلى 170 فإنها نزلت بالمدينة ، وهي مائتان وست آيات ، وثلاث آلاف وخمس وعشرون كلمة ، واربعة عشر الفا وعشرة أحرف ، يوجد في القرآن ثلاث عشرة سورة مبدوءة بالحروف المهملة ، هذه والبقرة وآل عمران ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة.
أما ما بدأ بالحروف المعجمة فقد ذكرنا في سورة نون أنها هي وق ، وقد اختلفوا في معانيها على أقوال كثيرة ولا يعلمها على الحقيقة إلا اللّه لأنها من المتشابه الذي لم يطلع على المراد منه أحد إذ استأثر به نفسه وهي من أسرار القرآن التي يجب الإيمان بها على ظاهرها ويوكل علم ما فيها إلى منزلها.
قال علي كرم اللّه وجهه لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ، ومن معجزات القرآن أنها جمعت في آية واحدة من آل عمران في ج 3 عدد 154 وهي (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) إلخ وإن عشر سور أخرى من هذا القبيل مريم والطور والخواتيم ، قال أبو بكر : في كل كتاب سر ، (1/327)
ج 1 ، ص : 328
وسر اللّه في القرآن أوائل السور ، ولا يقال كيف يخاطب اللّه بما لا يفهم إذ له أن يكلفهم بما لا يعقل جزما كرمي الحجارة في الحج وعدد ركعات الصلاة وغيرها ، لأن الحكمة المرادة منها لا تعرف يقينا ، أما قولهم هي مواقع الشيطان الذي كلم إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام فيها يوم أراد ذبحه فهو أمر ظاهري ليس الا ، وهذا من كمال الانقياد لقدرته وقدمنا بعض ما فيها أوائل سورتي ق ون المارتين وفي المقدمة في بحث الفرق بين الوحي الإلهام ، وسنلمع في كل منها ما نقف عليه من معانيها في محله كما فعلنا في سورة ص المارة.
واعلم أن جميع ما جاء من حروف الهجاء في أوائل السور أحد عشر حرفا مهملا وهي : ا ل م ص ط س ح ر ك ه ع وثلاثة معجمة وهي : الياء والقاف والنون ، وهي هنا اسم للسورة وفواتح أسماء اللّه الحسنى أنا اللّه المعبود الصبور المصور اللطيف المجيد الذي يفصل بين الخلق ويعلم ما هم عليه وما هم صائرون إليه وسر من أسراره الدائرة بينه وبين حبيبه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى : «المص 1» قال أهل المعرفة ما من سورة ابتدئت بالم إلا وتشتمل على ثلاثة أمور : 1 - الخلق وكيفيته وهو البداية ، 2 - والمعاد وما فيه وهو النهاية ، 3 - والوسط وما يتعلق به وهو المعاش وفيه اشارة إلى مخارج الحروف الثلاثة ، الحلق واللسان والشفتين ، وزيد في هذه السورة حرف الصاد إعلاما بما فيها من قصص الأنبياء وغيرهم هذا «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ» ضيق وضجر «مِنْهُ» بسبب إبلاغه وتأدية ما أرسلت به منه إلى قومك ولا تنقبض من شكهم فيه وبإنزاله عليك وتكذيبهم لك وجحدهم نبوتك «لِتُنْذِرَ» متعلق بأنزل «به» أي الكتاب قومك وغيرهم من أهل الأرض «وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ 2» به المصدقين بك وبربك ، وإنذار للمكذبين المنكرين فقل يا أيها الناس «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» في هذا الكتاب الذي أتلوه عليكم «وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» كرؤوس الكفرة والشياطين الذين يدعونكم إلى الشرك باللّه ويريدونكم على عبادة الأوثان والأهواء الفاسدة المبتدعة «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ 3» بعظة اللّه(1/328)
ج 1 ، ص : 329
ورسوله وكتابه ، وما هنا لتأكيد القلة ، أي أن اتعاظكم به قليل جدا ولهذا لم تنتفعوا به ، ثم حذرهم من عدم التذكر ومن الإصرار على الشرك وإنكار التوحيد بقوله عز قوله «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» لعدم اتعاظها «فَجاءَها بَأْسُنا» عذابنا الذي لا يرد بحكمنا الذي لا يعقب قبل أن يصبحوا بدلالة قوله «بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ 4» ضحوة النهار لأنه أيضا وقت غفلة لا يتوقع فيه شيء بخلاف الصباح ، فإن الغارات تقع فيه غالبا ، وقد أهلك اللّه قوم لوط سحرا وقال :
(فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الآية 177 من الصافات في ج 2 ، وأهلك قوم شعيب ضحى ، ونزول العذاب وقت الغفلة أشد وقعا في النفس من غيره وأفظع هولا ، وفي هذه الآية تخويف لقريش وتنبية بعدم اغترارهم بما هم فيه من الحذر ، لأن اللّه إذا أراد إنزال عذابه بهم أنزله عليهم دفعة واحدة حال غفلتهم ، كما فعل بغيرهم وهؤلاء المعذبون حينما يقع بهم العذاب «فَما كانَ دَعْواهُمْ» احتجاجهم وتضرعهم ودعاؤهم «إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا» واتصل بهم عذابنا «إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ 5» أنفسنا لعدم امتثالنا أمر رسلنا ، وإصرارنا على مخالفتهم ، وانكبابنا على الشرك ، وبعد اعتراف هؤلاء باستحقاقهم العذاب «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» يوم القيامة بالموقف العظيم على ملأ الأشهاد وليبينوا ما أجابوا به رسلنا حين دعوهم للإيمان بنا وحدنا «وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ 6» أيضا في ذلك المشهد هل بلغوا رسالتنا كما أمرناهم أم لا ، وهذا السؤال من اللّه عز وجل بمثابة الجواب للقائلين (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) الآية 18 من المائدة في ج 3 وفي معناها كثير في القرآن ، مع أن اللّه تعالى لم يترك أمة بلا رسول ، راجع الآية 24 من فاطر الآتية ، وهو أعلم بما يقولون لأجل الاستشهاد على إنكارهم وتوبيخهم وتقريعهم على رءوس الأشهاد ، قال تعالى «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ» ما وقع منهم كله «بِعِلْمٍ» ويقين ليتحققوا أنا كنا حاضرين عملهم «وَما كُنَّا غائِبِينَ 7» عنهم حينما بلغهم الرسل أو أمرنا راجع تفسير الآية 30 من آل عمران في ج 3 ، وفائدة هذا القصص إخزاء المنكرين عند ما يظهر كذبهم بالموقف بشهادة رسلهم عليهم ، لا لأجل الاستثبات(1/329)
ج 1 ، ص : 330
من إيقاع أفعالهم لأن اللّه عالم بها قبل وقوعها منهم وعالم بما في الكون كليّه وجزئيه وعلمه تعالى بظاهر الأمور كعلمه يبواطنها ، راجع الآية 3 من سورة سبأ في ج 2 ، قال تعالى «وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ» يوم السؤال هو «الْحَقُّ» العدل الكائن لا محالة.
مطلب وزن الأحمال وحادث البطاقة :
واختلف في وصف الميزان وكيفية الوزن ، والإيمان بهما على ظاهرهما واجب ، وأصح ما قيل فيهما أن الميزان له لسان وكفتان عظيم الحجم ، والوزن هو صحائف الأعمال ، بدليل ما رواه عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال :
ان اللّه عز وجل سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول له أتنكر شيئا من هذا ؟
أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول لا يا رب ، فيقول ألك عذر ؟ فيقول لا يا رب ، فيقول تبارك وتعالى : بل إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج اللّه له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه ، فيقول احضر وزنك ، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال له انه لا ظلم عليك اليوم ، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسمه شيء.
أخرجه الترمذي واحمد بن حنبل.
إن هذا يثبت ما قلناه في الميزان والحكمة من إظهار العدل للناس وتعريفهم ما لهم وعليهم ، وعلامة السعادة والشقاوة ، وبيان أنّ اللّه لا يظلم عباده ، وانه امتحنهم بالإيمان في الدنيا وأقام عليهم الحجة في العقبى وليتيقنوا استحقاقهم العذاب وان اللّه لم يحف عليهم راجع الآية 26 من ص المارة ، قال تعالى «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» بحسناته وطاشت سيئاته «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 8» الفائزون بثواب اللّه الناجحون في ذلك اليوم «وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» بسيئاته وطاشت حسناته «فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» فيه وعوقبوا بحرمانهم من ثواب اللّه وكرامته «بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ 9» أنفسهم في الدنيا بجحدهم آياتنا وتكذيبهم رسلنا ، (1/330)
ج 1 ، ص : 331
قال تعالى «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ» أيها الناس «فِي الْأَرْضِ» وأقدرناكم على التصرف فيها وملكناكم إياها «وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ» من كل ما تحتاجون في حياتكم من مشرب ومطعم وملبس ومسكن وغيره ، ومع هذا أراكم «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ 10» صنيعي فيكم وانعامي عليكم حق شكره ، وذلك أن الآية تفيد أنهم يشكرون نوعا أي قليلا جدا بالنسبة لعظم أفضال اللّه عليهم وان حق الشكر تصور النعمة دائما وإظهارها والثناء على المنعم ، وضده الكفر وهو نسيان النعم وكتمها وكان غاية شكرهم ذكرهم النعمة عند حضورها فقط وهذا لا يخلو منه إنسان
«وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ» أيها الناس من نطفة وخلقنا أباكم من تراب «ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ» في الأرحام على صورة أبيكم الذي صورناه على الأرض «ثُمَّ» أعلمناكم على لسان رسولنا بأنا «قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» عند تمام خلقه «اسْجُدُوا لِآدَمَ» «هذا الذي خلقته بيدي» «فَسَجَدُوا» له كلهم إذعانا لأمرنا «إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ 11» له استكبارا عليه وأنفة منه ومخالفة لنا «قالَ» تعالى يا إبليس «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» مع الملائكة ومن قال لك لا تسجد! ولا هنا ليست بزائدة لعدم جواز وجود زائد في القرآن ولا يقال إنها لا معنى لها لأن كل حرف في كتاب اللّه له معنى وهنا جيء بها للتأكيد أي أي شيء منعك أن تسجد ، يؤيد هذا الآية في سورة ص ، وهي ما منعك أن تسجد بدون لا ، وقد سبق أن ذكرنا ما يتعلق بمثلها أول سورة القيمة وسورة البلد المارتين فراجعهما وسنأتي على تفنيد الاستناد إلى الآيات المحتج بها على قولهم بأن لا فيها زائدة عند تفسيرها بحالها إن شاء اللّه «إِذْ أَمَرْتُكَ» بالسجود الأمر هنا للوجوب والسؤال للتوبيخ ولإظهار عناده وكفره وافتخاره بأصله وبيان حسده لآدم وتحقير أصله المبين بقوله «قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ 12» حجة قاصرة تقدم تفنيدها في الآية 76 من ص المارة إذ من المعلوم ان جوهر الطين الرزانة والهناءة والصبر والحلم والحياء والتثبت والمودة ، وهذا ما دعا آدم وذريته إلى التوبة والندم والاستغفار ، وجوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب والعجلة.(1/331)
ج 1 ، ص : 332
مطلب مقاييس إبليس :
وهذا ما حمل إبليس على العناد والاستكبار والافتخار ، والطين عدة المسالك ومظنة الأمانة والإنماء ، والنار عدة المهالك وخطة الخيانة والإفناء ، والطين يطفىء النار ويتلفها وهي تصلحه وتقويه ، فقد غفل اللعين عن هذه الفضائل وزل بفاسد المقاييس فأخطأ وهو أول من قاس فأخطأ ، قال ابن سيرين ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس ، على ان الأفضلية ليست بفضيلة الأصول والجوهر بل لمن يجعله اللّه فضلا ، لأن المؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي ، وان آدم اختصه اللّه فجعله صفيه وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه اسماء الأشياء كلها وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية ، والاستثناء في هذه الآية منقطع لأن إبليس ليس من جنس الملائكة وانما استثناه منهم لأمره بالسجود معهم ولما لم يسجد أخبر اللّه عنه انه لم يكن من الساجدين لا انه من الملائكة وقد ثبت انه من الجان.
قال تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 50 من الكهف في ج 2 وانه خلق من النار والملائكة من النور.
قال تعالى «فَاهْبِطْ» أيها اللعين المتخلف عن أمرنا «مِنْها» أي الجنة «فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها» وتتجبر لأنها لم تخلق للمتكبرين ولا ينبغي أن يسكنها متجبر «فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ 13» الأذلاء المهانين المحقّرين لعدم امتثالك أمري.
وان التعظيم في الأصل للّه لا لآدم.
قال ظافر الاسكندري :
أنت المراد بنظم كل قصيدة بنيت على الأفهام في تبجيله
كسجود أملاك السماء لآدم وسجودهم للّه في تأويله
فأخرج وطرد حالا ولما علم أن سقط في يده «قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 14 قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 15» تقدم تفسيرها في الآية 74 فما بعدها من سورة ص المارة والذي جرأ الملعون على هذا السؤال علمه بحلم ذي الجلال وانما أجاب جل جلاله سؤاله بالامهال ليعلم خلقه برّه وإحسانه إلى من يسيء إليه فكيف اذن عطفه ولطفه بالمؤمنين المحسنين ، ولما لم يرق له هذا الإمهال للسبب المتقدم هناك أيضا(1/332)
ج 1 ، ص : 333
«قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ 16» أي لأعترضن لهم على طريق الإسلام القويم كما يعترض قطاع الطريق وكما يكمن العدوّ لعدوه وأردنّهم عن طاعتك وأزيننّ لهم عصيانك «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» فأوقع الشك في قلوبهم بأمر الآخرة «وَمِنْ خَلْفِهِمْ» فأرغبنّهم في الدنيا وإنما كانت خلفهم لأنهم تاركوها لا محالة وبما أنهم قادمون للآخرة حتما فتكون بين أيديهم أي أمامهم «وَعَنْ أَيْمانِهِمْ» أشبه عليهم أمر دينهم لإبطال حسناتهم التي يكتبها ملك اليمين «وَعَنْ شَمائِلِهِمْ» أشهى لهم المعاصي لتزداد خطاياهم التي يدونها عليهم ملك الشمال ، ذكر الخبيث الجهات الأربع لتأكيد إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم من كل الجهات والوجوه الممكنة ، ومن تتمة كلام هذا الغضيب ما حكاه اللّه عنه «وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ 17» قال هذا القول على سبيل الظن ولكنه أصاب ، قال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية 20 من سبأ في ج 2 فلا حول ولا قوة إلا باللّه.
مطلب مناظرة إبليس وقول سيف الدولة :
أخرج النسائي عن سيرة ابن ابي الفاكهة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول :
إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، قعد له في طريق الإسلام فقال : تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك ؟ فعصاه وأسلم ، وقعد له بطريق الهجرة فقال :
تهاجر وتذر أرضك وسماءك ، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول (أي محجر عليه) فعصاه وهاجر ، وقعد له بطريق الجهاد فقال : تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل ، فتنكح المرأة ويقسم المال ، فعصاه فجاهد.
قال : فمن فعل ذلك كان حقا على اللّه أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان عليه أن يدخله الجنة ، أو وقصته (رفسته) دابته كان حقا على اللّه أن يدخله الجنة.
قال شقيق البلخي ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع ، أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن اللّه غفور رحيم ، فأقرأ قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) الآية 18 من سورة طه الآتية ، وأما من خلفي فيخوفني وقوع أولادي(1/333)
ج 1 ، ص : 334
في الفقر فأقرأ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية 6 من هود في ج 2 وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) الآية 132 من طه الآتية ، وأما من قبل الشمال فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) الآية 54 من سبأ في ج 2.
وذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة مناظرة إبليس والملائكة وهي مذكورة في التوراة أيضا (قال للملائكة إني أسلّم أن لي إلها خالقا وموجدا لي وللخلق أجمع ، ولكن 1 - ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار.
2 - ما الفائدة في التكليف مع أنه لا نفع له به ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف.
3 - هب أنه كلّفني بمعرفته وطاعته فلما ذا كلّفني بالسجود لآدم مع علمه أني أمتنع.
4 - لما عصيته فلم لعنني وأوجب عقابي مع عدم الفائدة له ولغيره ولي فيه الضرر العظيم.
5 - إنه لما فعل ذلك لم سلطني ومكنني من إغواء الخلق.
6 - لما استمهلته لم أمهلني ويعلم أن العالم إذا كان خاليا من الشر فهو أحسن ؟
قال شارح الأناجيل فأوحى اللّه من سرادق عظمته وكبريائه يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أن لا اعتراض عليّ في شيء ، فإني أنا اللّه لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل.
هذا ، وان هذه الشبهات ليصعب على القائلين بالحسن والقبيح العقليين الجواب عنها.
قال الإمام : لو اجتمع الأولون والآخرون وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا ، ولهذا تجد أكثر أهل الزيف يسألون أسئلة من هذا القبيل اقتداء بسيدهم إبليس ، ولو عرفوا أنه تعالى علاه لا يسأل لما سألوا.
ويحكى أن سيف الدولة قال لجماعته علمت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا ، فقال أبو فراس ما هو ؟ قال :
لك جسمي تعلّه فدمي لم تطلّه
فابتدره أبو فراس قائلا :
أنا إن كنت مالكا فلي الأمر كله
رحم اللّه الاثنين.
وعليه فمن عرف أن الأمر كله للّه وعرف أن اللّه لا يسأل عما(1/334)
ج 1 ، ص : 335
يفعل ولا يرد ما حكم عرف أن الخير برضاه والشر بقضاه واعتقد هو أن ما وقع مراد اللّه.
واعلم أن قصة إبليس المذكورة بوضوح آخر سورة ص المارة كررت في القرآن كثيرا وذلك لأن اعجاز القرآن بالتحدي والبلاغة ، فتجيء مرة موجزة وأخرى مطنبة وكل منها يؤدي المعنى المطلوب منها والغرض المقصود في الفصاحة ليعلم أن القرآن ليس كلام البشر وأنه خارج عن قدرتهم الإتيان بمثله ، لأن الألفاظ لا يقدر أن يستعملها أحد مختصرة ومطنبة مع المحافظة على بلاغتها وأدائها تمام الغرض المقصود إلا الذي خلقها وأن حضرة الرسول كان يضيق صدره من جفاء قومه المرة بعد المرة فيكرر اللّه تعالى عليه ما لاقى الرسل إخوانه من أقوامهم وما لاقاه آدم من إبليس ليخفف عنه بعض مابه ، وان المسلمين أيضا كان يحصل لهم الأذى من الكفرة ، فينزل اللّه تعالى ما لاقى إخوانهم أنصار الأنبياء السابقين ، فيهون عليهم بعض ما هم فيه ، ولأن القصة الواحدة تشتمل على أمور كثيرة فقد كر تارة ويقصد بها بعض الأمور قصدا ، وبعضها تبعا وتعكس مرة أخرى ، فتكرر عند كل مناسبة وكل منها تفي بالمقصود الموجزة والمطنبة.
وهذا من الإعجاز الذي يكل عنه طوق البشر وقد بينا في سورة الكافرين المارة ما يتعلق بهذا فراجعه وله صلة في كل قصة تكرر في السورة الآتية.
ونذكر أيضا ما يلائم المقام من الأحاديث والحكايات كما هنا «قالَ» تعالى علمه لإبليس «اخْرُجْ مِنْها» لأنك لم تقدرها حق قدرها ، ولم تقدر الإله العظيم الذي أسكنك فيها لأنك خلقت مذموما «مَذْؤُماً» الذأم أشد العيب وأقبحه وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن «مَدْحُوراً» مطرودا مبعدا من رحمة اللّه ثم أقسم جل قسمه فقال : وعزتي وجلالي «لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» أي من ذرية آدم وجواب القسم «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ» أنت وذريتك ومن تبعكم من بني آدم ، وفي هذه الآية تغليب ضمير المخاطب على الغائب «أَجْمَعِينَ 18» تأكيد لضمير منكم ثم التفت جل شأنه فقال : «وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» واتخذها مسكنا ومثوى لكما.
والفعل على إضمار قلنا وجئن بضمير أنت لصحة العطف إذ لا يجوز العطف على المستتر «فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما» مما فيها.
جاء هنا فعل كلا مقرونا(1/335)
ج 1 ، ص : 336
بالفاء لإفادتها الجمع على سبيل التعقيب.
ولم يأت بالواو لإفادتها مطلق الجمع ، والمفهوم في الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ، ولا منافات بين النوع والجنس المفهوم من الواو ، فذكر في هذه السورة النوع وسيذكر في البقرة في ج 3 في الآية 35 الجنس تأمل «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» ولا تدنوا منها أي لا تأكلوا.
فقد نهاهما عن جنس الشجرة ، ولم يعينها لهما ، فليس لنا أن نعينها ، إذ لا طائل تحتها ، لأن القصد امتثال الأمر بكف المأمور عما نهي عنه ، لذلك حصل الاختلاف في نوعها ، فمن قائل أنها الحنطة ، ومن قائل أنها التين أو التفاح ، واللّه أعلم بمراده فيها «فَتَكُونا» إذا أكلتما منها «مِنَ الظَّالِمِينَ 19» أنفسهم وتكونا قد فعلتما فعلا مخالفا لأمري مما هو خلاف الأولى والأفضل ولا شك أن هذا كان قبل النبوة وسيأتي أيضا ج هذه القضية في الآية 115 من طه الآتية «فَوَسْوَسَ لَهُمَا» له ولزوجته حواء «الشَّيْطانُ» بحديث مكرر مهموس ومطلي مزخرف ألقاه في قلبهما بقوة من اللّه تعالى يقذفها في قلب الموسوس له مثل الهواجس والخواطر التي تقضي إلى ما يقضي عنه في بني آدم ، يؤيد هذا ما جاء في قوله صلّى اللّه عليه وسلم (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) وهو محمول عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له ، وهذا أحسن ما قيل في معنى إيصال الوسوسة من إبليس لآدم ، مع إنه هبط إلى الأرض وآدم في الجنة ، وما قيل إنه دخل جوف الجنة فأدخلته وقال لهما ما قال مما ذكره القصاص والأخباريون ، فلا قيمة له.
كما أن ما قيل إنه قام على بابها فكلمهما أو تمثل لهما بصورة دابة أو أرسل أتباعه إليهما وأتاهما بصورة طاووس من الجنة فكلمها أقاويل مجردة عن الدليل ، وكذلك ما قيل إنه منع من دخول الجنة على جهة التقريب والتكريم لا على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وزوجته لا عبرة به أيضا وإنما تحرش بهما «لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما» ليكشف ما غطى وستر «مِنْ سَوْآتِهِما» سمي الفرج سوأة لاستياء الإنسان بظهوره.(1/336)
ج 1 ، ص : 337
مطلب الحكم الشرعي في كشف العورة وزلة آدم :
الحكم الشرعي في كشف العورة حرام وهي جميع بدن الحرة عدا وجهها وكفيها وباطن قدميها ، ومن الرجل والأمة ، ما فوق الركبة وتحت السرة والظهر والبطن من الأمة وبدوّها من كل يبطل الصلاة ، هذا ، وانهما لم يصغيا اولا لوسوسته إلا أنه لما حلف لهما أن هذه الشجرة ليست التي نهيتما عنها «وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ» من الملائكة المقربين خاليين من كل عناء «أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ 20» الذين لا يموتون ، أي أن علة النهي وسببه عدم جعلكما من الملائكة وعدم خلودكما في الجنة لأن في الأكل طلب الخلد قال في سورة طه (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى ) الآية 112 الآتية ، فلهذا ولعلم آدم أن للملائكة منزلة عظمى عند اللّه وقربا من عرشه وأن الخلد مما يطمع به أيضا فقد حمله الطمع الذي هو من طبيعة البشر على الاستشراف بذلك محبة للعيش مع الملائكة وطول العمر بالتخليد في الجنة
«وَقاسَمَهُما» حلف لهما فوق ذلك فائلا :
«إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ 21» فيما ذكرته لكما ، وأكد حلفه بأن واللام التأكيدتين ووقع القسم منه على صيغة المفاعلة ، لأن إبليس يحلف وآدام وحواء يصدقان فصار كأنه قسم من اثنين فصدقاه لظنهما أن أحدا لا يحلف باللّه كاذبا.
قال قتادة حلف لهما حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن باللّه.
ونقل بعض العلماء عن ابن عمر : من خادعنا باللّه خدعنا له.
وقد استزلهما بذلك كله فمالا إلى قوله «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» على الشجرة المنهي عنها - من الدلالة أو من دلى الدلو في البئر - اي حطهما عن درجة الطاعة وازلهما إلى درك المعصية ، وقيل من الدالة وعليه قوله :
أظن الحلم دل علي قومي وقد يستجهل الرجل الحليم
أي ما زال يدلي إليهما بالنصح المزعوم بما تقدم وبقوله أنا اعلم منكما لأنكما حديثا عهد بالحياة وأنا ممن جرب الأمور وغاص عواقبها ولم يزل حتى استمالهما بما زخرفه لهما من القول مظهرا النصح لهما ومبطنا الغش ، وهذا هو معنى الغرور ، فضلا ت (22)(1/337)
ج 1 ، ص : 338
عن أنه وثق أقاويله كلها بالأيمان وهو أول من حلف باللّه كاذبا لعنه اللّه ، فانصاعا اليه وأكلا من الشجرة.
قال تعالى «فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ» أخذا منها يسيرا لمعرفة طعمها «بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما» حالا فتهافت لباسهما القدسي عنهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا من بعض ما قال قتادة كان لباسهما من جنس الأظفار شبه اللؤلؤ بياضا وعلى غاية من اللطف واللين والنضارة ، فتقلص عنهما حتى بقي عند الأظفار تذكيرا للنعمة وتجديدا للندم «وَطَفِقا يَخْصِفانِ» يرقعان ويخيطان «عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» من ورق تينها ومرزها وكرمها وما شاكل ذلك من كبار الورق فيلزقان الواحدة جنب الأخرى ليسترا عورتهما فيه ، وفي هذا دليل على قبح كشف العورة في ذلك اليوم «وَناداهُما رَبُّهُما» وبين ما هية هذا النداء بقوله «أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» وأحذركما من قربها لئلا يصيبكما ما أصابكما من هتك ستركما والسّبب لإخراجكما من الجنة دار الراحة وأنزلكما إلى الأرض دار الشقاء والعناء «وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ 21» ظاهر العداوة ، لأنه لم يسجد لأحدكما حسدا ، وهذا عتاب من اللّه جل جلاله لآدم وزوجته ولم يتشرف بالنبوة بعد ، ولو كان لما رغب بمقام الملائكة لأن مقام النبوة أشرف ، فما قيل إنه كان نبيا مردود بما سيأتي الآية 31 من سورة البقرة في ج 3 ، إذ قال بعد الأكل (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) إلخ وقوله جل قوله في طه الآتية بعد الأكل أيضا والتصريح له بالعصيان (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى ) الآية 122 كما تراه في تفسيرهما ، فلما رأيا ما حلّ بهما من ذوقهما الشجرة وعتاب ربهما لهما «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» بمخالفة أمرك وقد غرّنا الملعون فأوقعنا بما نحن فيه «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ 23» رضاك مع خسراننا الجنة الهالكين بمخالفتك.
وهذه الكلمات هي التي تلقاها من ربه المشار إليها في الآية من البقرة أعلاه على ما قاله ابن عباس.
وقال ابن مسعود إنها (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
والأول أولى(1/338)
ج 1 ، ص : 339
لتكرارها فيما قصه القرآن وعدم ذكر ما قاله ابن مسعود.
وفي هذه الآية استدل من يقول بجواز صدور الذّنب من الأنبياء وليس بشيء لأن هذه الحادثة وقعت قبل النبوة كما تقدم وعليه جل المفسرين ، ولا يوجد دليل يثبت وقوعها بعد النبوة ، كيف وقد قال تعالى (ثُمَّ اجْتَباهُ) في الآية المذكورة آنفا من سورة طه أي اصطفاه نبيا بعد ما وقع منه ذلك ، وفي الآية دليل على أن صغار الذنوب تحتاج إلى طلب المغفرة أو عمل ما يكفرها ، خلافا للمعتزلة القائلين بأنها مغفورة عفوا.
قال قتادة : قال آدم يا رب ، أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك ؟ قال إذن أدخلك الجنة ، وأما إبليس فسأل الإنظار بما يدل على أن امتناعه من السجود كان تجبرا ، فأعطى اللّه كلا ما سأل.
هذا ، ولم يعتذر آدم بإغواء إبليس له ، لأنه أقدم على تناول الشجرة مختارا وفيه إيذان بإبطال مذهب الجبرية ، تأمل ترشد وراجع الآية 22 من سورة إبراهيم في ج 2 ، «قالَ اهْبِطُوا» خطابا لآدم وحواء وإبليس ، وكرر له الأمر لعنه اللّه إشارة إلى عدم انفكاكه عنهما وملازمته لهما في الدنيا أما ما قاله الطبري والسدي من أن الخطاب لهم وللحية فلم أر ما يؤيده وقد سبق تضعيف القول بأن الحية أدخلت إبليس الجنة حتى تمكن من إغواء آدم وزوجته ، ولم يسبق في القرآن ذكر للحية.
وقيل إن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن إبليس أهبط إلى الأرض قبلهما ، ومن شمل إبليس في هذا الخطاب قال إنه أهبط أولا من الجنة إلى السماء وفي هذا الأمر من السماء إلى الأرض معهما وهو وجيه ، ومن لم يشمله قال بأن الجمع هو ما فوق الواحد ، وعليه قاعدة المنطقيين استدلالا بقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 45 من سورة النمل الآتية وفيها ما يدلك على غيرها ، على أن لغات الأجانب كلها لا تثنية فيها لأنهم يعبرون بالجمع على ما فوق الواحد «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» متعادين في الأرض كما تعاديتم في السماء «وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» تمكثون فيها منها «وَمَتاعٌ» تتمتعون به فيها «إِلى حِينٍ 24» انقضاء آجالكم «قالَ فِيها تَحْيَوْنَ» لمدة المقدرة لكم «وَفِيها تَمُوتُونَ» فتدفنون إلى أجل معلوم تبقون في برزخكم(1/339)
ج 1 ، ص : 340
«وَمِنْها تُخْرَجُونَ 25» يوم القيامة عند النفخة الثانية «يا بَنِي آدَمَ» اعلموا أنا «قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ» جار مجرى التعظيم.
مطلب تواصي اللّه لخلقه والتزين للصلاة وغيرها :
وكل ما أعطاه اللّه لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل كما تقول رفعت حاجتي إلى الأمير فليس فيه نقل من سفل إلى علو «لِباساً» لما كان المطر سبب النبات وكان النبات سبب اللباس ، لأنه يكون من النبات ومن الحيوان الذي يأكل النبات ، جعله نازلا باعتبار ما يؤول إليه «يُوارِي» يستر ويغطي «سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً» تتزينون به من الأثاث والمتاع ، تقول العرب تريش الرجل إذا تمول ، أي كل ما نحتاجونه في دينكم ، إلا أن هناك شيئا هو أعظم نفعا لكم إذا تزينتم به «و» هو «لِباسُ التَّقْوى » الذي يتحلى به الإنسان بامتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه «ذلِكَ» لباس التقوى وقد أشار إليه بلفظ البعد تعظيما لشأنه لأن نفعه يؤول إلى الآخرة الباقية فهو حتما «خَيْرٌ» من اللباس والرياش المختصين بالدنيا لأن غايتهما دفع الحر والقر والتنعم في هذه الدنيا الفانية إلى حين ، أما لباس التقوى فإنه يقي من عذاب اللّه ويورث الدار الآخرة الباقية والنعيم الدائم قال :
إذا أنت لم تلبس ثيابا من النقي عريت وان وارى القميص قميص
ثم أشار إلى عظمته أيضا فقال «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» الدالة على فضله ورحمته بعباده إذ أنزل عليهم ماء أنبت به ما يكون لباسا وغذاء للحيوان الذي يكون منه ما يؤكل ويلبس وغيره من الحيوانات الناطقة وغيرها من الوحوش والطيور والحوت «لعلكم تذكرون 26» هذه النعم الدنيوية والأخروية فتشكرونها إظهارا لمنة اللّه الذي وقاكم من العري وستر عوراتكم وكفاكم مؤنتكم.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن الستر من التقوى وهو كذلك «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ» فيوقعنّكم في المحنة إذا أصغيتم لوساوسه ويحرمنكم من الجنة بإغوائه «كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ» آدم وحواء لما انصاعا لخداعه «مِنَ الْجَنَّةِ» المعدة للطائعين(1/340)
ج 1 ، ص : 341
فحرمهم من نعيمها في الدنيا فانتبهوا وتيقظوا لأن من قدر على تغريرهما يستطيع أن يستميلكم إلى أهوائه ويستذلكم عن منهج الحق إلى سبيله الباطلة من باب أولى ، لأنكم مهما كنتم لا تبلغون درجة أبويكم.
تؤذن هذه الآية بالنهي عن الطواف بالبيت عراة إذ كانوا يفعلونه في الجاهلية «يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما الذي كانا يرتديانه في الجنة بسبب فتنته لهما ، وقد أسند النزع إلى الشيطان لأنه السبب الظاهري فيه وإلا في الحقيقة هو اللّه «لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما» انتقاما منهما لأن أحدهما آدم هو السبب بإخراجه من الجنة فيريد الانتقام منه ومن زوجته ومن ذريتهما أيضا «إِنَّهُ» إبليس وجيشه «يَراكُمْ» أيها الناس «هُوَ وَقَبِيلُهُ» ذريته لأن قبيل المرء ذريته وعترته ، والقبيلة بنو أب واحد ، وقبيلة معطوف على ضمير انه لا على الضمير البارز لأنه تأكيد لضمير يراكم «مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» في دار الدنيا ، وإذا كان كذلك فعلينا معشر المتقين أن نستعين عليهم بمن يراهم ولا يرونه ذلك الإله العظيم القادر الذي من لجأ اليه وقاه ومن استعاذ به حماه ومن توكل عليه كفاه لا إله إلا هو له الخلق والأمر.
أما ما جاء من أن حضرة الرسول رآه وأراد ربطه بسارية المسجد كما تقدم في الآية 35 من ص فهو من خصوصياته صلّى اللّه عليه وسلم ، ورؤية ابن مسعود جن نصيبين الآتي بيانها أول سورة الجن في ج 2 ، فهي على غير صورهم الحقيقية ، ولهذا قال الشافعي رحمه اللّه ، من زعم أنه رآهم على صورهم التي خلقوا عليها فقد ردّت شهادته وعزّر لمخالفته القرآن.
هذا وليعلم أن بني آدم يرون الجن في الآخرة وهم لا يرونهم عكس الدنيا ويكونون أي مؤمنو الجن في فنائها قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 27» بنا ليزيدوا في غيهم ومن لم يكن وليه اللّه سلط عليه الشيطان «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» مما يستقبح من الأفعال ، والضمير ، يعود إلى غير المؤمنين أولياء الشياطين ومنهم الطوافون عراة «قالُوا» لك يا حبيبي إذا نهيتهم عنها إنا «وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا» ولذلك نفعلها ، هذه حجتهم الحقيقية والثانية قولهم بهت وافتراء «وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» فرد اللّه عليهم بقوله «قُلْ» لهم يا أكمل الرسل «إِنَّ(1/341)
ج 1 ، ص : 342
اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ»
بل بالعفة والستر والصلاح وكل ما هو من شأن التقوى «أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ» أيها الكفرة «ما لا تَعْلَمُونَ 28» حقيقة استفهام انكار جيء به للتوبيخ والتقريع «قُلْ» يا رسولي «أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» العدل وكل ما هو مستقيم حسن طاهر فكيف تسندون له الأمر بالفحشاء ثم قال جل شأنه على طريق عطف الأمر على الخير وهو جملة «قُلْ أَمَرَ رَبِّي» أي «و» قل لهم «أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ» لأن الكلام فيه حذف وإضمار وأمثاله في القرآن كثير وهو إيجاز غير مخل وحاشا كلام اللّه من الخلل والنقص والزيادة الكائنة في كلام البشر بسبب الإيجاز والإطناب.
وإنما يزيده براعة وبلاغة أي توجهوا اليه «عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» تقصدون فيه عبادة ربكم «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لا لغيره بالاستقامة الكاملة واعلموا أيها الناس أنه تعالى «كَما بَدَأَكُمْ» من العدم أول مرة فعدتم أحياء في هذه الدنيا «تَعُودُونَ 29» اليه يوم القيامة أحياء كاملي الخلق لأنه تعالى يعيد لكم ما طرأ عليكم من النقص في الدنيا ويجمع كل أجزائكم المتفرقة بعد الموت وتحشرون اليه المؤمن مؤمنا والكافر كافرا ، يؤيد هذا قوله تعالى «فَرِيقاً هَدى » وهم الذين خلقوا في الأزل مؤمنين لاتباعهم طريق الحق الذي خلقوا اليه «وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» وهم الكافرون في سابق علمه وذلك «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» باختيارهم
ورضاهم وإيثارهم عليها «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ 30» بفعلهم ذلك مع ما هم عليه من الضلال ، كلا ان زعمهم هذا باطل روى مسلم عن جابر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه) وقوله (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فالمخلوقون للجنة لا بد وأن يختم لهم بصالح العمل وان فعلوا ما فعلوا من الشر بتوفيق اللّه والمخلوقون للنار لا بد وأن يختم لهم بسيئة وان عملوا ما عملوا من الخير يخذلان اللّه ايّاهم.
قال تعالى «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» من اللباس النظيف الحسن والطيب والدهن وترجيل الشعر وتنظيف البراجم والأسنان لأن الصلاة مناجاة للرب فيستحب لمن يقف أمام ربه(1/342)
ج 1 ، ص : 343
أن يتزين له بكل انواع الزينة المباحة شرعا ليكون طاهر البدن والثوب والمكان طاهر القلب ، فلا يليق بالمسلم إذا دعي لوليمة أو مقابلة ذي جاه أن يتزين له بما يقدر عليه حتى أن بعضهم ليستعير أو يستأجر ما يتزين به ، وة أو رؤية حية أو عقرب قرب غافل أو صغير أو مرور من تحت جدار متداع أو نداء والد لولده لا يعلم أنه في الصلاة ، وإنه رحمه اللّه قطعها خوف فوات الخشوع المطلوب في الصلاة ، لأن انشغاله برائحة كريهة تسبب ضياعه ، والسرعة في إنهاء الصلاة قد توجب نقصا فيها.
وليس المراد في هذه الآية الصلاة المكتوبة لأنها لم تفرض بعد وإنما أراد الدخول لكل مسجد يقف فيه العبد بين يدي ربه لصلاة أو عبادة أو اعتكاف أو طواف بالمسجد الحرام ، قال ابن عباس كانت المرأة تطوف بالبيت عارية تقول من يعيرني تطوافا اي خرقة تجعلها على عورتها ثم تقول :
اليوم يبدو كله أو بعضه وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية ، أخرجه مسلم.
وقال مجاهد كان حي من اهل اليمن إذا قدم حاجا يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب عصيت به ربي فإن قدر على أن يستعير مئزرا فعل وإلا طاف عاريا فنزلت وسيأتي زيادة توضيح لهذا البحث في الآية 197 فما بعدها من البقرة في ج 3 إن شاء اللّه.
وهذا الأمر للوجوب وفيه دليل وجوب ستر العورة بما يواريها من الثياب الطاهرة.(1/343)
ج 1 ، ص : 344
مطلب في الأكل المسنون وذم الشبع وبعض وصايا اللّه لعباده فيه :
قال تعالى : «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا» مما أحل لكم من أنواع الطعام وأجناسه والشراب وأصنافه ، قال الكلبي كانت بنو عامر في ايام حجهم لا تأكل دسما تعظيما ، فقال المسلمون نحن أحق بتعظيم اللّه وبيته منهم يا رسول اللّه فأولى أن لا نأكل ، فأنزل اللّه هذه الآية.
فلما أباح اللّه لهم ذلك نهاهم عما من شأنه أن يكون منهم فقال : «وَلا تُسْرِفُوا» فيما أحله اللّه لكم من طيبات الأطعمة والأشربة بأن تتجاوزوا حدّ الشبع وتفرطوا في تعدد أوقاته وأنواعه ، فإن الأكل في اليوم مرتين من الإسراف المذموم المنهي عنه شرعا ، ومن الإسراف بل والشره أن يأكل كلما يشتهي ، اخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب قال إياكم والبطنة من الطعام والشراب فأنهما مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فانه أصلح للجسد وابعد من السرف وان اللّه يبغض الحبر السمين (لأنه لو كان يتعظ فيما علم لأضعفه الخوف من اللّه) ولهذا قالوا ان القاضي إذا سمن بعد توليه القضاء فهو دليل على عدم اهتمامه بأمور الناس ، وان الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ومن وصايا أطباء اليابان لا تأكل اللحم إلا مرة في اليوم ولا تشرب مسكرا ولا تدخن واكتف بقليل من القهوة والشاي واستحم يوميا بالماء الساخن وارتد الصوف الخفيف صيفا وشتاء ونم باكرا وأفق باكرا لتنعش بالهواء الطلق ودع غرفتك مفتوحة ليلا واجتنب المؤثرات العقلية واحرص على الراحة يوما في الأسبوع وتزوج البكر وخالط العلماء.
وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أنس قال قال صلّى اللّه عليه وسلم ان من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت.
واخرج البيهقي عن عائشة قالت رآني صلّى اللّه عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين ، فقال يا عائشة أما تحبين ان يكون لك شغل إلا في جوفك ، الأكل في اليوم مرتين من الإسراف.
وعليه فيكون الأكل الشرعي مرة في الصباح ومرة في المساء ، قال تعالى : من حق اهل الجنة (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الآية 62 من سورة مريم الآتية فإذا أكل نهارا مرتين وأكل مساء اخرى كان مسرفا ، ولا شك ان الاكل يختلف(1/344)
ج 1 ، ص : 345
باختلاف الأشخاص والأمكنة.
واخرج ابن ابي شيبة عن ابن عباس انه قال : كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطأتك خصلتان سرف ومخيله.
وهذا لا ينافي ما ذكره الثعلبي وغيره من الآدباء بأنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما تشتهيه الناس وهو عندي مطلوب لأن ما يأكله لا يطلع عليه أحد وما يلبسه يظهر للناس وهو من الاقتصاد بمكان.
ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني فقال يوما لعلي بن واقد : أليس في كتابكم من علم الطب شىء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان ؟ فقال له جمع اللّه الطب كله في نصف آية ، قال ما هي ؟ قال قال تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) فقال وهل يؤثر عن رسولكم شيء في الطب ؟ فقال قد جمع الطب كله في ألفاظ يسيرة ، قال وما هي ؟ قال قال (المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأعط كل بدن ما عودته.) فقال :
النصراني : واللّه ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. - من الكشاف - قال ومن النصائح الطبية ما قاله الحارث بن كلدة من حكماء العرب الأقدمين : لا تتزوج من النساء إلا شابة ، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها ، ولا يتعالج المريض ما احتمل بدنه الداء.
هذا وقال تعالى «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31» في الأكل والشرب واللبس وغيره ، والذي لا يحبه اللّه يبغضه فعلينا ان نجتنب ما يكرهه ربنا.
واعلم ان هذه الآية والتي قبلها لا تتعارضان مع الآية 6 من سورة التكاثر المارة لأنه ليس كل شيء يسأل عنه المرء يوم القيمة يعاقب عليه فضلا عن تلك وردت عامة وهاتين جاءتا بمعرض الرد على الكفار الذين يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم.
الا فلينتبه العاقل ويجتنب الإسراف المنافي لرضاء اللّه والويل كل الويل لمن لا يرضي اللّه.
ويا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المتعجرفين عما أحل اللّه لهم من الطيبات الزاعمين تحريمها او كراهتها في بعض الأوقات والأمكنة والأحوال «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ» من الأرض وأنزلها من السماء لنفعهم من حيوان ونبات ومعدن وما يعمل ويحصل منها «وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» الذي يستلذ به الإنسان ، وفي هذه الآية دليل على ان جميع المطعومات والمشروبات(1/345)
ج 1 ، ص : 346
والملبوسات حلال طيب ، تؤيدها الآية 29 من البقرة وهي جملة (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) لان الأصل في جميع الأشياء الحل والإباحة الا ان الشارع خصص هذا العام والتحليل والتحريم من خصائص اللّه ورسوله ليس لأحد من البشر مهما علت رتبته في العلم والمعرفة وما سمت فطنته في الحذق والفهم وما رفعت مكانته في الإمارة والسلطة ان يحل شيئا مما حرم اللّه ورسوله او يحرم شيئا مما أحلاه ، والآية تتناول جميع اصناف الزينة ولو لا ورود النص بالذهب والفضة والحرير بحديث رسول اللّه والخنزير والميتة والدم والخمر والميتة في كتاب اللّه ، لدخلت في هذه الآية لعموم نصّها المؤيد بقوله جل قوله «قُلْ» يا محمد لأمتك كل ما يستلذّ ويشتهى عدا ما ورد النهي فيه هو من الطيبات التي «هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» غير خالصة لهم وحدهم لأن الكفار والفساق يشاركونهم فيها جميعها ويزيدون عليهم ولكنها «خالِصَةً لهم» أي للمؤمنين وحدهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» في جنة اللّه لا يشاركهم فيها أحد من أولئك الكفرة وهي لهم خالية من الكدر والتنغيص والأذى بخلاف شهوات الدنيا فمحشوة بذلك مملوءة من الأكدار ، وإيجاد هذه الطيبات في الأصل للمؤمنين في الدنيا ايضا وصارت للكافرين بالتبعية ولكنها لم تصف للمؤمنين وفيه قيل :
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذاء والأكدار
وخالصة بالرفع على انها خبر لمبتدأ محذوف وقرأت بالنصب على انها حال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر أي هي ثابتة الذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيمة والأول أوجه من حيث الإعراب والقراءة بالمصاحف على النصب لذلك كان اولى من الرفع قال تعالى «كَذلِكَ» أي مثل هذا التفصيل البديع «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونوضّحها ونبيّنها «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 32» حقائقها وخصائصها ويعتقدون ان اللّه وحده المحلل والمحرم لا غيره «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الكفار «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ» كل ما تزايد قبحه فهو فاحش «ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» سرها وجهرها «وَالْإِثْمَ» من كل ما يؤثم الإنسان فعله(1/346)
ج 1 ، ص : 347
في جميع ما يطلق عليه اسم الذنب ، وقد ذكر التعميم بعد التخصيص لئلا يتوهم ان التحريم مقصور على الكبائر الفاحشة من قول أو فعل لكنها صرفت في العرف الآن إلى الزنى واللواطة فاذا أطلقت انصرفت إليهما والا ففي الأصل لا تقتصر عليهما.
مطلب معنى الإثم والبغي :
وأما ما جرى عليه بعض المفسرين من أن الإثم هو الخمر فلا دليل عليه ، بل لا يصح لأن العرب لم تسمها بهذا الاسم في الجاهلية ولا في الإسلام.
نعم هي داخلة تحت الإثم لأنها سببه ، ولأن مرتكبها آثم ، إلا أن هذا لا يصرف معنى الإثم إليها فتفسيرها بالخمر خطأ بين بل غلط واضح ، وليعلم أن الخمر حرمت بالمدينة بعد واقعة أحد ولم يقل أحد بأن هذه الآية مدنية لينصرف معناها إليه ولو كان مراد اللّه في هذه تحريم الخمر لما وردت الآيات بعدها بالتحريم تدريجيا باسمه الصريح المتعارف ، إذ لو كان المراد بكلمة الإثم لكان المنهي عنه صريحا وكان بتا ، ولا داعي حينئذ لتحريمه بعد ورود الآيات متتابعة أولا في النهي عن تعاطيه تعريضا في الآية 67 من النحل في ج 2 ، ثم النهي عن تعاطيه في الآية 219 من البقرة بسبب نفعيته وائمه ، ثم في الصلاة في الآية 42 من النساء ج 3 ، ثم في الكف عنه جزما في جميع الأحوال في الآية 90 من المائدة أيضا في ج 3 ، وهذا من مقاصد اقدامي على هذا التفسير بالنمط الذي سرت فيه ليعلم غير العالم هذا وشبهه مما هو مقدم أو مؤخر ، مطلق أو مقيد ، عام أو خاص ، ناسخ أو منسوخ بالمعنى المراد فيهما واللّه الهادي إلى سواء السبيل.
هذا ، وما استدل به بعض المفسرين من قول القائل :
نهانا رسول اللّه أن نقرب الزنى وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا
لا يكون حجة لأن الخمر بعد أن حرمت صارت اثما ، ولأنها غير معروفة عندهم بهذا الاسم وقد خصها لينصرف المعنى إليها وكذلك الاستدلال بقول الآخر :
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
لأنه يتأثم به وقد نعته لينصر معناه عليه وعلى هذا جرى ابن الفارض رحمه اللّه بقوله :
وقالوا شربت الإثم كلا وإنما شربت التي في تركها عندي الإثم(1/347)
ج 1 ، ص : 348
لا يكون دليلا على التسمية قبل التحريم وكله جار مجرى المجاز لأنها صارت إثما كبيرا بعد التحريم أما قبله فلا «وَالْبَغْيَ» أي الظلم والاستطالة على الناس وانما أفرده بالذكر مع انه داخل تحت الفواحش والإثم لعظم ارتكابه مبالغة في الزجر عن الأقدام عليه ، ولو خامة عاقبته يوشك أن لا يمهل اللّه فاعله إلى الآخرة بل يعجل عقوبته في الدنيا وفيه قيل :
لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا جنوده ضاق عنها السهل والجبل
وقال الآخر :
ان يعد ذو بغي عليك فخله وارقب زمانا لانتقام باغي
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى جبل على جبل لدك الباغي
«بِغَيْرِ الْحَقِّ» متعلق بالبغي لأنه لا يكون الا بغير الحق ، فإذا كان الاعتداء بحق لا يسمى بغيا بل مقابلة وهي جائزة ، أما لو بغى عليك بضربة يد فقابلته بالسيف فقد بغيث عليه ، ولو شتمك بلسانه فشتمته وضربته فقد بغيت عليه لأن اللّه أباح المقابلة بالمثل ، راجع الآية 194 من البقرة في ج 3.
وقد قال تعالى في الآية 190 منها : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.) ومن لا يحبه اللّه يبغضه والأحسن عدم المقابلة والسكوت قال أبو نواس :
خل جنبيك لرام وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام
ربما استفتحت بالنطق مغاليق الحمام
انما السالم من أل نجم فاه بلجام
وقال تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) الآية 134 من آل عمران في ج 2 ، ولهذا البحث صلة في الآية 37 فما بعدها من سورة الشورى في ج 2 فراجعه ففيه الكفاية ، قال تعالى «وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ» حرم الإشراك لأنه مضاهاة للربوبية وهو أعظم المحرمات لأنه كفر ، أما بقية المحرمات إذا لم يستحلها مقترفها فلا يكون كافرا بل عاصيا ، أي تعبدوا شيئا «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ(1/348)
ج 1 ، ص : 349
سُلْطاناً» حجة أو برهانا بأن يشرك به أو معه غيره من مكوناته ، وهذا على نفي الإنزال إذ لا يجوز أن ينزل سلطانا على ذلك ، وهو تهكم بالمشركين لأنه لما امتنع حصول الحجة بالشرك وجب أن يكون قولهم به باطلا مطلقا «وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 33» من الكذب والبهتان في اتخاذ الشريك والتحليل والتحريم والولد والصاحبة تعالى اللّه عن ذلك كله ، أي كما حرم ما هو في صدد الآية كذلك حرم هذا أيضا لأنه افتراء محض على اللّه ، فالذي حرم عليكم هو الحرام ، وما حلله لكم هو الحلال لا مجال لكم في الخوض في ذلك البتة ، قال تعالى «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» تلبث فيه في هذه الدنيا مع نبيها يأمرهم وينهاهم خلاله حتى إذا أصروا على كفرهم أمهلهم ليرجعوا «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المقدر لتعذيبهم ولم ينتهوا أخذهم حالا إذ «لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً» عنه بل ولا لحظة لأن المراد بالساعة هنا مطلق الزمن «وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 24» ساعة حذف من الثاني بدلالة الأول كما في الآية 17 من سورة ق المارة.
مطلب في الساعة بقسميها :
واعلم أن الساعة في عرف المنجمين تنقسم إلى مستوية وتسمى فلكية ، وهو زمان مقداره خمس عشرة درجة أبدا وكل درجة أربع دقائق ، وإلى معوجة وتسمى زمانية ، وهي زمان مقدر بنصف سدس النهار أو الليل أبدا ، ويستعمل الأولى أهل الحساب غالبا ، والثانية الفقهاء واهل الكلام ونحوهم ، وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا سواء كانت مستوية أو معوجة ، إلا أن كل من الليل والنهار لا يزيد على اثنى عشر ساعة معوجة أبدا ، ولهذا يطولان ويقصران ، وقد تتساوى الساعة المستوية والساعة المعوجة عند استواء الليل والنهار ، ونظير هذه الآية الجملة الأخيرة من الآية 28 من سورة يونس في ج 2 ، وفيها وعيد بإنزال العذاب على قريش إذا لم يؤمنوا بنبيهم وينتهوا عما نهاهم عنه ، وتهديد عظيم بسوء العاقبة إذا أصروا ، فيكون شأنهم شأن كل أمّة كذبت نبيّها بعذاب الاستئصال ، وكان نزولها حين سألوا حضرة الرسول إنزال عليه الصلاة والسلام العذاب الذي يهددهم به فأخبرهم فيها(1/349)
ج 1 ، ص : 350
أن له أجلا لا يتعداء لحظة إذا سألتم استعجاله أو تأخيره مهما استغثتم به منه «يا بَنِي آدَمَ إِمَّا» هي إن الشرطية ضمت إليها ما فأدغمت لتأكيد الشرط ولذا لزمت الفعل الذي يليه النون الثقيلة والخفيفة مثل «يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم لا من الملائكة «يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» من أوامر ونواهي وقصص وأمثال ، وجواب الشرط «فَمَنِ اتَّقى » ما نهي عنه واعتبر بما وقع على الأولين «وَأَصْلَحَ» نفسه باتباع ما أمر به واتعظ بما قص عليه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» في الآخرة مما يخافه المجرمون «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 35» على ما فاتهم في الدنيا ، لأنهم يرون من نعيم الآخرة الدائم ما ينسيهم تلك الزخارف الدنيوية المموهة الفانية المشوبة بالأكدار المصاحبة للهم والغم المتناولة بالكد والتعب ، وهي إن خلت من حرام فلا تخلو من مشبوه كما لا يخلو أهلها من كذب وكبر واللّه تعالى يقول «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها» ولم يؤمنوا برسلنا استعظاما عليهم وماتوا على كفرهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم وهذا شأنهم وديدنهم هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 35» لا يخرجون منها أبدا «فَمَنْ أَظْلَمُ» واشنع وأفظع ظلما «مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» أي تقول عليه ما لم يقله اختلاقا من لدنه من تحريم ما لم يحرم «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة على رسوله المصرّحة بعدم الشريك والمثيل والولد والصاحبة له جلّ شأنه «أُولئِكَ» الذين هذه سجيتهم «يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ» اللوح المحفوظ المدون فيه كل ما عملوا وهو حظهم مما قدر عليهم فيه وما قدر لهم في الدنيا من الرزق والعمر والبلاء «حَتَّى إِذا» فرغ ما لهم عنده من ذلك كله حتى الهواء «جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ» فيسألونهم سؤال توبيخ وتبكيت لا استعلام «قالُوا» لهم رسل الموت «أَيْنَ ما
كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الآلهة التي كنتم تعبدونها وتلجأون إليها في مهامّكم وعند الشدة ، ادعوهم الآن ليدفعوا عنكم الموت «قالُوا» المتوفون المكذبون «ضَلُّوا عَنَّا» غابوا وتركونا عند أشد حاجتنا إليهم وقد تبين لنا الآن عدم نفعهم وإنا كنا مغرورين بهم ولا ندري أين هم الآن ، وذلك بعد أن استعانوا بهم فلم يردوا(1/350)
ج 1 ، ص : 351
عليهم لذلك قال تعالى «وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ 37» جاحدين وحدانية اللّه ونبوة رسله وما أنزل عليهم من الكتب ، واعترافهم هذا تحسر على ما فات ، وهذا السؤال والجواب واجب الإيمان به بمقتضى ظاهر القرآن وانه واقع لا محالة ، وعدم سماعنا له لا يكون حجة لعدم وقوعه لأن اللّه قادر على ان يسمع وان لا يسمع ولا تعارض بين ما في هذه الآية وآية «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» 23 من الأنعام في ج 2 لأن مواقف القيامة متعددة كما مر في الآية 60 من ص وما يرشدك لغيرها فيها وهذا غير سؤال القبر الذي يجب الاعتقاد به وهو لا يسمع ايضا أما سؤال يوم القيمة فيكون على ملأ الأشهاد ولا تردد فيه ، ومنه آية الأنعام المارة ولهذا قلنا لا تعارض بينهما.
هذا والطوائف مختلفة والأحوال شتى وان ما مشى عليه بعض المفسرين بأن هذا السؤال يكون يوم القيمة للكافرين من قبل ملائكة العذاب وحكمه حكم آية الأنعام ينافيه ظاهر الآية المفسرة الدالة على وقوعه في الموت ، وعلى هذا يكون هنا سؤال عند الموت
وآخر في القبر لا يسمعان والثالث في البعث في جميع مواقف القيمة مسموع.
تدبر و«قالَ» تعالى لأولئك الذين شهدوا على أنفسهم بالكفر «ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ» أي بيتها وهي التي «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» قدمهم لمزيد شرهم ولكون شرهم عدوانا «وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ» جزاء اشراككم وبهتكم في الدنيا فهي مأواكم ومقركم «كُلَّما دَخَلَتْ» النار فهم «أُمَّةٌ» جماعة أو ملة واحدة «لَعَنَتْ أُخْتَها» من اهل ملتها التي أضلتها فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة حيث زادت في عذابها «حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها» تلاحقوا واجتمعوا جميعا الأولون والآخرون «قالَتْ أُخْراهُمْ» الأتباع «لِأُولاهُمْ» المتبوعين من القادة والرؤساء «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا» في الدنيا عن الهدى وسنّوا لنا طرق الردى وأمرونا باتباعهم «فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» لأنهم ضلوا وأضلوا ، والضعف في اللغة ما زاد على المثل غير مقيد بمثلين أو أكثر فأوله المثل وأكثره غير محصور لذلك يطلق على مثل الشيء وتضعيفه عند الإطلاق ، فاذا أضيف لعدد اقتضى ذلك العدد(1/351)
ج 1 ، ص : 352
مثله فاذا قلت ضعف عشرة او ضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف «قالَ» تعالى «لِكُلٍّ» منهم ومنكم «ضِعْفٌ» اما هم فلضلالهم وإضلالهم ، وأما أنتم فلضلالكم واتخاذكم المتبوعين أولياء تأتمرون بأمرهم وتنتهون بنهيهم.
وهذا الضعف كالأول غير مقيد بالمثل فيشمل أضعافا كثيرة لأنه لم يضعف لعدد ، تدبّر.
«وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ 38» ما أعد اللّه لكل منكم من العذاب لان كلا منكم مشغول بما هو فيه - وقرىء لا يعلمون بالياء - .
مطلب مواقف يوم القيامة وإمكان القدرة :
وعليه تكون هذه الجملة منفصلة عما قبلها بسبب الالتفات في الخطاب إلى البغية «وَقالَتْ أُولاهُمْ» المتقدمون عليهم في المنزلة «لِأُخْراهُمْ» المتأخرين عنهم مكانة بحسب الدنيا أي قالت الأشراف للسفلة «فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» لأنكم كفرتم فما كفرنا فنحن وأنتم متساوون في العذاب وسببه ، وهذا مرتب على قوله تعالى على وجه السبب «لِكُلٍّ ضِعْفٌ» فهو يؤذن بالمساواة ، والفاء جواب الشرط أي إذا كان كما قال تعالى وهو كما قال فلا فضل لكم علينا فلما ذا تدعون علينا وبعد ان يزجوا فى النار ويزداد تصايحهم فيها يقول لهم تعالى قوله «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 39» في الدنيا من الأعمال الخبيثة ، فيسكتون بعد سماع كلام اللّه الذي لا يبدل وهو القائل (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على عظمتنا وقدرتنا الموضحة لأحكام ديننا المبلغة على لسان انبيائنا «وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها» فلم يعتنوا بها ويلتفتوا إليها في الدنيا «لا تُفَتَّحُ لَهُمْ» الآن كما هو الحال عند موتهم «أَبْوابُ السَّماءِ» أي لا يسمع دعاؤهم حين يستغيثون بنا في هذا الموقف كما لا يصعد لهم عمل في الدنيا ولا ترفع أرواحهم إليها إذا ماتوا لأن كلامهم وأعمالهم وأرواحهم خبيثة فهم محرومون من بركة السماء وغيرها ورحمة خالقها إذ لا يصعد إلى اللّه الا الكلم الطيب والعمل الصالح والأرواح الطاهرة «وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» هؤلاء المستكبرون عنا في حياتهم الدنيا «حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ» يدخل «فِي سَمِّ الْخِياطِ» ومن المعلوم عدم إمكان دخوله أي لا يدخلون ابدا ، وهذا من(1/352)
ج 1 ، ص : 353
ضرب المحال كقوله لا آتيك حتى يشيب الغراب أو يبيضّ القار أو يسود الثلج ، وخص الجمل لأنه أكبر الحيوانات في الجملة عندهم ، حتى انهم يضربون به المثل فيقولون جسم الجمال وأحلام العصافير ، لقليل العقل.
ويضربون المثل الضيق المسلك بثقب الإبرة كناية عن الشيء الذي لا يكون قال :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب
ويطلق الجمل على الحبل الغليظ ولذلك فسره به بعض المفسرين لأنه مما يسلك إلا أن سلكه في الابرة محال ، وعلى كل فيكون دخولهم في الجنة محالا ، كما أن دخول الجمل أو الحبل الغليظ في ثقب الابرة محال ، لأنه مما لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه لأنها انما تتعلق بالممكنات الصرفة ، والممكن الولوج بتصغير الغليظ وتوسيع الضيق فاذا أراد اللّه تعالى مثل هذا فعل ما يريد وهو على كل شيء قدير.
واعلم أن من فسر الجمل بالحبل قرأه بضم الجيم وتشديد الميم كي يراد به الحبل الذي ذكرناه في الآية 33 في المرسلات المارة قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ذلك الجزاء الفظيع «نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ 40» في دنياهم في الدار الآخرة وأل فيه للجنس فيشمل كل مجرم
ثم بين حالتهم في النار بقوله «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ» فراش تحتهم «وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» أغطية منها ونظير هذه الآية قوله «مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» الآية 16 ص الزمر في ج 2 يعني أن النار محيطة بهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الشديد «نَجْزِي الظَّالِمِينَ 41» أنفسهم في الدنيا بالعذاب الشنيع في الآخرة وحرمانهم من الجنة «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم لهم ما يشاءون في الآخرة لا يضيّق عليهم فيها أبدا لأنا «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» بما يسهل عليها ويكون في طوقها ممّا لا حرج فيه عليها من الأعمال وهذه جملة اعتراضية بين المبتدأ وهو الموصول والخبر وهو «أُولئِكَ» أي المؤمنون باللّه العاملون صالحا هم «أَصْحابُ الْجَنَّةِ» في الآخرة الدائمة و«هُمْ فِيها خالِدُونَ 42» أبدا ، والذي أحسن وقوعها مناسبتها للمعنى لأنه لما ذكر العمل ت (23)(1/353)
ج 1 ، ص : 354
الصالح الذي لا كلفة فيه ذكر أنه في وسعهم فعله ، وفيه تنبيه للكفرة على أن الجنة مع عظمها يتوصل إليها بالعمل الصالح السهل إجراؤه على العامل قال تعالى «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» كان بينهم في الدنيا فلم يبق بين أهل الجنة إلا التوادد والتعاطف ، قال علي كرم اللّه وجهه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ، وما قيل أنه قال فينا واللّه أهل بدر نزلت هذه الآية لا يصح ، لأن الآية مكية بالاتفاق وحادثة بدر بعد الهجرة بسنتين في
دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا ولا تموتوا أبدا ، وإن لكم تصحوا ولا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا ولا تهرموا عليه وسلم لن يدخل الجنه أحد يعمله وإنما يدخلها برحمة اللّه تعالى ، لأن دخول الجنة حقيقة برحمة اللّه إلا أن انقسام المنازل والدرجات بالأعمال.
وإن المؤمن لن ينال العمل الصالح إلا برحمة اللّه وتوفيقه فيكون دخول الجنة برحمة اللّه ثوابا وجزاء على الأعمال الصالحة في الدنيا قال صاحب بدء الأمالي :
دخول الناس في الجنّات فضل من الرحمن يا أهل الأمالي
ونظير هذه الآية 32 من سورة النحل والآية 63 من سورة الزخرف في ج 2 ولا يخفي ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق اللّه له ذلك.
مطلب خطأ قول القدرية :
قال الشيخ أبو منصور إن المعتزلة خالفوا اللّه فيما أخبروا وأبا البشر الثاني نوحا عليه السلام وأهل الجنة وأهل النار وإبليس أيضا.
فاللّه تعالى قال : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الآية 29 من سورة الرعد في ج 3.
وقال نوح وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) الآية 34 من سورة هود في ج 2.
وقال أهل الجنة (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) الآية المارة.
وقال أهل النار (لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ) الآية 21 من سورة ابراهيم في ج 2.
وقال إبليس (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الآية 15 المارة فدونك أعرض قول المعتزلة على هذه وانظر قول(1/354)
ج 1 ، ص : 355(1/355)
ج 1 ، ص : 356
اللّه حكاية عن قول الموحدين وهم في مقعد صدق (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) فى حال الدنيا مع قولهم (المهتدي من اهتدى بنفسه) وانظر هداك اللّه ما تختاره فلا شك أنك تقول اللّه الهادي ولا تعدل عنه ابدا إذ لا يوازي قول اللّه قول.
ثم شرع جل شرعه فيما يقع بينهما من المحادثة فقال : «وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ» وذلك بعد أن استقر كل بمكانه «أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا» على لسان رسله من النعيم المقيم «حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ» من العذاب المترتب على تكذيبكم رسلكم في الدنيا «حَقًّا قالُوا نَعَمْ» وجدناه حقا ومسنا ألمه «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ» هو صاحب الصور إسرافيل عليه السلام أو غيره من الملائكة وما قيل أنه علي عليه السلام بعيد عن الصحة لعدم الدليل ولأنه كرم اللّه وجهه يكون إذ ذاك في حظائر القدس فكيف يكون مؤذنا في ذلك المقام فهو أكبر مقاما وأعز شأنا وأرفع مكانا وأعظم من ذلك وكيفية الأذان هي «أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ 44» إعلاما بسرور أهل الجنة وخزي أهل النار.
واعلم أن «أَنْ» هذه والتي قبلها مخففتان من الثقيلة أو مفسرة لكيفية المناداة وهو الأصوب لأن المخففة يعقبها اللام وهو مفقود هنا.
راجع آخر سورة القلم المارة ، وقرأها بعضهم بالتشديد كما قرأ (نعم) بكسر العين ، هذا ، وأن الذين لعنهم اللّه هم «الَّذِينَ» كانوا «يَصُدُّونَ» الناس في الدنيا «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» السوي «وَيَبْغُونَها» اي سبيل اللّه التي سنها لعباده من الحق والعدل السويين ويحاولون أن يجعلوها «عِوَجاً» مائلة إلى الباطل فيبدلونها عما هي عليه.
والعوج بالكسر يكون في الدين والطريق أي المذهب الذي يتدين به وما يدرك بفكر وبصيرة كالأرض البسيطة والمعاش ، وبالفتح بالخلقة تقول في ساقه عوج وما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه راجع تفسير الآية الأولى من سورة الكهف في ج 2 «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ 45» منكرون لانهم لم يصدقوا بوجودها حينما كانو في الدنيا ولا يقال كيف يسمع أهل النار وهم في الأرض نداء أهل الجنة وهم في السماء ، لأن اللّه قادر ان يقوي أصوات اهل الجنة واسماع اهل النار ويصير البعيد(1/356)
ج 1 ، ص : 357
قريبا ولا يعجزه شيء ، وهذا النداء من العموم إلى العموم ، لأن الجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد ، فكل فريق من الجنة ينادي من كان يعرفه في الدنيا من أهل النار الكفرة «وَبَيْنَهُما» أي أهل الجنة وأهل النار «حِجابٌ» سور وهو المذكور في قوله تعالى «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» الآية 13 من سورة الحديد في ج 3 ، والمراد بالرحمة الجنة وبالعذاب النار.
واعلم أن هذه الآية والآية التي نحن بصددها تفيدان أن ليس بينهما سوى هذا الحجاب المعبر عنه بالسور ويؤيد هذا حديث الصراط الممدود على متن جهنم فإن من يقطعه يصل إلى الجنة مع أن الجنة في السماء والنار في الأرض فانظر قدرة القادر بعظم هذا الحجاب وإسماع أقوال الطرفين ورؤيتهما بعضهما لبعض آمنّا وصدفنا وأيقنا بأن اللّه تعالى قادر على أكثر من هذا وأعظم.
مطلب في اصحاب الأعراف :
«وَعَلَى الْأَعْرافِ» أعالي الحجاب وهو السور المذكور «رِجالٌ» من آخر المسلمين دخولا في الجنة لقصور أعمالهم وهم المرجون لأمر اللّه المذكورون في الآية 106 من سورة التوبة في ج 3 فإنهم يحبسون عليه فيقضون على شرفه البارزة ويقال لكل مرتفع عرف ، ويبقون عليه بين الجنة والنار إلى أن يأذن اللّه لهم بدخول الجنة والانصراف عن النار وهؤلاء الرجال «يَعْرِفُونَ كُلًّا» من الفريقين المذكورين «بِسِيماهُمْ» علامات لهم فيهم أو بسيماهم التي صاروا إليها وهي بياض وجه المؤمن ونضارته وسواد وجه الكافر وزرقة عيونه «وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ» إذا عرضوا لهم ورأوا ما هم عليه من السرور فيقولون لهم «أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» يهنونهم في هذه التحية بالسلامة من هول الآخرة وحصول الأمن لهم بدخول الجنة وهؤلاء المسلمون «لَمْ يَدْخُلُوها» أي الجنة بعد لأنهم ينتظرون أمر اللّه فيهم «وَهُمْ يَطْمَعُونَ 46» بدخولها لوثوق أملهم بربهم ورجاء لطفه بهم وعطفه عليهم بعدم زجهم في النار ، بسبب قلة حسناتهم عن سيئاتهم ولعدم وجود دار في الآخرة غير الجنة أو النار ، ولأن من نجا من النار طمع(1/357)
ج 1 ، ص : 358
بدخول الجنة بلا شك ، وحاشا كرم اللّه وفضله أن يدخلهم النار بعد أن أوقفهم خارجها ، لأن خيار البشر لا يرجح جهة الشر على الخير فكيف بخالق الخيار القائل «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» الآية 102 من سورة التوبة في ج 3 والخلطة لا تقتضي التسوية فقد تكون أكثر وأقل ومساوية ، وعسى من جانبه جل جلاله تكون لتحقيق هذا ، واعلم أن ما قيل بأن هؤلاء الذوات فقهاء أو أنبياء أو ملائكة وان درجتهم أعلى من الجنة وأن وجودهم على الأعراف ليطلعوا على حال الفريقين لا دليل يؤيده وسياق التنزيل يأباه وسياقه ينفيه لأن اللّه تعالى يقول «وَهُمْ يَطْمَعُونَ» أي بدخول الجنة مما يدل على أنهم لم يستحقوها بعمل مرجح بل بطمعهم بفضل اللّه وبمنّه عليهم يرجون ادخالهم الجنة بترجيح حسناتهم على سيئاتهم وصرف النظر عن جهة الزيادة والنقصان ، وانظر ما يقول اللّه عز قوله «وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ» وظهر لهم حالهم وما حل بهم من العذاب أعرضوا عنهم فلم يكلموهم والتفتوا إلى من أنعم على أولئك وانتقم من هؤلاء خائفين من مصيرهم لأنه لم يتحقق لهم بعد فاستعاذوا من حالهم و«قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 47» أي باعدنا عنهم فزعا مما شاهدوه من أنواع عذابهم فإن هذه الآية تؤيد ما جرينا عليه من التفسير بان أصحاب الأعراف قوم استوت أو نقصت حسناتهم عن سيئاتهم وقد أوقفهم اللّه على شرف السور كما مر وليسوا بفقهاء ولا أنبياء ولا ملائكة كما جاء في ذلك القيل ولذلك صاروا يتضرعون إلى ربهم بان لا يجعلهم من أهل النار وان شدة الهول والفزع مما رأوا من عذاب جهنم أنساهم طلب الجنة لأنهم يريدون البقاء على الأعراف على أن لا يدخلوا النار فقط واللّه أعلم بمراده بكلامه وكأن هؤلاء يبقون موقوفين على الأعراف مشرفين على الفريقين حتى
الأخير ينظرون من يدخل الجنة فيهنئونه ، ومن يدخل النار فيستعيذون منه ، ولهذا أخير عنه مولاهم بقوله «وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا» التنكير هنا يدل على أن المناديين عظماء معروفين بالدنيا كرؤوس الكفر ، وتكرير لفظ(1/358)
ج 1 ، ص : 359
الأعراف مع كفاية الإضمار للفرق بين المراد منهم هنا ، لأن المنادى هناك الكل وهنا البعض ، ولزيادة التقرير «يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ» التي كانوا عليها في الدنيا ، لأن صورة الرجل مهما شوهت لا بد أن تبقى سيماها الدالة عليها ، انظر إلى صور الرجال الذين يعلنونهم في الجرائد الهزلية كيف يشوهونها ويخرجون بعضها عن صورة الإنسان إلى غيره من الحيوانات وعند ما تراها تعرفها صورة من هي ، فكذلك هنا لأن اللّه تعالى لم يجعل شيئا في الآخرة إلا وجعل له مثالا في الدنيا إلا أن الفرق شاسع «قالُوا» أصحاب الأعراف لأولئك الرجال الكبار المشهورين «ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ» كثرتكم في الدنيا وما جمعتموه من مال ونشب واتباع وأشياع «و» ما أغنى عنكم أيضا «ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ 48» عن الإيمان بالرسل وعلى الناس أجمع في دنياكم ، وهذا استفهام تقريع وتوبيخ ، أي أن ذلك كله ما وقاكم من عذاب اللّه بل زادكم تعذيبا به.
