312
سورة الحجرات 12 - 14
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " يعني لا تحققوا الظن " إن بعض الظن إثم " يعني معصية
أي إن ظن السوء بالمسلم معصية
وقال سفيان الثوري الظن ظنان ظن فيه إثم وظن لا إثم فيه
فالظن الذي فيه إثم أن يظن ويتكلم به
وأما الظن الذي لا إثم فيه فهو أن يظن ولا يتكلم به لأنه قال " إن بعض الظن إثم " ولم يقل جميع الظن إثم
ثم قال " ولا تجسسوا " يعني لا تطلبوا ولا تبحثوا عن عيب أخيكم " ولا يغتب بعضكم بعضا " روى أسباط عن السدي قال كان سلمان الفارسي في سفر مع ناس فيهم عمر فنزلوا منزلا فضربوا خيامهم وصنعوا طعامهم ونام سلمان فقال بعض القوم لبعض ما يريد هذا العبد إلا أن يجد خياما مضروبة وطعاما مصنوعا فلما استيقظ سلمان قالوا له انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمس لنا إداما نأتدم به
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ( أخبرهم أنهم قد ائتدموا )
فأخبرهم
فقالوا ما طعمنا بعد وما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأتوه فقال ( ائتدمتم من صاحبكم حين قلتم ما قتلم وهو نائم ) ثم قرأ " ولا يغتب بعضكم بعضا " " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " يعني فكما تكرهون أكل لحمه ميتا فكذلك اجتنبوا ذكره بالسوء وهو غائب
ويقال كان سلمان في سفر مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكان يطبخ لهما فنزلوا منزلا فلم يجد ما يصلح لهم أمر الطعام فبعثاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لينظر أعنده شيئا من الطعام فقال أسامة لم يبق عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الطعام فرجع إليهما فقالا إنه لو ذهب إلى بئر كذا ليبس ماؤها فنزلت هذه الآية
ويقال نزلت في شأن زيدبن ثابت وذلك أن نفرا ذكروا فيه شيئا فنزل " ولا يغتب بعضكم بعضا " قرأ نافع " ميتا " بتشديد الياء والخفض والباقون بالجزم
وقال أهل اللغة الميت
والميت واحد مثل ضيق وضيق وهين وهين ولين ولين
ثم قال " واتقوا الله " في الغيبة وتوبوا إليه " إن الله تواب " يعني قابل التوبة " رحيم " بهم بعد التوبة(3/312)
313
قوله تعالى " يا أيها الناس " قال مقاتل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أمر بلالا ليؤذن فقال الحارث بن هشام أما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى هذا الغراب
يعني بلالا
فنزل " يا أيها الناس " " إنا خلقناكم من ذكر وأثنى " يعني آدم وحواء " وجعلناكم شعوبا " يعني خلقناكم قبائل مثل مضر وربيعة " وقبائل " يعني الأفخاذ مثل بني سعد وبني عامر
" لتعارفوا " في النسب " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " يعني وإن كان عبدا حبشيا أسود مثل بلال
وقال في رواية الكلبي نزلت في ثابت بن قيس كان في أذنيه ثقل وكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامه فأبطأ يوما واحدا وقد أخذ الناس مجالسهم فجاء وتخطى رقابهم حتى جلس قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم
فقال رجل من القوم هذا يتخطى رقابنا فلم لا يجلس حيث وجد المكان فقال ثابت من هذا فقالوا فلان
فقال ثابت يا ابن فلانة وكان يعير بأمه فخجل
فنزلت هذه الآية
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( من عير فلانا بأمه ) فقال ثابت بن قيس أنا قد ذكرت شيئا فقرأ هذه الآية عليه فاستغفر ثابت
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال القبائل والأفخاذ والشعوب الجمهور مثل مضر
وقال الضحاك الشعوب الأفخاذ والقبائل مثل بني تميم وبني أسد
وقال القتبي الشعوب أكثر من القبيلة
وقال الزجاج الشعب أعظم من القبيلة ومعناه إني لم أخلقكم شعوبا وقبائل للتفاخر وإنما خلقناكم كذلك لتعارفوا
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل إنكم جعلتم لأنفسكم نسبا وجعلت لنفسي نسبا فرفعتم نسبكم ووضعتم نسبي فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم
يعني قلت " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وقلتم أنتم فلا وفلان )
ثم قال " إن الله عليم " بأتقيائكم " خبير " بافتخاركم
قوله عز وجل " قالت الأعراب آمنا " قال ابن عباس نزلت الآية في بني أسد قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قحط أصابهم فجاؤوا بأهاليهم وذراريهم يطلبون الصدقة وأظهروا الإسلام وقالوا يا رسول الله نحن أسلمنا طوعا وقدمنا بأهالينا فأعطنا من الغنيمة أكثر مما تعطي غيرنا
ويقال كانت قبيلتان جهينة ومزينة قدموا بأهاليهم
فنزلت الآية " قالت الأعراب آمنا " يعني صدقنا " قل لم تؤمنوا " يعني لم تصدقوا في السر كما صدقتم في العلانية " ولكن قولوا أسملنا " يعني دخلنا في الانقياد والخضوع
ويقال استسلمنا مخافة القتل والسبي " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " يعني لم يدخل الإيمان في قلوبكم يعني التصديق
ويقال لم يدخل حب الإيمان في قلوبكم " وإن تطيعوا الله ورسوله " في السر
كما تطيعونه في العلانية " لا يلتكم من أعمالكم شيئا " يعني لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا(3/313)
314
قرأ أبو عمرو " لا يألتكم " بالألف والهمز والباقون " لا يلتكم " بغير ألف ولا همز ومعناهما واحد
يقال لاته يلته وألته يألته إذا أنقص حقه " إن الله غفور رحيم " لو صدقوا بقلوبهم
سورة الحجرات 15 - 18
ثم بين الله عز وجل لهم من المصدق فقال عز وجل " إنما الؤمنون " يعني المصدقين في إيمانهم " والذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " يعني لم يشكوا في إيمانهم " وجاهدوا " الأعداء " بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " أي في طاعة الله " أولئك هم الصادقون " في إيمانهم
فلما نزلت هذه الآية أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفوا بالله أنهم لمصدقوه في السر فنزل " قل أتعلمون الله بدينكم " الذي أنتم عليه " والله يعلم ما في السموات وما في الأرض " يعني سر أهل السموات وسر أهل الأرض " والله بكل شيء عليم " أي يعلم ما في قلوبكم من التصديق وغيره
قوله عز وجل " يمنون عليك أن أسلموا " يعني بقولهم جئناك بأهالينا وأولادنا " قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان " يعني وفقكم للإيمان " إن كنتم صادقين " بأنكم مخلصون مؤمنون في السر والعلانية
قوله تعالى " إن الله يعلم غيب السموات والأرض " يعني سر أهل السموات وسر أهل الأرض
" والله بصير بما تعملون " من التصديق وغيره قرأ ابن كثير وعاصم في رواية إبان " بما يعملون " بالياء على معنى الخبر عنهم وقرأ الباقون " تعملون " بالتاء على معنى المخاطبة لهم أي بصير بما يعملون من التصديق وغيره والخير والشر و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم والله أعلم بالصواب(3/314)
315
سورة ق
مكية وهي أربعون وخمس آيات
سورة ق 1
قوله تبارك وتعالى " ق " قال قتادة هو اسم من أسماء الله تعالى كقوله قادر وقاهر
ويقال هو اسم من أسماء القرآن
وقال مجاهد هو افتتاح السورة
وقال بعضهم " ق " يعني قضي الأمر كما قال في " حم " حم الأمر والدليل عليه قول الشاعر
( فقلت لها قفي قالت قاف % )
يعني وقفت فذكر القاف وأراد به تمام الكلام
وقال ابن عباس هو جبل من زمرد أخضر محيط بالعالم فخضرة السماء منها وهي من رواء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه والحجاب دون " ق " بمسيرة سنة وما بينهما ظلمة وأطراف السماء ملتصقة بها
ويقال خضرة السماء من ذلك الجبل
ويقال " ق " يعني إن الله عز وجل قائم بالقسط
ثم قال " والقرآن المجيد " يعني الشريف
وقال الضحاك هو جبل محدق بالدنيا من زبرجدة خضراء وخضرة السماء منها ليس في الأرض بلدة من البلدان ولا مدينة من المدائن ولا قرية من القرى إلا وفيها عرق من عروقها وملك موكل عليها واضع كفه بها
فإذا أراد الله عز وجل بقوم هلاكهم أوحى الله عز وجل إلى ذلك الملك فحرك منها عرقا فخسف بهم فأقسم الله عز وجل بقاف " والقرآن المجيد " يعني الشريف إنكم لمبعوثون يوم القيامة لأن أهل مكة أنكروا البعث فصار جواب القسم مضمرا فيه وهو ما ذكرناه إنكم مبعوثون
ويجوز أن يكون جواب القسم " قد علمنا ما تنقص الأرض " [ ق 4 ] فيكون معناه " ق والقرآن المجيد " لقد علمنا ما تنقص الأرض فحذف اللام لأن ما قبلها عوض عنها كما قال " قد أفلح من زكاها " يعني لقد أفلح
وقال القتبي هذا من الاختصار فكأنه قال " ق والقرآن المجيد " لتبعثن
سورة ق 2(3/315)
316
سورة ق 3 - 6
قوله عز وجل " بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم " يعني من أهل مكة " فقال الكافرون هذا شيء عجيب " يعني أمرا عجيبا أن يكون محمد رسولا وهو من نسبهم
قوله تعالى " أئذا متنا وكنا ترابا " بعد الموت نجدد بعدما متنا نصير خلقا جديدا " ذلك رجع بعيد " أي رد طويل لا يكون أبدا
يقال رجع يرجع رجعا إذا رجعه غيره ورجع يرجع رجوعا إذا رجع بنفسه كقوله صد يصد صدودا وصد يصد صدا " ذلك رجع بعيد " أي ذلك صرف بعيد
قوله تعالى " قد علمنا ما تنقص الأرض منهم " يعني ما تأكل الأرض من لحومهم وعروقهم وما بقي منهم
ويقال تأكل الأرض جميع البدن إلا العصعص وهو عجب الذنب وذلك العظم آخر ما يبقى من البدن
فأول ما يعود ذلك العظم ويركب عليه سائر البدن " وعندنا كتاب حفيظ " يعني اللوح المحفوظ
قوله عز وجل " بل كذبوا بالحق " يعني كذبوا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم والبعث
" لما جاءهم " أي حين جاءهم " فهم " يعني قريشا " في أمر مريج " يعني في قول مختلف ملتبس
والمريج أن يقلق الشيء فلا يستقر ويقال مرج الخاتم في يدي مرجا إذا قلق للهزال
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال " فهم في أمر مريج " يقال من ترك الحق
أمرج عليه رأيه والتبس عليه دينه
ثم دلهم على قدرته على بعثهم بعد الموت بعظيم خلقه الذي يدل على وحدانيته فقال " أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها " بغير عمد " وزيناها " بالكواكب " وما لها من فروج " يعني شقوق وصدوع وخلل
سورة ق 7 - 11
قوله تعالى " والأرض مددناها " يعني بسطناها مسير خمسمائة عام من تحت الكعبة " وألقينا فيها رواسي " يعني الجبال الثوابت
" وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج " يعني حسن طيب من الثمار والنبات
قوله تعالى " تبصرة " يعني في هذا الذي ذكره من خلقه " تبصرة " لتبصروا به(3/316)
317
ويقال عبرة
" وذكرى " يعني تفكرا وعظة
" لكل عبد منيب " يعني مخلص بالتوحيد
ويقال راجع إلى ربه
قوله تعالى " ونزلنا من السماء ماء مباركا " يعني المطر فيه البركة حياة لكل شيء " فأنبتنا به جنات " يعني البساتين " وحب الحصيد " يعني ما يخرج من سنبله
ويقال ما يحصد وما لا يحصد كل ما كان له حب ويقال هي الحبوب التي تحصد
قوله عز وجل " والنخل باسقات " يعني الطوال " لها طلع " يعني الكفري " نضيد " يعني مجتمع
نضد بعضه على بعض
ويقال ثمر منضود إذا كان متراكبا بعضه على بعض
ويقال إنما يسمى نضيدا ما كان في الغلاف " رزقا للعباد " يعني جعلناه طعاما للخلق
يعني الحبوب والثمر
" وأحيينا به " يعني بالماء " بلدة ميتا " إذا لم يكن فيها نبات فهذا كله صفات بركة المطر
ثم قال " كذلك الخروج " يعني هكذا الخروج من القبر
كما أحييت الأرض الميتة بالنبات فكذلك لما ماتوا وبقيت الأرض خالية أمطرت السماء أربعين ليلة كمني الرجل يدخل في الأرض فتنبت لحومهم وعروقهم وعظامهم ثم يحييهم
فذلك قوله " كذلك الخروج "
ثم عزى النبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على إيذاء الكفار
يعني لا تحزن بتكذيب الكفار إياك لأنك لست بأول نبي وكل أمة كذبت رسلها مثل نوح وهود عليهم السلام وغيرهم
سورة ق 12 - 16
قال عز وجل " كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس " والرس بئر دون اليمامة وكان عليها قوم كذبوا رسلهم فأهلكهم الله تعالى
ثم قال " وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط " يعني قومه " وأصحاب الأيكة " يعني قوم شعيب " وقوم تبع " يعني قوم حمير
ويقال تبع كان اسم ملك
وروى وكيع عن عمران بن جرير عن أبي مجلز قال جاء عبد الله بن عباس إلى عبد الله بن سلام فسأله عن تبع فقال كان تبع رجلا من العرب ظهر على الناس وسبا فتية من الأحبار فكان يحدثهم ويحدثونه
فقال قومه إن تبعا ترك دينكم وتابع الفتية
فقال تبع للفتية ألا ترون إلى ما قال هؤلاء فقالوا بيننا وبينهم النار التي تحرق الكاذب وينجو منها الصادق
قال نعم
فقال تبع للفتية ادخلوها فتقلدوا مصاحفهم ثم دخلوها فانفرجت لهم حتى قطعوها
ثم قال لقومه ادخلوها فلما دخلوا وجدوا حر النار كفوا
فقال لهم لتدخلنها فدخلوها فلما توسطوا أحاطت بهم النار فأحرقتهم وأسلم تبع وكان رجلا صالحا
ويقال كان اسمه سعد بن ملكي(3/317)
318
كرب وكنيته أبو كرب
وقيل قصة إسلام تبع خلاف ذلك وهو مذكور في مصحف الأول في آخره
" كل كذب الرسل " يعني جميع هؤلاء كذبوا رسلهم " فحق وعيد " يعني وجب عليهم عذابي
معناه فاحذروا يا أهل مكة مثل عذاب الأمم الخالية فلا تكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل " أفعيينا بالخلق الأول " قال مقاتل يعني أعجزنا عن الخلق الأول حين خلقناهم ولم يكونوا شيئا
فكذلك نخلقهم ونبعثهم أي ما عيينا عن ذلك فكيف نعيي عن بعثهم
ويقال معناه أعيينا خلقهم الأول ولم يكونوا شيئا لأن الذي قد كان فإعادته أيسر في رأي العين من الابتداء
يقال عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه
وقال الزجاج هذا تقديم لأنهم اعترفوا أن الله عز وجل خلقهم في الابتداء ولم يكونوا شيئا
ثم قال " بل هم في لبس من خلق جديد " يعني في شك " من خلق جديد " يعني من البعث بعد الموت
ويقال بل أقاموا على شكهم
سورة ق 16 - 22
قوله عز وجل " ولقد خلقنا الإنسان " يعني جنس الإنسان وأراد به جميع الخلق " ونعلم ما توسوس به نفسه " يعني ما يحدث به قلبه ويتفكر في قلبه " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " يعني في القدرة عليه وحبل الوريد عرق يخالط القلب
ويقال هو العرق الذي داخل العنق الذي هو عرق الروح فأعلمه الله تعالى أنه أقرب إليه من ذلك العرق
ويقال الوريدان عرقان بين الحلقوم والعلباوين
والحبل هو الوريد وأضيف إلى نفسه لاختلاف لفظي اسميه
قوله عز وجل " إذ يتلقى المتلقيان " يعني يكتب الملكان عمله ومنطقه يعني يتلقيان منه ويكتبان
وقال أهل اللغة تلقى وتلقف بمعنى واحد
" عن اليمين وعن الشمال قعيد " يعني عن يمين ابن آدم وعن شماله قاعدان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وصاحب اليمين موكل على صاحب الشمال اثنان بالليل واثنان بالنهار وكان في الأصل قعيدان ولكن اكتفى بذكر أحدهما فقال قعيد
ثم قال عز وجل " ما يلفظ من قول " يعني ما يتكلم ابن آدم بقول " إلا لديه رقيب(3/318)
319
عتيد ) يعني عنده حافظ حاضر
وقال الزجاج " عتيد " أي ثابت لازم
قوله تعالى " وجاءت سكرة الموت بالحق " يعني جاءت غمرته بالحق أنه كائن
ويقال جاءت نزعات الموت " بالحق " يعني بالسعادة والشقاوة يعني يتبين له عند الموت
ويقال فيه تقديم ومعناه جاءت سكرة الحق بالموت
روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقرأ " وجاءت سكرة الحق بالموت " " ذلك ما كنت منه تحيد " يعني يقال له هذا الذي كنت تخاف منه وتكره
ويقال ذلك اليوم الذي كنت تفر منه
" ونفخ في الصور " يعني النفخة الأخيرة وهي نفخة البعث " ذلك يوم الوعيد " يعني العذاب في الآخرة " وجاءت " أي جاءت يوم القيامة " كل نفس معها سائق وشهيد " " سائق " يسوقها إلى المحشر ويسوقها إلى الجنة أو إلى النار
" وشهيد " يعني الملك يشهد عليها
وقال القتبي السائق ههنا قرينها من الشياطين يسوقها سمي سائقا لأنه يتبعها والشهيد الملك
ويقال الشاهد أعضاؤه
ويقال الليل والنهار والبقعة تشهد عليه
ويقال له " لقد كنت في غفلة من هذا " يعني من هذا اليوم فلم تؤمن به وقد ظهر عندك بالمعاينة " فكشفنا عنك غطاءك " يعني غطاء الآخرة
ويقال أريناك ما كان مستورا عنك في الدنيا
ويقال أريناك الغطاء الذي على أبصارهم كما قال " وعلى أبصارهم غشاوة " [ البقرة 7 ] حيث لم يعقلوا " فبصرك اليوم حديد " أي نافذ ويقال شاخص بصره يديم النظر لا يطرف حين يعاين في الآخرة ما كان مكذبا به
ويقال " حديد " أي حاد كما يقال " حفيظ " يعني حافظ وقعيد بمعنى قاعد
وقال الزجاج هذا مثل ومعناه إنك كنت بمنزلة من عليه غطاء " فبصرك اليوم حديد " يعني علمك بما أنت فيه نافذ
سورة ق 23 - 30
قوله عز وجل " وقال قرينه " يعني الملك الذي كان يكتب عليه عمله " هذا ما لدي عتيد " يعني هذا الذي وكلتني به قد أتيتك به وهو حاضر
يقول الله عز وجل " ألقيا في جهنم " يعني يقول للملكين ألقيا في جهنم " كل كفار عنيد " وقال بعضهم هذا أمر للملك الواحد بلفظ الاثنين وقال الفراء يرى أصل هذا أن الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة نفر فجرى كلام الواحد على صاحبيه ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء قيلا يا صاحبي ويا خليلي قال الشاعر فقلت لصاحبي لا تحبساني وأدنى ما يكون الأمر(3/319)
320
والنهي في الإعراب اثنان فجرى كلامهم على ذلك ومثل هذا قول امرئ القيس
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل % )
ويقال " ألقيا في جهنم " على معنى تكرير الأمر يعني ألق ألق وهو على معنى التأكيد وكذلك في قوله قفا معناه قف قف
وقال الزجاج عندي أن قوله " ألقيا " أمر للملكين وقال بعضهم العرب تأمر الأمر للواحد بلفظ الاثنين وكان الحجاج يقول يا حرسي اضربا عنقه " كل كفار عبيد " يعني كل جاحد بتوحيد الله تعالى معرض عن الإيمان وقال مقاتل يعني الوليد بن المغيرة
وقيل هذا في جميع الكفار الذين ذكر صفتهم في هذه الآية وهي قوله " مناع للخير " يعني بخيلا لا يخرج حق الله من ماله ويقال " مناع للخير " يعني يمتنع عن الإسلام " معتد مريب " المعتدي هو الظلوم الغشوم والمريب الشاك في توحيد الله تعالى
قوله تعالى " الذي جعل مع الله إلها آخر " يعني أشرك بالله عز وجل " فألقياه في العذاب الشديد " يعني في النار " قال قرينه " يعني شيطانه " ربنا ما أطغيته " يعني لم يكن لي قوة أن أضله " ولكن كن في ضلال بعيد " يعني في خطأ طويل عن الحق
يقول الله تعالى لابن آدم وشيطانه " قال لا تختصموا لدي " أي لا تختصموا عندي " وقد قدمت إليكم بالوعيد " يعني أخذت عليكم الحجة وأخبرتكم بالكتاب والرسول " ما يبدل القول لدي " يعني لا يغير قضائي وحكمي الذي حكمت ويقال لا يكذب وعيدي " وما أنا بظلام للعبيد " يعني لا أعذب أحدا بغير ذنب ويقال " ما يبدل القول لدي " يعني لا يغير عن جهته ولا يحذف منه ولا يزاد فيه لأني أعلم كيف ضلوا وكيف أضللتموهم
وروى سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ) قالوا وإياك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( وإياي ولكن الله عز وجل أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ) وعن الربيع عن أنس قال سألت أبا العالية عن قوله عز وجل " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " [ الزمر 31 ] وههنا يقول " لا تختصموا لدي " فقال إحداهما في أهل النار والأخرى في المؤمنين في المظالم فيما بينهم وقال مجاهد " ما يبدل القول لدي " [ ق 29 ] يعني لقد قضيت ما أنا قاض
قوله عز وجل " يوم نقول لجهنم " قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر " يقول " بالياء(3/320)
321
يعني يقول الله تعالى وقرأ الباقون بالنون ومعناه كذلك يوم صار نصبا على معنى ما يبدل القول لدي في ذلك اليوم ويقال على معنى أنذرهم يوم كقوله " وأنذرهم يوم الحسرة " [ مريم 39 ]
ثم قال " هل امتلأت " يعني هل أوفيتك ما وعدتك وهو قوله " لأملأن جهنم " " فتقول " النار " هل من مزيد " يعني هل من زيادة وقال عطية هل من موضع ويقال معناه هل امتلأت أي قد امتلأت فليس من مزيد ويقال وإنما طلبت الزيادة تغيظا لمن فيها
وروى وكيع بإسناده عن أبي هريرة قال لا تزال جهنم تسأل الزيادة حتى يضع الله فيها قدمه فتقول جنهم يا رب قط قط يعني حسبي حسبي وقال في رواية الكلبي نحو هذا ويقال تضيق بأهلها حتى لا يكون فيها مدخل لرجل واحد
قال أبو الليث قد تكلم الناس في مثل هذا الخبر قال بعضهم نؤمن به ولا نفسره وقال بعضهم نفسره على ما جاء بظاهر لفظه وتأوله بعضهم وقال معنى الخبر بكسر القاف يضع قدمه وهم أقوام سالفة فتمتلئ بذلك
سورة ق 31 - 36
قوله عز وجل " وأزلفت الجنة " يعني قربت وأدنيت الجنة " للمتقين " الذين يتقون الشرك والكبائر ويقال زينت الجنة
ثم قال عز وجل " غير بعيد " يعني ينظرون إليها قبل دخولها ويقال " غير بعيد " يعني دخولهم غير بعيد فيقال لهم " هذا ما توعدون " في الدنيا " لكل أواب حفيظ " يعني مقبل إلى طاعة الله " حفيظ " لأمر الله تعالى في الخلوات وغيرها ويقال الأواب الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها وروى مجاهد عن عبيد بن عمير مثل هذا
قوله تعالى " من خشي الرحمن بالغيب " يعني يخاف الله عز وجل فيعمل بما أمره الله وانتهى عما نهاه وهو في غيب منه " وجاء بقلب منيب " يعني مقبلا على طاعة الله مخلصا ويقال لهم " ادخلوها بسلام " ذكر في أول الآية بلفظ الوحدان وهو قوله " وجاء بقلب منيب " ثم ذكر بلفظ الجماعة وهو قوله " ادخلوها بسلام " لأن لفظه من اسم جنس مرة تكون عبارة عن الجماعة ومرة عن الوحدان " ادخلوها بسلام " يعني بسلامة من العذاب والموت والأمراض والآفات " ذلك يوم الخلود " أي لا خروج منه
قوله عز وجل " لهم ما يشاؤون فيها " يعني يتمنون فيها " ولدينا مزيد " يعني زيادة على ما يتمنون من التحف والكرامات ويقال هو الرؤية كقوله " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " [ يونس 26 ](3/321)
322
ثم قال عز وجل " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " يعني قبل أهل مكة قوة " هم أشد منهم بطشا " يعني أشد من أهل مكة " فنقبوا في البلاد " يعني طافوا وتقلبوا في أسفارهم وتجاراتهم ويقال تغربوا في البلاد " هل من محيص " يعني هل من فرار وهل من ملجأ من عذاب الله
سورة ق 37 - 42
قوله عز وجل " إن في ذلك لذكرى " يعني فيما صنع بقومك " لمن كان له قلب " يعني عقلا لأنه يعقل بالقلب فكني عنه " أو ألقى السمع " يعني استمع إلى القرآن " وهو شهيد " يعني قلبه حاضر غير غائب عنه وقال القتبي " وهو شهيد " يعني استمع كلام الله وهو شاهد الفهم والقلب ليس بغافل ولا ساه
وروى معمر عن قتادة قال " لمن كان له قلب " من هذه الأمة " أو ألقى السمع " قال رجل من أهل الكتاب استمع إلى القرآن وهو شهيد على ما في يديه من كتاب الله تعالى وروي عن عمر أنه قرأ " فنقبوا " بالتخفيف يعني فتبينوا ونظروا وذكروا ومنه قيل للعريف نقيب القوم لأنه يتعرف أمرهم ويبحث عنهم
وقرأ الباقون بالتشديد يعني طوفوا
وقوله تعالى " هل من محيص " [ ق 36 ] يعني هل من ملجأ من الموت وقرأ يحيى بن يعمر " فنقبوا " بضم النون وكسر القاف يعني ففتشوا
قوله عز وجل " ولقد خلقنا السموات والأرض " وذلك أن اليهود قالوا لما خلق الله السموات والأرض وفرغ منهما استراح في يوم السبت فنزل قوله " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب " يعني ما أصبانا من إعياء وإنما يستريح من يعيى
قوله عز وجل " فاصبر على ما يقولون " من المنكر وهو قولهم استراح ويقال فاصبر على ما يقولون من التكذيب وقال في رواية الكلبي نزلت في المستهزئين من قريش وفي أذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب " يعني صل لربك صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر " ومن الليل " يعني المغرب والعشاء " فسبحه " يعني صل له وهو المغرب والعشاء " وأدبار السجود " يعني ركعتي المغرب
قرأ ابن كثير ونافع وحمزة " وإدبار " بكسر الألف والباقون بالنصب " وأدبار "
فمن قرأ بالنصب فهو جمع(3/322)
323
الدبر فهو جمع الدبر ومن قرأ بالكسر فعلى مصدر أدبر يدبر إدبارا قال أبو عبيدة هكذا نقرأ بالنصب لأنه جمع الدبر وإنما الإدبار هو المصدر كقولك أدبر يدبر إدبارا ولا إدبار للسجود وإنما ذلك للنجوم
قوله عز وجل " واستمع يوم يناد المناد " قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير " المنادي " بالياء في الوصل وهو الأصل في اللغة والباقون بغير ياء لأن الكسر يدل على فاكتفى به ومعنى الآية اعمل واجتهد واستعد ليوم القيامة يعني استمع صوت إسرافيل " من مكان قريب " يعني من صخرة بيت المقدس " يوم يسمعون الصيحة بالحق " يعني نفخة إسرافيل بالحق أنها كائنة وقال مقاتل في قوله " من مكان قريب " قال صخرة بيت المقدس وهي أقرب الأرض من السماء بثمانية عشر ميلا وقال الكلبي باثني عشر ميلا " ذلك يوم الخروج " من قبورهم إلى المحاسبة ثم إلى إحدى الدارين إما إلى الجنة وإما إلى النار
وقال أبو عبيدة " يوم الخروج " اسم من أسماء يوم القيامة واستشهد بقول العجاج
( أليس يوم سميت خروجا % أعظم يوما سميت عروجا )
سورة ق 43 - 45
قوله تعالى " إنا نحن نحيي ونميت " يعني نحيي في الدنيا للموت ونميت في الدنيا للإحياء ويقال " إنا نحن نحيي الموتى " ونميت الأحياء " وإلينا المصير " يعني المرجع في الآخرة يعني مصير الخلائق كلهم
قوله عز وجل " يوم تشقق الأرض عنهم سراعا " يعني تصدع الأرض عنهم قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر " تشقق " بتشديد الشين والباقون بالتخفيف لأنه لما حذف إحدى التاءين ترك الشين على حاله ثم قال " سراعا " يعني خروجهم من القبور سراعا " ذلك حشر علينا يسير " يعني جمع الخلائق علينا هين " نحن أعلم بما يقولون " في البعث من التكذيب " وما أنت عليهم بجبار " يعني بمسلط يعني لم تبعث لتجبرهم على الإسلام وإنما بعثت بشيرا ونذيرا وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
ثم قال " فذكر بالقرآن " يعني فعظ بالقرآن بما وعد الله فيه " من يخاف وعيد " يعني من يخاف عقوبتي وعذابي(3/323)
324
سورة الذاريات
كلها مكية وهي ستون آية
سورة الذارايات 1 - 9
قوله تبارك وتعالى " والذاريات ذروا " أقسم الله عز وجل بالرياح إذا أذرت ذروا وروى يعلى بن عطاء عن ابن عمر قال الرياح ثمانية أربعة منها رحمة وأربعة منها عذاب فالرحمة منها الناشرات والمبشرات والذاريات والمرسلات وأما العذاب العاصف والقاصف والصرصر والعقيم وعن ابي الطفيل قال شهدت عليا رضي الله عنه وهو يخطب ويقول سلوني عن كتاب الله عز وجل فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بالليل أنزلت أم بالنهار فسأله ابن الكواء فقال له ما " الذاريات ذروا " قال الرياح
قال و " فالحاملات وقرا " قال السحاب قال فما " فالجاريات يسرا " قال السفن قال فما " فالمقسمات أمرا " قال الملائكة
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال " والذاريات " الرياح " ذروا " قال ما ذرت الريح " فالحاملات وقرا " يعني السحاب الثقال الموقرة من المطر " فالجاريات يسرا " يعني السفن جرت بالتسيير على الماء " فالمقسمات أمرا " يعني أربعة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت لكل واحد منهم أمر مقسوم وهم المدبرات أمرا أقسم الله تعالى بهذه الآيات " إنما توعدون " يعني الذي توعدون من قيام الساعة " لصادق " يعني لكائن ويقال في الآية مضمر فأقسم برب الذاريات يعني ورب الرياح الذاريات ورب السحاب الحاملات ورب السفن الجاريات ورب الملائكة المقسمات " إنما توعدون لصادق "
" وإن الدين لواقع " يعني المجازاة على أعمالهم لواقع ثم بين في آخر الآية ما لكل فريق من الجزاء فبين جزاء أهل النار أنهم يفتنون وبين جزاء المتقين أنهم في جنات وعيون
قوله عز وجل " والسماء ذات الحبك " أقسم بالسماء ذات الحسن والجمال وقال علي بن أبي طالب يعني ذات الخلق الحسن
وقال مجاهد الحبك المتقن البنيان يعني البناء المحكم
ويقال " الحبك " يعني ذات الطرائق ويقال للماء القائم إذا ضربته الريح(3/324)
325
فصارت فيه الطرائق له حبك وكذلك الرمل إذا هبت عليه الريح فرأيت فيه كالطرائق فبذلك حبك
قوله تعالى " إنكم لفي قول مختلف " يعني متناقض مرة قالوا ساحر ومرة قالوا مجنون والساحر عندهم من كان عالما غاية في العلم والمجنون من كان جاحدا غاية في الجهل فتحيروا فقالوا مرة مجنون ومرة ساحر ويقال " إنكم لفي قول مختلف " يعني مصدقا ومكذبا يعني يؤمن به بعضهم
ويكفر به بعضهم
ثم قال عز وجل " يؤفك عنه من أفك " يعني يصرف عنه من صرف وذلك أن أهل مكة أقاموا رجالا على عقاب مكة يصرفون الناس فمنهم من يأخذ بقولهم ويرجع ومنهم من لا يرجع فقال يصرف عنه من قد صرفه الله عن الإيمان وخذله ويقال يصرف عنه من قد صرفه يوم الميثاق ويقال يصرف عنه من كان مخذولا لم يكن من أهل الإيمان
سورة الذاريات 10 - 16
ثم قال عز وجل " قتل الخراصون " يعني لعن الكاذبون " الذين هم في غمرة " يعني في جهالة وعماء وغفلة عن أمر الآخرة " ساهون " يعني لاهين عن الإيمان وعن أمر الله تعالى
قوله تعالى " يسألون أيان يوم الدين " يعني أي أوان يكون يوم الحساب استهزاء منهم به فأخبر الله تعالى عن ذلك اليوم فقال " يوم هم على النار يفتنون " يعني بالنار يحرقون ويعذبون
ويقول لهم الخزنة " ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون " يعني هذا العذاب الذي كنتم به تستهزئون
يعني تستعجلون على وجه الاستهزاء
ثم بين ثواب المتقين فقال عز وجل " إن المتقين في جنات وعيون " يعني في بساتين وأنهار
قوله تعالى " آخذين ما آتاهم ربهم " يعني قابضين ما أعطاهم ربهم من الثواب " إنهم كانوا قبل ذلك " في الدنيا " محسنين " بأعمالهم
" آخذين " نصب على الحال ومعناه " في جنات وعيون " في حال أخذ ما آتاهم ربهم
سورة الذاريات 17 - 22(3/325)
326
ثم قال " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " يعني قليلا من الليل ما ينامون
وقال بعضهم " كانوا قليلا " تم الكلام يعني مثل هؤلاء المتقين " كانوا قليلا "
ثم أخبر عن أعمالهم فقال " من الليل ما يهجعون " يعني لا ينامون بالليل كقوله " والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " [ الفرقان 64 ]
وقال الضحاك كانوا من النائمين قليلا
وقال الحسن لا ينامون إلا قليلا
وقال الربيع بن أنس لا ينامون بالليل إلا قليلا " وبالأسحار هم يستغفرون " يعني يصلون عند السحر
ويقال يصلون بالليل ويستغفرون عند السحر عن ذنوبهم " وفي أموالهم حق " يعني نصيب للفقراء " للسائل والمحروم " السائل المسكين الذي يسأل الناس
" والمحروم " المتعفف الذي لا يسأل الناس