قال الكلبي ينادونهم من على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان يا فلان ، لكل جحجاح فخور من فراعنة أمة محمد وهكذا
فراعنة الأنبياء السالفين ينادونهم جماعة منهم الذين يعرفونهم.
ثم خاطبوهم ثانيا مشيرين إلى طائفة من أهل الجنة كانوا فقراء في الدنيا يسخرون منهم ويستهزئون بهم ويضحكون عليهم قائلين «هؤُلاءِ» صهيب وسلمان وخباب وغيرهم من فقراء أمة محمد وأصحاب العفة الذين كنتم تأنفون مجالستهم في الدنيا حتى أنكم طلبتم من حضرة الرسول أن يعين لهم مجلسا على حدة لئلا يحضروا معكم تباعدا عن أوساخهم ورثاثة لباسهم «الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ» حالة كونكم في الدنيا بأنه «لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ» نراهم قد نالوها وقد قال لهم ربهم الذي كنتم تجحدونه «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ» فدخلوها وأنتم الآن في النار تعذبون وهم ينعمون وقد زادهم فضلا بقوله لهم «لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ» الآن مما يخافه غيركم «وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ 49» على ما فتكم من نعم الدنيا ولا مما يلاقي هؤلاء إذ لا يهمكم شأنهم الآن كما كانوا في الدنيا لا يهتمون بكم ، وكذلك الذين من هذا القبيل من أتباع الرسل المتقدمة ، لأن الآيات كلها عامة ، وان تخصيصها بأناس لا ينفي عمومها عن شمول غيرهم ، (1/359)
ج 1 ، ص : 360
تدبر ، قال تعالى «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ» لنطفىء به بعض حرارة هذه النار المحرقة «أو» أعطونا «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» من الأشربة الطيبة لنبلّ به غليل قلوبنا ، وهذه الآية تؤيد ما ذكرناه آنفا من أن الجنة فوق النار وأن لا حاجز بينهما غير السور المار ذكره «قالُوا» مجيبين لهم «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما» أي ماء الجنة وشرابها «عَلَى الْكافِرِينَ 50» به الجاحدين رسله وكتبه وهم
«الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ» في الدنيا فجعلوه «لَهْواً وَلَعِباً» فحرموا ما شاءوا وأحلوا ما أرادوا وعبدوا ما زين لهم الشيطان وعملوا ما هوته أنفسهم «وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بزخارفها الفانية وخدعهم أملهم فيها فلم يلتفتوا إلى صانعهم الحقيقي وكتابه المنزل ولم يكترثوا برسله بل أهانوهم وكذبوهم «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ» من رحمتنا فنهملهم ولا نعتد بهم ولا نسمع دعاءهم «كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا» وأهملوه فلم يعملوا صالحا لأجله ولم يعتدوا به لذلك فإني أعرض عنهم كما أعرضوا عن آياتي ورسلي «وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ 51» يكذبون بها وبالذين جاءوهم بها ، وسمى اللّه جزاء نسيانهم نسيانا على طريق المجاز ، وهو عبارة عن تركهم في العذاب وعدم الالتفات إليهم وقد تعبر العرب بالنسيان عن الترك وإلا فإن اللّه تعالى لا ينسى شيئا ، والمعنى أنا نعاملهم معاملة الناسين عبيدهم من خيرهم لأنهم لم يعترفوا بوحدانيتنا في الدنيا وأشركوا معنا من لا يستحق العبادة ولا ينفع نفسه.
هذا ما قصه اللّه على نبيه من حال آدم وإبليس وأحوال الذين عبدوا غيره ، والذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم ، وحال أهل النار وأهل الجنة وأهل الأعراف ، هم التفت إلى نبيه صلّى اللّه عليه وسلم وقال مقسما «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ» أي قومك يا محمد «بِكِتابٍ» عظيم جليل أنزلناه عليك وقد «فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ» منا بوجه تفصيله ووضحنا حلاله وحرامه ومواعظه وأخباره وقصصه وأمثاله وجعلناه «هُدىً» لمن اهتدى به «وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 52» به فلما ذا لا يؤمن هؤلاء الكفرة كي يقتبسوا من أنواره وينتفعوا بنوّاره كغيرهم ممن ذاق حلاوته ، «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ» أي أيتوقعون ما أوعدوا به من العذاب فيه ، وما يؤول إليه أمرهم(1/360)
ج 1 ، ص : 361
وهو النار تصديقا لوعده ، فقل لهم يا أكمل الرسل «يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ» هو يوم هلاكهم في الدنيا أو يوم عذابهم في الآخرة وإذ ذاك «يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ» إتيان تأويله وتركوا امتثال أوامره ونواهيه «قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» أي يعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف ، ويقولون حين نزول الموت بهم أو وقت تعذيبهم بالآخرة «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا» اليوم مما حل بنا (على المعنيين لأن الآية صالحة لهما وموافقة لمعناهما وجائز تأويله بهما) إذ لا طريق للخلاص منه إلا بالشفاعة «أو» إذا لم تكن شفاعة أمهلنا يا ربنا بأن «نُرَدُّ» إلى الدنيا «فَنَعْمَلَ» الفاء واقعة في جواب الاستفهام مثل فيشفعوا أي نعمل عملا صالحا «غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» من السيء فنبدل الكفر بالتوحيد والعصيان بالطاعة فلا يجابون إلى طلبهم ، وهيهات أن يزاد في أجل المحتضر أو يرجع أحد من الآخرة ولعدم وجود الشفيع وعدم إمكان إمهالهم أو إرجاعهم إلى الدنيا فإنهم «قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» بصرف أعمارهم التي هي رأسمالهم في الشرك والمعاصي «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ 53» في الدنيا من قولهم إن الأوثان آلهة وإن الملائكة بنات اللّه ، وادعاء أهل الكتابين عزيرا والمسيح أبناء اللّه تعالى عن ذلك وعدم اعتراف اليهود بنبوة عيسى ومحمد والنصارى بنبوة محمد عليهم الصلاة والسلام.
مطلب في السموات والأرض والعرش وآيات الصفات :
قال تعالى ردا على هؤلاء المغترّين «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» قدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 36.
من سورة ق المارة إذ لم يكن زمن خلق السموات شمس ولا قمر ليعرف الزمن ، وهذا على حد قوله تعالى : (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» الآية 61 من سورة مريم الآتية ، أي بمقدارها في الدنيا بالنسبة لنا حسبما نعرفه لأن الجنه لا ليل فيها ولا نهار ، ولهذا البحث صلة في الآية 9 من سورة فصلت في ج 2 فراجعه تعرف هذا وبدأ الأيام وآخرها وما خلق فيها ، والمراد بالاستواء الاستيلاء وعليه قوله : (1/361)
ج 1 ، ص : 362
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
لأن الاستواء بمعناه المعروف محال على اللّه تعالى وهذه من آيات الصفات التي مر ذكرها في الآية 30 من سورة ق المارة وفيها ما ترشد إليه من المواضع الأخرى الباحثة عن هذا ، وخصّ العرش بالذكر مع أنه مستول على المخلوقات كافة لأنه أعظمها وأعلاها ولا يعرفه البشر إلا بالاسم وهو بما وصفه اللّه تعالى به نفسه فتفسيره تلاوته كما مر تفصيله وللبحث فيه صلة في الآية 4 من سورة طه الآتية.
هذا وان المنقول عن جعفر الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك وغيرهم من أعلام الأئمة أن الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والجحود له كفر والسؤال عنه بدعة ، وقد ألمعنا إلى شيء من هذا أول سورة القمر المارة بأنه فلك الافلاك والفلك الأطلس وانه الجسم المحيط بسائر الأجسام ويكنى به عن العزة والسلطان والملك وقيل في المعنى :
إذا ما بنوا مروان ثلث عروشهم وأودت كما أودت إياد وحمير
وقول الآخر :
أن يقتلوك فقد ثلث عروشهم بعيينة بن الحارث بن شهاب
قال تعالى : «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» يلبسه ظلمة حتى يذهب بنوره وكذلك يغشي النهار الليل فيغطيه بنوره حتى يمحق ظلامه ولم يؤت بالجملة الثانية لدلالة الأولى عليها كما مر في الآية 17 من سورة ق المارة «يَطْلُبُهُ حَثِيثاً» طلبا سريعا إذ نعقب أحدهما الآخر فيخلفه دون فاصلة ما وقيل فيه :
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى نطير غرابا ذا قوادم جوّن
وقال الآخر :
وكأن الشوق باب للدجى ماله خوف هجوم الصبح فتح
«وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ» جل علاه وتعريفه من طلوعهن وغروبهن وسيرهن ورجوعهن وسرعة دورانهن بانتظام بديع يتحركن بحركة الفا الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا رفع رجله وضعها بشدة عدوه تحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل حسبما يقوله الفلكيون ، ويمكن أن يكون(1/362)
ج 1 ، ص : 363
اكثر أو أقل لأن أقوالهم ظنية تقديرية ، وهذا هو معنى الطالب الحثيث جلت قدرته الصانع الحكيم الذي جعل هذه الحركات مستمرة إلى انقضاء الدنيا وأوان خراب هذا العالم بصورة منتظمة وقد أفرد ذكر الشمس والقمر مع أنهما داخلان في النجوم بل هما منها لبيان شرفهما على سائر الكواكب ، لا لزيادة نورهما الواصل إلى الأرض فقط بل لمعرفة الأوقات في سيرهما ومنازلهما وكثرة منافعهما في نمو النبات وطعمه وتلوينه وغير ذلك.
مطلب التناكح المعنوي :
وقد ذكر اللّه الغشيان هنا والإيلاج في الآية 27 من آل عمران وغيرها لأنها مكررة كثيرا والمراد بهما التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات الملمع إليها في قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية 3 من سورة الرعد في ج 3 وقبل توسع علم النبات ما كان أحد يعلم بازدواج النبات ووجود ذكر وأنثى في كل زهرة غير اللّه أنظر ، كم من غيوب يكشفها اللّه لنا في هذا القرآن العظيم ونحن عنه غافلون وهذا أمر صحيح وان صح ذلك فما أصح قولهم في ضرب المثل للأمور المتوقعة (الليلة حبلى وستلد العجائب) هذا وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح والحاصل من هذا الغشيان على قولهم ما في العالم من معدن ونبات وحيوان وهو المواليد الثلاثة أو في جميع الحوادث على الإطلاق ومنه قوله :
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
لكن مع العلم والإيقان بأن المؤثر الحقيقي هو اللّه وحده وهو الذي خلق فيها تلك التأثيرات ، اما أقوال المنجمين فقد تكون صحيحة وتكون فاسدة وكل ما ذكروه من تقدير فهو بالنسبة لما يبدو لهم في المكبرات من كبر النجوم وسيرها فيبنون علمهم وأقوالهم فيه على الظن والحدس لا على اليقين والصدق ، تأمل.
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» فرق بينهما ليعلم خلقه أن كلامه غير مخلوق لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله ولهذا قال سفيان بن عيينة من جعل الأمر الذي هو كلامه(1/363)
ج 1 ، ص : 364
تعالى من جملة خلقه فقد كفر ، ومن جمع بين الخلق والأمر فقد كفر فالخلق راجع لما ذكره من السموات والأرض والأفلاك ، والأمر هو كلامه يأمر هذه المخلوقات وغيرها بما أراد كاملا ، وكيف يكون من خلقه لها نقص أو زيادة وهو «تَبارَكَ» وتعالى «اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 54» أجمع وخالقهم ورازقهم ومدير أمورهم.
راجع بحث خلق القرآن في المقدمة تعلم أن كلامه منزه ومقدس عن أن يكون مخلوقا.
قال في بدء الامالي :
وما القرآن مخلوقا تعالى كلام الرب عن جنس المقال
وهذا ولما اخبر جل اخباره بأنه المنفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يتذللوا اليه لكشف مهماتهم فقال «ادْعُوا رَبَّكُمْ» أيها الخلق «تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» بما ترونه من مصالحكم الدنيوية والاخروية ولا تتجاوزوا فيها إلى مضرة غيركم فتعتدوا «إِنَّهُ» ربكم الذي يجيب دعائكم «لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 55» في الدعاء على الغير أو بطلب ما لا يليق بالداعي من المقامات ، لأن الدعاء على الغير من غير ظلم منه تعد وطلب ما لا يليق اعتداء ، ومن الاعتداء رفع الصوت لما فيه من قلة الأدب مع المولى ومجاوزة الحد في كل شيء اعتداء.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الاشعري قال كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أيها الناس اربعوا «أي ارفقوا بأنفسكم واقصروا عن الصياح في الدعاء» على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم ، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته.
قال أبو موسى وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم في نفسي فقال يا عبد اللّه ابن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ قلت بلى يا رسول اللّه ، قال :
لا حول ولا قوة الا باللّه العلى العظيم.
مطلب آداب الدعاء والقراءة :
وقال تعالى في الآية 3 من سورة مريم الآتية «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» أي بما يسمع نفسه وهذا الحد كان في الدعاء كنفس الداع أما إذا كان الناس(1/364)
ج 1 ، ص : 365
يؤمنون على دعائه فيرفع صوته بقدر ما بسمعهم وكذلك الجهر في الصلاة قال تعالى «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها» الآية 112 من سورة الإسراء الآتية فإذا زاد على اسماع الغير فيكون عمل عملا مكروها في الصلاة ، وكذلك إذا خافت إلى حد لا تسمعه الجماعه ، وفي الخطبة أيضا ينبغي أن يلاحظ هذا الحد ، إذ المقصود اسماع الحاضرين فقط فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم ، أخرج أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب الأمر أن يقول اللهم اني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ، ثم قرأ «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» وهذا هو الحكم الشرعي في الدعاء ومن آدابه أنه إذا خاف الرياء أخفى وإذا أمنه جهر بقدر الحاجة وهو الأفضل ويكره إذا خيف التشويش على قارئ أو مصل أو إيقاظ نائم «أو مشتغل بعلم شرعي» ، قال تعالى «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» ايها الناس بان تقطعوا السبل وتنهبوا الأموال وتعتدوا على الخلق بضرب أو قتل فايقاع الفساد على هذا الوجه هو خراب الأرض وإهلاك أهلها وكيف تخربونها «بَعْدَ إِصْلاحِها» ببعثة الرسل وبيان الشرائع بالنهي عن الفساد والأمر بالإصلاح والدعاء إلى طاعة اللّه وترك الكفر ودواعيه وتكذيب الرسل وجحود ما جاءوا به من عند اللّه فكل هذا فساد مناف للإصلاح الذي فيه قوام الكون «وَادْعُوهُ خَوْفاً» من عقابه وعدله «وَطَمَعاً» بثوابه وفضله متضرعين اليه مخبتين له ومعنى الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وتوقع مكروه يحصل ، والطمع توقع أمر محبوب ، وأحسنوا أيها الناس
لأنفسكم وغيركم بالمحافظة على الأمن لأنه إذا فقد انقطعت الطرق وقلقت الناس ، وتراحموا فيما بينكم «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 56» أعمالهم مع أنفسهم وغيرهم الذين يتأدبون بآداب اللّه فلا يتجاوزون حدوده في الدعاء والعمل مع اللّه ولا مع عباده امتثالا لامره وأمر رسوله فهؤلاء هم المحسنون ، وتفيد هذه الآية أن غير المحسنين بعيدون من رحمة اللّه ، ألا فليتق اللّه الذين يسيئون ويقولون اللّه غفور رحيم ولا(1/365)
ج 1 ، ص : 366
يصرفون قسما من حياتهم فى عبادة اللّه طلبا لهذه الرحمة والمغفرة.
وينبغي أن يجمعوا في طلب الرزق من الحلال ويقولوا اللّه كريم ، ولا شك أن اللّه غفور رحيم ولكن هل تجد رحمة في كتاب اللّه مطلقة من قيد ؟ كلا ، فإنها في هذه الآية مقيدة بالإحسان ، وفي آية 8 من سورة
مطلب في الرحمة واكتساب التأنيث والتذكير والمطر :
ومعنى
ذا من تدبير حكمته تعالى فإنه يحرك الرياح بشدة فتثير السحاب يدل على هذا قوله جل قوله في الآية 22 من سورة الحجر في ج 2 (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) ، ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد فيحيل تلك الأبخرة المتراصة إلى ماء ثم يسوقه إلى حيث يشاء فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء بدليل قوله «سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ» ما حل لا كلا فيه لأجل إحيائه بالغيث وإنبات الزرع فيه ، والبلاد الميتة كثيرة فقد يختص منها ما يريده وقد يعم رحمته عليها كلها «فَأَنْزَلْنا بِهِ» أي البلد الميت «الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ» أي الماء المنعصر من تلك السحب أشجارا فيها «مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ» أي مثل هذا الإخراج بعد الاحياء «نُخْرِجُ الْمَوْتى » من قبورهم أحياء عند بعثهم بعد الموت ، أي فكما نحي الأرض بعد موتها نحي الخلق بعد موتهم لا فرق علينا بينهما فاعتبروا «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 57» بالأمثال التي نضربها لكم لتعوا المراد منها وتتعظوا به ، وقد ضربنا لكم هذا المثل يا منكري البعث وجاحدي إعادة الأجسام بأرواحها ليذكروا أن النبات عندنا بمثابة الإنسان بجامع الاعادة في كل قال تعالى «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ» تراه «يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ» بتيسيره حسنا وافيا «وَالَّذِي خَبُثَ» ترابه كالسبخة من الأرض «لا يَخْرُجُ» نباته بسهولة «إِلَّا نَكِداً» عسرا بمشقة وكلفة قليلا لا خير فيه ، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن ، وهذا الطيب والخبيث يشملان الإنسان أيضا غالبا لأن الدّن ينضح بما فيه «كَذلِكَ» مثل هذا التصريف البديع «نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونكررها المرة بعد الأخرى «لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ 58» نعمنا على هدايتهم للتفكر في ذلك ، لأن الحكمة من تكرارها سوق همّة البشر(1/366)
ج 1 ، ص : 367(1/367)
ج 1 ، ص : 368
للاعتبار في مكونات اللّه ، وهذا مثل ضربه اللّه تعالى هنا للمؤمن الذي يؤثر فيه الوعظ وينتفع فيه فهو كالأرض الطيبة تؤتي أكلها ضعفين ، والكافر الذي لا ينجع فيه ولا يأتمر به فهو كالأرض الخبيثة فإنها تجحد البذر ولا ينفعها السقي والحرث كما لا ينفع الكافر الزجر والنهي ، وبعد هذه الأمثال شرع جل شأنه يقص على رسوله حالة إخوانه الأنبياء الماضين مع أممهم ليسليه عما يراه من قومة فقال مقسمه «لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً» بن لمك بن منوشلخ بن أخنوخ بن إدريس عليهما السلام وكان نجارا ، وبعث على كمال الخمسين من عمره ودعا قومه تسعمائة وخمسين سنة لم يترك فيها طريقا من طرق النصح إلا أتاهم به ، وحذر وأنذر وسلك اللين والخشوع طيلة هذه المدّة ، ولم يؤمن من قومه إلا بعض ذويه ، وعاش بعد إغراق قومه ستين سنة ، فيكون عمره ألفا وستين سنة ، وقيل له يا أطول الأنبياء عمرا كيف رأيت الدنيا ؟ قال دخلت من باب وخرجت من آخر وهو أول نبي عذّبه اللّه قومه وأول من قاسى أشدّ الهوان وأكبر الأذى في سبيل الدعوة إلى اللّه ، ومع أنه عمر في الدنيا ما عمر فقد ذمها وصغرها وقصر شأنها والناس لم يتعظو فيتهالكوا عليها مع علمهم أن مصيرها الفناء «إِلى قَوْمِهِ» الذين هو
منهم مطلب قصة سيدنا نوح عليه السلام :
«فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده واتركوا هذه الأصنام فإنها ليس بآلهة «ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» فلا تشركوا به شيئا «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن أصررتم على ما أنتم عليه «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 95» في الدنيا ، يريد به الطوفان الذي أعلمه اللّه به وفي الآخرة التعذيب بالنار ، قال عليه السلام إني أخاف مع أنه على يقين من ذلك إذ أوحى له به ربه ، إلا أنه لا يعلم وقت نزوله أيعاجلها به أم يتأخر «قالَ الْمَلَأُ» الأشراف أولو الحل والعقد «مِنْ قَوْمِهِ» يا نوح «إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ» عن طريق الصواب لأنك تدعونا إلى شيء لم نعرفه نحن ولا آباؤنا فزيفك هذا «مُبِينٍ 60» واضح لا خفاء فيه ردا على نصحه لهم وانما قالوا ذلك لأنه لما خوفهم بالطوفان رأوه يصنع السفينة في أرض لا ماء فيها ، أي(1/368)
ج 1 ، ص : 369
أنك تتعب دون فائدة وهذا من الضلال لأن السفينة لا تجري على اليبس ، ولم يعلموا أن الذي أمره بعملها هناك قادر على إيجاد الماء لها ،
لهذا رد عليهم «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 61» إليكم لأرشدكم و«أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» أوامره ونواهيه مما يعود لنفعكم «وَأَنْصَحُ لَكُمْ» فأرغبكم بفعل طاعته ليثيبكم عليها دار النعيم الدائم وأحذركم من معصيته لئلا يحل بكم عذابه الدنيوي ثم ترجعوا إلى عذابه في الآخرة ، وهذا معنى النصح أما معنى الرسالة فهو عبارة عن تبليغ الرسول ما يوحى إليه من الذي أرسله إلى المرسل إليهم وتعريفه لهم وبيان ما يترتب عليه فعله وتركه وفعل نصح يتعدى باللام كما هنا وبغيره كقوله :
نصحت بني عوف فلم يتقبّلوا نصحي ولم تنجح لديهم رسائلي
إلا أن تعديه باللام أفصح لمجيئه بالقرآن نبع الفصاحة والبلاغة ومأخذها «وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 62» من قدرته وشدة بطشه بأعدائه «أَ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى » لسان «رَجُلٍ مِنْكُمْ» تعرفون نسبه ومكانته فيكم «لِيُنْذِرَكُمْ» سوء عاقبة عملكم وانكبابكم على الشرك «وَلِتَتَّقُوا» عقاب اللّه المترتب على عدم قبوله «وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 63» برفع العذاب المقدر نزوله عليكم في الدنيا وبإنالة الجزاء الحسن في الآخرة لأن القصد من إرسال الرسل من اللّه إليكم هو الإنذار بالكف عن المعاصي والركون للتقوى التي مصيرها الفوز برحمة اللّه «فَكَذَّبُوهُ» وجحدوا رسالته وأهانوه ، فنزل بهم العذاب على الوجه المبين في الآية 40 من سورة هود في ج 2 قال تعالى «فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ آمنوا مَعَهُ» من الغرق إذ أمرناهم أن يركبوا «فِي الْفُلْكِ» التي علمناه كيفية صنعها «وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» عن بكرة أبيهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ 64» عن الحق وطرقه ، يقال عم لعمى البصيرة وعام لعمى البصر ، قال زهير :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي
وسيأتي أن عمى البصيرة يسمى عمها وسنذكر القصة مفصلة في تفسير الآية 25 من سورة هود فما بعدها في ج 2.
قال تعالى «وَإِلى » قوم «عادٍ» أرسلنا ت (24)(1/369)
ج 1 ، ص : 370
«أَخاهُمْ هُوداً» بن شالخ بن ارفخشف بن سام بن نوح وقيل عبد اللّه بن رباح ابن الخلود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح ولهذا قال أخاهم لأنه منهم ، وهذه عاد الاولى وكانت منازلهم بالأحقاف ، الرمل عند عمان وحضر موت راجع ما بيناه عنهم في الآية 5 من سورة الفجر المارة وذكرهم في الآية 15 من فصلت في ج 2 والآية 21 من الأحقاف أيضا «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ينعم عليكم فكيف تجعلون معه إلها آخر «أَ فَلا تَتَّقُونَ 65» ففيه وتخافون عقابه فيعذبكم كما عذّب قوم نوح وذلك لان كيفية إغراقهم مستفيضة بينهم «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» المتوغلون بالكفر لأنهم كافرون ويأمرون غيرهم بالكفر بهود عليه السلام ويصدّونهم عن سماع نصحه والإيمان بربه «إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ» خفة عقل وسخافة رأي وحمق ، وإنما قالوا له ذلك لأنه زيّف لهم عبادتهم ونسبهم للسفه وقلة العقل وعدم انصياعهم باتخاذ ربّ واحد فقابلوه بالمثل وزادوا عليه قولهم «وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ 66» في ادعائك الرسالة من اللّه لأنّك رجل مثلنا «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ» واني رجل مثلكم حقا «وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 67» أرسلني لنصحكم وأمرني «أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» التي خيرني بها عليكم «وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ 68» على تبليغها كما تلقيتها ، وإنما قال أمين لأن إعلامهم بامانته واجب عليه ليعلموا أن ما يأمرهم به هو من أمر اللّه بلا زيادة ولا نقص وانه لم يأتهم بشيء من عند ولا ليمدح نفسه ولا بمقابلة قولهم «إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ» لأن من أدب الأنبياء وحسن خلقهم ترك المقابلة بالسوء وكظم ما يسمعونه من النقد والإغضاء عن حقارتهم لهم لأن أقوالهم تصدر عن حلم وأناة ، وأقوال الكافرين من قوم عن جهل وسفاهة ، وفيه تعليم للمقدرين للنصح والإرشاد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ، والفرق بين قول نوح أنصح وقول هود ناصح لأن قول نوح كان متماديا ليل نهار كما أخبر عنه ربه بقوله «إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً» الآية 5 من سورته في ج 2 ، وقول هود منقطع ولأنه لم يعش فيهم ما عاش نوح(1/370)
ج 1 ، ص : 371
وان صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة بخلاف صيغة اسم الفاعل لدلالتها على الحال فقط.
ثم قال لهم «أَ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ» المراد به هنا وفي الآية المنقدمة ما أرسلا به وأنزل عليهما من اللّه كما يقال للقرآن ذكر وقد يفسّر بالموعظة «مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ» بأس اللّه وعذابه قصد نجاتكم «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ» ربكم «خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ» في أرضه ومكنكم إياها بعد إهلاكهم إذا لم يبق من قومه الا من ركب السفينة وهم ثمانون نسمة.
وقد سميت الأرض التي نزلوا بها قرية الثمانين وهي معروفة حتى الآن بلفظ كردي «هشتاند» في الجزيرة قرب جبل الجودي الذي رست عليه «وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» طولا وقوة وكثرة عليهم ، قيل كان طول أحدهم ما بين اثنى عشر ذراعا وستين ذراعا «فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ» نعمه المترادفة عليكم «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 69» تفوزون برضائه لأن ذكر النعم يفضي إلى شكرها المؤدي إلى النجاة في الآخرة والزيادة في الدنيا ، راجع الآية 7 من سورة ابراهيم في ج 2 «قالُوا أَ جِئْتَنا» كان له صلّى اللّه عليه وسلم معبدا يتعبد به قبل الرسالة فلما شرفه اللّه بها جاءهم ليأمرهم وينهاهم حسب تعاليم ربه التي تلقاها لذلك قالوا له أجئتنا من معبدك «لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ» كما تزعم أن ليس رب غيره «وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» من الآلهة عن طريق الاستفهام الإنكاري لاستبعادهم اختصاص العبادة بإله واحد وترك الأوثان والشرك الذي نشأوا عليه من قبل بعثته.
ومثله من هذه بالجهة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم إنه كان اتخذ غار حراء معبدا واعتزل قومه الذين كانوا يعكفون على عبادة الأصنام ، حتى جاءته النبوة فيه فأنذر بها قومه وقالوا له مثل ما قالوا له آنفا ، وقالوا له أيضا «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 70» في ادعائك
الرسالة من اللّه إلينا وأن العذاب سينزل علينا ان لم نصدقك ونؤمن بربك
«قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ» رجز أي عذاب عظيم أبدلت الزاي سينا فيه وأصل الرجس الاضطراب ثم شاع في معنى العذاب لاضطراب من يحل ، به وقال بن زيد ، الرجس بمعنى العذاب في كل القرآن مأخوذ من الارتجاس وهو الارتجاز «وَغَضَبٌ» سخط(1/371)
ج 1 ، ص : 372
وطرد «أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ» لأحجار تعبدونها «سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» آلهة وهي خلو من اسمها ومعناها ، لا دليل لكم عليها باستحقاق العبادة لأنها لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع ، فتسميتكم لها آلهة «ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» حجة أو برهان بل ابتدعتموها ابتداعا وكذلك آباؤكم الذين قلدتموهم بعبادتها لهذا أنصحكم أن تقلعوا عنها وتؤمنوا بالإله الواحد وإذا بقيتم مصرين على ذلك «فَانْتَظِرُوا» نزول العذاب من ربي بكم «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 7» وقوعه إيفاء لوعيد اللّه لكم ووعده لي باهلاككم ونجاتي وفي هذا تهديد شديد لهم ان لم يرجعوا عن كفرهم ويؤمنوا به وبربه وقد أوقعه عليهم بدليل قوله «فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا» لمن صدق وآمن بوعدنا ووعيدنا «وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على صدق نبينا إنجازا لوعدنا له فأنزلنا بهم العذاب المترتب على تكذيبهم لنبيهم وعدم اكتراثهم به وأهلكناهم جميعا إهلاك استئصال لأن الدابر أصل الشيء أو الكائن خلفه فقطع دابرهم كناية عن تدميرهم عن آخرهم.
ولهذا فإن عادا الأولى لا خلف لها «وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ 32» بي ولا بالذي أرسلته إليهم ونفي الإيمان عنهم مع تكذيبهم اشعار بأنهم خصوا بالهلاك لإصرارهم على الكفر ولو لم يهلكهم لبقوا مصرين عليه ولم يؤمنوا ، فهو كالعذر في عدم الصبر عليهم.
مطلب قصة هود عليه السلام :
وخلاصة القصة أن قوم هود تبسطوا في الأرض وعتو عتوا شديدا بما أعطوه من القوة والمال والكثرة ، وكان لهم ثلاثة أصنام الصداء والصمود والهباء ، وقد تغالوا في عبادتها وكان هود عليه السلام اعتزلهم إلى أن أرسله اللّه إليهم فأبدى لهم نصحه وخوّفهم وحذرهم مرفضوا الإصغاء إليه فأمسك اللّه عنهم القطر ثلاث سنين ، وكانت عادتهم إذا نزل بهم بلاء فزعوا إلى بيت اللّه الحرام يطلبون الفرج منه عند بيته ، ولما طال عليهم الأمر أوفدوا سبعين رجلا من خيارهم إلى بيت اللّه برئاسته قيل بن عنتر ونعيم بن هزال ومرثد بن سعد وكان مؤمنا يكتم إيمانه(1/372)
ج 1 ، ص : 373
مثل مؤمن آل فرعون الذي سخره اللّه لموسى عليه السلام ، فنزلوا على معاوية ابن أبي بكر عميد العماليق نسبة إلى جدهم عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وهم أخوال معاوية هذا ، حينما كان مخيّما بظاهر مكة شرفها اللّه ، وهو يومئذ سيد مكة ، فأبطأوا عنده يشربون الخمور ويأكلون السمين ويسمعون غناء الجرادتين ومن جملة ما غنتهم به قول معاوية المذكور الذي علمه لهما وأمرهما بغنائه ليتيقظوا من غفلتهم وليحرضهم على إيفاء ما جاءوا لأجله من عند قومهم وهو :
ألا يا قيل ويحك قم وهينم لعل اللّه يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا قد امسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس ترجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم أيامى
وان الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعاديّ سهاما
وأنتم هاهنا فيما أتيتم نهاركم وليلكم تماما
فقبّح وفدكم من وفد قوم ولا لاقوا التحية والسلاما
ولما فرغتا منه تيقظوا وقال لهم مرثد واللّه لا تسقون ما لم تطيعوا نبيكم هودا وأظهر إيمانه وطفق يلومهم بقوله :
عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشا ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال لهم صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد وأبصرنا الهدى وجلي العماء
وإن إله هود هو إلهي على اللّه التوكل والرجاء
فقد حكم الإله وليس جورا وحكم اللّه ان غلب الهواء
على عاد وعاد شر قوم فقد هلكوا وليس لهم بقاء
واني لن أفارق دين هود طوال الدهر أو يأتي الفناء
ثم بادر بإرشاد الوفد لطاعة هود فلم يفعلوا وردّوا عليه شر ردّ وبقوا مصرين(1/373)
ج 1 ، ص : 374
على كفرهم وعبادة أوثانهم وأنفتهم من اتباع هود وقال طهمة بن البحري يرد على مرثد بن سعد.
الا يا سعد إنك من قبيل ذوي كرم وانك من ثمود
فإنا لا نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك دين قوم ورمل والصداء مع العمود
ونترك دين آباء كرام وذي رأي ونتبع دين هود
وقالوا لمعاوية احبس عنا مرثدا وخرجوا إلى مكة ولما توسطوا الحرم قال قيل اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم وأتى على دعائه الوفد كله ثم لحق بهم مرثد حيث أطلقه معاوية بعد ذهاب الوفد من عنده ورفع يديه إلى اللّه وقال اللهم اعطني سؤلي برا وصدقا ولا تدخلني فيما يدعونك ، فأعطي سؤله ، ثم جاء لقمان بن عاد وهو سيدهم أي سيد الوفد وقال : اللهم إني جئنك وحدي في حاجتي فأعطني طول العمر ، فأعطى عمر سبعة أنسر ، عاش كل واحد ثمانين سنة آخرهم اسمه لبيد ، وقال قيل اللهم إني اختار لنفسي ما يصيب قومي ، فقيل له إنه الهلاك ، فقال :
لا أبالي لا حاجة لي بالبقاء بعدهم ، فأجاب اللّه لكل دعوته.
هذا ، وليعلم أن قلوب الكفرة لا تزال متشابهة قال تعالى (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية 118 من البقرة في ج 3 لأن ردّ الكافرين لأنبيائهم قديما متشابه وحتى الآن «و قد كانت عندي خادمة من الأرمن من الذين اضطرهم الأتراك للهجرة وصاروا يأخذون منهم طائفة طائفه إلى الجزيرة فتعدمهم وجئت يوما للدار فرأيت الخادمة تهيىء نفسها للسفر مع طائفتها ، فقلت لها إن ذهبت قتلت وأنا أقدر على إبقائك عندي ، فقالت لا عيش لي بعد قومي ، فذهبت وقتلت معهم» ولما خرجوا من مكة ووصلوا إلى خوصهم هلكوا معهم جميعا إذ ظهرت عليهم سحابات ثلاث حمراء وبيضاء وسوداء ، فاختار قيل السوداء لزعمه أكثر ماء واستبشر بها وقد أخبر اللّه عنهم في الآية 24 من سورة الأحقاف في ج 2 بقوله «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» فجاءهم ريح عقيم استمرت سبع ليال وثمانية أيام ، فأهلكتهم جميعا وارتحل مرثد مع جملة المؤمنين صحبة نبيهم هود(1/374)
ج 1 ، ص : 375
الى مكة وبقوا فيها إلى أن ماتوا جميعا رحمهم اللّه.
قالوا : وان كل نبي إذا منا أهلك اللّه قومه يأتي إلى مكة مع قومة المؤمنين يعبدون اللّه فيها حتى يموتوا ، وقد في المقدمة أن هذه القصص لا يعتمد على صحتها لأنها من نقل الأخباريين ، وانا نأخذ خلاصة ما لا مبالغة فيه وننبه القارئ ليكون على علم منه ونكفيه مؤونة تشوقه لقراءتها في تفاسير أو قصص مشحونة بما لا يعقل ، وممزوجة بما لا يجوز قراءته : قال تعالى «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» في النسب لا في الدين وهو ابن عبيد بن أسف بن ماسح بن عبيد بن جاوز بن ثمود ابن غابر بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» على صحة رسالتي وهي «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ» أخرجها «لَكُمْ آيَةً» على صدقي «فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» من ضرب أو منع من شرب أو مرعى فاذا فعلتم بها شيئا من ذلك «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 73» لا تطيقه أجسامكم ولا يقيكم منه أحد ولا مرد له من اللّه «وَاذْكُرُوا» يا قوم «إِذْ جَعَلَكُمْ» اللّه ربي الذي ادعو لعبادته «خُلَفاءَ» في الأرض «مِنْ بَعْدِ عادٍ» وقد علمتم ما حل بهم من العذاب «وَبَوَّأَكُمْ» أنزلكم «فِي الْأَرْضِ» أي أرض الحجاز لأن ثمد نسبة إلى ماء بين الشام والمدينة من أرض الحجاز وجعلها منازل لكم وملككم إياها «تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً» ذات غرف عالية تصيفون فيها «وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً» ناحية ذات حجر تشتون فيها ، وهذا مما يدل على زيادة ترفهم ونعيمهم في الدنيا بالنسبة لوقتهم «فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ» نعمه المترادفة عليكم طلبا لدوامها ، وفيها حث من اللّه لعباده على شكر نعمه وحق لها أن تشكر لأن الشكر يزيدها كما نوهنا عنه آنفا في الآية 69 المارة فراجع ما
ذكرناه هناك «وَلا تَعْثَوْا» تكثروا الفساد وتأتوا بأشده وأفظعه «فِي الْأَرْضِ» التي منحكم اللّه إياها وغيرها مما كانت في تلك الغير حالة كونكم «مُفْسِدِينَ 74» فيها فإن مطلق الإفساد يزيل النعم عنكم ويعرضكم للهلاك ولا تكفروا فان الكفر يمحقكم «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» عن دعوة صالح الصالحة وأنفوا من إرشاده الحق «مِنْ(1/375)
ج 1 ، ص : 376
قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا»
الفقراء مالا ورجالا «لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» به عليه السلام من المستضعفين وهذه الجملة جاءت بدلا من الجملة قبلها على طريق الاستفهام الإنكاري «أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ» استهزاء بهم لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ومعتقدون به ، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر ، إذ لم يقولوا لهم ، نعم بل «قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ 75» مصدقون وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا لهم نعلم بإرساله.
وبما أرسل به ولا نشك بما جاء به ونخبركم انا مؤمنون به لأن الإيمان به واجب فهل تؤمنون به مثلنا فأجابوهم أيضا بمثل جوابهم بمقتضى الظاهر فبذل ان يقولوا لهم انا بما أرسل به مؤمنون «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» لأولئك المستضعفين «إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ 76» وفائدة هذا الرد على ما قاله.
المؤمنون من جعلهم إياه معلوما ومعلما عندهم ، أي أن الذي فلتموه ليس معلوما عندنا ولا مسلما ، وبما أن جواب المؤمنين لم يزدهم إلا عتوا اتفقوا على مخالفة رسولهم «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ» التي هي آيته أي قطعوا عروقها وهم قد ذبحوها ذبحا وسمي النحر عقرا لأن الناحر يعقر البعير
أولا ثم ينحره أي أنهم عقروها ثم ذبحوها «وَعَتَوْا» ازداد استكبارهم «عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا» به من العذاب الذي تهددنا به «إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ 77» من قبل اللّه كما تزعم فدعا ربه «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» خفقان القلب من أثر الزلزلة الشديدة الناشئة من الصيحة إذ جاء في 43 من سورة الذاريات في ج 2 الآية وكذلك في سورة المؤمنين الآية 41 «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» والصيحة الشديدة يحصل منها الخفقان من شدة الخوف لأنها خارقة للعادة كيف لا وهي من السيد جبريل عليه السلام الذي وصفه اللّه بالقوة فلا بدع أن تزلزل الأرض منها ويضطرب من عليها «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ 78» على ركبهم ميتين وهم قعود ، والجثوم للناس والطير ولبقية الحيوانات البروك «فَتَوَلَّى» صالح «عَنْهُمْ» لما رأى ما حل بهم وصار يخاطبهم آسفا على عدم ايمانهم به وهو مدبر عنهم وهذا كما فعل رسول اللّه محمد صلّى اللّه عليه وسلم مع أهل القليب ، راجع الآية 8 من سورة الأنفال في ج 3(1/376)
ج 1 ، ص : 377
«وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي» بإرسالي من لدنه إليكم «وَنَصَحْتُ لَكُمْ» بأن تؤمنوا به وحذرتكم غليظ عذابه «وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ 79» بل تبغونهم وتعادونهم شأن أمثالكم الكفرة.
مطلب قصة صالح عليه السلام :
وخلاصة القصة أن قبيلة ثمود لما ملكت الأرض بعد عاد كثروا وعمروا كثيرا فعكفوا على عبادة الأصنام ، وأفسدوا في الأرض ، فأرسل اللّه لهم صالحا فصار يدعوهم إلى طريقه السوي ويأمرهم بترك الإفساد فلم يقبلوا ولم يؤمن منهم الا قليل من فقرائهم ، وقد كبر سنه عليه السلام وألح على قومه بترك عبادة الأوثان والإفساد فطلبوا منه آية على صدقه بأن يخرج لهم من صخرة كبيرة عند الحجر تسمى الكائية ناقة عشراء جوفاء وبراء مخرجه تشاكل البخت من الإبل ، ذات السنامين ويؤمنوا به ، فقبل منهم وأخد عليهم العهود والمواثيق على ذلك فصلّى ودعا ربه ، وهم أخرجوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب له فأجاب اللّه دعاءه وخيّبهم وأوثانهم ، وأخرج له ناقة كما طلبوا تشاكل البخت من الإبل ذات السنامين ويؤمنوا به ، فقبل منهم وأخذا عليهم العهود والمواثيق على ذلك.
فصلّى ودعا ربه ، وهم أخرجوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب له ، فأجاب اللّه دعاءه او خيبهم وأوثانهم ، وأخرج له ناقة كما طلبوا تشاكل البخت من الإبل رجعلها اللّه معجزة عظيمة له وهي نفسها معجزة أيضا ، لأن ثمود لهم ماء يشربون منه هم وحيواناتهم يوما وهي تشرب بقدر ما يشربون جميعا ، وكانوا يحلبونها يوم شربها فيكفيهم حليبها كلهم وكانت تمنع الحيوانات عن شرب الماء في نوبتها وهذه الخصال دلت بأنها من أعظم المعجزات وأكبر الآيات فآمن به قليل من قومه وازداد الآخرون عتوا ، وبما أنهم الأكثر قر رأيهم على ذبحها فذبحوها بداعي أنها تقاسمهم الماء وكأن الحليب الذي يأخذونه منها لا يكفيهم عنه قاتلهم أليس الأمر كذلك
«بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ 81» متجاوزون الحلال إلى الحرام ولذلك آثرتم الدبر على الفرج ، وإنما ذمهم اللّه لأن القصد من وضع الشهوة في الإنسان طلب الولد وبقاء النوع الإنساني وتكاثره لعمران الدنيا إلى أجل أراده اللّه ، فإذا عدل عن هذا القصد تعطل الكون وكانت تلك الشهوة بهيميّة محضة ، ولهذا خصهم اللّه بالإسراف لأنه وضع الشيء بغير محله «وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه تعنيفه لهم على قبح فعلهم ونصحه لهم بتركه «إِلَّا أَنْ قالُوا» بعضهم لبعض «أَخْرِجُوهُمْ» أي لوطا ومن آمن به «مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ 82» من صنيعكم ويتنزهون مما أنتم عليه.
قال ابن عباس عابوهم بما يمدح به قال تعالى «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ» لأنها لم تؤمن به وكانت تخبر قومها بمن يأتيه من الضيفان وتحرضهم عليهم لذلك «كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ 83» الباقين مع المعذبين من قومها ولم يقل من الغابرات ، لأنها هلكت مع الرجال المغلّب ذكرهم على النساء ، والغبر البقاء يقال غبر في داره إذا بقي «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» عظيما مهولا لأنه مطر عذاب لا مطر رحمة ، والننوين يدل على شدة فظاعته ، وقلّ أن يأتي المطر بمعنى الغيث بل قد لا يوجد في القرآن إلا بمعنى العذاب ، وأمطر بمعنى أرسل ، ومطر بمعنى أصاب ، فيكون مطر الرحمة وأمطر للعذاب «فَانْظُرْ» أيها العاقل المفكر «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ 84» فهي شيء عظيم لا تتصوره العقول ، هذا ما قصه اللّه علينا من خبر لوط عليه السلام مع قومه.
مطلب قصة قوم لوط عليه السلام :
وقال الأخباريون كانت المؤتفكة خمس مدائن بين الشام والمدينة مخصبة ذات زروع وثمار ، فآذاهم الناس بالأخذ منها فعرض لهم إبليس وقال لهم إذا فعلتم بهم كذا (ودعاهم إلى نفسه فلاطوا به علّمهم لعنه اللّه هذه الفعلة الخبيثة ابتداعا من حيث لم تخطر ببالهم ، فهو أول من ليط به لأنه كان يظهر لهم على صورة البشر)(1/377)
ج 1 ، ص : 378(1/378)
ج 1 ، ص : 379(1/379)
ج 1 ، ص : 380
امتنعوا من التعدي على ثماركم ونجوتم بها ، فأطاعوه وعملوا بما أشار به عليهم فهو أول من سن هذه السنة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، وصاروا كلما مرّ بهم أحد تعاونوا عليه وفعلوا به ، فكان لهم ما قال اللعين ، لأن الناس امتنعت حتى من المرور على قراهم لأنهم رأوا ما لم يسمعوا به من الخزي والعار ، وداموا عليه حتى استحكم فيهم هذا الفعل القبيح ، واستحسنوه حتى صاروا يفعلونه ببعضهم وبنسائهم أيضا ، فأهلكهم اللّه بعد أن وقع منهم التعدي على لوط وضيفانه من الملائكة ، كما سيأتي في تفسير الآية 77 من سورة هود في ج 2 ، وكيفية إهلاكهم كما قال مجاهد أن جبريل عليه السلام نزل إلى الأرض فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها من تحت الثرى ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بما أمطروا من الحجارة.
الحكم الشرعي : الحرمة القطعية ويكفر مستحله.
قال في التتارخانية نقلا عن السراجية : اللواطة بمملوكه ومملوكته حرام ، وكذا امرأته ، إلا أنه لا يكفر مستحلّه ، وهذا بخلاف اللواطة بالأجنبية والأجنبي فإنه يكفر مستحلّه قولا واحدا ، قال الإمام الأعظم لا حدّ بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه.
وقال الإمامان : إن فعل بالأجانب حدّ كحد الزنى ، وإن في عبده وأمته وزوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حدّ اجماعا ، كما في الكافي وغيره بل يعزّر في ذلك كله ويقتل من اعتاده ، وروي عن علي كرم اللّه وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه بما قص اللّه تعالى من إهلاك قوم لوط بإمطار الحجارة عليهم ، وقد أخرجه البيهقي وصححه الحاكم وعليه فيكون حدّه الرجم.
هذا ، وقد جاء عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : (لعن اللّه سبعة من خلقه فوق سبع سموات فردد لعنته على واحد منها ثلاثا ولعن بعد كل واحدة لعنة لعنة ، فقال ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط) الحديث.
وجاء أيضا (أربعة يصبحون في غضب اللّه ويمسون في سخطه) وعدّ منهم من يأتي الرجل - .
وزعم علي بن الوليد المعتزلي أنه لا يمتنع أن تجعل اللواطة في الجنة لزوال المفسدة ، ولأنها من جملة(1/380)
ج 1 ، ص : 381
الملاذ وليس هناك أذى أو قطع نسل ولذلك أبيح شرب الخمر فيها للذة إذ ليس هناك زوال عقل ولا عربدة ، فقال له أبو يوسف القزويني الميل إلى الذكور عادة قبيحة والمحل (الدبر) لم يخلق للوطء ، فلم تبحه شريعة ما ، بخلاف الخمر فإنه خلق للشرب وأباحته بعض الشرائع قبل الإسلام ، بل أوله كان مباحا ، ومهما كان فلا يقاس قبح اللواط بالخمر.
مطلب رد أبي يوسف على المعتزلي :
وانكار قبح اللواطة مكابرة ، وكانت الجاهلية مع ارتكابهم كافة المفاسد تعيّر بها فيقولون فلان معفر استه بمعرض الذم ، وإذا كنت يا ابن الوليد ترضى به اليوم فهل ترضى به غدا في الجنة ، وذلك لأنه كان مأبونا قد ألف ذلك واعتاده والعياذ باللّه ، فجرّه اعتياده إلى الجرأة على القول بأن هذه الفاحشة الخبيثة من ملاذ الجنة المطهرة من الأرجاس ، قبحه اللّه وقبح فاعليها ومحبذيها.
وقد صحح العلماء الأعلام أنها لا تكون في الجنة قطعا لأن اللّه سماها فاحشة هنا وخبثا في الآية 73 من سورة الأنبياء في ج 2 ، والجنة منزهة عن الفواحش والخبائث ، قال بعض العارفين واللّه الذي لا إله إلا هو لو لم يذكر اللّه عمل قوم لوط في كتابه ما خطر ببالي كونه واقعا أو يقع ، وذلك لطهارة سريرته وكماله ، لأن الكامل لا يرى النقص ، وألحق بعض العلماء السّحاق باللواطة ، وبدأ أيضا في قوم لوط ، لأن رجالهم لما استغني بعضهم ببعض بعد أن ألفوا اللواطة تركوا نساءهم ، فصارت المرأة منهم تأتي الأخرى.
جاء عن حذيفة رضي اللّه عنه قال : إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وعن أبي عمرة قال : قلت لمحمد بن علي ، عذب اللّه نساء قوم لوط بعمل رجالهم ، فقال له : اللّه أعدل من ذلك ، استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، فعذبهن كما عذبهم جزاء وفاقا.
وعن علي كرم اللّه وجهه قال على المنبر سلوني ، فقال ابن الكواء هل تؤتى النساء في أعجازهن ؟ فقال سفلت وسفّه اللّه بك ، ألم تسمع قوله تعالى (أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) هذا وإن العلماء صرحوا بأن حرمة اللواطة أشدّ من الزنى عقلا وطبعا وشرعا ، (1/381)
ج 1 ، ص : 382
أما عقلا وطبعا فإن العقول السليمة والطبيعة الطاهرة لم تألفه لشدة قبحه فعلا ومحلا ، وأما شرعا فلأن حرمة الزنا تزول بالتزويج والحد والشراء إذا كان المفعول به رقيقا ولا يمكن شيء من ذلك في اللواطة.
وقول الإمام بعدم الحدّ تعليظا لأن الحد مطهر عنده ، وبه قال أكثر العلماء ، وعليه فيلقى اللّه من أجري عليه الحد خاليا مما عمله بخلاف ما لا حد فيه كاللواطة ، فإنه يلقى اللّه فاعلها ملوثا بجرمه.
هذا ، وإن بعض السفهاء والفسقة خبيثي النفوس نجسي العقيدة كابن الوليد المذكور أخزاهم اللّه جميعا وأذلهم ، يفتخرون بمثل هذه الفعلة الفظيعة ومنهم يفعلها انتقاما انتقم اللّه منه في الدنيا والآخرة ، ومن المفعول بهم من اتخذها مهنة ، أهانه اللّه ، ومنهم من يقدم نفسه لبعض الخبثاء أمثالهم من الموظفين ومن هو واسطة لهم لعنهم اللّه وأزال نعمه عنهم ليوظفه أضافه اللّه لإخوانه قوم لوط ، وفضحهم في الدنيا وعذبهم في الآخرة ، ومنهم من ابتلي بها والعياذ باللّه حتى أنهم ليعطون مالا لمن يفعل بهم وهم كثيرون في زماننا ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه ، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك ، لأنهم تقوا بنعمتك على معصيتك.
قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» بن ثوبب بن مدين بن إبراهيم عليهما السلام ، أي أرسله إلى قومه ولد مدين ومدين صارا اسما للقبيلة ، وكان عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، وكانوا كافرين ينقصون الكيل ويبخسون الميزان ، فبادر بنصحهم وتحذيرهم عاقبة أمرهم «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ» موعظة «مِنْ رَبِّكُمْ» فاتعظوا بها ، ولم تذكر لسيدنا شعيب معجزة في القرآن والقول بأنه لم يكن له معجزة غلط لأن الفاء في قوله جل قوله «فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ» أتت لترتيب الأمر على مجيء البينة ، والقول بأنها عاطفة على (اعْبُدُوا) بعيد لا يكاد يقوله عارف ، وعدم ذكرها في القرآن لا يدل على عدم تخصيصه بشيء من المعجزات التي لا بد لكل نبي منها دلالة على صدق دعوته مما من شأنه أن يعجز البشر على مثله ، ومن المعلوم أن ليس كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن العظيم وما من عموم إلا وقد خصص ، وروي أنه لما كان موسى عليه السلام عنده(1/382)
ج 1 ، ص : 383
يرعى بغنمه حاربت عصاه التنين ، وهذه العصا أعطاه إياها شعيب عليه السلام وهي عصا آدم ، وقد وقعت على يد موسى سبع مرات وهو عند شعيب ، وقد وعد موسى بأن يكون له الدرع من أولاد غنمه ، فولدت كلها درعا ، وهذه معجزة أيضا إذ لم يسبق أن أغناما كثيرة تلد كلها درعا على نمط واحد ، ولم يكن موسى إذ ذاك نبيا لتكون هذه المعجزات له ، فتكون كلها لشعيب.
هذا ، وبعد أن أهلك اللّه قومه أرسله إلى أصحاب الأيكة فأهلكهم اللّه بعذاب يوم الظلة كما سيأتي في الآية 189 من سورة الشعراء الآتية ، ولم يبعث اللّه نبيا مرتين غيره فهذا من خصائصه أيضا وهي فضيلة عظيمة ، وقيل إنه بعث مرة ثالثة إلى أصحاب الرّس المبينة في الآية 12 من سورة ق المارة ، وإن إهلاك قومه مرتين لعدم اجابتهم دعوته بعد معجزة أيضا.
مطلب في عمى شعيب عليه السلام :
وهنا مسألة وهي أن العلماء نصّوا على أن الأنبياء سالمون من كل عيب ونقص حسي أو معنوي ، ولا شك أن العمى نقص حسي ، ومما هو شائع أن سيدنا شعيب كان أعمى ، فإذا صح ذلك فيكون هذا طارئا عليه بعد النبوة كبلاء أيوب وعمى يعقوب عليهم السلام ، إلا أن بلاء أيوب وعمى يعقوب زالا بحياتهما بنص القرآن لأنه من جملة ما ابتلى به أصفياءه ليختبرهم أي ليظهر للناس حالهم معه مع وجود البلاء وإلا فهو عالم بهم قبل ، فلو كان عمى شعيب من هذا أقيل لذكره اللّه في القرآن كما ذكر بلاء غيره ، وإذ لم يذكره فلا محل للقول بعماه ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 84 من سورة يوسف في ج 2 والآية 25 من سورة القصص الآتية ، فظهر من هذا أنه لو كان أعمى حقيقة لما أغفله القرآن ، وعليه فإن القول بعماه غير صحيح ، قال تعالى «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ : أَشْياءَهُمْ» حقوقهم في الكيل والوزن والذرع وغيره أي لا تقصوها ، أدوها كاملة وافية فإنه أبرأ الذمة.
وأمرأ للقلب «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بأن تسلبوا أو تقتلوا أو تؤذوا المارة والقارّة من العباد «بَعْدَ إِصْلاحِها» ببعثة الرسل الذين أقاموا فيها العدل بين الناس وحاربوا الفساد والظلم ، بل اسلكوا طريقهم أيها الناس في الإصلاح النافع(1/383)
ج 1 ، ص : 384
ذكره في الدارين «ذلِكُمْ» عدم البخس والنقص والإفساد «خَيْرٌ لَكُمْ» عند بارئكم وأنمى لأموالكم وأصلح لنفوسكم «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 85» باللّه وما أقوله لكم عنه «وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ» طريق عام أو خاص والباء هنا للملاصقة والملابسة ، والأولى أن تكون بمعنى ، على ، لمناسبة فعل قعد ، أي لا تقعدوا على مطلق طريق بدلالة التنوين «تُوعِدُونَ» من آمن بي وتهدّدونه لتعيدوه إلى الكفر الذي أنتم عليه وتمنعون الآخرين من الإيمان باللّه وبما جئتكم به منه «وَتَصُدُّونَ» العامة والخاصة «عَنْ» سلوك «سَبِيلِ اللَّهِ» المستقيمة الحقة «مَنْ آمَنَ» به «وَتَبْغُونَها» أي طريق اللّه العادلة «عِوَجاً» مائلة عن الصواب ، وتلتمسون الزيغ لها وتصفونها للناس بالاعوجاج وعدم الاستقامة لئلا يسلكونها ، راجع الآية 45 المارة والآية الأولى من سورة الكهف في ج 2 ، قال ابن عباس كانوا يجلسون على الطريق فيخبرون من أتى إليهم أن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم ، وهكذا كانت قريش تفعل بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم كما سيأتي في الآية 70 من سورة النمل الآتية أيضا «وَاذْكُرُوا» يا قوم توالي نعم اللّه عليكم وأفضاله «إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ» في العدد والعدد والقوة والمال والأولاد والعز لأن كثر المشدد يدل على التكثير ، قالوا إن مدين بن ابراهيم تزوج بنت لوط فرمى في نسلها البركة وهذا مما يستوجب شكر اللّه ، يا قوم فمالكم تكفرون به ولا تفكرون بعاقبة أمركم فتلتفتوا «وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 86» من الأمم
السالفة حيث أهلكهم اللّه حينما كذبوا رسلهم «وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» في التوحيد والتصديق بالنبوة والمعاد واجتناب المناهي وامتثال الأوامر «وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا» بشيء من ذلك أو اختلفتم بينكم من أجل الإيمان بذلك وعدمه «فَاصْبِرُوا» انتظروا أيها المعاندون «حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا» وتروا حكمه كيف يعزّ المؤمن ويذل الكافر «وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ 87» لأنه منزه عن الجور والحيف في حكمه وهو الحاكم الحقيقي الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ له ، وما سمي الناس حكاما إلا مجازا «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» جوابا لنصحه وتهديده ، واللّه إن لم ترتدع(1/384)
ج 1 ، ص : 385
«لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» ما دمت مناوئا لنا ولآلهتنا وعاداتنا «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» فتكون مثلنا تعمل ما نعمل وتترك ما أنت عليه ، كلفوه عليه السلام اختيار أحد الأمرين مع أنه لم يكن على ملتهم قط حتى يكلفوه العودة إليها.
ولكن الذين آمنوا به كانوا على ملتهم فخاطبوه تبعا لهم ، وقال بعض المفسرين إنّ عاد بمعنى صار واستشهد بقول القائل :
فإن لم تك الأيام تحسن مرة اليّ فقد عادت لهن ذنوب
أي صارت وعليه يكون المعنى أو لتصيرنّ على ملتنا «قالَ» لهم شعيب عليه السلام على طريق الاستفهام الإنكاري «أَ وَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ 88» أي أتريدون أن نفعل أحد الأمرين كرها لأن الواو هنا للحال ، وكأنهم قالوا له نعم كرها فقال عليه السلام «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فيما وعظناكم به «إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ» الضالة المهلكة «بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها» واتضح لنا بطلانها وقد نظم نفسه في جملة المؤمنين مع أنه كان بريئا مما كانوا عليه لأن الكفر على الأنبياء محال ، ولكنه تكلم بلسان قومه المؤمنين مجريا الكلام على حكم التغليب «وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها» وهي ملة الكفر ونترك الحق الذي نحن عليه «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا» خذلاننا ومنعنا من الطاقة القدسية ، فحينئذ يمضي فينا قضاؤه وقدره تنفيذا لسابق علمه ، وهذا القول من شعيب على لسان قومه المؤمنين أيضا الذين لا يقدرون أن يردوا عليهم لضعفهم وهو من قبيل الاستسلام لمشيئة اللّه ، لأن الأنبياء والكاملين دائما يخافون العاقبة وانقلاب الأمر لعلمهم ان الإله لا يقيد ولا يسأل عما يفعل ، فإن العبد كلما ازداد قربا من ربه ازداد خوفا منه ومعرفة بعظمته.
قال الخليل عليه السلام «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» الآية 35 من سورة ابراهيم في ج 2 وكان محمد صلّى اللّه عليه وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، ومن المعلوم بداهة ان ابراهيم يجتنب الأصنام وان محمدا ثابت قلبه على دين ربه ، وعليه يكون معنى الاستثناء : إلا أن يكون قد سبق في علمك ومشيئتك أن نعود فيها.
يدل على هذا قوله «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» ت (25)(1/385)
ج 1 ، ص : 386
بما كان قبل أن يكون وما سيكون قبل تكوينه.
ونظير هذا قول إبراهيم في الآية 80 من سورة الأنعام في ج 2 لأنه لما ردّ الأمر إلى المشيئة وهي غيب عليه مجد اللّه بالانفراد بعلم الغيب ، وكذلك شعيب لما رد المشيئة إلى اللّه مجده بقوله وسع إلخ وقال «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» في أمورنا كلها فقد أظهر عجزه للّه واعتماده عليه وحده وأعرض عن المفاوضة مع الكافرين إذ رأى إصرارهم وأيس من ايمانهم ، ثم قال هو والمؤمنون به «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا» الذين لم يؤمنوا بك وهم مكلفون أن يؤمنوا إيمانا «بِالْحَقِّ» الواجب عليهم اتباعه وسلوكه «وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ 89» الحاكمين ، وفتح هنا بمعنى حكم وقضى بلغة اليمن وفرقة من حمير ومراد قال قائلهم :
ألا أبلغ بني عصم رسولا فإني عن فتح حكم غنيّ
أي غني عن قاضيهم وإن اهل عمان يسمون القاضي فاتحا ، ويؤذن قوله عليه السلام بانه ترك الأسباب إلى مسبها واقبل إلى ربه بمن معه «وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» لبعضهم «لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً» وتركتم دين آبائكم الذي عليه أسلافكم من قبل «إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ 90» مغبونون لخلافكم اوائلكم وحرمانكم من فوائد البخس والتطفيف الذي ينهاكم عنه فلما أظهر اللّه للناس إصرارهم على الكفر والمعاصي أهلكهم
«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ 91» تقدم تفسيره آنفا في الآية 78 المارة قال تعالى «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا» أي ذهبوا وكأنهم لم يوجدوا في الدنيا دهرا طويلا برغادة عيش وهذا معنى غنى وضده الفقر قال حاتم ..
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى فكلا سقاناه بكأسهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
«الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ 92» أنفسهم ونشبهم في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة «فَتَوَلَّى» شعيب «عَنْهُمْ» أي المهلكين «وَقالَ» آسفا على عدم إيمانهم ومبيّنا تقصيرهم وعدم تقصيره بإرشادهم «يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى » أحزن وأتوجع «عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ 93» أي(1/386)
ج 1 ، ص : 387
لا يجب على ذلك لأني لم آل جهدا في نصحهم ، وانما قال هذا لأنه كان يتوقع منهم الإيمان وكانوا كثيرين لذلك أحس بالحزن عليهم واشتد به الأمر حتى قال ما قال وعزّى نفسه بأنهم هم الذين اهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر وعدم التفاتهم إلى نصحه وقد تقدم إليهم بالمعذرة وهكذا عاقبة كل أمة لم تؤمن برسولها وهو شأن صغار العقول الذين يقال فيهم :
إذا الأحوال دبّرها شباب فإن مصيرها صاح الرزايا
متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد وقد جلس الأكابر في الزوايا
وانّ ترفّع الوضعاء يوما على الرفعاء من بعض البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا
مطلب قصه سيدنا شعيب عليه السلام :
هذا ما قصه اللّه علينا في أمر شعيب وقومه وكيفية إهلاكهم ، اما ما ذكره القصاص فخلاصته أنه عليه السلام أرسله اللّه إلى اصحاب الأيكة فلم يؤمنوا فأرسل عليهم حرا شديدا أخذ بانفاسهم وحبس الريح عليهم سبعة أيام ولم يجدوا ما يقيهم منه حيث لا واقي من أمر اللّه فهربوا إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة وهي الظلة المذكورة في الآية 189 من سورة الشعراء الآية ، فاجتمعوا تحتها كلهم فالهبها اللّه نارا عليهم ورجفت بهم الأرض ، فاحترقوا جميعا ، ثم أرسله إلى أهل مدين الذين كان ملوكهم أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ، وكان ملكهم حين إهلاك الظلة ، كلمن ، فلما دعاهم إلى الإيمان ولم يؤمنوا أيضا أرسل عليهم جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة أخذتهم الرجفة من هولها فأهلكوا جميعا كما جاء في الآية 37 من سورة العنكبوت ج 2 وقالوا ان كلمن رثته بنته عند نزول العذاب بهم بقولها :
كلمن قد هدّد كن هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه الحتف نار تحت ظلة
جعلت نارا عليهم دارهم كالمضمحلة(1/387)
ج 1 ، ص : 388
وليس هذا مما يعول عليه ، والأحرى عدم صحته لأن العذاب نزل دفعة واحدة فمتى تمكنت من إنشاء هذه الأبيات ، وعلى القول بأنها كانت مع المسلمين ، فإن أباها لم يهلك بالظّلة لأن أصحاب الظلة أهل الأيكة الذي ذكرهم في الآية 189 من سورة الشعراء وأبوها هلك بالصيحة مع قومه أهل مدين ، وهذه الزيادة أسقطت اعتبار صحة الأبيات فيها على فرض أنها مسلمة لم تهلك ، وهكذا الأخباريون أحيانا يهرفون بما لا يعرفون ، ولذلك لا يوقن بنقلهم قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ» تشير هذه الجملة بالإجمال إلى سائر الأمم وأحوالها مع أنبيائها وفيها تخويف لقريش وتحذير من أن تكون عاقبتهم الإهلاك إن لم يؤمنوا كسائر الأمم الكافرة ، وفيها حذف وإضمار أي فكذبوه «إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ» الفقر ودواعيه «وَالضَّرَّاءِ» المرض ولوازمه «لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ 94» إلى ربهم فيرجعون عن كفرهم فيؤمنوا فيقبلهم ويعفو عنهم ، وفي هذه الجملة زجر لكافة الكفرة بأن يقلعوا عما هم عليه وإلا فمصيرهم التدمير.
وتعريف لحضرة الرسول بأحوال الأنبياء مع أممهم وسنة اللّه فيهم تسلية له ليهون عليه ما يلاقيه من قومه من الأذى والتكذيب «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ» أي بدل البلاء والمحنة والشدة التي كانوا عليها بالسعة والصحة والرخاء مما يستدعي الإيمان بنا والانقياد إلى طاعتنا شكرا لنعمنا عليهم بدفع السيء عنهم وجلب الحسن لهم «حَتَّى عَفَوْا» كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم ، وعفى تأتي بمعنى زاد قال تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) الآية 229 من البقرة في ج 3 وبمعنى كثر ونمى كما هاهنا ، أما ما جاء في الحديث أعفوا اللحى واحفوا الشارب ، بمعنى اتركوا اللحى لا تحلقوها وليس المراد لا تقصوا منها شيئا إذ يجوز أخذ ما زاد منها على القبضة والمراد بإحفاء الشارب الأخذ منه أيضا بحيث تظهر حواف الشفة ، وقد غلط من فسّره بالحلق ، لأن الرسول لم يفعله ولأنه مثلة والشريعة جميلة مجملة لا تأمر بما هو مثلة ، ولهذا البحث صلة في الآية 187 من هذه السورة.
أما ما فسره أبو مسلم بأن المراد من عفوا اعرضوا عن الشكر ، فليس بيانا للمعنى اللغوي بل أخذا من معنى الآية وليس بشيء(1/388)
ج 1 ، ص : 389
«وَقالُوا» لما غفلوا عن استدراجنا إياهم ولم يعلموا كيفية إملائنا للظالم وأخذه على غرّة ، واننا تارة نأخذ العاصين بالشدّة وطورا بالرخاء ، وظنوا أن عادة الدهر هكذا مرة سيئا وأخرى حسنا ، وأن الشدة لم تكن عقوبة ، قال بعضهم لبعض اثبتوا على ما أنتم عليه كما ثبت آباؤكم من قبل إذ «قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» مثلنا فصبروا ولم يغيروا دينهم بسبب ما أصابهم ، ولما أظهروا ما انطوت عليه سرائرهم إثر إنعامنا عليهم ولم يصغوا لنصح رسلهم أوقعنا بهم ما هدّدوا به «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 65» بشيء من المخاوف لأنهم كانوا في مأمن من العذاب بزعمهم ولم يخطر مكروه ببالهم قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا» باللّه ورسله وعملوا ما أمروا به وانتهوا عما نهوا عنه «وَاتَّقَوْا» الكفر والإفساد في الأرض «لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ» من رياح لينة وغيث نافع «وَالْأَرْضِ» من نبات وثمر ولصببنا عليهم الخيرات من كل جهة «وَلكِنْ كَذَّبُوا» آياتنا ورسلنا «فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 96» من الأعمال الخبيثة وعاقبناهم بأنواع العذاب «أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى » كفار مكة وأضرابهم فيشمل كل أهل قرية كذبت الرسل وأنكرت ما جاءتهم به «أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا» عذابنا «بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ 97» أي لا يأمنوا وقوع العذاب بهم على غرة وغفلة
أبت ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام ؟ قال يا بنتاه إن أباك يخاف البيات ، أراد الآية المارة ، رحمه اللّه(1/389)
ج 1 ، ص : 390
رحمة واسعة ، فيجب على كل عاقل أن يخاف هذا ، لأن الموت يأتي بغتة والقيامة كذلك ، فإذا حلّ الأجل لا يستطيع القائم القعود ولا القاعد القيام ، ولهذا حث الشارع على الوصية ، فلا ينبغي له أن ينام إلا ووصيته تحت رأسه ، لئلا يفاجئه الموت فلا يتمكن من بيان ماله وما عليه ، وما يريد أن يخصّ منه لأرحامه ولوجوه البر فيندم من حيث لا ينفعه الندم قال تعالى «أَ وَلَمْ يَهْدِ» يتبين من أحوال الأمم السابقة «لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ» إهلاك «أَهْلِها» بنوع من أنواع العذاب الذي قصصناه عليك يا أكمل الرسل بأنا «لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ» أخذناهم «بِذُنُوبِهِمْ» كما أخذنا من قبلهم «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلا نتركها تعي منافع الإيمان ونهملها وشأنها حتى تختار الكفر والشرك كما فعلنا بمن قبلهم من الأمم الباغية وإذا ختمنا على قلوبهم منعناها من قبول الإيمان «فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ 100» المواعظ الحسنة سماع قبول ، أي لا يقبلونها لأنا لا نريد إيمانهم لخبث طويتهم وإصرارهم على الكفر
قال تعالى «تِلْكَ الْقُرى » التي بينا لأهلها طريقي الخير والشر كقوم نوح وعاد وصالح وهود ولوط وشعيب الذين ختمنا على قلوبهم لعلمنا بخبثها فلم ندعها تقبل نصح رسلهم وأهلكناهم ببغيهم «نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا محمد «مِنْ أَنْبائِها» أخبار أهلها وأمر رسلهم معهم لتعلم ماهية مقاومتهم للرسل وعاقبة أمرهم معهم وتتيقن أنا ناصروك على قومك كما نصرناهم ، ومهلكو من لم يؤمن بك كما أهلكنا من لم يؤمن بهم «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» مثلما جئنهم بالمعجزات «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» بعد رؤية ما أظهروه لهم من المعجزات «بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مجيء الرسل إليهم ورؤية آياتهم ، بل استمروا على كفرهم وأصروا على عنادهم ، وفاجأوا رسلهم بالتكذيب ، ولم يلتفتوا إلى معجزاتهم ، فكانت حالتهم بعد مجيء الرسل كحالتهم قبلها كأن لم يبعث إليهم أحد ولم يؤمروا ولم ينهوا وهذه الآية قريبة في المعنى من قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 28 من سورة الأنعام في ج 2 ، أي لو أحييناهم بعد معاينة العذاب لم يؤمنوا «كَذلِكَ» مثل هذا الطبع المحكم «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ 101» الذين(1/390)
ج 1 ، ص : 391
سبق في علم اللّه أنهم لا يؤمنون من قومك ولو جاءتهم كل آية وأنهم يختارون الكفر عنادا «و» من جملة أخلاقهم الذميمة وخصالهم المستهجنة نقض العهد والميثاق لأنا «ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ» أي الأمم الخالية «مِنْ عَهْدٍ» أوفوا به لنا في عالم الذر ، كما أنهم لم يوفوا بعهدهم لرسلهم ، لأنهم كلما عاهدوهم على الإيمان نقضوا ، فلا وفاء لهم البتة.
مطلب في تفاوت حروف الجرّ ..
وألقاب الملوك :
وجيء ، بمن ، هنا للتأكيد والإحكام كما نوهنا به في الآية 80 المارة ولا يعبّر عن مثل هذا بسيف خطيب أن زائدة لأنه قول زائد ، إذ لا نزاع بأن قولك ما جاءني من أحد أبلغ من قولك ما جاءني أحد ، وعليه يكون وجودها له معنى بليغ في النفوس والأسماع لا يكون بغيرها ، وبني كلام اللّه على البلاغة لأنها من معجزاته وانظر لهذا الجناس التام المماثل بين قوله وما وجدنا وبين قوله «وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ 201» خارجين عن طاعتنا ناكثين ميثاقنا الذي أخذناه عليهم حين أخرجنا ذراريهم من ظهور أبيهم آدم عليه السلام المبين في الآية 170 الآتية ، قال ابن عباس إنما أهلك اللّه أهل القرى لأنهم لم يحفظوا ما وصاهم به ، وإن في صدر هذه الآية مخففة من الثقيلة وخبرها ضمير الشأن واللام ، في لفاسقين اللام الفارقة بين أن النافية والمخففة حيث أوجبوا وجود اللام بعد أن المخففة ، لئلا تلتبس بالنافية التي لا يأتي اللام بعدها ، والمعنى أنه أي الحال والشان وجدنا أكثرهم فاسقين راجع الآية 45 المرة ، وقال بعض المفسرين إنّ إن بمعنى ما واللام بمعنى إلّا ، أي ما وجدنا أكثرهم إلّا فاسقين وهو وجيه وفيه من البلاغة ما لا يوجد في التفسير الأول ، وسياق صدر هذه الآية بواتي المعنى إلا أن مجيء اللام بمعنى إلّا شاذّ ، لهذا قدمنا الأول مع اختيارنا للثاني لو لا ذلك المانع ، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ» «مُوسى » بن عمران بآياتنا التسع الآتية بعد في هذه السورة «إِلى فِرْعَوْنَ» الوليد بن مصعب بن الريان ملك مصر المبالغ في الكبرياء والجبروت والإفراط حتى ادعى الإلهية وكلمة فرعون علم لكل من يملك القبط ، كما أن النجاشي لمن يملك الحبشة(1/391)
ج 1 ، ص : 392
وقيصر للروم ، وخاقان للترك ، وكسرى للفرس ، والخليفة للمسلمين ، والعزيز لمصر ، وحمير لتبّع ، وحمى للهند ، وجالوت للبربر ، ونمرود للصابئة ، ومقوقس للاسكندرية «وَمَلَائِهِ» خص أشراف قومه بالذكر لأنهم إذا آمنوا آمن أتباعهم ولأن أتباعهم يشقون بعدم إيمانهم ويقتلون بعدم طاعتهم ويهانون لأجلهم «فَظَلَمُوا بِها» كفروا وجحدوا وأجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية 12 من لقمان في ج 2 ، «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 103» بالأرض حيث أمرهم إلى الهلاك ، ثم شرع يبين له ما وقع لموسى مع قومه ليهون عليه ما يلاقيه من قومه بقوله جلّ قوله «وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 104» إليك وإلى قومك «حقيق» جدير فمن «عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» لأني رسوله والرسول لا يقول إلا الذي أرسل به ومن شأن كل رسول أن يكون أمينا على ما أرسل به وأن يؤديه كما أمر به إذا كان من مثله لمثله فكيف إذا كان من عند اللّه فهو حتما لا يتصور فيه إلا الحق والصدق.
وقرأ نافع عليّ بالتشديد وعليها يرتفع الجار والمجرور بالابتداء ويكون خبره أن لا أقول.
وقرأ عبد اللّه (حقيق بأن لا أقول) على تقدير حرف الجر وهو على أو الباء فيكون التقدير (أنا حقيق بأن لا أقول) فتكون على بمعنى الياء كما كانت الباء بمعنى على في ، قوله تعالى : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) الآية 85 المارة.
ومن المعلوم أن حروف الجر تخلف بعضها أي تأتي من بمعنى الباء ، والياء بمعنى على ، وعلى بمعنى في وهكذا وقرأ أبي (بأن لا أقول) والأولى فيها وجوه 1 - أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الالتباس كما في قول خراش بن زهير :
كذبتم وبيت اللّه حتى تعالجوا قوادم حرب لا تلين ولا تمري
وتلحق خيل لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمرى
أي وتشقى الضياطرة بالرماح والضياطرة الرجال العظام فتكون كقراءة نافع.
2 - تكون على حد ان ما لزمك فقد لزمته أي فلما كان قول الحق حقيق عليه(1/392)
ج 1 ، ص : 393
كان هو حقيقا على قول الحق لإزماله 3 - أن يضمن حقيق معنى حريص كما ضمن هجني بمعنى ذكرني.
4 وهو الأوجه الأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لاقتضاء المقام ، لا سيما وقد روي أن فرعون قال له إني رسول من رب العالمين فقال له موسى أنا حقيق على قول الحق واجب علي أن أقوله ولا يرضى الحق إلا بمثلي قال تعالى : «قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ» حجة واضحة «مِنْ رَبِّكُمْ» أضاف الاسم الجليل إليهم مع عدم اعترافهم به لتأكيد وجوب الإيمان ، وإيذانا بأن ما يزعمونه من الألوهية باطل «فَأَرْسِلْ» يا فرعون «مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ 105» يعقوب عليه السلام لأنهم سكنوا مصر زمن يوسف عليه السلام ، الذين خذلتهم بقهرك وتعمدت إذلالهم بظلمك وقصدت احتقارهم بكبريائك فدعهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة وطن آبائهم وخل سبيلهم من الرق بمقتضى أمر الحق وإلا سينزل بك وبقومك ما لم يكن بالحسبان كما وعدني ربي ، وإنما سلطه اللّه عليهم بعد أن كانوا ملوكا قادة حكاما بسبب اختلافهم ونبذهم دين آبائهم ، أي خل عنهم وأطلقهم وسلمني إياهم لأني من ولد إسرائيل وقد أرسلني اللّه لأخلصهم منك وأرشدك وإياهم إلى الايمان به وحده.
مطلب كيفية معجزة موسى وأنواعها :
قالَ فرعون يا موسى «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ» تدل على رسالتك وصدقك «فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 106» بقولك لتثبت دعواك عندنا ونتبعك «فَأَلْقى عَصاهُ» بين أيديهم «فَإِذا هِيَ» بلا معالجة واستعمال أسباب وأدوات واعية للتبدل كما يفعله السحرة «ثُعْبانٌ مُبِينٌ 107» ذكر واضح من الحيات الكبار ، واعلم أن لا معارضة بين هذه الآية والآية 31 من القصص الآتية لأنها بمجرد إلقائها صارت في عظم الجثة كالثعبان في الجسم ، لهذا وصفها هنا به ، وفي صفه الحركة كانت كالحية الصغيرة لذلك وصفها هناك بالجان ، أي الحية الصغيرة ، قال ابن عباس والسديّ لما ألقى موسى عصاه وصارت حية عظيمة خضراء شقراء فاغرة فاها ، ما بين لحييها ثمانون ذراعا ، وقامت على ذنبها مرتفعة عن الأرض بقدر(1/393)
ج 1 ، ص : 394
ميل ، واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر ، فتوجهت نحو فرعون لتأخذه ، فوثب عن سريره هاربا ، وأحدث ، وانهزم الناس المجتمعون ، وقتل بعضهم بعضا ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها ، وأرسل معك بني إسرائيل وأومن بك ، فأخذها فعادت عصا كما كانت دون عمل أي شيء ، ثم نكث عهده ولم يؤمن وطلب منه آية أخرى ، فقام «وَنَزَعَ يَدَهُ» أخرجها من تحت إبطه «فَإِذا هِيَ» دون توسط شيء ما من وضع عقاقير أو غيرها أيضا ظهرت «بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ 108» بباضا عجيبا خارقا للعادة لها شعاع يفوق نور الشمس ، ولما كان البياض المفرط عيبا في الجسد لأنه من نوع البرص ، قال تعالى في الآية 23 من سورة طه (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي برص ، وهذا مما يعجز عنه البشر أيضا ولذلك سميت معجزة وهي على قسمين 1 - قسم على نوع قدرة البشر ولكنهم عجزوا عنه لتدل على أنها من فعل اللّه وعلى صدق النبي كتمني الموت في قوله تعالى (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية 94 من البقرة في ج 3 ، فلما صرفوا عن تمنيه مع قدرتهم عليه علم أنه من عند اللّه ودل على صدق الرسول.
2 - القسم الثاني ما هو خارج عن قدرة البشر كاحياء الموتى وقلب العصا حية حقيقية لا بتمويه السحرة ، وإخراج الناقة من الصخرة وكلام الحجر والشجر والحيوان ، ونبع الماء من بين الأصابع ، وتكثير القليل واحالة الماء صخرا والمشي عليه كما وقع لسيدنا عيسى ومحمد وموسى وغيرهم من الأنبياء صلوات اللّه عليهم وسلامه ومما هو خارق للعادة ويعجز البشر عن مثلها ، فإذا أتى النبي بشيء من هذه علم على أنه من عند اللّه وأن اللّه أظهرها على يده لتكون برهانا على صدق ما يخبر به عن ربه ، راجع أول سورة القمر المارة تجد تفصيل بحث المعجزات.
هذا وقد ثبت بالحجة والعقل أن اللّه تعالى قادر على خلق الأشياء وإبداعها من غير أصل سابق وإخراجها من العدم ، وأنه قادر على قلب الأعيان فبالأحرى أن يكون قادرا على خلق المعرفة والإيمان في قلوب عباده من غير واسطة ، ولكنه جلت قدرته أرسل إليهم رسلا ليعرفهم معالم دينه وتكليفاته وجعلهم(1/394)
ج 1 ، ص : 395
واسطة بينه وبينهم ليبلغوهم كلامه ويعرفوهم أحكام دينه ، وقد تكون الواسطة من غير البشر كالملائكة مع الأنبياء ، ومن جنس البشر كالأنبياء مع الأمم ، ولا مانع من هذا عقلا ، والمراد بالعقل هو السليم الذي يصدر عنه الفكر السامي والتدبير النافع ، وإلا فلا يسمى عقلا بل طيشا ، كما أن النفس لا تكون طاهرة ، إلا إذا كان لها مبدأ شريف تحلى بمكارم الأخلاق ناشيء عن قلب طيب ولا يكون القلب طيبا إلا إذا كان له حب طاهر في الأمور النافعة وإلا فهو رجس ، فإذا جاز هذا في العقل ، وقد جاءت الرسل بمعجزات دلت على صدقهم وجب تصديقهم في جميع ما يأتون به ، لأن المعجزة مع التحدي من النبي قائمة مقام قول اللّه عز وجل ، صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه ، وتختلف عن الكرامة بعدم دعوى التحدي وتخالف السحر بعدم الدوام ، قال تعالى «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ» وهم أهل الحل والعقد من عماله بعد رؤية هاتين الآيتين «إِنَّ هذا» الساحر موسى «لَساحِرٌ عَلِيمٌ 109» ماهر في السحر لأنه يأخذ بأعين الناس ويخيل لهم قلب العصى حية والسمرة بياضا ناصعا ، وكان عليه السلام آدم اللون أسمر وقد أراهم يده السمراء بيضاء تتوقد نورا وكان في ذلك الزمن السحر غالب على كل ما يدعى من الفضل كما كان الطب في زمن عيسى والبلاغة في زمن محمد عليه الصلاة والسلام ، ولا يعارض هذه الآية ما جاء في سورة الشعراء الآتية انها من قول فرعون لملائه لأن الكلام متبادل بينهم فتارة هو يقول لملائه كما في الآية 34 منها وأخرى هم يقولون له كما في هذه الآية لما بهرهم مما رآوا ، وهذا من باب اتحاد الرأي وتوارد الخاطر في الكلام ، ولإعلام العامة أن هذا سحر ليس كما يقول موسى معجزة «يُرِيدُ» هذا الساحر موسى «أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» أيها القبط وطن آبائكم «فَما ذا تَأْمُرُونَ 110» به من الرأي ، أشيروا عليّ بما يجب أن أعمله لحفظ كيانكم وبلادكم وعلو كلمتكم لأن هذا يريد سلب ملككم ونعمتكم ويستعيدكم كما استعبدنا قومه
«قالُوا» لما رأوا فرعون هم بقتله وتوقف على أخذ رأيهم «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» هرون ، لأنه كان معه إلا أنه لم يتول شيئا ولم يتكلم لأن اللّه أرسله مصدقا لأخيه وعونا له ونائبا عنه بغيابه(1/395)
ج 1 ، ص : 396
أي أخرهما لا تقتلهما ليتبين حالهما للناس أنهما ساحران ، وقال بعض المفسرين أرادوا حبسهما ، ولذلك قال صاحب روح البيان إنه لم يكن قادرا على حبسهما لما رأى من المعجزتين ، وهو وجيه ، ولكن يرده ما جاء في سورة الشعراء بعد نظير هذه الآية في الآية 35 منها (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وما قيل إن آية الشعراء هذه نزلت قبل آية الأعراف هذه غير سديد لأن الشعراء لم تنزل بعد وأن الطواسيم نزلت متوالية ، أما إذا أراد أنه في علم اللّه غير قادر على حبسهما فمسلم والواقع يؤيده إذ لم يثبت أنه حبسهما ، ثم قالوا له «وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ 115» من شرطتك يجمعون لك السحرة من كافة المدن ، واشتقاق المدينة من مدن بالمكان إذا أقام به وأمرهم بحزم وعزم «يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ 112» بالسحر ماهر بفتونه ليتبارون معه ، فإن كان ما عنده من السحر غلبوه وظهروا عليه وبان للناس أنه وأخوه ساحران ، فإذا قتلتهما بعد ذلك فلا لوم عليك لأنهما مفسدان والمفسد يجوز قتله ، أما قتلهما الآن قبل أن يظهر كذبهما للعامة ففيه ما فيه من التعدي والظلم وسوء السمعة على الملك ونحن لا نريد أن تسام بالظلم ، وان تقتل دون أن يتحقق استحقاق القتل لمن تقتله.
وجاء في الآية 27 من الشعراء سحّار بالمبالغة وهو الذي يدوم سحره ويعلّم الناس السحر ، والساحر من يكون سحره منقطعا وقتا دون وقت ، قال ابن عباس والسدي وابن اسحق : لما رأى فرعون من سلطان اللّه وقدرته في العصا واليد قال لا نقاتل موسى إلا بمن هو أشد منه سحرا فبعث غلمانا من بني إسرائيل إلى مدينة الغوصاء ليعلموهم السحر ، وضرب لموسى موعدا للمباراة بعد أن تعلموا جاءوا ومعلموهم ، فقال فرعون للمعلم : ما صنعته ؟ قال علمتهم سحرا لا يطيقه أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فلا طاقة لهم به ثم بعث من مماليكه حسبما أشار عليه ملؤه ، فلم يترك ساحرا إلا أتى به ، قال مقاتل ، جمع اثنين من القبط وسبعين من بني إسرائيل ، ثم قال الملأ لفرعون إن غلبوا موسى علمنا والناس أجمع أنه ساحر وإذ ذاك إذا قتلتهما فلا لوم عليك لما في بقائهما من الفساد والإفساد ، وإن غلبهم صدقناه واتبعناه ، فلم يرد على كلامهم لأن الشق الأخير منه لم يعجبه لأنه(1/396)
ج 1 ، ص : 397
بفطنته علم أن ما جاء به موسى من عند اللّه وفي تصديقه ذهاب ملكه ، ولو لا خشيته ذهاب الملك لآمن به ، لأن ما هو عليه من حذق ومهارة لا يخفى عليه السحر من غيره.
مطلب ما وقع بين موسى والسحرة :
«وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا» يا فرعون أ«إِنَّ لَنا لَأَجْراً» عندكم تعطونا إياه «إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ 113» لموسى وأخيه ولا يقال هنا إن حق الكلام أن يقال (فقالوا) لأن الكلام فيه حذف وإيجاز وهو من محسنات البديع في الكلام والتقدير كأن سائلا سئل ما قالوا إذ جاءوا إليه فأجيب بقوله قالوا ومثله كثير في القرآن وهذه جرأة من القائل راجع الآية 67 من يونس في ج 2 وما ترشدك إليه «قال» فرعون بحضور ملأه لأن القول الفصل له وإنما لملائه إبداء الرأي فقط ، وهكذا يكون الوزراء مع الملوك راجع الآية 32 من سورة النمل الآتية «نَعَمْ» إن لكم عندنا لأجرا وتكرمة «وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ 114» عندنا رفعة ومكانة إذا غلبتم موسى ، وأخذهم لأرض الميعاد وجاء موسى وأخوه وتفاوض مع السحرة وأبدى لهم نصحه ، وأخبرهم أن ما جاء به ليس بسحر ، بل هو من عند اللّه ، وأكد لهم ذلك ، وأرشدهم للكف عما جاءوا به ، فلم ينجع بهم لما يؤملونه من فرعون وهم لم يروا بعد من موسى شيئا «قالُوا» كف عنا ما تقول «يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» عصاك أو غيرها مما عندك من أنواع السحر «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ 115» ما عندنا من أصناف السحر ، وإما هنا بكسر الهمزة لأنها للتخيير وهكذا تكون مكسورة في الشرط والشك أيضا ، ومفتوحة في الأمر والنهي والخبر ، وإنما قدموه وجعلوا له الخيار في التقديم للإلقاء تأدبا معه لما علموا منه أثناء المفاوضة أنه على علم عظيم ومناظرة مفحمة ، حتى أنهم لو لا الخوف من فرعون لما ناظروه إذ حصل لهم شبه اليقين أنه ليس بساحر ولذلك منّ اللّه عليهم بالإيمان والهداية ، مكافأة لاحترامهم نبيه موسى وتأدبهم معه ، وإنما أمرهم أن يتقدموا عليه بالإلقاء بإلهام من اللّه لظهور معجزته وبيان غلبه «قالَ أَلْقُوا» ما عندكم إن كنتم(1/397)
ج 1 ، ص : 398
ترون أنكم محقون في مباراتي وان ما تفعلونه حق لا تمويه «فَلَمَّا أَلْقَوْا» ما معهم من الحبال والعصي وغيرها ، وتمثلت للناس بغير ما هي عليه ، إذ «سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ» وحرّفوها عن إدراك الحقيقة بالتمويه والتخييل ، ولذلك لم يقل جل قوله سحروا الناس لأن السحر صرف العين عن إدراك الشيء وقلبه إلى صورة أخرى بأعينهم ، والمعجزة قلب الأعيان حقيقة وبقاء الجوارح على حالها «وَاسْتَرْهَبُوهُمْ» أي طلبوا بذلك التخيل إيقاع الرهبة والخوف في قلوب الناس من شدة ما أروهم من سحرهم الموصوف بقوله تعالى «وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ 116» بأعين الناس إذ أروهم الحبال حيات عظيمة والأخشاب جبالا شامخة وقد تراكمت الحيات بعضها على بعض وملأت الوادي وتشامخت الجبال حتى لا يكاد يدركها الطرف فخاف الناس وفزعوا لهول ما رأوا وذلك لأنهم طلو الجبال بالزئبق وحشوا الأخشاب به أيضا ، قبل طلوع الشمس ، حتى رآها الناس أنها حبال وأخشاب ، وصاروا يدمدمون عليها حتى طلعت الشمس وارتفعت ، فلما وصلت حرارتها إلى العصي التوى بعضها على بعض ، وارتفعت هي والأخشاب ، وكذلك الأحبال بتأثير الزئبق وتطاولت وكلما ازدادت حرارة الشمس ازدادت حركاتها وعظمها ، فخيّل للناس أنها صارت حيات وجبالا حقيقية ، قالوا وكانت الأرض التي وقعت فيها المباراة ميلا بميل ، فلما امتلأت بذلك ضاقت بالناس وتباعدوا فزعا مما رأوا ، إذ غلب على ظنهم حقيقة ما رأوا من حركات العصي والأخشاب والأحبال وتعاظمها ، وذلك قوله تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) الآية 94 ، وقوله (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ) الآية 65 من سورة طه الآتية ، وإنما خاف عليه السلام أن يصدق الناس ما رأوه حقيقة ولهذا خاف ليس إلا لأنه بتعليم اللّه إياه علم أن ذلك سحر وهو موقن أنه يغلبهم لعلمه بحقيقة عملهم فخاف لفزع الناس واضطرابهم ، وخوفهم أن يتفرقوا
قبل أن يشاهدوا معجزته ، وهو إنما أمر السحرة بالتقدم عليه ليرى الناس عظمة ما جاءوا به ، ويكبروها ، حتى إذا ألقى عصاه وأبطلت ما جاءوا به لأن اللّه جعل فيها قوة تلقف الزئبق من حبالهم وعصيهم وأخشابهم ، قال تعالى (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)(1/398)
ج 1 ، ص : 399
الآية الآتية وهو الزئبق لا نفس العصي والأحبال والأخشاب بل ما طليت به وتعيدها إلى حالتها الأولى ، فظهر للناس كذب السحرة وأن ما فعلوه لا حقيقة له ويعترفون بعظمة معجزة موسى وإكبار غلبه لهم ، ولو أنه تقدم بالإلقاء
لم يظهر أن الغلب له ولقال الناس أنهم لم يقدروا عليه فقط ، فلم يظهر غلبه للعامة بمثل هذه الكيفية العظيمة الباهرة ، قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ» فألقاها حالا «فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ 117» أي تبلع ما زوّروه بأعين الناس وخيّلوا لهم به قلبه عن حقيقته فعاد الحبل حبلا والعصى عصى والخشب خشبا كما كانت وتمثلت عصى موسى بالصورة المارة في الآية 107 فظهر حق موسى وبطل السحرة «فَوَقَعَ الْحَقُّ» من اللّه على يد رسوله «وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 118» من السحر ، واتضح أمر السحرة بين الناس وظهر لهم كذبهم وتمويههم وتخييلهم وعجزهم عن مناواة موسى «فَغُلِبُوا هُنالِكَ» في ذلك المشهد العظيم وقهروا وخسئوا «وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ 119» أي فرعون وجماعته باندحار السحرة ، وذلوا بأعين الناس لظهور عجزهم عن مقابلة موسى وأخيه ، ولما عرف السحرة أن ما جاء به موسى ليس من عنده ولا هو من نوع السحر الذين هم أعلم بطرقه ، وما هو إلا من عند اللّه سحبتهم العناية الإلهية والألطاف الربانية المقدرة لهم في علمه الأزلي على هذه الحادثة تابوا من كفرهم توبة نصوحا وآمنوا بموسى ، قال تعالى «وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ 120» للّه تعالى استغفروا من ذنوبهم بمقابلة رسوله الذي تحقق لديهم صدقه ، إذ لو كان ما جاء به سحر لبقيت حبالهم وعصيهم وأخشابهم على حالها ولا يضرهم أن يأتي موسى بمثلها أو أعظم منها ولكان غاية ما في الأمر أن يقول الناس جاء كل من الفريقين بسحر عظيم ولهذا حلت الهداية قلوبهم عند ما عاينوا قدرة اللّه في عصي موسى الباهرة مما هو ليس في طوق البشر
ثم «قالُوا» بأعلى صوتهم على مسمع من فرعون وملاءه والناس أجمعين «آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ 121» ليعلم الناس كلهم حقيقة غلبة موسى واندحارهم ، وأن موسى صادق وهم كاذبون وأنهم لم يخشوا فرعون ولا غيره بقول الحق ، فقال لهم فرعون تعنوني قالوا لا وإنما(1/399)
ج 1 ، ص : 400
نعني غيرك لأنا أعلنا إيماننا باللّه «رَبِّ مُوسى وَهارُونَ 122» زادوا هرون لئلا يتوهم أنه المقصود بذلك لأنه ربى موسى فأزالوا توهمه وأكدوا إليه إيمانهم باللّه ، وأن قصدهم برب موسى أنه هو الإله الذي لا رب غيره دون أي فزع وخوف «قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» بالإيمان وآمركم به «إِنَّ هذا» الذي صنعتموه ودبرتموه بينكم «لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ» أنتم وموسى «فِي الْمَدِينَةِ» قاعدة مصر والإسكندية كما قيل أن الحادثة كانت فيها قبل خروجكم للمناظرة وقد عملتم هذه الحيلة «لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها» وهم القبط وتستولوا عليها أنتم وموسى وقومه ، ولهذا لم تقدموا بما يكون فيه الغلب لنا عليه «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 123» عاقبة أمركم هذا ، وما سأفعله بكم أنتم وموسى الذي أغواكم.
ساق لهم هذا الوعيد والتهديد بطريق الإجمال للتهويل وهو من بديع الكلام ، ثم عقبه بالتفسير تفصيلا فقال وعزتي «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس «ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ 124» أنتم وموسى وهرون ، تشهيرا بكم وتنكيلا لأمثالكم.
قال ابن عباس : أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل مخالفة هو فرعون «قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ 125» عائدون إليه إذا فعلت ذلك بنا أو لم تفعله ، وإنا لا نبالي بما تفعله بعد علمنا بأنا صائرون إلى الآخرة ، وأن مردنا إلى اللّه ، فلأن نأته مقتولين في سبيله أولى من أن نأتيه ميتين حتف أنفنا باقين على كفرنا.
بارك اللّه فيهم فكأن قائله
ولست أبالي حين أقتل مس لما على أي شق كان في اللّه مضجعي
ويقول أيضا :
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الأسباب والموت واحد
ويقول مهددا لفرعون :
إلى ديان يوم العرض نمضي وعند اللّه تجتمع الخصوم
ثم خاطبوه قائلين «وَما تَنْقِمُ مِنَّا» أي تكرهه وتطعن به علينا وتعيبنا(1/400)
ج 1 ، ص : 401
به وتنتقم منا بسبه ومالنا عندك ذنب فتعذبنا عليه «إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» على يد رسوله موسى وهذا مما نفتخر به لأنه أصل المحاسن كلها فافعل بنا ما بدا لك إذا كان هذا ذنبا على حد قوله في الآية 18 من سورة طه (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) وفي هذه الآية من أنواع البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم ، ثم انهم أعرضوا عن مخاطبته وفزعوا إلى اللّه والتجئوا إليه وسألوه بقولهم «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» على ما يوقعه بنا من التعذيب الدنيوي واغمرنا بالصبر وأفض علينا من عنايتك لنثبت على الإيمان بك «وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ 126» لك قائمين على دينك لا يؤثر بنا وعيد فرعون وتهديده بما يعدنا ليصرفنا عن دينك القويم.
قال ابن عباس كانوا أول النهار سحرة كفرة وآخره شهداء وبررة ، ولهذا قال الكلبي ان فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم ، وقال غيره إنه لم يقدر عليهم لأن اللّه قال في الآية 35 من سورة القصص الآتية (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) وهو الصواب واللّه أعلم ، وسيأتي لهذا البحث صلة عند تفسير هذه الآية إن شاء اللّه «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ» لفرعون بعد أن عاينوا ما عاينوا وعرفوا ان بقي الحال على ما هو عليه ذهب ملكهم ، كما أخبرهم فرعون قيل «أَ تَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ» بني إسرائيل على ما هم عليه وتركهم احياء ، بعد أن تعظموا بما وقع في موسى فتذعهم على حالتهم هذه ولا تنتقم منهم وقد شاع بين الناس علو كلمة موسى على السحرة المنتخبين من قبلك بعد أن آمنوا به والتحقوا مع قومه بعد غلبهم لأنه إذا تركهم وشأنهم تقوى شوكتهم وتعلو كلمتهم ، ويلتحق بهم غيرهم «لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» التي هي ملكك ويأمرون الناس بمخالفتك والخروج عليك وينبذون طاعتك فتدارك الأمر قبل الفوات.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل.
وهذه الآية تشير إلى ما أشارت اليه آية القصص الأنفة الذكر من أنه لم يسلط على السحرة لأن اللّه لم يقدره أن يفعل بهم شيئا فضلا عن موسى وأخيه وأن اللّه ت (26)(1/401)
ج 1 ، ص : 402
تعالى لم يذكر لنا عن تنفيذ وعيده بهم شيئا «وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ» فينبذ كما جميعا ويذر بالنصب عطفا على ليفسدوا أو نصب بجواب الاستفهام بعد فاء السببية أو واو المعية وعلى هذا قول الخطيئة :
ألم أك جاركم ويكون ببني وبينكم المودة والإخاء
قال ابن عباس : كانت لفرعون بقرة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ، ولذلك صاغ لهم السامري عجلا لأنه من جنس معبودهم ، ولذلك عكفوا عليه وانكبوا على عبادته دون ترو.
وقال السدى : كان فرعون اتخذ أصناما لقومه يأمرهم بعبادتها ويقول لهم أنا ربكم الأعلى أي ربكم ورب هذه الأصنام راجع الآية 24 من سورة النازعات في ج 2 وهذا والمراد من قوله تعالى على لسان ملأ فرعون (يَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وقيل إنه كان يعبد ولا يعبد استدلالا بالآية 38 من سورة القصص الآتية وهي قوله تعالى : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وكان دهريا ينكر الصانع.
وقيل إنه عني بالآلهة الشمس والقمر ، لأنه يعبدها وعلى كل فهو كافر ملعون جبار خبيث متعنت عات عنيد ، ولذلك قال مجيبا لملأ «سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ» الذكور «وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» للخدمة كما كنا نفعل بها قبل ظهور موسى ثم جاهر بكبريائه فقال : «وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ 127» غالبون لم نتغير ولا يغرنا ما جاء به موسى وهم تحت أيدينا لا قدرة لهم على مقاومتنا إذ لا عدد لهم ولا قوة قصد المتهوّر الطائش ، ان بني إسرائيل تعلم فعله السابق بهم من قتل الذكور وترك الإناث منذ حمل بموسى ، وكيفية استرقاقهم قبل وذلك أنه لما رأى عجزه عن الانتقام من موسى بما أوقعه اللّه في قلبه من الهيبة له صار يندد بهم بذلك ففجر بنو إسرائيل خوفا من أن يفعل بهم ما ذكره ، ففزعو إلى موسى وشكوا أمرهم إليه ليبين لهم المخلص منه «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ» عليه «وَاصْبِرُوا» على ما أنتم عليه ، فإن اللّه مانعه منكم «و إِنَّ الْأَرْضَ ليست لفرعون وإنما هي «لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ» المحمود «لِلْمُتَّقِينَ 128» وأنتم منهم فيكون لكم النصر عليه والظفر بأرضه لا محالة وصا(1/402)
ج 1 ، ص : 403
يمنّيهم بهلاك فرعون وقومه ويطمعهم باستملاك أرضه تسلية لهم وتثبيتا لعزمهم «قالُوا» يا موسى «أُوذِينا» من قبل فرعون وقومه «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» أوذينا أيضا أي قبل ولادتك وبعدها فمتى يكون ما توعدنا به وذلك لأن قلوبهم مقطعة من أذى القبط قبلا وبوجود موسى خفت وطأتهم عليهم وبعد حادثة السحرة خافوا أن يوقع بهم ما هدّدهم به من استيناف الحالة الأولى قتل الذكور واسترقاق الإناث واستخدام الآخرين ، وطالبوه إنجاز ما وعدهم به يظنون أن الأمر بيد موسى والذليل المحتقر أمثالهم ، يظن أن العزيز مثل موسى قادر على كل شيء «قالَ» لهم موسى إن الأمر بيد اللّه ينجزه بالوقت المقدر له في علمه الأولى وليس بيدي كما تزعمون لأوقعه بهم حالا ، فاصبروا يا قوم «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ» قبل أن يمكنه من إيقاع شيء فيكم «وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ» بدله ويجعلكم ملوكا على أرضه أمناء على عباده ، وهذا توكيد لما سلّاهم به على أبلغ وجه وهو عنده واقع جزما لأنه من وعد اللّه الذي لا يخلف وعده ، وعسى هنا للقطع وعبر بها تأدبا مع ربه ولهذا قال «فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 128» إذا خلفتم فيها أتحسنون الخلافة في عباده وأرضه أم لا ، وهل تشكرون أم تكفرون بعد.
وفي هذه الآية رمز للبشارة بتنفيذ ما وعدهم به ، ولكنهم لضعف إيمانهم وصغر نفوسهم التي تربت على الذل لا يصدقون ويريدون الأمر فورا ، ثم شرع تعالمت شرائعه في تفصيل مبادئ إيقاع الإهلاك في فرعون وقومه فأوحى إلى موسى أن يحدث قومه بما هو فاعل بهم ، قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ» القبط خاصة لأنه منهم وأضاف إليه لفظ آل مع أنه خاص بالأشراف بمقابل أهل في غيرهم ، لما له من الشرف الدنيوي بين قومه وان كان في نفس الأمر ، خسيسا وإن الكلمات التعظيمية للملوك جارية حتى الآن سواء كان كتابيا أو وثنيا فضلا عن المسلم «بِالسِّنِينَ» جمع سنة ، والمراد بها سني القحط والجدب ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلم في دعائه على قريش : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف.
وفي رواية : سنينا كسنين يوسف ، فالأول منون على لغة بن عامر وبنو تميم يقولون سنين بلا تنوين(1/403)
ج 1 ، ص : 404
ويجرون إعرابها على النون بالحركات كحين عند من يعربها ، وعليه فإن النون لا تخذف بالإضافة كما جاء أعلاه وعليه قول الشاعر :
دعاني من نجد فإن سنينه لعبن بنا شيبا وشيّبننا مردا
واللغة المشهورة إعرابها بالحروف لأنها من ملحقات جمع المذكر السالم ، وتقول العرب مستهم السنة إذا أخذهم الجوع ، قال الأبو صيري :
وأحيت السنة الشهباء دعوته حتى حكت غرة بالأعصر الدهم
مطلب ما أوقع اللّه يفرعون من الآيات :
وهذه أول آية أوقعها اللّه فيهم وفيها إعلام بأنه لم يمهل فرعون وقومه بعد أن صمّموا على تنفيذ خطتهم القديمة وهو أكرم من ذلك ، والآية الثانية قوله «وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ» من زروعهم وأشجارهم إذ أوقع عليها آفات أفسدتها قال قتادة السنون لأهل البوادي ونقص الثمرات لأهل المدن «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 130» أن ذلك بسبب إصرارهم على الكفر وظلمهم لبني إسرائيل علهم يرجعون عما صمموا عليه ، لأن الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند اللّه فيلجأون إليه ،
قال تعالى حاكيا ما وقع منهم بقوله «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ» في خصب وسعة وصحة «قالُوا لَنا هذِهِ» استحقاقا ولم يردوها إلى اللّه ولم يروها منه «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من جدب وضيق ومرض «يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ» من بني إسرائيل فيقولون ما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم تشاؤهما بهم ، وهذا دليل على أنهم لم يتعظوا ولم ينتبهوا بما صب عليهم من العذاب ، أدخل جل شأنه على الحسنة لأن وقوعها كالكائن ، ولأن جواب إذا يكون حقيقة غالبا ، وإن على السيئة المنكرة لندرة وقوع جوابها إذ قد يكون شكا.
قال سعيد بن جبير : عاش فرعون ستمائة وعشرين سنة ملك منها أربعمائة سنة لم ير فيها مكروها قط في بدنه ولا في ماله وملكه فلو جعل له وجع يوم أو حمى ليلة أو جوع ساعة لما ادعى الربوبية ، قال تعالى ردا عليهم «أَلا» أداة تنبيه على أن شؤمهم ليس من موسى وأصحابه «إِنَّما طائِرُهُمْ»(1/404)
ج 1 ، ص : 405
شؤمهم «عِنْدَ اللَّهِ» وحده بسبب كفرهم ، وأداة الحصر تشعر بذلك «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 131» كونه من عند اللّه لأنهم يضيفون الحوادث للأسباب الظاهرة لا إلى قضاء اللّه وقدره ، وبما أن موسى يحذرهم وينذرهم مقت اللّه إن لم يطيعوه فيسندوا ما يصيبهم إليه ، وتفيد الآية أن بعضهم يعلم حقيقة ذلك ومنهم فرعون ولكن لا يعملون بما يعلمون «وَقالُوا» القبط لموسى بعد انقشاع الآيتين المارتين «مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ» بيان لهما وسموها آية على طريق الاستهزاء تبعا لتسمية موسى سخرية به ، ولو اعتقدوها آية لما قالوا «لِتَسْحَرَنا بِها» فتصرفنا عن ديننا بضروب سحرك وإنا إن فعلت ما فعلت «فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ 132» لسحرك ولا مصدقين لأنه زائل ، ومهما هذه اسم شرط على الصحيح في الأصل ومحلها رفع الابتداء ، وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو كلاهما على اختلاف في ذلك ، ويجوز أن تكون ظرفا قال ابن مالك إنه مسموع من العرب وأنشد :
وإنك مهما تعط بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
على أنها هنا ظرف بمعنى متى خلافا لمن منع ذلك ولهذا استعملها المنطقيون بمعنى كلما وجعلوها سورا للكلية لإفادتها العموم.
أما في الآية فليست ظرفا البتة وأصلها ما الجزائية ضمت إليها ما المزيدة المذكورة للجزاء ثم قلبت ألف ما الأولى هاء لعدم تكرار الحرفين المتجانسين لاستثقاله عندهم فصارت مهما وموضعها النصب بتأتنا ، والضمير في به وبها يعودان للآية ، وأنت الثاني باعتبار المعنى ، فاغتاظ موسى عليه السلام واعترته الحدة ، فدعا عليهم لأنهم فضلا عن أنهم لم يتعظوا بالآيات المتقدمة العصا واليد اللتين كسرت شوكتهم وأذلتهم ، والقحط والنقص اللذين أوقعا فيهم ما أوقعاه رموه بالشؤم وأيأسوه من الإيمان بدلالة معنى مهما وأفادتها ذلك ، فأجاب اللّه دعاءه بانزال عقاب آخر عليهم وهي الآية الثالثة وتكون الخامسة مع آيتي اليد والعصا بينه بقوله «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ» بأن فجرنا الأرض عيونا وأرسلنا السماء بالمياه الغزيرة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا إلى تراقيهم قالوا ولم يدخل بيوت بني إسرائيل شيء منه ، مع أنها مختلطة مع بيوتهم ودام ذلك سبعة أيام ، (1/405)
ج 1 ، ص : 406
فمن جلس منهم غرق ومن بقي قائما نجا وبقي معذبا لا يقدر أن يستريح أو يتحرك من موضعه خشية الغرق ، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك لئن كشف عنا هذا آمنا بك وأرسلنا معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فرفعه عنهم وأنبت لهم الكلأ والزرع ، وضاعف لهم الثمر بصورة لم يروها قبل ، فكلفهم الإيفاء بوعدهم فأبوا وقالوا ما كان ذاك عذابا وإنما هو نعمة ، ونكثوا عهدهم وازداد طغيانهم ، فدعا عليهم بقوله يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وطغى ، وان قومه قد نكثوا العهد ، رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة ، فبعث عليهم عذابا سادسا بينه بقوله «وَالْجَرادَ» المعروف فأكل زرعهم وثمارهم وثيابهم وسقوف دورهم ، ولم يدخل دور بني إسرائيل ، فضجوا إلى موسى وفزعوا لشدة ما حل بهم وأعطوه العهود والمواثيق بأنه إذا كشف عنهم هذا الضر يؤمنون به ويرسلون معه بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشفه بعد أن دام سبعة أيام وقبل أن يقضي على البقية الباقية من مواشيهم ، فلما كشف عنهم ، قالوا بقي لدينا ما يكفينا ما نحن بتاركي ديننا من أجلك ونكثوا عهودهم ، فدعا عليهم فأرسل اللّه عذابا سابعا ذكره بقوله «وَالْقُمَّلَ» القمل المعروف وقيل هو الدّبى أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها وقيل البراغيث أو كبار القراد أو السوس الذي يخرج من الحنطة والحشمان نوع من الجراد أو صغار الذر ، وكان الحسن يقرأها بفتح القاف وسكون الميم بما يدل على أنه القمل ، وبه قال عطاء الخراساني ، فملأ طعامهم وشرابهم وآلمهم بقرحة وأكل منهم شعور رؤسهم وأهدابهم وحواجبهم ، ولم يصيب بني إسرائيل شيء منه ، فاشتد عليهم البلاء أكثر من ذي قبل ، فعجوا إلى موسى واستغاثوا به ووثقوا إليه العهود وعظموا له الايمان بأنه إذا كشف عنهم هذه المرة يؤمنون ولا يعودون إلى الكفر ويرسلون معه بني إسرائيل ، وذلك بعد أن دام عليهم سبعة أيام أيضا ، فرق لهم موسى ورحمهم ودعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يبق منه واحدة ، فقالوا ما كنا نوقن أنه ساحر مثل اليوم! كيف ذهب ما كنا نراه بكلمة واحدة ، ونكثوا عهدهم ، ونقضوا أيمانهم ، فدعا عليهم ، فأرسل عذابا ثامنا بينه بقوله(1/406)
ج 1 ، ص : 407
«وَالضَّفادِعَ» حيوان معلوم بري وبحري والفرق بينهما وجود غشاء رقيق بين أصابع البحري ليستعين به على العوم في الماء والبري خلو منه لعدم الحاجة ، إليه جلت عظمته أعطى كل شيء ما يحتاجه ، هدى كل خلقه لمنافعهم وأحسن كل شيء خلقه ، فلا نقص ولا اعوجاج فيما خلق فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأوانيهم وأطعمتهم منها ، حتى صارت تثب عليهم إذا تكلموا ، فتدخل أفواههم ، ولم يصب بني إسرائيل شيء منه ، لأنه مرسل إلى القبط خاصة والقبط قانعون بأنه معجزة مسلطة عليهم فقط لأنهم يرون أن بني إسرائيل سالمون منه ، ولكنهم طغاة معاندون حريصون على بقاء ملكهم مع الكفر لأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ، ودام سبعة أيام أيضا حتى ذاقوا العذاب الأليم والبلاء العظيم فوقعوا على موسى باكين شاكين مستغيثين به قائلين : هذه المرة نتوب ولا نعود أبدا ، وأكثروا له من العهود والمواثيق ، وغلظوا له الأيمان بأنه إذا كشفه عنهم يؤمنون ويرسلون معه بني إسرائيل ، ولا يعودون إلى الكفر فدعى فكشفه عنهم حتى لم تر واحدة منها فقالوا هذا سحر مثل القمل فأين ذهبت هذه الضفادع لو كانت حقيقية ؟ ولم ينتبهوا أن الذي أحدثها عليهم بلحظة واحدة قادر على إزالتها عنهم بمثلها ، ولكنهم لا يعقلون بقلوبهم ولا يتذكرون ذلك ، ونكثوا ونقضوا أيضا ، فاشتد غضب موسى عليهم ودعا اللّه ربه ، فأرسل عليهم عذابا تاسعا إذا عد القحط ونقص الثمرات اثنين أما أذاعوا واحدا كما قال قتادة في الآية 30 المارة آنفا فتكون هذه الآية ثامنة وبينها بقوله «وَالدَّمَ» الرعاف كما قاله زيد اني اسلم وقال غيره سال النّيل عليهم دما عبيطا وانقلبت مياه الآبار والعيون وغيرها كذلك على القبط خاصة ، حتى أن القبطي والاسرائيلي إذا اجتمعا على ماء واحد فيكون من جهة القبطي دما وما يلي الاسرائيلي ماء ، وهكذا إذا تناول القبطي من أمام الاسرائيلي ماء انقلب دما وإذا تناول الاسرائيلي دما من القبطي انقلب ماء ، ومع هذا كله لم يعتبروا ولم يجزموا أنه من عند اللّه ، ولكنهم لما يرونه ملازما لهم يراجعون فرعون أولا فيقول لهم سحركم موسى بضروب السحر وقوي عليكم ، فيقولوا ، له من أين سحرنا(1/407)
ج 1 ، ص : 408
والأمر كما ترى ؟ فيقول اصبروا وكان نفسه يمضغ الأشجار فتعصر في فيه دما ، ولكنه لشدة عتوه يتحمل ويمّني قومه لئلا يروا ضعفا فيه ، ودام الحال عليهم سبعة أيام ولما لم يروا من فرعون ما ينقذهم وهو يمنّهيم بالصبر ، شأن كل مرة ، رجعوا إلى موسى شاكين باكين متذللين خاضعين ، فرقّ لهم لكثرة ما يوثقون له الأيمان فطمع بصدقهم فدعا اللّه فأزاله عنهم وكذلك لم يؤمنوا لسابق شقائهم مع رؤيتهم هذه المعجزات «آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» واضحات دالات على صدق نبوة موسى وقد ذاقوا عذابها كلها ، ولم ينجح بهم ، مع انها معجزات لا تحتاج إلى فكر وروية ملموسة حسية ظاهرة تبع بعضها بعضا ، قالوا وكان بين كل آية وأخرى شهر واحد ، مرتبات ، كما يستفاد من قوله هنا مفصلات «فَاسْتَكْبَرُوا» عن الإيمان بها وبمن أنزلها وأنزلت عليه مع أن كل منها كافية للتصديق والإيمان ولكن ما كان اللّه ليهدي قوما خلقوا في الأزل ضلالا «وَكانُوا مُجْرِمِينَ 133» بإصرارهم على الكفر وانفتهم عن الإيمان وبعد أن يكون الإنسان مجرما لم يبق له إلا الحكم عليه ، وهكذا إذا أوقع أحد جرما يكون أولا مدعى عليه ثم ظنينا ثم متهما ثم مجرما ثم محكوما ، هذا وقد اشتد غضب موسى فدعا عليهم بما ألهمه ربه ، فأجاب دعاءه بما ذكره بقوله عز قوله «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ» الموت قال سعيد بن حيدر هو الطاعون وهذا هو العذاب الأخير وهو الآية التاسعة على قول قتادة فمات منهم في اليوم الأول سبعون الفا فأمسوا لا يتدافتون روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم ، فاذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه.
وهذه الرواية الأولى على بنى إسرائيل لا يستدل بها على ما نحن فيه لأن الرجز هذا خاص بالضبط كسائر الآيات المتقدمة أما على الرواية الثانية وهي على من قبلكم فيصلح دليلا لما هنا.
هذا ولما رأو ما حل بهم نسوا فرعون والسحر وعجوا واقعين على الأقدام «قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» وأوصاك به من النبوة والمرحمة ، (1/408)
ج 1 ، ص : 409
وهذه الياء للقسم الاستعطافي كذا يستعطفونه عليه السلام وهم باكون ضاجون قائلين واللّه ربك «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ» الموت الذي حل بنا بافترائنا عليك وكذبنا بمواثيقنا ونفقنا عهودنا فالآن وعزة ربك وجلاله «لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ 134» وو اللّه ربك لا يسعنا بعد هذا إنكار أو تكذيب أو القول بأنه سحر لأنه الموت يا موسى ذقناه ولمسناه هذا ، الذي لا رجوع بعده بخلاف الآيات الأول لأنا نراها تزول فتتغير عقب زوالها وتعود إلى الكفر وننقض عهودنا ومواثيقنا بسبب رؤيتنا عودة الحالة السابقة إلى طبيعتها ، أما الآن فلا وأكثروا من العويل والاستكانة وتمسكوا به خاضعين خاشعين ، ولما رأى اعترافهم بالآيات وآنس منهم الصدق في هذه المرة حنّ عليهم وقبل رجائهم فدعى اللّه مولاه بكشفه عنهم فأجاب دعائه أيضا.
قال تعالى : «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ» أتى بالظاهر موضع المضمر للتأكيد وقد أخرناه «إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ» وهو وقت إغراقهم بالبحر المعلوم وقته عنده والذي هم واصلون اليه لا محالة «إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ 135» ما أعطوه من إيمان وعهود ومواثيق ، وعاد إلى الطعن والتكذيب شأنهم في كل مرة ولا يقال إن اللّه تعالى عالم بأن آل فرعون لم يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية ، فلم والى عليهم هذه المعجزات لأنه نظير قوله جل قوله : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً.
قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الآية 164 الآتية.
مطلب جواب اللّه ورسوله عمّا يقال :
هذا هو جواب اللّه إلى هذا المعترض وجواب لرسول.
هو قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) يفعل ما يشاء ربكم ما يريد ، وهذا جواب أهل السنة والجماعة ، أما جواب المعتزلة القائلين برعاية الأصلح إن اللّه علم من قوم فرعون أن بعضهم يؤمن بتوالي المعجزات وظهورها فلذلك والاها عليهم واللّه أعلم بمراده وهو قول وجيه لو لم يقترن برعاية الأصلح أي أن فعل الأصلح للعبد واجب على اللّه عندهم ومذهب أهل السنة والجماعة بخلافه.
قال صاحب الجوهرة :
وما قيل إن الصلاح واجب عليه زور ما عليه واجب(1/409)
ج 1 ، ص : 410
وقال في بدء الأمالي :
وما أن فعل أصلح ذو افتراض على الهادي المقدس ذي التعالي
ومعنى النكث في الأصل فل طاقات الغزل ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه.
راجع تفسير الآية 91 من بعدها في سورة النمل في ج 2 ، وجواب لما مقدر تؤذن به إذا الفجائية أي فاجئوا بالنكث ، وما قيل بأن جوابها الجملة المقترنة بها فيه تساهل وتسامح وكلا من لما وإذا معمول لذلك الفعل المقدر الأولى ظرفه والثاني مفعوله وذلك محافظة لما ذهبوا اليه من أنه يجب أن يكون الذي يلي لما من الفعلين ماضيين لفظا أو معنى إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذ وإذا الفجائتين في موقع المفعول به للفعل لأن لما تجاب بإذا الفجائية الداخلة على الجملة الاسمية فلا لزوم إلى هذا التكليف بتقدير الفعل قال تعالى «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» أي فرعون وقومه ومناصريه جزاء نكثهم المترادف «فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ» معظم ماء البحر وسلبنا نعمتنا منهم وأهلكناهم.
قال ابن قتيبة : اليم سرياني معرب وما قيل إنه أسم خاص للبحر الذي غرق فيه فرعون وقومه ليس بشيء ، قال الألوسي في روح المعاني إن هذا القول غريق في يم الضعف وإنما جعلنا هذا الإغراق عقوبة لهم «بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على صدق نبينا «وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ 136» لاهين لاعبين لم يتفكروا بمن أظهرها ولم يتذكروا بها ولم يبالوا بمن أنزلها وأنزلت عليه ولم يتعظوا بنزول النقمة بهم المسببة عن الأعراض عن تلك الآيات وعدم التفاتهم إلى زجر نبيّهم واعراضهم عما يؤول اليه أمرهم واتباع من كان السبب فيها ، فكأنها لم تكن ، والغفلة ليست من فعل الإنسان ، على أن من شاهد مثل تلك الآيات لا ينبغي له التكذيب بل التصديق والانقياد قال تعالى : «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ» أي يستذلون ويسترقون ويهانون وهم بنوا إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة ولا أعظم من هذا اهانة وهوانا فجعلنا نحن إليه الكل من الذكور الذين كانوا مملوكين ملوكا وأنبياء وملكناهم «مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا» اي جهاتها بما فيها بيت المقدس ومصر والشام وهذا أولى من الاقتصار على ارض(1/410)
ج 1 ، ص : 411
مصر التي كانوا فيها عبيدا هم ونساؤهم ، وهذه الأرض هي «الَّتِي بارَكْنا فِيها» بكثرة الثمار والزروع والأشجار والخصب وسعة الرزق وكونها مساكن الأنبياء والصالحين ومرقدهم ، وكلها كانت داخلة في ملك داوود وسليمان وهما من بني إسرائيل ولم يقتصر ملكهما على مصر والشام بل بيت المقدس وما حواليه واليمن وغيرها هذا ، وقد جاء في فضل الشام أحاديث كثيرة اخترنا منها ما أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال : ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام.
واخرج ابن عساكر عن حمزة ابن ربيعة قال : سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها اسرى به إليها.
وهذا مؤيد بإسراء حضرة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم ومهاجرة ابراهيم ولوط عليهما الصلاة السلام ، لانهم ليسوا منها.
مطلب ما جاء في مدح الشام :
واخرج احمد عن عبد اللّه بن خولة الأزدي أنه قال يا رسول اللّه خر لي بلدا أكون فيه ، قال عليك بالشام فإنه خيرة اللّه تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده.
واخرج ابن عساكر عن واثلة ابن الأصقع قال : سمعت رسول اللّه يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد اللّه يسكنها خيرته من عباده.
وأخرج الحاكم وصححه عن عبد اللّه ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام.
وجاء من حديث أحمد والترمذي والبيهقي وابن حبان والحاكم أيضا عن زيد بن ثابت أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : طوبى ، للشام ، فقيل له ولم ؟ قال إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها.
هذا ، والأحاديث في فضل الشام كثيرة ، إلا أن فيها مقالا فمنها الضعيف والمنكر والموضوع ، وسبب وضع بعضها ما كان يتملّق به بعض المنافقين زمن الأمويين ، والشام اسم للاقليم المعروف من حدود الحجاز إلى الترك ، ومن مصر إلى العراق ، قال في القاموس الشام بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا أي تياسروا إليها ولأنها مساكن سام بن نوح وأن السين تقرأ بالعبرية شينا.
أخرج ابن ابي لحاتم عن ابي الأعمش وكان قد أدرك أصحاب رسول اللّه أنه سئل عما بورك من الشام ، أي مبلغ حده فقال : أول حدوده(1/411)
ج 1 ، ص : 412
عريش مصر ، والحد الآخر طرف الثنية ، والحد الآخر الفرات ، والحدّ الآخر جعل فيه قبر هود عليه السلام.
وان دمشق أو جلق المعروفة الآن بالشام فهي داخلة هذا الإقليم ، وفيها خاصة ما قاله بعضهم :
دمشق غدت جنة للورى زها وصفا العيش في ظلها
وفيها لدى النفس ما تشتهي ولا عيب فيها سوى أهلها
وقال آخر :
تجنب دمشق ولا تأتها وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها نافق وفجر الفجور بها ساطع
وهذا القائل تشابه قلبه مع قلب من حرّف ما كتب على معرض دمشق عام 1934 عبارة معرض دمشق وسوقها بعبارة : معرص دمشق وفسوقها ، وهكذا قلوب المنافقين تتشابه كقلوب الكافرين ألا تراهم على وتيرة واحدة في أفكارهم ومداهنتهم راجع الآية 118 من البقرة في ج 3.
وقال آخر :
قيل ما يقول في الشام حبر شام من بارق الهنا ما شامه
قلت ماذا أقول فى وصف أرض هي في وجنة المحاسن شامه
وفي الحقيقة هي الآن قبة الإسلام ومعهد العلوم وباب التقوى ومعدن حلق الذكر وتداول كتاب اللّه ومركز أهل الفضل والصلاح وكنانة اللّه في أرضه وملاك الخيرات.
أما ما يتفوه به بعضهم فله نوع من الصحة لأنها بلدة عظيمة فيها الغث والسمين ، وكل يعمل على شاكلته :
(لكل امرئ في دهره ما تعودا) (وكل إناء بالذي فيه ينضح)
والطيور على أشكالها تقع ، فنسأل اللّه أن يولي الأمور خيارها ويوفقهم وسائر المسلمين لإزالة ما وصمهم به عدوهم ، قال تعالى «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى » التي هي النصر على العدو وانجاز الوعد بتمكينهم في الأرض واستخلافهم فيها وتلك منّة جلّى «عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» من اللّه إذ ذاك ، أما الآن فنسأله بحرمته أن يدمرهم ويذيقهم أشد ما لاقاه آباؤهم ويطهر الأرض المقدسة منهم ويولي عليهم من يعيد لهم زمن فرعون إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير ، لأنهم لم يقدروا(1/412)
ج 1 ، ص : 413
نعم اللّه الذي جعلهم بعد الرق أحرارا وبعد الذل أعزاء وجعل منهم ملوكا وأنبياء بعد العبودية «بِما صَبَرُوا» اولا على الأذى والقتل والأسر ، إعادة اللّه عليهم وذلك لأنهم انتظروا وعد نبيهم موسى عليه السلام بالفرج الذي مناهم به أربعين سنة ، ولا شك أن الانتظار أشد من النار ، قال تعالى «وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ» من البنايات العالية والقصور الشامخة في مصر وغيرها «وَما كانُوا يَعْرِشُونَ 137» من الكرم وغيره في الجنان ، وجاز ضم راء يعرشون والكسر أفصح ، وقد حصل هذا التدمير باغراقهم بالبحر وتركهم ديارهم وجناتهم وبالطوفان الذي أوقعه اللّه عليهم المنوه به في الآية 123 المارة ، وهذا آخر ما قصه اللّه علينا في هذه السورة بما جرى بين فرعون وموسى ، وانظر ما يقصه اللّه علينا مما أحدثه بنو إسرائيل بعد ألطاف اللّه عليهم التي يجب أن يقابلوها بالشكر ، قال تعالى «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» بعد انجائهم منه وإغراق فرعون وقومه وخلفناه وراء ظهورهم وأمنوا من كيد فرعون وقومه الذي قطع أمعاءهم كما سيأتي في القصة مفصلا بالآية 53 من سورة الشعراء الآتية «فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ» قال قتادة هم طائفة من لخم كانوا نزولا على الرقة أي ساحل البحر لا الرقة التي على شاطىء الفرات من أعمال دير الزور ، ولعلها سميت رقة لهذا السبب أيضا ، وقال غيره هم الكنعانيون الذين أمر اللّه موسى بقتالهم ولما رأوهم «قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» تماثيل من الأصنام وكانت على صورة البقر أي ليعبدوها مثلهم ، قاتلهم اللّه استحسنوا عمل أولئك الكفرة وطلبوا مثله ولم وتجفّ أقدامهم بعد من انجائهم من البحر «قال» موسى زجرا لهم وتعجبا من حالهم وقولهم هذا بعد رؤية تلك الآيات التي خلصتهم من عبودية القبط وأهلكت أعداءهم دونهم على
مرأى منهم ، إذ كانوا في البحر جميعا ، وصادف خروج آخر واحد منهم دخول آخر واحد من القبط فيه ، ولما رأى عليه السلام طيشهم هذا «قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 138» عظمة اللّه وقوة سلطانه ولا تقدرون نعمه ، أتريدون أن تشركوا باللّه وتكفروا نعمه بعد أن نجاكم(1/413)
ج 1 ، ص : 414
من الذل والعار والخزي والقتل والغرق «إِنَّ هؤُلاءِ» الذين ترونهم يعبدون الأصنام ويتخذون عبادتها قربة إلى اللّه ، الذين تريدون أن يكون لكم مثل ما لهم من الأوثان «مُتَبَّرٌ» مدمّر هالك «ما هُمْ فِيهِ» من الحال ويؤدي إلى تدميرهم وليس بدين يتدين به وأن اللّه سيقدرني على تحطيم أصنامهم هذه وتبديدها وتصييرها فتاتا ، لأن عبادتهم لها كفر محض واشراك مع حضرة الربوبية ومثل هذا الطلب محرم وهؤلاء قوم حمق «وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 139» من صنعها وعبادتها فهم كفار يجب قتالهم ، لأنهم لم يريدوا بعبادتها وجه اللّه ثم «قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً» كلا لا إله غيره «وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 140» في زمانكم وهو المستحق للعبادة وحده لأنه النافع الضار ، وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر فكيف تريدون عبادتها وهي لا تدفع شرا عن نفسها هذا جزاء اللّه منكم أيها الفسقة.
أخرج الترمذي عن أبي واقد الليثي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين امرّ بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا (أي طائفة ممن معه) اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم سبحان اللّه هذا كما قال قوم موسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) والذي نفسي بيده لتركين سنن من قبلكم ، الحديث.
ثم شرع يعدد عليهم نعمه فقال «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ» يولونكم ويكلفونكم ويبغونكم «سُوءَ الْعَذابِ» أشده وأقساه ثم بينه بقوله «يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ» العذاب المهين محنة فظيعة «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ 141» لا أعظم منه في الدنيا فهو غاية الذل ونهاية الخزي والعار ، فالرب الذي أنجاكم من وأهلك عدوكم وملككم أرضه وماله ، أليق بكم أن تشتغلوا بعبادته طلبا لرضاه وشكرا لما أولاكم وأجدر أن لا تشركوا معه شيئا أبدا ، لا أن تقولوا اجعل لنا إلها من أحجار وأخشاب ومعادن جامدة أو من حيوان عاجز ، انتهوا عن هذا واستغفروا لئلا يحل بكم غضبه ، قال تعالى «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» للتشرف بمناجاتنا وهو شهر ذي القعدة «وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» من ذي الحجة «فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ(1/414)
ج 1 ، ص : 415
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»
مع يوم العيد الذي هو يوم الوعد ، وذلك أنه عليه السلام بعد أن نجى اللّه قومه وعبر بهم البحر وزجرهم على ما وقع منهم ، وكان وعد قومه بأنه إذا أهلك اللّه عدوهم يأتيهم بكتاب من عند ربه فيه ما يأتون وما يذرون.
ولما تمّ له ذلك طالبه قومه به ، فسأل ربه انجاز وعده ، فأمره أن يصوم ذا القعدة ثلاثين يوما فصامها ، وأنكر خلوف فمه ، فأوحى اللّه إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك ، ثم أمره أن يصوم عشرة أيام من أول ذي الحجة ويحضر لمناجاته وإنزال الكتاب عليه ، فصامها وتوجه إلى المحل الذي أمره أن يحضر فيه «وَقالَ ...
لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» مدة ذهابي لمناجاة ربي «وَأَصْلِحْ» أمورهم واحسن خلافتي فيك وفيهم وراقبهم في حركاتهم وسكناتهم «وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ 142» منهم ، وقد أعطى هذه الأوامر أخاه وهو يعلم أنه يصلح ولا يسلك سبيل من أفسد منهم ولكنه من قبيل التوكيد لشدة حرصه عليهم ، ولعلمه بصغر عقولهم ، ولأنهم قوم ترّبوا على الذل والصغار لا يأمن أن يستميلهم الأشرار ، وتوصية لهرون الذي لا يتصور منه وقوع ما أوصاه به ، وحذره عنه ، على حد قول سيدنا إبراهيم (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية 260 من البقرة في ج 3 ، وعلى حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية 134 من سورة النساء ، أي اثبتوا على إيمانكم وداوموا عليه ، فكأنه يقول لأخيه دم على أخلاقك وإصلاحك شأنهم كما كنت أنا وأنت دائبين عليه ، وكأنه عليه السلام نفث في روعه أنهم سيزيغون عن عبادة اللّه بما يسوله لهم شرارهم فأوصى أخاه بما أوصاه لأن الأنبياء ملهمون ، وسبب وصيته هذه أن الرئاسة كانت لموسى دون هرون ، وقال الشيخ محي الدين العربي الأكبر في فتوحاته ما معناه إن هرون نبي أصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية ، وقيل إن هذا كان كما يقوله أحد المأمورين بمصلحة واحدة إذا أراد الذهاب لحاجة كن عوضا عني ، أي ابذل جهدك ووسعك بحيث يكون عملك عمل اثنين ، وهو وصية لأن هرون مثل موسى مرسل لبني إسرائيل أيضا.(1/415)
ج 1 ، ص : 416
مطلب ميقات موسى وتكليمه :
قال تعالى «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» الذي عينّاه له في طور سيناء «وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ» من غير واسطة ولا كيفية.
وقد ذهب الحنابلة ومن تابعهم إلى أن كلام اللّه تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم ، وذهب المتكلمون إلى أنه صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وهي صفة أزلية قديمة ، وعليه فإن القائلين بهذا القول قالوا إن موسى سمع تلك الصفة القديمة الأزلية حقيقة وقالوا :
فكما أنه لا تبعد رؤية ذاته وليست جسما ولا عرضا ، فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنه ليس بصوت ولا حرف ، ومع هذا فإنه لا يشبه كلام المخلوقين ولا محذور من ذلك ، أما من قال إن تكليمه تعالى عبارة عن خلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظا في الألواح ، وهو ما ذهب إليه الزمخشري ومن على طريقته من المعتزلة فهو قول باطل ، لانه يقضي بأن تقول الشجرة التي كلمه منها أو الجرم الذي كلمه عليه إنني أنا اللّه ، وإن هذه الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول ذلك فظهر فساد مذهبهم في هذا.
وإن مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه جمهور العلماء وبعض من المتكلمين سلفا وخلفا ، هو أن اللّه تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله ، والحقيقة أن اللّه تعالى كلم موسى بلا واسطة ولا كيفية ، وأسمعه كلامه ومناجاته ، فاستحلى ما سمع وطمع في رؤيته لغلبة شوقه إليه «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» سأل عليه السلام ربه أن يريه ذاته المقدسة مع علمه بأن اللّه لا يرى في الدنيا بسائق ما هاج به من الغرام في لذة المناجاة وما فاض عليه من الجلال حتى استغرق في بحر محبّته ، فسأل الرؤية ، ولعل هذه أيضا من جملة ما ألهم بأنه سيأتي نبي بعده يرى ربه بأم عينه فطمع بذلك وطلبها ، أو أنه طلب التمكن من الرؤية مطلقا بالتجلي والظهور وهما مقدمان على النظر ومسببان له ، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم فيكون المعنى : مكني من رؤيتك أو تجلّ علي فأنظر إليك وأراك ، ولم يرد إيجاد الرؤية لعلمه باستحالتها في الدنيا فأجابه ربه بالمنع «قالَ لَنْ تَرانِي» وأنت على ما أنت عليه لأن البشر لا يطيق(1/416)
ج 1 ، ص : 417
النظر إليّ في هذه الدار ، وفي هذا دليل لأهل السنة والجماعة على جواز الرؤية في الآخرة ، لأن موسى اعتقد أن اللّه يرى ، فسأل الرؤية لأنها جائزة واعتقاد جواز ما لا يجوز على اللّه كفر ، ولأنه تعالى لم يقل لن أرى ليكون نفيا للجواز ولو لم يكن مرئيا لأخبر بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان ، قال تعالى «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» طور سيناء الذي هو قريب منه واسمه زبيد «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ» بعد أن تجلى عليه وبقي كما هو عليه الآن «فَسَوْفَ تَرانِي» إذا تجليت عليك أيضا ، وهذا دليل أيضا على جواز الرؤية لأنه علقها باستقرار الجبل وهو ممكن وتعليق الشيء بالممكن دليل على إمكانه كالتعليق بالممتنع دليل على امتناعه ، والدليل على أن استقرار الجبل ممكن قوله (جَعَلَهُ دَكًّا) ولم يقل اندك ، وما أوجده اللّه تعالى كان جائزا أن لا يوجد لو لم يوجده ، لأنه مختار في فعله ، ولأنه تعالى ما آيسه من الرؤية ولا عاتبه على طلبها كما عاتب نوحا بقوله :
(أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الآية 46 من سورة هود في ج 2 ، ولا يقال أن محمدا من البشر وكيف رأى ربه وقوي على رؤيته ، لأن اللّه تعالى أودع فيه قوة على ذلك مكنته من الرؤية لأنها من خصوصياته صلّى اللّه عليه وسلم كما خص موسى بالتكليم وقواه على سماع كلامه مشافهة دون غيره ، فلا مناقشة في هذا وما عموم إلا خصص.
هذا ، ومن قال انّ (لن) للتأييد والدوام واستدل على عدم جواز الرؤية حتى في الآخرة فقد أخطأ إذ لا شاهد له بالعربية على قوله ، ولا دليل له في الكتاب والسنة وأن الدلائل لإثبات الرؤية في الآخرة صريحة في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية 24 من سورة القيامة المارة ، وجاء في الصحيحين أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة ، ومما ينقض قوله أنّ لن للنفي ألا يرى قوله تعالى في نعت اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) الآية 95 من البقرة في ج 3 ، مع أنهم يتمنونه يوم القيامة في قوله تعالى (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الآية 77 من الزخرف في ج 2 ، وقوله (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) الآية 17 من سورة الحاقة في ج 2 ، وقوله في الآية 25 من سورة مريم الآتية (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) ت (27)(1/417)
ج 1 ، ص : 418
فظهر لك من هذا كله أنّ لن ليست للتأييد ، قال تعالى «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ» أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه بعد أن جعله مدركا ، لذلك قال الشيخ أبو منصور نقلا عن الأشعري ، أنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلما ورؤية حتى رأى ربه ، فلما رآه جلت رؤيته «جَعَلَهُ دَكًّا» مفتوتا ساوى به الأرض بحيث لم يبق له أثر ، والدّكّ والدق أخوان وكذلك الشك والشق ، وهذا نص بكونه مرئيا ثابت لا مرية فيه ، ونص بجهل منكر الرؤية كما مرت الإشارة إليه ، ولا يستغرب هذا ، لأنه داخل في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 44 من سورة الإسراء الآتية ، فظاهر هذه الآية يستلزم كون جميع الأشياء حية مدركة بحياة وإدراك لا يقين بها ، وكل بنسبة عالمه ، وإذا دققت النظر في مغزى اسمه القادر هان عليك ما لا يقبله عقلك أو تنصوره مخيّلنك ، اللهم بصرنا وأرشدنا إلى ما به النجاة من الحيرة.