ويقال " المحروم " المحترف الذي لا يبلغ عيشه
وقال الشعبي أعياني أن أعلم من المحروم
روى سفيان عن ابن إسحاق عن قيس قال سألت ابن عباس من السائل والمحروم فقال السائل الذي يسأل والمحروم المحارب الذي ليس له سهم في الغنيمة وهكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد والربيع بن أنس
وروى عكرمة عن ابن عباس قال المحروم الفقير الذي إذا خرج إلى الناس استعف ولم يعرف مكانه ولا يسأل الناس فيعطونه
وقال الزجاج المحروم الذي لا ينمو له مال ويقال هي بالفارسية بي دولت يعني لا إقبال له
ثم قال " وفي الأرض آيات للموقنين " يعني فيمن أهلك قبلهم لهم عبرة
ويقال فيها علامة وحدانية الله تعالى كأنه قال جعلت جميع الأشياء مرآتك لتنظر إليها وترى ما فيها ومراد النظر في المرآة رؤية من لم ير ليرى فكأنه قال فانظر في آيات صنعي لتعلم أني صانع كل الأشياء فإذا نظرت إلى النقش والنقش يدل إلى نقاشه وإذا نظرت إلى النفس وعجائب تركيبها يدل على خالقها وإذا نظرت في الأرض فمختلف الأشياء عليها يدل إلى ربها وهي البحار والجبال والأنهار والثمار
" وفي أنفسكم " يعني وعلامة وحدانيته في أنفسكم " أفلا تبصرون " يعني تتفكرون في خلق أنفسكم كيف خلقكم وهو قادر على أن يبعثكم
قوله عز وجل " وفي السماء رزقكم " يعني من السماء يأتي سبب رزقكم وهو المطر
ويقال وعلى خالق السماء رزقكم " وما توعدون " يعني ما توعدون من الثواب والعقاب والخير والشر
قال مجاهد " وما توعدون " يعني الجنة والنار
وهكذا قال الضحاك
سورة الذاريات 23 - 29(3/326)
327
سورة الذاريات 30 - 37
ثم قال عز وجل " فورب السماء والأرض " أقسم الرب بنفسه " إنه لحق " يعني ما قسمت من الرزق لكائن " مثل ما أنكم تنطقون " يعني كما تقولون لا إله إلا الله بمعنى كما أن قولكم لا إله إلا الله حق كذلك قولي سأرزقكم حق
ويقال معناه كما أن الشهادة واجبة عليكم فكذلك رزقكم واجب علي
ويقال معناه هو الذي ذكر في أمر الآيات والرزق حق يعني صدق مثل ما أنكم تنطقون
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أبى ابن آدم أن يصدق ربه حتى أقسم له " فورب السماء والأرض إنه لحق " )
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " مثل ما أنكم تنطقون " بضم اللام والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فهو نعت للحق وصفة له
ومن قرأ بالنصب فهو على التوكيد على معنى أنه لحق حقا مثل نطقكم
قوله عز وجل " هل آتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين " يعني جاء جبريل مع أحد عشر ملكا عليهم السلام " المكرمين " أكرمهم الله تعالى وقال أكرمهم إبراهيم عليه السلام وأحسن عليهم القيام " إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما " فسلموا عليه فرد عليهم السلام " قال سلام " قرأحمزة والكسائي " قال سلم " أي أمري سلم
والباقون " سلام " أي أمري " سلام " أي صلح
ثم قال " قوم منكرون " يعني أنكرهم ولم يعرفهم وقال كانوا لا يسلمون في ذلك الوقت فلما سمع منهم السلام أنكرهم
" فراغ إلى أهله " يعني عمد إلى أهله ويقال عدل ومال إلى أهله
ويقال عدل من حيث لا يعلمون لأي شيء عدل ويقال راغ فلان عنا إذا عدل عنهم من حيث لا يعلمون
" فجاء بعجل سمين " قال بعضهم كان لبن البقرة كله سمنا فلهذا كان العجل سمينا " فقربه إليهم " فلم يأكلوا " فقال ألا تأكلون " فقالوا نحن لا نأكل بغير ثمن
فقال إبراهيم كلوا واعطوا الثمن
قالوا وما ثمنه فقال إذا أكلتم فقولوا بسم الله وإذا فرغتم فقولوا الحمد لله فتعجبت الملائكة عليهم السلام لقوله فلما رآهم لا يأكلون " فأوجس منهم خيفة " يعني أظهر في نفسه خيفة
ويقال ملأ نفسهم خيفة فلما رأوه يخاف " قالوا لا تخف " منا يعني لا تخش منا " وبشروه بغلام عليم " يعني إسحاق " فأقبلت امرأته في صرة " يعني أخذت امرأته في صيحة " فصكت وجهها " يعني ضربت بيديها خديها تعجبا " وقالت عجوز عقيم " يعني عجوزا عاقرا لم تلد قط كيف يكون لها ولد فقال لها جبريل قال " كذلك قال ربك إنه " يكون لك ولد " هو الحكيم " في أمره حكم بالولد بعد الكبر " العليم " بخلقه
ويقال عليم بوقت الولادة(3/327)
328
فلما رآهم أنهم الملائكة " قال " لهم " فما خطبكم أيها المرسلون " يعني ما أمركم وما شأنكم ولماذا جئتم أيها المرسلون " قالوا إنا أرسلنا " يعني قال جبريل عليه السلام أرسلنا الله تعالى " إلى قوم مجرمين " يعني قوما كفارا مشركين " لنرسل عليهم " يعني لكي نرسل عليهم " حجارة من طين " مطبوخ كما يطبخ الآجر " مسومة عند ربك للمسرفين " يعني معلمة ويقال مخططة بسواد وحمرة
ويقال مكتوب على كل واحد اسم صاحب الذي يصيبه
ثم قال " عند ربك " يعني جاءت الحجارة من عند ربك للمشركين فاغتم إبراهيم لأجل لوط
قال الله تعالى " فأخرجنا من كان فيها " أي في قريات لوط " من المؤمنين " يعني من المصدقين " فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " يعني غير بيت لوط
قوله عز وجل " وتركنا فيها آية " يعني أبقينا في قريات لوط آية
يعني عبرة في هلاكهم من بعدهم
" للذين يخافون العذاب الأليم " يعني العذاب الشديد
سورة الذاريات 38 - 40
ثم قال " وفي موسى " عطف على قوله " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " [ الذاريات 21 ] " وفي موسى " " إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين " يعني حجة بينة وهي اليد والعصا " فتولى بركنه " يعني أعرض عنه فرعون بجموعه يعني مع جموعه وجنوده
ويقال " فتولى بركنه " يعني أعرض بجانبه " وقال ساحر أو مجنون " يعني قال لموسى هو ساحر أو مجنون " فأخذناه وجنوده " يعني عاقبناه وجموعه " فنبذناهم في اليم " قال الكلبي يعني أغرقناهم في البحر وقال مقاتل يعني في النيل " وهو مليم " يعني يلوم نفسه ويلومه الناس
وقال " مليم " أي مذنب
وقال أهل اللغة ألام الرجل إذا أتى بذنب يلام عليه
سورة الذاريات 41 - 45
ثم قال " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " يعني سلطنا عليهم الريح الشديد وإنما سميت عقيما لأنها لا تأتي على شيء إلا جعلته كالرميم لا خير فيه
ويقال سميت عقيما لأنها لا تلقح الأشجار ولا تثير السحاب وهي الدبور
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس قال ما أنزل الله قطرة من ماء إلا بمثقال ولا أنزل سفرة من ريح إلا بمكيال إلا قوم نوح(3/328)
329
وقوم عاد طغى على خزانة الماء فلم يكن لهم عليه سبيل وعتت الريح يوم عاد على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل وروى عكرمة عن ابن عباس قال " العقيم " الذي لا منفعة لها
ثم قال " ما تذر من شيء " يعني ما تترك من شيء هو لهم ولا منهم " أتت عليه إلا جعلته كالرميم " يعني مرت عليه إلا جعلته كالرماد
ويقال الرميم الورق الجاف المتحطم مثل الهشيم المحتضر بعد ما كانوا كنخل منقعر
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما أرسل على عاد من الريح إلا مثل خاتمي هذا
يعني إن الريح العقيم تحت الأرض فأخرج منها مثل ما يخرج من ثقب الخاتم فأهلكهم
ثم قال تعالى " وفي ثمود " يعني قوم صالح " إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين " يعني قال لهم نبيهم صالح عليه السلام عيشوا إلى منتهى آجالكم ولا تعصوا أمر الله " فعتوا عن أمر ربهم " يعني تركوا طاعة ربهم " فأخذتهم الصاعقة " يعني العذاب
قرأ الكسائي " فأخذتهم الصعقة " بغير ألف وجزم العين
والباقون بألف وهي الصيحة التي أهلكتهم بالصعقة من قولك صعقتهم الصاعقة
يعني أهلكتهم
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ " صعقة " مثل الكسائي
" وهم ينظرون " يعني ظهرت النار من تحت أرجلهم وهم يرونها بأعينهم
ويقال سمعوا الصيحة وهم ينظرون متحيرون
" فما استطاعوا من قيام " يعني ما استطاعوا أن يقوموا لعذاب الله تعالى حتى أهلكوا
" وما كانوا منتصرين " يعني ممتنعين من العذاب
سورة الذاريات 46 - 53
ثم قال " وقوم نوح " وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " وقوم نوح " بكسر الميم يعني في قوم نوح كما قال " وفي ثمود " والباقون بالنصب يعني وأهلكنا قوم نوح ويقال معناه فأخذناه وأخذنا قوم نوح " من قبل " هؤلاء الذين سميناهم " إنهم كانوا قوما فاسقين " يعني عاصين
قوله عز وجل " والسماء بنيناها بأيد " يعني خلقناها أو حملناها بقوة وقدرة " وإنا لموسعون " يعني نحن قادرون على أن نوسعها كما نريد ويقال " والسماء " صار نصبا لنزع الخافض ومعناه و " وفي السماء " [ الزخرف 84 ] آية
ثم قال " والأرض فرشناها " يعني وفي الأرض آية بسطناها مسيرة خمسمائة عام من(3/329)
330
تحت الكعبة " فنعم الماهدون " يعني نعم الماهدون نحن ويقال في قوله " وإنا لموسعون " يعني نحن جعلنا بينهما وبين الأرض سعة
ثم قال عز وجل " ومن كل شيء خلقنا زوجين " يعني صنفين الذكر والأنثى والأحمر والأبيض والليل والنهار والدنيا والآخرة والشمس والقمر والشتاء والصيف
" لعلكم تذكرون " يعني تتعظون فيما خلق الله فتوحدوه
قوله عز وجل " ففروا إلى الله " يعني توبوا إلى الله من ذنوبكم ويقال معناه " ففروا " من الله " إلى الله " أو " ففروا " من عذاب الله إلى رحمة الله أو " ففروا " من معصية الله إلى طاعة الله
ومن الذنوب إلى التوبة
" إني لكم منه نذير مبين " يعني مخوفا من عذاب الله تعالى بالنار " ولا تجعلوا مع الله إلها آخر " يعني لا تقولوا له شريكا وولدا " إني لكم نذير مبين " يعني فإن فعلتم فإني لكم مخوف من عذابه فلم يقبلوا قوله وقالوا هذا " ساحر أو مجنون "
يقول الله تعالى تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول " يعني هكذا ما أتى في الأمم الخالية من رسول " إلا قالوا ساحر أو مجنون " كقول كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم " أتواصوا به " يعني توافقوا وتواطؤوا فيما بينهم
وأوصى الأول الآخر أن يقولوا ذلك
ويقال توافقوا وتواطؤوا به كل قوم وجعلوا كلمتهم واحدة أن يقولوا " ساحر أو مجنون "
قال الله عز وجل " بل هم قوم طاغون " يعني عاتين في معصية الله تعالى
سورة الذاريات 54 - 60
ثم قال " فتول عنهم " يعني فأعرض عنهم يا محمد بعد ما بلغت الرسالة وأعذرت " فما أنت بملوم " يعني لا تلام على ذلك لأنك قد فعلت ما عليك " وذكر " يعني عظ أصحابك بالقرآن " فإن الذكرى تنفع المؤمنين " يعني المصدقين تنفعهم العظة
ويقال فعظ أهل مكة " فإن الذكرى تنفع المؤمنين " يعني من قدر لهم الإيمان
ثم قال عز وجل " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " يعني ما خلقتهم إلا أمرتهم بالعبادة فلو أنهم خلقوا للعبادة لما عصوا طرفة عين
وقال مجاهد يعني ما خلقتهم إلا لآمرهم وأنهاهم
ويقال " إلا ليعبدون " يعني إلا ليوحدون وهم المؤمنون وهم خلقوا(3/330)
331
للتوحيد والعبادة وخلق بعضهم لجنهم كما قال " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس " [ الأعراف 179 ] فقد خلق كل صنف للأمر والنهي الذي يصلح له
ثم قال " ما أريد منهم من رزق " يعني ما خلقتهم لأن يرزقوا أنفسهم " وما أريد أن يطعمون " يعني لا أكلفهم أن يطعموا أحدا من خلقي
وأصل هذا أن الخلق عباد الله وعياله فمن أطعم عيال رجل ورزقهم فقد رزقه إذا كان رزقهم عليه
ثم قال " إن الله هو الرزاق " يعني " الرزاق " لجميع خلقه " ذو القوة المتين " يعني " ذو القوة " على أعدائه الشديد العقوبة لهم و " المتين " في اللغة الشديد القوي
قرأ الأعمش " ذو القوة المتين " بكسر النون جعله من نعت القوة وقراءة العامة بالضم ومعناه " إن الله هو الرزاق " وهو " ذو القوة المتين "
قوله عز وجل " فإن للذين ظلموا " يعني أشركوا وهم مشركو مكة " ذنوبا " يعني نصيبا من العذاب " مثل ذنوب أصحابهم " يعني مثل نصيب أصحابهم من عذاب الذين مضوا وأصل الذنوب في اللغة هو الدلو الكبير فكني عنه لأنه تتابع
يعني مثل عذاب الذين أهلكوا نحو قوم عاد وثمود وغيرهم " فلا يستعجلون " يعني بالعذاب لأن النضر بن الحارث كان يستعجل بالعذاب فأمهله إلى يوم بدر ثم قتل في ذلك اليوم وصار إلى النار
قوله عز وجل " فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون " يعني من عذاب يوم القيامة
والويل الشدة من العذاب ويقال الويل واد في جهنم والله سبحانه أعلم(3/331)
332
سورة الطور
كلها مكية وهي أربعون وتسع آيات
سورة الطور 1 - 8
قوله تبارك وتعالى " والطور " أقسم الله تعالى بالجبل وكل جبل فهو طور بلغة النبط ويقال بلغة السريانية ولكن عني به الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام بمدين واسمه زبير
ثم قال " وكتاب مسطور " يعني اللوح المحفوظ
ويقال أعمال بني آدم " في رق منشور " يعني في صحيفة منشورة كما قال " ويخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " [ الإسراء 13 ] يعني مفتوحا يقرؤونه
ويقال " كتاب مسطور " يعني القرآن
" في رق منشور " يعني المصاحف ويقال في اللوح المحفوظ
ثم قال " والبيت المعمور " وهو في السماء السابعة
ويقال في السماء السادسة ويقال في السماء الرابعة
وروى وكيع بإسناده عن علي وابن عباس في قوله " والبيت المعمور " قالا هو بيت في السماء حيال الكعبة يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه إلى يوم القيامة
قال بعضهم بناه الملائكة قبل أن يخلق آدم عليه السلام وقال بعضهم هو البيت الذي بناه آدم بمكة فرفعه الله تعالى في أيام الطوفان إلى السماء بحيال الكعبة
وقال بعضهم أنزل الله بيتا من ياقوتة في زمان آدم عليه السلام ووضع بمكة فكان آدم يطوف به وذريته من بعده إلى زمن الطوفان فرفع إلى السماء وهو " البيت المعمور " طوله كما بين السماء والأرض
ثم قال " والسقف المرفوع " يعني السماء المرتفعة من الأرض مقدار خمسمائة عام " والبحر المسجور " يعني البحر الممتلئ تحت العرش وهو بحر مكفوف يقال له بحر الحيوان يحمي الله به الموتى يوم القيامة فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء
ويقال أقسم بخالق هذه الأشياء " إن عذاب ربك لواقع " يعني العذاب الذي أوقع للكفار فهو كائن " ما له من دافع " يعني لا يقدر أحد أن يدفع عنهم العذاب
سورة الطور 9 - 11(3/332)
333
سورة الطور 12 - 16
ثم بين أن ذلك العذاب في أي يوم يكون فقال " يوم تمور السماء مورا " يعني تدور السماء بأهلها دروا كدوران الرحى وتموج بعضهم في بعض من الخوف
صار اليوم نصبا لنزع الخافض ومعناه أن عذاب ربك لواقع في " يوم تمور السماء مورا " يعني في يوم القيامة " وتسير الجبال سيرا " يعني " تسير " على وجه الأرض " سيرا " مثل السحاب حتى تستوي بالأرض " فويل " الشدة من العذاب " يومئذ " يعني يوم القيامة " للمكذيبن " بيوم القيامة
ثم نعتهم فقال " الذين هم في خوض يلعبون " يعني في باطل يلهون ويهزأون
قوله عز وجل " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا " يعني تدفعهم خزنة جهنم ويقال " يدعون " يعني يزعجون إليها إزعاجا شديدا ويدفعون دفعا عنيفا
ومنه قوله تعالى " يدع اليتيم " [ الماعون 2 ] أي يدفع عما يجب له
ويقال " دعا " يعني دفعا على وجوههم يجرون فإذا دنوا منها قالت لهم الخزنة " هذه النار التي كنتم بها تكذبون " يعني لم تصدقوا بها ولم تأمنوا بها في الدنيا
" أفسحر هذا " العذاب الذي ترون لأنفسكم لأنكم قلتم في الدنيا للرسول ساحر أو مجنون
" أم أنتم لا تبصرون " النار
ويقال بل أنتم لا تعقلون
ثم قال لهم " اصلوها " يعني ادخلوا فيها " فاصبروا أو لا تصبروا " يعني فإن صبرتم أو لم تصبروا فهو " سواء عليكم " اللفظ لفظ الأمر المراد به الخبر
يعني إن صبرتم أو لم تصبروا فهو " سواء عليكم " فلا تنجون منها أبدا " إنما تجزون ما كنتم تعملون " من الكفر والتكذيب
سورة الطور 17 - 24
ثم بين حال المتقين فقال " إن المتقين في جنات " يعني الذين يتقون الشرك والفواحش في بساتين " ونعيم فاكهين " يعني معجبين ويقال ناعمين ويقال فرحين
" بما آتاهم ربهم " في الجنة من الكرامة " ووقاهم ربهم عذاب الجحيم " يعني دفع عنهم عذاب النار(3/333)
334
ويقول لهم " كلوا واشربوا " يعني كلوا من ألوان الطعام والثمار واشربوا من ألوان الشراب " هنيئا " يعني لا داء ولا غائلة فيه ولا يخاف في الأكل والشرب من الآفات ما يكون في الدنيا " بما كنتم تعملون " يعني هذا الثواب لأعمالكم التي عملتم في الدنيا
ثم قال " متكئين على سرر " يعني نائمين على سرر " مصفوفة " قد صف بعضها إلى بعض وكل من كان اشتاق إلى صديقه يلتقيه
" وزوجناهم بحور عين " يعني بيض العين حسان الأعين
قوله تعالى " والذين آمنوا " يعني صدقوا بالله ورسوله وصدقوا بالبعث " واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " يعني ألحقناهم ذرياتهم
قرأ أبو عمرو " واتبعناهم ذرياتهم " " ألحقنا بهم ذرياتهم " الثلاث كلها بالألف
وقرأ نافع اثنان بغير ألف والآخر بالألف
وقرأ ابن عامر الأول بغر ألف والآخران بالألف والباقون كلها بغير ألف فمن قرأ " اتبعناهم " معناه ألحقناهم يعني الذين آمنوا وجعلنا ذريتهم مؤمنين ألحقنا بهم ذريتهم في الجنة في درجتهم
ومن قرأ " واتبعتهم " بغير ألف يعني ذريتهم معهم
ومن قرأ " ذرياتهم " بالألف فهو جمع الذرية
ومن قرأ بغير ألف فهو عبارة عن الجنس ويقع على الجماعة أيضا
وقال مقاتل معناه الذين أدركوا مع آبائهم وعملوا خيرا في الجنة ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل فهم معهم في الجنة
ويقال إن أحدهم إذا كان أسفل منه يحلق بهم لكي تقر عينه
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يرفع الله للمسلم ذريته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه
ثم قال " وما ألتناهم من عملهم من شيء " يعني ما نقصناهم من عمل الآباء إذا كانوا مع الأبناء يعني حتى يبلغ بهم ذريتهم من غير أن ينقص من أجر أولئك شيئا ولا من ذريتهم
" كل امرئ بما كسب رهين " يعني كل نفس مرتهنة بعملها يوم القيامة
ثم رجع إلى صفة المتقين في التقديم وكرامتهم قوله تعالى " وأمددناهم بفاكهة " يعني أعطيناهم من ألوان الفاكهة " ولحم مما يشتهون " يعني يتمنون
قرأ ابن كثير " ألتناهم " بكسر اللام وهي لغة لبعض العرب واللغة الظاهرة بالفتح وهي من يألت يلت وهو النقصان
وقال عز وجل " يتنازعون فيها كأسا " يعني يتعاطون في الجنة تعطيهم الخدم قدح الشراب ولا يكون كأسا إلا مع الشراب " لا لغو فيها " يعني لا باطل في الجنة " ولا تأثيم " يعني لا إثم في شرب الخمر
ويقال " لا تأثيم " يعني لا تكذيب فيما بينهم
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " لا لغو فيها " بنصب الواو " ولا تأثيم " بنصب الميم والباقون بالضم مع التنوين
فمن قرأ بالنصب فهو على التبرئة
ومن قرأ بالضم فهو على معنى الخبر يعني ليس فيها لغو ولا تأثيم كما قال
" لا فيها غول " [ الصافات 47 ](3/334)
335
ثم قال عز وجل " ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون " يعني في الحسن والبياض مثل اللؤلؤ في الصدف لم تمسه الأيدي ولم تره الأعين
وروى سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أن رجلا قال يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم فقال ( والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب )
سورة الطور 25 - 28
قوله تعالى " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " يعني يتحدثون ويتساءلون في الجنة عن أحوالهم التي كانت في الدنيا ثم يقول بم صرتم إلى هذه المنزلة الرفيعة
قوله تعالى " قالوا إنا كنا قبل " يعني في الدنيا " في أهلنا مشفقين " يعني خائفين من العذاب
ثم قال " فمن الله علينا " يعني من علينا بالمغفرة والرحمة
" ووقانا عذاب السموم " يعني دفع عنا عذاب النار
" إنا كنا من قبل ندعوه " يعني في الدنيا ندعو الرب " إنه هو البر " الصادق في قوله وفيما وعد لأوليائه
" الرحيم " بهم قرأ نافع والكسائي " أنه " بالنصب ومعناه إنا كنا من قبل ندعوه بأنه هو البر
وقرأ الباقون بالكسر على معنى الاستئناف
سورة الطور 29 - 33
ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعظ قومه ولا يبالي من قولهم فقال عز وجل " فذكر " يعني فعظ بالقرآن " فما أنت بنعمة ربك " يعني برحمة ربك
ويقال هو كقوله ما أنت بحمد الله مجنون
وقال أبو سهل عظ بالقرآن ولست أنت والحمد لله " بكاهن ولا مجنون " ويقال " فذكر "
يعني ذكرهم بما أعتدنا للمؤمنين المتقين وبما أعتدنا لضالين الكافرين " فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون " يعني لست تقول بقول الكهنة ولا تنطق إلا بوحي من الله
ثم قال " أم يقولون شاعر " يعني أيقولون هو شاعر يأتي من قبل نفسه وهو وقول الوليد بن المغيرة وأبي جهل وأصحابهما
" نتربص به ريب المنون " يعني أوجاع الموت وحوادثه
قال قتادة " ريب المنون " الموت
وقال مجاهد " ريب المنون " حوادث الدهر
وقال القتبي حوادث الدهر وأوجاعه ومصايبه
ويقال إنهم كانوا يقولون قد مات أبوه(3/335)
336
شابا وهم ينتظرون موته " قل تربصوا " يعني انتظروا هلاكي " فإني معكم من المتربصين " وذكر في التفسير أن الذين قالوا هكذا ماتوا كلهم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى " أم تأمرهم أحلامهم بهذا " يعني أتأمرهم عقولهم بهذا وتدلهم على التكذيب والإيذاء بمحمد صلى الله عليه وسلم
" أم هم قوم طاغون " يعني بل هم قوم عاتون في معصية الله تعالى
( أم يقولون تقوله ) يعني أيقولون أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول من ذات نفسه فاللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الزجر والوعيد
ثم قال " بل لا يؤمنون " يعني لا يصدقون بالرسول والكتاب عنادا وحسدا منهم
سورة الطور الآية 34 - 38
قوله عز وجل " فليأتوا بحديث مثله " يعني إن قلتم إن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول من ذات نفسه فأتوا بمثل هذا القرآن كما جاء به " إن كانوا صادقين " في قولهم
ثم قال " أم خلقوا من غير شيء " يعني من غير رب أكانوا هكذا خلقا من غير شيء ومعناه كيف لا يعتبرون أن الله تعالى خلقهم فيوحدونه ويعبدونه
ويقال " أم خلقوا من غير شيء " يعني لغير شيء ومعناه أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون
ثم قال " أم هم الخالقون " يعني أهم خلقوا الخلق أما الله تعالى ومعناه الله تعالى خلق الخلق وهو الذي يبعثهم يوم القيامة
ثم قال " أم خلقوا السموات والأرض " يعني بل الله تعالى خلقهما " بل لا يوقنون " بتوحيد الله الذي خلقهما أنه واحد لا شريك له
ثم قال " أم عندهم خزائن ربك " يعني مفاتيح رزق ربك ويقال مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا ولكن الله يختار من يشاء كقولهم " أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر " [ القمر : 25 ]
ثم قال " أم هم المسيطرون " يعني أهم المسلطون عليهم يحملونهم حيث شاؤوا يعني على الناس فيخبرونهم بما شاؤوا
قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي في إحدى الروايتين " المسيطرون " بالسين والباقون بالصاد
وقال الزجاج تسيطر علينا وتصيطر وأصله السين وكل سين بعدها طاء يجوز أن تقلب صادا مثل يسيطر ويبسط
ثم قال " أم لهم سلم " يعني سببا إلى السماء " يستمعون فيه " يعني يرتقون عليه فيستمعون القول من رب العالمين " فليأت مستمعهم بسلطان مبين " أي بحجة بينة(3/336)
337
سورة الطور الآية 39 - 43
ثم قال عز وجل " أم له البنات ولكم البنون " بين جهلهم وقلة أحلامهم أنهم يجعلون لله ما يكرهون لأنفسهم
ثم قال عز وجل " أم تسألهم أجرا " معناه أن الحجة واجبة عليهم من كل وجه لأنك قد أتيتهم بالبيان والبرهان ولم تسألهم على ذلك أجرا
فقال " أم تسألهم " يعني أتطلب منهم " أجرا " بما تعلمهم من الأحكام والشرائع
" فهم من مغرم مثقلون " يعني من أجل المغرم يمتنعون عن الإيمان
يعني لا حجة لهم في الامتناع لأنك لا تسأل منهم أجرا فيثقل عليهم لأجل الأجر
قوله عز وجل " أم عندهم الغيب " يعني عندهم الغيب بأن الله لا يبعثهم " فهم يكتبون " يعني أمعهم كتاب يكتبون بما شاؤوا يعني ما في اللوح المحفوظ فهذا كله اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الزجر
ثم قال عز وجل " أم يريدون كيدأ " يعني بل يريدون كيدا بالنبي صلى الله عليه وسلم " فالذين كفروا هم المكيدون " يعني بل هم المعذبون الهالكون
قوله عز وجل " أم لهم إله غير الله " يعني ألهم خالق غير الله يخلق ويرزق ويمنعهم من عذابنا " سبحان الله عما يشركون " يعني تنزيها لله تعالى عما يصفون من الشريك والولد
سورة الطور 44 - 49
ثم ذكر قسوة قلوبهم فقال " وإن يروا كسفا من السماء ساقطا " يعني جانبا من السماء ساقطا عليهم " يقولوا " يعني لقالوا من تكذيبهم " سحاب مركوم " يعني متراكما بعضه على بعض لأنهم كانوا يقولون لا نؤمن بك حتى تسقط علينا كسفا
ثم قال الله تعالى لو فعلنا ذلك لم يؤمنوا ولا ينفعهم من قسوة قلوبهم
ثم قال " فذرهم " يعني فتخل عنهم يا محمد " حتى يلاقوا يومهم " يعني يعاينوا يومهم " الذي فيه يصعقون " يعني يموتون ويقال يعذبون
قرأ عاصم وابن عامر " يصعقون " بضم الياء والباقون " يصعقون " بنصب الياء وكلاهما واحد وهما لغتان(3/337)
338
ثم وصف حالهم في ذلك اليوم فقال " يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا " يعني لا ينفعهم صنيعهم شيئا " ولا هم ينصرون " يعني لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب
ثم قال عز وجل " وإن للذين ظلموا عذابا دون الله " يعني قبل عذاب النار
وقد روى عبد الله بن عباس قال عذاب القبر وقال معمر عن قتادة قال عذاب القبر في القرآن
ثم قرأ " وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك " ويقال " عذابا دون ذلك " يعني القتل ويقال الشدائد والعقوبات في الدنيا
" ولكن أكثرهم لا يعلمون " يعني لا يصدقون بالعذاب
ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم فقال " واصبر لحكم ربك " يعني لما أمرك ربك ونهاك عنه
ويقال واصبر على تكذيبهم وأذاهم
" فإنك بأعيننا " يعني فأنك بمنظر منا والله تعالى يرى أحوالك ولا يخفى عليه شيء
وقال الزجاج " فإنك بأعيننا " بمعنى فإنك بحيث نراك ونحفظك ولا يصلون إليك بمكرهم ويقال نرى ما ينصع بك
" وسبح بحمد ربك حين تقوم " يعني صل بأمر ربك قبل طلوع الشمس يعني صلاة الفجر وقبل الغروب يعني صلاة العصر
" ومن الليل فسبحه " يعني صل صلاة المغرب والعشاء ويقال حين تقوم صلاة الفجر والظهر والعصر ومعناه صل صلاة النهار وصلاة الليل
ويقال " سبح بحمد ربك حين تقوم " يعني قل سبحانك اللهم وبحمدك إذا قمت إلى الصلاة وهذا قول ربيع بن أنس
" وإدبار النجوم " يعني ركعتي الفجر
وروى سعيد بن جبير عن زاذان عن عمر رضي الله عنه قال لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر وهما " إدبار النجوم " وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال " إدبار السجود " الركعتان بعد المغرب " وإدبار النجوم " الركعتان قبل الفجر
وروى وكيع عن ابن عباس أنه قال بت ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتي الفجر ثم خرج إلى الصلاة
فقال ابن عباس الركعتان اللتان قبل الفجر " إدبار النجوم " واللاتي بعد المغرب " إدبار السجود " وفي الآية دليل على أن تأخير صلاة الفجر أفضل لأنه أمر بركعتي الفجر بعد ما أدبرت النجوم وإنما أدبرت النجوم بعد ما أسفر والله سبحانه أعلم(3/338)
339
سورة النجم
مكية وهي ستون وآيتان
سورة النجم 1 - 9
قوله تبارك وتعالى " والنجم إذا هوى " قال ابن عباس رضي الله عنه أقسم الله تعالى بالقرآن إذ أنزل نجوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتا بعد وقت الآية والآيتان والسورة والسورتان وكان بين أوله وآخره إحدى وعشرون سنة
قال مجاهد أقسم الله بالثريا إذا غابت وسقطت والعرب تسمي الثريا نجما
ويقال أقسم بالكواكب المضيئة
ويقال أقسم بجميع الكواكب
" ما ضل صاحبكم " وذلك أن قريشا قالوا له قد تركت دين آباءك وخرجت من الطريق وتقول شيئا من ذات نفسك فنزل " والنجم إذا هوى " " ما ضل صاحبكم " يعني ما ترك دين أبيه إبراهيم " وما غوى " يعني لم يضل قوما والغاوي والضال واحد
يقال الضلال قبل البيان والفساد بعد البيان
قرأ حمزة والكسائي " إذا هوى " " وما غوى " كله بالإمالة في جميع السورة وقرأ نافع وأبو عمرو بين الإمالة والفتح في جميع السورة والباقون بالتخفيف وكل ذلك جائز في اللغة
ثم قال " وما ينطق عن الهوى " يعني ما ينطق بهذا القرآن بهوى نفسه والعرب تجعل عن مكان الباء تقول رميت عن القوس أي بالقوس " وما ينطق عن الهوى " أي بالهوى " إن هو إلا وحي يوحى " يعني ما هذا القرآن إلا وحي يوحى إليه " علمه شديد القوى " يعني أتاه جبريل عليه السلام فعلمه وهو " شديد القوى " وأصله في اللغة من قوى الحبل وهي طاقته والواحدة قوة
ويقال " علمه شديد القوى " يعني الله تعالى يعلمه بالوحي وهو ذو القوة المتين
قوله عز وجل " ذو مرة " يعني ذي قوة
وأصل المرة القتل فيعبر به عن القوة ومنه الحديث ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي )
ثم قال عز وجل " فاستوى " يعني جبريل عليه السلام ويقال " فاستوى " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " وهو بالأفق الأعلى " يعني من قبل مطلع الشمس فرآه على صورته وله(3/339)
340
جناحان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب
" ثم دنا فتدلى " إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكل ما دنا منه انتقص حتى إذا قرب منه مقدار قوسين رآه كما في سائر الأوقات حتى لا يشك أنه جبريل " فكان قاب قوسين " يعني في القرب مقدار قوسين
وقال بعضهم ليلة المعراج دنا من العرش مقدار قوسين وإنما ذكر القوسين لأن القرآن نزل بلغة العرب والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس
ويقال " فكان قاب قوسين " يعني قدر ذراعين وإنما سمي الذراع قوسا لأنه تقاس به الأشياء
" أو أدنى " يعني بل أدنى ويقال أو بمعنى واو العطف يعني مقدار قوسين أو أقرب من ذلك
سورة النجم 10 - 18
قوله تعالى " فأوحى إلى عبده ما أوحى " يعني أوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه جبريل ما قرأ
ويقال تكلم مع عبده ليلة المعراج ما تكلم ويقال أمر عبده بما أمر
ثم قال " ما كذب الفؤاد ما رأى " يعني ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأى بصره من أمر ربه في رؤية جبريل عليه السلام ويقال في رؤية الله تعالى بقلبه
قال محمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال ( رأيته بفؤادي ولم أره بعيني ) قرأ الحسن " ما كذب " بتشديد الذال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ومعناه لم يجعل الفؤاد رؤية العين كذبا والباقون بالتخفيف يعني ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم فيما رأى