هذا ، والاحتجاج بجمادية الجبل لا قيمة له ، لأن اللّه تعالى قال في الآية 9 من سورة سباء في ج 2 (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) فالذي أقدر الجبال على التسبيح مع داود عليه السلام أقدر هذا الجبل على الفهم والتعقل وخلق فيه رؤية متعلقة بذات اللّه تعالى ، وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحلول الحياة له والعقل فيه فهكذا هنا ، فلم يبق مجال للقول بإنكار الرؤية وجوازها بعد أن بان لك تبعتها بالدلائل العقلية والسمعية ، وعلمت بأن ما جاء به منكر الرؤية مصدره التأويل والتفسير راجع تفسير الآية 102 من سورة الأنعام في ج 2 ، قال ابن عباس : ظهر نور الربوبية للجبل فصار ترابا «وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً» صائحا مغشيا عليه ساقطا على الأرض من هيبة الربوبية وعظمتها التي لا تكيف «فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ» تعاليت وتنزهت عن المثالية والمشابهة لخلقك وعن أن يثبت أحد لمشاهدتك «تُبْتُ إِلَيْكَ» عن سؤال الرؤية في الدنيا ومن أن أسألك شيئا بغير إذنك «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ 143» بأن البشر لا يطيق رؤيتك في الدنيا إلا من قربته منك وقويته بمعونتك وأيدته بتأييدك وخصصته بها دون سائر خلقك ، وكان رمز إليه بأنه سيظهر نبي بعدك يرى ربه «قالَ يا مُوسى(1/418)
ج 1 ، ص : 419
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ»
اخترتك وميزتك «عَلَى النَّاسِ» الموجودين على الأرض في زمنك «بِرِسالاتِي» التي أرسلتك بها لتبلغها لعبادي وهي الصحف التي أنزلتها إليك قبل أسفار التوراة التي أنزلها عليك الآن «وَبِكَلامِي» لك دون واسطة «فَخُذْ ما آتَيْتُكَ» من هذه الفضائل التي خصصتك بها وحدك ولم تكن لأحد قبلك فاقبلها واعمل بها «وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ 144» نعمائي من تشريفك بالرسالة وتتويجك بالتكليم ، ولا يضق صدرك من منعي لك الرؤية لأنها لم تقدر لك في أزلي ، فرضي موسى ، وشكر ربه ، قال تعالى «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ» المسطور عليها التوراة «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» يحتاج إليه هو وقومه من أمر ونهي وحلال وحرام وحدود وأحكام «فَخُذْها بِقُوَّةٍ» بجد وعزم وحزم «وَأْمُرْ قَوْمَكَ» يا رسولي «يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» عند وقوع شيء له جهتان ، كالعفو فإنه أحسن من القصاص ، والصبر فإنه خير من الانتقام والضجر ، والكظم فهو أولى من الانتصار ، والصلة فهي أحسن من القطيعة ، وهذه موافقة لشريعتنا قال تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية 55 من سورة الزمر في ج 2 ، والقرآن كله حسن وإنما الفرق بين الحسن والأحسن كثرة الثواب ، ويستدل من هذه الآية أن التكليف كان على موسى أشد منه على
قومه إذ لم يرخص له ما رخص لهم من الأخذ بالأحسن بل خصصه بالحزم ، وهو من أولي العزم إذ يقول له (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) وكذلك كلف صلّى اللّه عليه وسلم بأكثر مما كلفت أمته فكلف بقيام الليل على سبيل الفرض ومنع من تطليق نسائه ومن الزواج عليهنّ ، إلى غير ذلك.
مطلب أعمال الكفرة ورؤية موسى ربه :
هذا ، وقد أمره ربه في مناجاته هذه بعد أن أقر عينه بالاصطفاء أن يمرّن قومه على الأخلاق الفاضلة لعلمه بما يصدر عنهم بخلافها لتكون عليهم الحجة ولهذا نبههم بقوله «سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ 145» الخارجين عن الطاعة الذين يؤثرون الأخلاق السافلة على العالية ، فليعتبر قومك يا محمد بالأمم الماضية كيف دمرناها لما(1/419)
ج 1 ، ص : 420
أصروا على الكفر ، وعليهم أن يتعظوا قبل أن يحل بقومك ما حل بهم من الوبال والتنكيل وليعلموا أني «سَأَصْرِفُ عَنْ» فهم ومعرفة معنى «آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ» على خلقي «بِغَيْرِ الْحَقِّ» حسبما تسوّل لهم أنفسهم فيظلمون ويبغون على الناس بمقتضى دينهم الباطل الذي اختلقوه وتلقوه من آبائهم الضالين «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ» من آياتي التي أظهرتها لهم على أيدي رسلهم «لا يُؤْمِنُوا بِها» ولا يزيدهم نزولها وتبليغها لهم من قبل رسلهم إلا إنكارا وإصرارا على الكفر «وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» بل يعرضون عنه «وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» عنادا وعتوا لا جهلا لأن كل من عنده لمحة من إدراك يميز بين الرشد والغي ، كما يميز بين الظلمة والنور فيعرف الأول نافعا والثاني ضارا ولكنهم لا يريدون إلا الانكباب على عوائدهم الشائنة «ذلِكَ» اختيارهم طريق الشر على طريق الخير ، وإيثارهم الكفر على الإيمان «بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الواضحة الدالة على حسن ما أمرناهم به بواسطة رسلنا «وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ 146» غير مفكرين بها ولا ملقين لها بالا ، لاهين عن الاتعاظ بها معرضين عنها «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ» فجمعوا بين التكذيب والجحود أمثال من تقدمهم من الأمم المهلكين ، المصرفين عن فهم حقائق آياتنا والتصديق بالبعث والحشر «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» التي عملوها بالدنيا من برّ وصلة وقرى ضيف وفك أسير وإغاثة ملهوف وإقالة عثرة ومطلق إحسان ، مما يثاب عليه المؤمن في الآخرة من عوائدهم الحسنة التي كانوا يفعلونها بطلت ومحق ثوابها ، لأنهم لم يفعلوها لوجه اللّه في الدنيا ولذلك لم ينتفعوا فيها بالآخرة ، وقد حرموا من ثوابها بسبب تكذيبهم وكفرهم ، ولأنا قد كافأناهم عليها في الدنيا بكثرة الأموال والأولاد والصحة والأمن والجاه لأنا لا نضيع أجر من أحسن عمله ، فإن كان مؤمنا أثبناه عليه في الدنيا والآخرة ، وإن كان كافرا كافيناه عليه في الدنيا فقط وما له في الآخرة من نصيب ، فانظروا «هَلْ يُجْزَوْنَ» هؤلاء وأضرابهم يوم القيامة «إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ 147» بدنياهم فيجازون عليه إن خيرا فخير ، وان شرا فشر ، إلا أن الكافر يعجل له(1/420)
ج 1 ، ص : 421
ثواب عمله الصالح في الدنيا ليلقى اللّه ولا حسنة له راجع تفسير الآية 20 من سورة الأحقاف في ج 2 ، والمؤمن يدخر له هذا.
مطلب إشارات القوم في الرؤية :
وقد اختلف المفسرون والعلماء بأن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا ؟ فذهب الأكثر إلى عدم الرؤية لا قبل الصعق ولا بعده ، وقال الشيخ الأكبر إنه رآه بعد الصعق ، لأنه كان موتا ، أخذا من قوله تعالى :
(فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الآية 68 من سورة الزمر في ج 2 ، أي أنه حين صعق مات فرأى ربه وسأله عما جاء في الآية وأجابه بما جاء فيها ، ووافقه على هذا ، القطب الرازي.
أخرج الحاكم والترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هذه الآية (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فقال : قال اللّه يا موسى إنه لن يراني حيّ إلا مات ولا يابس إلا تدهده ، ولا رطب إلا تفرق ، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم.
وجاء في الخبر الذي رواه أبو الشيخ عن ابن عباس : يا موسى إنه لا يراني أحد فيحيا ، قال موسى رب ان أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا.
وجاء في باب الإشارات : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) قال هيهات ذلك وأين الثريا من الثرى ومن يد المتناول أنت بعد في بعد الاثنينية وحجاب جبل الانانية ، فإذا أردت ذلك فخل نفسك وأتني ، فهان عليه الفناء في جانب الرؤية للمحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذا رأى عزة المطلوب ، فبذل وجوده وأعطاه موجوده ، فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم منّ عليه برؤيته ، وكان وما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطغى المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الانس في رياض القدس (ينعم)
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سر أرقّ من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أمّلتها فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عني مخبرا
وقد أبدع ابن الفارض في تائيته الكبرى فمن شاقه البحث فليراجعها ، ففيها(1/421)
ج 1 ، ص : 422
ما تقرّ به العين ويشرح الصدر وترتاح له الجوارح ، وإن كتب الصوفية العارفين كالرسالة القشيرية والأبريز والإنسان الكامل وغيرها مما تقدم ذكره في المقدمة ملأى من هذا ، فمن أراد الوصول إلى حضرة القبول ، فليخل نفسه ويتوجه بكلية قلبه ولبه إلى ربه ، وإلّا لا وصول ولا قبول.
قال عيسى عليه السلام : لا يقدر أحد أن يخدم سيدين ، ولن يلج ملكوت السموات إلّا من ولد مرتين.
هذا ، وإن السادة الصوفية قالوا بصحة الصعق الذي يحصل لبعضهم عند سماع آية رغبة أو رهبة أو ما في معناهما من هذا ، كما أشرنا إليه في تفسير الآية 14 من سورة المزمل المارة.
وأرى أن لا يعترض عليهم في ذلك كما لا يعترض على ما جاء في كتبهم من عبارات قصر الفهم عن إدراك معناها ووقف العقل عن تناول مغزاها.
مطلب الصعق وتحريم النظر في كتب القوم لغيرهم :
فقد جاء في ص 294 في الجزء الثالث من حاشية الدر المختار لابن عابدين ما نصه :
(نحن قوم يحرم النظر في كتبنا) وذلك لأنهم تواطأوا على ألفاظ اصطلحوا عليها فيما بينهم وأرادوا بها غير معناها المتعارف ، فمن حملها على معناها الظاهر فقد كفر.
وقد سئل بعضهم عن هذا فأجابه بما نصه : (الغيرة على أن يدعي طريقنا من لا يحسنه ويدخل فيه من ليس من أهله) وقد سئل العلامة عز الدين بن عبد السلام عن ابن العربي وكان يطعن فيه ويقول هو زنديق ، فقال هو القطب ، فقال لم تطعن فيه ، فقال لا أخون ظاهر الشرع ، أي أنه كان يرى منه ما يخالف الشرع ظاهرا فيطعن فيه من هذه الجهة.
راجع تفسير الآية 42 من سورة والنجم ، ومن هذا القبيل كان اعتراض موسى عليه السلام على الخضر.
راجع الآية 65 فما بعدها من سورة الكهف في ج 2 ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 27 من سورة الزمر في ج 2.
هذا ، وقد ذهب الشيخ ابراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دكّ الجبل عند التجلي ، واستدل بما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : لما تجلى اللّه لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ ، (1/422)
ج 1 ، ص : 423
وبما أخرجه عن أبي معشر أنه قال : مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين ، وجمع بين هذا وبين قوله صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود.
بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلّى اللّه عليه وسلم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق ، كما أن الكلام الذي إعطاء لموسى كذلك بخلاف رؤية موسى فإنها لم تجتمع له مع البقاء ، وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال أنه لن يرى أحدكم ربه حتى يموت ، هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما ، ولهذا قال عيسى عليه السلام : لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ، أي بعد أن يصل إلى درجة الأبرار فتموت نفسه فتنقل إلى رتبة المقربين فتحيا بها فيرى أن ما كان منه في الدرجة الأولى خطأ ينبغي الاستغفار منه والتوبة عن مثله ، لما هو من العمل الذي ولد عليه في رتبة المقربين.
ولهذا قالوا حسنات الأبرار سيئات المقربين ، هذا واللّه أعلم.
واعلم أن الذاهبين إلى عدم الرؤية مطلقا ، وهو ما ذهبت إليه يجيبون عما ذكر في حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر المارين آنفا ، بأن الثاني ليس فيه أكثر من اثبات سطوع نور اللّه تعالى على وجه موسى وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه تعالى على وجهه عليه السلام في غير رؤية ، إذ لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور ، وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام ، لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي وللّه تجليات شتى غير ذلك ، فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحته واحد منها وقد يقطع بذلك ، فإنه سبحانه تجلى عليه بكلامه واصطفائه وقرب منه على الوجه الخاص اللائق به ، ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الابصار ، وهذا أولى مما قيل إن اللام في لموسى للتعليل ، ومتعلق تجلى محذوف ، أي لما تجلى اللّه للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر ، وهذا الحق الذي لا محيص عنه.
أما الزمحشري فقد بالغ في عدم إمكان الرؤية وأصر على أنّ لن للتأييد ولدوام النفي وتأكيده ، (1/423)
ج 1 ، ص : 424
وقال إن قول موسى (تبت إليك) دليل على خطأه بسؤال الرؤية ، وقال في كشافه أعجب من المتسمين بالإسلام المسميين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ، ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة (أي قولهم إن اللّه تعالى يرى بلا كيفية مثل الحوقلة والبسملة والصلعمة وغيرها) فإنه من مصنوعات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم :
وجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري مؤكفه
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفه
ويريد بهذا هو وجماعته ومن تابعهم من المعتزلة نفي الرؤية لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ليلة الإسراء المجمع عليها ، لأنه من غلاة منكريها والتشنيع على القائلين بها ، وقد رد على قولهم هذا تاج الدين السبكي رحمه اللّه بقوله :
عجبا لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفة
قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات اللّه مع نفي الصفة
وتلقّبوا عدلية قلنا نعم عدلوا بربهم فحسبهم سفه
وقال صاحب مبدأ الأمالي :
يراه المؤمنون بغير كيف وإدراك وضرب من مثال
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
أي من نعمة الرؤية لأن جزاءهم حرمانها ، قال تعالى «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ» أي بعد ذهابه للمناجاة وتخليف أخيه هرون عليهم مدة غيابه «مِنْ حُلِيِّهِمْ» جمع حلي كندى وهو ما يتزين به من الذهب والفضة والجواهر «عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» صياح صوت كصوت البقر.
مطلب أصوات الحيوانات وقصة العجل :
حيث يسمى خوارا ، كالثغاء للغنم ، واليعار للمعز ، والينيب للنيس ، والنباح للكلب ، والسحيل.
والنهيق للحمار ، والزئير للأسد ، والعواء والوعوعة للذئب ، والضباح(1/424)
ج 1 ، ص : 425
للثعلب ، والصنّى للفيل ، والثغيم للضبي ، والقباع للخنزير ، والمواء للهرة ، والصهيل والضبح والقنع والحمحمة للخيل ، والرغاء للناقة ، والضغيب للأرنب ، والعرار للظليم ذكر النعام ، والعرمرة للبازي ، والغقغقة للصقر ، والصفير للنسر ، والهديل للحمام ، والسجيع للقمري ، والسقسقة للعصفور ، والنعيق والنعيب للغراب ، والصقاع والزقاء للديك ، والقوقاء والنقنقة للدجاج ، والفحيح للحية ، والنقيق للضفدع ، والصّئيّ للعقرب وللفأر ، والصرير للجراد ، إلى غير ذلك.
وقرأ عليّ كرم اللّه وجهه جوار بجيم مضمومة وهمزة ، وهو الصوت الشديد كالصياح والصراخ ، وهي تصحيف خوار بلا زيادة في الحروف.
وخلاصة القصة أن بني إسرائيل كانوا استعاروا حلي القبط ليتزينوا به في عيدهم وذهبوا مع موسى إلى البحر قبل أن يردّوه إليهم ، وقد هلك القبط في البحر حينما تبعوهم ونجوهم منه وبقي حليهم عندهم فصار ملكا لهم ، لأن الاستيلاء على مال الكفّار يوجب زوال ملكيته عنهم وصيرورته ملكا للمتولى عليه ، لذلك نسبه اللّه إليهم ، وهذا مما هو موافق لشريعتنا من شريعة موسى عليه السلام إذا كان لا يعد من الغنائم الحربية لأنها لم تحل لبني إسرائيل ومن شريعتهم حرقها ، أما في شريعتنا فهي حلال ومن خصائص الأمة المحمدية الخمس المختص بحضرة الرسول الآتي بيانه في الآية 158 الآتية ، ولما مر على ذهاب موسى عليه السلام ثلاثون يوما ولم يعد إليهم ولم يعلموا أن اللّه زاده عشرة أيام أخر ويعلمون أن موسى لا يخلف وعده ، وكان السامري من قوم موسى منافقا وكان رجلا حاذقا وهو كما قيل رباه جبريل عليه السلام واسمه موسى أيضا وفيه وفي موسى عليه السلام قال القائل :
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت عقول مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل
وكان يرى جبريل عليه السلام ويرى أن حافر فرسه كلما وطىء شيئا اخضرّ فعرف المغزى من ذلك وهو إحياء الأرض الميتة بوطىء حافر فرسه فأخذ شيئا من تراب أثر فرسه واحتفظ فيه ، وكان مطاعا في بني إسرائيل فوسوس إليه الشيطان أن يصنع صنما لهم فكلفهم بإحضار الحلي الذي استعاروه من القبط بداعي أنه لا يجوز(1/425)
ج 1 ، ص : 426
لهم أخذه ، فأحضروه له فصاغه عجلا وأخرج ذلك التراب فوضعه في هيكل العجل فصار له صراخ كصراخ العجل ، فقال لهم هذا هو الإله الذي قصده موسى قد نسيه هنا ، لأن المدة المعينة مضت ولم يحضر وأغراهم بذلك وأمرهم بعبادته ، وصاروا كلما صاح سجدوا له.
وهذا الذي خطر على قلب موسى في توصية أخيه وخوفه على بني إسرائيل الضلال.
قيل إن تصويته كان يحصل من أنابيب صاغها في بطنه وكلما دخل فيها الهواء صوتت ، والأول أصح على القول بأنه وضعت فيه حياة خاصة بسبب التراب المار ذكره ، والثاني أجدر بالقبول للعقول لما للهواء من التأثير في المكونات التي اطلع عليها البشر ، وخاصة أهل هذا الزمن والعجل لولد البقر خاصة ، ولولد الناقة حرار ، والفرس مهر ، والحمار جحش ، والشاة حمل ، والمعزى جدي ، والأسد شبل ، والفيل دغفل ، والكلب جرو ، والظبي خشف ، والأرنب خرنق ، ويضرب فيه المثل بالنعومة قال :
إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضّاها ولا تملق
واعمد لأخرى ذات دلّ مونق ليّنة اللمس كمس الخرنق
ولولد الضبع فرعل ، والدب دسيم ، والخنزير فنوص ، والحية حويش ، والنعام رأل ، والدجاجة فروج ، والفأر ردوص ، والضب حسل ، فرد اللّه على السامري بقوله «أَ لَمْ يَرَوْا» هؤلاء السفهة «أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ» هذا العجل «وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا» لأنه لا يعقل ولا يفهم «اتَّخَذُوهُ» ليرشدهم إلى طريق الصواب أم ليدفع عنهم ضرا ويجلب لهم نفعا كآحاد البشر ، وهذا تقريع وتشنيع على فرط ضلالهم وإضلالهم بالأمور النظرية «وَكانُوا ظالِمِينَ 148» باتخاذهم إياه وإعراضهم عن عبادة اللّه مع علمهم بأنه صورة مصنوعة لا تقدر على شيء ومن كان كذلك فهو ناقص والناقص لا يصلح للألوهية ، وهذه الآية كالآية 89 من سورة طه الآتية من حيث المعنى ، وقد أنّبهم هرون عليه السلام بما فى معناها وأمرهم بالكف عنه والرجوع لعبادة اللّه فلم يفعلوا كما سيأتي في الآيتين 90 و91 من سورة طه أيضا ، ولما ينغهم قدوم موسى أحسّوا بسوء صنيعهم وعرفوا أنهم على ضلال فأنزل اللّه قوله جل قوله(1/426)
ج 1 ، ص : 427
«وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ» هذا مثل تقوله العرب لكل نادم على أمر لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده ويضرب بها على فخذه فتصير يده ساقطة والسقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل ، لذلك يقولون لمن هذا شأنه سقط في يده «وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا» تيقنوا وعلموا أن عبادتهم العجل خطأ صراح ، وندموا على ما وقع منهم وعدم التفاتهم إلى نصح هرون عليه السلام في ترك عبادته ، ولاموا بعضهم فانقسموا شطرين شطرا مع السامري عكفوا على عبادته ، وشطرا مع هرون امتنعوا عنها ثم ندم بعض الذين أغواهم السامري حيث عرفوا الحق مع هرون بعد أن أكثر لهم من إسداء النصح وتفنيد الصورة المصنوغة وطلبوا من هرون العفو وسؤال المغفرة من اللّه «قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا» ذلتنا هذه «لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ 149» في الدنيا والآخرة اعترافا منهم بالذنب وإظهارهم الرغبة إلى اللّه رهبة منه وطلبا لإقالة عثرتهم ، قال تعالى «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ» من طور سيناء حيث أخبره ربه بما فعل قومه كما سيأتي في الآية 84 من سورة طه أيضا ، وكان عليه السلام «غَضْبانَ أَسِفاً» شديد الحزن على ما وقع من قومه أثناء مناجاة ربه بما أوجب تركها ورجوعه لإنقاذهم مما هم فيه «قال» مخاطبا لهم جميعا أو لكل من الفريقين على حدة ، لأن منهم من لم يزل منكبا على عبادة العجل حتى شاهدهم بنفسه كما قال تعالى في الآية 99 من سورة طه حينما كلفهم هرون بالانكفاف عنه قالوا (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى ) «بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي» وهذا صالح لخطاب الطرفين لعبدة العجل والسامري ، لأنهم كفروا بعبادة العجل وتركهم عبادة اللّه وإلى هرون ومن معه إذ لم يمنعوهم ويحولوا دون عبادتهم للعجل فيحجبونهم عن الكفر فقال الظالمون تأخرت عن موعدك وظننا أن هذا هو الإله الذي
ذهبت إليه فعبدناه ، قال موسى «أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ» فتقدمتم به قبل وقته.
وهذا معنى العجلة ، ولذلك صارت مذمومة بخلاف السرعة لأنها عمل الشيء أول وقته فلا تكون مذمومة وعليها قوله تعالى في الآية من سورة طه : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ) ولما سمع(1/427)
ج 1 ، ص : 428
منهم جوابهم اشتد غضبه عليهم «وَأَلْقَى الْأَلْواحَ» المسطور عليها التوراة ، وضرب المثل : (ليس الخبر كالمعاينه) ينطبق هنا لأن اللّه أخبره بأن قومه عبدوا العجل ولم يلق الألواح بل استمر على سماع المناجاة ، وفي مجيئه لم ير زيادة على ما أخبره به ربه ، ولكن الرؤية لها وقع شديد وتأثير بليغ لهذا اشتد غضبه عليه السلام فترك الألواح «وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ» لزيادة موجدته ، ولأنه لم يرسل إليه خبرا بفعلهم هذا ليرجع ويتلافى الأمر ، فاعتذر إليه هرون بقوله الذي قصه اللّه الَ يَا بْنَ أُمَّ»
لم يقل يا ابن أبي أو يا أخي مع أن أباهما واحد أيضا طلبا لترقيقه عليه ولأن أمه هي التي قاست بتربيته ما قاست من أجله ، فلعله أن يرحمه بسائق رحمة أمه له ، لهذا استعطفه بذلك ليرق قلبه عليه ثم أوضح له معذرته وسبب الإقامة معهم وعدم لحوقه ليخبره بصنيعهم بقوله «إِنَّ الْقَوْمَ» بعد ذهابك يا ابن أمي قد «اسْتَضْعَفُونِي» فلم يلتفتوا لقولي ولم يصغوا إلي «وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي» حينما شددت عليهم بالمنع من عبادة العجل «فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ» بما
توقعه بي فتسرهم بما ينالني من مكروه (والشماتة الفرح ببلية العدو) «وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 250» أنفسهم بعبادة العجل والتشويق لعبادته ، ولا تؤاخذني بعدم إخبارك لأني لما أردت ذلك هددوني بالقتل ولم أقدر أن أنفكّ عنهم ،
ولما سمع موسى من أخيه معذرته وعلم أنه تعدى عليه «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي» ما فعلناه بأخي لأنه من أجلك وتبين لي أنه لم يستوجب جزاء ما «وَلِأَخِي» اغفر أيضا لعدم قدرته على منعهم وعدم تقصير في نصحهم وعدم تركهم له لإخباري «وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» الواسعة لمثل ما وقع منا وأعظم «وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 251» فاشملنا برحمتك يا إلهنا واغمرنا بعفوك الضافي ، ثم قال تعالى مخاطبا لأولئك الظالمين اعلم يا موسى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» وعبدوه من دوني «سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ» في الآخرة إن لم يتوبوا وتقبل توبتهم «وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أيضا بأن يعترفوا بخطيئاتهم ذليلين حقيرين ، يعلوهم الصغار بإسلام أنفسهم للقتل «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ 152» علينا ، وهذا مما أخبر اللّه به موسى أثناء(1/428)
ج 1 ، ص : 429
المناجاة بدليل صرف الاستقبال في سينالهم بالنسبة لوقت الإخبار.
وقد أخبرنا اللّه عن كيفية توبتهم في الآية 54 من سورة البقرة في ج 3 ، وهذه من الأمور الشاقة المبينة في الآية 156 الآتية المخصصة بشريعة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لأن التوبة تقبل قولا وتتم بحسن النية ، أما اليهود فلا تقبل توبتهم إلا باستئذان من اللّه ولا تكون إلّا فعلا ، فيا حسرتهم لم يؤمنوا به ولم يتبعوه كي يستفيدوا من هذا التخفيف ، وان أسلافهم الكرام ، لما أخبرهم موسى بقبول توبتهم على أن يقتل بعضهم بعضا رضوا بحكم اللّه فقتل بعضهم بعضا حتى أن الأب صار يقتل ابنه والابن أباه والأخ أخاه ، وهكذا حتى ماتوا شهداء تائبين رحمهم اللّه ، ولا يتصور بعد هذا أن ينالهم غضب وذلة لأن الحد مزيل للعقوبة ومطهر منها ولا حد أكبر من القتل ولا أفظع منه بالصورة المذكورة ، واللّه تعالى أكبر من أن يجعل على عباده عذابين ، وخاصة بعد أن خضعوا لأمره وأنابوا لمراده وهذا أحسن وجه للتفسير ، وما قاله ابن جريح من أن الغضب والذّلة لمن مات على عبادة العجل أو فر من القتل وجيه ، ولكن المفسرين على خلافه ، ولذلك جرينا على أن الغضب لمن لم يتب منهم ولم تقبل توبته ، أي بأن كان حال يأس ، ومن قال ان المراد بهم اليهود الذين في زمن المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم ومن قال ان المراد بهم أولاد الذين عبدوا العجل على عهده صلّى اللّه عليه وسلم ، وفسر الغضب بعذاب الآخرة مطلقا والذلة بالجزية.
ومن قال أن الآية على حذف مضاف أي سينال أولادهم ذلك يأباه سياق التنزيل ، ولا يوجد ما يؤيده من أمارة أو دليل ، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق ولم يوجد في مكة بين الرسول واليهود أخذ ، وردّ ، وإنما هذا من جملة ما قصه اللّه على رسوله من أخبار الماضين ، وهذه الأقوال ناشئه من عدم النظر إلى ترتيب نزول السور قال أبو قلاية هذه الآية جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة بان يذله اللّه في الدنيا ويغضب عليه في الآخرة ، وقال سفيان بن عينية هي في كل مبتدع إلى يوم القيمة.
وقال مالك بن انس : مامن مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلة ، ثم قرأ هذه الآية ، قال والمبتدع مفتر في دين اللّه.(1/429)
ج 1 ، ص : 430
مطلب عظيم عفو اللّه وتكسير الألواح :
ومما يؤيد ما اخترناه لتفسير هذه الآية على الوجه المار ذكره ، قوله تعالى «وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 153» لأن حكمها عام يدخل فيه عبدة العجل وغيرهم مهما عظمت جنايتهم ، وهي من أعظم البشارة للمذنبين التائبين ، لأن الذنوب مهما عظمت فعفو اللّه أعظم وما أحسن ما قيل :
أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي هو غافر هو راحم هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة وستغلبن أوصافه أوصافي
وقول أبي نواس :
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بان عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
وقوله أيضا :
إذا كنت بالميزان أوعدت من عصى فوعدك بالغفران ليس له خلف
لئن كنت ذا بطش شديد وقوة فمن جودك الإحسان والمن واللطف
ركبنا خطايانا وعفوك مسبل وهلا لشيء أنت ساتره كشف
إذا نحن لم نهفو وتعفو تكرما فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو
وقول الشافعي رحمه اللّه :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
قال تعالى مبينا بقية ما وقع لموسى مع قومه «وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ» أي سكنت ثورته استعاد السكوت للسكوت لأنه بمعناه وقرأ معاوية ابن قرة سكن وهي تصحيف أيضا «أَخَذَ الْأَلْواحَ» التي القاها على الأرض حال شدة الغضب عند مشاهدة طائفة من قومه عاكفين على عبادة العجل «وَفِي نُسْخَتِها» المكتوب عليها التوراة «هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ(1/430)
ج 1 ، ص : 431
يَرْهَبُونَ 153»
يخافون من شدة عذابه ، قالوا انها لم تتكسر حين ألقاها أولا حال الغضب ، إذ لم يوجد حديث صحيح أو خبر صادق يمكن الاحتجاج به على تكسيرها ، والقول بأنها تكسرت ثم عادت في لوحين بعد أن كانت في سبعة الواح ، وبعد أن صام أربعين يوما ، ننقله على علاته ، إذ لم نقف على ما يؤيده ، وكذلك القول ، بأنها تكسرت ولم تعد ، وأن النسخ في الآية من شذاذها المكسرة ، وأحسن هذه الأقوال القول ببقائها نفسها لم يطرأ عليها شيء حين الإلقاء ، وبليه القول بانها عادت بعد التكسير لحالتها الأولى لموافقته ظاهر القرآن إذ يقول اللّه تعالى (أَخَذَ الْأَلْواحَ) بلام التعريف بما يدل على أنها هي نفسها لأن المعرفة إذا أعيدت تكون غير الأولى ، بخلاف النكرة كما بيناه في سورة الانشراح المارة والمراد بنسختها ما نسخ في اللوح المحفوظ منها وكتب فيها ، فالفعلة هنا بمعنى المفعول كالخطبة ومن قال انها تكسرت استند لهذه الآية إذ قال في آية أخذ الألواح المارة عدد 145 (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ) وفي هذه الآية الكائنة بعد الإلقاء قال وفي نسختها هدى ورحمة فقط ولهذا قالوا إنها كانت سبعة أسباع ، واحد فيه الأحكام والحدود المعبر عنها بالرحمة والهدى للخلق لتعلقها في مصالحم وهي الباقية ، والستة التي فيها تفصيل كل شيء من بداية الخلق لنهايته تكسرت ووضع رذاذها في التابوت ، وإليه الإشارة في الآية 246 من سورة البقرة في ج 3 ، وعلى هذا فالعلوم التي أوحاها اللّه لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم مما هو خاص بنفسه لم يبثها ، أما الذي هو خاص بالبشر فبلغه إليهم واللّه أعلم.
ثم إن بني إسرائيل لما رجعوا وتابوا لم يعرف عليه السلام مناط قبول توبتهم وكيفيتها فلهذه الغاية ولقبول اعتذار هارون عليه السلام ومن كان معه الذين لم يحولوا بين العجل وعابديه ولم يخبروا موسى بالأمر.
مطلب الميقات الثاني الذي وقته اللّه لموسى :
أوحى اللّه إلى موسى ما ذكره بقوله «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا(1/431)
ج 1 ، ص : 432
لِمِيقاتِنا»
فيها حذف الجار واتصال الفعل بالمجرور ، والأصل من قومه وهذا من باب الحذف والإيصال ، وعليه قول الفرزدق :
منا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هبّ الرياح الزعازع
والمراد بالميقات هنا الميقات الثاني الذي خصصه به ربه لمناجاته من توبة التابعين للسامري واعتذار المعتذرين المذكورين ، وقد استصحب هذا العدد المختار من قومه معه وتوجه لمناجاة ربه بخلاف ذهابه للميقات الأول الذي ذهب به لأجل استلام التوراة التي وعده بها كما مر ذكره في الآية 141 ، وهؤلاء المختارون كلهم ممن كان مع هرون ولم يعبد العجل ، وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ثم دخل بهم في الوقت الذي وقته له ربه ما بين الغمام والجبل في طور سيناء وقال لهم أدنوا مني فدنوا حتى دخلوا كلهم فسجد وسجدوا معه وسمعوا كلام اللّه لموسى ، فطمعوا وقالوا (أرنا اللّه جهرة) حتى نؤمن لك فما أتموا كلامهم حتى أخذتهم الصاعقة ورجف بهم الجبل فماتوا جميعا ، وهذا أصح ما قاله المفسرون في هذه الآية ، كما سيأتي تفصيلهم في تفسير الآية 55 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء اللّه «فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» ورآهم موسى جثثا هامدة «قالَ» وقد أخذته الدهشة لموتهم «رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ» خروجهم معي إلى ميقاتك هذا حين فرطوا في النهى عن عبادة العجل ولم يفارقوا عبدته حين إصرارهم على عبادته «وَإِيَّايَ» أهلكت أيضا قبل أن أخرج بهم إليك.
وهذا تواضع منه إلى ربه وتسليم إليه ، أي وأهلكتنى أيضا حين طلبت منك الرؤية التي أدت إلى طلبهم إياها وكان لحقه وهم من أن يتهمه بنو إسرائيل بقتلهم لأنهم قوم بهت ظنّان ، وصار يتضرع إلى ربه ويبكى ويقول «أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ» عبدة العجل الظالمون «مِنَّا» دون رضا واختيارنا ، لا يا رب لا تفعل ذلك ولا تأخذنا بذنب غيرنا وأنت لا تقاصص أحد إلا بما اقترفه ، وصار يردد أقوالا كهذه ، وهو يعلم أن البلاء يعم الصالح والطالح لأن الصالح إذا لم يردع الطالح يكون راضيا بعمله فيستحق الجزاء من هذه الحيثية ولهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة الأنفال في ج 3 ، لأن المسبب للذنب(1/432)
ج 1 ، ص : 433
والحاث عليه والمهيء أسبابه يعاقب كالفاعل في شريعته ، وفي شريعتنا يعاقب لكن ليس كالفاعل ، ولهذا دأب يتحنّن ويستعطف ربه بإحيائهم حتى أحياهم له جميعهم بمنه وفضله ، ولما اطمأن بحياتهم وقد أخذ منه الخوف مأخذه قال في حال شدته وارتعاده «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» اختبارك وما افتتن أولئك الجهال إلا بمحنتك وابتلائك لعبادك وهذه الفتنة «تُضِلُّ بِها» عن طريقك السوي «مَنْ تَشاءُ» إضلاله فيضل وفاقا لما هو في علمك الأزلي «وَتَهْدِي بها مَنْ تَشاءُ» هدايته فيهتدي طبقا لما هو مكتوب في أزلك «أَنْتَ وَلِيُّنا» لا ولي لنا غيرك ولا مرجع لنا في كشف مصابنا إلاك «فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ 155» فضلا منك ، وغيرك قد لا يغفر إلا لغرض ولا يعفو إلا لعوض ، وذلك بمحض اللطف منك ، والناس لطلب السمعة والرياء ونشر الصيت أو لدفع ضر حاضر أو لأمل مستقبل ، طلب عليه السلام المغفرة له لإقدامه على الحضرة المقدسة بقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ولقومه لجرأتهم على طلب الرؤية ، وقد سمعوا ما وقع عليه من أجلها «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً» بالحياة الطيبة فيها «وَفِي الْآخِرَةِ» حسنة أيضا وحذفت من الثانية لدلالة الأولى عليها وقد تقدم مثله في الآية 17 من سورة ق المارة وبعدها كثير ، ومن هنا فما بعد أكثر أي المثوبة الحسنى وهي الجنة «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» تبنا توبة نصوحا من أن نسألك ما لا ترضى وما لا يجوز طلبه ، مشتق من هاد إذا رجع وتاب قال :
إني امرؤ مما جنيت هائد ربي اغفر إني إليك عائد
ولهذا ومنذ ذلك اليوم سمو يهودا ، وقيل كانوا يدعون بأسباطهم ، وما قيل أن منهم من اسمه يهوذا كان ملكا وسموا باسمه ، فهو بعد هذا لأنهم قبله كانوا عبيدا «قالَ» تعالى يا موسى قل لقومك هذا الحكم الذي فضيته عليهم بقبول التوبة هو «عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ» لا اعتراض لأحد عليّ فيما أفعل ، ولا راد لحكمي فيما أحكم ، وفيه إشارة إلى غلظ عقوبة عابدي العجل ، لأنه القتل كما سيأتي في الآية المنوه بها آنفا من سورة البقرة.
واعلم يا موسى كما أن عذابي شديد فإن عفوي ت (28)(1/433)
ج 1 ، ص : 434
عظيم «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ» وفيها إعلام بشمول رحمته قبول عذر المعتذرين وفي نسبة العذاب بصيغة المضارع ، ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات ، والعذاب مقتضى معاصي العباد ، والمشيئة معتبرة فى جانب الرحمة أيضا.
أما عدم التصريح بها فقيل تعظيما لأمر الرحمة ، وقيل إشعار بغاية ظهورها ، ولما نزلت هذه الآية بلفظها العام قال إبليس عليه اللعنة! أنا شيء أيضا يريد بذلك شموله بالرحمة ، أخزاه اللّه ، وتطاولت نفسه الخبيثة إليها فنزع ذلك من وهم قوله تعالى «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» الكفر وللفواحش «وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» لعيالي ، وخص الزكاة بالذكر مع دخولها في معنى التقوى تعريضا لقوم موسى لأن إنفاق المال عليهم شاق لشدة حرصهم ومزيد حبهم للدنيا «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ 156» لا يجحدون شيئا منها أبدا ، فأيس الخبيث من هذه الرحمة ، ثم طمحت نفوس أهل الكتابين فقالوا نحن نتقي ونزكي ونؤمن باللّه فنزع اللّه منهم هذا الظن بقوله «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ» محمدا بدليل وصفه في قوله «النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» ولا نبي أمي غيره.
مطلب تخصيص الأمة المحمدية بالرحمة والأمور الشاقة على أهل الكتابين :
ثم أكد وصفه بقوله «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» سأبين تعريفه وما يتعلق به في الآية 104 من سورة آل عمران في ج 3 ليعملوا به «وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» ليجتنبوه وسيأتي تفسير هناك أيضا «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ» من كل ما استطابته النفس عدا ما نص على تحريمه ، وهو عام في كل طيب ، والمراد هنا لحوم الإبل وشحوم الغنم والمعز والبقر لأهل الكتاب ، والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام للعرب ، وتشمل كل ما حرموه على أنفسهم مما هو في التوراة والإنجيل وما هو من عندياتهم ومفترياتهم وسيأتي تفصيل هذا في الآية 136 من سورة الأنعام في ج 2 والآية 102 من المائدة والآية 93 من آل عمران في ج 3 «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» كالميتة والد ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه والربا والرشوة والخمر والميسر ، وكل ما خبث(1/434)
ج 1 ، ص : 435
من الفعل والقول والعمل «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ» التكاليف الشاقة ، كقطع عضو المذنب في غير السرقة ، وعدم قبول التوبة إلّا بالقتل ، وقطع الثوب المتنجس ، وإحراق الغنائم ، وتعيين القصاص في الخطأ ، وعدم قبول الدية ، وعدم قبول العفو ، وعدم جواز الصلاة إلا في الكنائس ، ومؤاخذة المتسبب كالفاعل ، وتحريم العمل يوم السبت والأحد ، وعدم التطهير بغير الماء ، وحرمة أكل الصائم بعد النوم ، ومنع الطيبات عنهم بما اكتسبوا من الذنوب ، وغير ذلك «وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» المتقدم ذكرها ، المقيدين بها الموجودة في التوراة لأن الإنجيل لا أحكام فيه غير تحليل بعض ما حرم على اليهود لقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في الآية 50 من آل عمران في ج 3 ، ولهذا فإن النصارى تابعون في الأحكام إلى التوراة ، قال عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا للّه تعالى وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية ليحبس نفسه على العبادة وذلك قوله تعالى «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ» بهذا الرسول الموصوف بالأوصاف المذكورة وهو لا شك محمد صلّى اللّه عليه وسلم «وَعَزَّرُوهُ» عظموه ووقروه «وَنَصَرُوهُ» على أعدائه وعلى إقامة ما جاء به من الدين «وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ» وهو القرآن العظيم منور القلوب والأخلاق ، وإنما قال معه لأنه أنزل مع النبوّة مع جبريل عليه السلام إليه صلّى اللّه عليه وسلم «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 151» الفائزون بكل خير ، الناجون من كل شر ، وهذه الرحمة الموصوفة يفوز بها كل مؤمن باللّه متبع رسوله سواء كان من بني إسرائيل أو غيرهم ولا يمكن تخصيصها فيمن كانوا على زمن موسى إلى إرسال عيسى لأنه لا يجوز أن يتبعوا شرائع نبي لم يبعث بل يجوز
أن يعتقدوا نبوته حسبما وصفه اللّه في التوراة ، كما أنه من المعلوم أن الإنجيل لا وجود له حسا في ذلك الزمن ، فيكون المراد منه أمة عيسى الذين سيجدون نعته صلّى اللّه عليه وسلم مكتوبا في الإنجيل الذي سينزله اللّه عليهم ، إذ من المحال أن يجدوه قبل نزوله.
وذكره قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.(1/435)
ج 1 ، ص : 436
مطلب وصف الرحمة وصفة الرسول في الكتب القديمة :
أما اللاحقون زمانه في هاتين الأمتين فلا تكتب لهم هذه الرحمة إلّا باتباعه بأن يؤمنوا به وينصروه ويعظموه ويتبعوا ما جاء به ، وقد وصفه اللّه بأنه الرسول أي الواسطة بينه وبين خلفه لتبليغ أوامره ونواهيه وشرائعه ، وبأنه النبي المخبر عن اللّه وهو من أعلى المراتب وأشرفها وصفا ، وأنه الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وهذا من أسنى التعظيم وصفا لإتيانه بالقرآن العظيم بأفصح اللغات ، ومن أكبر البراهين على رسالته لأنه لو كان يقرأ ويكتب لاتهم بأنه تعلمه من الغير وكتبه عنهم وقرأه عليهم ، وهذه النسبة أحسن من النسبة لأم القرى أو إلى الأم بحيث لم يخرج عما ولدته عليه أمه لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : نحن أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب.
واعلم أن الأمّية كمال مادي يعود نفعه على المعاش وليست بكمال روحي ، ولهذا فإنها بحق الرسول كمال لتنزهه عن الصنايع العملية التي هي من أسباب المعاش ، أما بحقنا فنقص لاحتياجنا لذلك ، ولهذا البحث صلة في الآية 47 من سورة العنكبوت في ج 2 فراجعها تجد تفصيله بصورة أوسع.
روى البخاري عن عطاء بن يسار قال :
لقيت عبد اللّه بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفات رسول اللّه في التوراة ، فقال أجل إنه موصوف في التوراة ببعض صفته بالقرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب (كثير الصياح) في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه اللّه حتى يقيم به الملة العوجاء (الكافرة لأن الاعوجاج ضدّ الاستقامة) بأن تقول لا إله إلا اللّه ، ويفتح به أعينا عمياء ، وآذانا صما وقلوبا غفلا ، (لا يصل إليها شىء ينفعها ، كأنها في غلاف عن سماع الحق) ومثله في رواية البخاري وغيره.
وجاء من حديث أخرجه ابن مسعود وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهيل مولى خيثمة قال :
قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، أنه لا قصير ولا طويل ، أبيض ، ذو ضفيرتين ، بين كتفيه خاتم ، لا يقبل الصدقة ، ويركب الحمار والبعير ، ويحلب الشاة ، ويلبس(1/436)
ج 1 ، ص : 437
قميصا مرقوعا.
ومن فعل ذلك فقد بريء من الكبر وهو يفعل ذلك ، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد.
وفي الزبور أيضا راجع الآية 104 وسورة الأنبياء في ج 2 ، وإنما لم يذكره اللّه هنا لأن بني إسرائيل سابقا ولا حقا يقرأون التوراة والإنجيل فقط ، لذلك اقتصر عليهما ، ولأن الزبور خلو من الأحكام مقتصر على الأمثال والأدعية ، والتنزيه ، وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب ابن منبه قال : إن اللّه تعالى أوحى في الزبور : يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد ، لا أغضب عليه أبدا ، ولا يغضبني أبدا ، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأمته مرحومة ، أعطيتهم من النوافل مثلما أعطيت الأنبياء ، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتي يوم القيامة ، ونورهم مثل نور الأنبياء.
وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الأنبياء قبلهم ، يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها ، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم : لا اؤاخذهم بالخطأ والنسيان ، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته ، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعافا مضاعفة ، ولهم عندي أضعاف مضاعفة ، وأفضل من ذلك ، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا ، أو قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم ، فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة.
يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي ، ومن لقيني وقد كذب محمدا وبما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار.
وإلى غير ذلك من الأخبار الناطفة بأنه صلّى اللّه عليه وسلم مكتوب نعته في الكتب السماوية قبل أن يطرأ عليها التبديل والتغيير ، ومن راجع الآية 47 من سورة العنكبوت في ج 2 يجد ما يغنيه عن غيرها.(1/437)
ج 1 ، ص : 438
مطلب عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم :
قال تعالى «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك وللخلق أجمع «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ» وحده «وَرَسُولِهِ» محمد «النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ» مما نزل عليه منها ومما نزل على الأنبياء قبله من أسفار وصحف وكتب ، وقرأ بعضهم (كلمته) وأراد بأنها عيسى بن مريم تعريضا باليهود ، وتنبيها على أن من لم يؤمن به ويعتقد بأنه من روح اللّه وأمه صدّيقة طاهرة عذراء لا يعتبر إيمانه ، بل هو كافر لأن من لم يؤمن به على هذه الصفة لم يؤمن بالقرآن ومحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وان جاحدهما لا شك بكفره.
وهذه القراءة جائزة لأنها من حيث الرسم موافقة ، وغاية ما فيها قصر الميم ، والقراءة إذا لم يكن فيها نقص حرف أو زيادته لا بأس بها «وَاتَّبِعُوهُ» جميعكم عربكم وعجمكم يهودكم ونصاراكم مجوسكم وصابئتكم ، على اختلاف مللكم ونحلكم وأجناسكم وألوانكم والسنتكم «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 158» بهديه إلى طريق الصواب.
تشير هذه الآية بوضوح لا مزيد عليه بأن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم رسول من اللّه مرسل إلى البشر كافة رسالة عامة ، لعموم اللفظ المخاطب به ، والأمر فيها للوجوب ، مما يدل على صحة دعواه عموم الرسالة للإنس والجن أيضا ، راجع تفسير أول الفرقان الآتية والآية 28 من سورة سبأ في ج 2 والآيتين 15 و69 من سورة المائدة في ج 3 تعلم بأنه مرسل لمن على الأرض على الإطلاق ، لا خصوص العرب كما يقوله بعض أهل الكتاب والمبتدعة والزنادقة وغيرهم ممن لا نصيب لهم في معرفة كتاب اللّه ولا حظ لهم في الآخرة ، وتعلن أيضا بأن الذي أرسله هو مالك الملك والكون ومدبره الإله الواحد الذي لا شريك له القادر على الإحياء والإماتة ، ومؤكدة لزوم الإيمان به أولا لأنه الأصل ثم برسوله الموصوف بوصف يميزه عن غيره ، ويخصصه بأنه محمد بن عبد اللّه لا غيره ، لأن الإيمان به فرع عن الإيمان باللّه ، وملزمة عامة الخلق باتباعه فيما يأمر(1/438)
ج 1 ، ص : 439
وينهى ، رجاء الوصول إلى الرشد والصواب ، وهذة المتابعة واجبة بالأقوال كلها أما بالأفعال فيفعل ما كان يفعله الرسول من واجبات لم يخص بها نفسه ، أما ما خص به نفسه كصوم الوصال والتزوج بأكثر من أربعة وعدم الوجوب عليه في القسم وما شاكل ذلك فلا ، راجع الآية 144 المارة ، وأن يتابعه على طريق الندب بما يفعله أيضا مما لم يختص به ويتأدب بآدابه.
روى البخاري ومسلم عن جابر قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة.
وفي رواية وبعثت إلى الناس عامة بدلا من كل أحمر وأسود.
والمراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب أو الإنس والجن.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : فضلت على الأنبياء بسته أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون.
وعليه فقد ثبت عموم رسالته بالقرآن والحديث قال تعالى «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ» جماعة عظيمة وطائفة طاهرة مؤمنة «يَهْدُونَ» الناس «بِالْحَقِّ وَبِهِ» أي الحق «يَعْدِلُونَ 159» بين الناس في أحكامهم.
مطلب ما قضى به صلّى اللّه عليه وسلم والمراد من قوم موسى :
وهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية إمّا قوم متمسكون بدين موسى قبل تبديله وتغييره وماتوا عليه ، وإما أن تكون بحق من أسلم منهم وحسن إسلامه على عهد محمد صلّى اللّه عليه وسلم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه ، وعلى هذا تكون هذه الآية من قبيل الآيات المغيبة أي إخبار حضرة الرسول بغيب لم يقع قبل وقوعه ، لأن وقت نزول هذه الآية لم يكن عبد اللّه ولا غيره مسلما من اليهود ، والأول أوجه لشموله كل من مات قبل بعثة محمد على دين موسى وعيسى الحقيقيين ، واللّه أعلم ، لأن لفظ الآية يدل على الكثرة ، وعبد اللّه وأصحابه فليلون ، وما قيل بجواز إطلاق(1/439)
ج 1 ، ص : 440
الكثرة عليهم بسبب إخلاصهم في الدين على حد قوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) الآية 120 من سورة النحل في ج 2 فوجيه ، أما ما قيل بأن أحد الأسباط الذين لم يشترك بقتل الأنبياء كان يتبرأ من بقية الأسباط الذين اشتركوا في قتلهم ، وسأل اللّه أن يبعده عنهم ، ففتح اللّه نفقا عبروا منه إلى ما وراء الصين أو هم قوم بأقصى الشرق على نهر يسمى الأردن ، وأن رسول اللّه رآهم ليلة الإسراء وأبلغوه سلام موسى عليه السلام ووصفوهم بأوصاف كاملة وأن الرسول أقرأهم عشر سور من القرآن وأوصاهم بالصلاة والزكاة وبالجمعة وترك السبت ، فلم يرد به نقل صحيح ، وفيه ما ينفيه لأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة ، وكذلك الجمعة لم تقم إلا هناك ، وغير معقول أن يأمرهم بشيء لم يؤمر به بعد وكان نزول أكثر من عشر سور فكيف يقتصر على تعليم عشر فقط وهو مأمور بأن لا يكتم من وحي اللّه شيئا على أحد ، وهذا كاف لبطلان هذا القول والنقل ، ومما يدل على عدم صحته أنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يذكر شيئا عن هؤلاء الجماعة في جملة ما ذكره مما رآه ليلة الإسراء لأن هذا أيضا من جملة العجائب ، فلو كان لذكره لقومه لهذا لا عبرة به ، لأنه من نقل الأخباريين والقصّاص فهو أضعف من الضعيف لا يلتفت إليه البتة ، وإنما نقلناه ليطلع عليه القارئ ويردّ على من تكلم به ويفنده له واللّه أعلم.
قال تعالى «وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً» قبيلة من اثنى عشر ولدا وهم أولاد يعقوب عليه السلام المبينين في تفسير الآية 9 من سورة يوسف في ج 2 ، والسبط ابن الولد ويقال له حفيد كما في الآية 72 من سورة النحل في ج 2 ولم تتكرر في القرآن ، والسبط جاء في سورة البقرة أيضا فقط ، والاستعمال الجاري بين الناس أن الحفيد ابن الابن والسبط ابن البنت «أمما» جماعات وطوائف وهو بدل من اثنى عشر والمميز ماعدا العشرة يكون مفردا فعلى القاعدة النحوية يقتضي أن يكون سبطا ولكنه لما كان بمعنى القبيلة وهو المراد هنا والقبيلة أسباط لا سبط واحد وضع أسباط موضع القبيلة «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ» بالتيه لأنهم عطشوا وليس لديهم ماء وفسر الإيحاء بقوله «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ(1/440)
ج 1 ، ص : 441
الْحَجَرَ»
فضربه عليه السلام «فَانْبَجَسَتْ» ترشحت عن ماء قليل وهو معنى الانبجاس ولم تكرر هذه في القرآن أيضا ، وجاء في الآية 60 من البقرة في ج 3 (انفجرت) أي خرج منها ماء كثير ، قال يعبر بالانبجاس اعتبارا بأول الخروج ، وبالانفجار اعتبارا بنهايته «منه» أي الحجر المضروب «اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» لكل سبط عين «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» منها على حدة لئلا يدخل سبط على الآخر فيأخذ من سقائه فيختلفوا واللّه أكرم من أن يجعل على عباده عذابين ، عذاب التيه وعذاب الاختلاف ، ثم شكوا إلى موسى بعد أن أمن لهم شربهم عدم وجود ما يظلهم من الشمس فدعا اللّه ربه فأجابه بقوله : «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ» بحيث صار يسير معهم إذا ساروا ويسكن إذا وقفوا ثم شكوا إليه الجوع إذ نفد ما عندهم فدعا ربه فأجابه بقوله «وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى » المنّ معروف شيء حلو لزج يضرب إلى البياض ، والسلوى نوع من الطير يسمى الآن السمن أميز من العصفور ، جلّت قدرته هو الذي شردهم جزاء مخالفتهم ، وهو الذي تلطف بهم وتعطف عليهم وقال لهم «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» من الماء العذب والمن الحلو والسلوى الدسم والظل الوافر طيلة مدة تيهكم «و» هؤلاء لما كفروا بهذه النعم الجليلة التي تأتيهم دون تعب وقالوا قد سئمنا منها ، كما سيأتي في الآية 61 من البقرة من ج 3 «ما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 160» بتضجرهم وعدم صبرهم كأن لهم علينا منّة ويتطلبون ما تهوى أنفسهم ، ولم يعلموا أنا إنما نعاقبهم لسوء أعمالهم.
ونرحمهم لعلهم يرجعون إلينا تائبين ، لأن المكلف إذا مر بشيء فعدل إلى غيره كان هو الجاني على نفسه ، وهو الظالم لها ، لأنه أوردها للشرّ ، فيكون وبال ظلمه عليه لا على غيره.
مطلب أسباب تشرد بني إسرائيل والآيات المدنيات :
ثم شرع جل شأنه يقص علينا أسباب تشردهم وعملهم الذي أوجبه فقال (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) بواسطة نبيهم عليه السلام «اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» بيت المقدس(1/441)
ج 1 ، ص : 442
المبارك «وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ» من ثمارها وفواكهها وحبوبها وبقلها «وَقُولُوا حِطَّةٌ» أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا شكرا للنعم الموجودة فيها ، مما لم يكن لكم مثله قبل «وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» تعظيما للبيت وإجلالا لربه الذي أنعم عليكم بدخولها ومنحكم من خيراتها وبركاتها «نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ» المتراكمة عليكم وأحسنوا لأنفسكم وغيركم لأنا «سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ 161» على المغفرة ثوابا من إفضالنا ، وخيرا مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» أو أمرنا هذه ولم يقدروا نعمنا عليهم وقالوا «قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» فبدل الحطة قالوا خطة ، وبدل أن يدخلوا الباب ساجدين احتراما لنا خاضعين لأوامرنا دخلوه زحفا على أستاههم «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ» بسبب مخالفتهم هذه «رِجْزاً» عذابا شديدا نازلا عليهم «مِنَ السَّماءِ» وهو الموت والفرق بين أنزلنا وأرسلنا أن الإرسال يدل على الكثرة ، والإنزال على القلة وذلك «بِما كانُوا يَظْلِمُونَ 162) أنفسهم لخروجهم عن الطاعة وسيأتي زيادة تفصيل لتفسير هذه الآية عند تفسير نظيرتها الآية 58 من سورة البقرة من ج 3.
وهذه أولى الآيات المدنيات في هذه السورة ، وهي كما ذكرنا في مثلها مغرضة بين ما قبلها وما بعدها كالمستطردة قال تعالى (وَسْئَلْهُمْ) يا أكمل الرسل يريد اليهود الموجودين معه في المدينة «عَنِ الْقَرْيَةِ» هي طبرية وقيل مدينة بين مدين والطور أو مصر والمدينة أو بين مدين وعيوني على الساحل «الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» قريبة منه على ساحله والحاضرة المدينة الكبيرة المرتبط بها غيرها من القرى والقصبات ، ويقال لساكنها حضريّ ضد البادية فالمخيم بها بدويّ «إِذْ يَعْدُونَ» يتعدون حدود اللّه ويتجاوزون أوامره التي سنّها لهم وأوجبها عليهم «فِي السَّبْتِ» الذي حرم عليهم العمل فيه ثم بين تعديهم بمناسبة ذكرى مخالفتهم المذكورة آنفا فقال «إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً» ظاهرة متتابعة على وجه الماء «وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ» وهذا من قبيل الإلهام لهذه الحيوانات كأنها تعلم أن أحدا لا يعارضها يوم السبت فتظهر(1/442)
ج 1 ، ص : 443
وتتلهى على الساحل وتعلم أنها تصاد في غيره فتختفي «كَذلِكَ» مثل هذا الاختبار والابتلاء «نَبْلُوهُمْ» نمتحنهم «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 163» يخرجون من طاعتنا ونحن أعلم بما يقع منهم قبل الاختبار ، ولكنا نظهره لعبادنا ليعلموا حال المخالفين لهم ، وإنا لا نعذب أحدا بغير ذنب وقد نثيب بغير عمل تفضلا منا.
وهذه الآية من الأخبار بالغيب معجزة له صلّى اللّه عليه وسلم تجاه يهود زمانه إذ أخبرهم بما وقع في أسلافهم بمخالفة اللّه أدت لمسخهم قردة وخنازير كما في الآية 165 الآتية ونظريتها الآية 60 من سورة المائدة من ج 3 فقد أخبرهم صلّى اللّه عليه وسلم ما اقترفه آباؤهم زمن سيدنا داود عليه السلام ، مع أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يخرج من مكة طيلة عمره حتى هاجر إلى المدينة وفي المدينة لم يطلع على كتب الأقدمين لعدم معرفته القراءة ، وهم يعلمون ذلك ، وسبب مسخهم أنهم كانوا حفروا حياضا وسقوا لها ساقية متصلة بالبحر فصارت الأسماك تدخلها يوم السبت على حسب عادتها لعدم المعارضة لها ولم تعرف ماحيك لها من الحيل ، فسدّوا عليها طرف الساقية من جهة البحر يوم السبت وتركوها حتى إذا دخل يوم الأحد اصطادوها ، فعاقبهم اللّه بالمسخ ، ولهذا قال بعض العلماء من أكل الربا بالحيلة حشر يوم القيامة على صورة القردة والخنازير ، كما سيأتي في الآية 274 من البقرة من ج 3 ، قال تعالى «وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ» جماعة «مِنْهُمْ» أي يهود ذلك الزمن لأنهم بعد اقترافهم هذا الذنب بالحيلة والمكر افترقوا ثلاث فرق : فرقة تطاولت فتعدت حدود اللّه باقترافهم صيد السمك على تلك الصورة ، وفرّقة سكتت ولم تشاركهم في خداعهم هذا ولم تنههم عنه ، وفرقة نهت وامتنعت من المشاركة وحذّرت الفاعلين غضب اللّه.
كما كانت حالتهم في عبادة العجل إذ افترقوا ثلاث فرق أيضا كما مر في الآية 148.
مطلب الرضى بالمعصية معصية
:
فقال الساكتون للناجين «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ» في هذه الدنيا جزاء عملهم القبيح «أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة على ذلك ولم تتركوهم وشأنهم (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) غدا في الآخرة إذا سئلنا عن ذلك ، لئلا نكون قد(1/443)
ج 1 ، ص : 444
فرطنا في واجبنا المطلوب منها وهو النهي ، لئلا نعد راضين بفعلهم ، لأن الساكت عن فعل منهى عنه كالراضي به ، والراضي كالفاعل.
وفيه تقريع للفرقة الساكتة ، لأن سكوتهم قد يعد رضى وإقرارا في بعض الأحوال.
لهذا روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) وجاء في حديث آخر : (ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من لا ينكر عليهم إلا عمّهم اللّه بعذابه).
ثم قال تعالى على لسان الناهين «وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 164» اللّه فيما فعلوا فيرجعوا إليه خوفا من عقابه وينتفعوا بموعظتنا ، وإنا طمعا بارتداعهم وتوبتهم نصحناهم قياما بالواجب المترتب علينا ، قال تعالى «فَلَمَّا نَسُوا» هؤلاء المخالفون «ما ذُكِّرُوا بِهِ» من قبل الناهين ولم يقبلوا موعظتهم «أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ» لأنهم قاموا بما هو مترتب عليهم ولم يسكنوا ليؤاخذوا بسكوتهم الذي يعد رضى منهم «وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ» عظيم محزن مخز «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 165» يخرجون عن طاعتنا والفرق بين يفسقون ويظلمون أن الظالمين من وصفوا بالظلم والفاسقين من خرجوا عن الطاعة ، وإنما عد تركهم نسيانا لإهمالهم الأخذ بنصح جماعتهم وتشبيه التارك بالنّاسي استعارة ، والجامع بينهما عدم المبالاة في كل ، ويجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقته السببية ، ولم يحمل على ظاهره لأن النسيان في شريعتنا لا يؤاخذ عليه ، والترك عن عمد يترتب عليه العقاب.
روى ابن ماجه عن البيهقي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال :
(إن اللّه تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أما في شريعة موسى عليه السلام فالنسيان مؤاخذ عليه ، وكذلك الخطأ ، كما مرّ في تفسير الآية 157 ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم رفع ، يدل على عدم العذاب في شريعتنا على الثلاثة الواردة في الحديث والعقاب على من قبلنا عليها وإلا لم يقل رفع ، تأمل ، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : يقول اللّه (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فلا أدري ما فعل اللّه بالفرقة الثالثة الساكتة وجعل يبكي ، فقال عكرمة جعلني اللّه(1/444)
ج 1 ، ص : 445
فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما عليه الفرقة المقترفة وقالوا للفرقة الناهية لم تعظون إلخ الآية ، إنه وإن لم يقل أنجيتهم فلم يقل أهلكتهم ، فأعجبه قولي وأمر لي ببردين وكسانيهما ، وقال نجت الساكتة يؤيده قول يمان بن رباب نجت الطائفتان وهو قول الحسن أي الآمرة والساكتة ، أما ما قاله ابن زيد وروي عن أبي عبد اللّه :
نجت الناهية فقط فمستبعد هذا على شريعتنا ، أما على شريعة موسى فلا وعلى كل فاللّه تعالى أكبر وأكرم قال تعالى «فَلَمَّا عَتَوْا» أبوا الرجوع «عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ» تكبرا وأنفة «قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ 166» أذلاء صاغرين منسوخين فكانوا كذلك.
مطلب في خزي اليهود ورفع عيسى عليه السلام :
قال تعالى «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ» أعلم وفيه معنى التوعد والتهديد لافترانه بالقسم الدالّ عليه وجود لامه في قوله «لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ» أي اليهود ، لأنهم بدلوا وغيروا أحكام التوراة وأجروا أحكام ما بقي منها على الضعيف دون القوي ، وحرّفوا كثيرا منها ، وكذلك فعل النصارى في الإنجيل لما رأوا أن حضرة الرسول يخبر عما فيهما ، وكانوا قبلا يحورون ما يتعلق بالأحكام فقط ، فلما ظهر الرسول صاروا يرفعون منها ما يتعلق بأوصافه صلّى اللّه عليه وسلم قصد نهي اتباعهم له والإيمان به ، مع أن الواجب عليهم إبقاؤها والإيمان بما جاء فيها مصدقا للقرآن أخزاهم اللّه ، ولهذا أقسم اللّه جل شأنه على الجزم بأنه ليرسلنّ عليهم «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ» يكلفهم على الدوام «سُوءَ الْعَذابِ» أقساه وأشده مما لا رحمة فيه «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ» إذا شاء عقاب أمثال هؤلاء في الدنيا فضلا عن عذاب الآخرة «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 167» لمن آمن ورجع عن كفره ودخل بالإسلام فلم يعاقبه ولم يسأله عما فعل لعظيم مغفرته وكبر عفوه ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله.
ومن جملة إذلال اليهود وإصغارهم أنهم صاروا يؤدون الجزية إلى المجوس لما سلّط اللّه عليهم بختنصر وسنجاريب وملوك الروم ، فساموهم وأهانوهم ، ولم يزالوا كذلك محتقرين إلى زمن محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فقبل من أسلم منهم ومن لم يسلم قبل منه الجزية(1/445)
ج 1 ، ص : 446
فأدوها له صاغرين ، وهي ملازمة لهم إلى يوم القيامة إن شاء اللّه ، ولو لا أن اللّه تعالى منعه من قتالهم لدمرهم ولم يبق منهم أحدا ، ولكن للّه حكم لا تعيها عقولنا وهم في زماننا محقّرون أيضا مهانون يعطون أضعاف الجزية التي كانوا يؤدونها للمسلمين إلى الانكليز والأمريكان الذين لا يقيمون لهم وزنا كالإسلام الذين ساووهم في كافة الحقوق اتباعا لقوله صلّى اللّه عليه وسلم لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وهم أخزاهم اللّه أعداء الداء للإسلام ، لا يذكرون معروفهم ولا يعترفون بإحسانهم ، وإن العز الذي يتوقعونه في فلسطين بواسطة المذكورين في هذا الزمن الذي نحن فيه ويتطاولون إليه سيكون إن شاء اللّه الذل والصغار لهم فيه ، لأنه إنما يكون - لا كونه اللّه لهم - تحت رقابة الأمريكيين وهو الاستعمار بعينه ، راجع الآية 7 من سورة الإسراء الآتية ، فنسأل اللّه أن يجمع كلمة الإسلام ويهلك الصهيونيين ، وإن من بقي مشردا منهم بآخر الزمن يتبعون الدّجال ويدعون إلهيته ، فيزدادون كفرا على كفرهم ، لأنهم يزعمونه المسيح الذي أخبر به موسى عليه السلام وأوجب عليهم اتباعه ، ولم يعلموا بل يعلمون ويجحدون أن المسيح عيسى بن مريم الذي كذبوه وناوءوه عتوا وعنادا وحبا ببقاء الرئاسة لهم وقصدوا قتله قاتلهم اللّه ، فأنجاه منهم ربه وحفظه من أن تنال قدسيته أيديهم القذرة ، فألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه لقاء دراهم معدودة ، مثل قيمة يوسف عليه السلام التي ابتاعه فيها اخوته قبل تشرّفهم بالنبوة ، راجع تفسير الآية 9 من سورة يوسف في ج 2 ، إذ ما من نبي إلا وله منافق ، يدلك على هذا قوله تعالى في الآية 31 من سورة الفرقان الآتية فقد جعل اللّه لموسى السّامري ، ولمحمد عبد اللّه بن أبي بن سلول ، وهذا لعيسى عليهم السلام ، فقتل هذا الخبيث جزاء وفاقا وصلب وبصق عليه وسخر به ، إذ يقولون له أنت المعلم لما ذا لا تخلص نفسك وكنت
جئت بخلاص العالم ولم يقبلوا منه ما اعتذر به بأنه ليس المعلم (أي عيسى إذ كانوا يسمونه معلما) أنا الذي دللتكم عليه ، فيزيدونه لكما ولطما وصفعا وبصاقا ، ويقولون له الآن تنكر نفسك وكنت تدعي النبوة وخراب الهيكل إلى غير ذلك ، كما سيأتي توضيحه في الآية 158 من(1/446)
ج 1 ، ص : 447
سورة النساء في ج 3 وذلك أن اللّه تعالى الكامل إذا جعل شيئا جعله كاملا فلما ألقى شبهه على يهوذا صار كأنّه هو عيسى نفسه ، ولذلك فإن أمه والنساء معها لم ينكرن أنه هو حقيقة ، لذلك صرن يبكين عليه وحزنّ لأجله ، إذ لا يستطيع أحد أن يقول ليس هو بعيسى ، هذا وإن اللّه تعالى سيهلك الدجال مسيح اليهود وأتباعه على يد مسيح المسلمين الذي سمي مسيحا لأنه يمسح بيده المريض والأعمى والأكمه والأبرص فيبرأ بإذن اللّه تعالى حالا ، بخلاف مسيح اليهود الذي هو الدجال ، فإنه إنما سمي مسيحا لأنه ممسوح العين اليمنى أعور أشقر ، فأين هذا من ذاك ، وإن اللّه تعالى لا بدّ وأن يسلط على يهود زماننا من يهلكهم ويزيد في ذلهم وصغارهم ، وسنورد الأحاديث الصحيحة الدالة على نزول عيسى وقتله الدجال واقامة القسط في الأرض بين الناس في الآية 61 من سورة الزخرف في ج 2 إن شاء اللّه تعالى القائل «وَقَطَّعْناهُمْ» أي اليهود قطعهم اللّه وأخزاهم «فِي الْأَرْضِ أُمَماً» فرقا وطوائف مشتتين محقرين فلا تجد أرضا خالية منهم أخلاهم اللّه منها ولا بلدا إلا وفيها منهم غير حماة ، ولذا قيل حماها اللّه من كل ظالم أي كل يهودي لأنه لا يكون إلا ظالما ، وهذا حتى تستقيم القاعدة (ما من عموم إلا وخصص) ولا يعلم السبب في حماية حماة من اليهود إلا أهل حمص الذين قلدوهم بذلك ، لأن كلا من أهالي هاتين البلدتين يعرف خبايا الآخر على الحقيقة وزيادة (وهذه نكتة أتينا بها هنا) قال تعالى «مِنْهُمُ» اليهود الأولون على زمن موسى فمن بعده حتى زمن محمد صلّى اللّه عليه وسلم «الصَّالِحُونَ» الذين ثبتوا على دينهم فلم يغيروا ولم يبدلوا حتى ماتوا عليه قبل بعثة عيسى عليه
السلام ، والذين أدركوا عيسى وآمنوا به وبقوا على إيمانهم حتى بعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وماتوا على ذلك ، والذين أدركوا محمدا وآمنوا به وماتوا على إيمانهم فهم صالحون من أهل الجنة ، لأن اللّه تعالى لا يظلم حق أحد والقرآن كلام اللّه لم يغمط حق أحد أيضا ولا يغفل ذكره كيف وهو القائل في كتابه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام في ج 2 «وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» فسقة ومخطئون ، لأنهم خالفوا بعض الأوامر وامتثلوا بعضها وماتوا قبل بعثة عيسى(1/447)
ج 1 ، ص : 448
ومحمد - عليهما السلام - على الصورة المذكورة أعلاه ، ومنهم كفرة وهم الذين غيروا وبدلوا وحرفوا وكفروا بعيسى ومحمد وكتابهما ، وهؤلاء لم يشر إليهم القرآن هنا اكتفاء بما ذكر قبلا وبما سيذكر بعد ، ودائما هم متفرقون إلى ثلاث فرق منذ التحاقهم بموسى إلى اليوم فرّقهم اللّه وشتت كلمتهم ، قال تعالى «وَبَلَوْناهُمْ» امتحناهم واختبرناهم «بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ» لأن النعمة إذا شكرت ترغب بالطاعة فتدعوا إلى الإيمان والشدة يخاف عاقبتها فتدعو إلى الإيمان أيضا ، أي إنا بلوناهم بكلا الأمرين «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 168» عن غيهم فلم ينجع بهم «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» الخلف القسري الذي يجيء بعد قرن كان قبله ، أي حدث من بعدهم حدث سوء تبدل عما كان عليه ، وهو بسكون اللام وإذا فتحت قيل خلف خير خلف صدق أما ما جاء في قول زهير :
لنا القوم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة اللّه تابع
وما جاء في قول لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فاسكان اللام بالأول وهو في معرض المدح وفتحها في الثاني وهو في معرض الذم فلضرورة الشعر.
وقال البصريون يجوز تحريك اللام وسكونها في الرديء وفي الجيد التحريك فقط ، وهؤلاء هم الفرقة الثالثة الكافرة المشار إليها في الآية 165 المارة لأنها لم تذكر فيها ، قال تعالى في ذمّهم إنهم «وَرِثُوا الْكِتابَ» التوراة بانتقالها لهم من آبائهم فلم يعملوا بها وصاروا «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا» الشيء «الْأَدْنى » من حطام الدنيا الذميمة كالرشوة القبيحة ، وقد تنزه القرآن عن التصريح بها لخساستها ودناءة آخذيها ، راجع الآية 128 من البقرة في ج 3 كي يبدلوا أحكام التوراة التي آلت إليهم بطريق الإرث ويحرفونها ويغيرون ما فيها لقاء عرض تافه حقير ، والعرض بفتح الراء يطلق على جميع متاع الدنيا ، فيقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر ، وأما بسكونه فكل ما يطلق عليه لفظ مال غير النقدي «وَيَقُولُونَ» مع عملهم هذا «سَيُغْفَرُ لَنا» ما نفعله ، يتمنون ويطمعون(1/448)
ج 1 ، ص : 449
بالمغفرة أماني باطلة «وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ» أيضا حلالا كان أو حراما ، مصرين على عملهم غير تائبين منه ، أي ان الذين كانوا من هذه الفرقة يعيبون المرتشين المحرفين المغيرين المبدلين ، إذا جاءهم عرض مثل عرض سلفهم لا يمتنعون عن أخذه أيضا ، فوبخهم اللّه تعالى بقوله «أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» في العهد والصدق في المواثيق التي أخذها اللّه عليهم في التوراة «وَدَرَسُوا» والحال أنهم قد قرأوا «ما فِيهِ» من تلك العهود والمواثيق «وَالدَّارُ الْآخِرَةُ» واطلعوا في التوراة أيضا على ما أعده اللّه لأهل طاعته من الثواب ، ولأهل معصيته من العقاب المرتب على الامتثال والانقياد ، والتغيير والتبديل والتحريف فيها ، وعرفوا أن العمل الصالح لتلك الدار «خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» العمل السيء هناك في تلك الدار الآخرة «أَ فَلا تَعْقِلُونَ 169» أن ما فيها من الخير خير وأبقى مما يأخذونه في الدنيا من الرشوة.
أخرج الترمذي عن شداد بن أوس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : الكيس من دان نفسه (حاسبها) وعمل لما بعد الموت.
(قبل أن يحاسب عليها) والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأماني.
والشاهد فيه أن اليهود يعضون اللّه ويطلبون مغفرته ، قال تعالى «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ» ويعتصمون به ويعملون بما فيه «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم لأن هذه من الآيات المدنيات كما ذكرنا ، وخص الصلاة بالذكر مع أنها داخلة بالتمسك تنبيها على عظم شأنها لأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان باللّه ورسوله «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ 170» أنفسهم الثابتين على صلاحهم ، نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن سلام وأصحابه الذين أسلموا في المدينة من يهودها ، فطوبى لهم ولمن يثبت على الإسلام ويموت عليه ،
ثم ندّد في بني إسرائيل السابق ذكرهم بمناسبة ذكر الصالحين منهم فقال «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ» الطور أو جبلا غيره ، وهذه الجملة عطف على جملة وإذ قيل لهم المارة في الآية 161 المكية وكلمة نتقنا لم تكرر في القرآن وسيأتي في الآيتين 63 ، 93 من سورة البقرة في ج 3 ما يتعلق بهذا ، أي رفعناه وصيرناه «فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» خيمة كبيرة ت (29)(1/449)
ج 1 ، ص : 450
أو سحابة غيم عظيمة ، أي اذكر يا محمد لقومك ويهود زمانك حين خلعنا الجبل من أصله من الأرض ، ورفعناه فوقهم إلى جهة السماء ، وجعلناه كالسقف على المعاندين من أسلافهم الموجودين عندك الآن.
وكل ما يقي من الشمس يسمى ظلة حتى الشمسية المتعارفة لأنها تقي من وهج الشمس والمطر ، ولذلك تسمى ظلة ومظلة «وَظَنُّوا» تيقنوا وجزموا «أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» لا محالة إن لم يمتثلوا ما أمروا به وقلنا لهم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» بجد وعزم وحزم أي تقبلوا أحكامه جبرا عنكم «وَاذْكُرُوا ما فِيهِ» كله لا تنسوه واعملوا به فإن عدم العمل به يؤدي إلى النسيان ، والنسيان يؤدي إلى الهلاك ، وإذا أردتم النجاة داوموا على ذكره «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 171» وقوع الجبل عليكم وسبب ذلك أنهم أبو قبول أحكام التوراة لمشقّتها فلما رأوا الجبل ساقطا عليهم لا محالة سجد كل منهم على خدّه وحاجبه الأيسرين وجعل ينظر إلى الجبل بعينه اليمنى خوفا من سقوطه عليه إلى أن زيح عنهم ، ولذلك إذا اقتضى أن يسجدوا للّه شكرا أو لصلاة اعتادوها سجدوا كذلك على تلك الصفة.
انتهت الآيات المدنيات.
مطلب كيفية أخذ العهد على الذرية :
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ» وبين كيفية الإشهاد بقوله «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ» مربّيكم ومالك أمركم وليس لأحد دخل في شأنكم غيري «قالُوا بَلى شَهِدْنا» على أنفسنا بذلك ، وهنا يحسن الوقف لأنه من تتمة كلام الذرية ، ومن استحسن الوقف على بلى قال إن شهدنا من كلام الملائكة ، أي قال لهم اشهدوا على خلقي هؤلاء قالوا شهدنا ، والأول أولى بالنظر لسياق الآية وعدم ذكر الملائكة قبلها يؤيده قوله تعالى «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» حين نسألكم عن هذا العهد «إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا» الميثاق «غافِلِينَ 172» أي لم ننتبه إليه حين أخذه علينا «أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ» زماننا هذا وقد سنّوا لنا الشرك بالتاء على الخطاب للذرية وهي القراءة المختارة في المصاحف ، أما القراءة بالياء على الغيبة فيتجه ولكنه(1/450)
ج 1 ، ص : 451
ليس مختارا ، لأن اللّه تعالى صرف الخطاب عن حبيبه محمد إلى نسم الذرية كافة لئلا يحتجوا بعد فيقولوا «وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ» لم نهتد إلى طريق التوحيد ورفض الشرك «أَ فَتُهْلِكُنا» يا ربنا «بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ 113» أسلافنا وهذا الخطاب لجميع الخلق الموجودين ومن بعدهم ومن تقدمهم على طريق التغليب ، أي فعلنا ما فعلنا من أخذ هذا العهد عليكم أيها الناس ، لئلا يبقى لكم عذر ، ولا يسعهم الاعتذار إذ ذاك ، ولا تقبل لهم حجة لثبوت أخذه عليهم كلهم في الأزل ولأن الرسل المتتابعة ذكرتهم به فضلا عن أنه مما يتذكر به بمجرد العقل ، لأن العاقل يفهم بادىء الرأي أن شيئا لا ينفع ولا يضر لا يستحق الاحترام والتعظيم فكيف يستحق العبادة ، وان إلها قادرا على الإحياء والإماتة خالفا لهذه المكونات الذي هو من جملتها ، هو المستحق للعبادة وحده ، كيف وقد جبلت النفوس على حبّ النفع وكره الضر ، فكيف لا يتيقظون لذلك ؟ ولهذا قطع اللّه قبول عذرهم في هذه الآية التي ذكر بها رسوله محمدا وأخبره بهذا العهد المأخوذ من البشر فردا فردا ، وخلاصة القول في كيفية هذا العهد على ما قاله الأنبارى من مذاهب أصحاب الحديث وغيرهم ، وما استنبط من بعض الآيات والأحاديث وأقوال كبار العلماء ، أن اللّه جلّت قدرته أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده إلى يوم القيامة بعضهم من بعض بحسب ما يتوالد الأبناء عن الآباء ، ولذلك لم يقل من ظهر آدم مع أن الذرية في الحقيقة كلها من ظهره ، وإذا تنبهت إلى معنى قوله تعالى في الآية 98 من سورة الأنعام في ج 2 ، وهو جملة (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) عرفت ذلك بداهة كما سيأتي في تفسيرها.
ثم أخذ عليهم الميثاق بأنه خالقهم وأنهم من مصنوعاته وحده ، وأن لا رب لهم يستحق العبادة غيره ، فاعترفوا بذلك وأذعنوا بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم ، وقبلوا ما كلّفوه ، كما جعل للجبال عقولا خاطبهم بها ، راجع تفسير الآية 10 من سورة سبأ والآية 11 من سورة فصلت والآية 68 من سورة النحل والآية 80 من سورة الأنبياء في ج 2 تعلم حقيقة هذا ، إذ جعل الجماد والحيوان صالحا للخطاب بما ركب فيهما من عقل(1/451)
ج 1 ، ص : 452
كيف وهو الذي جعل النملة تتكلم بما ينم عن رفع الضر عنها وعن جماعتها وجلب النفع لهم ، كما سيأتي في الآية 18 من سورة النمل الآتية بما ركب فيها من عقل ، وجعل البعير والظبي والحجر والشجر تكلم حضرة الرسول بما أودع فيها من فهم لرفع ظلامتها إليه ، وسعي الشجرة إليه ، وانشقاق القمر بإشارته ، إذا فلا يمتري من عنده لمحة من عقل أن يتردد في هذا العهد وأخذه من نسم الذرية وإجابتهم لخالقهم بما ذكر ، اعترافا بالعبودية له وإذعانا لعظمته ، وإن هذا العهد لقطع العذر يوم القيامة ، وعدم قبول الاحتجاج بعدم علمهم به حينما يسألون عنه ، وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية الموافق لمذهب أهل السنة والجماعة من السلف الصالح والخلف الناجح ، وهو مؤيد بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم بن يسار الجهني بأن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه سئل عن قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) الآية قال : سئل عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال إن اللّه تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون.
فقال يا رسول اللّه ففيم العمل ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخل الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار ، فيدخل النار - أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود وقال حديث حسن ، وأخرج الطبري نحوه عن أبي هريرة ، وأخرجه الترمذي أيضا وقال حديث حسن صحيح ولا منافاة بين الآية والحديث من حيث أن الحديث يقول من ظهر آدم والآية تتضمن من ظهر ذريته لما مر تفصيله في تفسيرها آنفا ، وقد بين اللّه تعالى سبب أخذ العهد آخر الآية وخاطبهم بإيجاب الاعتراف بربوبيته عليهم على طريق الاستفهام التقريري وإجابته بأسرها بالإيجاب ، وأوجب على الرسل تذكير أقوامهم ومن أرسلوا إليهم بهذا العهد ، وان الرسل لا شك نبهوهم له وأرشدوهم للمحافظة عليه ، لئلا يبقى لهم عذر ، فمن أنكر كان معاندا ناقضا عهده لا عذر له البتة ، قال تعالى(1/452)
ج 1 ، ص : 453
«وَكَذلِكَ» أو مثل هذا التفصيل البليغ «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونوضحها ليتدبرها الناس فيعرضوا عن الكفر ويرجعوا إلى الإيمان «وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 174» إلى تذكر ميثاقهم الأول فيعملون بمقتضاه حتى لا تحق عليهم كلمة العذاب.
هذا ، وبعد أن ذكر اللّه تعالى رسوله بتذكير قومه في هذا العهد العظيم وبين كيفيته ذكّره بقضية أخرى ليذكرها لقومه على سبيل الاتعاظ والانتباه والتحذير فقال عز قوله «وَاتْلُ» يا أكرم الرسل «عَلَيْهِمْ» أي قومك.
وقال بعض المفسرين على اليهود ، وهو غير سديد ، لأن الآية مكية ولا مخاطبة بينه وبين اليهود بمكة ، على أن لا مانع من شمولها اليهود وغيرهم لأنها جاءت بلفظ عام ولأنه مرسل إلى الخلق كافة ولا سيما أنه تلاها عليهم عند وصوله إلى المدينة بعد هجرته من مكة لا عند نزول الآية ، فالقول باختصاصهم بها لاصحة له.
أي أخبرهم «نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا» من علماء بني إسرائيل.
مطلب قصة بلعام ابن باعوراء وسببها :
قيل إنه من الكنعانيين من بلد الجبارين ، أو من مدينة البلقاء ، واسمه بلعام أو بلعم بن باعوراء أو باعراء أو ابن امرئ ، اوتي علما ببعض كتب اللّه المنزلة على الرسل قبله وفي زمانه فكفر بها ونبذها وراء ظهره «فَانْسَلَخَ مِنْها» انسلاخ الجلد عن الشاة ، ويقال لكل من فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه.
وفي هذه الآية دلالة على أن العلم لا ينزع من الرجل لقوله جل شأنه انسلخ لا انسلخت منه ، يؤيده ما جاء في الحديث الصحيح : (إن اللّه لا ينزع العلم انتزاعا من قلوب الرجال ، وإنما يكون بفقد العلم بموت العلماء).
والقرآن يفسر ببعضه وبالسنة تدبر قوله جل قوله «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» لحقه وأدركه ، وفيه تلميح المبالغة باللحوق إذ جعل كأنه أمام الشيطان والشيطان مبالغ في اتباعه وهو من الذم بمكان على حد قوله :
وكان فتى من جند إبليس فارتقى به الحال حتى صار إبليس من جنده(1/453)
ج 1 ، ص : 454
«فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ 175» بعد أن كان من المهتدين الراشدين ، قال تعالى «وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها» بتلك الآيات التي علمها إلى منازل الأبرار ومراتب الأخيار «وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ» ركن ومال ملازما «إِلَى الْأَرْضِ» أي الدنيا رغبة بملاذّها ، ونزولا لشهواتها الوضيعة ، وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود ، ولما في ذلك من الميل فسّر به كما فسرت الأرض بالدنيا لأنها حاوية لشهواتها ، وبالطلب منها أنه يخلد إليها فخلد «وَاتَّبَعَ هَواهُ» بإيثار الدنيا على الآخرة «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ» بالخساسة والدناءة لأنه يرجع من قيئه ويأكل القذرة والجيفة أحب إليه من اللحم الغريفي ، قال الإمام الشافعي رحمه اللّه :
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة وليتنا ما نرى مما نرى أحدا
إن الكلاب لتهدا في مرابضها والناس ليس بهاد شرهم أبدا
وقال الفقيه منصور في شعب الإيمان :
الكلب أحسن عشرة وهو النهاية في الخساسة
ممّن ينازع في الريا سة قبل أوقات الرياسة
والكلب المضروب به المثل «إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ» لتزجره أيها الإنسان وتشد عليه وتطرده «يَلْهَثْ» يدلع لسانه بالنفس الشديد ، وهو طبع في الكلب لأنه لا يقدر لنقص الهواء المتسخّن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده ، بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء «أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» فاللهث غريزة فيه لا تنقيد في حال التعب والعطش وشدة الحر ، إلا أن الحالة تزداد معه فيها «ذلِكَ» المثل الذي ضربه اللّه عز وجل لعباده فيمن آتاه الحكمة وتركها وعدل عنها فترك آخرته وآثر دنياه في الخسة والضعة ، بأخس الحيوانات في أحسن أحواله ، لأن الكلب حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه وهذا هو «مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي مثل العالم الذي اتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه ، لأن الحريص على الدنيا إذا وعظته لا ينجع به وإن لم تعظه ، فهو باق على حرصه فصار الحرص على الدنيا(1/454)
ج 1 ، ص : 455
طبعا له غريزيا ، وهذا المثل الذي ضربه اللّه للمكذب بآياته يعم كل مكذب بها لأنهم إذا جاءتهم الرسل بالهداية لم يهتدوا فهم ضلال في كل حال «فَاقْصُصِ» يا سيد الرسل على قومك هذا «الْقَصَصَ» من أخبار الكافرين بآياتنا «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176» فيها فيتعظون ، ولفظ الكلب لم يأت في القرآن إلا هنا وفي الآيتين 17 و23 من سورة الكهف في ج 2 ، «ساءَ مَثَلًا» أي بئس المثل مثل «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» وقدم المفعول للحصر فقال «وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ 177» لا غيرها لأن وبال تكذيبهم خاص بهم ، قال تعالى «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ» منكم أيها الناس «فَهُوَ الْمُهْتَدِي» حقا وثواب هدايته له «وَمَنْ يُضْلِلْ (منكم) فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 178» دنياهم وآخرتهم ، ولا أضر من هذا الخسران.
وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون ونقله ابن عباس ومحمد بن اسحق والسدي وغيرهم هو أن موسى عليه السلام لما قصد الجبّارين نزل أرض كنعان من الشام ، فقال أهلها إلى بلعام ، وكان عنده اسم اللّه الأعظم إن موسى صنديد ومعه جنود كثيرة وأنت رجل مجاب الدعوة ، فادع عليه ليرد نفسه وجنوده عنا لئلا يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلّها بني إسرائيل ، فقال لهم هذا نبي وإن فعلت معه ما تريدون ذهبت دنياي وآخرتي ، قالوا لا بد أن تفعل ، فقال حتى أستأمر ربي ، قالوا لا بأس ، فاستخار ربه فأري أن لا يدعو عليه ، فأخبر قومه ، فألحوا عليه وأهدوا إليه هذايا وطلبوا منه أن يدعو عليه ، فاستأمر ربه ثانية فلم يؤمر بذلك ، فأخبرهم فراجعوه ، وقالوا لو كره ربك لنهاك عنه ، ثم تضرعوا إليه وأغروه بما قدموا له من المال حتى فتنوه ، فركب أتانه وتوجه إلى جبل هناك يسمى حسانا ليظلع عليه بني إسرائيل ويدعو عليهم ، فربضت الأتان فصار يضربها فقامت ثم ربضت أيضا ، وهكذا عدة مرات ، ولما آلمها قالت له إنك تسوقني والملائكة يردونني ، ويلك كف عني ، أتذهب ويحك إلى مناوأة نبيّ اللّه الذي علمك اسمه لتستجلب به رضاه أو سخطه فتدعو على نبيه ، فلم ينزع عن ضربها ، فألهمت بمطاوعته كما ألهمت معاكسته ، فانطلقت به وصعدت الجبل ، فترجل عنها ونظر(1/455)
ج 1 ، ص : 456
إلى بني إسرائيل حتى إذا أشرف عليهم صار يدعو باسم اللّه الأعظم أن يخذلهم ، فانصرف دعاؤه إلى قومه ، وصار كلما دعا على قوم موسى بشيء أوقعه اللّه على قومه ولا يدعو لقومه بشيء إلا صرفه اللّه إلى قوم موسى ، وذلك أنه صار ينطق بغير اختياره فقال له قومه : ويلك يا بلعام إنما تدعو لهم وعلينا فقال هذا مما لا أملكه ، فقد غلبني اللّه عليه ، ولم يزل يدعو لقومه وعلى بني إسرائيل وهو يجاب بالعكس حتى اندلع لسانه وقال لهم ذهبت دنياي وآخرتي ولم يبق لكم إلا المكر والحيل ، وسأبين لكم ما يكون به إليكم الغلبة عليه ، فقالوا كيف قال : جمّلوا نساءكم واتركوهن بين معسكرهم وأوصوهن أن لا يمنعن أحدا من الزنى بهنّ فإن زنى واحد منهم بواحدة منكم كفيتموهم ، ففعلوا وطافت نساؤهم بين عساكرهم فمرت امرأة تسمى كستى بنت صور من أجمل النساء على رمزي بن شلهوم من عظماء بني إسرائيل فاقتادها ، قرآه موسى فقال هي حرام عليك لا تقربها ، فلم ينته ، وأدخلها قبته وضاجعها ، فأرسل اللّه الطاعون على قوم موسى ، وكان صاحب أمره فخاص ابن العيزار غائبا ، فلما
حضر وبلغه ذلك دخل عليهما بالقبة وانتظمهما بحربته ، ورفعهما إلى السماء وقال اللهم هذا فعلنا بمن عصاك فأرنا فعلك في عدونا واكشف عنا ما ابتلينا به بسببه ، فرفع اللّه عنهم الطاعون ، وقد بلغ من مات من حين ضاجعها إلى زمن قتلهما سبعين ألفا.
وفي بلعام المذكور نزلت هذه الآية على حضرة الرسول ليقصها على قومه ، وهي من الإخبار بالغيب معجزة له صلّى اللّه عليه وسلم.
وتروى هذه القصة بصورة أخرى.
وهي أن ملك البلقاء كلف بلعاما أن يدعو على بني إسرائيل وموسى وكان ما كان مما قصصناه أعلاه وفيها أن اللّه استجاب دعاءه ووقع موسى وقومه في التيه ، وأن موسى قال رب كما استجبت دعاءه فاستجب دعائي عليه وانزع منه اسمك الأعظم والإيمان ، فاستجاب اللّه دعاءه وسلخه من المعرفة ، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء ، ولا يقال كيف يدعو موسى بسلبه الإيمان ويرضى له بالكفر مع علو منصبه وأمره بدعوة الناس إلى الإيمان ذلك لأنه لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده كفره وارتداده عن الإيمان بدعائه عليه وعلى قومه وإيثاره الدنيا على الآخرة(1/456)
ج 1 ، ص : 457
إلا أن هذه الرواية بعيدة عن الصواب بحق موسى ، لأن التيه قدره عليهم بسبب مخالفتهم لأمره في حرب الجبارين وكان عليه روح وراحة ، وهذا مما لا شك فيه في حقه ، أما على قومه ، فكان فيه بعض المشقة والكلفة جزاء مخالفتهم أمره وكان هذا بدعائه عليهم لا بدعاء بلعام كما سيأتي في الآية 25 من المائدة في ج 3 ، قال الألوسي في تفسيره روح المعاني أنا أعجب من هذا الشقي لم لم يدع على ملك البلقاء ليخلص من شره ويدعو على موسى ، ما هي إلا جهالة سوداء.
هذا ، وما جاء في كلام أبي المعتمر من أن بلعاما أوتي النبوة مردود لأن الأنبياء معصومون مما وقع من بلعام وان بلعاما كفر وهم معصومون من الكفر ، ولعل هذا أراد ما أوتيه من الآيات والاسم الأعظم ، على حد قوله صلّى اللّه عليه وسلم من حفظ القرآن فقد طوى النبوة في جنبيه.
مطلب قصة أمية بن الصلت :
وقال عبد اللّه بن عمر وبن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم إن هذه الآية نزلت في أمية بن الصلت الثقفي ، وكان قرأ الكتب القديمة وعلم أن اللّه مرسل رسولا ورجا أن يكون هو ، فلما شرف محمدا بالرسالة حسده وكذبه وقال لو كان نبيا ما قتل أقرباءه ، قاتله اللّه ألم يعلم أن النبي مرسل للقريب والبعيد ، وأن الكافر عنده كافر سواء كان من أقربائه أو من أعدائه ، لأن الجامع فيما بينه وبين الناس هو الإيمان ، فلما مات أتت أخته ضارعة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فسألها عن كيفية وفاته فقالت : نزل عليه اثنان من السقف فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رأسه أوعى فقال وعى ، قال أذكى قال أبى ، فسألته عن هذا فقال خيرا أريد بي فصرف عني ثم قال :
كل عيش وإن تطاول دهرا صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني قبل ما قد بدا لي في خلال الجبال أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوما ثقيلا
فقال لها صلّى اللّه عليه وسلم بعد أن سمع هذا منها أنشديني ما سمعت من شعره ، فقالت سمعته يقول ذات يوم : (1/457)
ج 1 ، ص : 458
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد
من قصيدة طويلة أتت على آخرها ثم قالت أيضا :
وقف الناس للحساب جميعا فشقىّ معذب وسعيد
حتى أتت على آخرها ثم قالت أيضا :
عند ذي العرش يعرضون عليه يعلم الجهر والخفاء الخفيّا
يوم يأت الرحمن وهو رحيم إنه كان وعده مأتيا
رب إن تعف فالمعافاة ظني أو تعاقب فلم تعاقب بريّا
فقال صلّى اللّه عليه وسلم : إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه.
مطلب قصتي النعمان والبسوس :
وقيل إنها نزلت في النعمان بن صيفي الراهب ، كما روي عن ابن أبي حاتم بأنه رجل ترهب في الجاهلية وقدم المدينة على حضرة الرسول ، فسأله عن دينه فقال صلّى اللّه عليه وسلم الحنيفية ديني ودين جدّي إبراهيم عليه السلام ، فقال له أنا عليها ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم :
لكنك أدخلت فيها ما ليس منها فلست عليها ، فقال له : أمات اللّه الكاذب منا طريدا وحيدا ، وخرج إلى الشام واستنفر المنافقين ، وطلب من قيصر النجدة لمحاربة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، فلم يجبه ولم يوفق لمطلبه وبقي مقهورا حتى مات بالشام طريدا وحيدا.
إلا أن هذه لا تصح أن تكون سببا للنزول ، لأن الآية مكية والحادثة هذه وقعت في المدينة ، وإنما تنطبق في المعنى على هذا وأضرابه من كل من آثر دنياه على آخرته كما تقدم في تفسيرها ، ولأن بين نزول هذه الآية وحادثة النعمان هذا الذي سلب اللّه نعمته وأهلكه بحكمه على نفسه سنين كثيرة راجع تفسير الآية 107 من سورة التوبة في ج 3.
وقيل إنها نزلت في البسوس ، وهي رواية عن ابن عباس ، وخلاصة القصة أنه كان رجلا له زوجة وثلاثة أولاد وقد أعطي ثلاث دعوات مستجابات ، فقالت له زوجته اجعل لي منها واحدة ففعل ، فقالت أدع(1/458)
ج 1 ، ص : 459
اللّه أن يجعلني أجمل امرأة ، فدعا فصارت فرغبت عنه ، فدعا عليها فصارت كلبة ، فقال أولادها لأبيهم إن الناس تعيرنا بأمنا فادع اللّه أن يردّها إلى حالتها الأولى ففعل ، فذهبت دعواته فيها.
وليست بشيء لأن البسوس امرأة لا رجل ، ويضرب فيها المثل فيقال أشأم من البسوس (وحرب البسوس) وهي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرّة الذي قتل ابن عمه كليب بسبب قتله ناقتها التي دخلت في حماه ، فشكته إلى جساس فاغتاظ منه واستحين الفرصة من كليب ، ولا زال يترصده حتى رآه خرج إلى حماه أعزل فتبعه وطعنه من قفاه بحربته فوقع صريعا على الأرض ، ولما رآه وعرفه أنه ابن عمه طلب منه ماء فأعطاه طعنة أخرى فقال كليب :
المستجير بعمر وعند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
فذهبت مثلا ومات كليب فطلب ثأره أخوه المهلهل ودام الحرب بينهما أربعين سنة ، وقصتها مشهورة بالتواتر ولم يذكر لنا التاريخ بسوسا غير هذه.
وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أن الذي نزلت فيه هذه الآية رجل من علماء بني إسرائيل كان يقدمه موسى عليه السلام في الشدائد ويكرمه وينعم عليه ، فبعثه إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان به ، وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى وتبع دين ملك مدين ، قال المرحوم السيد محمود الآلوسي : هذه الرواية أولى عندي بالقبول ووجه اختياره لها ، واللّه أعلم أن نظم التنزيل جاء مطلقا وتنطبق الآية على من هذا شأنه ، لأن الرواية جاءت مطلقة في رجل من بني إسرائيل والآية مطلقة أيضا فلذلك اختارها.
وقال الحسن وابن كيسان إن المراد بهذه الآية منافقو أهل الكتاب ، وهذا بعيد أيضا إذ لا منافقين فيمكة والآية مكية ، وأبعد منه قول أبي مسلم إن المراد به فرعون وبالآيات الحجج والمعجزات التي ظهرت على يد موسى والأول أولى ، قال تعالى «وَلَقَدْ ذَرَأْنا» خلقنا وهذا قسم من اللّه أي وعزتنا لقد هيأنا «لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» الكافرين منهم ولا تنافي بين هذه الآية وقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 57 من الذاريات ، لأنه تعالى خلق للعبادة من علم أنه يعبده ، وخلق لجهنم من علم(1/459)
ج 1 ، ص : 460
أنه يجحده وكم من عام يراده به الخصوص ، ومن قال أن هذه اللام التي فى لجهنم لام العاقبة كاللام في قوله تعالى : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) الآية 88 من سورة يونس في ج 2 ، وكاللام في قول صاحب الزبد :
له ملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب
بمعنى أنه لما كانت عاقبتهم جهنم جعلوا كأنهم خلقوا لها فرارا عن إرادة المعاصي.
لا عبرة به ، لأنه عدول عن الظاهر ، ولأن اللام واقعة في جواب القسم كما ذكرنا ، والآية الأخرى والبيت المستشهد به لا قسم فيهما.
على أن هذه الآية نفسها حجة واضحة لمذهب أهل السنة القائلين : إن اللّه تعالى خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها بصريح اللفظ قال تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 97 من الصافات في ج 2 ، ولا زيادة على بيان اللّه ، ثم وصف هؤلاء المخلوقين لجهنم بقوله عز قوله «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها» لأن معنى الفقه الفهم والعلم ثم جعل علما على علم الدين ، وهؤلاء لا يفهمون المراد من خلقهم ولا يعلمون ما يصيرون إليه «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها» طريق الهدى والرشد ولا ينظرون بها آيات اللّه وأدلة توحيده في سمائه وأرضه «وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» المواعظ سماع قبول لأنهم صمّ فإنهم للشر أسمع من الخير ، ولكنهم قوم صرفوا حواسهم كلها إلى الدنيا وأعرضوا عن الآخرة ، لذلك حرموا نعم تلك الحواس فيما يؤول به إلى خيرهم فلم ينتفعوا فيها قال الشاعر :
وعوراء الكلام صممت عنها وإني إذ أشاء لها سميع
ولهذا قال ابن الفارض رحمه اللّه :
إذا نظرت ليلى فكلي أعين وإن نطقت ليلى فكلي مسامع
«أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «كَالْأَنْعامِ» البهائم العجم «بَلْ هُمْ أَضَلُّ» منها لأنها تعرف ما ينفعها ويضرها ولهذا تراها تجتنب بعض الأعشاب ولا تلقي نفسها من الصعدات ، وتخاف كل صيحة ، وتنقي ما تراه من أسورة وغيرها فتتنبه وتقف وترجع إلى الوراء وتجتنب الحفر والمياه ، وهؤلاء لا يعرفون عاقبة ما يضرهم ولا(1/460)
ج 1 ، ص : 461
نفع ما يسرهم معرفته حقيقة ، مع أنهم أعطوا ما لم تعطه الحيوانات من القوة العقلية «أُولئِكَ» المشبهون بالأنعام «هُمُ الْغافِلُونَ 178» عن فهم هذه الأمثال المضروبة لمن يعقل عله يتعظ بها.
مطلب في أسماء اللّه الحسنى :
«وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى » تأنيث الأحسن اسم تفضيل ، لأنها أحسن أسمائه وكل أسمائه حسنة ، إلا أن هذه تدل على معاني حسنه من تحميد وتمجيد وتقديس وتنبىء عن معاني كثيرة ومغازي شريفة لا تدل عليها غيرها.
قال مقاتل : إن رجلا من أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم دعا اللّه ودعا الرحمن ، فقال أبو جهل قبحه ولعنه اللّه :
يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما لهذا يدعو إلهين ؟ جهلا منه بصفات اللّه ، فنزلت هذه الآية.
أما ما قيل من أنها نزلت حينما قرأ رجل في صلاته (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية قبل الأخيرة من سورة الإسراء الآتية ، فغير وجيه لأنها لم تنزل ، بعد وسنأتي على معاني أسماء اللّه الحسنى في أوائل سورة طه الآتية إن شاء اللّه.
روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
(إن للّه تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة ، واللّه وتر يحب الوتر) وفي رواية ، من أحصاها.
وفي رواية أخرى إن للّه تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر ، وهي معلومة محصورة في نوعين الأول عدم افتقاره إلى غيره والثاني افتقار غيره إليه «فَادْعُوهُ بِها» أيها الناس لا بغيرها من الأسماء ، وفي هذه الجملة دليل على أن أسماء اللّه تعالى توقيفية لا اصطلاحية ، ويؤكده عدم جواز قولك اللّه سخي بدل جواد ، وعاقل بدل عالم ، وطبيب بدل حكيم ، وعارف بدل خبير ، وعدم جواز الدعاء بغيرها لقوله جل قوله «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ» لا تقلدوهم بما يقولون واتركوهم وشأنهم إذا لم يمتثلوا أمركم بالميل عن الإلحاد الذي هو عدول عن القصد والاستقامة إذ لا يجوز أن تطلق أسماء غيره عليه ولا أسماءه على غيره ولا نسميه بما لم يسم به نفسه مما لم يرد في قرآن أو سنة ، فلا يجوز أن تقول يا ضار يا مانع يا خالق القردة(1/461)
ج 1 ، ص : 462
يا هدام الديار على الانفراد ، بل إذا قلت هذا فقل : يا ضار يا نافع يا معطي يا مانع ، يا خالق الخلق يا جبار القلوب ، تأدبا معه جل جلاله ، وإن كان في الحقيقة تلك من أسمائه لأنه هو المدمر والمخرّب والمحرّك ، ولكنها ليست من الأسماء الحسنى ، وكذلك لا يجوز أن نسميه باسم لا نعرف معناه كما جاء في الطلاسم والتعاويذ والرقى ، فقد يكون مما لا يليق بجنابه العظيم فنعرض أنفسنا لما لا يرضاه مما يشير إليه قوله تعالت قدرته «سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 119» أولئك الملحدون في أسمائه ، وفيها من الوعيد والتهديد ما لا يخفى على بصير.
أما ما ذكره الشيخ علي محفوظ في الفصل التاسع من كنابه (الإبداع في مضار الابتداع) من أن من يسميه تعالى بغير اسم ورد في القرآن أو السنّة فقد كفر ، ففيه ما فيه من المبالغة وحمل على السادة الصوفية وتنديد بهم ، فهو قول مغالى فيه لا محل له من القبول ، لأن التكفير أمر عظيم لا يكون إلا بإنكار أحد أركان الإسلام ، وقال العلماء المنصفون لو وجد تسع وتسعون قولا بالتكفير وواحد بعدمه يفتى بالواحد ، إذ لا يخرج الرجل من الإسلام إلا بإنكار ما دخل به فيه ،
قال تعالى «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ» جماعة إلى الجنة وهذا بمقابل (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) في الآية السابقة ونظيرتها الآية 159 المارة ، وهذه الطائفة المباركة هم الذين دأبهم أنهم «يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» ويرشدون الناس إلى طريقه «وَبِهِ يَعْدِلُونَ 180» بأحكامهم على أنفسهم وعلى غيرهم لا يفرقون في الحق بين قريب وغريب وعدو وصديق وحقير وشريف.
قال ابن عباس يريد بهذه الآية أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
روى البخاري ومسلم عن معاوية قال وهو يخطب :
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللّه لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك).
وفي الآية هذه والحديث هذا إشارة إلى أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه ، قال تعالى «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» من أي أمة كانت لأن الصيغة للعموم فتتناول الكل إلا ما دل الدليل على استثنائه فهؤلاء «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» شيئا فشيئا إلى الهلاك «مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 181» ما يراد بهم ولا يشعرون بمصيرهم ولا يحسون(1/462)
ج 1 ، ص : 463
بمنقلبهم حتى يستأصلوا بالعذاب على غرّة ، وذلك أن اللّه تعالى يفتح عليهم الدنيا ويزيدهم من نعيمها ما عليه يغبطون ، وإذا أقدموا على ذنب أو عملوا جرما فتح عليهم أبواب الرزق ليزدادوا تماديا في الشرّ ويحسبون أنه أثرة من اللّه آثرهم بها على غيرهم وينسيهم سيئاتهم حتى لا يرجعوا عنها ويستغفروا منها ويظنوا أن اللّه لا يحاسبهم عليها وهم لا يعلمون أن ذلك كله عربون لأخذهم بغتة وإهلاكهم على حين غفلة ، إذ يفاجئهم بأمر لا محيص لهم منه ، ويدل على هذا قوله «وَأُمْلِي لَهُمْ» أمهلهم بإطالة أعمارهم ولا أعاجلهم بالعقوبة حتى يظنوا أنهم أهملوا ، ولم يذكروا «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 182» قوي شديد لا يجارى ولا يبارى ، ومن جملة هذا الكيد أن أغلق عليهم باب التوبة ، فلا أجعلهم يتصورونها.
وأراد بالكيد هنا الأخذ وإنما سمي كيدا تشبيها به من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الباطن خذلان ثم شرع يندد في كفار قريش بقوله عز قوله «أَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا» هؤلاء الذين يصمونك بالجنة أيها الكامل مع أني أقول لهم «ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ» فكيف ينسبونك إلى الجنون وأنت مصاحب لهم ليل نهار ويعلمون يقينا أنك أكمل البشر وأقول لهم «إِنْ» ما «هُوَ» صاحبكم «إِلَّا نَذِيرٌ» لكم يخوفكم من أن يأخذكم ربكم بعذاب شديد لا تطيقونه إن أصررتم على كفركم ولم تؤمنوا به وهو «مُبِينٌ 183» لكم طريق الخير وموضح لكم سبل الصواب ومرشدكم لكل ما به نفعكم واجتناب ما يصركم ، نزلت هذه الآية حينما وقف صلّى اللّه عليه وسلم على الصفا ودعى قريشا فخذا فخذا وحذرهم بأس اللّه تعالى ووقائعه إن لم يؤمنوا به ، وأنه ينزل بهم من العذاب ما أخذ به من قبلهم ، فقال بعضهم لبعض إن هذا لمجنون دعوه يصوت حتى الصباح فأكذبهم اللّه فيها ، طفق يحثهم على دلائل وحدانيته مما يؤدي لإيمانهم إن كانوا يعقلون ، فقال «أَ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وعظمتهما وما فيهما من المنافع ، والملكوت هو الملك زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة مثل جبروت ورحموت مبالغة في التجبر والرّحمة ، ويتأملوا «فى ما خَلَقَ اللَّهُ» فيهما وبينهما وما فوقهما وتحتهما «مِنْ شَيْ ءٍ» ذكر الشيء ليعم فيشمل جميع الأشياء(1/463)
ج 1 ، ص : 464
العلوية والسفلية ، إذ في كل منها عبر توجب التفكر والتدبر والنظر لدلالتها على آثار قدرته في مكوناته وعجائب صنعه في مخلوقاته :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
أي لما ذا لم يتذكر الناس فيما برأه ربهم في هذين الهيكلين العظيمين وما خلقه لهم فيهم «وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» فيموتوا على كفرهم فيخسروا آخرتهم كما خسروا دنياهم ، فيا سيد الرسل إذا لم يؤمنوا بك وأنت الذي لا نبيّ ولا كتاب بعدك «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 184» لأنك خاتم الأنبياء وكتابك خاتم الكتب ، أي أنهم لا يؤمنون البتة لأن اعراضهم هذا لسابق ضلالهم وأنهم في علم اللّه خبثاء لا يتوقع منهم الهدى لأن «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» أبدا إذ طبع اللّه على قلوبهم فمالوا عن الحق إلى الضلال وقد أعماهم عن سلوكه لأنه يريدهم إلى ما قدره إليهم في أزله «وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 185» لا يدركون شيئا في بصيرتهم كما لا يرونه بأبصارهم فهم دائما متحيرون لا يهتدون إلى صواب :
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء
مطلب في الساعة ومعنى احفوا الشارب :
ثم إن من كفرة قريش من سأل حضرة الرسول عن الساعة التي يخوفهم بها لأنهم ينكرونها فيقولون له متي تكون فأنزل اللّه «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ» سؤال سخرية واستهزاء لأنهم لا يصدقون بها لهذا يقولون لك هؤلاء الكفرة «أَيَّانَ مُرْساها» يريدون متى تأتي ، لأن الإرساء هو الوقوف والإثبات ، فإذا جاءت فكأنها ثبتت أمامهم فأنزل اللّه «قُلْ» يا سيد الرسل أنا لا أعلم وقت مجيئها «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» وحده لا يعلمها غيره ، فكما أنه أخفى عليكم أجل موتكم فقد أخفاها عليّ وعلى الناس أجمع ليكونوا كلهم على حذر دائم من وقوعها ، فإخفاؤها أدعى لملازمة الطاعة والمثابرة عليها والمبادرة إلى التوبة والمباعدة عن المعاصي «لا يُجَلِّيها» ليظهرها ويكشف أمرها «لِوَقْتِها» المقدر لها كي يراها الناس «إِلَّا هُوَ» وحده ، واعلموا أيها الناس إن الساعة قد «ثَقُلَتْ» عظمت وكبرت وقيل(1/464)
ج 1 ، ص : 465
خفيت لأن الشيء إذا ثقل خفي فأبدل اللفظ به ، وعليه فإن في الآتية بمقام على ، أي اشتد هو لها على من «فِي السَّماواتِ» من الملائكة «و» على من في «الْأَرْضِ» من الثقلين الإنس والجن وأهمهم شأنها وأخافهم هولها ، وهنا حذف لفظ أهل وهو من بديع الكلام ولذلك قدرنا (من) لفظ قبل السموات والأرض ، واعلموا أيها الناس إنها «لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» فجأة على غرة وغفلة من الناس أجمع.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (الناقة الوالدة حديثا) فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط (يطين ويصلح) حوضه فلا يسقى فيه ، ولنقومن الساعة وقد رفع أكلته (بضم الهمزة اللقمة) إلى فيه فلا يطعمها.
ومن هنا قال بعضهم إن الساعة تؤلف ولا تؤلفان لأن حروف بغتة بحساب الجمل ألف وثمانمائة واثنان والصحيح انها وأربعمائة واثنان ، لأن التاء مكررة فيها والمكرر لا يحسب عادة ولكن تضاف حروف الكلمة لها فتكون 1406 ، ونحوها قوله تعالى (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) الآية 76 من الإسراء الآتية ، فإن حروفها عدا المكرر 1399 وحروفها 11 فتكون 1410 تدبر.
وأعلم أن هذا لطريق الاستنباط لا غير ، وفي الحقيقة لا يعلم مداها إلا هو «يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» بليغ في علمها شديد السؤال عنها ، أي.
يسألونك عنها كأنك حفي بها ففيه حذف والإحفاء هو الاستقصاء بالشيء ومنه حديث احفوا الشارب المار ذكره في الآية 95 أي استقصوا في قصه حتى يكون كالحاجب بأن تكون له حواف ، أي تبدو منه حواف شفته.
وقد أخطأ صنعا من زين شاربه استدلالا بهذا الحديث لزعمه أن معنى الإحفاء هو ذاك ، مع أنه مع بقاء اللحية مثلة ، وحاشا رسول اللّه أن يأمر بها ، ألم يعلم هذا المتحفف أن رسول اللّه لم يزّين شاربه بالموسى ولا بالمقصّ بل كان يأخذ منه مازاد على الشفة ، وأنه لا يأمر بما لا يفعل ، وأن الاقتداء به هدى والمخالفة له ضلال.
قرأ ابن مسعود (حفيّ بها) أي كأنك عالم بها مراعاة لمعنى الباء المؤدية لمعنى ت (30)(1/465)
ج 1 ، ص : 466
عن في الآية المارة ، وهي قراءة إن صحت عنه فهي شاذة لا يجوز أن تقرأ لما فيها من إبدال حرف بغيره متباينين في المعنى ، وقيل إن معنى حفى عن الشيء إذا بحث عن تعرف حاله ، واستقصاه إذا اعتنى به ، وعليه قول الأعشى :
فإن تسألوا عني فيا رب سائل حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
والأول أولى ، راجع الآية 95 المارة في بحث الإحفاء وعلى كل «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» كرر الجواب جل شأنه لتكرار السؤال تأكيدا للحكم وتقديرا له واشعارا بعلّته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبئ عن استتباعها بصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم ، فالسؤال الأول عن بيان وقت قيام الساعة ، والثاني عن بيان أحوالها الشافة ، ولهذا قال جل شأنه «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 186» معنى اختصاص علم اللّه بها ، فبعضهم ينكرها رأسا ولا يسأل عنها إلا تلاعبا ، وبعضهم يعلم أنها واقعة ، ولهذا قال أكثرهم :
ويزعم أن محمدا واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا ، وبعضهم يزعم أن العلم بها من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها بأن يقول كيف يدعي الرسالة ويخوفنا القيامة ولا يعرف متى تقوم ، وبعضهم واقف على جلية الحال ويسأل امتحانا فهو ملحق بالجاهلين لعدم علمه بعمله وعمله بعلمه.
هذا ، ولما سأل أهل مكة محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ألا يخبرك ربك بالأسعار لنتيقن ونتحقق الربح ، وبالجدب والخصب لنأمن على أنفسنا وحيواناتنا من الجوع والعطش ، أنزل اللّه «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا» لأني بشر مثلكم فلا أقدر على دفع الضر وجلب الخير «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» لي من ذلك أن أملكه بتمليكه إياي ، وهذا غاية في إظهار العبودية ونهاية في التبري عن خصائص الإلهية ومبالغة في إظهار العجز ، وبما أن ذلك من العلم بالغيب أتبع هذا التبرّي بقوله «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ» كما تظنون «لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» الذي يمكن التقصي عنه بالتوقي من موجباته ولم أكن مغلوبا لكم في بعض الأحوال ، وهذا قبل أن يطلعه اللّه على بعض مغيباته ولما أطلعه أخبره ، قال تعالى : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ(1/466)
ج 1 ، ص : 467
أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)
الآيتان 26 و27 من سورة الجن الآتية ، ثم أكد نفي ذلك بقوله «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ» للكافرين أمثالكم من أن يلحقهم غضب اللّه إن لم يرجعوا عن كفرهم «وَبَشِيرٌ» بالثواب العظيم من اللّه «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 187» بي ويصدقون رسالتي ، ثم ذكرهم بأصل خلقهم بقوله عز قوله «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «وَجَعَلَ مِنْها» من نفسها زوجها» حواء لأنها خلقت من نفس آدم ، لذلك قال منها أي من جنسها ، وقد جاء في الخبر أن اللّه تعالى خلق حواء من ضلع آدم اليسرى ، ونظير هذه الآية من حيث المعنى الآية الأولى من سورة النساء في ج 3 والآية 97 من سورة الأنعام في ج 2 ، أما كيفية خلقها فعلى ما هو عند اللّه تعالى مما هو مجهول عندنا ، واللّه لا يعجزه شيء وقال تعالى في الآية 72 من سورة النحل في ج 2 (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) وعليه ينبغي أن تكون من هنا ابتدائية ، ويكون المعنى من جنسكم أيضا ، ويحتمل أن تكون تبعيضية ، فيصير المعنى من جسدكم ، فالمعنى الأول ينطبق على آدم وسائر البشر ، وعلى الأخير لا ينطبق إلا على آدم ، وسنأتي على تفصيل كل من هذه الآيات في محله إن شاء اللّه «لِيَسْكُنَ إِلَيْها» يأوي ويأنس بها واللام للعلة الغائبة ، أي يطمئن إليها.
مطلب أدب التعبير وحمل حواء الأول :
وقد ذكّر الضمير في ليسكن ولم يؤنثه باعتبار النفس كما هو الظاهر لأن المراد منها آدم ، ولو أنث الضمير على الظاهر لتوهم نسبة السكون للأنثى وهو خلاف المقصود من قوله «فَلَمَّا تَغَشَّاها» والغشي منسوب للذكر قولا واحدا وهو أحسن كناية عن الجماع وأكثر أدبا فيه ، لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة ، وفي هذا تنبيه لحفظ اللسان من الكلام البذيء ولو كان لا بأس به ، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم : تأدبوا بآداب اللّه كي ينزه الإنسان دائما لسانه عن ذكر ما فيه فحش ولو حلالا ، وهذا من جملة آداب القرآن ، ويقال له أدب التعبير في علم البلاغة «حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً» بادىء بدء لأنه عبارة عن نطفة فلا يحس بها ثم يتدرج إلى علقة فمضغة وهكذا إلى(1/467)
ج 1 ، ص : 468
كماله ، ولهذا قال تعالى «فَمَرَّتْ بِهِ» أي بحملها لخفته لأن كبره في الرحم تدريجيا والثقل التدريجي لا يحس به غالبا ، وقرأ أبو العالية مرت بالتخفيف مثل ظلت ، في ظللت أو من المرية أي شكت في حملها ، لأنه شيء لم يعهد عندهما قبل وقرأ ابن الجحدري فمارت من مار يمور إذا جاء وذهب يريد به الحمل لأنه يتقلب بالمشيمة ، وكل هذه القراءات جائزة إذ لا زيادة فيها ولا نقص والتصحيف لا بأس به.
أما ما نقل عن ابن عباس أنه قرأ استمرت ففيها زيادة حرف وتبديل حرف فلا يجوز قراءتها «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ» بكمال الحمل وارتفاع البطن وصارت تتألم لضرب الولادة «دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما» تضرعا وإخباتا لأنهما رأيا شيئا عجيبا لم يصرفا مصيره وخافا عاقبة الأمر واهتما بحال خروج الولد ، فتوجها إلى مالك أمرهما وطلبا منه حسن العاقبة فقالا «لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً» بشرا سويا مثلنا سالما من النقص والزيادة «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 188» لنعمائك دائبين عليه ، وذلك لأنهما لم يريا أحدا من جنسهما ولم يكن إذ ذاك غير الجن والحيوان والوحش والطير ، فخافا أن يكون من جنس أحدهما فرغبا إلى ربهما أن يكون على شكلهما ولونهما «فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً» كما أرادا «جعلا» أي نسلهما وأولاده على حذف مضاف مثل قولك سال الوادي وتريد ماءه ، ومثل قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يريد أهلها ، وحذف المضاف متعارف عند العرب واتخذا «له» للإله الواحد «شُرَكاءَ» من الملائكة والبشر والحيوان والجماد وغيرها من مخلوقاته وأشركوها بعبادته «فِيما آتاهُما» أي أولادهما وأنفسهما من النسل إذ أضافوا ذلك إليهما ، وإنما ثني الضمير باعتبار أن الذي أتاهما ذكر وأنثى ، وعبر بما بدل من لأن هذين الصنفين عند ولادتهما ملحقان بما لا يعقل وإنما أسند الجعل للنسل كله مع أن البعض لم يجعل لنلبسه بمحض الإيمان لأنهم الأكثر على حد قولهم (بنو تميم قتلوا فلانا) والقاتل واحد ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ) الآية 67 من سورة مريم الآتية وليس كل إنسان يقول ذلك «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 189» معه من لا يستحق العبادة ، وجمع الضمير على عوده للنسل الذي أشرك ، وفيه تغليب(1/468)
ج 1 ، ص : 469
المذكر على المؤنث إيذان بعظم الشرك ولأن من جوّز الشريك الواحد جوز الشركاء ، وقد أضاف جل شأنه في هذه الآية فعل الآباء إلى الأبناء متهكما فيما آل إليه أمر ذريتهم ، كما أضاف فعل الأبناء إلى الآباء في قوله اتخذتم العجل.
وقتلتم نفسا.
الآيات 51 و92 و72 من سورة البقرة في ج 3 إذ خاطب فيها اليهود الذين على زمن محمد صلّى اللّه عليه وسلم بما فعل آباؤهم زمن موسى عليه السلام وهذا أحسن الأقوال في تفسير هذه الآية.
ولا يقال إن هذا من قبيل الرأي وتفسير على خلاف الظاهر ، لما ذكرنا في المقدمة من لزوم اتباع الظاهر حسب المستطاع ، إذ لا استطاعة هنا ولا مخلص إلا بالأخذ على خلاف الظاهر ، لأنه أليق بالمقام وأوفق للمعنى ، ولأنه إذا تعذرت الحقيقة وجب الجنوح إلى المجاز ، ولأن إعمال الكلام ولو تأويلا عند جواز المعنى أولى من إهماله.
وبلي هذا القول قول من قال إن الضمير في خلقكم يعود إلى قريش آل قصي ، إذ لا يجوز عوده لآدم عليه السلام ، لأن إسناد الشرك إليه محال ، كيف وهو نبي معصوم! واستدل بضمير الجمع في (يُشْرِكُونَ) لأنهم خلقوا من جنس قصي وزوجته القرشية بنت سيد مكة من خزاعة ، وقد سميا أولادهما عبد مناف وعبد العزى وعبد شمس وعبد الدار ، بدلا من عبد اللّه وعبد الرحمن مثلا ، فيكون المراد بهذه الآية هما وأعقابهما الذين اقتدوا فيهما بالشرك ، وأيد قوله هذا بقول أم معبد :
فيا لقصي ما روى اللّه عنكم به من فخار لا يبارى وسؤدد
حتى قال جماعة من العلماء إنه تفسير حسن لا إشكال فيه.
نعم هو وجيه إلا أنه يرد عليه عدم علمنا بقصي وزوجته بأنهما وعدا اللّه عند الحمل بما ذكر في الآية ، لأنهما كانا كافرين وكانت قريش متفرقة ، ثم جمعها قصي ولذلك سمي مجمعا ، فلم يخلق المذكورون من نفسه فضلا عن أنه لا محل لاستغرابهما الحمل مثل آدم وزوجته.
أما ما قاله بعض المفسرين من أن الإشراك بالتسمية فقط وهو لا يعد شركا وجوزوا إطلاقه على آدم عليه السلام وزوجته ، واستدلّوا بما قاله عكرمة ما أشرك آدم ولا حواء ولكن كان لا يعيش لهما ولد ، فأتاهما الشيطان وقال لهما ، إن سركما أن(1/469)
ج 1 ، ص : 470
يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث يعني نفسه ، لأنه كان بين الملائكة يسمى حارثا ففعلا فعاتبهما اللّه على ذلك بما ذكر بالنسبة لمنصبهما ، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقول الآخرين من أنه يفهم من قوله تعالى أثقلت ، أن حواء كانت تسقط حملها قبل كماله ، فلما كمل في هذه المرة دعوا اللّه بما قصه في هذه الآية ، واستدل بما أخرجه الترمذي وأحمد وحسنه الحاكم وصححه عن سمرة بن جندب قال :
قال صلّى اللّه عليه وسلم : لما ولدت حواء طاف إبليس وكانت لا يعيش لها ولد ، فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته ، قال القطب : لا بعد هذا شركا لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية ، ولكن أطلق عليها لفظ الشرك تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون أمر عظيم.
وقال الطيبي : هذا أحسن الأقوال لأنه مقتبس من مشكاة النبوة.
وقال غيرهم إنه موافق لسياق الآية المنزلة بحسب الظاهر ، ولا يصار لغيره إلا بدليل ، أقول نعم لو كان هذا الحديث مسلما بصحته أما لا فلا :
لأن في سنده عمر بن ابراهيم المصري ، قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به متروك وفضلا عن هذا فإنه ليس مرفوعا بل هو موقوف على سمرة ، والموقوف على الصحابي فيه ما فيه ، والدليل إذا طرقه الاحتمال سقط الاستدلال به ، وقد جاءت روايات أخرى عن معمر عن الحسن ، وعن ابن جرير عن الحسن ، وعن قتادة عن الحسن كلها مختلفة باللفظ متضاربة بالمعنى ، وإن هكذا روايات لا تخلو عن الدس من أهل الكتاب ، لأنه لو ثبت عن الحسن ما نقلوه عنه لما فسرت هذه الآية على غير ما روي عنه ، وهناك رواية أن الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحارث خرجها ابن جرير عن الخبر ، بما يدل على أن هذه وتلك منقولة عن أهل الكتاب لما قيل إنها نزلت في اليهود والنصارى ، لأنهم هوّدوا ونصّروا أولادهم إلى غير ذلك من الأقوال التي لا ترتكز على ما يطمئن له الضمير ويركن إليه العقل ، وشكّ أن الآية من المشكلات وقد تضاربت فيها آراء المفسرين ، وأحسن شي ما أثبتناه في تفسيرها وهو ما اعتمده جهابذة المفسرين ، ولو كان هناك حديث صحيح لا غبار عليه يفهم منه تفسيرها على غير ما جرينا عليه لاتبعناه ، قال الشافعي رحمه(1/470)
ج 1 ، ص : 471
إذا صح الحديث فهو مذهبي ، وعلى هذا أكثر المفسرين من أساطين الإسلام الذين هم أعلى رتبة وأسنى مقاما من مخالفيهم.
هذا ، وكان يولد لهما في كل بطن ذكر وأنثى وكانا يزوجان ذكر البطن الأول البنت من البطن الثانية وذكر البطن الثانية البنت من البطن الأول ، وهكذا تناسلا وكثرا ، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 27 من سورة المائدة في ج 3 ، ومن هذا النسل من جرأ واتخذ لحضرته سبحانه شركاء ، من الأصنام والنجوم والملائكة والنار والبقر وغيرها من مخلوقاته تعالى اللّه عن ذلك وتنزه ، وأشركا ذلك النسل فيما أتاهما من الأولاد إذ أضافوا ذلك إليهم ، وعبّر هنا أيضا بما دون من لأن هذه الاضافة وقعت منها عند الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل كما أشرنا إليه آنفا ، وإسناد الجعل للنسل على العموم ، مع أن البعض لم يجعلوا جاء على ما هو متعارف عند العرب كما مر في تفسير الآية 189 ومثله قوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الآية 16 من سورة عبس المارة والمراد بعض الإنسان تدبر وقل «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 190» فيه ذلك النسل الذي جعل له شركاء ، وفيه تغليب المذكر على المؤنث وإيذانا بعظم إشراكهم ، قال منددا صنيعهما على طريق الاستفهام الإنكاري
«أَ يُشْرِكُونَ» بي وأنا خالقهم «ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً» من الأشياء أصلا ، ومن حق المعبود أن يكون خالقا وهؤلاء «وَهُمْ يُخْلَقُونَ 191» بصنع أيدي مخلوقي وجاء ضمير الجمع على صفة من يعقل بناء على اعتقاد الكفار بأن الأصنام تعقل وتنفع وتضر ، فأجراها مجرى من يعقل ، وفي قوله «وَلا يَسْتَطِيعُونَ» أولئك الأوثان المتخذة شركاء لي «هم» لعابديهم عند حاجتهم لهم «نَصْراً» مما يحل بهم من أمر مهم أو خطب ملمّ «وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ 192» أيضا إذا وقع عليهم تعد من كسر واهانة «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ» أيها الكفرة «إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ» هذا بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم بالنص ، والهدى مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق حصولها من غير أن تجعل للطالب ، راجع تفسير الآية 17 من سورة فصلت في ج 2 «سَواءٌ عَلَيْكُمْ» أيها المشركون بهم «أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ(1/471)
ج 1 ، ص : 472
صامِتُونَ.
193»
وهذا مثل ضربه اللّه تعالى في عدم الإفادة منهم في الدعاء وعدمه ، أي أن دعاءكم لهم في عدم الإفادة وسكوتكم عنهم سيان ، فلا يتغير حالكم في الحالتين كما لا يتغير حالهم في الحالين ، لأنها جماد والجماد يستوي فيه الحالان ، وقال بعض المفسرين إن ضمير تدعوهم يعود لحضرة الرسول على سبيل التعظيم ، أو له وللمؤمنين وضمير المفعولين في (تدعوهم) و(أ دعوتموهم) للمشركين والمراد بالهدى دين الحق ، أي إن تدعو المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم.
إلا أن سياق النظم الكريم وسياقه لا يساعد هذا البتة كما ترى ، لأنه لو كان كذلك لقال عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الآية 10 من سورة يس الآتية ، لأن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة للمشركين لا بالنسبة للداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة ، وإن من نقل هذا القول عن الحسن لم يتثبت بنقله ولم يترو بصحته.
أما من نقله عن الطبرسي فإن صح فليس بشيء لأنه رحمه اللّه لم يحقق ما ينقله حتى قيل عنه إنه (حاطب ليل) ومما يقرر ما جرينا عليه ويؤكده قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وتسمونهم آلهة ليسوا بآلهة إنما هم «عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» مسخّرون مذلّلون للّه ومن جملة مملوكيه قرأ ابن سعيد بتخفيف (إن) ونصب عباد على حد قول القائل :
إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين
وقرأ آخرون بنصب أمثالكم أيضا على أنّ أن المخففة تنصب الجزأين المبتدأ والخبر على حد قوله :
إذا اسودّ جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافا إن حراسنا أسدا
والقراءة الأولى أولى وهي التي عليها المصاحف المختارة على غيرها إذ ذكرنا غير مرة إن القراءة إذا لم تكن تبدل أو تغير فتجوز وإلا فلا لأن التخفيف والتشديد والمد والإمالة لا تغير الحروف ولا الكلمات ولا المعنى وكل ما كان كذلك فلا بأس به «فَادْعُوهُمْ» أيها المشركون «فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» ما تدعونهم به «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 194» في زعمكم أنهم ينفعونكم ، وهذا تحقيق لمضمون ما قبله وتبكيت(1/472)
ج 1 ، ص : 473
لهم بما يدّعونه فهم من القدرة والهدى والضلال ، ومما يؤكد هذا ويزيد في التوبيخ ونفي ما يتوهمونه في أوثانهم قوله جل قوله «أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» حتى تخاطبوهم ؟ وترجوا نصرهم كأناس أمثالكم ، كلا ليس لهم حواس كحواسكم وجوارحكم فليس لكم مصلحة بهم أصلا ، فيا أكمل الرسل «قُلِ» لهؤلاء الأغبياء «ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ» واستعينوا بهم لينصروكم أو يدفعوا عنكم ضرا ، إن كان ما تتصورونه بها حقا «ثُمَّ كِيدُونِ» جميعا أنتم وشركاؤكم بما تستطيعون من أنواع الحيل والمكر فإن قدرتم علي «فَلا تُنْظِرُونِ 195» لحظة واحدة ولا تمهلوني لأستعين بأحد عليكم ، وإذا تحققتم عدم نصرتها وعدم إجابتها دعاءكم وظهر لكم عجزها وعجزكم أيضا عن أن تمسوني بشيء لأن معبودي يملك النصر ويجيب الدعاء فلا يمكّنكم من إيصال كيدكم إلي ، وذلك «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ» القوي العزيز القاهر لكل شيء الحافظ لمن يتولاه الخاذل من يتكل على غيره المذل من عاداه هو الإله «الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ» علي وشرفني بالنبوة «وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ 196» أمثالي لعمارة هذه الأرض ويطهرها من الشرك ويحفظني ومن اتبعني من كيد الكائدين وينصرنا على من يناوثنا «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أنتم وأمثالكم أوثانا «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ 197» كررت هذه الآية بالمعنى بزيادة بعض الكلمات زيادة في التقريع والتوبيخ ، وفيها بيان أن الفرق بين من من تجوز عبادته وهو اللّه ، ومن لا تجوز وهي أوثانكم المشار إليها بقوله «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى » لما به نفعكم واجتناب ضركم في الدنيا والآخرة «لا يَسْمَعُوا» دعاءكم لأنها جماد أو حيوان «وَتَراهُمْ» يا سيد الرسل «يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ» أي يخيل إليك يا حبيبي أن الأصنام تبصر من ينظرها بعيونها المصنوعة من الجواهر المتلألئة «وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ 198» لأن قوة النظر لا تكون بشيء مما يصوغونه من مكوناتنا ، وإنما هي من قدرة الإله الخالق الذي أعجز جميع خلقه عن معرفة المادة الموجودة في الأعين ولا يزالون عاجزين إلى أن يشاء اللّه.
هذا ما يقتضيه(1/473)
ج 1 ، ص : 474
سياق الآية بالنسبة لما قبلها ، ونقل عن الحسن أن الخطاب في (وإن تدعوهم) إلى المؤمنين وضمير المفعول للمشركين ، على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى (يَنْصُرُونَ) خاتمة الآية قبلها وعليه يكون المعنى : وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم.
وعليه يحسن تفسير السماع بالقول ، وجعل وتراهم خطابا لسيد المخاطبين بطريق التجريد ، ويكون في الكلام تنبيه على أن ما فيه عليه الصلاة والسلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد ، وهو وجيه أيضا.
مطلب : في مكارم الأخلاق التي يأمر بها اللّه رسوله :
قال تعالى «خُذِ الْعَفْوَ» الميسور من أخلاق الناس مما يسهل عليهم ولا تستقص عليهم فينفروا منك ، وهذا كقوله صلّى اللّه عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ، أي لا تكلفهم بما يشق عليهم واقبل منهم ما تيسر وعليه قوله :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب
يريد سكوتها عند ثورة غضبه ، وفي رواية : في صورتي أي لا تقابليني بما أتكلم عليك.
ويجوز أن يكون المراد اعف عن المذنبين من أصحابك ، وعاملهم بالعفو ، وهو أولى لموافقة الظاهر وما يوافق الظاهر أظهر.
روى البخاري عن عبد اللّه بن الزبير قال : ما نزلت هذه الآية إلا في أخلاق الناس ، ومعنى العفو لغة الفاضل الزائد على قدر الحاجة من المال ، ولذلك قال ابن عباس : معناها هنا خذ ما عفا من أموال الناس مما آتوك به لا تكلفهم غيره.
وهذا قبل نزول آية الصدقات عدد 266 من سورة البقرة في ج 3 ، وأخرج أبو الشيخ عن الجوهري أنه قال : لما نزلت هذه الآية كان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفاضل ، إلى أن نزلت آية الزكاة «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» المستحسن من الأفعال والأقوال فإنه أقرب إلى قول الناس ، لأن الأمر بالجميل من الأقوال والأفعال وكل ما يرتضيه العقل والشرع من الخصال إذا كان بالمعروف يتلقى بالقبول ، وجاء في باب التأويل : وأمر بكل ما يأمرك اللّه به وعرفته من الوحي وهو كما ترى «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ 199»(1/474)
ج 1 ، ص : 475
بمقالك وكتابك وربك ، ولا تكافئهم على سفههم ولا تمارهم على جدالهم ، وعاملهم بالحكمة وأغض عما يسوءك منهم وعن مساوئهم ، وقابلهم بأخلاقك لا بأخلاقهم ، فإنه أجدر بمقامك وأوقع بمكانتك وأليق بمخاطبتك ودم على هذا حتى يأتي الوقت الذي ستؤمر فيه بقسرهم ، وهذه الآية أجمع آية في القرآن العظيم لمكارم الأخلاق ، ففي أخذه بالعفو صلة من قطيعة والصفح عن من ظلمه ، وفي الأمر بالمعروف تقوى اللّه وغض البصر عن المحارم وصون اللسان عن الكذب ، وفي الإعراض عن الجاهلين تنزيه النفس عن السفهاء ومنازعة اللجوجين ، ولا شيء منها إلا وهو داخل في هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم ، هذا وان ما قاله السدي بأن هذه الآية منسوخة بآية القتال لا وجه له ، ولا توجد ضرورة داعية إلى دعوى النسخ لأنها عبارة عن تحري حسن المعاملة والمعاشرة مع الناس وتوخي تبدل الجهد وإفراغ الوسع في الإحسان إليهم والمداراة لهم فيما لا يضر بالدين ويجلب إلى المودة وتحسين العلائق معهم.
مطلب في النسخ والنزغ ومعناه.
وأساس هذا كله المحبة للحق ، ومن دواعي المحبة وملاكها هذه المعاملة المبيّنة أعلاه والمعاشرة التي هي أساس كل خير وخلاصته ، وإذا علم أن للقرآن العظيم مادة عامة ومادة خاصة وان استعمال كل في موقعه من الحكمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل حكيم محاكم لأمره ناظر عاقبته أيقن أن لا نسخ في هذه الآية وأشباهها مما أشرنا إليه قبلا سنشير به بعد ، وقد علم كل أناس مشربهم ولكل وجهة ، فالسعيد من لا يتعدى بوجهته ظاهر كلام اللّه ما وجد له محملّا خشية أن يقع بما لا يرضيه ، وفقنا اللّه لرضاه.
هذا.
وما أحسن وقع هذه الآية الجليلة بعد تعداد أباطيل المشركين وقبائحهم بما لا يطاق حمله : قال ابن زيد لما نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه وسلم : كيف بالغضب يا رب ؟ فأنزل اللّه جل انزاله «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» أي نخس بوسوسة يروم إبقاءها في قلبك الشريف على خلاف ما أمرت به في هذه الآية وما قبلها مما أنزل عليك من الوحي فلا تمل إليه ولا تركن لما ينخسك به ولا(1/475)
ج 1 ، ص : 476
تطعه بوساوسه في كل ما هو مخالف لشرعك وأخلاقك التي أمرت بها ، وإذا ضاق صدرك مما ينزغه ولم تقدر على دفعه «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» بالالتجاء إليه «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لإجابة استعاذاتك به سريع لقبولها بأن يعصمك من نزغه وينزعه من قلبك فلا يترك فيه شيئا منها لما فيه من الخطر على مقام النبوة الذي تكلف اللّه بعصمته فلا يثبت فيه شيء لا يرضاه لك ، ومعنى النزغ لغة شك الجلد بالابرة أو بطرق العصاة وكذلك النخس والنسغ وقد يكون بمعنى الإفساد وهو بالنسبة لحضرة الرسول باعتباره المجازي عبارة عن اعتراء الغضب ليس إلا «عَلِيمٌ 200» بك وبما ينالك من جميع خلقه ليسمع تضرعك إليه ويعلم ما تريده منه قبل استعاذتك به ، روى مسلم عن ابن مسعود قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ، قالوا وإياك يا رسول اللّه ، قال وإياي إلا ان اللّه أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير (قال الشيخ محيي الدين النووي يروى فأسلم بفتح الميم أي صار مؤمنا لا يأمر إلا بخير ، وبفتحها أي أسلم من فتنته وشره ، واختاره الخطابي ، ورجح القاضي عياض الأول وقال : الأمة مجمعة على عصمة الأنبياء من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه ، وهذا الحديث يشير إلى التحذير من فتنته ووسوسته واغوائه وهذا الخطاب قد يراد به غير الرسول لأنه صلّى اللّه عليه وسلم معصوم من النزغ وهو جار على حد قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية 65 من الزمر في ج 2 لأنه معصوم من الشرك قطعا وعليه يكون المراد بالآية جنس الإنسان ومثله فيما نحن في تفسيرها أي مطلق إنسان ونظير هذه الآية 36 من سورة فصلت في ج 2 فإنهما مطلقتان بطلب الاستعاذة في جميع الأحوال أما آية النحل عدد 99 في ج 2 فهي خاصة بالقراءة والمراد فيها مطلق قارئ لا مطلق إنسان كما هنا ، تدبر ، إذ يخاطب صلّى اللّه عليه وسلم بشيء ويراد
به غيره وهو جار بين العرب حتى ضرب به المثل وهو «إياك اعني واسمعي يا جارة»
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا» ربهم ورسخت التقوى بقلوبهم واتصفوا بها «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ» لمّة ألمت به «مِنَ الشَّيْطانِ» لأن الطائف ما يطوف بالإنسان ويلم به وقرىء «طيف» وهو مثله بالمعنى ويفيد الوسوسة أو تسمى طيفا أو طائفا(1/476)
ج 1 ، ص : 477
إيذانا بأنها لا تؤثر بالأنبياء البتة ، فكأنها تطوف حولهم فلا تمسهم ولا تؤثر فيهم بل لا تصل إليهم ولهذا عبر بالنزغ بحقهم لأنه أول الوسوسة ، وبالمس بحق المتقين لأنه لا يكون إلا بعد التمكن من النزغ فيهم ، فيعقبه المس ، ولهذا جاءت هذه الآية تأكيدا وتقريرا لوجوب الاستعاذة المارة عند حدوث الوسوسة لئلا يتخطى الأمر إلى المس ، وإنباء بأن عادة المتقين إذا اعتراهم المس وأحسوا به ركنوا إلى ذكر اللّه استنادا لقوله «تَذَكَّرُوا» أوامره ونواهيه فيما طرأ عليهم منه فيلجأون إلى اللّه من مكايد الشيطان ومكره «فَإِذا هُمْ» بسبب الذكرى التي أمروا بها عند وقوع غفلة أدت إلى الوسوسة أو اعراض سبب المس «مُبْصِرُونَ 201» مواقع خطاهم فيعدلون عنها إلى السداد ويدفعون خطراته بعد أن يزنوها بميزان الشرع ويعرضوها على أصوله وقواعده ويستغفروا ربهم منها إذا ظهر لهم مخالفتها فيغفرها لهم.