ثم قال عز وجل " أفتمارونه على ما يرى " قرأ حمزة " أفتمرونه " بنصب التاء وجزم الميم بغير ألف وهكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ومعناه أفتجحدونه فيما رأى
والباقون " أفتمارونه " يعني أفتجادلونه لأنه رأى من آيات ربه الكبرى
ثم قال " ولقد رآه نزلة أخرى " يعني لقد رأى جبريل مرة أخرى
وروي عن كعب الأحبار أنه قال رأى ربه مرة فقال إن الله كلم موسى مرتين ورأى محمدا صلى الله عليه وسلم مرتين فبلع ذلك إلى عائشة رضي الله عنها فقالت قد اقشعر جلدي من هيبة هذا الكلام فقيل لها يا أم المؤمنين أليس يقول الله تعالى " ولقد رآه نزلة أخرى " فقالت أنا سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ( رأيت جبريل نازلا في الأفق على خلقته وصورته )
ويقال " ولقد رآه نزلة(3/340)
341
أخرى ) يعني رآه بفؤاده وأكثر المفسرين يقولون إن المراد به جبريل يعني أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما رجع من عند ربه ليلة أسري به رأى جبريل " عند سدرة المنتهى " فقال مقاتل السدرة هي شجرة طوبى ولو أن رجلا ركب نجيبه وطاف على ساقها حتى أدركه الهرم لما وصل إلى المكان الذي ركب منه تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل وجميع ألوان الثمار
ويقال هي شجرة غير شجرة طوبى وهي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة تخرج أنهار الجنة من أصل تلك الشجرة
وإنما سميت " سدرة المنتهى " لأن أرواح المؤمنين تنتهي إليها
ويقال أرواح الشهداء تنتهي إليها
ويقال الملائكة ينتهون إليها ولا يجاوزونها
ويقال لأن علم كل واحد ينتهي إليها ولا يتجاوزنها ولا يدري ما فوق ذلك
وروي عن طلحة بن مطرف عن مرة عن عبد الله قال لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وإليها ينتهي ما عرج من تحتها وإليها ينتهي ما هبط من فوقها وهي النهاية التي ينتهي إليها من فوق ومن تحت ولا يتجاوز عن ذلك
ثم قال عز وجل " عندها جنة المأوى " وإنما سميت " المأوى " لأنه يأوي إليها أرواح الشهداء
قرأ سعد بن أبي وقاص وعائشة رضي الله عنهما " عندها جنة المأوى " بالتاء فقيل لسعد إن فلانا يقرأ " عندها جنة المأوى " بالهاء
قال سعد ما له أجنه الله
وعن أبي العالية قال سألني ابن عباس كيف تقرأها يا أبا العالية قال قلت له جنة
قال صدقت هي مثل قوله " جنات المأوى "
وقراءة العامة " جنة " وهي من الجنات
ثم قال " إذ يغشى السدرة ما يغشى " يعني يغشاها من الملائكة ما يغشى
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل ماذا يغشى قال ( جراد من ذهب )
ويقال فراش من ذهب وقال الحسن يغشاها نور مثل الجراد من ذهب
ثم قال " ما زاغ البصر " يعني ما مال وما عدل بصر محمد صلى الله عليه وسلم عما رأى " وما طغى " وما تعدى وما جاوز إلى غيره
ويقال " وما طغى " يعني وما ظلم صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما رأى تلك الليلة التي عرج به إلى السماء " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " وهو الرفرف الأخضر وقد غطى الأفق فجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاوز سدرة المنتهى
وقال ابن مسعود رأى جبريل وله ستمائة جناح وهو " من آيات ربه الكبرى " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر برؤية جبريل تعجبوا منه وأنكروا فأخبر الله تعالى أنه قد رآه مرة أخرى وأنه قد " رأى من آيات ربه الكبرى "
سورة النجم 19 - 23(3/341)
342
ثم قال عز وجل " أفرأيتم اللات والعزى " قرأ مجاهد " اللات " بتشديد التاء وقال كان رجلا يلت السويق بالزيت ويطعم الناس
وقال السدي كان رجل يقوم على آلهتهم ويلت السويق لهم
ويقال كانت حجارة يعبدونها وينزل عندها رجل يبيع السويق ويلته فسميت تلك الحجارة باللات وقرأه العامة بغير تشديد
قال مقاتل وإنما سمي " اللات والعزى " لأنهم قالوا هكذا أسماء الملائكة وهم بناته فنزل " ألكم الذكر وله والأنثى " وقال قتادة " اللات " كان لأهل الطائف " والعزى " لقريش ومناة للأنصار
ويقال إن المشركين أرادوا أن يجعلوا من آلهتهم من أسماء الحسنى فأرادوا أن يسموا الواحد منها الله فجرى على لسانهم " اللات " وأرادوا أن يسموا الواحد منها العزيز فجرى على لسانهم " العزى " وأرادوا أن يسموا الواحد منها المنان فجرى على لسانهم " مناة " ويقال إن العزى كانت نخلة بالطائف يعبدونها فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حتى قطع تلك النخلة فخرجت منها امرأة تجر شعرها على الأرض فأتبعها بفأس فقتلها فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( تلك العزى قتلتها فلا تعبد العزى أبدا )
ويقال أول الأصنام كانت اللات ثم العزى ثم مناة وهو قوله " أفرأيتم اللات والعزى " " ومناة الثالثة الأخرى " يعني أفرأيتم عبادتها تنفعكم في الآخرة فلا تنفعكم
ثم قال " ألكم الذكر وله الأنثى " يعني بني مدلج يعبدون الملائكة ويقولون هم بناته فيشفعون لنا " تلك إذا قسمة ضيزى " أي قسمة جائزة معوجة
قرأ ابن كثير بهمز الألف والباقون بغير همز ومعناهما واحد وهو اسم الصنم
وقرأ ابن كثير " ضئزى " بالهمزة والباقون بغير همزة ومعناهما واحد
يقال ضازه يضيزه إذا نقصه حقه يقال بالهمز وبغير الهمز
ويقال ضزت في الحكم أي جرت
ثم قال " إن هي إلا أسماء سميتموها " يعني الأصنام " أنتم وآباؤكم " يعني اتبعتم آباءكم بالتقليد " ما أنزل الله بها من سلطان " يعني من عذر وحجة لكما بما تقولون " إن يتبعون إلا الظن " يعني ما تعبدون وما تتبعون إلا الظن ولا تعرفون يقينا أنها آلهة
" وما تهوى الأنفس " يعني ما يتبعون ما تشتهي أنفسهم وعبدوه وتركوا دين الله " ولقد جاءهم من ربهم الهدى " يعني أتاهم الكتاب والرسول وبين لهم طريق الهدى
سورة النجم 24 - 27(3/342)
343
ثم قال عز وجل " أم للأنسان ما تمنى " يعني بأن الملائكة تشفع له فيكون الأمر بتمنيه " فلله الآخرة والأولى " يعني ثواب الآخرة والأولى ويقال أهل السموات وأهل الأرض كلهم عبيده ويقال له نفاذ الأمر في الآخرة والأولى ويقال جميع ما فيها يدل على وحدانيته
ثم قال " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا " يعني لا تنفع شفاعتهم ردا لقولهم إنهم يشفعون لنا
ثم استثنى فقال " إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " يعني من كان معه التوحيد فيشفع له بإذن الله تعالى
ثم قال " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة " يعني لا يصدقون بالبعث " ليسمون الملائكة تسمية الأنثى " باسم البنات وفيه تنبيه للمؤمنين لكي لا يقولوا مثل مقالتهم وزجرا للكافرين عن تلك المقالة
سورة النجم 28 - 31
قال عز وجل " وما لهم به من علم " يعني ليس لهم حجة على مقالتهم " إن يتبعون إلا الظن " يعني ما يتبعون إلا الظن يعني على غير يقين " وإن الظن لا يغني من الحق شيئا " يعني لا يمنعهم من عذاب الله شيئا " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا " يعني اترك من أعرض عن القرآن ولا يؤمن به
" ولم يرد إلا الحياة الدنيا " يعني لم يرد بعلمه الدار الآخرة إنما يريد به منفعة الدنيا " ذلك مبلغهم من العلم " يعني غاية علمهم الحياة الدنيا ويقال ذلك منتهى علمهم لا يعلمون من أمر الآخرة شيئا وهذا كقوله " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " [ الروم 7 ]
ثم قال عز وجل " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله " يعني هو أعلم بمن ترك طريق الهدى " وهو أعلم بمن اهتدى " يعني من تمسك بدين الإسلام ومعناه فأعرض عنهم ولا تعاقبهم فإن الله عليم بعقوبة المشركين وبثواب المؤمنين وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
ثم عظم نفسه بأنه غني عن عبادتهم فقال " ولله ما في السموات وما في الأرض " من الخلق " ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا " يعني ليعاقب في الآخرة الذين أشركوا وعملوا المعاصي " ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " يعن ويثيب الذين آمنوا وأدوا الفرائض الخمسة بإحسانهم(3/343)
344
سورة النجم 32
ثم نعت المحسنين فقال " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش " قرأ حمزة والكسائي " كبير الإثم والفحش " بلفظ الوحدان والمراد به الجنس
والباقون " كبائر الإثم " بلفظ الجماعة
قال بعضهم " كبائر الإثم " يعني الشرك بالله " والفواحش " يعني المعاصي
وقال بعضهم " كبائر الإثم والفواحش " بمعنى واحد لأن كل فاحشة كبيرة وكل كبيرة فاحشة
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الكبائر أربعة الشرك بالله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله )
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال الكبائر سبعة فبلغ ذلك إلى عبد الله بن عباس فقال هي إلى السبعين أقرب
ويقال كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة
وقيل كل ما أصر العبد عليه فهو كبيرة كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار )
ثم قال " إلا اللمم " وقال بعضهم " اللمم " هو الصغائر من الذنوب يعني إذا اجتنبت الكبائر يغفر الله صغار الذنوب من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة وهو كقوله تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " [ النساء 31 ] قال مقاتل نزلت في شأن نبهان التمار وذلك أن امرأة أتت لتشتري التمر فقال لها ادخلي الحانوت فعانقها وقبلها
فقالت المرأة خنت أخاك ولم تصب حاجتك فندم وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروى مسروق عن ابن مسعود قال زنى العينين النظر وزنى اليدين البطش وزنى الرجلين المشي وإنما يصدق ذلك الفرج أو يكذبه
فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما
وقال عكرمة " اللمم " النظر وحديث النفس ونحو ذلك
وروى طاوس عن ابن عباس قال ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى
فزنى العينين نظر الناظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )
وقال عبد الله بن الزبير " اللمم " القبلة واللمس باليد
وقال بعضهم " اللمم " كل ذنب يتوب عنه ولا يصر عليه
وروى منصور عن مجاهد قال في قوله " إلا اللمم " هو الرجل يذنب الذنب ثم ينزع عنه
وروي عن أبي هريرة قال " اللمم " النكاح وذكر ذلك لزيد بن أسلم فقال صدق إنما اللمم لمم أهل الجاهلية(3/344)
345
يقول الله تعالى في كتابه " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " [ النساء 23 ]
وروي عن الحسن أنه قال " اللمم " هو أن يصيب النظرة من المرأة والشربة من الخمر ثم ينزع عنه
وروي عن مجاهد أنه قال " اللمم " الذي يلم بالذنب ثم يدعه
وقد قال الشاعر
" إن تغفر اللهم تغفر جما % وأي عبد لله لا ألما "
وقال بعضهم " إلا اللمم " ومعناه ولا اللمم
كما قال القائل وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير والعيس
يعني لا اليعافير ولا العيس
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إياكم والمحقرات من الذنوب )
وسئل زيد بن ثابت عن قوله " إلا اللمم " قال حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن
ثم قال " إن ربك واسع المغفرة " يعني واسع الفضل غافر الذنوب للذين يتوبون
ويقال معناه رحمته واسعة على الذين يجتنبون الكبائر
ثم قال " هو أعلم بكم " يعني هو أعلم بحالكم منكم " إذ أنشأكم من الأرض " يعني إذ هو خلقكم من الأرض
يعني خلق آدم من تراب وأنتم من ذريته
" وإذ أنتم أجنة " يعني كنتم صغارا " في بطون أمهاتكم " كان هو أعلم بحالكم منكم في ذلك كله " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم " يعني لا تبرؤوا أنفسكم من الذنوب ولا تمجدوها
ويقال " ولا تزكوا أنفسكم " يعني لا يمدح بعضكم بعضا
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب )
والمدح على ثلاثة أوجه أوله أن يمدحه في وجهه فهو الذي نهي عنه
والثاني أن يمدحه بغير حضرته ويعلم أنه يبلغه فهو أيضا منهي عنه
والثالث أن يمدحه في حال غيبته وهو لا يبالي بلغه أو لم يبلغه ويمدحه بما هو فيه فلا بأس بهذا
ويقال " فلا تزكوا أنفسكم " يعني لا تطهروا أنفسكم من العيوب وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الناس كإبل مائة لم يكن فيها راحلة )
ثم قال " هو أعلم بمن اتقى " يعني من يستحق المدح ومن لا يستحق المدح
سورة النجم 33 - 42(3/345)
346
ثم قال ( أفرأيت الذي تولى ) يعني أعرض عن الحق وهو الوليد بن المغيرة ومن كان في مثل حاله " وأعطى قليلا " يعني وأنفق قليلا من ماله " وأكدى " يعني ثم أمسك عن النفقة
قال مقاتل أنفق الوليد بن المغيرة على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نفقة قليلة ثم انتهى عن ذلك
وقال القتبي " وأكدى " أصله من كديه الركية وهي الصلابة فيها
فإذا بلغها الحافر يبس حفرها فقطع الحفرة يعني تركها
فقيل لمن طلب شيئا ولم يدرك أخره أو أعطى شيئا ولم يتم أكدى
ثم قال عز وجل " أعنده علم الغيب فهو يرى " يعني أعنده علم الآخرة " فهو يرى " صنيعه
وقيل يعلم ما في اللوح المحفوظ فيرى صنيعه
" أم لم ينبأ بما في صحف موسى " يعني ألم يخبر بما بين الله تعالى في صحف موسى
قال بعضهم " صحف موسى " يعني التوراة وقال بعضهم هو كتاب أنزل عليه قبل التوراة " وإبراهيم الذي وفى " يعني في كتاب إبراهيم " الذي وفى " يعني بلغ الرسالة
ويقال " وفى " يعني عمل ما أمر به
وذلك أن الوليد بن عقبة بن أبي معطي قال لعثمان إنك تنفق مالك فعن قريب تفتقر
فقال عثمان إن لي ذنوبا فقال الوليد ادفع إلي بعض المال حتى أدفع ذنوبك فدفع إليه فأنزل الله تعالى " أم لم ينبأ بما في صحف موسى " يعني ألم يبين الله تعالى في كتاب موسى وكتاب إبراهيم " ألا تزر وازرة وزر أخرى " يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى
ويقال " وإبراهيم الذي وفى " يعني بما ابتلاه الله تعالى بعشر كلمات
ويقال بذبح الولد ويقال كان يصلي كل غداة أربع ركعات صلاة الضحى فسماه وفيا
ثم قال عز وجل " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " يعني ليس للإنسان في الآخرة إلا ما عمل في الدنيا من خير أو شر " وأن سعيه سوف يرى " يعني يرى وثواب عمله في الآخرة
قوله عز وجل " ثم يجزاه الجزاء الأوفى " يعني يعطى ثوابه كاملا " وأن إلى ربك المنتهى " يعني إليه ينتهي أعمال العباد وإليه يرجع الخلق كلهم فهذا كله في مصحف موسى وإبراهيم
سورة النجم 43 - 48
ثم قال عز وجل " وأنه هو أضحك وأبكى " يعني " أضحك " أهل الجنة في الجنة
" وأبكى " أهل النار في النار
ويقال " أضحك " في الدنيا أهل النعمة " وأبكى " أهل الشدة والمعصية
" وأنه هو أمات وأحيا " يعني يميت في الدنيا ويحيى في الآخرة للبعث " وأنه خلق الزوجين " يعني اللونين والصنفين " الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى " يعني تهراق في(3/346)
347
رحم الأنثى
وقال القتبي " من نطفة إذا تمنى " يعني تقدر وتخلق ويقال ما تدري ما يمني لك الماني
يعني ما يقدر لك المقدر
ثم قال عز وجل " وأن عليه النشأة الأخرى " يعني البعث بعد الموت يعني ذلك إليه وبيده وهو قادر على ذلك فاستدل عليهم بالفعل الآخر بالفعل الأول أنه خلقهم في الابتداء من النطفة وهو الذي يحييهم بعد الموت " وأنه هو أغنى وأقنى " يعني حول وأعطى المال
" وأقنى " يعني أفقر
ويقال " أغنى " يعني يعطي " وأقنى " يعني يرضي بما يعطي
ويقال " أغنى " نفسه عن الخلق " وأقنى " يعني أفقر الخلق إلى نفسه
وروى السدي عن أبي صالح " أغنى " بالمال " وأقنى " يعني بالقنية
وقال الضحاك " أغنى " بالذهب وبالفضة والثياب والمسكن " وأقنى " بالإبل والبقر والغنم والدواب
وقال عكرمة " أغنى " يعني أرضى " وأقنى " يعني أقنع
سورة النجم 49 - 58
ثم قال " وأنه هو رب الشعرى " يعني وأن الله هو خالق الشعرى
قال ابن عباس هو كوكب تعبده خزاعة يطلع بعد الجوزاء يقول الله تعالى وأنا ربها وأنا خلقتها فاعبدوني
ثم خوفهم فقال عز وجل " وأنه أهلك عادا الأولى " بالعذاب وهم قوم هود وكان بعدهم عاد آخر سواهم فلهذا سماهم عاد الأولى " وثمود فما أبقى " يعني قوم صالح فأهلكهم الله وما بقي منهم أحد
قرأ نافع وأبو عمرو " عاد الأولى " بحذف الهمزة وإدغام التنوين والباقون " عادا " بالتنوين الأولى بالهمزة وكلاهما جائز عند العرب
وقرأ حمزة وعاصم رواية حفص " وثمود " بغير تنوين
والباقون " ثمودا " بالتنوين
قال أبو عبيدة نقرأ بالتنوين مكان الألف الثانية في المصحف
ثم قال " وقوم نوح من قبل " يعني أهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود " إنهم كانوا هم أظلم وأطغى " يعني أشد من كفرهم وطغيانهم لأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فدعاهم فلم يجيبوا وكان الآباء يوصون الأبناء بتكذيبه
ثم قال عز وجل " والمؤتفكة أهوى " يعني مدينة قوم لوط سماها مؤتفكة لأنها ائتفكت أي انقلبت " أهوى " أي أسقط
ويقال " المؤتفكة " يعني المكذبة " أهوى " يعني أهوى من السماء إلى الأرض وذلك أن جبريل عليه السلام حيث قلع تلك المدائن(3/347)
348
فرفعها إلى قريب من السماء ثم قلبها وأهواها إلى الأرض
" فغشاها ما غشى " يعني فغشاها من الحجارة " ما غشى " كقوله " وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل " [ الحجر 74 ]
ثم قال " فبأي آلاء ربك تتمارى " يعني بأي نعمة من نعماء ربك تتجاحد أيها الإنسان بأنها ليست من الله تعالى
قوله عز وجل " هذا نذير من النذر الأولى " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " نذير " مثل " النذر الأولى " يعني رسولا مثل الرسل الأولى مثل نوح وهود وصالح صلوات الله عليهم وقد خوفهم الله ليحذروا معصيته ويتبعوا ما أمرهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل " أزفت الآزفة " يعني دنت القيامة " ليس لها من دون الله كاشفة " يعني ليس للساعة من دون الله " كاشفة " يعني عن علم قيامها وهذا كقوله " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلاهكم إله واحد " [ الأعراف 187 ]
سورة النجم 59 - 62
ثم قال عز وجل " أفمن هذا الحديث تعجبون " يعني من القرآن تعجبون تكذيبا " وتضحكون " استهزاء
" ولا تبكون " مما فيه من الوعد " وأنتم سامدون " يعني لاهين عن القرآن
روي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال هو الغناء
كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا وهي بلغة أهل اليمن
وقال قتادة " سامدون " يعني غافلون
ثم قال عز وجل " فاسجدوا لله " يعني صلوا لله
ويقال اخضعوا لله بالتوحيد " واعبدوا " يعني أطيعوه
ويقال " فاسجدوا لله " في الصلاة " واعبدوا " يعني وحدوه
ويقال هي سجدة التلاوة بعينها
وروي عن الشعبي أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس والله أعلم بالصواب(3/348)
349
سورة القمر
كلها مكية وهي خمسون وخمس آيات
سورة القمر 1 - 4
قوله تبارك وتعالى " اقتربت الساعة " يعني دنا قيام الساعة لأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم كان من علامات الساعة " وانشق القمر " وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة لنبوته فانشق القمر نصفين
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانشق القمر نصفين فرأيت حراء بين فلقتي القمر
وعن جبير بن مطعم قال انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
وروى قتادة عن أنس قال سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة
وقال بعضهم " اقتربت الساعة وانشق القمر " يعني تقوم الساعة وينشق القمر يوم القيامة
وأكثر المفسرين قالوا إن هذا قد مضى
وقال عبد الله بن مسعود ما وعد الله ورسوله من أشراط الساعة كلها قد مضى إلا أربعة طلوع الشمس من مغربها ودابة الأرض وخروج الدجال وخروج يأجوج ومأجوج
ثم قال " وإن يروا آية يعرضوا " يعني إذا رأوا آية من آيات الله ثمل انشقاق القمر " يعرضوا " عنها ولا يتفكروا فيها
" ويقولوا سحر مستمر " يعني مصنوعا سيذهب
ويقال معناها ذاهبا يذهب ثم التئام القمر
وقال القتبي " سحر مستمر " يعني شديد قوي وهو من المرة وهو القتل
وقال الزجاج في " مستمر " قولان قول ذاهب وقول دائم
وقال الضحاك لما رأى أهل مكة انشقاق القمر وقال أبو جهل هذا سحر مستمر فابعثوا إلى أهل(3/349)
350
الآفاق حتى ينظروا إذا رأوا القمر منشقا أم لا فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقا قالوا هذا " سحر مستمر " يعني استمر سحره في الآفاق
قوله عز وجل " وكذبوا " يعني كذبوا بالآية وبقيام الساعة
" واتبعوا أهواءهم " في عبادة الأصنام " وكل أمر مستقر " يعني كل قول من الله له حقيقة منه في الدنيا سيظهر وما كان منه في الآخرة سيعرف يعني ما وعد لهم من العقوبة
ويقال معناه " مستقر " لأهل النار عملهم ولأهل الجنة عملهم
يعني يعطي لكل فريق جزاء أعمالهم
ثم قال " ولقد جاءهم من الأنباء " يعني جاء لأهل مكة من الأخبار عن الأمم الخالية " ما فيه مزدجر " يعني ما فيه موعظة لهم وزجر عن الشرك والمعاصي
سورة القمر 5 - 8
قوله تعالى " حكمة بالغة " يعني جاءهم كلمة بالغة وهو القرآن يعني حكمة وثيقة " فما تغن النذر " يعني لا تنفعهم النذر إن لم يؤمنوا كقوله " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " [ يونس 101 ] ويقال " فما تغن النذر " لم تنفعهم الرسل إذا نزل بهم العذاب إن لم يؤمنوا
قوله تعالى " فتول عنهم " يعني اتركهم وأعرض عنهم بعدما أقمت عليهم الحجة
" يوم يدع الداع " يعني يدعو إسرافيل على صخرة بيت المقدس " إلى شيء نكر " يعني إلى أمر فظيع شديد منكر " خشعا " يعني ذليلة " أبصارهم " خاشعا نصب على الحال يعني يخرجون خاشعا
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو " خاشعا " بالألف مع النصب والباقون " خشعا " بضم الخاء بغير ألف وتشديد الشين بلفظ الجمع لأنه نعت للجماعة
ومن قرأ بلفظ الواحد فلأجل تقديم النعت
وقرأ ابن مسعود " خاشعة " بلفظ التأنيث لأجل جماعة البصر وقرأ ابن كثير " إلى شيء نكر " بجزم الكاف والباقون بالضم وهما لغتان
ثم قال عز وجل " يخرجون من الأجداث " يعني من القبور " كأنهم جراد منتشر " يعني انتشروا على معدنهم ويجول بعضهم في بعض
ثم قال " مهطعين إلى الداع " يعني مقبلين إلى صوت إسرافيل " يقول الكافرون هذا يوم عسر " يعني شديد عسر علينا
وروي في الخبر ( أنهم إذا خرجوا من قبورهم يمكثون واقفين أربعين سنة ) ويقال مائة سنة حتى يقولوا أرحنا من هذا ولو إلى النار ثم يؤمرون بالحساب(3/350)
351
سورة القمر 9 - 14
ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى قومه كما لقي الرسل من قومهم فقال عز وجل " كذبت قبلهم " يعني قبل قومك يا محمد " قوم نوح " حين أتاهم بالرسالة " فكذبوا عبدنا " نوحا " وقالوا مجنون " يعني قالوا لنوح إنك مجنون " وازدجر " يعني أوعد بالوعيد
ويقال صاحوا به حتى غشي عليه
وقال القتبي " وازدجر " أي زجر وهو افتعل من ذلك
فلما ضاق صدره " فدعا ربه أني مغلوب " يعني مقهور فيما بينهم " فانتصر " يعني أعني عليهم بالعذاب فأجابه الله كما في سورة الصافات " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون " [ الصافات 75 ]
قوله عز وجل " ففتحنا أبواب السماء " يعني طرق السماء " بماء منهمر " يعني منصبا كثيرا
وقال القتبي " بماء منهمر " أي كثير سريع الانصباب
ومنه يقال همر الرجل إذا أكثر من الكلام وأسرع فيه
قرأ ابن عامر " ففتحنا " بتشديد التاء على تكثير الفعل وقرأ الباقون بالتخفيف لأنها فتحت فتحا واحدا
قوله عز وجل " وفجرنا الأرض عيونا " يعني أخرجنا من الأرض عيونا مثل الأنهار الجارية " فالتقى الماء " يعني ماء السماء وماء الأرض " على أمر قد قدر " يعني على وقت قد قضى " وحملناه " يعني حملنا نوحا " على ذات ألواح " يعني على سفينة قد اتخذت بألواح " ودسر " يعني سفينة قد شدت بالمسامير
وقال بعضهم كانت سفينة نوح من صاج وقال بعضهم من خشب شمشاذ ويقال من الجوز
وقال القتبي الدسر المسامير واحدها دسار وهي أيضا الشريط الذي يشد بها السفينة
ثم قال " تجري بأعيننا " يعني تسير السفينة بمنظر منا وأمرنا
ويقال بمرأى وحفظ منا
وقال الزجاج في قوله " فالتقى الماء " ولم يقل الماءان لأن الماء اسم لجميع ماء السماء وماء الأرض
فلو قال ماءان لكان جائزا لكنه لم يقل
ثم قال " جزاء لمن كان كفر " يعني الحمل على السفينة ثواب لنوح الذي كفر به قومه
وقرأ بعضهم " جزاء لمن كان كفر " بالنصب يعني الغرق عقوبة لمن كذب بالله تعالى وبنوح
سورة القمر 15 - 17(3/351)
352
قوله تعالى " ولقد تركناها آية " أي سفينة نوح أبقيناها عبرة للخلق
وقال بعضهم يعني تلك السفينة بعينها كانت باقية على الجبل إلى قريب من خروج النبي صلى الله عليه وسلم
وقال بعضهم يعني جنس السفينة صارت عبرة لأن الناس لم يعرفوا قبل ذلك سفينة فاتخذت الناس السفن بعد ذلك في البحر فلذلك كانت آية للناس
ثم قال " فهل من مدكر " يعني هل من معتبر يعتبر بما صنع الله تعالى بقوم نوح فيترك المعصية ويقال " فهل من مدكر " متعظ يتعظ بأنه حق ويؤمن به
وقال أهل اللغة أصل " مدكر " مفتعل من الذكر فأدغمت الذال في التاء ثم قلبت دالا مشددة
ثم قال " فكيف كان عذابي ونذر " يعني كيف رأيت عذابي وإنذاري لمن أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا والنذر بمعنى الإنذار
قوله عز وجل " ولقد يسرنا القرآن " يعني هونا القرآن " للذكر " يعني للحفظ
ويقال هونا قراءاته
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لولا قول الله تعالى " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " ما طاقت الألسن أن تتكلم به ) ويقال هوناه لكي يذكروا به
ثم قال " فهل من مدكر " يعني متعظ يتعظ بما هون من قراءة القرآن
وروى الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم " فهل من مدكر " بالذال فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فهل من مدكر " يعني بالدال
سورة القمر 18 - 22
قوله تعالى " كذبت عاد " يعني كذبوا رسولهم هود " فكيف كان عذابي ونذر " يعني أليس وجوده حقا وثابتا " ونذر " جمع نذير قال القتبي النذر جمع النذير والنذير بمعنى الإنذار مثل النكير بمعنى الإنكار يعني كيف كان عذابي وإنكاري
ثم بين عذابه فقال عز وجل " إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا " يعني سلطنا عليهم ريحا باردة " في يوم نحس مستمر " يعني شديدة استمرت عليهم لا تفتر عنهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما دائمة " تنزع الناس " يعني تنزع أرواحهم من أجسادهم وهذا قول مقاتل
ويقال " في يوم نحس " يعني يوم مشؤوم عليهم " مستمر " يعني استمر عليهم بالنحوسة
وقال القتبي الصرصر ريح شديدة ذات صوت تنزع الناس يعني تقلعهم من مواضعهم
" كأنهم أعجاز نخل منقعر " يعني صرعهم فكبهم على وجوههم كأنهم أصول نخل منقلعة من(3/352)
353
الأرض فشبههم لطول كل واحد بالنخل الساقطة
وقال مقاتل كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعا
وقال في رواية الكلبي كان طول كل واحد منهم سبعين ذراعا فاستهزؤوا حين ذكر لهم الريح فخرجوا إلى الفضاء فضربوا بأرجلهم وغيبوا في الأرض إلى قريب من ركبهم فقالوا قل للريح حتى ترفعنا فجاءت الريح فدخلت تحت الأرض وجعلت ترفع كل اثنين وتضرب أحدهما على الآخر بعدما ترفعهما في الهواء ثم تلقيهما في الأرض والباقون ينظرون إليهم حتى رفعتهم كلهم ثم رمت بالرمل والتراب عليهم وكان يسمع أنينهم من تحت التراب كذا وكذا يوما
قال الله تعالى " فكيف كان عذابي ونذر " ثم قال " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " وقد ذكرناه
سورة القمر 23 - 31
قوله عز وجل " كذبت ثمود بالنذر " يعني صالحا حين أتاهم " فقالوا أبشرا منا واحدا " يعني خلقا مثلنا " نتبعه " في أمره " إنا إذا لفي ضلال وسعر " يعني إنا إذا فعلنا ذلك " لفي " خطأ وعناء
وقال الزجاج يعني " إنا إذا لفي ضلال " وجنون
وهذا كما يقال ناقة مسعورة إذا كان بها جنون
ويجوز أن يكون " وسعر " جمع سعير في معنى العذاب
ثم قال عز وجل " أألقي الذكر عليه من بيننا " يعني اختص بالنبوة والرسالة من بيننا " بل هو كذاب أشر " يعني كاذبا على الله " أشر " يعني بطرا متكبرا
قوله عز وجل حدثنا " سيعلمون غدا " قرأ ابن عامر وحمزة " ستعلمون " بالتاء على معنى المخاطبة
يعني أن صالحا قال لهم " ستعلمون غدا " والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أنهم يعلمون غدا يعني يوم القيامة " من الكذاب الأشر " أهم أم صالح ومعناه أنه يتبين لهم أنهم هم الكاذبون وكان صالح صادقا في مقالته
ثم قال " إنا مرسلوا " يعني نخرج لهم " الناقة " وذلك حين سألوا صالحا بأن يخرج لهم ناقة من الحجر فدعا صالح ربه فأوحى الله تعالى إليه أني مخرج الناقة " فتنة " يعني بلية " لهم فارتقبهم " يعني انتظر هلاكهم " واصطبر " على الإيذاء
قوله تعالى " ونبئهم " يعني وأخبرهم " أن الماء قسمة بينهم " يوم للناقة ويوم لأهل القرية " كل شرب محتضر " يعني إذا كان يوم الناقة تحضر الناقة ولا يحضرون وإذا كان(3/353)
354
يومهم لا تحضر الناقة وكل فريق يحضر في نوبته " فنادوا صاحبهم " يعني نادوا مصدع أو قذار " فتعاطى فعقر " يتناول الناقة بالسهم فعقرها " فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة " يعني صحية جبريل " فكانوا كهشيم المحتظر " قال قتادة يعني كرماد محترق
وقال الزجاج الهشيم ما يبس من الورق وتحطم وكسر
قرأ بعضهم " كهشيم المحتظر " بنصب الظاء وقراءة العامة بالكسر
فمن قرأ بالنصب فهو اسم الحظيرة ومعناه كهشيم المكان الذي يحضر فيه الهشيم
ومن قرأ بالكسر فهو صاحب الحظيرة يعني يجمع الحشيش في الحظيرة لغنمه فداسته الغنم
سورة القمر 32 - 40
ثم قال عز وجل " ولقد يسرنا القرآن للذكر " يعني سهلناه للحفظ لأن كتب الأولين يقرؤها أهلها نظرا ولا يكادون يحفظون من أولها إلى آخرها كما يحفظ القرآن " فهل من مدكر " يعني متعظ به
قوله تعالى " كذبت قوم لوط بالنذر " يعني بالرسل لأن لوطا عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان بجميع الرسل فكذبوهم ولم يؤمنوا فأهلكهم الله تعالى
وهو قوله " إنا أرسلنا عليهم حاصبا " يعني حجارة من سجين " إلا آل لوط نجيناهم بسحر " يعني وقت السحر
قوله تعالى " نعمة من عندنا " يعني رحمة من عندنا على آل لوط صار " نعمة " نصبا لأنه مفعول ومعناه ونجيناهم بالإنعام عليهم " كذلك نجزي من شكر " يعني هكذا يجزي الله تعالى من شكر نعمته ولم يكفرها