وقد بينا الحكم الشرعي في الاستعاذة في المقدمة فراجعها تعلم سنيتها في سائر الأحوال.
هذا ، ولما ذكر اللّه تعالى حال الأنبياء والمتقين شرع في بيان حال من يقبل نزعات الشيطان ويؤثر فيهم مسه فقال عز قوله «وَإِخْوانُهُمْ» الجاهلين المبعدين من طرق التقوى وهم الشياطين قرناء الفسقة من البشر «يَمُدُّونَهُمْ» يكونون لهم مددا وعدونا «فِي الغَيِّ» وطرقه فيزيدونهم على غيهم غيا قصد ضلالهم وإضلالهم.
وقرأ الجحدري يمادّونهم من باب المفاعلة ، أي كأن الشيطان يعاضدهم بالإغراء وتهوين المعاصي بأعينهم على إغواء البشر أيضا فهم يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال «ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ 202» لا يمسكون عن إغوائهم ولا يكفون عن مسهم فيصروا على تلك الوساوس ولا يرجعوا عنها إن استطاعوا ، حتى إذا تمكنوا منها عمدوا إلى المس فيتدرجوا فيه إلى أن يوقعوه في الغيّ والإغواء فيصير من صنفهم وقد علمت أن ضمير الجمع المضاف إليه أولا في إخوانهم والمفعول ثانيا في يمدونهم يعودان إلى الجاهلين ، وضمير الفاعل في يقصرون يعود إلى الشياطين إخوان الجاهلين ، فالخبر جاء على غير ما هو له على حد قوله : أقوم إذا الخيل جالوا في كويتها ...
قال تعالى «وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ» معجزة باهرة ظاهرة «قالُوا» لك المشركون(1/477)
ج 1 ، ص : 478
يا سيد الرسل «لَوْ لا اجْتَبَيْتَها» اختلقتها وأنشأتها كما أتيت بغيرها استهزاء وسخرية بك «قُلْ» يا حبيبي أنا لا أفتري شيئا من عندي ، ولا أقدر على إجابة طلبكم إظهار آية ما «إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ» وأتلقاه «مِنْ رَبِّي» دون اقتراح عليه بإنزال الآيات ، إذ ليس لي ذلك أبدا ، وإذا كنتم تفنعون بالآيات وتؤمنون بها فدونكم «هذا» القرآن الذي أنزله علي وبلغتكم إياه فهو أعظم آية وأكبر معجزة وهو «بَصائِرُ» دلائل وحجج وبراهين قاطعة «مِنْ رَبِّكُمْ» تبصركم بصدقي وتنير لكم طرق الحق وتريكم الهدى والرشد لأنها نفسها «هُدىً» لمن أراد الاهتداء لسلوك العناية الإلهية «وَرَحْمَةٌ» من الرحيم ونعمة من المنعم لعباده ومنّة من المنّان «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 203» به ويتبعون رسله ، أما الكافرون فهو لهم ضلال في الدنيا وعذاب في الآخرة لأن هذا القرآن نور لأناس ظلمة لآخرين بآن واحد ، إذ يسمعه اثنان فيكون لأحدهما نور وللآخر همى كما سيأتي في تفسير الآية 44 من فصلت في ج 2 والآيه 11 من الأحقاف أيضا فراجعهما.
مطلب الناس على ثلاث مراتب :
ومن هنا يعلم أن الناس على ثلاث مراتب : فالذين بلغوا غاية علم التوحيد حتى صار لهم كالمشاهدهم أصحاب عين اليقين فهم السابقون المقربون ، فالقرآن في حق هؤلاء بصائر ، والذين بلغوا درجة الاستدلال والنظر هم أصحاب علم اليقين فهم أصحاب اليمين ، فالقرآن في حقهم هدّى ، والذين ليسوا من الطريقين وهم عامة المسلمين فهم أصحاب اليقين وهم المقلدون لأهل العلم الماشون على طريقهم ، فالقرآن في حقهم رحمة والذين دون هؤلاء إذا ماتوا على الإيمان فهم ناجون لأن من زحزح عن النار فقد فاز ، وإلا فالعياذ باللّه هم الخاسرون في الدنيا والآخرة مع إخوانهم الكافرين إخوان الشياطين.
وهكذا كما يتفاوت الناس في العلم والعمل والمكانة في الدنيا يتفاوتون في الآخرة بالمنازل والدرجات في الجنة ، وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات ، وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا البحث في سورة التكاثر المارة.(1/478)
ج 1 ، ص : 479
مطلب وجوب الاستماع والسكوت عند القراءة :
قال تعالى «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ» أيها الناس بتفكر وتدبر وأصفوا له بكليتكم لتفهموا معانيه وتعوا مواعظه «وَأَنْصِتُوا» عند قراءته ليقر في قلوبكم وتلهموا مبانيه لأن الكلام عند سماعه لا يجوز إذ يضيع المغزى المراد منه لذلك أمركم ربكم بالسكوت ، وهذان أمران ظاهرهما الوجوب ، فيكون الاستماع والسكوت واجبين عليكم أيها المؤمنون عند قراءة القرآن بدليل هذه الآية ، وكلمة أنصتوا لم تكرر إلا في الآية 29 من سورة الأحقاف ج 2 ، قال الحسن وأهل الظاهر (إذا قرىء القرآن في أي وقت وموضع يجب على كل واحد الاستماع والسكوت لعموم الأمر ، ولذلك قال عروة ابن الزبير والقاسم بن محمد إن المأموم يقرأ إذا أسرّ الإمام ولا يقرأ إذا جهر وهو رواية عن ابن عمرو ، هذا بالنسبة للتفسير أحسن من رواية من رأى وجوبها في حالتي الإسرار والجهر إذ قال به الأوزاعي وذهب إليه الشافعي رضي اللّه عنه وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ ، وحجتهم أن الآية نزلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية ، ويستدلون بالأخبار الواردة بقراءة الفاتحة ، وأحسن من روايته من رأى عدم القراءة في الحالتين وهو مروي عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي ، وقال الحسن وأبو حنيفة رحمهما اللّه وحجتهم ظاهر هذه الآية لأنه لا يعدل عن الظاهر إلّا بمسوغ أقوى ولا يوجد ، وإن القول الأول هو الحالة الوسطى وخير الأمور أوساطها ، لأن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن ، ودلّت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام ، فحملنا
مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السرّ جمعا بين دلائل الكتاب والسنة ، وإذا أنعم النظر وأمعن الفكر وجد هذا القول أحسن الأقوال ، فاتبعوه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204» باقتضاء ما أمرتم به وابتعاد ما نهيتم عنه ، وإن وجوب الاستماع هو سبب نزول هذه الآية لمناسبة السباق وموافقة السياق ، وقيل نزلت في تحريم الكلام في الصلاة إذ كانوا يتكلمون فيها فمنعوا ، وقيل إنها نزلت في ترك الجهر خلف الإمام إذ كانوا(1/479)
ج 1 ، ص : 480
يجهرون خلفه : ، وهذه روايات وأقاويل بعيدة عن الثبوت ولا شيء يؤيدها ، لأن الصلاة لم تفرض بعد على القول بأن الإسراء وقع في السنة العاشرة من البعثة عند نزول أول سورة الإسراء الآتيه وهو الصحيح ، أما على القول بأن الإسراء كان في السنه الخامسة أو السادسة عند نزول سورة والنجم المارة المنوه بها في بحث الإسراء صراحة فسديد ، ولكن يا للأسف لم نجد ما يؤيده حتى الآن ، وقد ذكرنا ما يتعلق في هذا البحث آخر سورة والنجم فراجعه ، واعلم أن الآية عامة مطلقة في القراءة دون الصلاة مما يطلب الاستماع إليها والإنصات لها ، أما ما روي عن ابن مسعود أنه سمع أناسا يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفقهوا (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) إلخ كما أمركم اللّه فهو لا يؤيد سبب النزول ولا دليل فيه عليه وإنما ينصرف على لزوم الإنصات عند قراءة الإمام وهو واجب بلا شك ، وإذا كان الإنصات دون الصلاة واجب ففيها من باب أولى ، وان ابن مسعود قال هذا القول في حادثة أناس يقرأون مع الإمام في المدينة لا في سبب النزول الكائن في مكة : لأنه لا يعرف تاريخ قوله هذا ليستدل به على النزول فإن في مكة فهو غير صحيح وإن في المدينة لا دليل له عليه ، وأضعف من هذه الأقوال القول بأنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة ، لأن هذه الآية مكية قطعا وإنما وجبت الجمعة في المدينة ، تأمل هذا واعرف مزية هذا التفسير الذي جاء على ترتيب نزول القرآن وعرفك المقدم والمؤخر ، وإلا لغرقت في أقوال ينسيك آخرها أولها ولا رتبكت واحتججت بروايات تضارب إحداها الأخرى فتفحم من غير غلب وتحقر من غير ذنب فتسكت للواقع وأنت محق في المواقع ، فاحمد اللّه.
مطلب في الذكر السري وحالة الخوف والرجاء :
«وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ» سرالا تسمع به غيرك ، وهذا خطاب لخاصة الرسول وعامة المؤمنين ، لأن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع على هذه الصفة لقربها من الإخلاص وبعدها من الرياء ، لا سيما إذا كان الذاكر استحضر في قلبه عظمة المذكور لما فيه من الإشعار بقرب العبد من ربه عز وجل.(1/480)
ج 1 ، ص : 481
وفي هذه الآية إيذان بمقام الرجاء لأن لفظ الرب يشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام ربه عليه وإحسانه إليه يقوى مقام رجائه ، وإذا كان الذكر باللسان فقط عاريا عن حضور القلب كان عديم الفائدة التي هي استشعار عظمة المذكور واستحضاره وتخيلك بين يديه وتصورك بلا كيف وجود عظيم الوجود أمامك وجلاله وكبريائه فوقك.
وبعد أن بين اللّه تعالى مقام الرجاء في صدر هذه الآية أعقبه بالإشارة إلى مقام الخوف فقال وإذا ذكرت ربك فاذكره «تَضَرُّعاً» إليه بإظهار الذل والخضوع وإبداء الاستكانة إلى المذكور «وَخِيفَةً» من هيبته لأنك في حال مخاطبته في حضرته ، ومن عرف عظم المقام وجب أن يكون في حالة خوف ورهبة وخشية لا محالة ، وإذا حصل هذا في قلب الذاكر وكان بين الخوف والرجاء ، قوي إيمانه وتنور قلبه وثبت جنانه فتفجرت منه الحكمة ، فعلى العاقل أن لا يفارق حالة الخوف والرجاء في الشدة والرخاء وأن يصاحبهما في جميع حالاته لا في حالة الذكر فقط ، إلا أنه يستحب له أن يغلب حالة الخوف على الرجاء في حالة الصحة والرفاء ، وحالة الرجاء على الخوف في حالة المرض والاحتياج ، لأن مقام الموت والحاجة مقام رجاء ومقام الصحة والرفاه مقام خوف فى الغالب لأنه لا يدري ما يحل به ويفجأ به.
قال أنس رضي اللّه عنه : دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك ؟ قال : أرجو اللّه يا رسول اللّه وأخاف ذنوبي ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : لا يجتمعان (الخوف والرجاء) في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه اللّه ما يرجو منه وآمنه مما يخاف - أخرجه الترمذي - .
ومن هذه الآية الكريمة أخذ السادة الصوفية بارك اللّه فيهم الذكر السري وجعلوه من أورادهم وهو دليل واضح لهم لا يحتاج إلى تعليل مؤيد لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : خير الذكر الخفي وخير المال ما يكفي - أخرجه أحمد - فمن تقول بعد هذا النص القاطع بأن الذكر الخفي لا أجر فيه لذاكره فقد أخطأ وهو لا أجر له على اجتهاده هذا بل يأثم ، واللّه أعلم إذ لا اجتهاد في مورد النص وإنما يجتهد في المشكلات والمتشابهات مما لا نص قطعي فيها ففي مثلها إذا أخطأ يكون له أجر وإذا أصاب أجران ت (31)(1/481)
ج 1 ، ص : 482
لأن اجتهاده فيما لا نص فيه غاية وسعه ونهاية جهده في بذل فكرته وقدح فطنته أما الأمور الظاهرة كهذه فلا محل للاجتهاد فيها.
هذا ، وقد جاء النص هنا بلفظ الأمر الدال على الوجوب ولا صارف له عن حقيقته فالمعترض عليه غير مصيب ، تنبه ، ثم بين جل شأنه حالة ثانية لذكره جل ذكره فقال «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» أي مقتصدا ، أرفع من الذكر الخفي وأدنى من الجهري لما فيه من رعاية الأدب مع المذكور ، لان ارتفاع الصوت بحضرته غير جائز لما فيه من سوء الأدب ، وهذه الحالة مطلوبة في الصلاة أيضا ، قال تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) الآية 110 من سورة الإسراء الآتية ومطلوبة في الدعاء أيضا قال صلّى اللّه عليه وسلم لأناس يرفعون أصواتهم بالدعاء (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا) ومرغوبة في كل حال قال تعالى (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) الآية الثانية هن سورة الحجرات في ج 3 ، هذا ومن كمال فقه الرجل لزومه هذه الحالة في هذه الأحوال وغيرها ، ومن تأدبه مراعاتها في مخاطبة الناس ولا سيما للعلماء العاملين لأنهم ورثة الأنبياء والمشايخ الكاملين لاقتقائهم آثارهم.
ثم بين جل شأنه أحسن الأوقات لذكره بقوله «بِالْغُدُوِّ» أول النهار بكرة «وَالْآصالِ» آخره عشيا والغدوة من طلوع الفجر أو طلوع الشمس وتمامها من طلوع الشمس إلى الضحوة والآصال جمع أصيل ما بين العصر والمغرب ، فإذا قام الإنسان بذكر ربه في هذين الوقتين ختم نهاره بخير كما بدأه بخير وإذا سلمت الغاية والمغيا فاللّه أكرم بالعفو عما يقع بينهما ، وإنما خص هذين الوقتين لأن الإنسان يقوم صباحا من نومه الذي هو أخو الموت ليتداول عمله نهارا فينبغي له أن يذكر اللّه فيه شكرا على نعمة نومه وافاقته وأنه لم يتوفاه فيه قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية 42 من سورة الزمر في ج 2 ، وكذلك ينبغي له أن نذكره بعد المساء بعد فراغ أشغاله وخاصة عند النوم ليختم يومه بخير شكرا على نعمة إبقائه وراحته من أعماله ، لأنه قد لا يقوم من نومه فيموت على ذكر اللّه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : من كان آخر كلامه(1/482)
ج 1 ، ص : 483
لا إله إلا اللّه دخل الجنة ، ففيه بشارة عظيمة للذاكر فإذا فعل هذا بات مطمئنا قرير العين فمن تلبس بهاتين الحالتين وداوم عليهما كان ناجيا ومن تركهما يخشى عليه الهلاك لذلك ختم اللّه تعالى هذه الآية المشتملة عليهما بقوله عظم قوله «وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ 205» عن الذكر في هذين الوقتين المقربين إلى اللّه فتعتريك الغفلة عن ذكره فتكون بعيدا عنه ، والبعد عنه والعياذ باللّه هلاك ما بعده هلاك لأن مقام الغفلة خطر عظيم ، إذ ربما أن كان الأجل الذي أخبرنا اللّه بإتيانه على بغته ، فإياك أيها العبد أن تغفل عن ذكر ربك الذي سواك فعدلك ولم يجعلك كالبهائم الغافلة عما يراد بها ، ودوام على ذكره في كل الأوقات والأحوال وان فاتك الذكر لأمر ما في هذين الوقتين فاقضه في غيرهما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية 62 من سورة الفرقان الآتية.
ترشد هذه الآية إلى أن من فاته الذكر النهار قضاه ليلا ومن قامه ليلا قضاه نهارا لأن الليل يخلف النهار وبالعكس ، وانظر إلى مدح اللّه عباده الذاكرين في قوله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية 191 من آل عمران في ج 3 وفي قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) الآية 16 من سورة السجدة في ج 2 ، فمن فعل هذا كان قريبا من اللّه وحصل على ملاك الخير في
الدنيا والآخرة ودخل في جملة من مدحهم اللّه وهنيئا لمن كان في عدادهم ثم أخبر اللّه عباده أهل السماء ليقتدوا بهم فقال «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة المقربين مكانة ومنزلة لأقرب مكان ومنزل ، فهم مع علو مراتبهم ورفعة شأنهم وقربهم من ربهم بالزلفى والرقى «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» ولا يلتفتون لغيره بل يتذللون لعظمته ويخضعون لهيبته ، فيؤدون العبادة له حسبما أمروا بها أمام كبريائه لأنهم عبيد طائعون منقادون لسلطانه وقد قال في وصفهم لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (الآية 7 من سورة التحريم ج 3) طوعا واختيارا وحبا بقربهم منه طلبا لمرضاته وليتصف عباده أهل الأرض بصفة عباده أهل السماء «وَيُسَبِّحُونَهُ»(1/483)
ج 1 ، ص : 484
ينزهونه عما لا يليق بجنابه ويقدسونه ويمجدونه بما هو أهله «وَلَهُ يَسْجُدُونَ 206» خضوعا وخشوعا لجلاله ويفوزون بهذه الصفات المحمودة المرضية.
مطلب ما قاله بعض الأكابر في هذه الآية :
قال بعض الأكابر إن قوله واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية إشارة إلى أعلى المراتب وهي صفة الواصلين المشاهدين ، وقوله سبحانه (ودون الجهر) رمز إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة وقوله جل قوله (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ايماء إلى مرتبة النازلين من السالكين وقال مشيرا إلى كلمة (خيفة) :
أشتاقه فإذا بدا اطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله
وقوله عز قوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم المقربون من الملائكة والمفنون أنفسهم به من البشر الباقون به سبحانه وهم أرباب الاستقامة أهل المقام العظيم (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لعدم احتجابهم بالأنانية وانمحاقهم بالكيفية والكمية (ويسبحونه) بنفيها (وله يسجدون) بالفناء التام وطمس البقية الباقية من مهجهم ، وهذه السجدة من عزائم السجود واجبة على القارئ والمستمع كما نوهنا به آخر سورة والنجم المارة وقد بينا فيها وفي سورة العلق كيفية السجود وما يقرأ فيه بصورة مفصلة.
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يقرأ القرآن فقرأ سورة فيها سجدة فسجد وسجدنا معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت الصلاة.
وروى مسلم عن ابي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم في السجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأببت فلي النار.
ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة ، هذا ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.(1/484)
ج 1 ، ص : 485
بيان المطالب المشتمل عليها هذا الجزء
الصفحة الموضوع 3 خطبة الكتاب 6 المطلب الأول في بيان فن التفسير وما يتفرع عنه 7» الثاني في بيان ما يحتاجه المفسر وما يتفرع عنه 9» الثالث في بيان الحاجة إلى التفسير وما يتفرع عنه 10» الرابع في بيان أحوال المفسرين والأصول المتبعة فيه 14» الخامس في التفسير والتأويل والنهي عن القول بالرأي وما يتفرع عنه 16» السادس في فضل القرآن وحفظه والسفر به وتهديد من ينساه 19» السابع في التشريع في نهج القرآن ومقاصده ومميزاته مكية ومدنية 23» الثامن كيفية نزوله وترتيب سوره وآياته وما كلف اللّه به عباده 28» التاسع في جمعه ونسخه وكون ترتيبه توقيفيا 29 مطلب توزيع نسخ القرآن وأمر الناس بقراءتها 33 المطلب العاشر في الناسخ والمنسوخ والقراءات ومعنى أنزل على سبعة أحرف وتنوعاتها 41 حكاية واقعة ، ومن الإنصاف التسليم للسادة الصوفية العارفين 43 المطلب الحادي عشر وخلق القرآن ونسبته للكتب وصدق النبوة وأسس الدين 50 المطلب الثاني عشر في كيفية نزول الوحي وأوله ومعناه والرؤيا الصادقة 57 الخاتمة نسأل اللّه حسنها ومتى يكون الأمر واجبا والبسملة واختصاصها 62 الفرق بين الحمد والشكر وفضلهما ومتى يطلبان 64 مطلب عادة اللّه تعالى في إصلاح الكون عند خرابه 66 تفسير سورة العلق ومعنى العلق وفضل الإنسان والحكم الشرعي في سجود التلاوة 75 تفسير سورة القلم وأحاديث قيمة وأخلاق الرسول وغيرها 85 مطلب معنى الساق 86 النسخ لا يدخل الأخبار والوعد والوعيد.
ومعنى الكيد والمكر ونحوه وإصابة العين 90 تفسير سورة المزمل وما يجب على القارئ عند التلاوة وصفة الوحي وحالاته(1/485)
ج 1 ، ص : 486
95 أخوف آية في القرآن والصعق عند السادة الصوفية وحديث بعث النار 99 تخفيف قيام الليل وفضل الكسب وتاريخ فرض الصلاة والزكاة 102 تفسير سورة المدثر وأول سورة بعد فترة الوحي وما نزل في الوليد بن المغيرة 109 مطلب الحواس الباطنة والظاهرة والإخبار بالغيب والشفاعة والمحروم منها 114 تفسير سورة الفاتحة وما يتعلق بها والعلوم المشتملة عليها والحكم الشرعي فيها 120 تفسير سورة المسد سبب نزولها فطنة المعري وقول أم جميل وما قيل فيها 125 أول من سنّ الوأد وحكم الاستمناء باليد والعلاج لمنع الحمل وعلامات الساعة 131 تفسير سورة الأعلى 132 عصمة النبي من النسيان 136 مطلب ما في صحف ابراهيم وموسى والحكم الشرعي في العيد 138 تفسير سورة والليل وأنواع الخلق ، قوة إيمان بلال ، أبو بكر وابنه 142 تفسير سورة والفجر ، قصة ما شطة بنت فرعون ، آيات الصفات 152 تفسير سورة الضحى سبب نزولها وبشارة اللّه لحبيبه ، هداية الرسول ومعاملة اليتيم 157 عدم رد السائل 159 مطلب الشكر للّه ولخلقه وما تفرع عنهما 160 تفسير سورة الانشراح كيفية شرح صدره صلّى اللّه عليه وسلم وعدد انشراحه 163 تفسير سورة والعصر 165 تفسير سورة العاديات ، ووصف الخيل 168 تفسير سورة الكوثر 170 تفسير سورة التكاثر 172 تفسير سورة الماعون 174 تفسير سورة الكافرون 175 فائدة تكرار الآيات 176 تفسير سورة الفيل وآداب العارفين وقصة الفيل 181 مطلب في رمي الجمار بمنى 181 تفسير سورة الفلق 182 مطلب في الحسد والتعاويذ(1/486)
ج 1 ، ص : 487
183 تفسير سورة الناس 188 تفسير سورة الإخلاص 190 تفسير سورة والنجم 191 صفة جبريل ومعنى قاب قوسين 193 في زمن الإسراء والمعراج والرؤية 199 الآية المدنية والكبائر والصغائر 204 مطلب في الغيب وأنه قسمان 206 الكرامة ومصدرها والشعرى ومن يعبدها 209 مطلب في السجود وقصة الغرانيق 213 تفسير سورة عبس ومن هو الأعمى 218 تفسير سورة القدر 221 تفسير سورة والشمس 224 تفسير سورة البروج 226 مطلب قصة أصحاب الأخدود 229 تفسير سورة والتين 232 تفسير سورة قريش.
من هم قريش ومن خصهم بالعهد 234 تفسير سورة القارعة 237 تفسير سورة القيامة.
تفقد حال الإنسان 243 رؤية اللّه في الآخرة 247 تفسير سورة الهمزة وبيان أن الكهرباء من الخوارق 250 تفسير سورة المرسلات 254 مواقف القيامة في هذه الآية المدنية 256 تفسير سورة ق 266 الآية المدنية وخلق السموات والأرض والتسبيح 270 تفسير سورة البلد 273 الحكمة الشرعية من الصدقات 274 تفسير سورة الطارق 478 تفسير سورة القمر ومعجزة انشقاق القمر 286 أربعاء صفر وعيادة المريض 292 الآيات المدنية وحكم ما تأخر حكمه عن نزوله 293 في القدر وما يتعلق فيه 297 تفسير سورة ص والآيات السبع 305 قصة داود عليه السلام وسجود أبي بكر 308 الحكم الشرعي في الإلهام 312 رد الشمس لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم 313 قصة سليمان عليه السلام وصلاة الأوابين 318 مطلب التخفيف وكفارة اليمين بحيلة في محله الملائم 327 تفسير
سورة الأعراف 330 وزن الأعمال وحديث البطاقة 332 مقاييس إبليس 333 مناظرة إبليس وقول سيف الدولة 337 الحكم الشرعي في كشف العورة وزلة آدم عليه السلام 340 تواصي اللّه لخلقه والتزين للصلاة وغيرها 344 في ذم الشبع والأكل المسنون وبعض وصايا اللّه لعباده فيه 347 مطلب معنى الإثم والبغي(1/487)
ج 1 ، ص : 488
349 الساعة بقسميها 352 مواقف القيامة وإمكان القدرة 355 خطأء قول القدرية 357 أصحاب الأعراف 361 السموات والأرض والعرش وآيات الصفات 363 التناكح المعنوي 364 آداب الدعاء والقراءة 366 الرحمة واكتساب التأنيث والتذكير والمطر 368 قصة نوح عليه السلام 372 قصة هود عليه السلام 378 قصة صالح عليه السلام 379 قصة لوط عليه السلام 381 رد أبي يوسف على المعتزلي 383 في عمى.
شعيب عليه السلام 387 قصة شعيب عليه السلام 391 تفاوت حروف الجر ...
وألقاب الملوك 393 معجزة موسى عليه السلام 397 ما بين موسى عليه السلام والسحرة 404 ما أوقع اللّه بفرعون من الآيات 409 جواب اللّه ورسوله عما يقال 411 ما جاء في مدح الشام 416 ميقات موسى عليه السلام 419 أعمال الكفرة ورؤية موسى ربه 421 إشارات القوم في الرؤية 421 الصعق وتحريم النظر في كتب القوم لغيرهم 424 أصوات الحيوانات وقصة العجل 430 عظيم عفو اللّه وتكسير الألواح 431 الميقات الثاني لموسى عليه السلام 434 التخفيف على الأمة المحمدية 436 صفة الرسول في الكتب القديمة 438 إثبات عمومة رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم 438 ما خص به محمد صلّى اللّه عليه وسلم 441 أسباب تشريد بني إسرائيل والآية المدنية 443 الرضى بالمعصية معصية 445 في خزي اليهود ورفع عيسى عليه السلام 450 كيفية أخذ العهد على الذرية 453 قصة بلعام بن باعوراء وسببها 457 قصة أمية بن الصلت 458 قصة النعمان والبسوس 461 أسماء اللّه الحسنى 464 في الساعة.
معنى أحفوا الشارب الحديث 464 أدب التعبير وحمل حواء 467 مكارم الأخلاق التي أمر بها الرسول صلّى اللّه عليه وسلم 474 النسخ والنزغ 475 الناس على ثلاث مراتب 478 وجوب الاستماع والسكوت عند القرآن والذكر السري وحالة الخوف والرجف 484 ما قاله بعض الأكابر في هذه الآية الأخيرة من الأعراف(1/488)
ج 2 ، ص : 3
[الجزء الثاني ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تفسير سورة الجن
عدد 40 - 72
نزلت في مكة بعد الأعراف ، وهي ثمان وعشرون آية ، ومائتان وخمس وثمانون كلمة ، وثمانمائة وسبعون حرفا ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها ، ومثلها في عدد الآي سورة نوح ، وبينا السور المبدوءة بكلمة قل وما يتعلق فيها في سورة الكافرين فراجعها.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لقومك وغيرهم من الإنس والجن والملائكة «أُوحِيَ» اليوم «إِلَيَّ» من ربي «أَنَّهُ اسْتَمَعَ» قراءة القرآن بدلالة ذكره بعده وهذا مما حسن حذفه «نَفَرٌ» قال في المجمل النفر والرهط يستعمل إلى الأربعين ، وقد وهم الحريري بقوله إنه يطلق على ما فوق العشرة وغلط غيره القائل بأنه ما بين الثلاثة إلى العشرة ، واعلم أنه لا يختص بالرجال ولا بالناس كما قاله الآخرون لإطلاقه هنا على الجن ، والفرق بينه وبين الرهط بأن الرهط يرجعون لأب واحد والنفر لآباء متفرقين ، وهما اسما جمع لا واحد له من لفظه «مِنَ الْجِنِّ» وهم فصيلة على حدة قال تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ (مِنْ قَبْلُ) مِنْ نارِ السَّمُومِ) الآية 28 من سور الحجر في ج 2 ، وقد نسب إبليس عليه اللعنة إلى هذه الفصيلة بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 52 من سورة الكهف في ج 2 أيضا.
هذا ، وقد أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يظهر لأصحابه رضوان اللّه عليهم واقعة الجن هذه معه ويطلعهم عليها ، ليعلموا عموم رسالته ، وأنه كما هو مبعوث إلى الإنس مبعوث إلى الجن أيضا ، ولتعلم قريش بأسرها هذا وتحدث به غيرها ، وليفطنوا أن الجن مع تمردهم وعتوهم لما سمعوا القرآن(2/3)
ج 2 ، ص : 4
يتلى من قبله عرفوا أنه قول معجز لجميع الخلق وأنه لا يكون إلا من اللّه جل شأنه ، فآمنوا به ، وإعلام لقريش وغيرهم بأن المؤمن من الجن يدعو غيره للايمان لشدة تأثيره في قلبه ، عكس كفرة مكة وغيرهم من المشركين فإنهم يعرضون عن سماعه ويصرفون غيرهم عن الإيمان به ، وينفّرونهم من سماعه لإيذاء حضرة الرسول قصد تكذيبه ، وهو الصادق المصدوق الأمين المؤتمن.
وخلاصة ما جاء في هذه القصة هو ما رواه محمد بن اسحق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرفي قال : لما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف ، جلس لأشرافهم ودعاهم إلى اللّه والإيمان به بالقول والفعل ، وأعلمهم بأنه رسوله إليهم كما هو لغيرهم ، فلم يرد اللّه بهم خيرا ، وذلك في بدء السنة العاشرة من البعثة ، فأغروا به السفهاء والعبيد وآذوه بالقول والفعل ، ولما أيس منهم صلى اللّه عليه وسلم رجع حتى كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جنّ نصيبين (سبعة أو تسعة لم يثبت عددهم على الحقيقة والآية عامة والنفر يطلق على الواحد حتى الأربعين كما مر بك) كانوا قاصدين اليمن حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب أكثر من ذي قبل احتراما لمبعث الرسول ومعجزة له وإكراما ، فاستمعوا لقراءته حتي فرغ من صلاته ، فآمنوا به صلى اللّه عليه وسلم إجابة لما سمعوه من القرآن.
وقال قتادة ذكر لنا ابن مسعود حين قدم الكوفة فرأى شيوخا شمطا من الزط فأفزعوه حين رآهم ، قال أظهروا فقيل له إن هؤلاء قوم من الزط.
فقال ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة الجن ، وفى رواية أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد اللّه بن مسعود ، قال ولم يحضر معه أحد غيره ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه ، وقال لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثل النسور تهوي ، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورأيت غبشة أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته ، (2/4)
ج 2 ، ص : 5
ثم طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، ففرغ رسول اللّه منهم مع الفجر ، فانطلق إليّ فقال تمت ؟ قلت لا واللّه يا رسول اللّه ، لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول لهم اجلسوا ، فقال لو خرجت (من خطتك) لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال : هل رأيت شيئا ؟ قلت نعم رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض ، قال أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة ، قالوا يا رسول اللّه يقذرها الناس علينا (فنهى صلى اللّه عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث) فقلت يا رسول اللّه سمعت لغطا شديدا فقال إن الجن قد تدارأت (أي اختلفت فيما بينها وتدافعت في الخصومة) في قتيل قتل بينهم ، فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق (هذا ينافي قول من قال إنه صلّى اللّه عليه وسلم ما عرف ما ذا قال الجن وأي شيء فعلوا) بل تفيد أنه صلى اللّه عليه وسلم فهم منهم وأفهمهم ، وإلا لما جاز أن يقضي بينهم ، لأن القضاء لا يجوز إلا بعد معرفة قول المدعي والمدعى عليه ، ولا يكون إلا بالإقرار أو البينة أو الحلف ، وينافي القول أيضا بأنه لم ير الجن ، فإذا كان ابن مسعود وهو محجّر عليه بعيد عنهم وآهم ، فكيف به صلى اللّه عليه وسلم وقد أحاطوا به كالهالة في القمر ؟ أما إذا قيل إنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يرهم على صورتهم التي خلقوا عليها فيجوز ، لأنهم يتكيفون بصور مختلفة وهيئات متباينة ، وقد جاء أنه صلّى اللّه عليه وسلم رآهم.
بصفة الإنس كما مر في قول ابن مسعود رضي اللّه عنه ، وكذلك كان يرى الملك بصورة دحية كما مرّ في بحث الوحي في المقدمة ، قال ثم تبرز صلى اللّه عليه وسلم وأتاني فقال هل معك ماء ؟ قلت يا رسول اللّه معي أداوة (إناء فيه ماء كالجود للمسافر) فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاني فصببت على يده فتوضأ وقال ثمرة طيبة وماء طهور.
هذا ، وقد ضعف هذا الحديث جماعة كما ذكره البيهقي في كتابه (الخلافيات) بأسانيد وأجاب عنها كلها ، والذي صح عن علقمة قال : قلت لابن مسعود وهل صحب النبي صلى اللّه عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ قال ما صحبه منا أحد (فمن هنا ظهر ضعف حديث التوضؤ بنبيذ التمر إذ يقول فيه إن ابن مسعود
صحب النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقط بعد أن قال ما قال ، وهنا يقول هو نفسه ما صحبه منا(2/5)
ج 2 ، ص : 6
أحد اللهم الا أن يريد ما صحبه غيره ، تدبر.
على أن ابن تيمية قال إن ابن عباس علم مادل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وابو هريرة من إتيان الجن له صلّى اللّه عليه وسلم ومكالمتهم إياه ، وواقعة الجن هذه كانت قبل الهجرة بأكثر من ثلاث سنين قال الواقدي إنها وقعت سنة إحدى عشرة من النبوة ، والصحيح ما ذكره البرزنجي أنها في العاشرة ، لأنها قبل الإسراء ، والإسراء وقع في العاشرة ، فلا يصح أن تكون حادثة الجن بعده لأنها قبله على الصحيح.
وقالوا إن قصة الجن وقعت مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ست مرات) رجوع إلى قول ابن مسعود : وقال ولكنا كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ذات ليلة فقصدناه فالتمسناه في الأودية والشعبات فقلنا استطير أو اغتيل ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول اللّه فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا شر ليلة يأت بها قوم ، قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ، قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار منازلهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون عليه لحما وكل بعرة علفا لدوابكم.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فانهما طعام إخوانكم الجن.
زاد في رواية : قال الشعبي وكانوا من جن الجزيرة - أخرجه مسلم في صحيحه. -
مطلب رواية الجن ورمي النجوم :
هذا وإن في الحديث الأول إثبات رؤية الجن له صلى اللّه عليه وسلم وفي هذا الحديث أيضا ، إلا أن ابن عباس أنكرها فيما رواه عنه البخاري ومسلم قال ابن عباس ما قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، ولكن انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا ما لكم ، قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب! قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث ، فأضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن(2/6)
ج 2 ، ص : 7
استمعوا اليه وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم (فَقالُوا يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فأنزل اللّه على نبيه (قُلْ أُوحِيَ) إلخ ، زاد في رواية : وإنما أوحي اليه قول الجن - أخرجاه في الصحيحين - قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس : هذا معناه لم يقصدهم بالقراءة بل لما تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين خبر السماء ، أي استراق السمع صادف هؤلاء النفر رسول اللّه يصلي بأصحابه ، وعلى هذا فهو صلّى اللّه عليه وسلم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه اللّه عز وجل بما أوحى اليه من قوله قل أوحي إلخ ، وإنما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجنّ آخرون ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 29 من سورة الأحقاف في ج 2 والحاصل من الكتاب والسنة أن الجن موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على ما يليق بحقهم وحالهم ، وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كما هو رسول إلى الإنس رسول إلى الجن ، فمن آمن به فهو مع المؤمنين في الدنيا والآخرة والجنة ، ومن كفر به فهو مع الشياطين والكافرين المبعدين المعذبين في جهنم ، وانه صلّى اللّه عليه وسلم وآهم رؤية بصرية لا بصورتهم الحقيقية كما في هذه الأحاديث وفيما أوردناه في تفسير الآية (200) من الأعراف المارة - في الجزء الاول - وفي لآية 25 من سورة ص المارة أيضا.
ويفهم من هذا الحديث أن الرجم بالنجوم لم يكن قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم على أن الزهري روى عن علي بن الحسن رضي اللّه عنهما عن ابن عباس قال بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ؟ قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم ، وروى عن معمر قال قلت المزهري أكان الرمي بالنجوم في الجاهلية ؟ قال نعم قلت رأيت قوله تعالى (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) الآية الآتية ، قال غلّفت وشدد أمرها حين بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال ابن ابن قتيبة مثله ، وبهذا ارتفع التعارض بين الحديثين ويظهر من هذا كله أن الجن موجودون وأن النبي رآهم وأنهم مكلفون مثل البشر ، وأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم مرسل إليهم وأن رميهم بالشهب كان قبلا وزاد بمبعثه ، وان الاعتقاد بذلك كله واجب(2/7)
ج 2 ، ص : 8
وأن العرب كانت تعرف الرمي قبل الإسلام لوجود ذكره في أشعارهم في الجاهلية قال بشر ابن أبي حازم :
والعير يرهقها الغبار وجحشها ينقض خلفها انقضاض الكوكب
وقال اويس بن حجر :
وانقض كالدري يتبعه نقع يثور تخاله طينا
وقال عوف بن الجزع يصف فرسا :
يرد علينا العير من دون الفه أو الثور كالدري يتبعه الدم
فهؤلاء جاهليون لا مخضرم فيهم فلو لم تكن قبلا لما نطق بها هؤلاء أما ماهية الجنّ فمختلف فيها ، فمنهم من قال إن الجن جسم هوائي يتشكل بأشكال مختلفة ، ومنهم من قال انها جواهر ليست بأجسام ولا أعراض وتختلف ماهيتها بعضها عن بعض ، فمنها خيّرة كريمة محبة للخيرات ، ومنها خسيسة دنيئة شريرة ولعة بالقبائح والآفات ، ومنهم من قال إنهم حاصلون في الحيّز موصوفون بالطول والعرض والعمق ، فمنهم اللطيف ومنهم ، الكثيف ، والعلوي والسفلي ، ولا يمنع من هذا أن يكون لهم علم مخصوص وقدرة مخصوصة على الأفعال العجيبة التي يعجز عنها البشر كما أشار اليه في سورة ص الآية 27 المارة ، وما سيأتي في الآيتين 16/ 39 من سورة النمل ، والآيتين 11/ 12 من سورة سبأ والآية 82 من الأنبياء في ج 2 ، وغيرها مما نورده في محله إن شاء اللّه ، وذلك بإقدار اللّه إياهم ، فمن أنكر شيئا مما تقوم فهو على غير طريقة أهل السنة والجماعة ، وإنّ ما أجمعوا عليه في هذا الشأن مستند للكتاب والسنة كما علمت ، وان ما تمسّك به المنكرون من أنه لا بدّ من صلابة البنية حتى تكون النفس المتلبسة بها قادرة على الأفعال الشاقة وأن البنية شرط للحياة ولا حياة بلا بنية ، كلها أقوال واهية استدرجوا بها لإنكار وجود الجنّ ولم يعلموا أن انكارهم إنكار للقرآن إن كانوا مسلمين وللتوراة والإنجيل ان كانوا يهودا أو نصارى ، وهو كفر بحت والعياذ باللّه ، لأن القادر على خلقهم قادر أن يضع فيهم صلابة بالبنية وحياة فيها ، وقدرة على الأفعال(2/8)
ج 2 ، ص : 9
الشاقة وغيرها ، على أن هناك جمعا عظيما من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات اعترفوا بوجودهم وسموهم بالأرواح السفلية ، وزعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية ، هذا وقد اختلف العلماء فيما سمعوه من القرآن أيضا قيل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وقيل غيرها ، إلا أن ما قيل إنه سورة الرحمن لا يصحّ لأنها نزلت بالمدينة وقضية الجنّ في مكة بلا خلاف ، وما رواه جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا ، فقال لقد قرأتها ليلة الجن على الجن فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب ، فلك الحمد ، أخرجه الترمذي وقال حديث غريب ، وفي رواية كانوا أحسن منكم ردا فإنه أي هذا الحديث على فرض صحته عبارة عن حكاية ذكرها لأصحابه حضرة الرسول لا يعلم تاريخها فلا يصح الاستدلال بها لاحتمال وقوعها في المدينة وهو الأقرب للمعقول ، لأن الرسول اجتمع كثيرا مع الجن وقد ذكرنا آنفا انه اجتمع معهم ست مرات ، وأنت خبير بأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أبطل الاستدلال به ، تأمل هذا : واعلم أن القرآن ذكر حادثتين في استماع الجن في هذه السورة وفي الآية 39 فما بعدها من سورة الأحقاف في ج 2 ، وأن اللّه قصّها علينا بواسطة رسوله على طريق الحكاية ، ولا يبعد أن حضرة الرسول قرأ عليهم غيرها في مكة أو المدينة بعد أن ذكروا أن الاجتماع بهم كان ست مرات ، قال تعالى حاكيا ما قاله الجن عند سماعهم قراءة رسوله «فَقالُوا» بعضهم لبعض «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» 1 ما سمعنا مثله ، بديعا في حسن نظمه ، بالغا في صحة معانيه ، لطيفا في تركيب مبانيه ، مباينا لكلام البشر ، وجدير أن يتعجب منه لأنه «يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» الحق والصواب والعدل والسداد ، يقرأ
بسكون الشين وضمها وبفتح الراء والشين وضمها «فَآمَنَّا بِهِ» لما سمعناه إذ تحقق لدينا أنه كلام اللّه ، وأن البشر يعجز عن مثله ، وإنا رجعنا عن الإشراك بمنزل هذا القرآن «وَلَنْ نُشْرِكَ» من الآن فصاعدا «بِرَبِّنا أَحَداً» 2(2/9)
ج 2 ، ص : 10
ولا شيئا من كافة الأوثان ، وتدل هذه الآية على أن هؤلاء الجن كانوا مشركين ، لذلك تبرأوا من الشرك ونزهوا ربهم عما يقوله الظالمون من اتخاذ الصاحبة والولد بقولهم «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» 3 كما يزعمه المشركون ، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس والمعونة ، واللّه منزه عن ذلك كله.
قال أنس : كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم.
ويطلق الجد على الغني ، منه قوله صلى اللّه عليه وسلم
:
ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا» إبليس عليه اللعنة لتعريفه بالإضافة إليهم ، وقيل إن الضمير في سفيهنا يعود إلى المردة منهم ، فتكون الإضافة للجنس ، وهو بعيد لأن الظاهر يأباه «عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» 4 كذبا تجاوزا عليه عدوانا وكفرا إذ تبين لنا كذب قوله من إسناد الشريك والصاحبة والولد إليه تعالى عن ذلك «وَأَنَّا ظَنَنَّا» قبل أن نسمع هذا القرآن من الرسول محمد «أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» 5 لأنهم يقولون لنا ذلك ويؤكدون أقوالهم بالإيمان بأن للّه ولدا وصاحبة وشريكا ، وكنا نصدق لأنا لا نعرف أن أحدا يحلف باللّه كاذبا ، وقد ظهر لنا الآن أنه منزه عن ذلك كله ، وأنهم كانوا يكذبون علينا وعلى خالقهم جل شأنه «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ» وذلك أن الجاهلية كانوا اعتادوا إذا أمسى أحدهم في أرض قفر يقولون إنا نعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيقول عظماء الجن سدنا الإنس أيضا.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي السائد الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذاك أول ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي فقال يا عامر الوادي جارك ، فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله ، فإذا الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة ، فأنزل اللّه على رسوله بمكة هذه الآية «فَزادُوهُمْ رَهَقاً» 6 الرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم.
قال الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها لا يشتفي رامق ما لم يصب رهقا(2/10)
ج 2 ، ص : 11
والمعنى أن الإنس زادوا الجن طغيانا وسفها وكبرياء بسبب استعاذتهم بهم «وَأَنَّهُمْ» كفرة الجن وسفهاؤهم «ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ» يا معشر الكفار من الإنس ، هذا على عود الضمير في أنهم وفي ظنوا للجن ، وضمير ظننتم للإنس ، وهو أولى من عود الأولين للإنس والثالث للجن مراعاة للسياق ، أي أن كفار الجن كالإنس كانوا تيقنوا قبل سماعهم القرآن «أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» 7 بعد موته ، أي أنهم كانوا ينكرون بالبعث أيضا مثل الكفرة من الإنس وأنهم اهتدوا ورجعوا عما كانوا عليه حال سماعهم القرآن ، فما بالكم يا كفار قريش لم تؤمنوا وقد سمعتم كثيرا من كلام اللّه ، أما آن لكم أن تكونوا مثلهم فتؤمنوا بالبعث بعد الموت وتتركوا الإشراك باللّه وتفردوا ربكم الإله الواحد بالربوبية وبكل ما تأملونه من خير الدنيا والآخرة ؟ ألم تساووا الجن بالإيمان بالرسول وما جاء به من عند اللّه ؟
قال تعالى حكاية عنهم أيضا «وَأَنَّا لَمَسْنَا» وجسسنا «السَّماءَ» طلبا لبلوغها واستماع كلام من فيها كما كانت العادة قبلا «فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً» من الملائكة أكثر من ذي قبل بأضعاف كثيرة جدا «وَشُهُباً» 8 تنقض من نجومها المضيئة علينا بكثرة أيضا خلافا لما كانت عليه قبلا «وَأَنَّا كُنَّا» قبل مبعث النبي محمد «نَقْعُدُ مِنْها» أي السماء «مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ» فنسترق ما يقع فيها من بعض القول حيث كنا نجد أمكنه في السماء خالية من الحرص وبعض المواقع منها عارية من الشهب ، أما الآن فكلها ملأى من الحرس والشهب بكثرة لم تعهدها قبل ، لذلك ماعدنا نقعد فيها خوفا أن نحترق «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ» بعد مبعث حضرة الرسول وإلى ما شاء اللّه «يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» 9 يرمى به حالا فكان الشهب تترصد من يطلب الاستماع في السماء فترميه حالا وتحرقه.
قال ابن عباس كانت الجن تصعد إلى السماء لتستمع الوحي ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعا فيحدثون ويبلغونها إلى الكهنة ، فلما بعث صلى اللّه عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ، ولهذا كانت الناس تتهافت على الكهنة تهافت الفراش على النار فيعظمونهم ويحترمونهم ويسألونهم عن مصالحهم الحاضرة والمستقبلة ، لأنهم قد يصدقون لأن ما يلقيه الجن(2/11)
ج 2 ، ص : 12
إليهم من الكلام إذا صادف الحادثة تناقلها الناس بأن الكاهن أخبر بالغيب ، فيعكفون عليه ويأخذ الشهرة بسببها ، فإذا زاد عليها تسع كذبات يسمع منه ويصدق به أيضا من أجل صدقه في تلك ، فيكونون قد ضلوا وأضلوا (وقد ذكرنا آنفا أن رمي النجوم بالشهب قديما وإنما زاد بمبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم) فقال لهم إبليس ما هذا من أمر قد حدث في الأرض ، فبعث جنوده يتحرون الخبر ، فوجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين (أراه قال بمكة) فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض ، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وتقدم ما بمعناه بأوضح منه «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ» حتى حرست السماء ورميت بالشهب ومنعنا من استراق السمع وحرمنا من أخبارها التي تلقيها الكهنة ليفيضوها على العامة «أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» 10 من خير ورحمة وهدى
«وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ» في معاملتهم بعضهم مع بعض وسائر الخلق لا يريدون إلا الخير «وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ» يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا مع أنفسهم وغيرهم لانا «كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» 11 جماعات متفرقين وأصنافا متقطعين مسلمين كاملين ومسلمين فاسقين وآخرين كافرين مثل الإنس الآن ، إذ منهم المؤمن والكافر والفاسق وبين ذلك ، كالنصيرية والدروز والإسماعيلية والعلوية والرافضة والقدرية والمرجئة والكرامية والدهرية وغيرهم ، فرقا متباينة بالأخلاق والعادات والتدين «وَأَنَّا ظَنَنَّا» تحققنا وأيقنا ، وهكذا كلّ ظن في القرآن يكون معناه اليقين «أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ» إذا فررنا في أقطارها فإنا نكون في قبضة متى أراد «وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» 12 إلى آفاق السماء ولانا تحققنا أنه قادر علينا أينما كنا لانفلت من قبضته ولا مقر لنا منه أبدا كيف وهو جل جلاله يقول (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الآية 66 من سورة الزمر في ج 2 هذا «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى » من حضرة الرسول «آمَنَّا بِهِ» أي القرآن الذي قرأه علينا المعبر عنه بالهدى جزمنا بأنه من اللّه وآمنا به وبمن أنزله عليه المرسل لهداية الخلق إنسهم وجنهم(2/12)
ج 2 ، ص : 13
«فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ» بعد أن رأى أن الإيمان به واجب حق ايمانا كاملا «فَلا يَخافُ بَخْساً» نقصا في عمله وفي ثوابه «وَلا رَهَقاً» 13 يغشاه من إثم ومذلة أو مكروه مطلقا ، أنظروا أيها الناس جنّا آمنت بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لأول وهلة رأته وسمعت منه دون حاجة أتردد ، فكر ، وإنسا تتلى عليهم آيات اللّه منه ليل نهار ، وهو معروف عندهم في صدقه وأمانته ونسبه ولم يؤمنوا ، صدق اللّه (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الآية 17 من سورة الكهف في ج 2 «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ» الجائرون من أسماء الأضداد ، إذ يأتي بمعنى العادلين المستقيمين على الحق والعادلين عنه والعادل من الأضداد أيضا لأنه بمعنى المائلين عنه ، والمائلون من الأضداد أيضا لأنه يقال مال إلى الحق ومال عنه ، واعلم بأن قسط بمعنى جار فحسب ، وأقسط بمعنى جار وعدل ، ولا يقال اعدل في الحكم بل عدل به ، ويحتمل المعنيين «فَمَنْ أَسْلَمَ» نفسه إلى ربه وآمن بما جاء به رسوله وسلم الناس من لسانه ويده «فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» 14 طلبوا لأنفسهم الهدى والصواب ، لأن من يجتهد طلبا للحق يو.
مطلب فتح أن وكسرها في هذه السورة :
هذا ، وقد اختلف القراء في فتح أن وكسرها من أول السورة إلى هنا عدا التي بعد القول إذ لا قول فيها ، فقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الهمزة ، ووافقهم أبو جعفر في ثلاث منها وهي : 1 - وأنه تعالى ، 2 - وأنه كان يقول ، 3 - وأنه كان رجال.
واتفقوا على الفتح في أنه استمع ، وأن المساجد للّه ، لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحي للنبيّ خاصة ، وقالوا يصح بالبواقي الفتح والكسر ، فوجه الكسر بالعطف على إنا التي هي بعد قالوا من عطف الجمل ، ووجه الفتح على المفعولية.
ومن المعلوم أن(2/13)
ج 2 ، ص : 14
ان تفتح في عشرة مواضع وتكسر في عشرة أيضا ، فراجعها في كتب النحو وأوضحها مغني اللبيب.
واعلم أنه لا دليل في هذه الآية لمن لا يرى ثوابا للجن ، وذلك لأن اللّه تعالى ذكر هنا عقابهم على عدم الإيمان وسكت عن ثوابهم إذا آمنوا ، لأن اللّه تعالى قال : (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) وهذا كاف لثبوت الثواب لذكر سببه وهو تحري الرشد ، وإذا وجد السبب يوجد المسبب واللّه أكرم من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد ، بل من مقتضى عدله إثابته ، لأن الرشد لا يأتي إلا بخير والخير ثوابه الجنة.
أما قوله فإنهم خلقوا من النار ، والنار لا تكون عذابا لمن خلق منها كالسمندل مثلا فإنه يرى نفسه منعما فيها لأنه يبيض ويفرّخ فيها كالبخ في الثلج والسمك في الماء والطير في الهواء ، سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى كلا لما خلق له وحبّبه فيه ، فبغير محله لأنهم بعد ما آمنوا واستحقوا الجنة ، فقد تغيروا من تلك الهيئة وصاروا خلقا آخر ، فتكون النار عذابا لكافرهم الذي لم يتبدل خلقه ليذوق ألمها ، والجنة ثوابا لمؤمنهم الذي تبدل خلقه ليذوق نعيمها ، على أن اللّه قادر على أن يعذب النار بنار أشد منها إذا فرض بقاؤهم على هيئتهم الأولى ، وبعد أن بين اللّه من أول السورة إلى هنا ثلاث عشرة حقيقة على لسان الجن شرع جل شرعه بيان الحقائق التي يجب أن يحاط بها علما وهي سبع من هذه الآية لآخر السورة ، وقد قسم فيها العباد على ثلاثة : مسلم ومؤمن وقاسط ، تدبر.
قال تعالى «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ» المستقيمة ملّة الإسلام وأن هنا مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان وضمير استقاموا يعود إلى الإنس والجن معا ، وقرأ الأعمش بضم واو لو ، أي والحال والشان لو استقاموا «لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» 16 كثيرا فوسعنا عليهم أرزاقهم التي أصلها من الماء قال تعالى :
(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية 30 من سورة الأنبياء في ج 2 ، وقال بعض المفسرين إن هذه الآية خوطب بها أهل مكة على طريق الالتفات بعد أن أتم الخبر عن الجن أي لو استقام أهل مكة على الطريقة السمحة المعروفة طريق الحق والإيمان والهدى والرشد لأكثرنا عليهم الماء الذي هو أصل معاشهم وفي كثرته تكثير(2/14)
ج 2 ، ص : 15
الخيرات التي هي أصل سعة الرزق ، والأول أولى نظرا للسّياق والسّباق «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» أي الماء المسبب عنه كثرة الرّزق فنختبرهم به أيشكرون أم يبقون على كفرهم.
والذي خصّ هذه الآية بأهل مكة أراد أنها على حد قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الآية 96 من آل عمران المارة وهو وجيه لو لم يكن فيه الالتفات وتغيير نسق العطف دون حاجة فضلا عن استقامة المعنى بالنسبة لما قبل الآية وبعدها واتباع الظاهر أظهر ، قال تعالى «وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ» الذي ذكر به عباده من آيات وعبر ولم يوحده حسبما أمر وعكف على إشراك غيره معه وأصر ومات على ذلك وانقبر «يَسْلُكْهُ» يدخله «عَذاباً صَعَداً» 17 شاقا يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ، راجع تفسير الآية 17 من سورة المزمل المارة ، وهنا يتبادر لي أن التفسير من قوله (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) إلى هنا على طريق الالتفات الذي ذكر آنفا أولى ، لأن إعادة الضمير من هناك إلى هنا إلى الجن مطلقا أو إلى القاسطين منهم على رأي البعض أو لمن ثبت منهم ومن الإنس على الكفر على قول الآخر أولى لأن الجن لا ينتفعون بالماء انتفاع الإنس ، ولأن استعمال الاستقامة على الطريقة في الاستقامة على الكفر وجعل النعمة استدراجا من غير قرينة على الاستدراج مخالف لظاهر القرآن ، فضلا عن أن الطريقة جاءت معرفة فانصرافها إلى الطريقة المثلى وهي ملة الإسلام طريقة الهدى والرشد أولى من صرفها إلى طريقة الضلال والكفر على غير ظاهرها من غير دليل ، لهذا لم أره موفقا لمخالفة نسق التنزيل.
وبما أن هذه الآية معطوفة على قوله تعالى (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) أي أوحي إلي أنه استمع وأوحي إلي (أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس لذلك فإن إعادة الضمير إلى الجن فقط بغير محله ، كما أن حصره بالإنس فقط غير موافق ، فيكون الأحسن والأجمع للقولين عوده للجن والإنس معا تبعا لبعض المفسرين العظام ، فيكون إسقاء الماء للإنس بطريق التغليب على الجن والاستقامة للإنس والجن معا ومثله كثير ووجيه اتباعه والأخذ به واللّه أعلم.(2/15)
ج 2 ، ص : 16
قال تعالى «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» عطف أيضا على أنه استمع ، أي وأوحي إليه صلى اللّه عليه وسلم أن البيوت المبنية للعبادة هي خاصة له تعالى لا علاقة باختصاص أحد فيها غيره ، ولا يختص بها لأجل التعبّد واحد دون آخر ، فيستوي فيها الكبير والصغير والعظيم والحقير والمالك والمملوك والغني والصعلوك ، وهذا لا يمنع تسمية الجامع باسم بانيه لما فيه من هضم حقه وتقليل الرغبة لغيره لأن معنى للّه هو ما ذكرناه من تساوي الناس فيه ليس إلا ، ويدخل في هذا المعنى كنائس النصارى وكنيس اليهود والبيع والخلوات العامة ، أما المحلات التي يتخذها غير أهل الكتب السماوية لعبادتهم المزعومة فلا تدخل فيها لأنها لم تنشأ لعبادة اللّه وإذا علمتم أيها الناس أن هذه المساجد خاصة للّه «فَلا تَدْعُوا» فيها ولا خارجها بأن تنادوا أو تعبدوا «مَعَ اللَّهِ أَحَداً» 18 في الدعاء وغيره فتشركون وتدخلون في معنى الآية 17 المارة ، قال سعيد بن جبير :
المراد بالمساجد أعضاء الإنسان السبعة ، أي الجبهة واليدين والرجلين والركبتين التي يسجد عليها ، لأنها مخلوقة للّه فلا تسجدوا عليها لغيره.
وهذا قول صحيح لكنه لا يصح أن يكون تفسيرا للآية لمخالفة الظاهر دون دليل أو حاجة ، وإنا عهدنا على أنفسنا أن لا نحول في تفسيرنا هذا عن ظاهر القرآن ما وجدنا مخرجا البتة ، وهذه الأعضاء وإن ورد فيها أحاديث صحيحة لكن لا على أنها تفسير لهذه الآية.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : أمرنا النبي صلى اللّه عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكفّ شعرا (كف الشعر عقصه وغرز طرفه في أعلى الضفيرة) ولا ثوبا (بأن نؤخره عن المسجد إذا وقع عليه) والمراد بالأعضاء السبعة ما ذكرناه آنفا «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهذا معطوف أيضا على أنه استمع «يَدْعُوهُ» بقراءة القرآن في الموقع الذي مر ذكره قبلا.
هذا ، وما جاء بالخبر من أنه كان يصلي بأصحابه صلاة الصبح عند تفسير الآية 9 المارة يحمل على صلاة كان يصليها تعبدا وهي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشيّة فرضت عليه خاصة ، لأن الصلاة لم تفرض بعد ولأن حادثة الجنّ وقعت قبل الإسراء كما أشرنا آنفا إلا أن يقال إن الإسراء في السنة الخامسة عند نزول سورة والنجم ، أو أن الإسراء(2/16)
ج 2 ، ص : 17
نزلت متأخرة عنه ، فتكون من الذي تقدم حكمه على نزوله ، وقوله على فعله وحينئذ يكون المراد بهذه الصلاة ، الصلاة المفروضة ، وكذلك كل صلاة ورد ذكرها بعد سورة والنجم ، ولم أجد ما يؤيد هذا ولم أحظ بجواب من العلماء فيه وهو مما توقفت فيه حيث لم أجد قولا من المفسرين الذين اطلعت على تفاسيرهم في هذا ، فأسأل اللّه أن يوفقنا قبل إتمامه على ما هو الصواب لنضعه فيه ومن اللّه التوفيق «كادُوا» أي الجن والإنس المذكورون في الخبر المار ذكره «يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» 19 متلبدين يركب بعضهم بعضا من شدة الازدحام على رؤيته واستماع القرآن منه ، كي لا يفوتهم شيء مما قرأه عليهم.
وهذه الآية تدل على أنهم كانوا أكثر من سبعة أو تسعة كما في الخبر ، ويؤيد الكثرة أن معنى النفر ينصرف إلى الأربعين كما نوهنا به أول السورة ، ثم ان كفار مكة لما رأوا حضرة الرسول رجع من الطائف حزينا لما رأى من قسوتهم وما أصابه من أذاهم وردّ دعوته لهم بالإيمان ، قالوا يا محمد لقد جئت بأمر عظيم ، فارجع عنه إلى دين آبائك ونحن نجيرك من أهل الطائف وغيرهم ونحميك منهم ونكفيك أمر الدنيا ، فأجابهم صلى اللّه عليه وسلم بما أوحى اللّه تعالى إليه «قال إنّما أدعوا ربّي» وحده وأحصر عبادتي وحمايتي وإعانتي وكفايتي بحضرته المقدسة ، وقرىء قُلْ بلفظ الأمر ، وهي قراءة جائزة إذا لا زيادة فيها ولا نقص في المعنى واللفظ غير مد القاف «وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» 20 من خلقه في العبادة والنصرة والطّلب ، فلم تتعجبون مما جئت به ولا جله ، تطبقون على عداوتي
«قُلْ» لهم أيضا «إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا» إذا بقيتم على كفركم «وَلا رَشَداً» 21 إذا آمنتم باللّه وحده ، ومعنى رشدا هنا نفعا لأنها بمقابلة ضرا ، أي لا أقدر على شيء من ذلك كله ، لأنه من خصائص اللّه الذي أرسلني إليكم منذرا لا مسيطرا ولا كفيلا «قُلْ» لهم أيضا «إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ» إذا أنا رجعت إلى دينكم وأرادني بسوء فلن يقدر أحد على دفع عذابه عني ، وهذا كقول صالح لقومه (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) الآية 62 من سورة هود في ج 2 «وَلَنْ(2/17)
ج 2 ، ص : 18
أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً»
22 نفقا أدخل فيه إلى الأرض ومحترزا اختبئ فيه أو ملجأ ألجأ إليه من عذابه ، وقد يراد به اللحد وفيه قال :
يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية عني وما من قضاء اللّه ملتحدا
أي مقبر وهو يريد مدخل اللحد «إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ» استثناه من قوله لن أجد وهو غير جنس المستثنى منه ، أي لن ينقذني إلا تبليغ ما أرسلت به إليكم بلا زيادة ولا نقص «وَرِسالاتِهِ» بأن أعلنها لكم بلا توان ، وهذا على جعل (بلاغا وما بعده) بدلا من ملتحدا ، وعلى كون الاستثناء منقطعا لأن البلاغ من اللّه لا يكون داخلا تحت قوله ملتحدا ، وعلى كون الاستثناء متصلا فيكون استثناء من مفعول (لا أملك) وتكون جملة قل لن يجيرني إلخ اعتراضية مؤكدة لنفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه وكمال تفويضه جميع أموره خالقه ، وعليه يكون المعنى (لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) وإنما أملك إبلاغ رسالات اللّه إليكم فقط بالبشارة إن أطعتم ، والنذارة إن عصيتم فلا أقدر على ضركم إن أبيتم ولا على نفعكم إن قبلتم ، والأول أولى يؤيده قوله تعالى «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فلم يأتمر بأمرهما ولم ينته بنهيهما أي لم يطعهما ولم يصدق بما جاءه عنهما «فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ» خاصة وقد أفرد الضمير هنا رعاية للفظ من «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» 23 لا يخرجون منها وجمع الضمير هنا رعاية لمعناها إذ تطلق على الجمع معنى كما تطلق على المفرد لفظا ، وهكذا في كل موضع من هذا القبيل ، ويفهم من هذه الآية أن من يطع اللّه ورسوله ، فإن له الجنة خالدين فيها أبدا «حَتَّى إِذا رَأَوْا» هؤلاء الكفرة «ما يُوعَدُونَ» به من العذاب على لسان رسلنا «فَسَيَعْلَمُونَ» عند حلوله بهم «مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» 24 هم أم المؤمنون ، لأن المؤمنين ينصرهم اللّه ، والكافرين لا ناصرهم «قُلْ» ما «إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ» به من العذاب «أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً» 25 أجلا بعيدا لوقت معلوم عنده ونظير هذه الآية الفقرة الأخيرة من الآية 109 من سورة الأنبياء في ج 2 ، أي إنكم معذبون لا محالة ، ولكن لا
يعلم وقت نزول العذاب بكم إلا هو «عالِمُ(2/18)
ج 2 ، ص : 19
الْغَيْبِ»
وحده بالرفع وقرى بالنصب على المدح والاختصاص «فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» 26 من خلقه «إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» فإنه يطلعه على بعض غيبه معجزة له وبرهانا على صدقه ، والتنوين فيه للتعظيم «فَإِنَّهُ» جل شأنه «يَسْلُكُ» يدخل «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي ذلك الرسول المرتضى «رَصَداً» 27 حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين حينما يريد اطلاعه على غيبه ، ويحفظون ذلك الغيب من أن يتخطّفه الجن والمردة فيصونه من أن يخلطوا به ما ليس منه ، كما يفعلونه مع الكهنة عند استراقهم السمع ، فإنهم إذا تلقفوا الكلمة خلطوا معها تسعة أمثالها كذبا فيخبرونهم بها من حيث لا يعلم الصدق من الكذب «لِيَعْلَمَ» ذلك الرسول المراد به هنا وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه أعلم ، لأنه هو المخاطب في هذه السورة والمعهود فيها ، وقرىء بكسر اللام وضم الياء ، أي ليعلم غيره بذلك الغيب وقرىء بالمجهول ، أي ليكون ذلك الغيب معلوما «أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا» أي الملائكة المخصصون بتبليغ الوحي رسل اللّه في أرضه والمراد بعضهم وهو جبريل عليه السلام لأنه المخصوص بذلك ، أي أخبروا رسل اللّه «رِسالاتِ رَبِّهِمْ» كما تلقوها حرفيا مصونة من اختطاف الجن والشياطين وعارية عن خلطهم بها ما ليس منها.
ويجوز عود الضمير إلى اللّه وعليه يكون المعنى ليعلم اللّه جل شأنه أن الرسل قد أبلغوا رسالاته خلقه مثلما أخذوها منه ، وهو عالم بذلك قبل ذلك ، وعلى عوده إلى محمد بمعنى آخر ، وهو ليعلم محمد أن الرسل قبله أبلغوا رسالات ربهم كاملة كما هي ، وأن اللّه حفظهم ودفع عنهم شر أعدائهم وأهلكهم نصرة لهم وخذلانا لأمثالهم الخارجين على الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، وخير الأقوال الثلاثة آخرها ، وهناك قولان آخران أحدهما أشدّ ضعفا من الآخر وهو عود الضمير إلى من كذب وأشرك ، أي ليعلم هؤلاء أن الرسل أبلغوا ، والثاني عوده لإبليس ، أي ليعلم أن الرسل قد أبلغوا إلخ ، وهما ليس شيء واللّه أعلم «وَأَحاطَ» اللّه جل جلاله «بِما لَدَيْهِمْ» أي الرسل وعلمه محيط بهم وبجميع خلقه وأحوالهم من جميع جهاتهم قبل خلقهم وإرسالهم ، ولم يزل عليما بهم فلا يخفى عليه شيء من(2/19)
ج 2 ، ص : 20
أطوارهم ، يعلم وجود الشيء كما كان يعلمه قبل وجوده ، وأعاد بعض المفسرين ضمير لديهم إلى الرصد وليس بشيء «وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» 28 من
جميع ما خلقه وعلم كيفيته وكميته أيضا من حيوان وجماد وقطر وورق شجر وزبد بحر وذر وغيره ، واللّه تعالى يعلم ما وراء ذلك مما لا يعلم البشر ، ولم يسمع به ، ولم يخطر بباله.
مطلب في كرامات الأولياء وعمر رضي اللّه عنه :
قال بعض المفسرين : إن هذه الآية مبطلة لكرامة الأولياء لأنهم مهما علت رتبتهم وسمت معارفهم فلن يبلغوا درجة الرسل ، وإن اللّه خص بغيبه بعض المرسلين المرضيين عنده بالاطلاع على بعض غيبه ، ومبطل للكهانة والتنجيم والتنويم وغيرها من باب أولى ، لأن أصحابها أبعد شيء عن الارتضاء وأقرب شيء للسخط ، حتى قال الواحدي إن في هذه الآية دليلا على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غيرهما فقد كفر بالقرآن.
هذا ما قاله هذان وغيرهم تبعا هم كثيرون ، أما الذي أجمعت عليه أهل السنة والجماعة فهو إثبات وقوع الكرامة للأولياء ودليل لوجودها ويجب هذا عقيدة أيضا ، قال صاحب مبدأ الأمالي :
كرامات الولي بدار دنيا لها كون فهم أهل النوال
وهو من الماتريديّة.
وقال صاحب الجوهرة في الأشعرية مثله ، وجميع المسلمين تابعون لهما في العقيدة ، إذ قالوا إن ما جاز وقوعه معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة للولي ، إذ لا مانع من أن يلهمهم اللّه وقوع بعض الحوادث المستقبلة فيخبرون بها من إطلاع اللّه إياهم لا من أنفسهم ، يدل على هذا ما روي عن أبي هريرة أنه قال : قال صلى اللّه عليه وسلم : لقد كان فيمن مضى قبلكم من الأمم أناس محدثون (ملهمون) من غير أن يكونوا أنبياء ، وإن يكن من أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب - أخرجه البخاري - وإنما خصه صلى اللّه عليه وسلم لنطقه بأشياء نزل بها القرآن وهي معلومة ، وسنأتي عليها في محلها إن شاء اللّه في سورة النور ج 3 وغيرها ، وروى مسلم عن عائشة مثل هذا الحديث ، ومن كراماته رضي اللّه عنه إسماع صوته زمن خلافته من المدينة إلى القادسية حينما قال (يا سارية الجبل) وهي مشهورة أيضا ، وكتابته(2/20)
ج 2 ، ص : 21
الكتاب إلى النيل وهو من أكبر الكرامات وغيرها كثير ، وقصة الخضر مع سيدنا موسى عليهما السلام ، وقصة أصحاب الكهف الآتية في الآيات 10 و9 و72 وما بعدها من سورة الكهف في ج 2 ، وقصة مريم الآتية في الآية 22 فما بعدها من سورتها ، وقصة بلقيس في الآية 80 من سورة النمل الآتية ، وهذا القدر كاف على ثبوتها للأولياء عدا إشارات القرآن الأخرى ورموز حضرة الرسول.
والفرق بين النبي والولي من هذه الحيثية هو أن المعجزة أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقرونة بالتحدي ، وأن الكرامة أمر خارق للعادة مع المعارضة وعدم التحدّي ، لأن الولي إذا ادعى خرق العادة مع التحدي كفر ، وقد يظهر على يده أمر خارق للعادة من غير دعواه ، وفيها دليل على ثبوت نبوة النبي أيضا التابع له ذلك الولي الذي ظهر على يده أمر خارق ، فلو لم تكن نبوته حقا لما ظهر على يد من تابعه أمر خارق للعادة ، فخرج بهذا الكاهن والمنجم والمنوم ، لأن الأول ليس تابعا لرسول لانسداد باب الكهانة بمبعثه صلى اللّه عليه وسلم ، والمنجم يتبع بإخباره ما يظهر له من حركات النجوم وسيرها وطلوعها وغروبها ، والمنوم يتبع بإخباره ما يظهر له من قراءة الأفكار حينا والشعوذة حينا ، وإنما خص الولي لتوغله بعبادة ربه وإخلاصه له وقطع نفسه إليه ، وهؤلاء ليسوا كذلك فحكمهم حكم الكاهن ، فمن ادعى منهم علم الغيب فهو كاذب كافر ، وقد سبق لنا بحث واف في هذا الباب في سورة والنجم فراجعه تقنع ، وله صلة في تفسير الآيات المشار إليها آنفا وفي الآية 37 من سورة آل عمران في ج 3.