ويقال " من شكر " يعني من وحد الله تعالى لم يعذبه في الآخرة مع المشركين فكما أنجاهم في الدنيا ينجيهم في الآخرة ولا يجعلهم مع المشركين
قوله عز وجل " ولقد أنذرهم بطشتنا " يعني خوفهم لوط عقوبتنا " فتماروا بالنذر " يعني شكوا بالرسل فكذبوا يعني لوطا
ويقال معناه شكوا بالعذاب الذي أخبرهم به الرسل أنه نازل بهم
قوله تعالى " ولقد راودوه عن ضيفه " يعني طلبوا منه الضيافة وكانت أضيافه جبريل مع الملائكة فمسح جبريل بجناحه على أعينهم فذهب أبصارهم وذلك قوله " فطمسنا(3/354)
355
أعينهم ) يعني أذهبنا أعينهم وأبصارهم " فذوقوا عذابي ونذر " اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر يعني فذوقوا عذاب الله تعالى أي عقوبة الله كما أخبرتهم النذر
ثم قال " ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر " يعني أخذهم وقت الصبح عذاب دائم يعني عذاب الدنيا موصولة بعذاب الآخرة " فذوقوا عذابي ونذر " يعني يقال لهم ذوقوا عذاب الله تعالى وإنذاره
ثم قال " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " وقد ذكرناها
سورة القمر 41 - 48
قوله تعالى " ولقد جاء آل فرعون النذر " يعني الرسل وهو موسى وهارون " كذبوا بآياتنا كلها " يعني بالآيات التسع " فأخذناهم " يعني عاقبناهم عند التكذيب " أخذ عزيز مقتدر " يعني عقوبة منيع بالنقمة على عقوبة الكفار " مقتدر " يعني قادرا على عقوبتهم وهلاكهم
ثم خوف كفار مكة فقال " أكفاركم خير من أولئكم " يعني أكفاركم أقوى في النذر من الذين ذكرناهم فأهلكهم الله تعالى وهو قادر على إهلاكهم " أم لكم براءة في الزبر " يعني براءة في الكتب من العذاب
اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الزجر يعني ليس لكم براءة ونجاة من العذاب
ثم قال عز وجل " أم يقولون نحن جميع منتصر " يعني ممتنع من العذاب يقول الله تعالى " سيهزم الجمع " يعني سيهزم جمع أهل مكة في الحرب " ويولون الدبر " يعني ينصرفون من الحرب منهزمين
يعني به يوم بدر وفي هذا علامة من علامات النبوة لأن هذه الآية نزلت بمكة وأخبرهم أنهم سيهزمون في الحرب فكان كما قال
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية " سيهزم الجمع ويولون الدبر " فكنت لم أعلم ما هي وكنت أقول أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع ويقول ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) وقال الزجاج " ويولون الدبر "(3/355)
356
يعني الإدبار كقوله تعالى " يولوكم الأدبار " [ آل عمران 111 ] لأن اسم الواحد يدل على الجمع وكذلك قوله تعالى " في جنات ونهر " [ القمر 54 ] أي أنهار
وذكر عن الفراء أنه قال إنما وحد لأنه رأس آية تقابل بالتوحيد رؤوس الآي
وكذلك في الدبر لموافقته رؤوس الآي
ثم قال " بل الساعة موعدهم " يعني مجمعهم " والساعة أدهى وأمر " يعني عذاب الساعة أعظم وأشد من عذاب الدنيا
ثم وصف عذاب الآخرة فقال " إن المجرمين في ضلال وسعر " يعني المشركين في الدنيا في ضلالة وخطأ وخلاف وفي سعير في الآخرة
والسعر جماعة السعير ويقال السعر يعني في عناء
ثم أخبرهم بمستقرهم فقال عز وجل " يوم يسحبون في النار على وجوههم " يعني يجرون في النار على وجوههم ويقول لهم الخزنة " ذوقوا مس سقر " يعني عذاب النار
سورة القمر 49 - 55
ثم قال " إنا كل شيء خلقناه بقدر " يعني خلقنا لكل شيء شكله مما يوافقه
وروي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال نزلت هذه الآية في أهل القدر " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر " وقال محمد بن كعب القرظي " إنا كل شيء خلقناه بقدر " نزلت تعبيرا لأهل القدر
قال أبو الليث حدثنا أبو جعفر
قال حدثنا أبو القاسم حدثنا محمد بن الحسن قال حدثنا سفيان عن وكيع عن زياد بن إسماعيل عن محمد بن عباد عن أبي هريرة قال جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر " وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله " إنا كل شيء خلقناه بقدر " قال خلق لكل شيء من خلقه ما يصلحهم من رزق ومن الدواب وخلق لدواب البر ولغيرها من الرزق ما يصلحها وكذلك لسائر خلقه
قوله عز وجل " وما أمرنا إلا واحدة " يعني وما أمرنا بقيام الساعة إلا مرة واحدة " كلمح بالبصر " يعني كرجع البصر
ومعناه إذا أمرنا بقيام الساعة مرة واحدة فنقول كن فيكون أقرب من طرف البصر
ثم قال " ولقد أهلكنا أشياعكم " يعني عذبنا أشباهكم وأهل ملتكم
ويقال إخوانكم حين كذبوا رسلهم " فهل من مدكر " يعني معتبر يعتبر فيكم فيعلم أن ذلك حق ويخاف عقوبة الله(3/356)
357
ثم قال عز وجل " وكل شيء فعلوه في الزبر " يعني وكل شيء عملوه في الكتاب يحصى عليهم " وكل صغير وكبير مستطر " يعني مكتوبا في اللوح المحفوظ
ثم قال " إن المتقين " يعني الذين يتقون الشرك والفواحش " في جنات ونهر " يعني في بساتين وأنهار جارية " في مقعد صدق " يعني في أرض كريمة
ويقال في مجلس حسن وهي أرض الجنة " عند مليك مقتدر " يعني في جوارمليك قادر على الثواب قادر على خلقه مثيب ومعاقب
وقال القتبي النهر الضياء والسعة من قولك انهرت الطعنة إذا وسعتها والله أعلم(3/357)
358
سورة الرحمن
مدنية وهي سبعون وثمان آيات
سورة الرحمن 1 - 6
قوله تبارك وتعالى " الرحمن علم القرآن " وذلك أنه لما نزل قوله تعالى " اسجدوا للرحمن " قال كفار مكة وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وقالوا ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب
فأنزل الله تعالى " الرحمن " فأخبر عن نفسه وذكر صفة توحيده فقال " الرحمن " يعني الرحمن الذي أنكروه " علم القرآن " يعني أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ليقرأ عليه جبريل عليه السلام ويعلمه " خلق الإنسان " يعني الذي خلق آدم من أديم الأرض ويقال " خلق الإنسان " أراد به جنس الإنسان " علمه البيان " يعني جعله مخبرا مميزا حتى يميز الإنسان من جميع الحيوان ويقال " علمه البيان " يعني الكلام ويقال يعني الفصاحة ويقال الفهم
ثم قال " الشمس والقمر بحسبان " يعني بحساب ومنازل ولا يتعدانها يعني تجريان بحساب
ويقال " بحسبان " يعني يدلان على عدد الشهور والأوقات ويعرف بهما الحساب " والنجم والشجر يسجدان " " والنجم " كل نبات ينبسط على وجه الأرض ليس له ساق مثل الكرم والقرع ونحو ذلك " والشجر " كل نبات له ساق " يسجدان " يعني ظلهما يسجدان لله تعالى في أول النهار وآخره ويقال " يسجدان " يعني يسبحان الله تعالى كما قال " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [ الإسراء 44 ] ويقال خلقهما على خلقه فيها دليل لربوبيته ويدل الخلق على سجوده
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " والنجم والشجر يسجدان " قال نجوم السماء وأشجار الأرض " يسجدان " بكرة وعشيا
سورة الرحمن 7 - 11
ثم قال عز وجل " والسماء رفعها " يعني من الأرض مسيرة خمسمائة عام " ووضع الميزان " يعني أنزل الميزان للخلق يوزن به وإنما أنزل في زمان نوح ولم يكن قبل ذلك ميزان " ألا تطغوا في الميزان " لكي لا تظلموا في الميزان
ويقال " ووضع الميزان " يعني(3/358)
359
أنزل العدل في الأرض " ألا تطغوا في الميزان " يعني لكي لا تميلوا عن العدل " وأقيموا الوزن بالقسط " يعني اعدلوا في الوزن " ولا تخسروا الميزان " يعني لا تنقصوا حقوق الناس في الوزن
ويقال " وأقيموا الوزن " يعني أقيموا اللسان بالقول " ولا تخسروا الميزان " يعني لا تقولوا بغير حق
ثم قال " والأرض وضعها للأنام " يعني بسط الأرض للخلق " فيها فاكهة " يعني وخلق من الأرض من ألوان الفاكهة " والنخل ذات الأكمام " يعني ذات النخيل الطويل الموقرة بالطلع ذات الغلف وإنما العجائب في خلقه وما يتولد منه لأنه يتولد من النخيل من المنافع ما لا يحصى
وقال القتبي " ذات الأكمام " يعني ذات الكفرى قبل أن تتفتق وغلاف كل شيء كمه " ذات الأكمام " يعني ذات الغلف
سورة الرحمن 12 - 18
ثم قال " والحب ذو العصف " يعني ذو الورق " والريحان " يعني ثمره
وقال مجاهد " العصف " يعني ورق الحنطة " والريحان " الرزق
وقال الضحاك " الحب " الحنطة والشعير " والعصف " التبن وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال " العصف " الزرع " والريحان " الورق وقال القتبي " الريحان " الرزق يقال خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه وقال مقاتل " الريحان " الرزق بلسان حمير
ويقال " العصف " السنبل " والريحان " ثمرته وما ينتفع به
ويقال " الريحان " يعني الرياحين قرأ ابن عامر " والحب ذا العصف والريحان " بنصب النون والباء وإنما نصبه لأنه عطف على قوله " والأرض وضعها للأنام " " والحب " يعني وخلق الحب ذا العصف " والريحان "
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم " والحب ذو العصف والريحان " بضم النون والباء لأنه عطف على قوله " فيها فاكهة " وقرأ حمزة والكسائي هكذا إلا أنهما كسرا النون في قوله " والريحان " عطفا على " العصف " على وجه المجاورة
وقد ذكر الله تعالى من أول السورة نعماءه إلى هنا ثم خاطب الإنس والجن فقال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " وإن لم يسبق ذكرهما لأن في الكلام دليلا وقد ذكرهما من بعده وهو قوله " يا معشر الجن والإنس " وقال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني فبأي نعمة من نعماء ربكما أيها الجن والإنس " تكذبان " يعني تتجاحدان بأنها ليست من الله تعالى
قال بعضهم(3/359)
360
" آلاء الله " ونعماء الله واحد إلا أن الآلاء أعم والنعماء أخص
ويقال الآلاء النعمة الظاهرة وهو التوحيد والنعماء النعمة الباطنة وهو المعرفة بالقلب كقوله " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " [ لقمان 20 ] وقال بعضهم الآلاء إيصال النعم والنعماء دفع البلايا
ومثاله أن رجلا لو كانت له يد شلاء فله الآلاء وليست النعماء
وكذلك لسان الأخرس ورجل مقعد فله الآلاء وليست له النعماء
وأكثر المفسرين لم يفصلوا بينهما وقد ذكر في هذه السورة دفع البلية وإيصال النعمة
فكل ذلك سماه الآلاء
وروى محمد بن المنذر عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على أصحابه سورة الرحمن فسكت القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( الجن كانوا أحسن ردا منكم ما قرأت عليهم " فبأي آلاء ربكما تكذبان " إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد )
وفي رواية أخرى أنه قال ( ما قرأت عليهم إلا قالوا ولا بواحدة منها فلك الحمد )
ثم قال " خلق الإنسان " يعني آدم " من صلصال " يعني الطين اليابس الذي يتصلصل أي يصوت من يبسه كما يصوت الفخار
ويقال الصلصال الطين الجيد الذي ذهب عنه الماء وتشقق
" كالفخار " يعني الطين الذي يصنع به الفخار
وقال في موضع آخر " خلقناكم من تراب " [ الحج 5 ] وقال في موضع آخر " من طين " [ السجدة 7 ] وقال في موضع آخر " من صلصال " فهذا كله قد كان حالا بعد حال
ثم قال " وخلق الجان " يعني أبا الجن ويقال هو إبليس " من مارج من نار " يعني من لهب من نار وليس لها دخان
وقال بعضهم خلق من نار جهنم
وقال بعضهم من النار التي بين الكلة الرقيقة وبين السماء ومنها يكون البرق ولا ترى السماء إلا من وراء تلك الكلة
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني خلقكم أيها الإنس من نفس واحدة وخلقكم أيها الجن من نفس واحدة فكيف تنكرون هذه النعمة أنها ليست من الله تعالى
ثم قال " رب المشرقين ورب المغربين " يعني هو " رب المشرقين " مشرق الشمس ومشرق القمر
وقيل مشرق الشتاء ومشرق الصيف " ورب المغربين " يعني مغرب الشتاء والصيف
" فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني فبأي نعمة أنتم من نعم الله أيها الجن والإنس تتجاحدان ومعناه أنتم حيث ما كنتم من مشارق الأرض ومغاربها في ملك الله تعالى وتأكلون رزقه وهو عالم حيث ما كنتم وهو حافظكم وناصركم فكيف تنكرون هذه النعم
سورة الرحمن 19 - 23(3/360)
361
قوله عز وجل " مرج البحرين يلتقيان " يعني أرسل البحرين ويقال خلى البحرين ويقال خلق البحرين " يلتقيان " يعني مالح وعذب " بينهما برزخ " يعني حاجز " لا يبغيان " يعني لا يختلطان فيغير طعمه
وأصل البغي التطاول والجور والظلم
وقال بعضهم بينهما حاجر لطيف لا يراه الخلق وإنما العبرة في ذلك أنه لا يرى
ويقال بعضهم ليس هناك شيء وإنما تمنعهما من الاختلاط قدرة الله تعالى
ويقال " يلتقيان " أي يتقابلان أحدهما بحر الروم والآخر بحر فارس
وقيل بحر الهند " وبينهما برزخ لا يبغيان " أي لا يختلطان " بينهما برزخ "
بلطف الله تعالى أي باللطف تمنع عن الامتزاج وهما بحر واحد لن يمس أحدهما بالآخر
وقال الزجاج البرزخ الحاجر فهما من مرأى العين مختلطان وفي قدرة الله منفصلان
وقيل " بينهما برزخ " أي جزيرة العرب وقيل بحر السماء والأرض كقوله تعالى " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر [ القمر 11 - 12 ] وبينهما برزخ الهواء والأرض وسكان الأرض
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني خلق البحرين لمنفعة الخلق وبين لكم العبرة وقدرته ولطفه لتعبتروا به وتوحدوه فكيف تنكرون هذه النعمة بأنها ليست من الله تعالى
ثم قال " يخرج منهما " يعني من بحر مالح " اللؤلؤ والمرجان " يعني من اللؤلؤ ما عظم و " المرجان " ما صغر منه
ويقال " اللؤلؤ " يعني الصغار " والمرجان " يعني الكبار
وقرأ نافع وأبو عمرو " يخرج " بضم الياء ونصب الراء على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الراء
وقرأ بعضهم بكسر الراء يعني يخرج الله تعالى ونصب اللؤلؤ والمرجان لأنه مفعول به
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني خلق في البحر اللؤلؤ لمنفعة الخلق ولصلاحهم ولكي تعتبروا به فكيف تنكرون هذه النعمة
سورة الرحمن 24 - 28
ثم قال عز وجل " وله الجوار المنشآت في البحر " يعني السفن التي تجري في الماء " في البحر " " كالأعلام " يعني كالجبال في البر فشبه السفن في البحر بالجبال
وقرأ حمزة " المنشآت " بكسر الشين والباقون بالنصب
فمن قرأ بالكسر يعني المبتدئات في السير
ومن قرأ بالنصب يعني مرفوعات الشراع
ويقال الذي ابتدئ مهن في السير
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أنه جعل السفن في البحر لمنفعة الخلق فكيف تنكرون هذه النعمة بأنها ليست من الله تعالى(3/361)
362
ثم قال عز وجل " كل من عليها فان " يعني كل شيء على وجه الأرض يفنى " ويبقى وجه ربك " يعني يبقى الله تعالى " ذو الجلال والإكرام " يعني ذو الملك والعظمة والإكرام يعني ذو الكرم والتجاوز
فلما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلكت بنو آدم فلما نزل " كل نفس ذائقة الموت " أيقنوا بهلاك أنفسهم وهذا من النعم لأنه يحذرهم وبين لهم ليتهيؤوا لذلك
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ومعناه إن الله تعالى يعينكم فتوكلوا عليه ولا تعتمدوا على الناس لأنهم لا يقدرون على دفع الهلاك عن أنفسهم والله هو الباقي بعد فناء الخلق وهو الذي يتجاوز عنكم ويعينكم فكيف تنكرون ربكم الذي خلقكم وأحسن إليكم
سورة الرحمن 29 - 32
قوله تعالى " يسأله من في السموات والأرض " يعني الملائكة يسألون لأهل الأرض المغفرة ويسأل أهل الأرض جميع حوائجهم من الله تعالى
ثم قال " كل يوم هو في شأن " يعني في كل يوم يعز ويذل ويحيي ويميت ويعطي ويمنع
وذلك أن اليهود قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا فنزل " كل يوم هو في شأن " فأخبر الله تعالى أنه يقضي في جميع الأيام وكان هذا من النعم
وذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي أرسل إلى محمد بن الحنفية يتوعده قال لأفعلن بك كذا وكذا
فأرسل إليه محمد بن الحنفية وقال إن الله تعالى ينظر في كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة إلى اللوح المحفوظ وكل يوم يعز ويذل ويعطي ويمنع فأرجو أن يرزقني الله تعالى ببعض نظراته وأن لا يجعل لك علي سلطانا
فكتب بها الحجاج إلى عبد الملك بن مروان فكتب عبد الملك بهذه الكلمات التي قالها محمد بن الحنفية ووضعها في خزانته فكتب إليه ملك الروم يتوعده في شيء فكتب إليه عبد الملك بتلك الكلمات التي قالها محمد بن الحنفية فكتب إليه صاحب الروم والله ما هذا من كنزك ولا من كنز أهل بيتك ولكنها من كنز أهل بيت النبوة
ثم قال عز وجل " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني تجحدون نعمته وأنتم تسألون حوائجكم منه
قوله تعالى " سنفرغ لكم أيها الثقلان " أي سنحفظ عليكم أعمالكم أيها الجن والإنس فنجازيكم بذلك
وروى جبير عن الضحاك في قوله " سنفرغ لكم أيها الثقلان " قال هذا(3/362)
363
وعيد من غير شغل إن الله تعالى لا يشغله شيء بشيء
وقال الزجاج الفراغ في اللغة على ضربين
أحدهما الفراغ من الشغل والآخر القصد للشيء كما تقول سأفرغ لفلان أي سأجعل قصدي له
قرأ حمزة والكسائي " سيفرغ لكم " بالياء والباقون بالنون وكلاهما يرجع إلى معنى واحد
يعني سيحفظ الله عليكم أعمالكم ويحاسبكم بما تعملون
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني ما عملتم فإنه لا ينسى ولا يمنح ثوابه وينصفكم من ظلمكم فيكف تنكرون هذه النعم بأنها ليست من الله تعالى واعلموا أن هذه النعم كلها من الله فاشكروه
فكيف تنكرون من هو يجازيكم بأعمالكم ولا يمنع ثواب حسناتكم وينصركم على أعدائكم فهذه النعم كلها من الله فاشكروه ووحدوه
سورة الرحمن 33 - 36
ثم قال " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم " يعني إن قدرتم " أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض " يعني أن تخرجوا من أطراف السموات والأرض ونواحيها " فانفذوا " يعني فاخرجوا إن استطعتم
قال مقاتل هذا الخطاب للجن والإنس في الدنيا
يعني إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السموات والأرض هروبا من الموت " فانفذوا " " لا تنفذون إلا بسلطان " يعني أينما توجهتم أدرككم الموت
وروي عن ابن عباس أنه قال هذا الخطاب في يوم القيامة وذلك أن السماء تتشقق بالغمام وتنزل ملائكة السموات ويقومون حول الدنيا محيطين بها وجاء الروح وهو ملك يقوم صفا وهو أكبر من جميع الخلق فحينئذ يقال لهم " إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " يعني لا تنجون إلا بحجة وبرهان
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني فبأي نعمة من نعمائه تجحدون حيث بين لكم أحوال يوم القيامة حتى تتوبوا وترجعوا
ويقال معناه ذلك اليوم لا يفوته أحد ولا يعينكم أحد غيره فكيف تجحدون هذه النعم
ثم قال " يرسل عليكم شواظ من نار " يعني يرسل على كفار الجن وكفار الإنس لهبا من النار " ونحاس " يعني الصفر المذاب يعذبون بهما
ويقال دخان لا لهب فيه
ويقال النحاس هو لباس أهل النار " فلا تنتصران " يعني لا تمنعان من ذلك
قرأ ابن كثير " يرسل عليكما شواظ " بكسر الشين والباقون بالضم فهما لغتان ومعناهما واحد
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " ونحاس " بكسر السين والباقون بالضم
فمن قرأ بالكسر عطف على قوله " من نار " ومن قرأ بالضم عطف على قوله " شواظ "(3/363)
364
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني لا يعينكم أحد غير الله ولا يحفظكم حين يرسل عليكم العذاب إلا الله فكيف تنكرون قدرته وتوحيده
سورة الرحمن 37 - 40
ثم قال عز وجل " فإذا انشقت السماء " يعني انفرجت السماء لنزول الملائكة كقوله " ويوم تشقق السماء بالغمام " [ الفرقان 25 ]
" فكانت وردة كالدهان " يعني صارت كدهن الورد الصافي من الخوف وهذا قول مقاتل
وقال القتبي صارت حمراء في لون الفرس يعني بمنزلة الدابة الجلجون الذي يتغير لونه في كل وقت يرى لونه على خلاف اللون الأول ويقال له الورد ويقال الدهان الأديم الأحمر الكلكون بلغة الفارسي
يعني الفرس الذي يكون لونه لون الورد الأحمر يعنون أخضر يضرب إلى سواد يتغير لونه بياض
ويقال من هيبة ذلك زاغ فيرى أنه كالدهن
ثم قال عز وجل " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني إذا كان يوم القيامة تغيرت السموات من هيبته ويأمر الخلق بالحساب فهو الذي ينجيكم من هول ذلك اليوم فكيف تنكرون هذه النعمة
ثم قال عز وجل " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه " يعني عن علمه " إنس ولا جان " يعني إنسيا ولا جنيا لأن الله تعالى قد أحصى عملهم ويقال لا يسأل سؤال استفهام ولكن يسأل سؤال التوبيخ والزجر كقوله تعالى " فوربك لنسئلنهم أجمعين " [ الحجر 92 ] ويقال لا يسأل الكافر لأنه قد عرف بعلامته
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني إذا كان يوم القيامة أعطاكم الثواب وأدخلكم في جنته فكيف تنكرون وحدانيته ويقال معناه إن الله قد بين لكم أنه يعلم أعمالكم ونهاكم عن الذنوب وتجاوز عنكم فكيف تنكرون وحدانيته
سورة الرحمن 41 - 45
قوله عز وجل " يعرف المجرمون بسيماهم " يعني يعرف الكافر بسواد وجهه وزرقة عينيه " فيؤخذ بالنواصي والأقدام " وذلك أن خزنة جهنم بعد الحساب يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون بين نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعونهم على وجوههم فيطرحونهم في النار
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني هو الذي يدفع عنكم ذلك العذاب إذا أطعتموه ووحدتموه فكيف تنكرون هذه النعمة إن آمنتم وأطعتم فكيف تنكرون وحدانيته(3/364)
365
ثم قال عز وجل " هذه جهنم " وذلك أن الكفار إذا دنوا من النار تقول لهم الخزنة هذه جهنم " التي يكذب بها المجرمون " يعني جهنم التي كنتم بها تكذبون في الدنيا
ثم أخبر عن حالهم فيها فقال " يطوفون بينها وبين حميم آن " يعني الشراب الحار الذي قد انتهى حره وذلك أنه يسلط عليهم الجوع فيؤتى بهم إلى الزقوم الذي طلعها كرؤوس الشياطين فأكلوا منها فأخذ في حلقهم فاستغاثوا بالماء فأتوا من الحميم فإذا قربوا إلى وجوههم تناثر لحم وجوههم فيشربون فيغلي في أجوافهم ويخرج جميع ما فيها ثم يلقى عليهم الجوع فمرة يذهب بهم إلى الحميم ومرة إلى الزقوم فذلك قوله تعالى " يطوفون بينها وبين حميم آن "
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني هو الذي ينجيكم من عذاب الآخرة إن أطعتم أمره وآمنتم برسله فكيف تنكرون وحدانية الله تعالى ويقال معناه إن إخباري إياكم بهذه العقوبة نعمة لكم لكي تنتهوا عن الكفر والمعاصي فلا تنكروا نعمتي عليكم
سورة الرحمن 46 - 55
ذكر الله في هذه الآيات دفع البلاء ثم ذكر إيصال النعم لمن اتقاه وأطاع أمره فقال تعالى " ولمن خاف مقام ربه جنتان " يعني من خاف عند المعصية مقامه يوم القيامة بين يدي ربه فانتهى عن المعصية فله في الآخرة " جنتان " يعني بستانان
وقال مجاهد هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله عندها فيدعها فله أجران
وذكر عن الفراء أنه قال " جنتان " أراد به جنة واحدة وإنما ذكر " جنتان " للقوافي والقوافي تحتمل الزيادة والنقصان ما لا يحتمل الكلام
وقال القتبي هذا لا يجوز لأن الله تعالى قد وعد ببستانين فلا يجوز أن يريد بهما واحدا فلو جاز هذا لجاز أن يقال في قوله تسعة عشر إنما هم عشرون ولكن ذكر للقوافي
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني بأي نعمة من نعماء الله تعالى تتجاحدان إذ جعل الجنة ثواب أعمالكم فيكف تنكرون وحدانية الله تعالى ونعمته
قوله تعالى " ذواتا أفنان " يعني ذواتا ألوان
يعني البساتين فيها ألوان من الثمرات
ويقال " ذواتا " أغصان
وقال الزجاج الأفنان ألوان وهي الأغصان أيضا واحدها فنن
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني قد وعدتم الجنة والراحة فكيف تنكرون وحدانيته ونعمته(3/365)
366
ثم قال عز وجل " فيهما عينان تجريان " يعني في البساتين نهران من ماء غير آسن يعني غير متغير
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني جعل الأنهار نزهة لكم وزيادة في النعمة فكيف تنكرون نعمة الله تعالى وقدرته
ثم قال " فيهما من كل فاكهة زوجان " يعني في هذين البستانين من كل لون من الفاكهة صنفان الحلو والحامض ويقال لونان " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني جعل فيهما من الراحة والنزهة من كل نوع من الفاكهة فكيف تنكرون نعمته وقدرته
قوله عز وجل " متكئين على فرش " يعني ناعمين على فرش " بطائنها من استبرق " هو الديباج الغليظ الأخضر بلغة فارس
وقال مقاتل " بطائنها " يعني ظواهرها وذكر عن الفراء أنه قال " بطائنها " يعني الظهارة وقد تكون الظهارة بطانة والبطانة ظهارة لأن كل واحد منهما يكون وجها
وقال القتبي هذا لا يصح ولكن ذكر البطانة تعليما لنا أن البطانة إذا كانت من استبرق فالظهارة تكون أجود
وروي عن ابن عباس أنه سئل أن " بطائنها من استبرق " فما الظواهر قال هو مما قال الله تعالى " فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين " [ السجدة 17 ]
ثم قال " وجنى الجنتين دان " يعني اجتناؤهما قريب إن شاء تناولهما قائما وإن شاء تناولهما قاعدا وإن شاء متكئا
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني جعل لكم مجالس الملوك مع الفرش المرتفعة فكيف تنكرون وحدانية الله ونعمته
سورة الرحمن 56 - 61
ثم قال عز وجل " فيهن قاصرات الطرف " يعني في الجنان من الزوجات غاضات البصر قانعات بأزواجهن لا يشتهين غيرهم ولا ينظرون إلى غيرهم
قوله تعالى " لم يطمثهن إنس " يعني لم يمسسهن إنسيا " قبلهم ولا جان " يعني لا إنسيا ولا جنيا " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني جعل لكم أزواجا موافقة ليطعنكم وهن لا يردن غيركم فكيف تنكرون الله تعالى
ثم وصف الزوجات فقال " كأنهن الياقوت والمرجان " يعني في الصفاء كالياقوت وفي البياض كالمرجان " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني جعلهن بحال تتلذذ أعينكم بالنظر إليهن فكيف تنكرون وحدانية الله تعالى ونعمته(3/366)
367
ثم قال عز وجل " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " يعني هل جزاء التوحيد وهو قول لا إله إلا الله إلا الجنة ويقال هل جزاء من خاف مقام ربه إلا هاتان الجنتان اللتان ذكرناها في الآية
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني فكيف تنكرون نعمة ربكم حيث جعل ثواب إحسانكم الجنة وبين لكم لكي تحسنوا وتنالوا ثواب الله وإحسانه
سورة الرحمن 62 - 69
ثم قال عز وجل " ومن دونهما جنتان " يعني من دون الجنتين اللتين ذكرهما جنتان أخروان
فالأوليان جنة النعيم وجنة عدن والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني قد ذكر للمتقين جنتين وجنتان أخريان زيادة على الكرامة فكيف تنكرون فضل ربكم وكرامته
ثم وصف الجنتين الأخريين فقال " مدهامتان " يعني خضراوان
ويقال التي تضرب خضرتها إلى السواد " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني جعل لكم الجنان المخضرة لأن النظر في الخضرة يجلي البصر فكيف تنكرون وحدانيته
ثم قال " فيهما عينان نضاختان " يعني ممتلئتان فوارتان
وقال القتبي يعني تفوران بالماء والنضخ أكثر من النضح
وقال مجاهد " نضاختان " يعني مملوءتان من الخير لا ينقطعان " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني كيف تنكرون من جعل لكم فيهما عينان تفوران على الدوام ولا انقطاع لهما
ثم قال عز وجل " فيهما فاكهة ونخل ورمان " يعني في الجنتين الأخريين من ألوان الفاكهة
" فبأي آلاء ربكما تكذبان " معناه في الجنتين الأخريين من ألوان الفاكهة كمثل ما في الأوليين فأنتم تجدون فيها ألوانا من الثمار والفواكه
فكيف تنكرون نعمة ربكم ولا توحدوه
سورة الرحمن 70 - 78
ثم قال عز وجل " فيهن خيرات حسان " يعني في الجنان كلها زوجات حسان
وقال الزجاج أصله في اللغة خيرات وقد قرئ بتشديد الياء وقراءة العامة بالتخفيف
وقال مقاتل " خيرات " الأخلاق " حسان " الوجوه " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني في هذه(3/367)
368
الجنان الأربعة في كل واحدة منها تجدون خيرة هي زوجة هي أحسن بما في الأخرى فكيف تنكرون عزة ربكم ولا تشكرونه
ثم وصف الخيرات فقال " حور مقصورات " يعني محبوسات " في الخيام " على أزواجهن
وقال ابن عباس الخيمة الواحدة من لؤلؤة مجوفة فرسخا في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني فكيف تنكرون هذه النعمة حين حبس الأزواج الطيبات لكم إن أطعتم الله تعالى
ثم قال عز وجل " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " يعني لم يمسسهن إنس قبلهم ولا جان
قرأ الكسائي " لم يطمثهن " بضم الميم والباقون بالكسر
وهما لغتان ومعناهما واحد
" فبأي آلاء ربكما تكذبان )
ثم قال " متكئين على رفرف " يعني نائمين على المجالس الخضر على السرر الحسان
ويقال على رياض " خضر وعبقري حسان " يعني الزرابي الكثيرة الألوان وهي الطنافس الحسان
وقال مجاهد " وعبقري حسان " يعني الديباج وقال الزجاج وإنما قال " عبقري حسان " ولم يقل حسن لأن العبقري جماعة يقال للواحد عبقرية كما تقول ثمرة وثمر لوزة ولوز وأيضا يكون العبقري اسم جنس والعبقري كل شيء بولغ في وصفه والعبقري البسط ويقال الطنافس المبسوطة
ثم قال عز وجل " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني فبأي نعمة من نعماء ربكما أيها الجن والإنس تتجاحدان مع هذه الكرامات التي بين الله تعالى لكم لتعلموا فتناولوا تلك الكرامات ما شاء الله
ثم قال عز وجل " تبارك اسم ربك ذي الجلال " أي تعالى وتعظم عما يقول الكفار ( ذي الجلال ) يعني ذي الارتفاع ارتفاع المنزلة والقدرة " والإكرام " يعني الكريم المتجاوز عن المذنبين
ويقال الاسم زيادة في الكلام ومعناه تبارك ربك
قرأ ابن عامر ( ذو الجلال ) بالواو والباقون " ذي الجلال " بالياء
فمن قرأ ( ذو الجلال ) جعله نعتا للاسم والاسم رفع وكذلك نعمته
ومن قرأ بالكسر جعله نعتا للرب عز وجل والله أعلم والله سبحانه وتعالى أعلم صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم(3/368)
369
سورة الواقعة
كلها مكية وهي تسعون وست آيات
سورة الواقعة 1 - 3
قوله تبارك وتعالى " إذا وقعت الواقعة " يعني قامت القيامة وإنما سميت القيامة " الواقعة " لصوتها وهي النفخة الأخيرة
وقال قتادة هي الصيحة أسمعت القريب والبعيد " ليس لوقعتها كاذبة " يعني ليس لها مثوبة ولا ارتداد ولا خلف
ويقال ليس لقيامها تكذيب
ثم وصف القيامة فقال " خافضة رافعة " يعني خفضت أقواما بأعمالهم فأدخلتهم النار ورفعت أقواما بأعمالهم فأدخلتهم الجنة
وقال قتادة في قوله " خافضة رافعة " يعني خفضت أقواما في عذاب الله ورفعت أقواما في كرامة الله
سورة الواقعة 4 - 9
ثم قال عز وجل " إذا رجت الأرض رجا " يعني زلزلت الأرض زلزلة وحركت تحريكا شديدا لا تسكن حتى تلقي جميع ما في بطنها على ظهرها
ثم قال " وبست الجبال بسا " يعني فتتت الجبال فتا
ويقال قلعت الجبال قلعا ويقال كسرت الجبال كسرا
" فكانت هباء منبثا " يعني ترابا منتشرا وهو ما يسطع من سنابك الخيل
ويقال الغبار الذي في شعاع الكوة
وقال القتبي " وبست الجبال بسا " يعني فتتت حتى صارت كالدقيق والسويق المبسوس
ثم وصف حال الخلق في يوم القيامة وأخبر أنهم ثلاثة أصناف
اثنان في الجنة وواحد في النار
ثم نعت كل صنف من الثلاثة على حده فقال " وكنتم أزوجا ثلاثة " يعني تكونون يوم القيامة ثلاث أصناف " فأصحاب الميمنة " يعني الذي يعطون كتابهم بأيمانهم " ما أصحاب الميمنة " يعني ما تدري ما لأصحاب الميمنة من الخير والكرامات " وأصحاب المشئمة " يعني الذين يعطون كتابهم بشمالهم " ما أصحاب المشئمة " يعني ما تدري ما لأصحاب المشئمة من الذل والعذاب
ويقال " أصحاب الميمنة " يعني الذين كانوا يوم الميثاق على يمين آدم عليه السلام ويقال على يمين العرش " وأصحاب المشئمة " الذين كانوا على شمال(3/369)
370
آدم عليه السلام
ويقال على شمال العرش
ويقال " أصحاب الميمنة " الذين يكونون يوم القيامة على يمين العرش ويأخذون طريق الجنة " وأصحاب المشئمة " الذين يأخذون على طريق الشمال فيفضي بهم إلى النار
سورة الواقعة 10 - 24
ثم قال عز وجل " والسابقون السابقون " يعني السابقين إلى الإيمان والجهاد والطاعات " السابقون " يعني هم السابقون إلى الجنة
فذكر الأصناف الثلاثة
أحدها أصحاب اليمين الثاني أصحاب الشمال والثالث السابقون
ثم وصف كل صنف منهم بصفة فبدأ بصفة السابقين فقال " أولئك المقربون " يعني المقربون عند الله في الدرجات " في جنات النعيم " يعني في جنات عدن " ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " يعني إن السابقين تكون جماعة من الأولين يعني من أول هذه الأمة مثل الصحابة والتابعين " وقليل من الآخرين " يعني إن السابقين في آخر هذه الأمة يكونون قليلا
وقال بعضهم " ثلة من الأولين " يعني جمع من الأمم الخالية " وقليل من الآخرين " يعني من هذه الأمة فحزن المسلمون بذلك حتى نزلت " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " فطابت أنفسهم
والطريق الأول أصح
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( كلتا الثلتين من أمتي )
وروي عن عبد الله بن يزيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أهل الجنة عشرون ومائة صنف هذه الأمة منها ثمانون صنفا )
ثم قال " على سرر موضونة " يعني إن السابقين في الجنة على سرر منسوجة بالدر والياقوت
وقال مجاهد " موضونة " مرمولة بالذهب
وقال القتبي " موضونة " أي منسوجة كأن بعضها أدخل في بعض أو نضد بعضها على بعض ومنه قيل للدرع " موضونة "
ثم قال " متكئين عليها متقابلين " يعني ناعمين على سرر متقابلين في الزيادة
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ " متكئين عليها ناعمين " وقال مجاهد " متقابلين " يعني لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض
ثم قال عز وجل " يطوف عليهم ولدان " يعني في الخدمة " ولدان مخلدون " يعني غلمان خلدوا في الجنة
ويقال على سن واحد لا يتغيرون لأنهم خلقوا للبقاء ومن خلق(3/370)
371
للبقاء لا يتغير
ويقال " مخلدون " يعني لا يكبرون
ويقال هم أولاد الكفار لم يكن لهم ذنب يعذبون به ولا طاعة يثابون فيكونون خداما لأهل الجنة
قوله تعالى " بأكواب وأباريق " يعني بأيدي الغلمان أكواب يعني أكواب من فضة مدورة الرأس ليست لها عرى وهذا قول مقاتل
والأباريق التي لها عرى
ثم قال " وكأس من معين " يعني خمرا بيضاء من نهر جار " لا يصدعون عنها " يعني لا يصدع رؤوسهم بشرب الخمر في الآخرة " ولا ينزفون " يعني لا تذهب عقولهم ولا ينفد شرابهم ولا اختلاف في القراءة مثلما ذكرنا في سورة الصافات
ثم قال " وفاكهة مما يتخيرون " يعني مما يتمنون ويختارون من ألوان الفاكهة " ولحم طير مما يشتهون " يعني إن شاء مشويا وإن شاء مطبوخا
ثم قال عز وجل " وحور عين " قرأ حمزة والكسائي " وحور عين " بالكسر عطفا على قوله " بأكواب وأباريق " فصار خفضا على المجاورة والباقون " وحور عين " بالضم
ومعناه ولهم حور عين والحور البيض والعين الحسان الأعين " كأمثال اللؤلؤ المكنون " يعني اللؤلؤ الذي في الصدف لم تمسه الأيدي ولم تره الأعين " جزاء بما كانوا يعملون " يعني هذه الجنة مع هذه الكرامات ثوابا لأعمالهم
سورة الواقعة 25 - 36
ثم قال " لا يسمعون فيها لغوا " يعني في الجنة خلفا وكذبا " ولا تأثيما " يعني كلام فيه إثم عند الشرب كما يكون في الدنيا
ويقال " ولا تأثيما " يعني ولا إثم عليهم فيما شربوا " إلا قيلا سلاما سلاما " يعني إلا قولا وكلاما يسلم بعضهم على بعض ويقال " إلا " بمعنى لكن فكأنه يقول لكن قولا سلاما يسلم عليهم الملائكة ويبعث الله تعالى إليهم الملائكة بالسلام فهذا كله نعت السابقين
ثم ذكر الصنف الثاني فقال " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين " يعني مالهم من الخير والكرامة على وجه التعجب
ثم وصف حالهم فقال " في سدر مخضود " يعني لا شوك له كالسدر الذي يكون في الدنيا والسدرة شجرة بالبصرة وغيرها لها ثمرة وفي تلك الشجرة شوك ويتخذون من ورقها الخوص
وقال قتادة " في سدر مخضود " يعني الكثير الحمل الذي ليس له شوك
وقال(3/371)
372
القتبي كأنه حصد شوكه يعني قطع
وروي في الخبر أنه لما نزل ذكر السدر قال أهل الطائف إنها سدرنا هذا فنزل " مخضود " يعني موقر بلا شوك
ثم قال " وطلح منضود " وقال مقاتل يعني الموز المثمر المتراكم بعضه على بعض
وقال قتادة هو الموز وهكذا روي عن ابن عباس
والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ " وطلع منضود " كقوله تعالى " طلع نضيد "
ثم قال عز وجل " وظل ممدود " يعني دائما لا يزول
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها اقرؤوا إن شئتم " وظل ممدود " يعني دائما لا يزول
ثم قال " وماء مسكوب " يعني منصبا كثيرا
ويقال منصبا من ساق العرش " وفاكهة كثيرة " يعني ألوان الفاكهة كثيرة " لا مقطوعة " يعني لا تنقطع عنهم في حين كما يكون في فواكه الدنيا بل توجد في جميع أوقات الدنيا " ولا ممنوعة " يعني لا تمنع منهم والممنوعة أن ينظر إليها ولا يقدر أن يأكل منها كأشجار الدنيا
" وفرش مرفوعة " يعني بعضها فوق بعض ويقال مرتفعة
ثم قال عز وجل " إنا أنشأناهن إنشاء " يعني الجواري والزوجات
يقال نساء الدنيا خلقناهن خلقا بعد خلق الدنيا ويقال إنهن أفضل وأحسن من حور الجنة لأنهن عملن في الدنيا والحور لم يعملن
وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنا أنشأناهن إنشاء " قال ( إن من المنشآت التي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا زمنا )
ثم قال " فجعلناهن أبكارا " يعني خلقناهن أبكارا عذارى
سورة الواقعة 37 - 40
" عربا " يعني محبات عاشقات لأزواجهن لا يردن غيرهم
قرأ حمزة وعاصم في إحدى الروايتين " عربا " بجزم الراء والباقون بالضم ومعناهما واحد
وقال أبو عبيد نقرأ بالضم لأنها أقيس في العربية لأن واحدتها عروب وجمعها عرب مثل صبور وصبر
ثم قال " أترابا " يعني مستويات في السن كلهن على ميلاد واحد بنات ثلاث وثلاثين سنة
وروي عن عكرمة أنه قال أهل الجنة مثل أولاد ثلاثين سنة رجالهم ونساؤهم(3/372)
373
قامة أحدهم ستون ذراعا على قامة أبيهم آدم صلوات الله عليه شباب جرد مكحلون أعينهم كالقمر ليلة البدر وآخرهم كالكوكب الدري في السماء يبصر وجهه في وجهها وكبده في كبدها وفي مخ ساقها وتبصر هي وجهها في وجهه وفي كبده وفي مخ ساقه ولا يبزقون ولا يتمخطون وما كان فوق ذلك من الأذى فهو أبعد " لأصحاب اليمين " يعني هذا الذي ذكر كرامة لأصحاب اليمين
ثم قال عز وجل " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " يعني جماعة من أول هذه الأمة وجماعة من الآخرين
وذكر في السابقين أنهم جماعة من الأولين وقليل من الآخرين لأن السابق في أخر الأمة قليل وأما أصحاب اليمين يكون جماعة من أول الأمة وجماعة من آخر الأمة
سورة الواقعة 41 - 38
ثم ذكر الصنف الثالث فقال " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال " يعني ما لأصحاب الشمال من الشدة والشر والهوان
ثم وصف حالهم فقال " في سموم وحميم " والسموم الزمهرير يقطع الوجوه وسائر اللحم
ويقال السموم النار الموقدة
والحميم الماء الحار الشديد " وظل من يحموم " واليحموم الدخان يعني دخان جهنم أسود " لا بارد ولا كريم " يعني " لا بارد " شرابهم " ولا كريم " منقلبهم
ثم بين أعمالهم التي استحقوا بها العقوبة فقال " إنهم كانوا قبل ذلك مترفين " يعني متنعمين أي كانوا في الدنيا متكبرين في ترك أمر الله تعالى
ويقال كانوا مشركين " وكانوا يصرون على الحنث العظيم " يعني يثبتون على الذنب العظيم وهو الشرك
وإنما سمي الشرك حنثا لأنهم كانوا يحلفون بالله لا يبعث الله من يموت وكانوا يصرون على ذلك
وقال القتبي " الحنث العظيم " اليمين الغموس
وقال مجاهد الذنب العظيم
وقال ابن عباس " الحنث العظيم " هو الشرك " وكانوا يقولون " مع شركهم " أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون " يعني بعدما صرنا ترابا وعظاما بالية صرنا أحياء بعد الموت " وآباؤنا الأولون " الذين مضوا قبلنا وصاروا ترابا
سورة الواقعة 49 - 56(3/373)
374
قال الله تعالى " قل " يا محمد " إن الأولين والآخرين " يعني الأمم الخالية وهذه الأمة " لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " يعني في يوم القيامة يجتمعون فيه " ثم إنكم أيها الضالون " يعني المشركون " المكذبون لآكلون من شجر من زقوم " وقد ذكرناه " فمالئون منها البطون " يعني يملؤون من طلعها البطون " فشاربون عليه من الحميم " يعني على إثره يشربون من الحميم " فشاربون شرب الهيم " يعني كشرب الهيم وهي الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الشراب
ويقال الأرض التي أصابتها الشمس وهي أرض سهلة من الرملة
قرأ نافع وعاصم وحمزة " شرب الهيم " بضم الشين والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فهو اسم
ومن قرأ بالنصب فهو المصدر
ويقال كلاهما مصدر شربت
ثم قال " هذا نزلهم يوم الدين " يعني جزاءهم يوم الجزاء
ويقال معناه هو الذي ذكرناه من الزقوم والشراب طعامهم وشرابهم يوم الحساب
سورة الواقعة 57 - 62
ثم قال " نحن خلقناكم " يعني خلقناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون " فلولا تصدقون " يعني أفلا تصدقون بالبعث وبالرسل
ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا فقال " أفرأيتم ما تمنون " يعني ما خرج منكم من النطفة ويقع في الأرحام " أأنتم تخلقونه " يعني أنتم تخلقون منه بشرا في بطون النساء ذكرا أو أنثى " أم نحن الخالقون " يعني بل نحن نخلقه " نحن قدرنا بينكم الموت " يعني نحن قسمنا بينكم الآجال فمنكم من يموت صغيرا ومنكم من يموت شابا ومنكم من يموت شيخا
قرأ ابن كثير " نحن قدرنا " بالتخفيف وقرأ الباقون " قدرنا " بالتشديد ومعناهما واحد لأن التشديد للتكثير
ثم قال " وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم " يعني وما نحن بعاجزين إن أردنا أن نأتي بخلق مثلكم وأمثل منكم وأطوع لله تعالى " وننشئكم في ما لا تعلمون " يعني ونخلقكم سوى خلقكم من الصور فيما لا تعلمون من الصور مثل القردة والخنازير
ويقال وما نحن بعاجزين على أن نرد أرواحكم إلى أجسامكم بعد الموت
ثم قال عز وجل " ولقد علمتم النشأة الأولى " يعني علمتم ابتداء خلقكم إذ خلقناكم في بطون أمهاتكم ثم أنكرتم البعث " فلولا تذكرون " يعني فلولا تتعظون وتعتبرون بالخلق الأول أنه قادر على أن يبعثكم كما خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئا(3/374)
375
سورة الواقعة 63 - 67
ثم قال " أفرأيتم ما تحرثون " يعني فهلا تعتبرون بالزرع الذي تزرعونه في الأرض وتبذرون فيها " ءأنتم تزرعونه " يعني تنبتونه " أم نحن الزارعون " يعني أم نحن المنبتون
يعني بل الله تعالى أنبته " لو نشاء لجعلناه حطاما " يعني يابسا هالكا بعدما بلغ " فظلتم تفكهون " يعني فصرتم ثم تندمون
ويقال تتعجبون من يبسه بعد خضرته " إنا لمغرمون "
يعني لقلتم غرمنا وذهب زرعنا
ويقال " إنا لمغرمون " يعني معذبون " بل نحن محرومون " يعني حرمنا منفعة زرعنا
قرأ عاصم في رواية أبي بكر " أئنالمغرمون " بهمزتين على الاستفهام وقرأ الباقون بهمزة واحدة على معنى الخبر
سورة الواقعة 68 - 73
ثم قال " أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن " يعني من السحاب " أم نحن المنزلون " يعني بل نحن المنزلون عليكم " لو نشاء جعلناه أجاجا " يعني مرا مالحا لا تقدرون على شربه " فلولا تشكرون " يعني هلا تشكرون رب هذه النعمة وتوحدونه حين سقاكم ماء عذبا
ثم قال عز وجل " أفرأيتم النار التي تورون " يعني تقدحون والعرب تقدح بالزند والزند خشب يحك بعضه على بعض فتخرج منه النار " ءأنتم أنشأتم شجرتها " يعني خلقتم شجرها " أم نحن المنشئون " يعني الخالقون
يعني الله أنشأها وجعلها لمنفعة الخلق " نحن جعلناها تذكرة " يعني النار عظة وعبرة في الدنيا من نار جهنم
وقال مجاهد " نحن جعلناها تذكرة " يعني النار الصغرى عظة للنار الكبرى " ومتاعا للمقوين " يعني منفعة لمن كان مسافرا
وقال قتادة المقوي الذي قد فني زاده
وقال الزجاج المقوي الذي قد نزل بالقداء وهي الأرض الخالية
سورة الواقعة 74 - 82(3/375)
376
ثم قال عز وجل " فسبح باسم ربك العظيم " يعني اذكر التوحيد باسم ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم الرب العظيم
ويقال يعني صل بأمر ربك
ويقال سبح لله واذكره
قوله عز وجل " فلا أقسم " يعني أقسم و " لا " زيادة في الكلام
وقال بعضهم " لا " رد لقول الكفار
ثم قال " بمواقع النجوم " يعني بنزول القرآن نزل نجوما آية بعد آية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال " بمواقع النجوم " يعني بمحكم القرآن " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " يعني القسم بالقرآن عظيم " لو تعلمون " ذلك
ويقال " لو تعلمون " يعني لو تصدقون
قرأ حمزة والكسائي " بموقع النجوم " بغير ألف وقرأ الباقون " بمواقع النجوم " بلفظ الجماعة
فمن قرأ " بموقع " فهو واحد دل على الجماعة ويقال " بمواقع النجوم " يعني بمساقط النجوم
يعني الكواكب
ثم قال عز وجل " إنه لقرآن كريم " يعني الذي يقرأ عليك يا محمد لقرآن شريف كريم على ربه " في كتاب مكنون " يعني مستور من خلق الله وهو اللوح المحفوظ " لا يمسه إلا المطهرون " يعني لا تمسه إلا الملائكة المطهرون من الذنب ويقال لا يقرؤه إلا الطاهرون
ويقال لا يمس المصحف إلا طاهر
وروى معمر عن محمد بن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا فيه ( لا يمس القرآن إلا على طهور )
وروى إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال كنا مع سلمان فخرج يقضي حاجته ثم جاء فقلنا يا أبا عبد الله لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات الله فقال إني لست أمسه لأنه لا يمسه إلا المطهرون
فقرأ علينا ما نسينا يعني يجوز للمحدث أن يقرأ ولا يجوز أن يمس المصحف
وأما الجنب فلا يجوز له أن يمس المصحف ولا يقرأ آية تامة
ثم قال عز وجل " تنزيل من رب العالمين " يعني أنزل الله تعالى جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن يقرأه عليه من رب العالمين
ثم قال عز وجل " أفبهذا الحديث أنتم مدهنون " يعني تكفرون
وقال الزجاج المدهن والمداهن الكذاب المنافق
وقال بعض أهل اللغة أصله من الدهن لأنه يلين في دينه
يعني ينافق ويرى كل واحد أنه على دينه
ويقال " أنتم مدهنون " يعني مكذبون " وتجعلون رزقكم " يعني شكر رزقكم " أنكم تكذبون " يعني تقولون للمطر إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا
وروي عن عاصم في بعض الروايات " أنكم تكذبون " بالتخفيف
يعني تجعلون شكر رزقكم الكذب وهو أن تقولوا مطرنا بنوء كذا
وقرأ الباقون " تكذبون " بالتشديد(3/376)
377
يعني تجعلون شكر رزقكم التكذيب ولا تنسبون السقيا إلى الله تعالى الذي رزقكم
سورة الواقعة83 - 96
ثم قال " فلولا إذا بلغت الحلقوم " يعني بلغ الروح الحلقوم " وأنتم حينئذ تنظرون " إلى الميت " ونحن أقرب إليه منكم " يعني أمر الله تعالى وهو ملك الموت أقرب إليه منكم حين أتاه لقبض روحه " ولكن لا تبصرون " ما حضر الميت " فلولا إن كنتم غير مدينين " يعني غير محاسبين
ويقال غير مملوكين أذلاء من قولك دنت له بالطاعة وإنما سمي " يوم الدين " لأنه يوم الإذلال والهوان
ويقال " غير مدينين " يعني غير مجزيين " ترجعونها إن كنتم صادقين " يعني إنكم غير محاسبين فهلا رددتهم عنه الموت
ثم ذكر الأصناف الثلاثة الذين ذكرهم في أول السورة فقال " فأما إن كان من المقربين " يعني إذا كان هذا الميت من المقربين عند الله ومن السابقين " فروح وريحان " قرأ الحسن " فروح " بضم الراء وقراءة العامة بالنصب
وقال أبو عبيد لولا خلاف الأمة لقرأته بالضم
وروت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالضم وقال القتبي " الروح " يعبر عن معان فالروح روح الأجسام الذي تقبض عند الممات وفيه حياة النفس
والروح جبريل وكلام الله روح لأنه حياة من الجهل وموت الكفر ورحمة الله روح كقوله " وأيدهم بروح منه " [ المجادلة 22 ] أي برحمة
والروح الرحمة والرزق
ويقال " الروح " حياة دائمة لا موت فيها " والريحان " الرزق
ويقال هي النبات بعينها
ومن قرأ بالنصب فهو الفرح
ويقال الراحة ويقال هي الرحمة كقوله " لا تيأسوا من روح الله "
ثم قال " وجنة نعيم " يعني لا انقطاع لها " وأما إن كان من أصحاب اليمين " يعني إن كان الميت من أصحاب اليمين " فسلام لك من أصحاب اليمين " يعني سلام الله لهم
ويقال يسلمون عليك من الجنة
ويقال " سلام لك " يعني سلام عليك منهم
ويقال ترى منهم ما تحب من السلام
ويقال " فسلام لك " يعني يقال لهم عند الموت وفي القبر وعلى الصراط وعند الميزان بشارة لك إنك من أهل الجنة
ثم قال عز وجل " وأما إن كان من المكذبين " يعني إن كان الميت " من المكذبين " بالبعث " الضالين " عن الهدى " فنزل من حميم " يعني جزاؤهم وثوابهم من حميم يعني(3/377)
378
شرابهم من حميم " وتصلية جحيم " يعني يدخلون الجحيم وهي ما عظم من النار " إن هذا لهو حق اليقين " يعني إن هذا الذي قصصنا عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد الله لأوليائه وأعدائه وما ذكر مما يدل على وحدانيته " لهو حق اليقين " " فسبح باسم ربك العظيم " يعني اذكر اسم ربك بالتوحيد
ويقال نزه الله تعالى عن السوء يعني قل سبحان الله ويقال أثن على الله تعالى ويقال صل لله تعالى وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ سورة الواقعة في كل يوم لم تصبه فاقة )
والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد(3/378)
379
سورة الحديد
مدنية وهي عشرون وتسع آيات
سورة الحديد 1
قوله تبارك وتعالى " سبح لله " يعني صلى لله " ما في السموات " من الملائكة " والأرض " من المؤمنين فسمى الصلاة تسبيحا لأنه يجري فيها التسبيح
ويقال " سبح لله " يعني ذكر الله " ما في السموات " يعني جميع ما في السموات من الشمس والقمر والنجوم " والأرض " يعني جميع ما في الأرض من الإنس والأشجار والأنهار والجبال وغير ذلك
ويقال " سبح لله " يعني خضع لله جميع ما في السموات والأرض وقال بعضهم التسبيح آثار صنعه يعني في كل شيء دليل لربوبيته ووحدانيته
ويقال هو التسبيح بعينه يعني يسبح جميع الأشياء كقوله " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [ الإسراء 44 ] وقال الحسن البصري لولا ما يخفى عليكم من تسبيح من معكم في البيوت ما تقادرتم
وروى سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أفضل الكلام أربعة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) ولا يضرك بأيهن بدأت
" وهو العزيز الحكيم " يعني " العزيز " بالنقمة لمن لا يوحده " والعزيز " في اللغة الذي لا يعجزه عما أراد
ويقال " العزيز " الذي لا يوجد مثله " الحكيم " في أمره وقضائه
سورة الحديد 2 - 6
ثم قال عز وجل " له ملك السموات والأرض " يعني له خزائن السموات والأرض
يعني خزائن السموات المطر وخزائن الأرض النبات
ويقال معناه له نفاذ الأمر في السموات والأرض(3/379)
380
ثم قال " يحيي ويميت " يعني " يحيي " للبعث " ويميت " في الدنيا " وهو على كل شيء قدير " من الإحياء والإماتة
ثم قال عز وجل " هو الأول " يعني الأول قبل كل أحد " والآخر " بعد كل أحد " والظاهر " يعني الغالب على كل شيء " والباطن " يعني العالم بكل شيء
ويقال " هو الأول " يعني مؤول كل شيء " والآخر " يعني مؤخر كل شيء " والظاهر " يعني المظهر " والباطن " يعني المبطن
ويقال هو " الأول " يعني خالق الأولين " والآخر " يعني خالق الآخرين " والظاهر " يعني خالق الآدميين وهم ظاهرون
" والباطن " يعني خالق الجن والشياطين الذين لا يظهرون
ويقال " هو الأول " يعني خالق الدنيا " والآخر " يعني خالق الآخرة
" والظاهر والباطن " يعني عالم بالظاهر والباطن
ويقال " هو الأول " بلا ابتداء " والآخر " بلا انتهاء
" والظاهر والباطن " يعني منه نعمة ظاهرة باطنة
ويقال هو " الأول والآخر والظاهر والباطن " يعني هو الرب الواحد
ثم قال " وهو بكل شيء عليم " يعني من أمر الدنيا والآخرة
قوله عز وجل " هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " قد سبق ذكره " يعلم ما يلج في الأرض " يعني ما يدخل في الأرض من الماء والكنوز والموات " وما يخرج منها " من النبات والكنوز والأموات " وما ينزل من السماء " وهو المطر والثلج والرزق والملائكة " وما يعرج فيها " يعني ما يصعد فيها من الملائكة وأعمال العباد والأرواح " وهو معكم أينما كنتم " يعني عالما بكم وبأعمالكم أينما كنتم في الأرض " والله بما تعملون بصير " فيجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا
ثم قال عز وجل " له ملك السموات والأرض " وقد ذكرناه " وإلى الله ترجع الأمور " يعني إليه عواقب الأمور
ثم قال عز وجل " يولج الليل في النهار " يعني يدخل الليل في النهار يعني إذا جاء الليل ذهب النهار
" ويولج النهار في الليل " يعني يدخل النهار في الليل فإذا جاء النهار ذهب الليل
ومعنى آخر يعني يدخل زيادة الليل في النهار حتى يصير النهار أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والليل أقصر ما يكون تسع ساعات
ويدخل زيادة النهار في الليل حتى يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات والليل والنهار أبدا أربع وعشرون ساعة
ثم قال عز وجل " وهو عليم بذات الصدور " يعني بما في القلوب من الخير والشر
سورة الحديد 7(3/380)
381
سورة الحديد 8 - 9
ثم قال " آمنوا بالله ورسوله " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وصدقوا برسوله " وأنفقوا " يعني تصدقوا في طاعة الله تعالى " مما جعلكم مستخلفين فيه " يعني مما جعلكم مالكين من المال
ويقال معناه إن الأموال والدنيا كلها لله تعالى فجعل العباد مستخلفين على أمواله وأمرهم بالنفقة مما جعلهم خليفة فيها
ثم بين ثواب الذين آمنوا فقال " فالذين آمنوا منكم وأنفقوا " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وتصدقوا " لهم أجر كبير " يعني عظيما وهو الثواب الحسن في الجنة
ويقال إن هذه الآية نسخت بآية الزكاة ويقال إنها ليست بمنسوخة ولكنها حث على الصدقة والنفقة في طاعة الله تعالى
ثم قال عز وجل " وما لكم لا تؤمنون بالله " يعني ما لكم لا تصدقون بوحدانية الله تعالى " والرسول يدعوكم " قرأ بعضهم " والرسول " بنصب اللام
يعني ما لكم لا تصدقون بوحدانية الله تعالى " والرسول " وقرأ بعضهم " والرسول " بضم اللام يعني ما لكم لا تصدقون بوحدانية الله وتم الكلام
ثم قال " والرسول يدعوكم " إلى توحيد الله تعالى
وقراءة العامة بذلك يعني بضم اللام
وقرأ بعضهم " والرسول " بكسر اللام
يعني مالكم لا تصدقون بالله وبرسوله حين يدعوكم " لتؤمنوا بربكم " يعني لتصدقوا بوحدانية الله ربكم " وقد أخذ ميثاقكم " يعني قد أخذ الله تعالى إقراركم يوم الميثاق حين أخرجكم من صلب آدم " إن كنتم مؤمنين " يعني مصدقين قرأ أبو عمرو " وقد أخذ " بضم الألف وكسر الخاء " ميثاقكم " يضم القاف على معنى فعل ما لم يسم فاعله والباقون بالنصب بمعنى أخذ الله ميثاقكم
ثم قال " هو الذي ينزل على عبده " هو الذي ينزل جبريل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليقرأ عليه " آيات بينات " يعني آيات القرآن بين فيها الحلال والحرام والأمر والنهي
" ليخرجكم من الظلمات إلى النور " يعني يدعوكم من الشرك إلى الإيمان
ويقال " آيات بينات " يعني واضحات
ويقال " آيات " يعني علامات النبوة " ليخرجكم من الظلمات إلى النور " يعني ليوفقكم الله تعالى للهدى ويخرجكم من الكفر
" وإن الله بكم لرؤوف رحيم " حين هداكم لدينه وأنزل عليكم القرآن
سورة الحديد 10 - 11(3/381)
382
قوله عز وجل " وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله " يعني ما لكم لا تصدقوا ولا تنفقوا أموالكم في طاعة الله
" ولله ميراث السموات والأرض " يعني إلى الله يرجع ميراث السموات والأرض يعني لا ينفعكم ترك الإنفاق وأنت ميتون تاركون أموالكم
ويقال معناه " وما لكم ألا تنفقوا " والأموال كلها لله تعالى وهو يأمركم بالنفقة
ويقال أنفقوا مادمتم في الحياة فإنكم إن بخلتم فإن الله هو يرثكم ويرث أهل السموات
يعني أنفقوا قبل أن تفنوا وتصير كلها ميراثا لله تعالى بعد فنائكم وإنما ذكر لفظ الميراث لأن العرب تعرف ما ترك الإنسان يكون ميراثا فخاطبهم بما يعرفون فيما بينهم
ثم قال " لا يستوي منكم " يعني لا يستوي منكم في الفضل والثواب عند الله تعالى " من أنفق " ماله في طاعة الله تعالى " من قبل الفتح " يعني قاتل العدو
وفي الآية تقديم يعني من أنفق وقاتل " من قبل الفتح " يعني فتح مكة
ونزلت الآية في شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار يعني الذين أنفقوا أموالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا الكفار لا يستوي حالهم وحال غيرهم
ويقال نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي الله عنه كان جالسا مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع بينهم منازعة في شيء فنزل في تفضيل أبي بكر رضي الله عنه " لا يستوي منكم من أنفق " ماله " من قبل الفتح " يعني من قبل ظهور الإسلام " وقاتل " يعني وجاهد عدوه " أولئك أعظم درجة " يعني أبا بكر رضي الله عنه " من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا " العدو مع النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال هذا التفضيل لجميع الصحابة
وروى سفيان عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سيأتي قوم بعدكم يحقرون أعمالكم مع أعمالهم )
قالوا يا رسول الله نحن أفضل أم هم فقال ( لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك فضل أحدكم ولا نصفه )
ففرقت هذه الآية بينكم وبين الناس ولا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " أولئك أعظم درجة " من الذين أنفقوا من بعد
قال الفقيه حدثني الخليل بن أحمد
قال حدثنا الدبيلي
قال حدثنا عبيد الله عن سفيان عن زيد بن أسلم
ثم قال " وكلا وعد الله الحسنى " يعني وكلا الفريقين من أنفق من قبل الفتح وبعد الفتح " وعد الله الحسنى " يعني وعد الله الحسنى
قرأ ابن عامر " وكل وعد الله الحسنى " بضم اللام
والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم صار ضما لمضمر فيه فكأنه قال أولئك وعد الله الحسنى
ومن نصب معناه وعد الله كلا الحسنى يعني الجنة
ثم قال " والله بما تعملون خبير " يعني بما أنفقتم(3/382)
383
ثم قال " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " يعني من ذا الذي يعطي من أموال الله " قرضا حسنا " يعني دفعا بالإخلاص وطلب ثواب الله تعالى " فيضاعفه له " يعني يقبل منه ويضاعفه له في الحساب ويعطيه من الحسنات ويعطيه من الثواب ما لا يحصى " وله أجر كريم " يعني ثوابا حسنا في الآخرة
ويقال نزلت الآية في شأن أبي الدحداح وقد سبق ذكره
ويقال هو حث لجميع المسلمين واختلاف القراء في قوله " فيضاعفه " قد سبق ذكره
سورة الحديد 12 - 15
ثم قال عز وجل " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات " يعني في يوم القيامة على الصراط " يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم " يعني بتصديقهم في الدنيا وبأعمالهم الصالحة فيعطى لهم النور يمضون به على الصراط فيكون النور بين أيديهم وبأيمانهم وعن شمائلهم إلا أن ذكر الشمائل مضمر
وتقول لهم الملائكة " بشراكم اليوم " يعني أبشروا هذا اليوم بكرامة الله تعالى
" جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " يعني مقيمين في الجنة " ذلك هو الفوز العظيم " يعني النجاة الوافرة فازوا بالجنة ونجوا من العذاب
قوله تعالى " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم " يعني نصب من نوركم فنمضي معكم
وروي عن أبي أمامة الباهلي أنه قال بينما العباد يوم القيامة عند الصراط إذ غشيتهم ظلمة ثم يقسم الله تعالى النور بين عباده فيعطي الله المؤمن نورا ويبقى الكافر والمنافق لا يعطيان نورا فكما لا يستضئ الأعمى بنور البصر كذلك لا يستضيء الكافر والمنافق بنور الإيمان فيقولان انظرونا نقتبس من نوركم فيقال لهم " قيل ارجعوا " حيث قسم النور فيرجعون فلا يجدون شيئا فيرجعون وقد ضرب بينهم بسور
وعن الحسن البصري قال إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم لأنه يعطي المؤمن نورا والمنافق نورا فإذا بلغو الصراط اطفئ نور المنافق فيقول المنافقون عند ذلك " انظرونا نقتبس من نوركم " قال فيشفق المؤمنون حين طفئ نور المنافقين فيقولون عند ذلك " ربنا أتمم لنا نورنا "
قرأ حمزة " أنطرونا " بنصب الألف وكسر الظاء والباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب فمعناه أمهلونا
ويقال بمعنى أنظرونا ومن قرأ بالضم فمعناه انتظرونا(3/383)
384
فقال لهم المؤمنون ارجعوا " وراءكم فالتمسوا نورا " يعني ارجعوا إلى الدنيا فإنا حصلنا النور في الدنيا
ويقال ارجعوا إلى المحشر حيث أعطينا النور واطلبوا نورا فيرجعون في طلب النور فلم يجدوا شيئا
" فضرب بينهم بسور " يعني فظهر لهم ويقال بين أيديهم بسور يعني بحائط بين أهل الجنة وأهل النار " له باب باطنه " يعني باطن السور " فيه الرحمة " يعني الجنة " وظاهره من قبله العذاب " يعني النار