هذا ، ولا يوجد سورة بالقرآن.
مختومة بما ختمت به هذه السورة ، واللّه أعلم ، وأستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين.
تفسير سورة يس
عدد 41 - 36
نزلت بمكة بعد سورة الجن عدا الآية 45 فإنها نزلت بالمدينة ، وهي ثلاث وثمانون آية ، وسبعمائة وعشر كلمات ، وثلاثة آلاف حرف ، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.(2/21)
ج 2 ، ص : 22
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى مخاطبا رسوله صلى اللّه عليه وسلم بلفظ :
«يس» 1 وجاء في الخبر أن اللّه سماني أحمدا ومحمدا وطه ويس.
وقال ابن عباس معناه بلغة الحبشة وفي رواية عنه بلغة طي (يا إنسان) وقال غيره الياء للنداء والسين قائمة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه ، ونظيره ما جاء في الحديث :
كفى بالسيف شا ...
أي شاهدا.
وقال آخر هو اسم من أسمائه عليه السلام ، مستدلا بقول السيد الحميري :
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة على المودة إلا آل ياسين
وقيل هو مقطع حروف سميع منان قدير وشبهها من أسماء اللّه تعالى ، وقد قال العلماء إن للّه عزّ شأنه أن يطلق على ذاته المقدسة وعظماء خلقه ما أراد من الأسماء.
وتحمل حينئذ على التعظيم سواء كانت حروفا أو حرفا ، مصغرة أو مكبرة ، قال ابن الفارض رحمة اللّه :
ما قلت حبيبي من التحقير بل يعذب اسم الشيء بالتصغير
والكلام فيه من حيث الإعراب والبناء كالكلام في أوائل السور المتقدمة والحروف المتقطعة ، وجاء في تتمة الخبر السابق والمزمل والمدثر وعبد اللّه ، وقد ذكرت في القرآن هذه الأسماء كلها كما في هذه السور والسور المتقدمة وسورة الصف ، الآية 7 في ج 3 ، وطه ومريم الآتيتين ، وعبد اللّه في سورة الجن المارّة ، ثم أقسم جل قسمه فقال «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» 2 في معانيه ومبانيه ، العظيم في مقاصده ومراميه وهو مبالغة حاكم ، وجواب القسم قوله عز قوله «إِنَّكَ» يا سيد الرسل المخاطب هنا بلفظ يس الذي هو من جملة أسمائك الكريمة التي سمينك بها في هذا القرآن «لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» 3 إلى الخلق كافة حقا ، يدل عليه التأكيد بكاف الخطاب وإن واللام ، وذلك لأن هذه الآية نزلت ردا على الكفرة القائلين لست مرسلا ، وكفى باللّه شهيدا على رسالته العامة السائدة «عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 4 عدل سوي لا اعوجاج فيه ولا ميل ، وأن هذا القرآن الذي أنزلناه عليك «تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ» الغالب على خلقه القوي في ملكه «الرَّحِيمِ» 5 بعباده الرؤوف بهم(2/22)
ج 2 ، ص : 23
وإنما أرسلناك يا محمد «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» الأقدمون من قبل رسولهم إسماعيل عليه السلام ، وهذا على جعل ما موصولة مفعولا ثانيا لتنذر ، وعليه يكون المطلوب الأمر بتبليغهم شريعة إبراهيم عليه السلام التي أنذر بها أسلافهم ، أو العذاب الذي خوف به آباءهم الأولين ، وإذا جعلت ما نافية يكون المعنى أنذرهم بما أمرت به ، لأن آباءهم الأدنين بعد إسماعيل وجيله لم يأتهم نذير قبلك ، وهذا أبلغ وأوفق لقوله تعالى «فَهُمْ غافِلُونَ» 6 عن طريق الهدى ومسالك الرشد الذي جئتهم به ، إذ لم ينذرهم ويخوفهم عذاب اللّه الذي أنذر به آباؤهم الأقدمون أحد بعد إسماعيل عليه السلام ، ولم يرسل إليهم نبي بعده ، ولم يترك لهم كتابا يتبعونه لذلك أرسلناك يا محمد إليهم لتنذرهم وتخوفهم عاقبة أمرهم إذا لم يؤمنوا بك ، وزد في عظتهم وذكرهم بأحوال من قبلهم المكذبين ، علّهم يعتبرون بما وقع عليهم ، فهذا كله على جعل ما نافيه وهو الأنسب بالمقام والأليق للتأويل ، إذ على المعنى الأول وهو جعل ما موصوله لا يستقيم هذا ، وذلك لأن شريعة إبراهيم عليه السلام التي جاءهم بها إسماعيل لم يبق لها أثر عندهم ولا يعرفون شيئا عنها البتة لعدم تركه كتابا بها بدليل قوله تعالى (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) الآية 44 من سبأ في ج 2 لهذا ، فأن الأمر تبليغهم شريعة إبراهيم لا معنى له ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 3 من سورة السجدة في ج 2 والآية 23 من سورة فاطر الآتية.
ثم أقسم ثانيا فقال وعزتي وجلالي «لَقَدْ حَقَّ» وجب وثبت ووقع «الْقَوْلُ» في سابق أزلي وقديم علمي.
والمراد بهذا القول العظيم قوله عز قوله لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين الآية 19 من سورة هود ونظيرها الآية 11 من سورة السجدة في ج 2 والآية 17 من سورة الأعراف المارة ، وهذا القول قضى به «عَلى أَكْثَرِهِمْ» أما الأقل فهم في رحمة والأقل هو الأحسن من كل شيء قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية 13 من سورة سباء وقوله تعالى (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) الآية 41 من سورة هود في ج 2 وقوله (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) الآية 25 من سورة ص المارة(2/23)
ج 2 ، ص : 24
وهكذا القليلون هم الخيرون قولا وعملا من كل ملة والأكثرون هم المسيئون الداخلون في ذلك القول «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» 7 بك بل يموتون على كفرهم إذ بت في أمرهم قبل وجودهم ، والمراد بهم صناديد قريش المعارضون لحضرة الرسول وقد قتل أكثرهم في غزوة بدر ، على الكفر تصديقا لقوله تعالى وليس المراد عموم قريش لأن أكثرهم آمنوا به صلى اللّه عليه وسلم ، وسبب عدم إيمان أولئك «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا»لئلا يلتفتوا إلى الحق ولا يعطفوا أعناقهم نحوه ولا يميلوا اليه «فَهِيَ» ملزقة برقابهم واصلة «إِلَى الْأَذْقانِ» متصلة برؤوسهم «فَهُمْ مُقْمَحُونَ» 8 رافعون رؤوسهم بسببها لا يقدرون على إرخائها إلى الأسفل لينظروا أمامهم ، وذلك لأن الغل عبارة عن طوق حديد يجمع به اليدان إلى العنق ويكون في ملنقى طرفيه حلقة فيها رأس العمود خارجا من الحلقة إلى الذقن وهو محدّد فلا يتركه يطاطىء رأسه خوفا من نخسه ، فيضطر لإبقاء رأسه مرفوعا بالطبع ، فصار كأنه متصل برأسه.
قال السيد علاء الدين
علي بن محمد بن ابراهيم البغدادي في تفسيره لباب التأويل في معاني التنزيل نزلت هذه الآية في أبي جهل وأصحابه المخزوميين ، لانه حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخنّ رأسه ، فأتاه في المسجد ليدمغه بحجر في يده ، فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده ، فأخبر أصحابه بما رأى ، فقال له رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر ، فأتاه ليرميه به ، فأعمى اللّه بصره عنه ، فرجع إلى أصحابه وقال ما رأيته ، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل (يطلق على الذكر من كل حيوان وخصه بعضهم بالذكر القوي في الدواب ويراد به هنا واللّه أعلم ذكر الأفعى بدليل قوله) يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني ، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية وهذا إنما يصح إذا كان صلى اللّه عليه وسلم يتعبد بصلاة يتعاطاها كما سبق في الآية 18 من سورة الجن المارة ، فراجعها ففيها ما فيها.
ولا يخفى أن الآية هنا عامة وأن شمولها لهذه الحادثة على فرض صحتها لا يخصصها فيها بل يدخل فيها أبو جهل وغيره من كل من لم يؤمن به قال تعالى «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا»(2/24)
ج 2 ، ص : 25
أي قدامهم «وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا» من ورائهم «فَأَغْشَيْناهُمْ» بالسدين المذكورين وغطيناهم بهما غطاء محكما ، وقرىء فأعشيناهم بالعين من العشاء وهو ضعف البصر ، والأول أبلغ وقرىء سدا بضم السين وفتحها ، وقيل ما كان من فعل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق اللّه فهو بالضم ، وقيل بالعكس «فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» 9 سبل الهدى لانهم يتعامون عن النظر في آيات اللّه فلا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان.
واعلم أن المانع من النظر بآيات اللّه قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه بالغلّ الذي يجعل صاحبه مقحما لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه كما مر آنفا ، والمراد من جمع الأيدي إلى الأذقان المشار إليه أعلاه عبارة عن منع التوفيق إلى الهدى ، ولهذا استكبروا عن الحق ، لأن المتكبر يوصف برفع العنق ، والمتواضع بضده قال تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) الآية 5 من سورة الشعراء الآتية ، وقسم يمنع النظر في الآفاق فشبّه بالسد المحيط بالشيء فإن الشيء انحاط به لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات ، فمن ابتلي بهذين القسمين حرم من النظر بالكلية ، وان اللّه تعالى شبه تصميم هؤلاء الكفرة على الكفر بالأغلال ، وشبه استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه بالأقماح لأن القمح لا يقدر أن يطأطىء رأسه ، وقوله تعالى إلى الأذقان تتمة للزوم الإقماح لهم ، وشبه عدم نظرهم في أحوال الأمم السابقة بسد منيع من خلفهم ، وشبه عدم نظرهم بالعواقب المستقبلة بسد عظيم من أمامهم ولذلك نفى اللّه عنهم الإبصار لأن من كان هذا حاله بعيد عن إبصار الحق لعماء بصيرته عن التفكر فيه ، وان هذا وصف لما سينزله عليهم من العذاب الأخروي حين يلقون في النار ، أجارنا اللّه منها.
قال تعالى «وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ» أولئك الكفرة الموصوفين آنفا «أَ أَنْذَرْتَهُمْ» يا محمد وخوفتهم عاقبة أمرهم إن لم يؤمنوا بك «أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» بما أمرت به فهم «لا يُؤْمِنُونَ» 10 بك ولا ينتفعون بوعظك وزجرك ، إذ يستوي عندهم الحالان فوجود إنذارك وعدمه سواء لديهم ، فلا تزعج نفسك بالإلحاح عليهم ، لأنهم ضالّون أزلا ، ومن يضلل اللّه فلا هادي له(2/25)
ج 2 ، ص : 26
وإنك يا سيد الرسل «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ» المنزل عليك وهو القرآن العظيم ليعمل بما فيه وينتفع باتباعه رغبة بك وبدينك وربك ، وعبر بلفظ الماضي لتحقق وقوع اتباعهم له ، لأنهم من الناجين فى علم اللّه الأزلي ، ومن يهد اللّه فهو المهتد لا يقدر أحد على إضلاله ، وهذا بمقابلته (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) لأن أولئك من غضب اللّه عليهم ، وهؤلاء من رحمته بهم ورضاه عنهم «وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» خافه سرا وجهرا إذ لم يره وداوم على عبادته ولم يغتر برحمته لأنه مع عظيم رأفته أليم عذابه ، قال تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) الآية 51 من سورة الحجر في ج 2 فهذا الذي يهابني ولم يرني «فَبَشِّرْهُ» يا محمد «بِمَغْفِرَةٍ» واسعة لذنوبه مهما عظمت «وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» 11 زيادة على المغفرة والأجر وأوله الجنة ونعيمها ، وآخره رؤية المولى وهو الجواد على عباده بها ، كيف لا وهو الكريم الذي يعطي لا لغرض أو عوض ؟
وقل يا أكرم الرسل لمنكري الحياة الأخرى «إِنَّا» نحن إله السموات والأرض اللتين خلقهما أكبر من خلق الناس قادرون على أن «نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى » مرة ثانية للحشر والحساب كما أحييناهم من النطفة ، وكما نحيي الأرض الميتة بالماء والقلوب الغافلة بالذكر ، لأن القلوب الميتة بأدران الشرك لا تحيا إلا بطهارة الإيمان.
مطلب فيما بكتب من آثار الخلق :
«وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا» في دنياهم من خير وشر «وَ» نحصي «آثارَهُمْ» التي أبقوها بعدهم لنخلّدها لهم ليبقى ذكرهم إن كان حسنا كوصية لا جور فيها ، ووقف لوجوه البرّ ، وعلم ينتفع به ، وتعليم الخير للغير ، وكتاب صنفوه في أمر الدين ، وبناء رباط ، أو جامع ، أو مستشفى ، أو مدرسة ، فيكون ذكرهم حسنا.
وإن كان سيئا كمال تركوه حراما ، وحكم حكموه جورا ، ومظالم ارتكبوها يكون ذكرهم سيئا.
روى مسلم عن جرير بن عبد اللّه البجلي قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ في الإسلام(2/26)
ج 2 ، ص : 27
سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
وعلى هذا يستحق على الأولى المدح والثناء والترحم ، وعلى الثانية الذم والتحقير والشتم ، وما قيل إن هذه الآية نزلت في بني سلمة استدلالا بما رواه البخاري عن أنس رضي اللّه عنه قال : أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تعرى (تخلى) المدينة فتترك عراء فضاء لا يسترها شيء فقال يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم ؟ فأقاموا.
ولما روى مسلم عن جابر قال خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة ان ينتقلوا قرب المسجد ، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال لهم بلغني انكم تريدون ان تنتقلوا قرب المسجد ؟ فقالوا نعم يا رسول اللّه قد أردنا ذلك ، فقال بني سلمة (أي يا بني سلمة) الزموا دياركم تكتب آثاركم : فقالوا ما يسرّنا إذا تحولنا (أي لعدم رضاء حضرة الرسول) ورويا عن أبى موسى الأشعري قال قال صلى اللّه عليه وسلم : أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام.
لا يصح لأن هذه الآية مكيّة بالاتفاق اما ما نقله بعض المفسرين من أنها مدنية فغير صحيح ، لأنه لم يذكر المنقول عنه ، وإنما قال بمدنيتها ليجعلها سبب النزول ، وعلى الناقل صحة النقل حتى يكون حجة وإذا لم يكن حجة فلا احتجاج ، وان ما جاء في هذه الأحاديث عبارة عن حكاية حال وقعت في المدينة ، والآية عامة ولا يوجد ما يخصصّها فيدخل في معناها بنو سلمة وغيرهم من كل من يترك آثارا حسنة أو سيئة كما ذكرنا (وكلّ شي ء) من أعمال الخلق خيرها وشرها هزلها وصحيحها «أَحْصَيْناهُ» عليهم وعددناه وبيناه للملائكة بعد أن حققناه وأثبتناه لدينا «فِي إِمامٍ» لوح من اللوح المحفوظ الذي هو أصل الكتب كلها فلا شيء مما كان ويكون الا وهو مدون فيه فهو المقتدى وفيه المنتهى والمبتدأ «مُبِينٍ» 12 واضح ظاهر فيه كل شيء إلى يوم القيمة وكيفية هذا اللوح العظيم الذي لم يأت ذكره إلا في سورة البروج المارة أما الألواح المذكورة في سورة الأعراف ثلاث مرات في الآيات 143 و149 و153 المارات فهي ألواح التوراة(2/27)
ج 2 ، ص : 28
وهي أيضا من جملة ما هو مدوّن في هذا اللوح الجليل لم يرد فيها ما يفيد القطع عن ماهيته وكميته وكيفيّته غير وصفه بهذا الاسم ، لذلك ينبغي الإمساك عنه وان نكل علمه إلى اللّه كالآيات المتشابهات ، وغاية ما قيل فيه عند المسلمين انه جسم ، ولا يخفى أن كل جسم متناهي الأبعاد كما تشهد به الأدلة ، وان ما كان وسيكون إلى يوم القيامة متناه كما تشهد به الآثار ، والمطلق منها محمول على المقيد هذا وقد فسر بعض العلماء الامام بعلم اللّه الأزلي كما فسر أمّ الكتاب في قوله تعالى «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» الآية 39 من سورة الرعد قوله «هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ» الآية 7 من سورة آل عمران ج 3 والآية الرابعة من سورة الزخرف في ج 2 فيكون بمعنى كل شىء على العموم بحيث يشمل ما في الدنيا وما في الآخرة وأحوال الجنة وما يتجدد فيها لأهلها دون انقطاع ولا تناه وكذلك النار قال صاحب أبدال الامالي :
ولا يفنى الجحيم ولا الجنان ولا أهلوهما أهل انتقال
وكذلك أحوال النار وأهلها وجميع ما يقع في الدنيا من التجدد على نحو ما يحكى من بيان الحوادث الكونية في الجفر الجامع على طراز أعلى وأشرف ، ولهذا قال غير واحد إن القرآن الكريم يشتمل على كل شيء في الدنيا حتى على أسماء الملوك ومدد ملكهم وأسباب انقراضهم ، ويشتمل على ما في الآخرة أيضا.
مطلب قصة رسل عيسى عليه السلام :
قال تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا» أي صف لهم يا محمد «أَصْحابَ الْقَرْيَةِ» جزم أكثر المفسرين بأنها انطاكية أي كيف كان أهلها «إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» 13 من قبل عيسى عليه السلام ليدعوهم إلى ترك الأوثان وعبادة الرحمن والإخلاص في توحيد الملك الديان ، فاذكر لقومك يا سيد الرسل قصتهم «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ» ردأ لعيسى وعضدا لانهاض دعوته وتقوية لبعثها في النفوس رجلين «اثْنَيْنِ» من حوارييّه.
هذا إذا كان المرسل هو اللّه عز وجل ، أو أن عيسى عليه السلام أرسلهما بأمر اللّه تعالى كأنه كان هو المرسل ، لانّ(2/28)
ج 2 ، ص : 29
أمر المأمور بما أمره به آمره أمر لآمره ، وهو اولى من القول بأن عيسى نفسه أرسلهما من تلقاء نفسه ، لأن الرسول لا يعمل شيئا إلا بوحي من مرسله.
وهذان الرسولان على ما قيل هما حنا وبولس عليهما السلام ، فلما قربا من القرية رأيا حبيبا النجار يرعى أغنامه ، فسلما عليه فقال : من أنتما ؟ قالا رسولا عيسى بن مريم صلوات اللّه عليه وسلامه ، فقال : ما جاء بكما إلى هنا من القدس ؟ قالا : أتينا لندعوكم لعبادة اللّه وحده ، ونحذركم من عبادة الأوثان ، فقال : ما آيتكما على ذلك ؟ قالا : آيتنا إبراء الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن اللّه ، وان الذي أرسلنا يفعل هذا ويحيي الموتى بإذن اللّه.
فأخذهما إلى منزله وعرض عليهما بنته المريضة المزمنة ، فلمساها بيدهما فقامت بإذن اللّه صحيحة سليمة ، ثم أتى لهما بمرضى آخرين فلمساهم فشفاهم اللّه على يديهما ، فحلت به العناية وأسلم ، وشاع خبرهما في المدينة بأنهما يشفيان المرضى دون عقاقير ، فاستدعاهما ملك المدينة إذ ذاك واسمه انطيخش وقال لهما أولنا دون آلهتنا آلهة ؟ قالا نعم.
قال من هو ؟ قالا الذي أوجدك وآلهتك.
فأخذهما وحبسهما وضربهما.
وهذا مغزى قوله تعالى «فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» قويناهما بإرسال رسول ثالث وهو على ما قيل شمعون عليه السلام ، وذلك أن عيسى عليه السلام لما استبطأهما ولم يأت خبر منهما ولا عنهما أرسل بأمر اللّه رسولا آخر ليسير خبرهما ويبصر ما جرى لهما ، فتوجه إلى انطاكية ودخلها متنكرا ، وبعد أن استقر صار يختلط مع عامة أهلها ليقف على حالهم ويتعرف على رفيقيه ، ولم يزل حتى عرفهما بالسجن من أجل دعوتهما وجود إله هو إله الملك والخلق أجمع ، فاتصل بحاشية الملك وصار يعاشر كلا منهم بما يليق به ويكلم كلا بحسب مقامه بما آتاه اللّه من حنكة وحكمة ولين جانب وخلق واسع ، حتى استمال الجميع من الخادم إلى الوزير ثم صار يعرض لهم أنه يود مقابلة الملك وأنه يحبه ، وقد أنسوا به ولم يريدوا فراقه ، فرفعوا أمره للملك وأخبروه بما هو عليه من لياقة ولباقة ، فاشتاق إليه واستحضره ، فلما كلّمه أنس به وأكرمه ورضي عشرته وأثنى على حاشيته الذين قدموه له نظرا لما كان يعاملهم به من التقية توصلا(2/29)
ج 2 ، ص : 30
لإنقاذ صاحبيه ، وصار يجالس الملك ويقص عليه ما يؤنسه ، حتى جاء على ذكر الرسولين في جملة حديثه معه وسأله عنهما وسبب حبسهما ، فقال له الملك إنهما تجارأا وذكرا أن لهما إلها غير آلهتنا حتى انهما دعوني لعبادته ، فأنفت منهما وأمرت بحبسهما.
قال له حينما دعواك إلى غير دينك هل سألتهما وسمعت منهما عن آلهتهما شيئا ؟
قال لا إذ حال الغضب بيني وبين ذلك حتى اني أمرت بضربهما.
قال إن رأى حضرة الملك إحضارهما ليطلع على ما عندهما من هذه الدعوة العظيمة ، فدعاهما بالحال وفوضه بخطابهما ، فقال لهما من أرسلكما إلى هنا ؟ قالا اللّه الذي خلق كل شيء لا شريك له.
قال لهما صفاه لنا وأوجزا ، قالا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قال شيء عظيم هذا ، ما آيتكما عليه ؟ قالا ما يتمناه الملك ، فتذاكر مع الملك صرا وقال لهما عندنا غلام مطموس العينين فهل تقدران أن تجعلاه بصيرا ؟ قالا نعم ، فأمر الملك بإحضاره فدعوا له ، فانشق له موضع العينين فعملا بندقتين من طين ووضعاهما في موضع العينين ، ودعوا اللّه فصارتا مقلتين يبصر بهما ذلك المطموس ، فتعجبا من ذلك ، ثم همس شمعون في أذن الملك ، وقال لو سألت آلهتك تصنع مثل هذا لكان لك بها الشرف ، فقال الملك ليس عليك سر مكتوم إن آلهتنا نفسها لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع ، فكيف لمثل هذا تصنع ؟ فلم يرد أن يطعن بآلهته ليستدرجه على الإيمان ولئلا يتهمه مبدئيا بأنه ليس على دينه ، وأراد أن يظهر شيئا يقسره على الإيمان عفوا ، فقال له لنمتحنهما بأكثر من هذا ، قال الملك هيا ، فقال لهما شمعون إن أحيا إلهكما ميتا آمنا به وتركنا كما ، قالا هات ، فقال له الملك إن ابن الدهقان مات منذ سبعة أيام ، فقال شمعون مر بإحضاره ، فأمر فأحضروه له ، فصارا يدعوان علانية ويطلبان من اللّه إحياءه ، وصار شمعون يدعو ربه سرا ويؤمن على دعائهما ، فأحياه اللّه ، فقال لهما شمعون كلّماه ، فإذا كان حيا حقا فليذكر لنا شيئا عن موته ، فسألاه فقال : أيها الملك إني مت منذ سبعة أيام على الشرك الذي تدين به أنت ، وأدخلت في سبعة أودية من النار ، فأحذركم ما أنتم عليه ، وآمنوا أيها الناس كلكم يا للّه رب هؤلاء ، فإني رأيت السماء(2/30)
ج 2 ، ص : 31
فتحت ونظرت فيها شابا حسن الوجه يشفع إلى هؤلاء الثلاثة ، وأشار إلى شمعون وصاحبيه.
فعجب الملك من ذلك وآمن بهم وآمن معه خلق كثيرون من قومه ، وأصر الآخرون على كفرهم.
هذا ما نقله الأخباريون بقصص الأنبياء عن هؤلاء الرسل الثلاثة أخذا من قوله تعالى (فَكَذَّبُوهُما) أما ما قصه اللّه تعالى على نبيه فيهم فهو ما بينه بقوله جل قوله «فَقالُوا» الثلاثة إلى أهل أنطاكية «إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» 14 من قبل اللّه أو من قبل رسوله على الوجهين المارّين ، فأجابوهم بقولهم «قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» لا مزية لكم علينا توجب اتباعنا لكم واختصاصكم بما تدعونه «وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ» الذي تدعونه إلها لكم ولسائر الخلق «مِنْ شَيْ ءٍ» من الوحي ولم يرسل رسولا كما تزعمون ، وكان هذا بمقابلة قولهم لهم أتينا ندعوكم لعبادة الرحمن ، ثم قالوا «إِنْ» ما «أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» 15 بدعواكم هذه «قالُوا» لهم أيضا «رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ» 16 استشهدوا بربهم إذ لا شاهد لهم من أهل القرية على ذلك ، لأنهم لم يتعرفوا على أحد من أهلها أول مجيئهم وأكدوا قولهم بأن الدالة على التوكيد واللام المؤكدة لها ، لأنه جواب عن إنكار يحتاج لزيادة التأكيد بخلاف قولهم الأول في الآية 14 المارة لأنه إخبار ابتداء ، ثم قالوا لهم إنا لم نأت لقسركم على ما نريده بكم من الخير لأنا لم نؤمر بذلك «وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 17 الظاهر المكشوف الذي لا غبار عليه الموثق والموضح بالآيات الدالة على صدقنا «قالُوا» أهل القرية لهم «إِنَّا تَطَيَّرْنا» تشاءمنا «بِكُمْ» لأنكم تدعون إلى إله واحد وترفضون الأوثان وإنا لا نعلم بوجود آلهة غير آلهتنا وقد هالنا ما سمعناه منكم وو اللّه «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا» عن مقالتكم هذه وتتركونا وما نحن عليه «لَنَرْجُمَنَّكُمْ» بالأحجار «وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» 18 خبر ما وحرفا تتمنون معهما الموت «قالُوا» لا
تتشاءموا بنا إذ ما بنا شؤم لأنا رسل اللّه وإنما «طائِرُكُمْ» الذي تتشاءمون منه هو «مَعَكُمْ» لأنه ناشىء عن كفركم وتكذيبكم لما جئناكم به دون أن تسألونا عن آية صدقنا «أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ» فيما به سعادتكم في الدنيا ونجاتكم في الآخرة أطيرتم وصرتم(2/31)
ج 2 ، ص : 32
تهددوننا بسببه لا ، لا تفعلوا شيئا «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» 19 في الضلال متجاوزون الحد في الشرك والعصيان ، مفرطون فيما يعود لنفعكم ، لأنا لم نعمل معكم شيئا يوجب رجمنا «وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى » يهرول اسمه حبيب النجار المار ذكره في القصة ، الذي رأى آيات الرسولين وأنس بهما قبل حضور الرسول الثالث ، وكان في غار يتعبد فيه عند فراغه من عمله ، قالوا وكان يتصدق بنصف ما يربح ، وقد مر في القصة أنه كان راعيا ، إذ علم أن قومه كذبوا الرسل وقصدوا قتلهم ، وهذا على القول بأنهم لم يؤمنوا ، أوهم الذين لم يؤمنوا مع الملك لأن نسق الخطاب لا ينطبق على نسق القرآن ، لأن الحكاية ذكر فيها أن التكذيب والضرب والحبس وقع على الرسولين الأولين فقط وأنهم آمنوا بعد حضور الثالث ، والقرآن يسكت عما وقع مع الأولين ويتكلم عن الثلاثة معا «قالَ» الراعي حبيب «يا قَوْمِ» اتركوا الرسل لا تعتدوا عليهم فيصيبكم منهم معرة ، وإذا أردتم الخير لأنفسكم «اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ» 20 إلى ما يدعوكم إليه بغية نجاتكم من عذاب اللّه وكأنه التفت إلى الرسل وقال لهم أتطلبون أجرا على ما تدعون الناس إليه قالوا لا نحن أبعد الناس عن طلبه
فالتفت إلى قومه وقال «اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً» على إرشادكم لطريق الهدى والسداد «وَهُمْ مُهْتَدُونَ» 21 من قبل اللّه الذي أرسلهم فاقبلوا هدايتهم مجانا إلى خير الدنيا والآخرة واتبعوهم على ما هم عليه تربحوا رضاء اللّه خالقكم من غير أن تخسروا شيئا من دنياكم فقالوا له إذا أنت على دينهم مؤمن بربهم الذي فطرهم على هذا الدين الذي جاؤا يدعوننا إليه ، ولذلك تحبذ دعوتهم فقال لهم «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي» خلقني وهو رحمه اللّه يعبد الذي فطره وإنما أرادهم بذلك ، أي وما لكم لا تعبدون الذي فطركم مثلي لأني أعبده حقا أي أيّ شيء خذلكم وصرفكم عن عبادته «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 22 حتما في الآخرة ، لأن مصير الكل إليه خاطب نفسه رحمه اللّه في هذه الجملة وهو يريدهم فيها لأنه أبلغ في الزجر ، وأمعن في الوعظ ، وأحرى للقبول ، وأبعد عن اللجاجة ، ثم قال لهم «أَ أَتَّخِذُ مِنْ(2/32)
ج 2 ، ص : 33
دُونِهِ»
أي الإله الواحد الذي آمنت به «آلِهَةً» أصناما مثلكم لا تضر ولا تنفع ، كلا لا أفعل ، وإنما أتخذ اللّه الإله الواحد الفعال لما يريد الذي لا رب غيره إلها لي وهو إله الخلق أجمع ، واعلموا يا قومي إني «إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ» إله هؤلاء الرسل وإلهي وإله العالمين وخالق الكون وما فيه «بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ» أي شفاعة الأوثان التي اتخذتموها آلهة وترجون شفاعتها فلا تنفعني إذا حل بي الضر من الإله الواحد القادر «شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ» 23 من مكاره الدنيا ولا من عذاب الآخرة لأنها أحجار وأخشاب لا تعصم نفسها من التعدي عليها فكيف تنفع غيرها ؟ وإذا كان كذلك فكيف أتخذها آلهة «إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 24 لا يقبل التأويل لشدة وضوحه ولا يخفى على أحد ، ثم أقبل على الرسل وخاطبهم علنا بقوله «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» 25 واشهدوا على إيماني فلا أبالي بما يصيبني منهم.
أخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه قال لما قال صاحب يس (حبيب النجار المذكور إذ شهر بذلك) : يا قوم اتبعوا المرسلين ، خنقوه ليموت ، فالتفت إلى الأنبياء فقال : آمنت بربكم فاسمعون ، فأسرع إليه قومه فقتلوه رجما بالحجارة.
قال السدي رموه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومي ، حتى مات.
وجاء في الحديث انه نصح قومه حيا وميتا ، رحمه اللّه فلما مات شهيدا ولقي ربه «قِيلَ» له من قبل ملائكة الرحمة «ادْخُلِ الْجَنَّةَ» فأدخلت روحه فيها رحمه اللّه ودفن جثمانه في سوق انطاكية بالمحل الذي قتل فيه ، وقبره معروف حتى الآن يزوره الغادي والبادي ، ولما أحست روحه الطاهرة بنعيم الجنة ورأت ما فيها من السرور والروح تتصل بجسدها أحيانا «قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ» 26 ما صرت إليه من النعيم «بِما غَفَرَ لِي رَبِّي» ما اقترفته من الذنوب وستر لي ما جنيته من العيوب وما أكرمني به في الجنة الدائمة ، فلو علموا ذلك لآمنوا بالرسل ، واللّه يعلم أنهم لم يؤمنوا ، إذ لم تكتب لهم السعادة.
وما هنا ، مصدرية ، أي بالغفران الذي غفره لي وعظمته وما ينتج عنه من خير وأجاز بعض القراء كونها استفهامية ، أي بأي شيء غفر لي وهو هجره دينهم والصبر على أذاهم.(2/33)
ج 2 ، ص : 34
وقال الكسائي لو كان ذاك أي جعل ما استفهامية ، لقال بم بدون الألف مثل عمّ يتساءلون ، وبمثل قوله :
علام أقول الرمح أثقل عاتقي إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
على الاستفهام لأن اللغة الفصحى حذف الألف إذا جرت بحرف الجر فرقا بينها وبين ما الموصولة ، ولا تثبت الألف مع حرف الجر إلا ضرورة لقوله :
على ما يشتمني لئيم كخنزير تمرّغ في رماد
وقول الآخر :
إنا قتلنا بقتلانا سراتكم أهل اللواء فقيما يكثر القتل
فأثبتت ما للضرورة في البيتين ، ولا ضرورة هنا لأنه ليس بشعر فتبين أنها هنا مصدرية واللّه أعلم «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» 27 فيها وذلك لما رأت روحه من إكرام الملائكة لها وإكرامهم إياها تمنى رحمه اللّه المغفرة والكرامة لقومه رحمة بهم وشفقة عليهم ليرغبهم في الإيمان ويحملهم على طاعة الرسل ، فلما قتلوه ولم يسمعوا نصحه ولم يلتفتوا إلى رأفته بهم غضب اللّه عليهم ، فعجل عقوبتهم المبينة في قوله جل جلاله «وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ» لأن أمر إهلاكهم أيسر لدينا من ذلك «وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ» 28 جندا من الملائكة لإهلاكهم لأنهم أخس من ذلك «إِنْ كانَتْ» عقوبتهم في الإهلاك ما هي «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من بعض أملاكنا فأمر جبريل فصاح بهم «فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» 29 جميعا لا حراك بهم ، القاعد قاعدا والقائم قائما والمضجع مضجعا.
روي أن اللّه تعالى بعث عليهم جبرائيل عليه السلام فأخذ بعضادتي باب مدينتهم وصاح بهم صيحة فماتوا جميعا ، وقد شبهت الصيحة بالنار على سبيل الاستعارة المكنية وجيء بالخمود وتخييل لها وقوله خامدون رمزا إلى أن الحي كشعلة من نار ، والميت كالرماد ، وهو كذلك قال لبيد :
وما المرء إلا كالشهاب وضوءه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون الا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع(2/34)
ج 2 ، ص : 35
قال تعالى «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ» إذا لم يؤمنوا بالرسل ويا ويلهم من يوم الحسرة راجع تفسير الآية 29 من سورة مريم الآتية ، ثم بين سبب هذه الحسرة بقوله عز قوله «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 30 يسخرون من قوله لا يسمعون نصحه ، وهذه نظير الآية 10 من سورة الحجر في ج 2 ، ومعنى الحسرة العم والندم على ما فات لأن الإنسان من شدة الندم على صنعه الضر وتضييعه فرصة تلاقيه بالخير ، وإهماله أوقاته سدى يركبه غم لا نهاية له بعده ، ونزلت الحسرة منزلة العقلاء بإدخال حرف النداء عليها كأنه قال يا حسرة احضري ، فهذه الحال من الأحوال التي يجب أن تحضري فيها لأهميتها والمعنى أنهم أحقاء بان يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون لرفضهم الخير الذي جاء إليهم من اللّه عفوا دون طلب ،
ثم التفت إلى أهل مكة بعد الانتهاء من هذه القصة فقال عز قوله «أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ» الخالية من أهل كل عصر.
وسموا قرونا لاقترانهم في الوجود ، والرؤية هنا علمية لا بصرية لأن أهل مكة لم يحضروا هلاك من قبلهم من الأمم الخالية حتى يروه عيانا بل علموه بالأخبار المتناقلة عن الأجيال بمشاهدة آثار المهلكين من أطلال مساكنهم ، اما أهل الفيل أبرهة ومن معه فلا يعدون من القرون الخالية لأنهم كانوا في زقهم وآبائهم ومنهم من شاهد ما وقع بهم ، راجع تفسير سورة الفيل المارة «أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» 31 لان الهالك في الدنيا لا يرجع إلى الدنيا ، وإنما مصيره الآخرة ينم على هذا قوله «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا» أي الأوان هنا بمعني لا النافية أي ما كل إلا جميع لدينا ، قيل إنها مخففة وما زائدة وعليه يكون المعنى انه إي الحال والشان كل جميع لدينا ، والأول أولى إذ لا زائد في كتاب اللّه «جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» 32 يوم القيمة للحساب والجزاء أفلا يعتبر أهل مكة بهم ويتحققوا أن مصيرهم كمصيرهم بل انهم سيموتون ويرجعون إلينا فنحاسبهم ونعاقبهم ، وقرىء لما بالتخفيف ، وعليه تكون ما للتأكيد وان مخففة من الثقيلة ، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه ، ويكون المعنى ان(2/35)
ج 2 ، ص : 36
كلهم مجموعون محضرون ليوم الدين «وَآيَةٌ لَهُمُ» لمنكري البعث أهل مكة وغيرهم دالة على إحياء الأموات «الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ» الجافة اليابة التي لا نبات فيها قد «أَحْيَيْناها» بعد موتها بانزال المطر وإخراج النبات فيها «وَأَخْرَجْنا مِنْها» من النبات الخارج فيها بسبب الغيث «حَبًّا» نكره ليعم جميع الحبوب مما يأكله الإنسان والحيوان «فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» 33 جميعهم وقدم المتعلق بالكسر على المتعلق بالفتح لإفادة الحصر أي كأنهم لا يأكلون غيره ، لأن مغظم أكلهم منه «وَجَعَلْنا فِيها» أيضا بسبب الغيث جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ» 34 الكثيرة مياها متدفقة غزيرة لا تنضب وانما فعلنا ذلك «لِيَأْكُلُوا» كافه خلقنا من ثمره الحاصل من حبه ومن الأشجار الأخرى وذلك كله بسبب الغيث المسبب لحمأة الأرض ، وأعاد بعض المفسرين ضمير ثمره إلى اللّه جل شأنه وتوجيهه أن الثمر نفسه فعل اللّه وخلقه إلا أن فيه آثارا من فعل البشر ، فيكون أصل الكلام من ثمرنا كما قال تعالى وفجرنا فنقل الكلام في التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات ، والأول أولى وأليق بالمقام وأنسبه للسياق ، إذ لا داعي هذا التكلف مع ظهور المعنى على الأول «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» أي ذلك الحب والثمر البديع الصنع بل هيّء لهم بصنع اللّه لأن الزرع ليس زرعهم بل من فعل اللّه والغرس ليس غرسهم بل من عمل اللّه وان أتعابهم التي صرفوها في ذلك هي من قدرة اللّه ، لأنه لو لم يقدرهم على ذلك لما قدروا على شيء أصلا ولو شاء لحرمهم منه بتسليط آفة سماوية عليه أو أرضية فيقطع عنهم الماء أو يرسل حرا أو بردا أو آفة فيدمره ، راجع تفسير الآية 63 فما بعدها من سورة الواقعة الآتية والآية 96 من سورة الصافات في ج 2 ويجوز أن يكون المراد ليأكلوا من ثمره رأسا أو مما عملته أيديهم منه كعصير العنب والبرتقال والثمر وسائر
الفواكه وما يعقدونه منها أو يخرجونه بغيره كالحلويات والمعجنات وغيرها من أنواع السكاكر والمأكولات ، فهذه كلها من الدلائل على صحة الإحياء بعد الموت «أَ فَلا يَشْكُرُونَ» 35 نفعا هذه عليهم واثباتنا لها(2/36)
ج 2 ، ص : 37
بالحجج والدلائل لإفناعهم على الإيمان بالإله الواحد والرسل والحياة الأخرى ووجود الجنة لمن أطاعنا والنار لمن عصانا ، وهذا استفهام انكار لانكارهم وجحودهم واستقباح لعدم شكرهم نعم اللّه عليهم وكأنهم لم يكتفوا بهذه البراهين على ذلك «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها» من أصناف الحيوان والجماد والنّبات «مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» 36 مما لم يطلعهم اللّه على علمه ومعرفته ولم يتوصلوا لها بعد لعدم وقوفهم على عظيم قدرته وسعة ملكه وما عرفه الناس المادة الكهربائية الا عثورا ، ومن يعش ير لأنا رأينا أشياء لم يرها أسلافنا ولم يحلموا بها ، ولو ذكرت لهم لكذبوها فقد كذبوا حديث الدجال من أنه إذا ظهر يبلغ خبره المشرق والمغرب بيوم واحد ، وها ان المذياع (الراديو) يسمع أخباره أهل المشرق والمغرب بلحظة واحدة ، وسيرى أحفادنا ما لم نره نحن من عظيم مكونات اللّه التي
سيطلع عليها خلقه بأوقاتها المقدرة عنده ، فسبحان من لا يحيط بعلمه غيره ، ثم ذكر برهانا على إمكان الحياة الأخرى بقوله عظم قوله «وَآيَةٌ لَهُمُ» على قدرتنا باعادة الخلق كما بدأناه ليتيقن هؤلاء المنكرون عظمتنا وحجة ما جاءهم به رسلنا «اللَّيْلُ نَسْلَخُ» نكشط ونقشط ونكشف (ويأتى بمعنى السّرى والتنفس) «منه النّهار» فلا نبقي معه شيئا من ضوء الشمس مثل نزع القميص الأبيض عن الزنجي الأسود ، لأن ما بين الأرض والسماء ظلمة فيكسو بعض ذلك الفضاء ضوء شمس فيكون كيت مظلم أسرج فيه سراج ، فاذا انطفأ السراج أظلم البيت «فَإِذا هُمْ» أي جميع المخلوقات التي كساها ضوء الشمس «مُظْلِمُونَ» 37 بعد انسلاخ النهار بظلام الكون في المحيط الموجودين فيه ، وينصرف أيضا للقسم الآخر منه ، إذ تكون الحال في موضع ليلا وفي آخر نهارا وفي موضع صبحا وفي غيره مساء ، وفي قطر ضحى وآخر عصرا وهكذا ، ثم ذكر آية ثالثة لهؤلاء المنكرين على الحياة الآخرة بقوله عز وجل «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» لمقدار تنتهي إليه في منازلها بالنظر لما نراه لأن سيرها محدود غايته المستقر الذي قدره اللّه لها وقد صرح إمام الحرمين وغيره بأن الشمس تطلع عند(2/37)
ج 2 ، ص : 38
قوم وتغرب عند آخرين فبآن واحد طالعة في مكان غائبة في غيره ، فيطول الليل عند أناس ويقصر عند آخرين ، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء ، وفي أقصى بلاد البلغار قد يطلع الفجر قبل غياب الشفق ، فلا وقت لصلاة العشاء عندهم إلا أنهم يقدرونه تقديرا بحسب الساعات ، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية ولا تزال غاربة في البروج القبلية ، فنصف السنة في ذلك المكان ليل ونصفها نهار وقامت الأدلة على عدم سكونها عند غروبها والا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على ان غروبها في أفق ، طلوع في غيره وأيضا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها ، أما ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ابي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» قال مستقرها تحت العرش ، فالمستقر اسم مكان ، وظاهر الحديث الذي لا غبار عليه أن للشمس مستقرا أي قرارا حقيقيا ، وقال النووي وجماعة من أهل العلم بظاهره أيضا لا سيما وأنه مروي عن أبي ذر وهو من عرفت مكانته وما هو عليه من الصدق والأمانة ، والآية نصت على أن جريانها لمستقر لها أيضا ، ولا يمكن التوفيق بين الآية والحديث وبين ما يقوله أهل الهيئة إلا إذا قلنا إن الشمس وسائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبىء عن هذا قوله تعالى «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» الآية الآتية ومثلها الآية 34 من سورة الأنبياء في ج 2 حيث لسند الفعل إلى ضمير العقلاء مثله في قوله «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً» الآية 4 من سورة يوسف في ج 2 حيث جمعها جمع من يعقل أيضا ، وما جاء في هذا الحديث في رواية أخرى وهي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب ؟ قال اللّه ورسوله أعلم.
قال إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) - أخرجاه في الصحيحين - والمتبادر من الاستيذان(2/38)
ج 2 ، ص : 39
ما يكون بلسان القال دون لسان الحال كفيرها من الجمادات التي خاطبها اللّه تعالى ومكنها من الإجابة حسبما أراد ، راجع تفسير الآية 73 من سورة الأعراف المارة بما يتعلق بهذا البحث ، هذا وما يقال أن اللّه جل شأنه خلق فيها الإدراك والتمييز حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها ، بعيد غاية البعد ولا حاجة إلى مثل هذا.
والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصيه كثرة.
والعترة نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون ممن مضى ونجد (أي بقي) والمراد بها هنا (آل الرسول ورهطه وعشيرته) والبروج المار ذكرها بيناها في سورة البروج المارة فراجعها تر بعضها يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص ، وبعضها يدل على ثبوته لها في العموم أو بالغاية ، إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان ، بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة.
مطلب في انسلاخ الأنفس :
اثبت الحكماء النفس للفلك ، وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضا وقالوا كل ما في العالم العلوي والسفلي من الكواكب الأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حيّ ناطق ، والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ من الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما تمثل جبريل عليه السلام وظهر لحضرة المصطفى وأصحابه بصورة دحية الكلبي أو بصورة بعض الأعراب كما جاء بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر رضي اللّه عنه قال بينما نحن جلوس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاسند ركبته إلى ركبتيه ودفع كفيه على فخذيه ، وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.
قال صدقت ، فتعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن باللّه وملائكته(2/39)
ج 2 ، ص : 40
وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال صدقت ، قال فأخبرني عن الإحسان ، قال أن تعبد اللّه كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك ، قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، قال فأخبرني عن أماراتها قال : أن تلد الأمة ربّنها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان ، ثمّ انطلق فلبثت مليا ثم قال يا عمر أتدري من السائل ؟
قلت : اللّه ورسوله أعلم ، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
فقد ثبت في هذا الحديث أن جبريل جاء بصورة اعرابي ، ثم تذهب تلك الصورة المنسلخة عن الجسد الظاهر حيث يشاء اللّه عز وجل ، مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يصدر عن أصلها المنسلخ منها.
ومن هذا القبيل ما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع ، وبدنها الأصلي في موضع آخر وهذا من قبيل الكرامة التي يظهرها اللّه تعالى لهم وانا أشهد بهذا وأصدق وأنت أيها المنكر :
إذا لم تر إهلال فصدّق لأناس رأوه بالأبصار
وذلك أني سمعت هذا من أناس أثق بصدقهم وصلاحهم وهم من أهل هذا
لا تقل دارها بشرقي نجد كل نجد للعامرية دار
وهذا أمر مقدر عند السادة الصوفة مشهود فيما بينهم بالتواتر وهو غير طي المسافة المقرر عندهم أيضا والثابت وقوعه لديهم تواترا أيضا ، ولا يسعنا إلا التصديق لأن إنكار هاتين الخصلتين عليهم مكابرة لا تصدر الا عن جاهل بحقيقتهم أو معاند لهم ، وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض فقهاء أهل السنة كابن مقاتل المشهور انه حكم بالكفر على معتقد ما روي عن ابراهيم بن أدهم قدس اللّه سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية (ثامن ذي الحجة سمي بذلك لأن ابراهيم عليه السلام رأى الرؤيا فيه بذبح ابنه) وأنه رئي ذلك اليوم بمكة وبنى حكمه هذا على زعمه أنه من جنس المعجزة العظيمة وهي مما لا تثبت كرامة للولي ، وهذا حكم فاسد لا يلتفت اليه ولا يعول عليه ، لان المعتمد عند أهل السنة والجماعة جواز ثبوت الكرامة مطلقا(2/40)
ج 2 ، ص : 41
للولي ، وان كل ما جاز وقوعه معجزة للنّبي جاز أن يكون كرامة للولي إلا إذا ثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل القرآن ، والتحدّي به ، لأن ذلك من خصائص الرسالة ، فمن أنكر هاتين الخصلتين أو إحداهما خرج عن دينه ولو طار بالهواء لانه بادعاء إحداهما يكون مدعيا الرسالة ولا رسالة بعد خاتمها ، تدبر ، حفظك اللّه من الزيغ وغرور النفس والحسد ، فإن كلا من هذه الثلاثة داع للانكار ، راجع الآية 147 من سورة الأعراف المارة ، وما ترشدك اليه ، هذا وقد أثبت غير واحد خبر نقل النفس وتطورها لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم بعد وفاته وادعى أنه عليه الصلاة والسلام يرى في عدة مواضع في وقت واحد ، مع كونه في قبره الشريف يصلي ، وضح أن موسى عليه الصلاة السلام يصلي في قبره مع أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم رآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة ليلة الإسراء كما بحث في تفسير أول الإسراء الآتية ، وعليه فلا قيمة لما يقوله بعض من لا ثقة بعلمه ولا وثوق بذاته من إنكار هذه القضية البالغة من التواتر دون معارضته من أهل العلم العاملين ، وما تعلل به من كون موسى عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي صلى اللّه عليه وسلم عند قبره في الأرض مما لم يقل به أحد جزما ، لأن القول به احتمال بعيد ، بل لا بد أن يكون بصورة أخرى عنه ، وقد رأى صلى اللّه عليه وسلم ليلة أسري بروحه وجسده إلى السماء جماعة من الأنبياء في السموات أيضا مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا من الأرض إلى السماء على قياس ما سمعت آنفا ، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس لواحدة أكثر من بدن واحد وحيّز واحد ، بل هو أمر ممكن كما لا يخفى على من نور اللّه بصيرته ، فعلى هذا لا يقال إن الشمس نفس مثل تلك الأنفس القدسية وانّها تنسلخ عن الجرم المشاهد مع بقاء سيرها وعدم سكونها حسبما يدعيه أهل
الهيئة وغيرهم ، ويكون ذلك إذا غربت وتجاوزت الأفق الحقيقي بالنسبة لكل قطر وانقطعت رؤية سكان المعمور في الأرض لها ، ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحوه ، لأن ما ذكرت من كون السجود(2/41)
ج 2 ، ص : 42
والسكون باعتبار النفس المنسلخة الممتثلة بما شاء اللّه ، لا ينافي الجرم المعروف ، بل لو كان السجود والسكون نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضا بالنسبة لكل مدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر ، إلا الذي يغلب على الظن ما يأتي بعد في تفسير قوله تعالى «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» وإذا علمت هذا تيقنت أن لا تعارض بين الحديث الصحيح المار ذكره في الشمس وبين كلام أهل الهيئة وما يقتضيه الحس أيضا واللّه أعلم ا هو من روح المعاني وغيره بتصرف واختصار وتبسط «ذلِكَ» الجري البديع والمستقر الشان «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» 48 به بحساب يكل النظر عن استخراجه وتتحير الافهام في استنباطه ، لانه فعل الغالب بقدرته على هذا الجريان حسبما تفتضيه إرادته ، فانظر رعاك اللّه في هذين الشخوص والهبوط المستمرين في الكون على المنوال المذكور في هذه الآية الكريمة ، وتفكر هل كان أحد في عهد نزول
القرآن العظيم اطلع عليها وهل علمها أحد قبل إنشاء المراصد الفلكية واختراع المكبرات الرصدية غير صانع هذا الكون وبارئه على غير مثال سابق.
وقد أخبرنا به المنزل عليه محمد صلى اللّه عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا عن ربه عز وجل ، ولا أبين من بيان اللّه في حق هذا القرآن الجليل ، كيف لا وقد قال فيه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ) الآية 90 من سورة النحل في ج 2 ، قال تعالى «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» جمع منزلة والمراد بها المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة وهو لا يتعداها من أول ليلة إلى الثامن والعشرين ثم يستكن ليلة إذا كان تسعا وعشرين وليلتين إذا كان ثلاثين يوما.
مطلب منازل الكواكب وكيفية جريانها :
وقال أهل الهيئة إن المنازل سبعة وعشرون وثلث ، وقد حذفوا الثلث لنقصه عن النصف كما هو مصطلح المنجمين.
ويراد بالمنازل واللّه أعلم مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء الممطرة ، وهي ثمان وعشرون منزلة :
1 الشرطان ، 2 البطين ، 3 الثريا ، 4 الدبران ، 5 الهقعة ، 6 الهنعة ، 7 الذراع ، 8 النثرة ، 9 الطرف ، 10 الجبهة ، 11 الزّبرة ، 12 الصرفة ، (2/42)
ج 2 ، ص : 43
13 العوّا ، 14 السماك ، 15 الفقر ، 16 لزّباني ، 17 الإكليل ، 18 القلب ، 19 الشّوله ، 20 النعائم ، 21 البلدة ، 22 سعد الذابح ، 23 سعد بلع ، 24 سعد السعود ، 25 سعد الأخبية ، 26 فرع الدلو المقدم ، 27 فرع الدلو المؤخر ، 28 الرشا.
ولكل منها معنى وتعريف خاص بها سنأتي على بيانه في تفسير الآية 15 من سورة الحجر في ج 2 إن شاء اللّه إذ أننا أطلنا البحث هنا فيما يتعلق بانسلاخ الشمس الذي نشأ عنه الانسلاخ القوسي.
هذا ، واعلم أنه إذا كان القمر في آخر منازله رق وتقوس ولهذا أشار إليه تعالت إشارته بقوله «حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ» أحد شماريخ عذق النخل «الْقَدِيمِ» 49 الذي مر عليه الحول ، لأنه لشدّة يبسه يكون رفع من العرجون الحديث «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ» فتجتمع معه وتداخله في سلطانه ليلا ، ولا يتمكن هو من الاجتماع معها ليشاركها في سلطانها نهارا «وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» أيضا بل يتعاقبان بنظام بديع وحساب معلوم لا يتغير ولا يخطىء ، لأنه إذا أدرك أحدهما الآخر اختل نظام الكون وقامت القيامة ، قال تعالى : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) الآيات من 8 إلى 11 من سورة القيامة المارة ، أي يقال هذا القول يوم القيامة الذي يحار الإنسان فيه ويذهل عن ذويه وخاصته «وَكُلٌّ» من الشمس والقمر وما ينشأ عنهما من الليل والنهار وما يرتبط بسيرهما من الكواكب «فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» 40 يسيرون ، وكررت هذه الجملة في الآية 33 من سورة الأنبياء في ج 2 ، بما يدل على أن سير هذه كلها مقطوع بها حتما لا سبيل لانخرامه ، تدبر ، وفيها إشارة إلى أنها كلها عائمة بالهواء في الفضاء ليست مرتكزة على شيء ولا متعلقة بشيء كجريان السمك بالماء لجواز أن تكون السماء كلها لطيفه أو مجرى الكواكب منها لطيفا فيشق الكوكب ما يحاذيه يجري به كما تجري السمكة الكبيرة أو الصغيرة في البحر أو في النهر أو في ساقية منه.
أما ما يقوله الفلاسفة بانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لقعر فلك القمر وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة(2/43)
ج 2 ، ص : 44
الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء فلا قيمة له ، إذ لم يقم لهم دليل قاطع على شيء من ذلك ، وهو عبارة عن حدسيات وشبهات توغلوا فيها لإنكار عروج صاحب الرسالة ، وقد بينا ما يتعلق في هذا في تفسير سورة والنجم المارة في الآية 18 ، ولهذا البحث صلة أول سورة الإسراء الآتية فراجعه ففيه كفاية ، على أنه يجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير والكواكب فيه تجري بجريانه ، وهناك أخبار تشير إلى صحته.
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية هذه فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : لا يدور المغزل إلا بالفلكة ، ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل ، والنجوم في فلكة كفلكة المغزل ، فلا تدور إلا بها.
وقال الشيخ لأكبر في فتوحاته المكية :
جعل اللّه السموات ساكنة وخلق فيها نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباقها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص ، وجعلهم عاقلة سامعة مطيعة بدليل قوله جل قوله (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) الآية 14 من سورة فصلت في ج 2 ، ثم إنه تعالى شأنه لما جعل السباحة للنجوم أحدث لكل منها طريقين في السماء هو قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) الآية 8 من سورة الذاريات في ج 2 ، قسمت تلك الطرق أفلاكا ، فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير فتخرق الهواء الماس السماء فيحدث منه أصوات ونعمات مطربة ، لكون سيرها على وزن معلوم وتجري بعادة مستمرة ، وقد علم بالرصد مقادير سيرها على التقريب ، وكذلك دخول بعضها على بعض ظنا إذ لا يعلم ذلك على التحقيق إلا اللّه الذي جعل يسيرها عبرة للناظرين بين بطء وسرعة وتقدم وتأخر في أماكن من السماء معلومة بصورة بديعة.
ثم ذكر برهانا رابعا على عظيم قدرته فقال «وَآيَةٌ لَهُمْ» على بالغ قدرتنا وبديع صنعنا «أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ» أي ذرية آبائهم الأقدمين قبل نوح عليه السلام «فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» 41 سفينة أبيهم الثاني إذ ملأها به وبأهله ومن آمن به معه ومن عموم الحيوانات زوجين اثنين حتى من الطيور(2/44)
ج 2 ، ص : 45
راجع تفسير الآية 37 من سورة هود في ج 2.
ويجوز أن يراد بالذرية أولاد المخاطبين ، إذ كانوا يبعثونهم بالسفن البحرية الشراعية للتجارة ، لأن أصل الذرية الصغار من الأولاد ويقع بالتعارف على الكبار والصغار ، ويستعمل للواحد والجمع وفي الأصل هو للجمع فقط ، وفي قوله المشحون إشارة إلى البواخر المحدثة بعد عهد نزول القرآن التي أصلها سفينة نوح عليه السلام هذه ، لأنها مشحونة بالأشخاص والأموال ومشحونة أيضا بالبخار الذي بسوقها ولا شيء يمتلىء امتلاء البواخر بالبخار ، يدل على هذا قوله جل قوله «وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ» أي ذلك الفلك المشحون «ما يَرْكَبُونَ» 42 فيه بالبحر من السفن والبواخر الكبار في الهواء من الطيارات المتنوعة وفي البر من الحيوانات وخاصة الإبل إذ يسمونها سفن البر ، والسيارات والدراجات والعجلات لتنوعة مما يركب ويحمل عليه ، وكل هذا داخل في قوله تعالى من مثله كالقطارات ، لأن هذه الإشارة تشمل الجميع ولأن بيوت بخارها مثل بيوت بخار البواخر المشار إليها بكلمة ذريتهم وهم أبناء هذا الزمان ، وهذا كله من الإخبار بالغيب الذي يقصه اللّه علينا في كتابه ولا تناهي لمعجزاته ، قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) الآية 53 من سورة فصلت في ج 2 ، أي آفاق السموات والأرض ولا يخترق هذه الآفاق إلا هذه المحدثات ، وما ندري ما يحقق لنا القرآن فيما بعد مما يتصوره العقل من الجائزات ، ولعل يكون ما قاله أبو الحسن الأشعري من أنه يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة الأندلس ، وقد تحقق ذلك بعد أن ظهر المذياع المصور بكسر الواو الذي يسمع فيه صوت القارئ وترى صورته ، واللّه على كل شيء قدير ، ومن قدرته أقدار خلقه على مثل هذه الأشياء مما لا يكاد يقبله العقل ولا يتصوره مع وجوده ، راجع الآية 10 من ص المارة والآية 95 من سورة الصافات في ج 2 ، قال تعالى «وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ» في البحر هم وسفنهم مهما عظمت إذ سماها اللّه جواري وشبهها بالجبال في قوله : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الآية 24 من سورة الرحمن في ج 3 ، ونظيراتها الآية 31 من سورة الشورى في ج 2 ، وكذلك إذا شاء يقلب القطارات ويوقع الطائرات بسبب وبغير سبب ، (2/45)
ج 2 ، ص : 46
وإذا أغرقهم أو أسقطهم أو قلبهم «فَلا صَرِيخَ لَهُمْ» أي لا مغيث يستغيث لهم ، وسمى المغيث صريخا لأنه ينادي من ينجيه مما حل فيه فيصرخ بأعلى صوته ولا أحدا يغيثه من قدر اللّه «وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ» 43 ينجون منه لأن من يقدر هلاكه اللّه لا محيد له عنه البتة ، لأن البشر عاجز عن الحؤول دونه «إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا» نحن الإله القادر على إغاثتهم بالنظر لما هو في علمنا الأزلي فنيسر لهم من يغيثهم أو نحفظهم من الهلاك وقتا مقدرا «وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» 44 انقضاء آجالهم قال أبو الطيب :
ولم أسلم لكي أبقى ولكن سلمت من الحمام إلى الحمام
وفي هاتين الحالتين ننقذهم نحن ، وغيرنا لا يقدر على إنقاذهم إذا لم نشأه ، حد قوله :
إذا نحن نؤمنك تأمن غيرنا وإذا لم تأخذ الأمن منا لم تزل حذرا
وهذه الآية المدنية من هذه السورة ، قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ» لمنافقي المدينة «اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» مما يتوقع حصوله من العذاب الدنيوي إذا أصررتم على نفاقكم كالأمم الماضية التي أصرت على كفرها «وَ» اتقوا أيضا «ما خَلْفَكُمْ» مما توعدون به من عذاب الآخرة ، ويجوز أن يكون على العكس بأن يراد ما بين أيديهم عذاب الآخرة ، لانهم مقبلون عليه ، فكأنه بين أيديهم وبما خلفكم عذاب الدنيا لأنهم تاركوه وراءهم ، ولكن الأول أولى وأنسب بالمقام ، أي احذروا هذين العذابين المتوخى نزولهما بكم «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» 45 أي ترجون رحمة اللّه ، وقال بعض المفسرين إن هذه الآية مكية والخطاب لكفار قريش أي اتقوا الوقائع التي ابتليت فيها الأمم المكذبة لانبيائها ، واتقوا إنكار أمر الساعة وآمنوا بنبيكم علكم تصيبكم رحمة ربكم ، وجواب إذا محذوف تقديره : فأعرضوا ولم يلتفتوا إلى هذا القول ، على كلا القولين والمعنيين ، ويدل على حذف الجواب قوله تعالى «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ» الدالة على قدرته وصدق نبيه «إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» 46 دأبهم في كل آية فيها إنذار وبشارة «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا» أيها المتمولون على فقرائكم «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» وأحسنوا إليهم كما أحسن اللّه إليكم «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» المأمورون بالإنفاق من أهل مكة(2/46)
ج 2 ، ص : 47
وغيرهم «لِلَّذِينَ آمَنُوا» القائلين لهم أنفقوا «أَ نُطْعِمُ» رزقنا الذي حصلنا عليه بكدنا «مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» أي كيف نطعمه وقد أفقره اللّه ؟ فليطعمه الذي أفقره وهو استفهام إنكار ، أي لا نفعل ذلك أبدا ، والكلام مسوق لذمّهم على البخل وعدم شفقتهم على ذويهم وأبناء جنسهم من فضل ما منّ اللّه به عليهم إثر ذمهم بإنكار البعث والنبوة والمعاد ، ثم لم يكتفوا بما قالوا بل أتبعوه بقولهم «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 47 لأنكم تأمروننا بإعطاء رزقنا لمن لم يرد اللّه إعطاءه ، وهذا أولى من قول من قال إن هذه الجملة من قول اللّه أي قال تعالى لهم إن أنتم إلخ ، وأولى من قول من قال إن هذه الجملة من قول المؤمنين لهم لمخالفتها سياق الآية وسياق الحكاية ، قالوا كان العاص بن وائل السهمي وبعض كفار قريش المتزندقين إذا سألهم المساكين من فضول أموالهم ، ومما زعموا أنهم جعلوه للّه من حروثهم وأنعامهم كما سيأتي بيانه في الآية 136 من سورة الأنعام في ج 2 فما بعدها ، قالوا له اذهب إلى ربك فهو أولى بك منا ، أيمنعك هو ونعطيك نحن ؟ كلا ، لا نفعل هذا ، فلو أراد رزقك لرزقك كما رزقنا ، فنزلت فيهم هذه الآية.
وقد تمسك بقولهم هذا البخلاء أسوة بسادتهم أولئك إذ يقولون لا نعطي من حرمه اللّه ، وهو قول باطل يلجأ إليه كل عاطل من فعل الخير إخوان المنزل فيهم هذه الآية ، لأن اللّه تعالى أغنى أناسا وأفقر آخرين ابتلاء واختبارا لا بخلا ولا استحقاقا ، وأمر الغني بالإنفاق ليمتحنه أيقدر شكر نعمته عليه أم لا ، وقد هدد الغني في الحديث القدسي : (الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي فإن بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي.) وامتحن الفقير بهدر ماء وجهه ليختبره أيصبر أم لا ، ألا فليتعظ الأغنياء ويتعظوا قبل أن يحل بهم ما لا كاشف له إلا اللّه.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود لا صحة له لأنها مكية بالاتفاق كسائر هذه السورة إلا الآية المستثناة 45 المارة على قول بأنها مدنية والأرجح عندي أنها مكية أيضا كما مر لك في تفسيرها الثاني واللّه أعلم ، قال تعالى «وَيَقُولُونَ» هؤلاء الكفرة يا محمد «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به أنت وأصحابك من نزول العذاب(2/47)
ج 2 ، ص : 48
وقيام الساعة والحساب والجزاء في يوم البعث من القبور ، قد طال علينا أمده أخبرونا وقته على الحقيقة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 48 بقولكم ، قال تعالى قل لهم يا سيد الرسل إنه قريب بالنسبة لما عند اللّه وأنه على حين غفلة سيأتيكم غرة لأنه تعالى يقول :
مطلب في النفختين والذي لا يبلى من البشر :
«ما يَنْظُرُونَ» هؤلاء المستعجلون على شرهم «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من عبدنا جبريل الموكل بالنفخة الأولى والثانية «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» 49 فجاءة أثناء مخاصمتهم في بيعهم وشرائهم ومنازعتهم في أمورهم لدنيوية المنهمكين بها ، وحينذاك «فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً» في شيء من أمورهم لأن كلا منهم يموت على حالته التي هو فيها حين سماعه الصيحة ولهذا قال تعالى ولا إلى أهلهم يرجعون 50» إذ ليس باستطاعتهم لرجوع إذا كانوا خارجين لشأنهم وفي هذا تنبيه عظيم على عظمة هذه الصيحة التي لا تمهل القائم أن يقعد ولا القاعد أن يقوم إذ يموت كل بمكانه على هيأته دون حركة ، ولا عجب من ذلك لأنه من فعل اللّه.
قالوا كان شبيب الحروري إذا صاح في القوم لا يلوي أحد على أحد وفيه يقول :
إن صاح يوما حسبت الصخر منحدرا والريح عاصفة والموج يلتطم
فإذا كانت صيحة عبد من عبيده في الدنيا تفعل هكذا ، فما بالك في صيحة ملك عظيم من ملائكته.
روى مسلم من حديث عمرو ابن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا (أي مال عنقه لان الليت صفحة العنق) فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله (أي يصلحه ويطينه) فيصعق وبصعق الناس ، وقدمنا في تفسير الآية 185 من سورة الأعراف حديث أبي هريرة المتعلق بهذا مطولا فراجعه ،
قال تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» أي النفخة الثانية للبعث والحساب وبينهما على ما قيل أربعون سنة «فَإِذا هُمْ» الأموات الذين ماتوا قبل النفخة الأولى جميعهم والذين ماتوا بعدها قائمين «مِنَ الْأَجْداثِ» المدافن أعم من القبور «إِلى رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم «يَنْسِلُونَ» 51 يخرجون أحياء يتسابقون إلى الموقف وراء المنادي(2/48)
ج 2 ، ص : 49
قالوا لبعضهم متعجبين من حالتهم التي كانوا غافلين عنها في الدنيا ومنكرين وجودها «يا وَيْلَنا» يا هلاكنا «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» الذي كنا فيه لأنهم يرون ما كانوا فيه من عذاب البرزخ بالنسبة لما شاهدوه من الهول هينا وكأنه في جنب شدة القيامة نوما ، وهنا وقف لازم ، أي سكنة خفيفة ، فرقا بين كلامهم وكلام الملائكة القائلين لهم «هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ» به خلقه في الدنيا على لسان رسله «وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» 52 بما قالوا لكم عنه بأنكم تموتون ثم تحيون وتسألون عما عملتم في دنياكم وتعاقبون وتثابون فكذبتموهم.
ويوجد ثلاث سكنات أخر مثل هذه ينبغي للقارئ أن يسكت سكتة خفيفة عند تلاوتها : الآية 14 من سورة المطففين ، والأولى من سورة الكهف ج 2 ، والآية 27 من سورة القيامة المارة ، يقال : (من.
راق) كما سنبينها في مواضعها «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» أي تلك النفخة من ملكنا جبريل عليه السلام «فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» 53 أولهم وآخرهم في الموقف للحساب والجزاء عما كان منهم في الدنيا من خير وشر.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما بين النفختين أربعون ، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت ، قالوا أربعون شهرا ، قال : أبيت ، قالوا أربعون سنة ، قال : أبيت (يقول رضي اللّه عنه كلما سئل عن بيان الأربعين وتمييزها أبيت أي أمتنع عن القول ، وذلك لانه لم يسمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما هي الأربعون ، لانه أمين على ما سمع ، فينقل ما سمعه بلا زيادة ولا نقص جزاه اللّه عنا خيرا.
ومع هذا الحرص على حفظ كلام الرسول وأمانته عليه من أن يدخل فيه ما ليس منه ما لم يتحقق سماعه ، فإن بعض من لا خلاق له من العلم يتهمه بسبب كثرة روايته عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقد اعتذر لهم بأنه كان ملازما حضرة الرسول ، وإخوانه بالأسواق وغيرها يتلهون بأعمالهم ، لذلك صار أكثر رواية منهم أللهم حسن ظننا بعبادك المخلصين) ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ، ويأمر اللّه تعالى كل ذرة أينما كانت في البر أو البحر أو الهواء بالاتصال بجسدها التي انفصلت منه ، وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا(2/49)
ج 2 ، ص : 50
عظما واحدا هو عجب الذنب ، ومنه يركب الخلق يوم القيامة قال صاحب الجوهرة :
والجسم يفنى غير عجب الذنب وغير شهيد الحرب ونبي
وهذا أيضا جاء على قاعدة ما عموم إلا وخصص.
هذا ، وحينما يتظاهر أهل الموقف بالضجر مما يشاهدونه من الهول وعدم علمهم بما يؤول إليه أمرهم يقول اللّه تعالى «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ» منكم أيها الخلق «شَيْئاً» مما عملتموه في دنياكم برة كانت نفسكم أو فاجرة حسنا كان عملها أو سيئا «وَلا تُجْزَوْنَ» جنّكم وإنسكم «إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» فيها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ثم طفق يصف للناس أصحاب الخير بعد حسابهم بقوله جل قوله «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ» من معانقة الأبكار على ضفاف الأنهار وزيارة الأخيار عند سيد الأبرار وضيافة الملك الغفار في مشهد تحار فيه الأفكار والأبصار ، مما لا توصف لذته ولا تقدر فرحته «فاكِهُونَ» 55 متلذذون متنعمون «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ» المؤمنات في الدنيا وما من اللّه عليهم من الحور والولدان جميعهم «فِي ظِلالٍ» من أكناف القصور والمواقع التي لا تقع عليها الشمس تسمى ظلالا في الدنيا أما الآخرة فلا شمس فيها قال تعالى «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» الآية 13 من سورة الرحمن في ج 3 ، وإنما سميت ظلالا بالنسبة لما نعرفه من ظلال الأشجار وغيرها وكلهم «عَلَى الْأَرائِكِ» السور في الحجال أو الفراش في الحجال وحكى الطبرسي أن الأريكة هي الوسادة ، وهذا مما يقبله الضمير قال تعالى «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» في صدر الآية المارة والاتكاء عادة في الدنيا يكون على الوسائد ، وما الدنيا إلا أنموذج الآخرة «مُتَّكِؤُنَ» 6 5 وهذا مما يؤيد أن الأريكة هي الوسادة ، وقال الزهري كل ما اتكئ عليه فهو أريكة.
قال في الصحاح الأريكة سرير منجّد مزين في قبة أو بيت ، وقال ابن عباس لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة ولا حجلة إذا لم يكن السرير فيها والحجلة كالقبة وموقع مزيّن بالثياب والستور للعروس.
وعلى كل فإن المراد بها الوسادة ، لأن السرير لا يكون بدون وسد فالذي يجلس عليه يتكىء على ما فيه من الوسد(2/50)
ج 2 ، ص : 51
«لَهُمْ فِيها» أي الجنة «فاكِهَةٌ» يتفكهون بها من أنواع الثمار والخضار «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» 57.
ويطلبون من أصناف المآكل والمشارب مما يتمنون ويشتهون.
مطلب تحية اللّه لعباده وتوبيخ المجرمين :
وزيادة على هذا فإن الملائكة غير الحافين بهم تبلغهم من ربهم تحية وهي «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» 58 أو انه جل جلاله يطلع عليهم بذاته المقدسة يدل على هذا ما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر ابن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع نور لهم فرفعوا رؤوسهم ، فاذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة ، فذلك قوله عز وجل سلام إلخ ينظر إليهم وينظرون اليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون اليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم قال صاحب بدء الامالي :
يراه المؤمنون بغير كيف وادراك وضرب في مثال
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
ومن هذه النعمة العظيمة رؤية الحق جل جلاله لانهم يتكرونها في الدنيا والآخرة فعوقبوا بحرمانهم منها راجع بحث الرؤية في تفسير الآية 143 من الأعراف المارة ، ثم شرع ينعت أهل النار أجارنا اللّه منها بقوله «وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» 59 اعتزلوا عن المؤمنين لانهم صاروا إلى ما وعدوا به في الدنيا على لسان الرسل ، وبمجرد صدور هذه الكلمة بل قبل تمامها اعتزل جميع أهل النار من كل الملل عن أهل الجنة ، لان أمره بين الكاف والنون وصار يوبخهم ويقرعهم بما هو أشد من عذابهم وأمر فقال لهم «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ» وأنتم في عالم الذر راجع تفسير الآية 172 من الأعراف المارة وأقول لكم «أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ» وافردوني وحدي بالعبادة وألم أقل لكم «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» 60 العداوة ، إذ بدأها بأبيكم آدم فاحذروه(2/51)
ج 2 ، ص : 52
ولا تشركوا بي أحدا ولا شيئا ، كيف وقد أعطيتموني هذا الميثاق وشهدتم به على أنفسكم وأشهدت عليكم ملائكتي وقد نقضتموه وعبدتم غيري
«وَأَنِ اعْبُدُونِي» وحدي لا تشركوا بي شيئا «هذا» الذي عهدت به إليكم من وجوب طاعتي وعبادتي ومعصية الشيطان وترك الشرك هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 61 لو اتبعتموه لنجوتم الآن لأنه سوي بليغ بالاعتدال لا اعوجاج فيه فلو تمسكتم به لكفى في إلزام أنفسكم طاعتي قال الآلوسي رحمه اللّه :
تفسر بعض الناس عنك كناية خوف الوشاة وأنت كل الناس
لأن الأصل الاستقامة ، ولا يكون إلا باتباع الطريق المستقيم فمن اتبعه نجا ومن حاد عنه هلك ، قال تعالى مخاطبا الخلق كلهم «وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ» أيها الناس «جِبِلًّا كَثِيراً» أي خلقا ، لان الجبل الجماعة العظيمة والأمة التي لا تقل عن عشرة آلاف تشبيها لها بالجبل العظيم.
مع كثرة إرسال الرسل إليكم لارشادكم «أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ» 62 ما بلغوكم به عنّا لتستعدوا ليومكم هذا استفهام توبيخ وتقريع لعدم اتعاظهم بما جرى على الأمم الضالة قبلهم تكذيبهم رسلهم وطاعتهم عدوهم إبليس ثم التفت لأهل النار وقال لهم «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» 63 بها من قبل الرسل في الدنيا والتي كانوا يخوفونكم بها وأنتم تكذبونهم ثم يقال لهم على سبيل الإهانة والتحقير من قبل ملائكة العذاب «اصْلَوْهَا الْيَوْمَ» أدخلوها لتكونوا وقودها «بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» 64 باللّه ورسله وتجحدون هذا اليوم ولما أرادوا أن يتكلموا الجمهم عن الكلام بقوله «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ» لئلا يتكلموا بها لانا سنأمر جوارحهم بالاعتراف عما فعلت «وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ» بما بطشت وما أخذت وأعطت «وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ» بما مشت ورمحت وهكذا كافة أعضائهم تنطق «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 65 في الدنيا وذلك أنهم أرادوا أن يعتذروا إلى اللّه بأنهم انقادوا لأكابرهم وأنهم لم يكذبوا رسله ولم يشركوا به ، كما مر في الآية 59 فما بعدها من سورة ص وما سيأتي في الآية 23 من سورة الأنعام في ج 2(2/52)
ج 2 ، ص : 53
فيمنعون من الكلام إذ لا فائدة لهم به.
روى مسلم عن أنس بن مالك قال :
كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضحك ، (أي تبسم لأنه كان لا يضحك وكلما نقل عنه أنه ضحك فالمراد به تبسم) فقال هل تدرون ممّ أضحك ؟ قلنا اللّه ورسوله أعلم ، قال في مخاطبة العبد ربه ، فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال يقول بلى ، قال فيقول : فإني لا أجيز على نفسي الا شاهدا منّي (أي لا أقبل شاهدا عليّ من الغير) قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام الكاتبين شهودا «و الآية في الإسراء بلفظ حَسِيباً» مما يفهم أن الاستشهاد بغير الآية ، قال فيختم على فيه ويقال لاركانه : انطقي ، قال فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل (أدافع وأخاصم ومعنى هذا هلاكا) والمراد بالختم على الأفواه ليس عدم شهادتها بل منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسن نفسها ، وكيفية شهادة الجوارح أن يجعل اللّه تعالى القادر على كل شيء فيها علما وإرادة وقدرة على التكلم ، فتتكلم وتشهد وأصحابها مختوم على أفواههم راجع كيفية هذا الختم في الآية 24 من سورة النور في ج 3 ، ولا نص فيها عن الأفواء كما أنه لا نص في هذه الآية على الألسنة أي لا ختم على الأفواه هناك ولا على الشهادة بالألسنة هنا وعليه فيجوز أن يكون المحدث عنهم في السورتين واحدا قال تعالى «وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا» مسخنا «عَلى أَعْيُنِهِمْ» كما أغشينا قلوبهم الباطنة بأن نجعلها كأنها غير مشقوقة ، وهذا أبلغ من أعميناها أو أغشيناها «فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ» بادروا طريقهم المألوف لهم ويجوز أن يكون الكلام من باب الحذف والإيصال بان حذف الجار وهو إلى واتصل الفعل بالمجرور وهو الأصل فاستبقوا إلى الصراط «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» 66 طريقهم وهم عمي القلوب عمي الأعين معا «وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ» حجارة بأن قلبنا ماهيتهم أو صيّرناهم قردة وخنازير كما فعلنا بأصحاب السبت أشار إليهم في
الآية 163 من سورة الأعراف المارة والآتي ذكرهم في الآية 60 من سورة المائدة في ج 3 قالوا ان مسخ الحيوان أو تحويله إلى(2/53)
ج 2 ، ص : 54
أحجار يسمى رسخا وإلى نبات يسمى فسخا وإلى حيوان يسمى نسخا أي لغيرناهم عن خلقهم وهم «عَلى مَكانَتِهِمْ» المكانة كالمكان مثل المقامة والمقام ويكون بمعنى المنزلة العالية في غير هذا المكان أي لو أردنا مسخهم لمسخناهم في منازلهم «فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا» عنها فلا يقدرون ان يبرحوها ويتخلصوا منها من ويل ما وقعوا فيه «وَلا يَرْجِعُونَ» 67 إلى ما كانوا عليه قبل النسخ أي عجزوا على الحالتين معا.
واعملوا أيها الناس ان طول الأعمار وقصرها بايدينا وفق ما هو في أزلنا «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ» منكم زيادة على غيره «نُنَكِّسْهُ» أي نقلّبه «فِي الْخَلْقِ» فلا يزال يتزايد ضعفه وتنقص بنيته وتضعف قواه ، وقد يقل عقله عكس ما كان عليه لأنه في بدأ طفولته كان يتزايد في الكبر والقوة والعقل والعلم ، لأنه يكون عند ولادته عاريا عن ذلك كله فإذا بلغ أشده استكمل قوته وعقله وعلمه ، وأنكس قلب الشيء على رأسه ، والمنكوس الولد الذي تخرج رجلاه قبل رأسه والنكس عود المرض بعد النّقه وكل ما كان مقلوبا فهو منكوس ولهذا قال ننكسه أي نرجعه على حالة الطفولة من جهة نقص القوى وضعف الجوارح والنكس الشيخ المدرهمّ الساقط العاجز من الكبر بعد الهرم ، والناكس المطأطئ رأسه من أجل ذلك «أَ فَلا يَعْقِلُونَ» 68 هؤلاء بأن من قدّر تعريف أحوال الإنسان بالصورة المذكورة وهي مدونة ومشاهدة ، ألا يقدر على إحياء من يميته ويبعثه حيّا مرة ثانية ، أفلا يعتبرون ويقيسون ما كان على ما يكون ، أفلا يتدبرون هذا نظرا وفكرا ؟ ثم التفت إلى كفار قريش الذين اتهموا نبيه صلى اللّه عليه وسلم بكونه شاعرا بعد أن قالوا ساحر وكاهن ومعلم ، لأنه هو المقصود بإنزال هذا القرآن بل من خلق اللّه كله فقال مكذبا لهم «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ» والكلام المنزل عليه لا يضاهي الشعر لأنه غير موزون بأوزانه.
مطلب أوزان الشعر ومخالفة القرآن لها :
أن الشعر عبارة عن تخيلات مرغبة أو منفّرة ، وهو معدن الكذب ومقر الهزل في كثير من الأحيان ولهذا قيل في مدحه (أعذبه أكذبه) وهو مبني على(2/54)
ج 2 ، ص : 55
ستة أصول (1) سبب خفيف وهو كل حرف متحرك وراءه ساكن مثل من وعن وقد (2) سبب ثقيل وهو كل حرفين متحركين مثل لم بما من (3) وتد مجموع وهو كل حرفين متحركين بعدهما ساكن مثل غزا ورمى وعلا (4) وتد مفروق وهو كل حرفين متحركين بينهما ساكن مثل سار ، قال ، باع (5) فاصلة صغرى وهي كل ثلاثة أحرف متحركات بعدها ساكن مثل ذهبا خرجا أكلا (6) فاصلة كبرى وهي كل أربعة أحرف متحركات مثل خرجتا ، ذهبتا ، أكلتا وهو عبارة عن ستة عشر بحرا لكل منها وزن خاص لا يتعداه وله أصول يتقيد فيها كالخبن والجزء.
وهو علم خاص له فروع في عروضه وضروبه وقوافيه ، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في النثر ، ومتى خرم في أصوله ووزنه بشيء لا يسمى شعرا.
وهذا القرآن العظيم كله حكم وعقائد وشرائع وأمثال وقصص وأمر ونهي منزه عن الهزل ، وكله قول حق وصدق قال تعالى «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» الآيتان 13 و14 من سورة الطارق المارة وإذا كان منزّها من الهزل فبراءته عن غيره أولى ، وليس على أوزان الشعر وقوافيه وأصوله فأين الثرى من الثريا ، وأين الثريا من يد المتناول ، وإذا لم يكن هذا القرآن شعرا ، وهو كذلك ، فإن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ليس بشاعر ، لأنه لا ينطق عن اللّه بغير ما يوحيه إليه ، فما يقوله هؤلاء الكفرة وأضرابهم وتلوكه ألسنتهم من الشعر غرضهم منه وصمه صلى اللّه عليه وسلم بالشعر مع أن ما جاء به ليس بشعر وحاشاه ثم حاشاه «وَما يَنْبَغِي لَهُ» ولا يليق به الشعر.
ولا تعلمّه ولا نطق به ، لأنه قد يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ، وهذا ليس كذلك.
والشعر أحسنه المبالغة في الوصف والمجازفة والإغراق في المدح والإفراط بتحسين ما ليس بحسن والتفريط في تقبيح ما ليس بقبيح ، وهذا مما يستدعي الكذب أو يحاكيه وجلّ جناب الشارع عن ذلك روي عن عائشة رضي اللّه عنها وقد قيل لها هل كان النّبي شاعرا يتمثل بشيء من الشعر قالت كان يتمثل بشعر ابن رواحه ويقول :
ويأتيك بالأخبار من لم تزود ......(2/55)
ج 2 ، ص : 56
أخرجه الترمذي ، وفي رواية غيره قالت كان الشعر أبغض الحديث اليه صلى اللّه عليه وسلم ولم يتكلم منه إلا ببيت أخي قيس طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار.
فقال أبو بكر رضي اللّه عنه ليس هكذا يا رسول اللّه ، فقال إني لست بشاعر ولا ينبغي لي ، وروى عن الحسن أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت : كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا.
فقال أبو بكر يا نبي اللّه انما قال الشاعر : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا.
أشهد أنك رسول ، وتلا هذه الآية وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لان يمتليء جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتليء شعرا وما صح من حديث جندب بن عبد اللّه أنه قال بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أصابه حجر فدميت إصبعه فقال :
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل اللّه ما لقيت
ومن حديث أنس رضي اللّه عنه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :
لهمّ إن العيش عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة
وما روى أنه قال :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
فهو من جملة كلامه الذي يرمي به من غير صنعة فيه ولا تكلف ، إلا أنه اتفق كذلك عفوا من غير قصد الشعرية وان كان موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس ومحاوراتهم ورسائلهم ، كلام موزون مقفى يدخل في بحور الشعر وأوزانه اتفاقا ، وقد جاء في القرآن العظيم ما هو بوزن شطر منه مثل قوله تعالى : «قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ» الآية 21 من سورة طه الآتية وقوله جل قوله : «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» الآية 25 من سورة الأحقاف في ج 2 وغيره كثير كما في الآية 14 من سورة النمل ، والآية 33 من سورة فاطر الآتيتين.
فهل يسمى هذا شعرا ؟ كلا ، على أن الخليل قال المشطور من الرجز ليس بشعر ، وهذا كله من(2/56)
ج 2 ، ص : 57
مشطور الرجز ، وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحبّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كثير من الكلام مناف لما سمعت من الأحاديث والأخبار ، ولعله قال ذلك بالتفضيل بين شعر وشعر كما قال حين أعجبه شعر أمية ابن الصلت (آمن شعره وكفر قلبه) وكما قال حين سمع قول النابغة :
بلغنا السماء بحدنا وسناؤنا وانا لنرجو بعد ذلك مظهرا
قال له إلى أين قال إلى الجنة يا رسول اللّه ، فأعجبه ولما بلغ في قصيدته قوله :
ولا خير في علم إذا لم يكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن حليم إذا ما أورد الأمر اصدرا
قال له لا يفضض اللّه فاك.
قالوا إنه عاش مائة وثلاثين سنة لم يسقط له فيها سن هذا ، وان القرآن العظيم امتاز عن كلام البشر بما تقدم ، وبنظم آياته على نظام السجع المستمر أو النثر من الشعر وبضرب الأمثال وسوق القصص وتكرارها بغير النسق الأول مع إعطاء المعنى كاملا ، وهذا مما يعجز عنه البشر وعدم التزامه أسلوبا واحدا في الأداء والبحث فكما تجد في السورة الواحدة عدة أبحاث تجده في الآية الواحدة أيضا ، وكما أن كثيره معجز فقليله معجز ، فهو في هذه الحيثية لا يتجزأ كالنور فإنه إذا تجزا لا يخرج عن طبيعته كله لأن جزء النور نور وهكذا القرآن جل منزله.
ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 226 من سورة الشعراء نستقصي فيها ما لا بد منه في هذا الشأن إن شاء اللّه تعالى ، ولما نفى جل جلاله أن يكون نبيه شاعرا وأن يكون كلامه شعرا قال «إِنْ هُوَ» أي ما الذي علمناه لحضرة رسوله «إِلَّا ذِكْرٌ» من لدنا أنزلناه عليه ليذكر به عبادنا ويعظمهم به «وَقُرْآنٌ» يقرأه عليهم «مُبِينٌ» 69 ظاهر واضح بأنه ليس من قول البشر ويلقم من تصدى لمعارضته الحجر كتاب سماوي لا مثل لمثله ، تحدى الخلق كلهم ليأتوا بسورة مثله فعجزوا ، وهو مصوغ صوغا إلهيا يباين كلام الإنسان ويخالف ما في الشعر من أصول وأوزان ، موضح للحدود والأحكام ، ومبين للحلال والحرام صادر عن حضرة الملك العلام القائل «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ(2/57)
ج 2 ، ص : 58
يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»
الآية 88 من سورة الاسراء الآتية ، فأين هو بعد هذا مما يتقوله المتقولون من مضاهاته للشعر المربوط بأوزان لا يتجاوزها ، وبحور لا يتعداها ، وهو من همزات الشياطين وأقاويل الكافرين ليمدحوا عليه أو ينالوا به شيئا من حطام الدنيا ، إذ كان متعارفا بينهم للمدح والذم المبالغ فيهما ، هذا وإنما أنزل اللّه جل شأنه هذا القرآن على رسوله صلى اللّه عليه وسلم «لِيُنْذِرَ» بأوامره ونواهيه ويرشد «مَنْ كانَ حَيًّا» قلبه تنجع فيه النذر وتؤثر فيه المواعظ «وَيَحِقَّ الْقَوْلُ» بوجوب العذاب «عَلَى الْكافِرِينَ» 70 الذين لا ينتفعون بالذكرى.
ثم شرع يعدد نعمه على خلقه الذين لا يجدر بهم ان يجحدوا كتابه ورسوله لو كان لهم ألباب فقال «أَ وَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء المعارضون لرسولنا «أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً» من الإبل والبقر والغنم وغيرها وخص الأنعام ، مع أن غيرها مثلها وأحسن كالخيل والبغال والحمير والبراذين التي لا غنى لهم عنها إذ ذاك ، لأنها أكثر أموالهم ، ولهذا قال تعالى «فَهُمْ لَها مالِكُونَ» 71 يتصرفون فيها كيفما شاءوا أو أرادوا.
مطلب آيات الصفات ونعمة إذلال الحيوانات :
هذا ، وقد سبق أن ذكرنا في تفسير الآية 54 من الأعراف والآية 30 من سورة ق المارتين بان آيات الصفات كهذه الآية مما لم يقطع بتفسيرها ، إذ أن السلف أبقوها على ظاهرها وأطلقوا معناها عليه ، وتأولها بعض الخلف وقال المتكلمون وبعض أهل الرأي أنه جل شأنه له يد لا كالأيدي ورجل لا كالأرجل وهكذا وهو مما طعن فيه أكثر الخلف لشدة تنزيههم الحضرة الإلهية عن مثله ، وكل ما هو من شأن البشر ، ولهذا فإنهم أولوا اليد بالقوة والنعمة والقدرة تحاشيا عن ذلك ، قال تعالى «وَذَلَّلْناها لَهُمْ» جعلنا هذه الأنعام مسخرة منقادة لخلقنا لتمام الانتفاع بها إذ لو جعلت متوحشة كغيرها من الحيوانات لم يقدروا على ضبطها ولحرموا منافعها وهذا من أكبر نعم اللّه على خلقه ، فانك تجد الطفل المميز(2/58)
ج 2 ، ص : 59
يقود البعير بخطامه ويتابعه حيث أراد ، ولو لا تذليله لعجز عنه الجماعة ولأتلف بضربة من رأسه الطائفة من الناس فله الحمد والشكر على هذا التسخير «فَمِنْها رَكُوبُهُمْ» عليها بسبب تذليلها وحملها الأثقال «وَمِنْها يَأْكُلُونَ» 72 الرجل يذبح الثور والجمل فيأكل ويبيع ويهدي من لحمه وشحمه ، ولو لا تسخير اللّه لما تمكن من ذلك «وَلَهُمْ فِيها» غير الركوب والحمل «مَنافِعُ» كثيرة من أوبارها وأشعارها وصوفها وجلدها لباسا ومن نسلها قنية وتجارة إذ يبيعونها ويشترون بثمنها لوازمهم ويستكثرون بها مما يجب الشكر والحمد لمذللها «وَمَشارِبُ» من حليبها ولبنها وزبدها وسمنها وجبنها ولباها واقطها ومخيضها أكلا وشربا وبيعا وادخارا «أَ فَلا يَشْكُرُونَ» 73 هذا الرب الكريم على إنعامه هذا عليهم ، فضلا عن باقي نعمه التي لا تعد ولا تحصى ، قال صلى اللّه عليه وسلم اتقوا اللّه لما يغذوكم به.
أي إن لم تتقوه لنعمة الحياة والسمع والبصر وبقية الجوارح والحواس وخوف المرض والفقر والعذاب فاتقوه على الأقل لنعمة الأكل والشرب واللبس التي لولاها لهلكتم ، إذ فيها قوامكم فهذه كلها نعم من اللّه تعالى يجب عليكم شكرها فما بالكم تقابلونها بالكفر وتنكرون نعمها «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» من صنع أيديهم من الأحجار والأخشاب وعبدوها «لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ» 74 إذا أضربهم أمر من خوف وجدب أو حلّ بهم ضر من مرض وفقر كلا «لا يَسْتَطِيعُونَ» أولئك الأوثان المتخذة «نَصْرَهُمْ» على غيرهم لأنها عاجزة عن نصر نفسها لأنها من صنعهم بدليل قوله واتخذوا «وَهُمْ» هؤلاء الكفرة الراجون من هذه الآلهة المزيفة نصرا ويعبدونها من دون اللّه مع علمهم أنها لا تضر ولا تنفع ولا عن أنفسها شرا تدفع ومع هذا تراهم «لَهُمْ جُنْدٌ» أعوان لأوثانهم وخدم «مُحْضَرُونَ» 75 مهيئون يحمونها ممن يتعدى عليها ويرجون خيرها ويخافون شرها ولا ينظرون لخالقهم ورازقهم وحافظهم فيا سيد الرسل اتركهم الآن واصبر عليهم «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» بانك ساحر أو كاهن أو شاعر(2/59)
ج 2 ، ص : 60
وان كتابك سحر وشعر وكهانة ، ووصم ربك بالشريك والولد والصاحب «إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ» لبعضهم ويكنون في قلوبهم من العداء لك والحسد على ما خولك ربك والحرص على إهلاكك «وَما يُعْلِنُونَ» 76 في ذلك كله وتسافههم عليك وعكوفهم على عبادة أصنامهم على مرأى منك ، واتهامك بالكذب ، وتهديدك بالجلاء والقتل ، وغير ذلك مما نحن عالمون به قبل إظهاره لك.
واعلم يا أكمل الرسل أنا مجازوهم على ذلك كله لأنهم بوصمك هذا يكذبون الذي أرسلك ويجحدون آياته.
راجع تفسير الآية 32 من سورة الأنعام في ج 2 ، ولذلك فإنا نجعل كيدهم في نحرهم وننصرك عليهم وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على بصير وفيها أيضا وعد وتسلية من اللّه لرسوله ليقشع عنه ما لحقه من هم وحزن من قومه بسبب تقولاتهم هذه وإصرارهم على الكفر والتكذيب ورميهم له بما لا يليق بجنابه وليس في هذه الآيات ما ينم على حزنه نفسه بسبب ما تابه من أذاهم وإهانتهم وإنما على عدم قبولهم الايمان ورفضهم كتاب اللّه وإنكارهم رسالته وجحدهم الإله الواحد لأنها على حد قوله تعالى «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» الآية 88 وقوله ولا تدع مع اللّه إلها آخر الآية 89 من سورة القصص الآتية ومن المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لا يظاهر الكافرين ولا يكون من المشركين ولا يدع مع اللّه إلها وان المخاطب فيها على الحقيقة غيره وانما خاطبه بها لإلهاب القلوب وركونها إلى المحبوب وجنوحها عن الأغيار وميلها عن مصاحبة الأشرار ولهذا البحث صلة في تفسير الآيات المذكورة إن شاء اللّه تعالى.
مطلب تفنيد من كفر القارئ انا بالفتح :
قال بعض المفسرين من قرأ انا هذه بالفتح فسدت صلاته وإذا اعتقد معناها كفر ، وهو قول مبالغ فيه فلو اقتصر على تخطيئه أو غلطة لكان الأمر فيه ما فيه ولكن الكفر أمر عظيم لا يليق أن يجنح إليه عالم ما وجد مخرجا لعدم تكفير المسلم لأنه إذا وجد لمن يصدر عنه قول ظاهره الكفر احتمالا ما ، يجب صرفه لهذا الاحتمال إذ لا يجوز تكفير المسلم حتى أن العلماء رحمهم اللّه قالوا إذا وجد قول(2/60)
ج 2 ، ص : 61
بعدم التكفير وتسع وتسعون قولا بالتكفير ، يصار إلى عدم التكفير ، وهنا يمكن حمل الكلام على حذف لام الفعل أي لأنا نعلم ، ومثله كثير في القرآن وفي غيره أكثر ، وعليه تلبية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحيانا إذ يقول أن الحمد والنعمة لك بفتح الهمزة من أن وقد قرأها الشافعي رضي اللّه عنه بالفتح وأبو حنيفة بالكسر ولكل منهما تعليل وتوجيه لانه إذا قرأتها بالفتح على أنها بدل من قوله «فَلا يَحْزُنْكَ» بحيث يكون المعنى فلا يحزنك علمنا ما يسرون وما يعلنون ففساده ظاهر لان هذا لا يحزنه بل يسره وفيه ما فيه وهذا المعنى يكون مع كسر إن أيضا إذا جعلتها مفعولة للقول أي كلمة قولهم لأن المصدر يعمل عمل فعله وعليه فيظهر من هذا أنه تعلق الحزن يكون اللّه عالما به وعدم تعلقه بذلك لا يدوران على فتح انا وكسرها وانما يدوران على تقديرك أنت أيها المتفحص وعليك أن تفعل فان فتحت انا قدرت معنى القليل لا معنى البدل لأن فيه الفساد كما علمت ، وان كسرتها أي همزه إنا تفصل أيضا بأن تقدر معنى التعليل لا المفعولية وبهذا ننجو من الخطإ والفساد.
وليعلم القائل بالتكفير بان المسلم لا يكفر إلا بجحد ما يجب الإيمان به قال تعالى «أَ وَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ» منكر البعث وهو أبي بن خلف الذي نزلت فيه الآية حينما أخذ عظما باليا من الأرض وقال يا محمد أترى ربك يحيي هذا بعد ما رمّ ؟
فقال نعم ويبعثك ويدخلك جهنم.
وانما أغلظ عليه في هذه الجملة لأنه صلى اللّه عليه وسلم لا يغضب لنفسه وانما إذا انتهكت حرمات اللّه أو استهزأ بها كما هنا يغضب ويشتد غضبه ولهذا قال له ما قال وقيل أن القائل العاص ابن وائل وقيل غيره إذ يجوز أن تكون الآية واحدة لأسباب كثيرة وعموم لفظها لا يقيدها بمن نزلت فيه لأن لا عبرة بخصوص السبب فضلا عن أن الإنسان جاء معرفا بأل الجنسية فتشمل الواحد والمتعدد من جنس الإنسان ويجوز أن تكون أل فيه للاستغراق فيراد بها كل فرد من أفراد الإنسان أي أو لم يبصر هذا الساخر «أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ» زهيدة حقيرة وسويناه رجلا كاملا منها «فَإِذا هُوَ» بعد خلقنا له إعطائه القوة والعقل «خَصِيمٌ» لنا بما أنعمنا به عليه من الخلق والرزق «مُبِينٌ» 77(2/61)
ج 2 ، ص : 62
في خصومته معلن لها يجادلنا بالباطل وينكر علينا إعادته كما بدأناه ولا يتفكر في كيفية إنشائه وما كان عليه من الضعف في قواه وجوارحه (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا) بالعظم البالي وبغتة لرسولنا جاحدا قدرتنا على احيائه كما كان «وَنَسِيَ خَلْقَهُ» من تلك النطفة اليسيرة وتصييره تدريجا هيكلا عظيما على أحسن صورة وأبلغ خلقة مما هو أعظم وأقرب من إحياء العظم البالي فلان يتعجب في ماهيته وأدوار حياته وإعطائه القوة بعد الضعف والنطق بعد البكم أولى من أن يتعجب من احياء العظم وما إعادته بأهون علينا من بدايته وما بدايته بأهون علينا من إعادته ان كان له حجى يعقل به أو نهى يتدبر به أو لب يتذكر به.
ثم ذكر مقالته القبيحة بقوله الحسن الجليل العظيم «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» 78 أو لا يذكر هذا الحيوان أن الإعادة أهون من الإبداع لأن اللّه خلق الإنسان على غير مثال سابق فبالأحرى أن يعيده على مثل ما خلقه عليه وانه خلقه من التراب وانه مهما بلي ورمم : لا يصير الا ترابا فيخلقه منه كما بدأه قال تعالى «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» الآية 28 من الأعراف المارة ثم التفت إلى حبيبه فقال يا أكمل الرسل «قُلْ» لهذا السائل «يُحْيِيهَا» أي العظام البالية وغيرها «الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» قبل أن تكن شيئا وبعد أن كانت فمن باب أولى فانه يعيدها كما كانت «وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» 79 ليس خلق الإنسان فقط الذي لا تخفى عليه أجزاؤه المفتتة المتفرقة ولا يعجزه جمعها من البر والبحر وبطون الوحوش والهوام والحيتان والطيور ولا كيفية إعادتها على خلقها لأنه عالم بذلك على التفصيل وهو قادر على ما يعلم وقادر على إعادة كل ذرة لجسدها سواء كان إنسانا أو غيره لا يتعاظمه شيء ولا يعزّ عليه شيء مما تتصوره العقول البتة ، - راجع تفسير الآية 53 المارة - واعتقد ولا تستكثر على الإله شيئا أبدا ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 259 من سورة البقرة في ج 3.
مطلب خلق النار من الشجر وكيفية أمر اللّه :
كيف يتصور وهو الإله القادر الجبار «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ(2/62)
ج 2 ، ص : 63
الْأَخْضَرِ ناراً»
تنتفعون بها منافع جمة لا تحصى «فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ» أيها الناس «تُوقِدُونَ» 80 للتوضئة والطبخ وتليين المعادن وتقويتها وصنعها فالإله الذي يقدر على جمع الماء والنار في الشجر وهما ضدان ألا يقدر على إعادة ما خلقه كما خلقه بلي والعجز من شيمة وصفة المخلوق لا الخالق ، واعلم انما ضرب اللّه تعالى المثل بالنار لما كان في علمه أنه ينشأ منها ما لم يكن يعرف قبلا ، فقد نشأ منها القوى الكهربائية التي هي أعظم قوة وقف عليها البشر حتى الآن ، وهي جامعة بين الأضداد كالحرارة والبرودة ، والجمع والتفريق ، والحركة والسكون ، فهي العامل الوحيد الآن لأكثر لوازم الإنسان والحيوان ، وما ندري ما ينشأ عنها بعد ، فتفكروا أيها الناس في آلاء اللّه تعالى تفتح أبصاركم وتنور بصائركم لمعرفة مكنونات ربكم في هذه الأرض التي أمر نبيكم بالتماس خباياها وفي عجائب مصنوعاته في السماء التي جعل فيها رزقكم وما وعدكم به.
قال ابن عباس : أراد اللّه تعالى في هذه الشجر شجرتي المرخ والعفار الموجودتين في أرض الحجاز فمن أراد إذكاء النار قطع منها غصنين فيسحق المرخ على العفار فتخرج منها النار وهما خضراوان يقطران الماء ، ولهذا تقول العرب في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار أي استكثر منها ، هذا خلق اللّه أيها الناس وخلق السموات والأرض أكبر من خلقكم ، فالذي يفعل هذه الأشياء إبداعا ألا يقدر على إعادة خلقكم من رميمكم البالي كما بدأكم ؟
ثم ذكر مثلا أعظم من الأول فقال «أَ وَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» بما فيهما من جبال وأودية وبحار وأنهار وكواكب وشموس ومناسك وبروج «بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» لأنهم بالنسبة لذلك لا يعدّون شيئا ، قل أيها الإنسان قسرا «بَلى » قادر على أكثر من ذلك «وَهُوَ الْخَلَّاقُ» الموجد لأنواع المخلوقات العظيم «الْعَلِيمُ» 81 بكيفية خلقها أولا وإعادتها ثانيا لا يعجزه شيء ولا يحتاج في تكوينها إلى شيء من عقاقير ومحللات ومركبات.
واعلم أيها الكامل «إِنَّما أَمْرُهُ» في الإيجاد «إِذا أَرادَ شَيْئاً» يوجده «أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» 82 حالا كما أراد لا محالة بين الكاف والنون ، وكذلك إذا أراد إعدام شيء أعدمه(2/63)
ج 2 ، ص : 64
بقول كن أيضا ، لا فرق عنده فيهما ، هذا وقد عبر جل تعبيره عن إيجاد الأكوان بقول كن ، من غير ان كان منه كاف ونون لسرعة الإيجاد ، فكأنه جلّت قدرته يقول كما أنه لا يثقل قول كن عليكم أيها الناس فكذلك لا يثقل عليّ إبداء الخلق وإعادتهم ، وهو يمثل لنا لتأثير قدرته تعالى في مراده بالأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف على شيء ، وإذا نظرت إلى قوله تعالى «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» الآية 40 من سورة النمل الآتية عرفت بعض قدرة ذلك الرب العظيم على كل عظيم بأقل من لفظ كن والظاهر من الآية أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن ، وإليه ذهب معظم السلف ، وذهب غيرهم إلى أن لا قول أصلا ، وقال بعض العلماء إن هناك قولا نفسيا ، والأحسن أن تضرب عن هذه الأقوال صفحا لأن شؤون اللّه تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام ، فلا تشغل نفسك أيها العاقل العارف بمثل هذا الكلام وقل «فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» من كل شيء يتصرف به كيفما يشاء ويختار ، وقد زيدت الواو والتاء في لفظ ملكوت للمبالغة كما زيدت في جبروت ورحموت في مبالغة الجبر والرحمة وقد أشرنا في تفسير الآية 18 الأعراف إلى ما يتعلق بهذا فراجعه.
«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 83 أيها الناس بعد الموت كسائر خلقه لا محيد لكم عنه.
أخرج الامام أحمد وأبو داود والنسائي وغير عن معقل بن يسار أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : يس قلب القرآن.
وأخر أبو النصر السنجري في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند اللّه ويدعى صاحبها (حافظها الشريف عند اللّه تعالى ، يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس.
وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال سورة يس تدعى في التوراة المعمّة تعمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة أي تدفع وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضى له كل حاجة واخرج الخطيب عن أنس مثله وعن معقل بن يسار قال قال صلى اللّه عليه وسلم : اقرأوا على موتاكم يس أخرجه أبو داود وغيره.
هذا ، واللّه أعلم ، واستغفر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(2/64)
ج 2 ، ص : 65
تفسير سورة الفرقان
عدد 42 - 25
نزلت بمكة بعد سورة يس وهي سبع وسبعون آية ، وثلاثمائة واثنتان وتسعون كلمة ، وثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثون حرفا ، ويوجد في القرآن سورتان مبدوءتان بلفظ تبارك هذه وسورة الملك ، ومنها الآيات 68 و69 و70 نزلن بالمدينة ، وما قيل إنها نزلت في مسجد قباء بالمدينة لا صحة له ، وإنما قرأها صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة ، عند هجرته إليها كسائر السور التي نزلت بمكة للاطلاع عليها والتقيد بما فيها من أمر ونهي وغيره.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «تَبارَكَ» علوه وتعالى عزّه وتعاظم مجده ، وتسامى جلاله ، وتكاثر خيره ، وتعمم عطاؤه وبره ، وتنزه عن صفات خلقه جنابه ، وتبرأت عن كل نقص حضرته ، واعلم أن فعل تبارك وتعالى لا يسندان لغيره عز وجل ولا ينصرفان غالبا لمشابهتهما اسم الفعل ، وكرر في الآيتين 10 و61 منها ، وفي الآية 35 من الأعراف المارة ، وفي الآية 43 من الزخرف وفي الآية 63 من المؤمن وفي الآية 14 من المؤمنين في ج 2 وفي الآية 78 من من سورة الرحمن ، وأول تبارك الملك في ج 3.
قال الحسن معناه تزايد خيره وتكاثر عطاؤه ، وذلك لأنه مأخوذ من البركة لمجمع الماء ولذلك قالوا : معناه دام لدوام الماء فيها عند كبرياء «الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ» الفارق بين الحق والباطل ولفظه يدل على الكثير ، لأنه مصدر فرق فرقا ، وهذا فرقان ، وزيادة المبني تدلّ غالبا على زيادة المعنى ، والفرق الفصل بين الشيئين بما يدركهما البصر أو البصيرة وقيل إذا كان بين الأجسام يقال تفريق ، وإذا كان بين المعاني يقال فرق.
والمراد به القرآن العظيم بدليل قوله جل علاه «عَلى عَبْدِهِ» محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهو أحب أسمائه إليه ولهذا كرره في سورة الكهف وفي الآية 36 من سورة الزمر في ج 2 وفي الآية 10 من سورة الحديد والآية 23 من البقرة والآية 41 من الأنفال في ج 3 وفي الآية 10 من سورة النجم والآية 19 من سورة الجن المارتين.
وقد(2/65)
ج 2 ، ص : 66
أضيف إلى ضمير المتكلم والغائب وإلى اسم الكريم إضافة تشريف ، ولا شك أن العبودية أفضل من العبادة لبقائها في الآخرة ، وإنما أنزلنا على عبدنا هذا القرآن «لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» 1 محظرا ومخوفا وزاجرا ومحذرا من سوء العاقبة لمن لم يؤمن به في العالمين أجمع أحمرهم وأخضرهم ، أسودهم وأبيضهم ، إنسهم وجنهم ، لان أل فيه للجنس ، فيعم جميع أفراده ، وفيها دليل قاطع لا يحتمل التأويل على أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم مرسل برسالة عامة للخلق كافة خلافا لما يقوله من لا ثقة به من أن رسالته خاصة بالعرب.
وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية 158 من سورة الأعراف وله صلة في تفسير الآية 28 من سورة سبأ في ج 2 ، وتدل هذه الآية صراحة على أنه مرسل لجميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم.
وقرأ ابن الزبير للعالمين بالتثنية ، يريد الإنس والجن وقراءتها بالجمع أحسن ، وعليها المصاحف.
وفي تقديم الجار والمجرور على المتعلق تشويق للسامع بانتظار ما بعده ، ومراعاة لفواصل الآي ، لأن أكثرها جاءت على نسق واحد في هذه السورة كالإسراء وطه ومريم الآتيات والقمر والمرسلات المارتين وسورة الرحمن والإنسان في ج 2.
ثم وصف نفسه تعالت نفسه بقوله «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يتصرف فيهما وفيما بينهما وما فوقهما وتحتهما كما يريد ويختار ، لا ينازعه فيها أحد إذ الكل تحت قبضته.
واعلم أن لفظ الملك يطلق على الأرض ، والملكوت على السماء ، وما فيهما على الانفراد ، وفي حالة الجمع كما في الآية 75 من سورة الأنعام ج 2 والآية 174 من سورة الأعراف المارّة ، ويجوز استعمال أحدهما مكان الآخر ، راجع تفسير الآية 89 من سورة الأنبياء في ج 2 «وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» كما يقوله الظالمون لعدم حاجته إليه «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ» يعاونه على تدبيره أو لا يعاونه ، لأنه العظيم المدبر له وحده الجليل المنفرد في أمره الرحيم المستقل بشؤونه.
وفيها ردّ على من يقول من العرب واليهود والنصارى بأن الملائكة وعزير والمسيح أبناؤه ، وعلى التنويه القائلين بتعدد الآلهة وبأن خالق النور غير خالق الظلمة ، وخالق الخير غير خالق الشر ، تعالى اللّه في ذلك وتنزه(2/66)
ج 2 ، ص : 67
«وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» من المكونات الأرضية والسماوية «فَقَدَّرَهُ» هيأه لما يصلح إليه ، وما يليق به وما يكون منه «تَقْدِيراً» 2 بديعا لا يبلغ كنهه أحد سبحانه خلق ووفق وسوى وهيأ لكل حيوان وشيء ما يناسبه ويحتاجه وقدر سائر مخلوقاته ، وأحسن كل شيء خلقه ، وهداه لما يحتاجه ويسر له ما يلزم ، فهيأ للإنسان الفهم والإدراك والنظر والتدبر في أمور المعاش والمعاد واستنباط الصنايع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة ، وجعل له فكرا واسعا كلما استعمله انصقل وازداد في المعارف الكونية ، وهكذا سائر مخلوقاته يسرها لمنافعها
،
وسهل عليها ما تحتاجه «وَاتَّخَذُوا» مع هذا كله «مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» من الجماد والحيوان ومما صنعته أيديهم «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً» البتة إنسانا ولا حيوانا ولا جمادا «وَهُمْ يُخْلَقُونَ» من قبل عبدتهم لأنهم ينحتونها ويصوغونها ويصورونها وينجزونها بأيديهم وهم مخلوقون بخلقنا ، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 91 من الصافات الآتية «وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» فعجزهم عن نفع وضر غيرهم من باب أولى ، لأن من لا يستطيع أن يحفظ نفسه فكيف يدافع عن غيره «وَلا يَمْلِكُونَ» كرره تأكيدا لبيان عجزهم وضعفهم «مَوْتاً» لأحد في الدنيا لأنهم ميتون فيها «وَلا حَياةً» لمن يموت في الدنيا «وَلا نُشُوراً» 3 في الآخرة ليحيوا فيها حياة دائمة في الجنة ، فالإله الذي يستحق العبادة هو من يقدر على أن يميت في الدنيا ، ويحيي في الآخرة من يميته ، وينعمه بالجنة إذا كان صالحا ، ويعذبه بالنار إذا كان كافرا ، فالذي لا يقدر على شيء من هذا كالآلهة المتخذة ، يجب أن تهان وتداس لأنها لا ترضي ولا تخشى ، فكيف يليق أن تكون آلهة فأعرضوا أيها الناس عن هذه الأوثان ، واعبدوا الإله القادر على كل شيء الفعال لما يريد ، مالك الملك والملكوت ، المنصرف به إيجادا وإعداما ، النافع الضار ، المحيي المميت الذي يؤمل خيره ويخشى ضره ويحذر شره «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ» ما «هَذا» الذي يتلوه عليكم محمد ويحسنه لكم ويرغبكم فيه ويأمركم باتباعه على أنه كلام اللّه ما هو «إِلَّا إِفْكٌ» كذب محض «افْتَراهُ» اختلقه من تلقاء نفسه واخترعه من تصوراته(2/67)
ج 2 ، ص : 68
وليس كما يزعم أنه كلام اللّه أنزله عليه ، كلا وإنما زوره هو «وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» يعنون عدّاسا وعايشا مولى حويطب بن عبد العزّى ويسار مولى العلاء ابن الحضرمي وجبر مولى عامر ، لأنهم من أهل الكتاب يحسنون قراءة التوراة والإنجيل والزّبور ، وكان صلى اللّه عليه وسلم يتعاهدهم رأفة بهم ، لا أنه يتعلم منهم ، فهم أعجز من أن ينطقوا بآية من القرآن لأنهم أعاجم ، وقال المبرد عنوا جماعة من المؤمنين ، لأن لفظ آخر لا يكون إلا من جنس الأول ، وقد غفل عن أن الاشتراك في الوصف غير لازم ، ألا يرى قوله تعالى (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) الآية 13 من سورة آل عمران في ج 3 ، فإن الأخرى فيها ليست من جنس الأولى من حيث الوصف ، مما يدل على أن اللزوم الذي ذكره غير لازم كلزوميات المعرّي إذ سماها لزوم ما لا يلزم ، وذلك أنه ألزم على نفسه فيها أن يكون حرف الرويّ وما قبله من جنس واحد من كل ما نظمه هناك ، وهو غير لازم في أصول الشعر.
وما قيل إن المراد بهم اليهود فغير صحيح ، لأن اليهود لم يجالسوا الرسول في مكة ، وكل ما وقع منهم معه في المدينة وهذه السورة مكية عدا الآيات المستثنيات الآتية وهذه ليست منها ، وقال جل المفسرين إنها نزلت في النضر بن الحارث بن عبد الدار وجماعته رؤوس الكفر القائلين إن هذا القرآن ليس من عند اللّه وإنما هو من نفس محمد وأعوانه ، فأكذبهم اللّه بقوله «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً» لجعلهم العربي الفصيح يتلقن من الرومي والبربري ، وكلام اللّه أعجز البلغاء بيانه وأفحم العقلاء معناه ، وهؤلاء لا يقدرون على فهمه فضلا عن تعليمه فما جاءوا به تعسفا «وَزُوراً» 4 لاتهامهم حضرة الرسول بنسبه ما هو بريء منه ، كما هو منزه عما وصموه به من السحر والكهانة وشبهها في آيات أخرى «وَقالُوا» أيضا ما هذا القرآن إلا «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» خرافاتهم «اكْتَتَبَها» عن غيره «فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» 5 صباح ماء ليحفظها خفية قبل أن ينتشر خبرها بين الناس ، وبعد انتهائه من كتابتها صار يتلوها علينا ويقول إن اللّه أوحاها إليه.
واعلم أن هذه وأشباهها مما فيها لفظ أساطير الأولين(2/68)
ج 2 ، ص : 69
قد قال فيها ابن عباس إنها من جملة ثمان آيات في معناها ، نزلت في النظر المذكور أعلاه ويراد بها أخبارهم البالية غير المخطوطة المحققة ، كما تقول الآن عند ما تسمع حكاية غير معقولة هذه خرافة وإسرائيلية ، أي لا قيمة لها لعدم الجزم بصحتها لانها لم تنقل عن حديث صحيح وسند حسن ، ولهذا أمره اللّه بأن يردّ عليهم بقوله عز قوله «قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ» كل أمر خفي عن القلب فضلا عن غيره مما هو «فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ومما تسرونه أنتم وليس كما تزعمون وتقولون «إِنَّهُ كانَ غَفُوراً» دائم المغفرة أزلا وأبدا «رَحِيماً» 6 مستمر الرحمة لعباده لا يعجل العقوبة ويمهل عباده علهم يتوبوا ويرجعوا ، ولا يهمل من بصر على كفره ، وأحب شيء إليه رجوع عبده إليه ، فقد جاء عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (اللّه أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح) - رواه الشيخان والترمذي - .
أما الذي لا يتوب ومات على كفره فقد أعد له من العذاب ما لا تقواه قواه ، والمعنى أن الذي أتلوه عليكم أيها الناس هو كلام اللّه ، فمن اتبعه أوصله إلى الجنة ، ومن كفر به أدى به كفره إلى النار ، فآمنوا به لعلكم تفوزون في الدنيا والآخرة «وَقالُوا» أيضا مدعمين أقوالهم الواهية المارة بما هو أوهى منها وهو «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ» كما نأكل «وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» كما نمشي يبتغي الرزق مثلنا فمن كان رسولا يجب ان يكون ملكالا بشرا مثلنا يأكل ويتطلب الرزق ويحتاج إلى البشر «لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ» ردا له إذا لم يكن هو ملكا ، وهذا على زعمهم أنهم نزلوا إلى درجة أدنى مما قبلها والحال أنها أكبر «فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» 7 للبشر ليصدقه في قوله ويقويه في أمره ثم تنزلوا إلى ما هو أدنى أيضا بوهمهم فقالوا أو يلقى إليه كنز من السماء يكتفي به عن السعي كآحاد الناس إذ لا يليق بمن يدعي هذه الدعوة أن(2/69)
ج 2 ، ص : 70
يساوي الناس ، بل يجب أن يتنزه عن مضاهاتهم في المأكل والمشرب والملبس والعمل ، ثم تنزلوا عما هو أقل من ذلك كله «أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» على الأقل فيسدّ بها حاجته ويمتاز بها عما من شأن الغير وهم يعلمون أنه ما احتاج قط إلى غيره منذ نشأته بينهم إلا لربّه «وَقالَ الظَّالِمُونَ» وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم في قولهم «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» 8 مخدوعا مجنونا وقد وصموه بهذا بعد أن وصموه بالشعر والكهانة ووصموا كلام اللّه بأنه مفترى ، وأنه من أساطير الأولين ، وانه تعلمه من الغير وانه مملى عليه ، إلى غير ذلك.
مطلب اجتماع أشراف قريش مع حضرة الرسول.
أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود ابن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد اللّه بن أمية وأمية ابن خلف والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابني الحجاج ، اجتمعوا فقال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه إذا لم يقبل منكم ما تعرضو عليه من الأمر ، فبعثوا إليه ان أشراف قومك اجتمعوا ليكلموك فاحضر ، فجاء ولما استقر به المقام ، قالوا يا محمد ، إنا بعثنا إليك لنعتذر منك ، فان كنت إنما جئت بهذا الأمر تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنانا وإن كنت تطلب الشرف نسوّدك بأن نجعلك سيدا علينا ، وان كنت تريد الملك أيضا ملكناك علينا ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : ما لي مما تقولون ما جئنكم بما جئنكم أطلب أموالكم أو الشرف فيكم أو الملك عليكم ، ولكن اللّه بعثني رسولا إليه وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون بشيرا بجنته ورضاه إن أطعتم ، ونذيرا من سخطه وعذابه إن أبيتم ، وإني بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئنكم به فهو حظكم بالدنيا والآخرة ، وان تردّوه عليّ أصبر لأمر اللّه تعالى حتى يحكم بيني وبينكم.
قالوا يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه(2/70)
ج 2 ، ص : 71
عليك فاسأل لنفسك ربّك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، أو سله أن يجعل لك كنزا أو جنة تغنيك عما تبتغي حتى نعرف فضلك لديه ، ومنزلتك عنده ، إن كان ما تزعمه صحيحا ، لأنه لا يجدر بك وأنت على دعوتك هذه أن تمشي بالأسواق وتلتمس المعاش مثلنا فقال صلى اللّه عليه وسلم : ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه ، وما بعثت إليكم بهذا ، وما أنا إلا بشر مثلكم.
فتفروا منه وقالوا ما قالوا قال تعالى «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» التي لا علاقه لها بالرسالة ولا فائدة لهم بها فضلا عن أنها غير معقولة «فَضَلُّوا» بها طريق الهدى ومنهج الصواب «فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» 9 يخرجون منه لضعف حجتهم ، ولا يقدرون أن يستدلّوا بدليل على ما قالوه وان ما وصموك به لا حجه لهم به ولا برهان كما انهم لا طريق لهم للرشد فلا يؤمنوا بما انزل إليك ولا يقدرون على مباراتك ، وإنا نعلم قولهم هذا كما نعلم جوابك لهم القاطع لقلوبهم قبل أن تقوله لهم «تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ» يا سيد الرسل «خَيْراً مِنْ ذلِكَ» الذي عرضه عليك قومك وخيرا مما اقترحوه عليك وكلفوك بقبوله «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» دائمة مستمرة في جنان الدنيا والآخرة ، لا جنة فانية مثل جنان هذه الدار «وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً» 10 بديعة من صنعه لا من صنع خلقه ، عظيمة يعجز عن إنشاء مثلها البشر أجمع مثل قصور الآخرة ، وهو قادر على أن يجعل لك ذلك كله في الدنيا ، ولكن لا يريده لك فيها ، بل إنه هيأها لك ، خبأها للدار الآخرة ، وذلك لعلمه جل علمه أنه صلى اللّه عليه وسلم غير ميّال إلى الدنيا وزخارفها ، لذلك قال إن شاء ، وإلا لكونها له حال سؤالهم له.
يدل على هذا ما جاء عن أبي أمامة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، قلت لا يا رب ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك.
وجاء عن عائشة رضي اللّه عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لو شئت «ما كلفني به ربي» لسارت معي جبال مكة ذهبا ، جاءني ملك ان حجزته تساوي الكعبة «مقعد(2/71)
ج 2 ، ص : 72
إزاره أو موضع التكة في السروال وهو كناية عن عظمته لأنه إذا كان ذلك منه يساوي الكعبة فكيف بجثته ؟ وهو بضم الحاء وسكون الجيم وفتح الزاي أو بفتحها معناه الظلمة أو الذين يحولون دون المتنازعين يمنعون التعدي «و يفصلون بينهم بالحق» فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام وبقول إن شئت نبيّا عبدا وإن شئت نبيّا ملكا ، فنظرت إلى جبريل فأشار إليّ أن ضع نفسك ، فقلت : نبيا عبدا ، قال فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئا ، يقول أنا عبد آكل
كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد.
ذكر هذين الحديثين البغوي في سنده
قال تعالى «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ» وهي حق ثابت وقد جحدوها وهذا أعظم مما وصموك به لأنه ليس بشيء بالنسبة لانكار وجود القيامة وإعادة الأجساد إلى ما كانت عليه ، وعليه فان ما قالوه لك ليس بعجيب ، لاتيانهم بأعجب منه وهو جحودهم الآخرة التي أمرناك أن تهددهم بها «وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً» 11 لأن تكذيبك بها تكذيب لنا قال تعالى «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» الآية 30 من سورة الأنعام في ج 2 وقد هيّأنا لهم هذه النار التي لا تنطفيء لبعد مداها وكثرة وقودها بأمثالهم «إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» بمرأى الناظرين أمثالنا ولا يقال كيف تراهم وهي ليست من أصحاب الرؤية لان الذي سعرها قادر على خلق الرؤية فيها فتراهم من مسيرة أعوام ، لأنها تشرف لأهلها ، أو ان رأتهم بمعنى قابلتهم فتكون بمرأى منهم وإذا رأوها فكأنها رأتهم ، قال تعالى «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ» الآية 91 من سورة الشعراء الآتية والمعنى أنها لا تخفى على أحد وقريء تراهم أي زبانيتها ولا مندوحة فيه «سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً» 12 غليانا شديدا وصوتا من تلهبها غير صوت تغيظها من توقدها يشبه الغليان بالغيظ بجامع علو الصوت في كل لأن الغضبان يرتفع صوته لحرارة الغضب في جوفه والغليان له صوت يسمع أيضا لحرارة النار والزفير خروج النفس بشدة ، ضد الشهيق الذي هو نزوله بشدة أيضا قال عبيد بن عمير تزخر جهنم يوم القيامة زخرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل(2/72)
ج 2 ، ص : 73
إلا خرّ على وجهه لهول ما يسمع ويرى فيا ويل أهلها ، ويا سعادة من زحزح عنها اللهم أجرنا منها وأبعدنا عنها «وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً» شديدا لعذابهم إذ فيها مواقع ضيقة وأخرى واسعة ومتوسطة ولكل منها ناس «مُقَرَّنِينَ» بالسلاسل مصفدين بالحديد بجوامع تجمع بين أيديهم وأعناقهم قال ابن عباس : تضيق عليهم كما يضيق الزج بالرمح ، والكرب مع الضيق أشد منه مع السعة كما أن الروح مع السّعة أروح منه مع الضيق «دَعَوْا هُنالِكَ» في ذلك المكان الضيق الهائل منها تمنوا أن يصيبهم «ثُبُوراً» 13 هلاكا قاضيا عليهم ليتخلصوا مما هم فيه وأشد من الموت ما يتمنى معه الموت ، وأول بعض المفسرين دعوا ينادوا ، أي قالوا يا هلاكاه والأول أولى.
أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على صاحبه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه ، ويقولون يا ثبورهم ، حتى يقف على النار فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم ، وفي بعض الروايات : أول من يقول ذلك إبليس ، ثم يتبعه أتباعه.
وظاهره شمول الاتباع كفرة الإنس والجن.
مطلب لمعة من أسباب النزول :
قالوا إن هذه الآية نزلت في أبي جهل خاصة مع ان هذا الحديث يفيد أنها في إبليس وأتباعه ولا يخفى أن الآية عامة فدخل فيها إبليس وأبو جهل وأتباعهما وغيرهم ممن قدر عليه ان يعذب فيها فلا تختص فيمن نزلت فيهم إذ لم يوجد ما يقيدها أو يخصصها في أبي جهل أو إبليس أو غيرهما ويعلم أن جل الأقوال الواردة في أسباب النزول منشأوها موافقة الآية ، لمن جعلوها نازلة فيه أو تلاوتها عند ما يناسبها ، وان مطلق التلاوة لمطلق سبب مناسب للآية لا يكون سبب النزول كما ان الموافقة لا تكون مدارا للتخصيص ، وإنما المخصص هو منزل الآيات ، فما وجدنا فيها صريحا في ذلك أو صريحا من قول المنزل عليه صرفناه إليه ، وإلا لا لأن غالب كلام اللّه عام والماضي منه قليل ، وذلك لأن القرآن العظيم لم يخص اللّه(2/73)
ج 2 ، ص : 74
تعالى به زمن الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقط بل عام لكل الأزمان وموافق لكل العصور ومطابق لجميع الدهور ، بخلاف الكتب المتقدمة لأن لها حدا بنزول ما بعدها غالبا ، والقرآن خاتمه الكتب الإلهية ، وقد أنزل على خاتم النبيين ، فهو صالح لكل أوان لآخر الدوران ، جعلنا اللّه من المتمسكين به العالمين بما فيه المنتفعين بأوامره ونواهيه قال تعالى «لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً» من هول النار وكنتم تجحدونها «وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» 14 لا غاية له فليس بنافع دعاؤكم اليوم لأنكم لم تنتفعوا بدعاء الرسل أمس قال تعالى «فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» الآية 50 من سورة المؤمن فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الذين لا ينظرون عاقبة أمرهم «ذلِكَ» المذكور في العذاب الموصوف بالسعير الموعود به المكذبون «خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» بها المصدقون بما جاءكم به رسلهم من اللّه «كانَتْ لَهُمْ» بمقابل تصديقهم الرسل وامتثالهم أوامرهم «جَزاءً وَمَصِيراً» 15 لهم الآن في الآخرة ، وجاء بلفظ الماضي بدل المضارع المناسب الإخبار بالمستقبل لتحققه ، لأن وعد الرسل من وعد اللّه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) الآيتين 87 و122 من سورة النساء في ج 3 (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) الآية 111 من سورة التوبة «لَهُمْ» أي أولئك المنقون «فِيها ما يَشاؤُنَ» مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من كل ما يخطر بالبال في الآخرة ، لأن بالهم الدنيوي بعيد عن تلك الخطرات الأخروية لأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فخطرات الآخرة غير خطرات الدنيا وبينهما ما بينهما «خالِدِينَ» في نعيمها دائمين دائبين إذ لو انقطع لكان مشوبا بشيء من الغم والآخرة لا غم فيها لأنه غير منقطع ، قال :
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
وقد «كانَ» وجود ما يريدونه فيها «عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا» 16 عنه للطائعين الذين كانوا يقولون في الدنيا (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) الآية 194 من آل عمران والاستفهام في صدر الآية المفسرة تقريري يفهم جوابه من المقام لأن(2/74)
ج 2 ، ص : 75
انعدام الأخيرية في النار معلوم ، والقصد توبيخ الكفرة المقصودين بالآية السابقة وأمثالهم وتقريعهم على ما هم متلبسون به ، قال تعالى «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» كالملائكة وعيسى بن مريم وعزير عليهم السلام والإنس والجن والأوثان والشمس والقمر والكواكب والحيوان.
مطلب استعمال من لمن لا يعقل وما لمن يعقل وبراءة المعبودين من العابدين :
ذلك لأن لفظ (ما) هنا يتناول العقلاء وغيرهم باعتبار الوصف ، وفي كل محل يراد بها الوصف لا تخص بالعقلاء ، وقد تأتي على قلّة فيهم كما تأتي من على قلّة في غير العقلاء ، راجع آية السجدة من سورة النحل ، والآية 53 من سورة يوسف في ج 2 ، وآية السجدة من سورة الحج في 3 ، كما سنبينه في تفسير هذه الآيات إن شاء اللّه ، لذلك كان المراد في هذه الآية نحشرهم ومعبوديهم جميعا بدليل قوله تعالى (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) الآية 40 من سورة سبأ في ج 2 ، وقوله تعالى (أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) الآية 116 من سورة المائدة في ج 3 ، وقوله تعالى (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) الآية 12 من سورة إبراهيم في ج 2 ، وقوله تعالى أيضا «فَيَقُولُ» اللّه عز وجل للمعبودين كلهم ، لأن إطلاق الآية يفيده «أَ أَنْتُمْ» غلب العقلاء بخطابه على غيرهم.
وقد سبق أن ذكرنا أن اللّه تعالى ينزل في بعض خطابه ما لا يعقل منزلة من يعقل ، وقد يجعله عاقلا لفهم مراده ، وهو القادر على أكثر من ذلك ، راجع الآية 65 من سورة يس المارة «أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ» في الدنيا يفيد هذا الخطاب الجليل والإشارة العظيمة أنه عزت قدرته جعل المعبودين صفّا والعابدين صفّا مقابلا ليسمع كل منهم خطاب الآخر وخطاب ربه عند مقابلتهم بعضهم ببعض ، أي أأنتم دعوتم هؤلاء لعبادتكم «أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ» بأنفسهم لإعراضهم عن الذين أرسلناهم لإرشادهم فلم يسلكوا طريقهم لعدم استعمالهم النظر الثاقب في ملوكيتنا والفكر الصحيح في عبادتنا «قالُوا» المعبودون ، وهو أعلم بما يقولون وإنما السؤال والجواب عبارة عن التبكيت بهم(2/75)
ج 2 ، ص : 76
وإطلاع الأمم على ما سيقع منهم ، فابتدءوا بالتنزيه لحضرته المقدسة قائلين «سُبْحانَكَ» أن يكون معك آلهة أو أن يدعى غيرك أو يعبد أحد دونك كيف وأنت يا ربنا إله الكل ، وكيف يجدر بالعاجزين أمثالنا ادعاء الربوبية القاهرة لكل شيء ونحن من جملة المقهورين لربوبيتك وعزتك يا ربنا «ما كانَ يَنْبَغِي لَنا» أن نجرا على ذلك ولا على «أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ» فكيف ندعو الغير إلى ولاية غيرك ونحن عبيدك المخلصون وكيف نأمرهم بعبادتنا أو نحملهم على أن يتولوا أحدا غيرك من دونك «وَلكِنْ» يا مولانا هؤلاء هم الغافلون بطبيعتهم لأنك يا ربنا «مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ» من قبلهم بالنعم وطول العمر على ما هم عليه من الجحود والكفر «حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ» وغفلوا عن الإيمان بذكرك ولم ينتبهوا إلى من ذكرهم به من المرشدين وظنوا أن ما هم عليه حسن ، فتشبثوا به ولم يقلعوا عنه «وَكانُوا» في ذلك «قَوْماً بُوراً» 17 بائرين جمع بائر مثل عائدين جمع عائد ، وأولوه بمعنى هالك ، أي أنهم هلكوا إذ غلب عليهم الخذلان ، وذلك أن بورا مصدر وصف به الفاعل مبالغة فينوى فيه الواحد والجمع قال :
فلا تكفروا ما قد ضنعنا إليكم وكافوا به فالكفر بور لصانعه
وقال ابن الزبيدي :
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
ثم يقول تعالى للعابدين بعد أن أسمعهم قول معبوديهم على زعمهم مواجهة انظروا «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ» من زعم هؤلاء أنهم آلهة وأنهم دعوكم في الدنيا لعبادتهم فما تقولون ؟ وهذا زيادة في التقريع والتوبيخ فيصمتون ، ثم يخاطبهم اللّه تعالى بقوله «فَما تَسْتَطِيعُونَ» الآن «صَرْفاً» أي دفع العذاب عنكم بوجه من الوجوه كما يقتضيه التنكير ، أي لا بالذات ولا بالواسطة «وَلا نَصْراً» 18 لكم ولا عونا من أحد ، أي لا أنتم ولا الذين اتخذتموهم آلهة ، فكلاكما بالضعف والعجز سواء ، وقرىء بالياء ، وعليه يكون المعنى فما يقدرون هؤلاء الذين عبدتموهم في الدنيا بصورة من الصور ولا بنوع من الأنواع ، دفع العذاب عنكم بأنفسهم(2/76)
ج 2 ، ص : 77
وليس لهم أعوان بذلك ، فهم عاجزون أنفسهم وغيرهم أعجز ، ثم التفت جل شأنه بخطابه إلى كافة المكلفين فقال «وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ» نفسه أيها الناس فيشرك به «نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» 19 على شركه ، لأن يظلم هنا بمعنى يشرك لذلك عظم عذابه ، إذ لا يكون العذاب الكبير إلا على الشرك ، لأن مطلق الظلم لا يستوجب ذلك ، وقد سمى اللّه الشرك ظلما بقوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية 12 من سورة لقمان في ج 2 ، ولأن من الظلم ما هو كبيرة يفسق بها مرتكبه ، والفاسق لدى أهل السنة والجماعة لا يخلد بالنار ، والمراد بقوله تعالى كبيرا أي مخلدا فيصرف هنا بسبب هذا القيد إلى الشرك ، ولا قيمة لقول من يقول إن مرتكب الكبيرة يخلد في النار لمخالفته إجماع الأمة وما عليه عقائدهم ، قال صاحب الشيبانية :
ولا تبصر في نار الجحيم موحدا ولو قتل النفس الحرام تعمدا
أي دون استحلال لأنه به يكفر فيخلد إذا لم يتب.
وسيأتي لهذا البحث صلة في تفسير الآية 72 من سورة مريم الآتية ، ثم التفت جلت عظمته إلى حبيبه صلى اللّه عليه وسلم ليسليه عما قلوه فيه «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» مثلك لأن هذا من شأن البشر فلا مبرر لهم أن يعيروك فيه لانك لم تدع غير البشر به كي يتوجه إليك قولهم.
ولأن جميع الرسل قبلك كان هذا شأنهم ولك بهم أسوة ، وبما أن ذلك كان عادة مطردة مستمرة لا يستغنى عنها البشر فليست محلا للطعن ، وهذا الخطاب وان كان موجها لحضرة الرسول إلا أنه جاء بمعرض الرد لقومة فكأنه قال قل لهم هكذا ولا تلتفت إلى تقولهم «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» بلاء ومحنة واختبارا وامتحانا ، قالوا نزلت هذه الآية في ابتلاء الشريف بالوضيع ، وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم رأي الوضيع أسلم قبله فيقدم عليه بالإسلام فيأنف عن الإسلام محتجّا بسابقته والفضل له عليه ، فيصر على كفره ، ولم يعلم أن التفضيل يكون بالأعمال الصالحة والآداب الكاملة ، لا بمطلق الإسلام فذلك افتتان بعضهم ببعض ، وقال غير واحد إنها نزلت في الذين عيّروا حضرة الرسول(2/77)
ج 2 ، ص : 78
بالفقر تسلية له ، كالآية قبلها إذ نزلت في الذين عيّروه بالأكل والمشي «أَ تَصْبِرُونَ» على هذه الحالة أيها المؤمنون من التعيير بالفقر وغيره ، وعلى الأذى الواقع بكم من الكفرة والشدة التي أنتم فيها أم لا ؟ وفي هذا الاستفهام معنى التهديد على عدم الصبر كما لا يخفى ، فاصبروا على هذا كله ليزداد أجركم وتقوى عزيمتكم ، وإلا فيزداد همكم وحزنكم.
هذا على جعل الخطاب للمؤمنين كافة ، أما إذا كان لحضرة الرسول فقط فيكون الخطاب على جهة التعظيم ، لأنه جاء بلفظ الجمع وهو أولى بمن يعظمه ربه ، ويكون المعنى : جعلتك يا محمد فقيرا تحتاج إلى طلب الرزق في الأسواق كغيرك من البشر فتنة لقومك المعاندين ، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان أو كان معك ملك لانقادت الناس إليك عفوا وأطاعتك قسرا طلبا لما عندك في الدنيا أو خوفا من القوة ، لا طاعة خالصة لنا ولا خوفا من عذابنا وطمعا برحمتنا ، ويجوز أن يكون ذلك الافتتان علة للجعل ، أي ابتلينا الغني بالفقير والشريف بالوضيع لنختبركم على حد قوله تعالى «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» الآية 2 من سورة الملك في ج 2 ، وعلى كل فالمعنى أخبروني عن اختياركم الصبر أم الضجر ، وهو خبير بما يقولون ويكنّون بدلالة قوله «وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» 20 ، بك وبهم عالما بالصابر والجازع فلا يضيق صدرك يا سيد الرسل بما يقولون ولا تعبا بهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه بالمال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم.
هذا لفظ البخاري ، لمسلم : انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعم اللّه عليكم.
وفي تكرير لفظ المال والجسم في رواية البخاري إشارة إلى أنه يطلب من الناس النظر إلى من هو فوقهم في الدين والتقوى وهو كذلك
قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» في الآخرة لأنهم ينكرون البعث أي يخافون بلغة تهامه وهي أيضا من لغة هذيل وهذا الفعل إذا كان مع الرجاء جحد ، أي نفي ذهبوا به إلى معنى الخوف فيقولون فلان لا يرجو ربه أي لا يخافه ففية معنى الجحد ومنه قوله تعالى «ما لَكُمْ لا(2/78)
ج 2 ، ص : 79
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً»
الآية 44 من سورة نوح وإذا قالوا فلان يرجو ربه فليس فيه معنى الجحد ويكون معناه يسأله ضد يأس ويجوز هنا أن يكون بمعنى لا يتوقعون ولا يعتقدون وجود الآخرة التي فيها لقاء اللّه والحساب والعقاب على ما كان منهم في الدنيا وهو أولى «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» فتخبرنا بصدق محمد «أَوْ نَرى رَبَّنا» عيانا فيخبرنا بذلك لآمنا بهذا الرسول وصدقناه قال تعالى مستعظما عليهم قولهم «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» هؤلاء الكفرة وعدوها كبيرة بأعينهم وعظموا شأنهم في هذا القول العظيم واللّه أجل وهم أحقر من أن ينزل عليهم ملائكته أو يكلمهم أو يرونه فقد فسقوا بقولهم هذا «وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» 21 فتجاوزوا الحد في مقالهم هذا.
ولام لقد واقعة في جواب قسم محذوف ، أي وعزتي وجلالي لقد رأى هؤلاء الكفرة أنفسهم كبيرة حتى جرأوا على قولهم هذا ، يا سيد الرسل قل لهؤلاء المنحطّين «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ» لا يستطيعون التكلم معهم لأنهم لا يرونهم إلا عند الموت الذي فيه صك أسنانهم ، وعند البعث في الآخرة وفيه تذهل عقولهم ، مما يلاقونه من الهول «لا بُشْرى » في هذين الوقتين «يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ» بل لهم الخزي والخوف والذّل والهوان ، وفي هذا القيد بشارة للمؤمنين بالفرح والأمان ، لأن الملائكة عند الموت وفي البعث تبشرهم بما لهم عند اللّه من الكرامة ، فيهون عليهم الأمر فيهما ، كما تقول الكفار لا بشرى لكم بل الويل والثبور ، فيزيد ذعرهم.
يدل على هذا قوله تعالى «وَيَقُولُونَ» لهم الملائكة «حِجْراً مَحْجُوراً» 22 أي أنتم ممنوعون من بشارة الخير منعا باتا أيها الكفرة.
قال ابن عباس حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه.
ومعنى الحجر المنع ، وكانت العرب إذا نزل بهم شدة أو كرب أو رأوا ما يكرهون قالوا : حجرا محجورا ، فهم أيضا يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة لأنهم يكرهونهم ، لعلمهم أنهم يوقعون بهم العذاب الشديد الدائم قال المتلمس :
حنّت إلى النحلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس(2/79)