ويقال هو السور الذي عليه أصحاب الأعراف يظهر بين الجنة والنار باب يعني عليه باب فيجاوز فيه المؤمنون ويبقى المنافقون على الصراط في الظلمة " ينادونهم " من وراء السور " ألم نكن معكم " يعني ألم نكن معكم في الدنيا على دينكم وكنا معكم في الجماعات والصلوات فيجيبهم المؤمنون ويقولون " قالوا بلى " يعني قد كنتم معنا في الظاهر
" ولكنكم فتنتم أنفسكم " يعني قد أهلكتم أنفسكم حيث كفرتم في السر ويقال أهلكتم أنفسكم حين استوجبتم الحرق
ويقال " فتنتم أنفسكم " يعني ثبتم على الكفر الأول في السر " وتربصتم " يعني انتظرتم موت نبيكم
ويقال " تربصتم " يعني أخرتم التوبة وسوفتم فيها
" وارتبتم " يعني شككتم في الدين وشككتم في البعث " وغرتكم الأماني " يعني أباطيل الدنيا " حتى جاء أمر الله " يعني القيامة " وغركم بالله الغرور " يعني الشياطين
وقال الزجاج " الغرور " على ميزان فعول وهو من أسماء المبالغة يقال فلان أكول أي كثير الأكل وكذلك الشياطين " الغرور " لأنه يغري ابن آدم كثيرا وقد قرئ بضم الغين يعني غرور متاع الدنيا
ثم قال " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية " يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة
وقرأ ابن عامر " فاليوم لا تؤخذ " بالتاء لأن الفدية مؤنثة
وقرأ الباقون بالياء رجع إلى المعنى لأن معنى الفدية فداء ومعناه " لا يؤخذ منكم " الفداء يعني المنافقين " ولا من الذين كفروا " يعني الذين جحدوا بتوحيد الله تعالى " مأواكم النار " يعني مصيركم إلى النار يعني المنافقين والكافرين مأواكم النار " هي مولاكم " يعني هي أولى بكم بما أسلفتم من الذنوب " وبئس المصير " يعني بئس المرجع النار يعني للكافرين والمنافقين
سورة الحديد 16 - 17
قوله تعالى " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " يعني ألم يجىء وقت تخاف قلوبهم فترق قلوبهم
يقال أنى يأنى أينا إذا حان وجاء وقته وأوانه
قال الفقيه أبو الليث رحمة الله عليه حدثنا الخليل بن أحمد
قال حدثنا أبو جعفر(3/384)
385
ومحمد بن إبراهيم الدبيلي
قال حدثنا أبو عبيد الله
قال حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن عبد الله عن القاسم قال مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى " نحن نقص عليك أحسن القصص " [ يوسف 3 ] ثم ملوا ملة أخرى فقالوا حدثنا يا رسول الله
فأنزل الله تعالى " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها " [ الزمر 23 ] ثم ملوا ملة أخرى فقالوا حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " ويقال إن المسلمين قالوا لسلمان حدثنا عن التوراة فإن فيها عجائب
فنزل " نحن نقص عليك أحسن القصص " فكفوا عن السؤال ثم سألوه فنزل " الله نزل أحسن الحديث " [ الزمر 23 ] فكفوا عن السؤال ثم سألوه فنزلت هذه الآية " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " يعني ترق قلوبهم لذكر الله " وما نزل من الحق " يعني القرآن بذكر الحلال والحرام
قرأ نافع وعاصم في رواية حفص " وما نزل " بالتخفيف والباقون بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة
ثم وعظهم فقال " ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل " يعني ولا تكونوا في القسوة كاليهود والنصارى من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم " فطال عليهم الأمد " يعني الأجل
ويقال خروج النبي صلى الله عليه وسلم " فقست قلوبهم " يعني جفت ويبست قلوبهم عن الإيمان فلم يؤمن بالقرآن إلا قليل منهم " وكثير منهم فاسقون " يعني عاصون
ويقال " ألم يأن للذين آمنوا " يعني المنافقين الذين آمنوا بلسانهم دون قلوبهم
وقال أبو الدرداء استعيذوا بالله من خشوع النفاق
قيل وما خشوع النفاق قال أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع
قوله تعالى " اعلموا أن الله يحيي الأرض " يعني يصلح الأرض فاعتبروا بذلك " بعد موتها " يعني بعد يبسها وقحطها فكذلك يحيي القلوب بالقرآن ويصلح بعد قساوتها حتى تلين كما أحيا الأرض بعد موتها بالمطر
" قد بينا لكم الآيات " يعني العلامات في القرآن " لعلكم تعقلون " يعني لكي تعقلوا أمر البعث إنكم أيضا كذلك تبعثون
سورة الحديد 18 - 19
قوله تعالى " إن المصدقين والمصدقات " قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر " إن المصدقين والمصدقات " كليهما بالتخفيف والباقون بالتشديد
فمن قرأ بالتخفيف فمعناه إن المؤمنين من الرجال والمؤمنات من النساء فمن صدق الله ورسوله ورضي بما جاء به(3/385)
386
النبي صلى الله عليه وسلم
ومن قرأ بالتشديد يعني المتصدقين من الرجال والمتصدقات من النساء فأدغمت التاء في الصاد وشددت
" وأقرضوا الله قرضا حسنا " يعني يتصدقون محتسبين بطبيعة أنفسهم صادقين من قلوبهم " يضاعف لهم " الحسنات والثواب بكل واحد عشرة إلى سبعمائة إلى ما لا يحصى " ولهم أجر كريم " يعني ثوابا حسنا في الجنة
ثم قال عز وجل " والذين آمنوا بالله ورسله " يعني صدقوا بتوحيد الله وصدقوا بجميع الرسل " أولئك هم الصديقون " والصديق اسم للمبالغة في الفعل يقال رجل صديق كثير الصدق
وقال ابن عباس فمن آمن بالله ورسله فهو من الصديقين
ثم قال " والشهداء عند ربهم " قال مقاتل هذا استئناف فقال
" والشهداء " يعني من استشهد عند ربهم
يعني يطلب شهادته على الأمم " لهم أجرهم " يعني ثوابهم " ونورهم " ويقال هذا بناء على الأول
يعني " أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم " يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة
ويقال معناه " أولئك هم الصديقون " " وأولئك هم الشهداء " عند ربهم ويكون لهم أجرهم ونورهم
قال مجاهد كل مؤمن صديق شهيد
ثم وصف حال الكفار فقال عز وجل " والذين كفروا " يعني جحدوا بوحدانية الله تعالى " وكذبوا بآياتنا " يعني جحدوا بالقرآن " أولئك أصحاب الجحيم "
سورة الحديد 20
ثم قال عز وجل " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " يعني باطل " ولهو "
يعني فرح يلهون فيها " وزينة " يعني زينة الدنيا " وتفاخر بينكم " في الحسب " وتكاثر في الأموال والأولاد " تفتخرون بذلك
وروى إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قام في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها )
ثم ضرب للدنيا مثلا آخر فقال " كمثل غيث " يعني كمثل مطر نزل من السماء فنبت به الزرع والنبات " أعجب الكفار نباته " يعني فرح الزارع بنباته ويقال " أعجب الكفار " يعني الكفار بالله لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين
ويقال " الكفار " كناية عن الزراع لأن الكفر في اللغة هو التغطية ولهذا سمي الكافر كافرا لأنه يغطي الحق بالباطل فسمي الزراع كفارا لأنهم يغطون الحب تحت الأرض وليس ذلك الكفر الذي هو ضد الإيمان والطريقة الأولى أحسن إن أراد به الكفار لأن ميلهم إلى الدنيا أشد " ثم يهيج " يعني ييبس فيتغير " فتراه مصفرا " بعد خضرته " ثم يكون حطاما " يعني يابسا
ويقال " حطاما " يعني(3/386)
387
هالكا فشبه الدنيا بذلك لأنه لا يبقى ما فيها كما لا يبقى هذا النبت و " في الآخرة عذاب شديد " لمن افتخر بالدنيا واختارها " ومغفرة من الله ورضوان " لمن ترك الدنيا واختار الآخرة على الدنيا
ويقال عذاب شديد لأعدائه ومغفرة من الله لأوليائه
ثم قال " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " يعني كالمتاع الذي يتخذ من الزجاج والخزف إنه يسرع إلى الفناء ولا يبقى إلا العمل الصالح
سورة الحديد 21
ثم قال عز وجل " سابقوا إلى مغفرة من ربكم " يعني سارعوا بالأعمال الصالحة ويقال بادروا بالتوبة وقال مكحول سابقوا إلى تكبيرة الافتتاح " وجنة " يعني إلى جنة " عرضها كعرض السماء والأرض " يعني لو ألصق بعضها إلى بعض
يعني سبع سموات وسبع أرضين ومدت مد الأديم لكان عرض الجنة أوسع من ذلك
وإنما بين عرضها ولم يبين طولها
ويقال لو جعلت السموات والأرض خردلا لكانت الجنة بعدد ذلك وهذا مثل يعني إنها أوسع شيء رأيتموه " أعدت للذين آمنوا بالله ورسله " يعني خلقت وهيئت للذين صدقوا بوحدانية الله تعالى وصدقوا برسله " ذلك فضل الله " يعني ذلك الثواب فضل الله على العباد " يؤتيه من يشاء " يعني يعطيه من يشاء من عباده وهم المؤمنون " والله ذو الفضل العظيم " يعني ذو العطاء العظيم وذو المن الجسيم
سورة الحديد 22 - 23
قوله تعالى " ما أصاب من مصيبة في الأرض " يعني من قحط المطر وغلاء السعر وقلة النبات ونقص الثمار " ولا في أنفسكم " من البلايا والأمراض والأوجاع
" إلا في كتاب " يعني إلا في اللوح المحفوظ " من قبل أن نبرأها " يعني من قبل أن نخلق تلك النسمة
وذكر الربيع بن أبي صالح الأسلمي قال دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج وأراد قتله فبكى رجل من قومه فقال سعيد ما يبكيك قال لما أصابك
قال فلا تبك قد كان في علم الله تعالى أن يكون هذا ألم تسمع قول الله تعالى " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " يعني من قبل أن نخلقها
ويقال قبل أن نخلق تلك النفس " إن ذلك على الله يسير " يعني هينا " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " يعني لكيلا تحزنوا " على ما فاتكم " من الرزق والعافية إذا علمتم أنها مكتوبة عليكم(3/387)
388
قبل خلقكم " ولا تفرحوا بما آتاكم " يعني بما أعطاكم في الدنيا ولا تفتخروا بذلك " والله لا يحب كل مختال فخور " يعني متكبرا فخورا بنعم الله تعالى ولا يشكروه
قرأ أبو عمرو " بما أتاكم " بغير مد والباقون بالمد
فمن قرأ بغير مد فمعناه لكيلا تفرحوا بما جاءكم من حطام الدنيا فإنه إلى نفاد
ومن قرأ بالمد يعني بما أعطاكم
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن من جعل الفرح شكرا والمصيبة صبرا
سورة الحديد 24 - 25
ثم قال عز وجل " الذين يبخلون " يعني لا يحب الذي يبخلون يعني يمسكون أموالهم ولا يخرجون منها حق الله تعالى " ويأمرون الناس بالبخل " ويقال الذين يبخلون يعني يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم " ويأمرون الناس بالبخل " يعني يكتمون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته
" ومن يتول " يعني يعرض عن النفقة ويقال يعرض عن الإيمان " فإن الله هو الغني الحميد " يعني غني عن نفقتهم وعن إيمانهم " الحميد " في فعاله
قرأ حمزة والكسائي " ويأمرون الناس بالبخل " بنصب الخاء والباء وقرأ الباقون بضم الباء وإسكان الخاء ومعناهما واحد
قرأ نافع وابن عامر " فإن الله الغني الحميد " بحذف " هو " هكذا في مصاحف أهل الشام والمدينة ومعناه إن الله الغني الحميد الذي لا غني مثله
والباقون " فإن الله هو الغني الحميد " بإثبات هو وهو للفرد ويقال للصلة
ثم قال " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات " يعني بالأمر والنهي والحلال والحرام " وأنزلنا معهم الكتاب " يعني أنزلنا عليهم الكتاب ليعلموا أمتهم " والميزان " يعني العدل
ويقال هو الميزان بعينه أنزل على عهد نوح عليه السلام " ليقوم الناس بالقسط " يعني لكي يقوم الناس " بالقسط " يعني بالعدل " وأنزلنا الحديد " يعني وجعلنا الحديد " فيه بأس شديد " يعني فيه قوة شديدة في الحرب
وعن عكرمة أنه قال " وأنزلنا الحديد " يعني أنزل الله تعالى الحديد لآدم عليه السلام العلاة والمطرقة والكلبتين " فيه بأس شديد "
ثم قال عز وجل " ومنافع للناس " يعني في الحديد " منافع للناس " مثل السكين والفأس والإبرة
يعني من معايشهم
" وليعلم الله من ينصره " يعني ولكن يعلم الله من ينصره على عدوه " ورسله بالغيب " بقتل أعدائه كقوله " إن تنصروا الله ينصركم " ويقال لكي يرى الله من استعمل هذا السلاح في طاعة الله تعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم " بالغيب " يعني يصدق بالقلب " إن الله قوي " في أمره " عزيز " في ملكه(3/388)
389
سورة الحديد 26 - 27
ثم قال عز وجل " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم " يعني بعثناهما إلى قومهما " وجعلنا في ذريتهما " يعني في نسليهما " النبوة والكتاب " وكان فيهم الأنبياء مثل موسى وهارون وداود ويونس وسليمان وصالح ونوح وإبراهيم عليهم السلام " فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون " يعني كثير من ذريتهم تاركون للكتاب
قوله عز وجل " ثم قفينا على آثارهم " يعني وصلنا وأتبعنا على آثارهم " برسلنا " يعني واحدا بعد واحد " وقفينا بعيسى ابن مريم " يعني وأرسلنا على آثارهم بعيسى ابن مريم " وآتيناه الإنجيل " يعني أعطينا عيسى الإنجيل " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه " يعني الذين آمنوا به وصدقوه واتبعوا دينه " رأفة ورحمة " يعني المودة والمتوادين بعضهم بعضا
ويقال الرأفة على أهل دينهم يرحم بعضهم بعضا وهم الذين كانوا على دين عيسى لم يتهودوا ولم يتنصروا
ثم استأنف الكلام فقال " ورهبانية ابتدعوها " يعني ابتدعوا رهبانية " ما كتبناها عليهم " يعني لم تكتب عليهم الرهبانية " إلا ابتغاء رضوان الله " وذلك أنه لما كثر المشركون خرج المسلمون منهم فهربوا واعتزلوا في الغيران وابتغوا الصوامع فطال عليهم الأمد ورجع بعضهم عن دين عيسى ابن مريم وابتدعوا النصرانية
قال الله تعالى " ابتدعوها " يعني الرهبانية والخروج إلى الصوامع يعني باعدوا التبتل للعبادة " ما كتبناها عليهم " يعني ما أوجبنا عليهم ولم نأمرهم إلا ابتغاء رضوان الله يعني أمرناهم بما يرضي الله تعالى لا غير ذلك
ويقال " ابتدعوها " لطلب رضى الله تعالى " فما رعوها حق رعايتها " يعني لم يحافظوا على ما أوجبوا على أنفسهم
ويقال فما أطاعوا الله حين تهودوا وتنصروا
قال الله تعالى " فآتينا الذين آمنوا منهم " يعني أعطينا الذين ثبتوا على ما أوجبوا على أنفسهم وثبتوا على الإيمان " أجرهم " في الآخرة " وكثير منهم فاسقون " يعني عاصين
وهم الذين تهودوا
وفي هذه الآية دليل وتنبيه للمؤمنين أن من أوجب على نفسه شيئا لم يكن واجبا عليه أن يتبعه ولا يتركه فيستحق اسم الفسق
وروي عن بعض الصحابة أنه قال عليكم بإتمام هذه التراويح لأنها لم تكن واجبة عليكم فقد أوجبتموها على أنفسكم فإنكم إن تركتموها صرتم فاسقين ثم قرأ هذه الآية " وكثير منهم فاسقون "(3/389)
390
سورة الحديد 28 - 29
ثم قال عز وجل " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله " يعني أطيعوه فيما يأمركم به وفيما ينهاكم عنه " وآمنوا برسوله " محمد صلى الله عليه وسلم يعني اثبتوا على الإسلام بعد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ويقال يا أيها الذين آمنوا بعيسى ابن مريم آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم " يؤتكم كفلين من رحمته " يعني أجرين من فضله ويقال لما نزلت في أهل الكتاب " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " [ القصص 54 ] حزن المسلمون فنزل فيهم " يؤتكم كفلين من رحمته " وأصل الكفل النصيب يعني نصيبين من رحمته أحدهما بإيمانه بنبيه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم والآخر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل " ويجعل لكم نورا تمشون به " يعني يجعل لكم سبيلا واضحا تهتدون به " ويغفر لكم " يعني يغفر لكم ذنوبكم " والله غفور رحيم " يعني يغفر الذنوب للمؤمنين " رحيم " بهم " لئلا يعلم أهل الكتاب " يعني لكيلا يعلم و ( لا ) لا مؤكدة في الكلام ومعناه لأن يعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله ورحمته يعني مؤمني أهل الكتاب يعلمون أنهم لا يقدرون من فضل الله إلا برحمته " وأن الفضل بيد الله " يعني الثواب من الله تعالى " يؤتيه من يشاء " يعني من يعطيه من يشاء من كان أهلا لذلك من العبادة " والله ذو الفضل العظيم " يعني هو المعطي وهو المانع وقد ذكرناه والله أعلم بالصواب(3/390)
391
سورة المجادلة
مدنية وهي اثنتان وعشرون آية
سورة المجادلة 1
قوله تبارك تعالى " قد سمع الله قول التي تجادلك " يعني تخاصمك " في زوجها " يعني تخاصمك من قبل زوجها
روى أبو العالية الرياحي أن الآية نزلت في شأن أوس بن الصامت وفي امرأته خولة بنت دعلج وعن عكرمة أنه قال نزلت في امرأة اسمها خولة بنت ثعلبة وفي زوجها أوس بن الصامت جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أراك إلا وقد حرمت عليه )
قالت انظر يا نبي الله جعلني الله فداك في شأني وجعلت تجادله وعائشة رضي الله عنها تغسل رأس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة رضي الله عنها اقصري حديثك ومجادلتك يا خولة أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تربد ليوحى إليه فأنزل الله تعالى " قد سمع الله قول التي تجادلك "
وروى سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة قال كان طلاقهم في الجاهلية الظهار والإيلاء فلما جاء الإسلام جعل الله تعالى في الظهار ما جعل وجعل في الإيلاء ما جعل
ثم قال " وتشتكي إلى الله " يعني تتضرع المرأة إلى الله مخافة الفرقة " والله يسمع تحاوركما " يعني محاورتكما ومراجعتكما " إن الله سميع بصير " يعني " سميع " لمقالة خولة " بصير " بأمرها وقال مقاتل هي خولة بنت ثعلبة
سورة المجادلة 2 - 4(3/391)
392
قوله تعالى " الذين يظاهرون منكم من نسائهم " قرأ عاصم " يظاهرون " بضم الياء وكسر الهاء والتخفيف من ظاهر يظاهر
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " يظهرون " بنصب الياء والهاء مع التشديد وهو في الأصل يتظهرون فأدغمت التاء في الظاء والمعنى في هذا كله واحد يقال ظاهر من امرأته وتظهر منها وأظهر منها إذا قال لها أنت علي كظهر أمي
ثم قال " ما هن أمهاتهم " وروى المفضل عن عاصم " أمهاتهم " بضم التاء لأنه خبر ما كقولك ما زيد عالم وقرأ الباقون بالكسر لأن التاء في موضع النصب فصار خفضا لأنها تاء الجماعة وهي لغة أهل الحجاز فينصبون خبر " ما " كقوله ما هذا بشرا ما هن كأمهاتهم في الحرمة " إن أمهاتهم " يعني ما أمهاتهم " إلا اللائي ولدنهم " يعني الأم التي ولدته والأم التي أرضعته لأنه قال في موضع آخر " وأمهاتكم التي أرضعنكم " [ النساء 23 ]
ثم قال " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " يعني قولا منكرا وكذبا " وإن الله لعفو غفور " يعني ذو تجاوز " غفور " حيث جعل الكفارة لرفع الحرمة ولم يجعل فرقة بينهما
ثم قال " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " يعني يعودون لنقض ما قالوا ولرفع ما قالوا في الجاهلية " فتحرير رقبة " يعني فعليه تحرير رقبة ويقال " ثم يعودون لما قالوا " فيه تقديم وتأخير يعني ثم يعودون فتحرير رقبة لما قالوا
ويقال " ثم يعودون لما قالوا " في الجاهلية وذلك أنهم كانوا يتكلمون بهذا القول فيرجعون إلى ذلك القول بعد الإسلام وقال بعضهم لا تجب الكفارة حتى يقول مرتين لأنه قال " ثم يعودون لما قالوا " يعني يعودون مرة أخرى " فتحرير رقبة " هذا القول خلاف جميع أهل العلم وإنما تجب الكفارة إذا قال مرة واحدة
والكفارة ما قال الله تعالى " فتحرير رقبة " [ النساء 92 ] يعني عتق رقبة " من قبل أن يتماسا " يعني من قبل أن يجامعها
ويقال من قبل أن يمس كل واحد منهما صاحبه " ذلكم توعظون به " يعني هذا الحكم الذي تؤمرون به " والله بما تعملون خبير " من الوفاء وغيره
وقوله تعالى " فمن لم يجد " يعني من لم يجد الرقبة " فصيام شهرين متتابعين " يعني فعليه صيام شهرين متتابعين لا يفصل بينهما " من قبل أن يتماسا " يعني من قبل أن يمس كل واحد منهما صاحبه
وفي الآية دليل أن المرأة لا يسعها أن تدع الزوج يقربها قبل الكفارة لأنه نهاهما جميعا عن المسيس قبل الكفارة واتفقوا على أنه إذا أفطر في شهرين يوما بغير عذر عليه أن يستقبل واختلفوا فيمن أفطر لمرض أو عذر أو غيره
قال عطاء إذا أفطر من مرض فالله أعذره بالعذر
ببدله ولا يستأنف
وقال طاوس يقضي ولا يستأنف وهكذا قال الحسن وسعيد بن المسيب فهؤلاء
كلهم قالوا لا يستقبل وقال إبراهيم النخعي والزهري والشعبي يستقبل وهكذا قال عطاء الخراساني والحكم بن كيسان وبه قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم(3/392)
393
ثم قال " فمن لم يستطع " يعني لم يستطع الصيام " فإطعام ستين مسكينا " يعني فعليه إطعام ستين مسكينا في قول أهل المدينة لكل مسكين صاع من حنطة أو تمر
وفي قول أهل العراق منوان حنطة أو صاع من تمر بدليل ما روى سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياض قال كنت أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من أهلي فتظاهرت من أهلي حتى ينسلخ الشهر فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذا انكشف لي منها شيء فواقعتها فلما أصبحت أخبرت قومي فقلت اذهبوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما نذهب وما نأمن أن ينزل فيك قرآن فأتيته فأخبرته فقال ( حرر رقبة ) فقلت ما أملك إلا رقبتي قال ( فصم شهرين ) قلت وهل أصابني إلا من قبل الصيام قال ( فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا ) قلت والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا ما لنا طعام
ثم قال ( انطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك ) فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم فقد بين في هذا الخبر أنه يجب وسقا من تمر والوسق ستون صاعا بالاتفاق
ثم قال " ذلك لتؤمنوا " يعني هذا الذي ذكر في أمر الكفارة لتعلموا أن الله يعلم سرائركم " لتؤمنوا بالله " يعني لتصدقوا بوحدانية الله تعالى " ورسوله " يعني وتصدقوا برسوله " وتلك حدود الله " يعني هذه فرائض الله وأحكامه " وللكافرين عذاب أليم " يعني للذين لا يؤمنون بالله وبرسوله
وروي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المرأة لتناجي النبي صلى الله عليه وسلم يسمع بعض كلامها ويخفى عليه بعضه إذ أنزل الله تعالى " قد سمع الله قول النبي تجادلك في زوجها " وهكذا قال الأعمش
سورة المجادلة 5 - 8(3/393)
394
قوله تعالى " إن الذين يحادون الله ورسوله " يعني يعادون ويشاقون الله ورسوله ويقال يشاقون أولياء الله ورسوله يعني الذين يشاقون أولياء الله لأن أحدا لا يعادي الله ولكن من عادى أولياء الله فقد عادى الله تعالى
ثم قال " كبتوا كما كبت الذين من قبلهم " قال مقاتل أخذوا كما أخذ الذين من قبلهم من الأمم ويقال عذبوا كما عذب الذين من قبلهم وقال أبو عبيد يعني أهلكوا ويقال أغيظوا كما غيظ الذين من قبلهم والكبت هو الغيظ ويقال أحزنوا وقال الزجاج أذلوا وغلبوا " وقد أنزلنا آيات بينات " يعني القرآن فيه بيان أمره ونهيه ويقال " آيات " واضحات " وللكافرين عذاب مهين " يهانون فيه
ثم قال " يوم يبعثهم الله جميعا " " يوم " صار نصبا لنزع الخافض يعني لهم عذاب مهين في " يوم يبعثهم الله جميعا " الأولين والآخرين يبعثهم الله من قبورهم " فينبئهم بما عملوا " من خير أو شر ليعلموا وجوب الحجة عليهم " أحصاه الله ونسوه " يعني حفظ الله عليهم أعمالهم وهم نسوا أعمالهم ويقال " ونسوه " يعني وتركوا العمل في الدنيا " والله على كل شيء شهيد " يعني شاهدا بأعمالهم
ثم قال " ألم تر أن الله يعلم " يعني ألم تعلم اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني أنك تعلم ويقال معناه إني أعلمتك أن الله يعلم " ما في السموات وما في الأرض "
يعني يعلم سر أهل السموات وسر أهل الأرض " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " يعني لا يتناجى ثلاثة فيما بينهم ولا يتكلمون فيما بينهم بكلام الشر إلا هو رابعهم لأنه يعلم ما يقولون فيما بينهم
" ولا خمسة إلا هو سادسهم " يعني كان هو سادسهم لأنه يعلم ما يقولون فيما بينهم " ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم " يعني عالم بهم وبأحوالهم " أينما كانوا " في الأرض
" ثم ينبئهم بما عملوا " يعني يخبرهم بما عملوا يوم القيامة من خير أو شر
وذلك أن نفرا كانوا يتناجون عند الكعبة قال بعضهم لبعض لا ترفعوا أصواتكم حتى لا يسمع رب محمد صلى الله عليه وسلم
ويقال إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين فينظرون نحو المؤمنين فإذا رأوهم ينظرون نحوهم تركوا كلامهم فأخبرهم الله تعالى أن الله يعلم ما يقولون فيما بينهم ونهاهم أن يتناجوا فيما بينهم دون المؤمنين
فامتنعوا عن ذلك ثم عادوا إلى النجوى فنزل " إن الله بكل شيء عليم " ثم نزل " ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى " يعني عن قول السر فيما بينهم " ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم " يعني بالكذب " والعدوان " يعني بالجور والظلم " ومعصية الرسول " يعني خلاف أمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم
قرأ حمزة " وينتجون " والباقون "
ويتناجون " وهما لغتان يقال تناجى القوم وانتجوا
ثم قال " وإذا جاؤوك " يعني إذا جاءك اليهود " حيوك بما لم يحيك به الله " وذلك(3/394)
395
أنهم كانوا يقولون إذا دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم السام عليكم
فيقول ( وعليكم )
فقالت عائشة رضي الله عنها وعليكم السام لعنكم الله وغضب عليكم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش )
قالت أو لم تسمع ما قالوا قال ( أو لم تسمعي ما رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في )
فقالت اليهود فيما بينهم لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول لاستجيب دعاؤه علينا حيث قال عليكم فنزل " وإذا جاؤوك حيوك " يعني سلموا عليك " بما لم يحيك به الله " يعني بما لم يأمرك به الله أن تحيي به ويقال بما لم يسلم عليك به الله
" ويقولون في أنفسهم " يعني فيما بينهم
" لولا يعذبنا الله " يعني هلا يعذبنا الله " بما نقول " لنبيه يقول الله تعالى " حسبهم جهنم " يعني مصيرهم إلى جهنم " يصلونها " يعني يدخلونها " فبئس المصير " ما صاروا إليه
سورة المجادلة 9 - 10
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم " قال مقاتل " يا أيها الذين آمنوا " باللسان دون القلب " إذا تناجيتم " فيما بينكم " فلا تتناجوا بالإثم والعدوان " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية كان المنافقون يتناجون فيما بينهم ليخونوا المؤمنين
وهذا الخطاب للمخلصين في قول بعضهم لأن الله تعالى يأمرهم أن لا يتناجوا بالإثم والعدوان كفعل المنافقين يعني بالعداوة والظلم " ومعصية الرسول " يعني خلاف أمر الرسول أن لا تخالفوا أمره " وتناجوا بالبر والتقوى " يعني بالذي أمركم الله تعالى به بالطاعة والتقى يعني ترك المعصية
ثم خوفهم فقال " واتقوا الله " يعني اخشوا الله وقيل اجتنبوا مخالفة الله فلا تتناجوا بمثل ما تتناجى اليهود والمنافقون
" الذي إليه تحشرون " بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم
ثم قال عز وجل " إنما النجوى من الشيطان " يعني نجوى المنافقين من تزيين الشيطان
قال قتادة إذا رأى المسلمون المنافقين جاؤوا متناجين فشق عليهم فنزل " إنما النجوى من الشيطان " يعني نجوى المنافقين في المعصية من الشيطان
" ليحزن الذين آمنوا " قرأ نافع " ليحزن الذين آمنوا " بضم الياء وكسر الزاي والباقون بالنصب ومعناهما واحد(3/395)
396
ثم قال " وليس بضارهم شيئا " يعني ليس نجوى المنافقين يضر شيئا للمؤمنين أي لا يضرهم " إلا بإذن الله " إلا أن يشاء الله
ويقال ويحكم الله ويقال يقضي الله إلا وأن يشاء الله
ثم أمر المؤمنين بأن يتوكلوا على الله وهو قوله تعالى " وعلى الله فليتوكل المؤمنون "
سورة المجادلة 11
ثم قال عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس "
يعني في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عاصم " في المجالس " بلفظ الجمع والباقون " في المجلس " يعني في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم
نزلت في ثابت بن قيس وكان في أذنيه شيء من الثقل فحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذوا مجالسهم فبقي قائما فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( رحم الله من وسع لأخيه ) فنزلت الآية
وروى معمر عن قتادة أنه قال كان الناس يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لهم تفسحوا وهو قوله " إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس " تفسحوا " فافسحوا " يعني وسعوا المجلس
" يفسح الله لكم " " وإذا قيل انشزوا فانشزوا " يعني إذا دعيتم إلى لخير فأجيبوا
وروى معمر عن الحسن قال هذا في الغزو وقال مجاهد " تفسحوا في المجلس " يعني مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة " وإذا قيل انشزوا فانشزوا " إلى كل خير ويقال وقتال عدو وأمر بالمعروف
وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يقيم الرجل الرجل في مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا )
قرأ نافع وابن عامر وعاصم في إحدى الروايتين " انشزوا فانشزوا " بضم الشين والباقون بالكسر وهما لغتان
يقال نشز ينشز ونشز ينشز يعني إذ قيل لكم انهضوا يعني قوموا لا تتثاقلوا ويقال " انشزوا " يعني قوموا للصلاة أو قضاء حق أو شهادة " فانشزوا " يعني انهضوا
ثم قال " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " يعني من كان له إيمان وعلم وكان له فضائل على الذين يقومون وليس بعالم
وقال الضحاك " يرفع الله الذين آمنوا منكم " وقد تم الكلام
ثم قال " والذين أوتوا العلم درجات " يعني لأهل العلم درجات وللعلماء مثل درجة الشهداء وقال مقاتل إذا انتهى المؤمن إلى باب الجنة يقال للمؤمن الذي ليس بعالم ادخل الجنة بعملك ويقال للعالم أقم على باب الجنة واشفع للناس
وقال ابن مسعود " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم " على الذين آمنوا منكم ولم يؤتوا العلم " درجات "
ثم قال " والله بما تعملون خبير " من التفسح في المجلس وغيره(3/396)
397
سورة المجادلة 12 - 13
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول " يعني إذا كلمتم الرسول سرا " فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " يعني تصدقوا قبل كلامكم بصدقة
" ذلك خير لكم " يعني التصدق خير لكم من إمساكه " وأطهر " لقلوبكم وأزكى من المعصية
" فإن لم تجدوا " ما تتصدقون " فإن الله غفور رحيم " لمن لم يجد الصدقة
وذلك أن الأغنياء كانوا يكثرون مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمكنوا الفقراء من سماع كلامه وكان يكره طول مجالستهم وكثرة نجواهم فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند المناجاة فانتهوا عن ذلك فقدرت الفقراء على سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته
وقال مجاهد نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قدم دينارا تصدق به وكلم النبي صلى الله عليه وسلم في عشر كلمات ثم أنزلت الرخصة بالآية التي بعدها وهو قوله " ءأشفقتم " يعني أبخلتم يا أهل الميسرة " أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " فلو فعلتم كان خيرا لكم " فإن لم تفعلوا " وتكرهوا ذلك فإن الله تعالى غني عن صدقاتكم
" وتاب الله عليكم " يعني تجاوز عنكم
" فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " فنسخت الزكاة الصدقة التي عند المناجاة
" وأطيعوا الله ورسوله " فيما يأمركم به وينهاكم عنه
" والله خبير بما تعملون " من الخير والشر والتصدق والنجوى
سورة المجادلة 14 - 16
قوله تعالى " ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم " يعني المنافقين اتخذوا اليهود أولياء وتولوهم ونصحوهم وهم اليهود " وغضب الله عليهم "
ثم قال " ما هم منكم ولا منهم " يعني ليسوا منكم في الحقيقة ولا من اليهود في العلانية وهذا كقوله " لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " وكانوا إذا سألهم المسلمون إنكم تتولون اليهود كانوا يحلفون بالله إنهم من المؤمنين كما قال الله تعالى في آية أخرى " يحلفون بالله إنهم منكم وما هم منكم " فأخبر الله تعالى إنهم لكاذبون في أيمانهم فقال " ويحلفون على الكذب وهم يعلمون " يعني يحلفون أنهم مصدقون في السر وهم يعلمون أنهم(3/397)
398
مكذبون
" أعد الله لهم عذابا شديدا " في الآخرة
" إنهم ساء ما كانوا يعملون " يعني بئس ما كانوا يعملون بولايتهم اليهود وكذبهم وحلفهم
ثم قال عز وجل " اتخذوا أيمانهم جنة " يعني اتخذوا حلفهم ترسا عن القتل والسبي ليأمنوا بها عن القتل والسبي
" فصدوا عن سبيل الله " يعني صدوا وصرفوا الناس عن دين الله تعالى في السر " فلهم عذاب مهين " يهانون فيه
سورة المجادلة 17 - 19
قوله تعالى " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا " يعني لم تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا
" أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " يعني دائمين
ثم قال عز وجل " يوم يبعثهم الله جميعا " يعني المنافقين واليهود " فيحلفون له " يعني يحلفون لله تعالى في الآخرة " كما " كانوا " يحلفون لكم " في الدنيا وحلفهم في الآخرة كما قال الله تعالى في سورة الأنعام " والله ربنا ما كنا مشركين " [ الأنعام 23 ] وروى معمر عن قتادة قال المنافق يحلف لله تعالى يوم القيامة كما كان حلف لأوليائه في الدنيا
ثم قال " ويحسبون إنهم على شيء " يعني يحسبون أيمانهم تنفعهم وأنهم على شيء من الهدى " ألا إنهم هم الكاذبون " في قولهم ويقال " ويحسبون أنهم على شيء " من الدين ويقال " ويحسبون " يعني يحسب المؤمنون " أنهم على شيء " إن المنافقين على شيء من الدين إذا سمعوا حلفهم
قال الله تعالى " ألا إنهم هم الكاذبون " في حلفهم وهم كافرون في السر
ثم قال " استحوذ " يعني غلب " عليهم الشيطان " ويقال استولى عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله يعني منعهم من التوحيد ويقال خذلهم عن طاعة الله تعالى
" أولئك حزب الشيطان " يعني جند الشيطان " ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون " يعني خسروا أنفسهم وأموالهم في الآخرة
سورة المجادلة 20 - 22(3/398)
399
قوله عز وجل " إن الذين يحادون الله ورسوله " يعني يعادون الله ويخالفون الله ورسوله " أولئك في الأذلين " يعني في الأسفلين في الدرك الأسفل من النار وهم المنافقون ويقال " أولئك في الأذلين " يعني في الهالكين
قوله تعالى " كتب الله " يعني قضى الله " لأغلبن أنا ورسلي " يعني " لأغلبن " في الدنيا بالحجة والدلائل في الآخرة ويقال " لأغلبن " يعني لأقهرن أنا ورسلي فتكون العاقبة للمؤمنين
" إن الله قوي عزيز " ويقال " كتب الله " يعني قضى الله ذلك قضاء ثابتا " لأغلبن أنا ورسلي " وغلبة الرسل تكون على نوعين من بعث منهم في الحرب فغلب في الحرب ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة " إن الله قوي عزيز " أي مانع حزبه من أن يذل والعزيز الذي لا يغلب ولا يقهر
ثم قال " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر " يعني البعث بعد الموت
" يوادون من حاد الله ورسوله " يعني يتخذون الخلة والصداقة مع الكافرين
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وفيه نزل " لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة "
ثم قال عز وجل " ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " يعني لا تتخذوا مع الكافرين الصداقة وإن كانوا من أقربائكم
ثم قال " أولئك كتب في قلوبهم الإيمان " يعني الذين لا يتخذون مع الكافرين صداقة هم الذين جعل في قلوبهم الإيمان يعني التصديق " وأيدهم " يعني أعانهم " بروح منه " أي قواهم بنور الإيمان وبإحياء الإيمان وذلك يوصلهم إلى الجنة " ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار " يعني في الآخرة " خالدين فيها " يعني في الجنة
" رضي الله عنهم " بإيمانهم وطاعتهم " ورضوا عنه " بالثواب والجنة
" أولئك حزب الله " يعني جند الله
" ألا إن حزب الله هم المفلحون " يعني الناجون الذين فازوا بالجنة وبنعمة الله تعالى وفضله سبحانه(3/399)
400
سورة الحشر
مدنية وهي عشرون وأربع آيات
سورة الحشر 1 - 2
قول الله تبارك وتعالى " سبح لله ما في السموات " يعني صلى لله ويقال خضع لله ويقال هو التسبيح بعينه " ما في السموات " من الملائكة
" وما في الأرض " يعني من الخلق
" وهو العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره
ثم قال عز وجل " هو الذي أخرج الذين كفروا " يعني يهود بني النضير
" من أهل الكتاب من ديارهم "
وكان بدء أمر بني النضير أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة بعوث أحد البعوث مرثد بن أبي مرثد الغنوي وأمره على سبعة نفر إلى بعض النواحي فساروا حتى جاؤوا بطن الرجيع فنزلوا عند شجرة فأكلوا من تمر عجوة كانت معهم فسقطت نويات بالأرض وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار فكمنوا بالجبل
فجاءت امرأة من هذيل ترعى الغنم فرأت النويات التي سقطت في الأرض فأنكرت صغرهن فعرفت أنها تمر المدينة فصاحت في قومها وقالت أتيتم أتيتم
فجاؤوا يطلبونهم فوجدوهم قد كمنوا في الجبل فقالوا لهم انزلوا ولكم الأمان فقالوا لا نعطي بأيدينا
فقاتلوهم فقتلوا كلهم إلا عبد الله بن طارق فجرحوه وحسبوا أنه قد مات فتركوه فنجا من بينهم وبقي أخوهم عاصم بن ثابت بن الأفلح ففرغ جعبته ثم جعل يرميهم ويرتجز ويقاتلهم حتى فنيت نبله ثم طاعن بالرمح حتى انكسر الرمح وبقي السيف
ثم قال اللهم إني قد حميت دينك أول النهار فاحم جسدي في آخره
وكانوا يجردون من قتل من أصحابه فلما قتلوا عاصما حمته الدبر وهي الذنابير حتى جاء السيل من الليل فذهب به وأسروا خبيب بن عدي ورجلا آخر اسمه زيد بن الديشة فأما خبيب بن عدي فذهبوا به إلى مكة فاشترته امرأة ومعها أناس من قريش قتل لهم قتيل يوم بدر فلما جيء بخبيب جيء به في الشهر الحرام فحبس حتى انسلخ الشهر الحرام ثم خرجوا به من الحرم ليصلبوه فقال لهم اتركوني أصلي ركعتين فصلاهما ثم قال لولا خشيت أن يقولوا جزع(3/400)
401
من الموت لازددت
فقال اللهم ليس هاهنا أحد أن يبلغ عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أنت عني السلام ثم التفت إلى وجوههم وقال اللهم أحصهم عددا وأهلكهم بددا يعني متفرقين ولا تبق منهم أحدا ثم صلبوه
وأما صاحبه الذي أسر معه فاشتراه صفوان بن أمية فقتله بابنه
وأما البعث الثاني فإنه بعث محمد بن سلمة مع أصحابه فقتل أصحابه عن نحو طريق العراق وارتث هو من وسط القتلى فنجا
وأما البعث الثالث فإن عمرو بن مالك كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلي رجالا يعلموننا القرآن ويفقهوننا في الدين فهم في ذمتي وجواري
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر من المهاجرين والأنصار فساروا نحو بئر معونة
فلما ساروا ليلة من المدينة بلغهم أن عمرو بن مالك مات فكتب المنذر بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده فأمده صلى الله عليه وسلم بأربعة نفر منهم عمرو بن أمية الضمري والحارث بن الصمة وسعد بن أبي وقاص ورجل آخر
فساروا حتى بلغوا بئر معونة وكتبوا إلى ربيعة بن مالك نحن في ذمتك وذمة أبيك أفنقدم إليك أم لا فقال أنتم في ذمتي وجواري فأقدموا
فخرج إليهم عامر بن الطفيل واستعان برعل وذكوان وعصية فخرجوا إلى المسلمين فقاتلوهم فقتلوا كلهم إلا عمرو بن أمية الضمري والحارث بن الصمة وسعد بن أبي وقاص كانوا تخلفوا فنزلوا تحت شجرة إذ وقع على الشجرة طير فرمى عليهم بعلقة دم فعرفوا أن الطير قد شرب الدم فقال بعضهم لبعض قد قتل أصحابنا
فصعدوا أعلى الجبل فنظروا فإذا القوم صرعى وقد اعتكفت عليهم الطير فقال الحارث بن الصمة أنا لا انتهي حتى أبلغ مصارع أصحابي
فخرج إليهم فقاتل القوم فقتل منهم رجلين ثم أخذوه فقالوا له ما تحب أن نصنع بك فقال لهم ابلغوا بي مصارع قومي
فلما بلغ مصارع أصحابه أرسلوه فقاتلهم فقتل منهم اثنين
ثم قتل
فرجع عمرو بن أمية الضمري ورجع معه الرجلان الآخران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رجلان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمنين قد كساهما وحملهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أنتما قال كلابيان
فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وأخذ سلبهما ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال له ( بئس ما صنعت حين قتلتهما )
فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه البعوث الثلاثة في ليلة واحدة صلى الصبح في ذلك اليوم وقال في الركعة الثانية ( اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف اللهم العن رعلان وذكوان وبني لحيان اللهم غفارا غفر الله لها وسالم سالمها الله وعصية عصت الله ورسوله )
فجاء أناس من بني كلاب يلتمسون من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الكلابيين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا معه ولا عليه فاستعان(3/401)
402
النبي صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين قبائل الأنصار
فلما بلغ العالية استعان من بني النضير فقال ( أعينوني في عقل أصابني فإن هؤلاء حلفائي )
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعلي إلى بني النضير فقال حيي بن أخطب اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في صفه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال حيي بن أخطب لأصحابه إنما هو في ثلاثة نفر لا ترونه أقرب من الآن فاقتلوه لا تروا شرا أبدا
فنزل جبريل عليه السلام وأخبره فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يريد حاجة حتى دخل المدينة فجاء إنسان فسألوه عنه فقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم دخل أول البيوت
فقاموا من هناك فقال حيي بن أخطب عجل أبو القاسم فقد أردنا أن نطعمه ونعطيه الذي سأل
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جمع الناس وجاء بالجيش واختلفوا في قتل كعب بن الأشرف فقال بعضهم قد كان قتل قبل ذلك وقال بعضهم قتل في هذا الوقت
فبعث محمد بن سلمة فخرج محمد بن سلمة وأبو نائلة ورجلان آخران فأتوه بالليل وقالوا أتيناك نستقرض منك شيئا من التمر فخرج إليهم فقتلوه ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إلى بني النضير فقال لهم اخرجوا منها فإذا جاء وقت الجذاذ فجذوا ثماركم
فقالوا لا نفعل
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم نحن نعطيك الذي سألتنا
قال ( لا ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل إلا الحلقة ) يعني السلاح قالوا لا
فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة وأمر بقطع نخيلهم ونقب بيوتهم
فلما رأت اليهود ما يصنعون بهم فكلما نقب المسلمون بيتا فروا إلى بيت آخر ينتظرون المنافقين
وقد المنافقون قالوا لهم لئن أخرجتم لنخرجن معكم وإن قوتلتم لننصرنكم
فلما رأوا أنه لا يأتيهم أحد من المنافقين ولحقهم من الشر ما لحقهم قال بعضهم لبعض ليس لنا مقام بعد النخيل فنحن نعطيك يا أبا القاسم على أن تعتق رقابنا إلا الحلقة ونخرج فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة
فأخذ أموالهم فقسمها بين المهاجرين ولم يعطها أحدا من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين مثل حاجة المهاجرين وهما سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة فنزلت هذه الآية " وهو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم " يعني بني النضير " لأول الحشر " يعني الإجلاء من المدينة
وقال عكرمة من شك بأن الحشر هو الشام فليقرأ هذه الآية " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب " إلى قوله " لأول الحشر "
فلما قال
لهم اخرجوا من المدينة قالوا إلى أين قال إلى أرض المحشر
فقال إنهم أول من يحشروا من ديارهم
ثم قال " ما ظننتم أن يخرجوا " يعني ما ظننتم أيها المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم
وذلك إن بني النضير كان لهم عز ومنعة وظن الناس أنهم بعزهم ومنعتهم لا يخرجون من(3/402)
403
ديارهم
" وظنوا أنهم " يعني وحسب بنو النضير أنهم " مانعتهم حصونهم من الله " يعني أن حصونهم تمنعهم من عذاب الله
" فأتاهم الله " يعني أتاهم أمر الله ويقال " فأتاهم الله " بما وعد لهم
" من حيث لم يحتسبوا " يعني لم يظنوا أنه ينزل بهم وهو قتل كعب بن الأشرف ويقال خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم
" وقذف في قلوبهم الرعب " يعني جعل في قلوبهم الخوف
" يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين "
وذلك أنهم حصنوا أزقتهم بالدروب وكان المسلمون ينقبون بيوتهم ويدخلونها وكان اليهود ينقبون بيوتهم من الجانب الآخر ويخرجون منها
ويقال كان اليهود ينقبون بيوتهم ليرموا بها على المسلمين وكان المسلمون يخربون نواحي بيوتهم ليتمكنوا من الحرب
ويقال كان اليهود أنفقوا في بيوتهم فلما علموا أنهم يخرجون منها جعلوا يخربونها كيلا يسكنها المؤمنون وكان المسلمون يخربونها ليدخلوا عليهم
قرأ أبو عمرو " يخربون " بالتشديد والباقون بالتخفيف
قال بعضهم هما لغتان خرب وأخرب
وروي عن الفراء أنه قال من قرأ بالتشديد فمعناه يهدمون ومن قرأ بالتخفيف فمعناه يعطلون
ثم قال " فاعتبروا يا أولي الأبصار " يعني من له البصاير في أمر الله
سورة الحشر 3 - 5
قوله عز وجل " ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء " يعني لولا أن قضى الله عليهم الإخراج من جزيرة العرب إلى الشام " لعذبهم في الدنيا " يعني لعذبهم بالقتل والسبي
" ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم " يعني ذلك الذي أصابهم من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة
" شاقوا الله ورسوله " يعني خالفوا الله ورسوله في الدين ويقال عادوا الله ورسوله
" ومن يشاق الله " وأصله من يشاقق إلا أن إحدى القافين أدغمت في الأخرى وشددت يعني من يخالف الله ورسوله في الدين " فإن الله شديد العقاب " يعني إذا عاقب فعقوبته شديدة
قوله عز وجل " ما قطعتم من لينة " يعني من نخلة " أو تركتموها قائمة على أصولها " فلم تقطعوها " فبإذن الله " يعني بأمر الله
وقال عكرمة لما دخل المسلمون على بني النضير أخذوا يقطعون النخيل فنهاهم بعضهم وتأولوا قوله تعالى " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل " [ البقرة 205 ] وقال بعضهم نقطع وتأولوا قوله تعالى " ولا ينالون من عدو نيلا " [ التوبة 120 ] فأنزل الله تعالى " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله "
وقال الزهري في قوله " ما قطعتم من لينة " قال اللينة ألوان(3/403)
404
النخل كلها إلا العجوة وقال الضحاك اللينة النخلة الكرمة والشجرة الطيبة المثمرة وقال مجاهد اللينة النخلة المثمرة
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل وقالوا إنما هي مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعها وبتحليل من قطعها وإنما قطعها وتركها بإذن الله تعالى
وعن ابن عباس أنه قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع النخل فشق ذلك على بني النضير مشقة شديدة فقالوا للمؤمنين تزعمون أنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون في الأرض فدعوها قائمة فإنما هي لمن غلب فنزل " ما قطعتم من لينة " واللينة هي النخلة كلها ما خلا العجوة " أو تركتموها قائمة على أصولها " وهي العجوة " فبإذن الله " يعني الترك والقطع بإذن الله
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عبد الله بن سلام وأبا ليلى المازني بقطع النخل فكان أبو ليلى يقطع العجوة وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون فقيل لأبي ليلى لم تقطع العجوة قال لأن فيه كبت العدو
وقيل لابن سلام لم تقطع اللون قال لأني أريد أن تبقى العجوة للمسلمين
فأنزل الله تعالى رضا بما فعل الفريقان فقال الله " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله "
ثم قال عز وجل " وليخزي الفاسقين " يعني وليذل العاصين الناقضين العهد
سورة الحشر 6 - 7
ثم قال عز وجل " وما أفاء الله على رسوله " يعني ما أعطى الله رسوله من بني النضير وذلك أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم أموالهم بين جميع المسلمين كما قسم أموال بدر فلم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقسم بين فقراء المهاجرين فنزل " وما أفاء الله على رسوله " " منهم " يعني ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير " فما أوجفتم " يعني ما أجريتم " عليه من خيل ولا ركاب " يعني لا على خيل ولا على إبل أتيتم بل إنكم مشيتم مشيا حتى فتحتموها
ويقال أوجف الفرس والبعير إذا أسرعا يعني لم يكن عن غزوة أوجفتم خيلا ولا ركابا
" ولكن الله يسلط رسله " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " على من يشاء " من بني النضير
" والله على كل شيء قدير " من النصرة والغنيمة
ثم بين لمن يعطي تلك الغنائم فقال " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " يعني(3/404)
405
من بني النضير وفدك ويقال بني قريظة والنضير وخيبر
" فلله وللرسول " يعني لله أن يأمركم فيه بما أحب
وروى عبد الرازق عن معمر عن الزهري قال كانت بنو النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خالصا لم يفتحوها عنوة ولكن افتتحوها على صلح فقسمها بين المهاجرين
ثم قال " ولذي القربى " يعني قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم
" واليتامى والمساكين وابن السبيل "
وروى مالك بن أنس عن عمر قال كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا بني النضير وخيبر وفدك
فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه وأما فدك فكانت لابن السبيل وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء فقسم جزأين بين المسلمين وحبس جزءا للنفقة
فما فضل عن أهله رده إلى فقراء المسلمين
ثم قال " كي لا يكون " المال " دولة "
قرأ أبو جعفر المدني " دولة " بالضم وجعله اسم يكون وقراءة العامة بالنصب يعني لكي لا يكون دولة
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي " دولة " بنصب الدال والباقون بالضم " دولة " فمن قرأ بالضم فهو اسم المال الذي يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لهذا
وأما النصب فهو النقل والانتقال من حال إلى حال " بين الأغنياء منكم " يعني لكيلا يغلب الأغنياء على الفقراء ليقسموه بينهم
ثم قال " وما آتاكم الرسول فخذوه " يعني ما أعطاكم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة فخذوه ويقال وما أمركم الرسول فاعملوا به " وما نهاكم عنه فانتهوا " يعني فامتنعوا عنه
" واتقوا الله إن الله شديد العقاب " لمن عصاه
سورة الحشر 8 - 10
ثم ذكر أن الفيء للمهاجرين يعني الغنائم " للفقراء المهاجرين " " الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم " يعني تركوا أموالهم وديارهم في بلادهم وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال هذا ابتداء ومعناه عليكم بالفقراء المهاجرين يعني اعرفوا حقهم وصلوهم " الذين أخرجوا من ديارهم " يعني أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم
" يبتغون فضلا من الله(3/405)
406
ورضوانا ) يعني يطلبون رزقا في الجنة ورضوان الله تعالى " وينصرون الله ورسوله " بالسيف يعني يطيعون الله فيما أمرهم بطاعته
" أولئك هم الصادقون " يعني الصادقين في إيمانهم فطابت أنفس الأنصار في ذلك فقالوا هذا كله لهم وأموالنا أيضا لهم
فأثنى الله تعالى على الأنصار فقال عز وجل " والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم " يعني استوطنوا الدار يعني دار المدينة من قبل هجرتهم يعني نزلوا دار الهجرة في المدينة " والإيمان " يعني تبوءوا الإيمان أي كانوا مؤمنين من قبل أن هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قال الله تعالى " يحبون من هاجر إليهم "
يعني يحبون من يقدم إليهم من المؤمنين " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " يعني لا يكون في قلوبهم حسدا مما أعطوا يعني المهاجرين
ويقال " حاجة " يعني حزازة وهو الحزن ويقال " ولا يجدون في صدورهم " بخلا وكراهة بما أعطوا
" ويؤثرون على أنفسهم " في القسمة من الغنيمة يعني تركوها للمهاجرين
" ولو كان بهم خصاصة " يعني حاجة
وروى وكيع عن فضيل بن عمران عن رجل عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار نزل به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي إلى الضيف ما عندك فنزل " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة "
ويقال إن رجلا من الأنصار أهدي له برأس مشوي فقال لعل جاري أحوج مني فبعث إليه
ثم إن جاره بعثه إلى جار آخر فطاف سبعة أبيات ثم عاد إلى الأول فنزل " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة "
قال الله تعالى " ومن يوق شح نفسه " يعني ومن يمنع بخل نفسه " فأولئك هم المفلحون " يعني الناجين
وروى وكيع بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( بريء من الشح من أدى الزكاة وأقرى الضيف وأعطى في النائبة )
وقد أثنى الله تعالى على المهاجرين وعلى الأنصار ثم أثنى على الذين من بعدهم على طريقتهم فقال " والذين جاؤوا من بعدهم " يعني التابعين ويقال يعني الذين هاجروا من بعد الأولين
" يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان " يعني أظهروا الإيمان قبلنا يعني المهاجرين والأنصار
" ولا تجعل في قلوبنا غلا " يعني غشا وحسدا وعداوة " للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " يعني رحيما بعبادك المؤمنين
وفي الآية دليل أن من ترحم على الصحابة واستغفر لهم ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ في المسلمين وله أجر مثل أجر الصحابة
ومن شتمهم أو لم يترحم عليهم أو كان في قلبه غل لهم ليس له حظ في المسلمين لأنه ذكر للمهاجرين فيه حظ ثم ذكر الأنصار ثم ذكر الذين جاؤوا من بعدهم وقد وصفهم الله بصفة الأولين إذ دعا لهم
وفي
الآية دليل أن(3/406)
407
الواجب على المؤمنين أن يستغفروا لإخوانهم الماضين وفيه وينبغي للمؤمنين أن يستغفروا لآبائهم ولمعلميهم الذين علموهم أمور الدين
سورة الحشر 11 - 14
ثم نزل في شأن المنافقين فقال " ألم تر إلى الذين نافقوا " يعني منافقي المدينة
" يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب " يعني بني النضير
" لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا " يعني ولا نطيع محمدا صلى الله عليه وسلم في خذلانكم
" وإن قوتلتم لننصرنكم " يعني لنعينكم
" والله يشهد إنهم لكاذبون " في مقالتهم وإنما قالوا ذلك بلسانهم في غير حقيقة في قلوبهم
فقال الله تعالى " لئن أخرجوا لا يخرجون معهم " يعني لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم
" ولئن قوتلوا لا ينصرونهم " يعني لا يمنعونهم على ذلك
" ولئن نصروهم ليولن الأدبار " يعني ولو أعانوهم لا يثبتون على ذلك ولن ينصروهم " ليولن الأدبار " يعني رجعوا منهزمين
" ثم لا ينصرون " يعني لا يمنعون من الهزيمة
ثم قال عز وجل " لأنتم أشد رهبة " يعني أنتم يا معشر المسلمين " أشد رهبة في صدورهم من الله " يعني خوفهم منكم أشد من عذاب الله في الآخرة
" ذلك بأنهم قوم لا يفقهون " يعني لا يعقلون أمر الله تعالى
ثم أخبر عن ضعف اليهود في الحرب فقال عز وجل " لا يقاتلونكم جميعا " يعني لا يخرجون إلى الصحراء لقتالكم
" إلا في قرى محصنة " يعني حصينة " أو من رواء جدر " يعني يقاتلونكم من وراء الجدار فحذف الألف وهو جمع الجدار
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " من وراء جدار " بالألف والباقون " جدر " بحذف الألف وهو جماعة
فمن قرأ " جدار " فهو واحد يريد به الجمع
ثم قال " بأسهم بينهم شديد " يعني قتالهم فيما بينهم إذا اقتتلوا شديد وأما مع المؤمنين فلا
ثم قال " تحسبهم جميعا " يعني تظن أن المنافقين واليهود على أمر واحد وكلمتهم(3/407)
408
واحدة
" وقلوبهم شتى " يعني قلوب اليهود مختلفة ولم يكونوا على كلمة واحدة
" ذلك بأنهم " يعني ذلك الاختلاف بأنهم " قوم لا يعقلون " يعني لا يعقلون أمر الله تعالى
سورة الحشر 15 - 17
ثم ضرب لهم مثلا فقال عز وجل " كمثل الذين من قبلهم " يعني مثل بني النضير مثل الذين من قبلهم يعني أهل بدر
" قريبا " يعني كان قتال بدر قبل ذلك بقريب وهو مقدار سنتين أو نحو ذلك
" ذاقوا وبال أمرهم " يعني عقوبة ذنبهم " ولهم عذاب أليم " يعني عذابا شديدا في الآخرة
ثم ضرب لهم مثلا آخر وهو مثل المنافقين مع اليهود حين خذلوهم ولم يعينوهم
" كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر " يعني برصيصا الراهب
وروى عدي بن ثابت عن ابن عباس قال كان في بني إسرائيل راهب عبد الله تعالى زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين فيعودهم ويداويهم فيبرؤون على يديه
وأنه أتى بامرأة قد جنت وكان لها أخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى وقع عليها فحملت
فلما استبان حملها لم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى قتلها ودفنها
ثم ذهب الشيطان إلى إخوتها في صورة رجل حتى لقي أحدا من أخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا
فبلغ ذلك إلى ملكهم فسار الملك مع الناس فأتوه فاستنزلوه فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب
فلما رفع على خشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل لك أن تطيعني فيما أقول لك وأخلصك مما أنت فيه فقال نعم
قال اسجد لي سجدة واحدة
فسجد له فذلك قوله " كمثل الشيطان إذا قال للإنسان اكفر " يعني اسجد " فلما كفر " يعني سجد
" قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " قال ذلك على وجه الاستهزاء كذلك المنافقون خذلوا اليهود كما خذل الشطيان الراهب " فكان عاقبتهما " يعني عاقبة الشيطان والراهب " أنهما في النار خالدين فيها " يعني مقيمين فيها
وكان ابن مسعود يقرأ " خالدان فيها " وقراءة العامة " خالدين فيها " بالنصب
وإنما هو نصب على الحال
" وذلك جزاء الظالمين " يعني الخلود في النار جزاء المنافقين والكافرين(3/408)
409
سورة الحشر 18 - 19
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله " يعني اخشوا الله ويقال أطيعوا الله
" ولتنظر نفس ما قدمت لغد " يعني ما عملت لغد وأسلفت لغد أي ليوم القيامة ومعناه تصدقوا واعملوا بالطاعة لتجدوا ثوابه يوم القيامة
ثم قال " واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " من الخير والشر
ثم وعظ المؤمنين بأن لا يتركوا أمره ونهيه كاليهود
ويوحدوه في السر والعلانية ولا يكونوا في المعصية كالمنافقين فقال " ولا تكونوا كالذين نسوا الله " يعني تركوا أمر الله تعالى
" فأنساهم أنفسهم " يعني خذلهم الله تعالى حتى تركوا حظ أنفسهم أن يقدموا خيرا لها
" أولئك هم الفاسقون " يعني العاصين ويقال " ولا تكونوا كالذين نسوا الله " أي تركوا ذكر الله وما أمرهم به " فأنساهم أنفسهم " يعني فترك ذكرهم بالرحمة والتوفيق ويقال " ولا تكونوا كالذين نسوا الله " يعني تركوا عهد الله ونبذوا كتابه وراء ظهورهم " فأنساهم أنفسهم " يعني أنساهم حالهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ولم يقدموا لها خيرا
" أولئك هم الفاسقون " يعني الناقضين للعهد
سورة الحشر 20 - 22
ثم ذكر مستقر الفريقين فقال " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " يعني لا يستوي في الكرامة والهوان في الدنيا والآخرة لأن أصحاب الجنة في الدنيا موفقون منعمون معصومون وفي الآخرة لهم الثواب والكرامة
وأصحاب النار مخذولون في الدنيا معذبون في الآخرة
ويقال " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " في الآخرة لان أصحاب الجنة يتقلبون في النعيم وأصحاب النار يتقلبون في النار والهوان
ثم قال " أصحاب الجنة هم الفائزون " يعني المستعدون الناجون " وأصحاب النار " الهالكون
ثم وعظهم ليعتبروا بالقرآن فقال عز وجل " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " يعني القرآن الذي فيه وعده ووعيده لو أنزل على جبل " لرأيته خاشعا " يعني خاضعا " متصدعا من خشية الله " يعني خاضعا متصدعا ويقال ويرق من خوف عذاب الله فكيف لا يرق هذا الإنسان ويخشع ويقال هذا على وجه المثل يعني لو كان الجبل له تميز لتصدع من الخشية من خشية الله(3/409)
410
ثم قال " وتلك الأمثال نضربها للناس " أي نبينها للناس " لعلهم يتفكرون " أي لكي يتعظوا في أمثال الله يعني فيعتبرون ولا يعصون الله تعالى
ثم قال " هو الله الذي لا إله إلا هو " يعني لا خالق ولا رازق غيره
" عالم الغيب والشهادة " يعني عالم السر والعلانية ويقال الغيب ما غاب عن العباد
والشهادة ما شاهدوه وعاينوه ويقال " عالم " بما كان وبما يكون ويقال " عالم " بأمر الآخرة وبأمر الدنيا
ثم قال " هو الرحمن الرحيم " يعني العاطف على جميع الخلق بالرزق و " الرحيم " بالمؤمنين
سورة الحشر 23 - 24
ثم قال تعالى " هو الله الذي لا إله إلا هو الملك " يعني مالك كل شيء وهو الملك الدائم الذي لا يزول ملكه أبدا
ثم قال " القدوس " يعني الطاهر عما وصفه الكفار ولهذا سمي بيت المقدس يعني المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب
ثم قال " السلام " يعني يسلم عباده من ظلمه ويقال سمى نفسه سلاما لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء
ثم قال " المؤمن " يعني يؤمن أولياؤه من عذابه ويقال " المؤمن " أي يصدق في وعده ووعيده ويقال " المؤمن " يعني قابل إيمان المؤمنين
ثم قال " المهيمن " يعني الشهيد على عباده بأعمالهم ويقال " المهيمن " يعني المويمن فقلبت الواو هاء وهو بمعنى الأمين
ثم قال " العزيز " يعني الذي لا يعجزه شيء عما أراد ويقال " العزيز " الذي لا يوجد مثله
ثم قال " الجبار " يعني القاهر لخلقه على ما أراده ويقال الغالب على خلقه ومعناهما واحد
ثم قال " المتكبر " يعني المتعظم على كل شيء ويقال " المتكبر " الذي تكبر عن ظلم عباده
ثم قال " سبحان الله " يعني تنزيها لله تعالى " عما يشركون " يعني عما وصفه الكفار من الشريك والولد ويقال " سبحان الله " بمعنى التعجب يعني عجبا عما وصفه الكفار من الشريك
قوله تعالى ( هو الله الخالق ) يعني الخالق الخلق في أرحام النساء ويقال خالق(3/410)
411
النطف في أصلاب الآباء " المصور " للولد في أرحام الأمهات ويقال " الخالق " يعني المقدر
" البارئ " الذي يجعل الروح في الجسد ويقال " البارئ " يعني خالق الأشياء ابتداء
ثم قال " له الأسماء الحسنى " يعني الصفات العلى ويقال " له الأسماء الحسنى " وهي تسعة وتسعون اسما وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة "
ثم قال " يسبح له ما في السموات والأرض " يعني يخضع له ما في السموات والأرض يعني جميع الأشياء كقوله " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [ الإسراء 44 ]
ثم قال " وهو العزيز " يعني العزيز في ملكه " الحكيم " في أمره
فإن قال قائل قد قال الله تعالى " فلا تزكوا أنفسكم " [ النجم 32 ] فما الحكمة في أنه نهى عباده عن مدح أنفسهم ومدح نفسه قيل له عن هذا السؤال جوابان أحدهما أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فهو ناقص وإن كان ناقصا لا يجوز له أن يمدح نفسه والله سبحانه وتعالى تام الملك والقدرة فيستوجب به المدح فمدح نفسه ليعلم عباده فيمدحوه
وجواب آخر أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فتلك الخصال أفضال من الله تعالى ولم يكن ذلك بقدرة العبد فلهذا لا يجوز له أن يمدح نفسه
والله سبحانه وتعالى إنما قدرته وملكه له ليس لغيره فيستوجب فيه المدح
ومثال هذا أن الله تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف وقد من الله تعالى على عباده للمعنى الذي ذكرناه في المدح والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم(3/411)
412
سورة الممتحنة
كلها مدنية وهي ثلاث عشرة آية
سورة الممتحنة 1 - 3
قوله سبحانه وتعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدكم أولياء " نزلت في حاطب بن أبي بلتعة العبسي ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهز الجيش للخروج إلى فتح مكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى الغزو ورى بغيره يعني يظهر من نفسه أنه يريد الخروج إلى ناحية أخرى وكان الناس لا يعلمون إلى أي ناحية يريد الخروج
فأمر الناس بأن يتجهزوا إلى الخروج للغزو ولم يعلموا إلى أين يخرج إلا الخواص من أصحابه
فبينما الناس يتجهزون إذ قدمت امرأة من مكة يقال لها سارة مولاة بني عمر بن الصيف بن هشام بن عبد مناف وكانت امرأة مغنية فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ( لماذا جئت ) فقالت جئت لتعطيني شيئا
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ( ما فعلت بعطياتك من شبان قريش ) فقالت منذ قتلتهم ببدر لم يصل إلي شيء إلا القليل
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تعطى شيئا لترجع
فلما أرادت الخروج أتاها حاطب بن أبي بلتعة فقال لها إني معطيك عشرة دنانير وكساء على أن تبلغي إلى أهل مكة كتابا
فأجابته إلى ذلك فخرجت إلى مكة فنزل جبريل عليه السلام في أثرها بالخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي والزبير والمقداد ( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة معها كتاب فخذوه منها )
فخرجوا حتى أتوا الروضة فإذا هي سارة هناك فقالوا لها أخرجي الكتاب
فقالت ما معي كتاب
فألحوا عليها فحلفت أنه ليس معها كتاب فلم يصدقوها حتى نزعت جميع ثيابها فرمت بها إليهم
فنظروا إلى ثيابها فلم يجدوا فيها الكتاب ونظروا في راحلتها وأمتعتها فلم يجدوا فيها الكتاب
فقال بعضهم لبعض تعالوا حتى نرجع
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقول المرأة أصدق أم قول(3/412)
413
جبريل فوالله لا أرجع حتى آخذ منها الكتاب ولأحملن رأسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسل السيف ليضرب رأسها فأخرجت الكتاب من عقاصها
فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ الكتاب فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة وأخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد الخروج إليهم وإنه أراد بالكتاب إليهم مودتهم فقام إليه عمر وقال دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما هذا يا حاطب ) فقال لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكل من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهاليهم فأردت أن أتخذ فيهم يدا يحمون قرابتي وما فعلت هذا كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام
وقد علمت أن الله تعالى منجز وعده ما وعد ألا لينصر نبيه صلى الله عليه وسلم
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( دعوه إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله تعالى قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم ) فنزل " يا أيها الذين آمنوا " فسماهم مؤمنين " لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " يعني في العون والنصرة
" تلقون إليهم بالمودة " يعني تكتبون وتبعثون إليهم بالصحيفة والنصيحة ويقال معناه تخبرونهم كما يخبر الرجل أهل مودته حيث توجهون إليهم بالمودة والنصيحة والكتاب
" وقد كفروا بما جاءكم من الحق " يعني من القرآن والرسول
" يخرجون الرسول وإياكم " يعني أخرجوكم من مكة
" أن تؤمنوا بالله ربكم " يعني لأجل إيمانكم بربكم يعني بوحدانية ربكم
" إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة " يعني لا تلقون إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي وطلب رضاي
" وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم " يعني ما أسررتم وما أظهرتم من المودة لأهل الكفر وأعلنتم الإقرار بالتوحيد
" ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل " يعني من يفعل بعد منكم فقد أخطأ قصد الطريق
ثم قال عز وجل " إن يثقفوكم " وهذا إخبار من الله تعالى للمؤمنين بعداوة كفار مكة إياهم لكيلا يميلوا إليهم فقال " إن يثقفوكم " يعني أن يظهروا عليكم ويقال إن يأخذوكم ويقال إن يقهروكم ويغلبوكم
" يكونوا لكم أعداء " يعني يتبين لكم أنهم أعداؤكم فيظهر لكم عداوتهم عند ذلك
" ويبسطوا إليكم أيديهم " بالقتل والتعذيب " وألسنتهم بالسوء " يعني بالشتم
" وودوا لو تكفرون " يعني تمنوا أن ترجعوا إلى دينهم فإن فعلتم ذلك بسبب قرابتكم
" لن تنفعكم أرحامكم " يعني قرابتكم " ولا أولادكم " الذين كانوا بمكة
" يوم القيامة يفصل بينكم " يعني يفرق بينكم وبينهم يوم القيامة
قرأ
عاصم(3/413)
414
" يفصل بينكم " بنصب الياء وكسر الصاد مع التخفيف يعني يفصل الله بينكم وبينهم يوم القيامة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " يفصل بينكم " بضم الياء ونصب الصاد مع التخفيف على معنى فعل ما لم يسم فاعله والمعنى مثل الأول
وقرأ حمزة والكسائي " يفصل بينكم " بضم الياء وكسر الصاد مع التشديد يعني يفصل الله بينكم والتشديد للتكثير وقرأ ابن عامر " يفصل بينكم " بضم الياء ونصب الصاد مع التشديد على معنى فعل ما لم يسم فاعله والتشديد للتكثير
ويقال الفصل هو القضاء يعني يقضي بينكم على هذا
" والله بما تعملون بصير " يعني عالم بأعمالكم
سورة الممتحنة 4 - 6
قوله عز وجل " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم " يعني هلا فعلتم كما فعل إبراهيم تبرأ من أبيه لأجل كفره ويقال " قد كانت لكم أسوة حسنة " يعني قدوة حسنة وسنة صالحة في إبراهيم فاقتدوا به
" والذين معه " يعني من كان مع إبراهيم من المؤمنين " إذ قالوا لقومهم " لمن كفر من قومهم " إنا براء منكم " يعني من دينكم " ومما تعبدون " يعني براء مما تعبدون " من دون الله " أي براء مما تعبدون من الآلهة
" كفرنا بكم " يعني تبرأنا منكم
قرأ عاصم " أسوة حسنة " بضم الألف والباقون بالكسر وهما لغتان إسوة وأسوة وهما بمعنى الاقتداء
ثم قال " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " يعني حتى تصدقوا بالله وحده فأعلم الله تعالى أن أصحاب إبراهيم تبرؤوا من قومهم وعادوهم لأجل كفرهم فأمر الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بهم
ثم قال " إلا قول إبراهيم " يعني اقتدوا بهم إلا قول إبراهيم " لأبيه لأستغفرن لك " يعني لأدعون لك أن يهديك الله ويكون على هذا التفسير إلا بمعنى لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك يعني لأدعون لك أن يهديك الله يعني إبراهيم تبرأ من قومه لكنه يدعو لأبيه بالهدى
ثم قال " وما أملك لك من الله من شيء " يعني لا أقدر أن أمنعك من عذاب الله من شيء إن لم تؤمن(3/414)
415
ثم علمهم ما يقولون فقال قولوا " ربنا عليك توكلنا " يعني فوضنا أمرنا إليك وأمر أهالينا " وإليك أنبنا " يعني أقبلنا إليك بالطاعة " وإليك المصير " يعني المرجع في الآخرة
قوله تعالى " ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا " فتقتر علينا الرزق وتبسط عليهم فيظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل
ويقال معناه ولا تسلطهم علينا فيرون أنهم على الحق ونحن على الباطل " واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم " وفي قراءة عبد الله بن مسعود " إنك أنت الغفور الرحيم "
وقال بعضهم هذا كله حكاية عن قول إبراهيم أنه دعا ربه بذلك ويقال هذا تعليم لحاطب بن أبي بلتعة هلا دعوت بهذا الدعاء حتى ينجو أهلك ولا يسلط عليهم عدوك
قوله تعالى " لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة " يعني في إبراهيم وقومه في الاقتداء
" لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " يعني لمن يخاف الله ويخاف البعث ويقال " لمن كان يرجو " ثواب الله وثواب يوم القيامة
" ومن يتول " يعني يعرض عن الحق ويقال يأبى عن أمر الله تعالى " فإن الله هو الغني الحميد " يعني " الغني " عن عباده " الحميد " في أفعاله
سورة الممتحنة 7 - 9
ثم قال عز وجل " عسى الله أن يجعل بينكم " يعني لعل الله أن يجعل بينكم " وبين الذين عاديتم " يعني كفار مكة
" منهم مودة " وذلك أنه لما أخبرهم عن إبراهيم بعداوته مع أبيه فأظهر المسلمون العداوة مع أرحامهم فشق ذلك على بعضهم فنزل " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " يعني صلة
قال مقاتل فلما أسلم أهل مكة خالطوهم وناكحوهم فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان وأسلمت وأسلم أبوها
ويقال يسلم من يسلم منهم منهم فيقع بينكم وبينهم مودة بالإسلام وهذا القول أصح لأنه كان قد تزوج بأم حبيبة قبل ذلك
" والله قدير " على المودة
ويقال " قدير " بقضائه وهو ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة
" والله غفور " لمن تاب منهم " رحيم " بهم بعد التوبة
ثم رخص في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم وهم خزاعة وبنو مدلج فقال عز وجل " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " يعني عن صلة الذين لم يقاتلوكم في الدين " ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم " يعني أن تصلوهم " وتقسطوا إليهم "(3/415)
416
يعني تعدلوا معهم بوفاء عهدهم
" إن الله يحب المقسطين " يعني العادلين بوفاء العهد يقال أقسط الرجل فهو مقسط إذا عدل
وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار
ثم قال عز وجل " إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين " وهم أهل مكة ومن كان في مثل حالهم من أهل الحرب
" وأخرجوكم من دياركم وظاهروا " يعني عاونوا " على إخراجكم " من دياركم
" أن تولوهم " يعني أن تناصحوهم
" ومن يتولهم " منكم يعني يناصحهم ويحبهم منكم " فأولئك هم الظالمون " يعني الكافرين الظالمين بأنفسهم
سورة الممتحنة 10
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة يوم الحديبية وكتب بينه وبينهم كتابا إن من لحق من المسلمين بأهل مكة فهو منهم ومن لحق منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم رده عليهم
فجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم اسمها سبيعة بنت الحارث الأسلمية فجاء زوجها في طلبها فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ارددها فإن بيننا وبينك شرطا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما كان الشرط في الرجال ولم يكن في النساء )
فأنزل الله تعالى " إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات " نصب على الحال " فامتحنوهن " يعني اختبروهن ما أخرجكن من بيوتكن ويقال " فامتحنوهن " يعني اسألوهن ويقال استحلفوهن ما خرجنا إلا حرصا على الإسلام ولم يكن لكراهية الزوج ولا لغير ذلك " الله أعلم بإيمانهن " يعني أعلم بسرائرهن
" فإن علمتموهن مؤمنات " يعني إذا ظهر عندكم إنها خرجت لأجل الإسلام ولم يكن خروجها لعداوة وقعت بينها وبين زوجها " فلا ترجعوهن إلى الكفار " يعني لا تردوهن إلى أزواجهن
" لا هن حل لهم " يعني لا تحل مؤمنة لكافر " ولا هم يحلون لهن " يعني ولا نكاح كافر لمسلمة
قوله تعالى " وأتوهم ما أنفقوا " يعني أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر
قال مقاتل يعني إن تزوجها أحد من المسلمين يدفع المهر إلى الزوج فإن لم يتزوجها أحد من المسلمين فليس لزوجها الكافر شيء
ثم قال " ولا جناح عليكم أن تنكحوهن " يعني لا حرج على المسلمين أن يتزوجوهن
" إذا آتيتموهن أجورهن " يعني مهورهن فرد المهر على الزوج الكافر منسوخ
وفي الآية دليل(3/416)
417
أن المرأة إذا خرجت من دار الحرب بانت من زوجها
وفي الآية تأييد لقول أبي حنيفة رحمه الله أنه لا عدة عليها
وفي قول أبي يوسف ومحمد عليها العدة
ثم قال " ولا تمسكوا بعصم الكوافر "
قرأ أبو عمرو " ولا تمسكوا " بالتشديد والباقون بالتخفيف
فمن قرأ بالتخفيف فهو من أمسك يمسك ومن قرأ بالتشديد فهو من مسك بالشيء يمسك تمسيكا ومعناهما واحد وهو أن المرأة إذا كفرت ولحقت بدار الحرب فقدزالت العصمة بينهما
فنهى أن يتبعها من بعد انقطاعها وجاز له أن يتزوج أختها أو أربعا سواها
وأصل العصمة الحبل ومن أمسك بالشيء فقد عصمه
ويقال معناه لا ترغبوا فيهن ويقال لا تعتد بامرأتك الكافرة فإنها ليست لك بامرأة
وكان للمسلمين نساء في دار الحرب فتزوجن هناك
ثم قال " واسألوا ما أنفقتم " يعني اسألوا من أزواجهن ما أنفقتم عليهن من المهر
" وليسألوا " منكم " ما أنفقوا " يعني ما أعطوا من مهر المرأة التي أسلمت
وهذه الآية نسخت إلا قوله " لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن "
ثم قال " ذلكم حكم الله " يعني أمره ونهيه " يحكم بينكم " يعني يقضي بينكم " والله عليم حكيم "
سورة الممتحنة 11 - 12
قوله عز وجل " وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار " يعني إذا ارتدت امرأة ولحقت بدار الحرب " فعاقبتم " يعني فغنمتم من المشركين شيئا " فأتوا الذين ذهبت أزواجهم " من الغنيمة " مثل ما أنفقوا " مثل ما أعطوا نساءهم من المهر
وهذه الآية منسوخة بالإجماع
قرأ إبراهيم النخعي " فعقبتم " بغير ألف وعن مجاهد أنه قرأ " فأعقبتم " وقراءة العامة " فعاقبتم " فذلك كله يرجع إلى معنى واحد يعني إذا غلبتم العدو واغتنمتم واصبتموهم في القتال
ثم قال " واتقوا الله " يعني اخشوا الله ولا تعصوه فيما أمركم
" الذي أنتم به مؤمنون " يعني مصدقين
قوله عز وجل " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك " يعني النساء إذا أسلمن فبايعهن " على أن لا يشركن بالله شيئا " يعني لا يعبدن غير الله
" ولا يسرقن " يعني لا(3/417)
418
يأخذن مال أحد بغير حق
" ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن " يعني ولا يقتلن بناتهن كما قتلن في الجاهلية
ويقال لا يشربن دواء فيسقطن حملهن
ثم اختلفوا في مبايعة النساء وقال بعضهم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبا وأخذ في الثوب وقال بعضهم كان يشيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصافحهن عمر وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وفرغ من مبايعة الرجال وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه فبايع النساء على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن
فقالت هند امرأة أبي سفيان إني قد أصبت من مال أبي سفيان فلا أدري أحلال أم لا فقال أبو سفيان نعم ما أصبت فيما مضى وفيما غبر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( عفا الله عما سلف )
وفي خبر آخر أنها قالت أرأيت لو لم يعطني ما يكفيني ولولدي هل يحل لي أن آخذ من ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( خذي من ماله ما يكفيك ولولدك بالمعروف )
ثم قال " ولا يزنين " فلما قال ذلك قالت هند أوتزني الحرة فضحك عمر رضي الله عنه عند ذلك
ثم قال " ولا يقتلن أولادهن " يعني لا يقتلن بناتهن الصغار فقالت هند ربيناهم صغارا أفنقتلهم كبارا فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " يعني لا تجيء بصبي من غير زوجها فتقول للزوج هو منك
فقالت هند إن البهتان أفحش وما تأمرنا إلا بالرشد
ثم قال عز وجل " ولا يعصينك في معروف " يعني في طاعة مما أمر الله تعالى ويقال " ولا يعصينك في معروف " يعني فيما نهيتهن عن الشعر والنوح وتمزيق الثياب أو تخلو مع الأجنبي أو نحو ذلك فقالت هند ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء
ثم قال " فبايعهن واستغفر لهن الله " يعني إذا بايعن على ذلك فاسأل الله لهن المغفرة لما كان في الشرك
" إن الله غفور " غفور لهن ما كان في الشرك " رحيم " فيما بقي
سورة الممتحنة 13
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم " وذلك أن ناسا من(3/418)
419
فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأمر المسلمين يتواصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم وطعامهم وشرابهم فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال " يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم " يعني لا تتخذوا الصداقة مع قوم غضب الله عليهم ويقال هذا أيضا في حاطب بن أبي بلتعة
ثم قال عز وجل " قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور " قال مقاتل وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك شديد الانتهار فيجلسه ثم يسأله من ربك وما دينك ومن رسولك فيقول لا أدري
فيقول الملك أبعدك الله انظر يا عدو الله إلى منزلك من النار
فينظر إليه فيدعو بالويل والثبور فيقول هذا لك يا عدو الله
فيفتح له باب إلى الجنة فيقول هذا لمن آمن بالله تعالى فلو كنت آمنت بربك نزلت الجنة فيكون حسرة عليه وينقطع رجاؤه منها وعلم أنه لا حظ له فيها ويئس من خير الجنة فذلك قوله لكفار أهل الدنيا الأحياء منهم " قد يئسوا من الآخرة " يعني من خير الآخرة لأنهم كذبوا بالثواب والعقاب وهم آيسون من الجنة كما يئس الكفار من أصحاب القبور حين عرفوا منازلهم من النار
ويقال إن الكفار إذا مات منهم أحد يئسوا من رجوعه فيقال قد يئس هؤلاء من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور من رجوعهم ويقال " يئسوا من الآخرة " يعني هؤلاء الكفار قد يئسوا من أمر الآخرة كما يئس الكفار الذين كانوا قبلهم من الآخرة وهم اليوم من أصحاب القبور و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم(3/419)
420
سورة الصف
مدنية وهي أربع عشرة آية
سورة الصف 1 - 4
قوله تبارك وتعالى " سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم " يعني " العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره وقد ذكرناه " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا بعدما فروا يوم أحد لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى وأفضل لفعلناه فنزل " لم تقولون ما لا تفعلون "
ويقال قالوا ذلك قبل يوم أحد فابتلوا بذلك وفروا فنزل تعييرا لهم بترك الوفاء فقال " لم تقولون ما لا تفعلون "
" كبر مقتا عند الله " يعني عظم بغضا عند الله " أن تقولوا ما لا تفعلون " " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " يعني يصفون بمنزلة الصف في الصلاة ملتزق بعضهم ببعض لا يتأخر أحدهم عن صاحبه بمنزلة البنيان الذي بني بالرصاص
ويقال " كأنهم بنيان مرصوص " أي متفقي الكلمة بعضهم على بعض على عدوهم فلا يخالف بعضهم بعضا
فأخبرهم الله تعالى بأحب الأعمال إليهم بعد الإيمان فكرهوا القتال فوعظهم الله فقال " لم تقولون ما لا تفعلون " نزلت في الأنصار منهم عبد الله بن رواحة أحد الأمراء الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم يا أهل المجلس الذين وعدتم ربكم بقولكم ثم مشى فقاتل حتى قتل
سورة الصف 5 - 6
قوله تعالى " وإذ قال موسى " يعني وقد قال موسى " لقومه يا قوم لم تؤذونني " بالتكذيب وذلك أنهم كذبوه وقالوا إنه آدر ويقال إنه حين مات هارون ويقال إنه قال(3/420)
421
لقومه الكفار لم تؤذونني بالتكذيب والشتم " وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا " يعني مالوا عن الحق وعدلوا عنه
" أزاغ الله قلوبهم " يعني خذلهم عن الهدى فثبتوا على اليهودية
" والله لا يهدي " يعني لا يرشد إلى دينه " القوم الفاسقين " يعني العاصين المكذبين الذين لا يرغبون في الحق
قوله تعالى " وإذ قال عيسى ابن مريم " يعني وقد قال عيسى ابن مريم لبني إسرائيل " يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم " يعني أرسلني الله تعالى إليكم لأدعوكم إلى الإسلام
" مصدقا لما بين يدي من التوراة " يعني أقرأ عليكم الإنجيل موافقا للتوراة في التوحيد وفي بعض الشرائع " ومبشرا برسول " يعني أبشركم برسول " يأتي من بعدي اسمه أحمد "
وروى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك
فقال ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى صلوات الله وسلامه عليهما ورأت أمي رؤياها حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى في أرض الشام )
" فلما جاءهم بالبينات " يعني جاءهم عيسى بالعجائب التي كان يريهم من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص
" قالوا هذا سحر مبين " يعني بينا ظاهرا
قرأ حمزة والكسائي " ساحر " بالألف والباقون " سحر " بغير ألف
فمن قرأ " ساحر " فهو فاعل ومن قرأ " سحر " فهو نعت الفعل
سورة الصف 7 - 9
ثم قال عز وجل " ومن أظلم " يعني من أشد في كفره " ممن افترى على الله " يعني اختلق على الله " الكذب " وهم اليهود
" وهو يدعى إلى الإسلام " يعني إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم " والله لا يهدي القوم الظالمين " أي لا يرشدهم
ويقال لا يرحمهم ما داموا على كفرهم
ثم قال عز وجل " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم " يعني ليبطلوا دين الله بقولهم " والله متم نوره " يعني مظهر توحيده وكتابه " ولو كره الكافرون " يعني وإن كره اليهود والنصارى
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية حفص " والله متم نوره " على معنى الإضافة والباقون " متم " بالتنوين " نوره " بالنصب
لأنه مفعول به
ثم قال عز وجل " هو الذي أرسل رسوله بالهدى " يعني بالتوحيد " ودين الحق " يعني بشهادة أن لا إله إلا الله
" ليظهره على الدين كله " يعني على الأديان كلها
قال(3/421)
422
مقاتل وقد فعل ويقال إنه يكون في آخر الزمان لا يبقى أحد إلا مسلم أو ذو ذمة للمسلمين وقد فعل ويقال إنه يكون في آخر الزمان
" ولو كره المشركون " يعني وإن كرهوا ذلك
سورة الصف 10 - 14
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم " أي من عذاب دائم
قرأ ابن عامر " تنجيكم " بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان
أنجاه ونجاه بمعنى واحد
ثم بين لهم تلك التجارة فقال " تؤمنون بالله ورسوله " يعني تصدقون بتوحيد الله وتصدقون برسوله وبما جاء به من عنده
" وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم " فقدم ذكر المال لأن الإنسان ربما يضن بماله ما لا يضن بنفسه ولأنه إذا كان له مال فإنه يؤخذ به النفس ليغزو
" ذلكم خير لكم " يعني التصديق والجهاد خير لكم من تركهما
" إن كنتم تعلمون " أي تعلمون ثواب الله تعالى ويقال " يعلمون " أي يصدقون
ثم بين ثواب ذلك العمل
فقال " يغفر لكم ذنوبكم " يعني إن فعلتم ذلك العمل يغفر لكم ذنوبكم
" ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة " يعني يدخلكم منازل الجنة " في جنات عدن ذلك الفوز العظيم " يعني النجاة الوافرة
ثم قال عز وجل " وأخرى تحبونها نصر من الله " أي ولكم سوى الجنة أيضا عدة أخرى في الدنيا تحبونها ويقال معناه ونجاة أخرى تحبونها " نصر من الله " يعني هي النصرة من الله تعالى على عدوكم " وفتح قريب " يعني ظفرا سريعا عاجلا في الدنيا والجنة في الآخرة
ثم قال " وبشر المؤمنين " يعني بشرهم بالجنة
ثم قال عز وجل " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " أنصارا لله " بالتنوين والباقون " أنصار الله " بالإضافة ومعناهما واحد يعني كونوا أعوان الله بالسيف على أعدائه ومعناه انصروا الله وانصروا دين الله وانصروا محمدا صلى الله عليه وسلم كما نصر الحواريون عيسى ابن مريم عليه السلام
وهو قوله تعالى " كما قال عيسى ابن مريم للحواريين(3/422)
423
من أنصاري إلى الله ) يعني من أعواني إلى الله ويقال إنما سموا الحواريون لبياض ثيابهم ويقال كانوا قصارين ويقال خلصاؤه وصفوته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الزبير ابن عمتي حواري من أمتي )
وتأويل الحواريين في اللغة الذين أخلصوا وتبرؤوا من كل عيب وكذلك الدقيق الحواري لأنه ينتقى من لباب البر
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين
وروى عبد الرزاق عن معمر قال تلا قتادة " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله " قال وقد كان ذلك بحمد الله جاءه السبعون فبايعوه عند العقبة فنصروه وآووه حتى أظهر الله دينه
" قال الحواريون نحن أنصار الله " يعني نحن أعوانك مع الله " فآمنت طائفة من بني إسرائيل " يعني بعيسى عليه السلام ويقال فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم " وكفرت طائفة " يعني جماعة منهم
" فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم " يعني قوينا الذين آمنوا على عدوهم من الكفار " فأصبحوا ظاهرين " فصاروا غالبين بالنصرة والحجة والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين(3/423)
424
سورة الجمعة
مدنية وهي إحدى عشرة آية
سورة الجمعة 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى " يسبح لله ما في السموات وما في الأرض " وقد ذكرناه
" الملك القدوس " يعني الملك الذي يملك كل شيء ولا يزول ملكه " القدوس " يعني الطاهر عن الشريك والولد
قرئ في الشاذ " الملك القدوس " بالضم ومعناه هو الملك القدوس وقرأه العامة بالكسر فيكون نعتا لله تعالى يعني يسبح لله الملك القدوس
ثم قال " العزيز الحكيم " يعني " العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره
ثم قال " هو الذي بعث في الأميين " يعني في العرب
والأميون الذين لا يكتبون وهم ما خلقت عليه الأمة قبل تعلم الكتابة
" رسولا منهم " يعني من قومهم العرب
" يتلو عليهم " يعني يقرأ عليهم " آياته " يعني القرآن " ويزكيهم " يعني يدعوهم إلى التوحيد ويطهرهم به من عبادة الأوثان ويقال " يزكيهم " أي يصلحهم ويقال يأمرهم بالزكاة
" ويعلمهم الكتاب " يعني القرآن " والحكمة " يعني الحلال والحرام
" وإن كانوا " يعني وقد كانوا " من قبل " أن يبعث إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم " لفي ضلال مبين " يعني لفي خطأ بين يعني الشرك
" وآخرين منهم " يعني من تابعي من هذه الأمة ممن بقي " لما يلحقوا بهم " يعني لم يكونوا بعد فسيكونون
وروى جويبر عن الضحاك في قوله " آخرين منهم لما يلحقوا بهم " قال يعني من أسلم من الناس وعمل صالحا إلى يوم القيامة من عربي وعجمي
ثم قال " وهو العزيز الحكيم " يعني " العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره
قوله تعالى " ذلك فضل الله يؤتيه " يعني الإسلام فضل الله يؤتيه " من يشاء " يعني يعطيه من يشاء ويكرم به من يشاء من كان أهلا لذلك
" والله ذو الفضل العظيم " يعني ذو المن العظيم لمن اختصه بالإسلام(3/424)
425
سورة الجمعة 5 - 8
ثم قال عز وجل " مثل الذين حملوا التوراة " يعني صفة الذين علموا التوراة وأمروا بأن يعملوا بما فيها
" ثم لم يحملوها " أي لم يعملوا بما أمروا فيها من الأمر والنهي وبيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم
ويقال " مثل الذين حملوا التوراة " وأمروا بأن يعلموا تفسيرها ثم لم يحملوها يعني لم يعلموا تفسيرها فمثلهم " كمثل الحمار يحمل أسفارا " يعني يحمل كتبا ولا يدري ما فيها كما لا يدري اليهود ما حملوا من التوراة
ثم قال " بئس مثل القوم الذين " الذين ضربنا لهم المثل ويقال بئس صفة القوم الذين كذبوا بآيات الله يعني جحدوا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم
" والله لا يهدي القوم الظالمين " يعني إلى طريق الجنة اليهود الذين لا يرغبون في الحق
قوله تعالى " قل يا أيها الذين هادوا " يعني مالوا عن الإسلام والحق إلى اليهودية
" إن زعمتم أنكم " يعني إن ادعيتم وقلتم إنكم " أولياء لله " يعني أحباء الله
" من دون الناس " يعني من دون المؤمنين " فتمنوا الموت " يعني سلوا الموت فقولوا اللهم أمتنا
" إن كنتم صادقين " أي في مقالتكم بأنكم أولياء الله من دون المؤمنين
" ولا يتمنونه أبدا " يعني لا يسألونه أبدا " بما قدمت أيديهم " يعني بما عملت وأسلفت أيديهم
" والله عليم بالظالمين " يعني عليما بحالهم بأنهم لا يتمنون الموت
" قل إن الموت الذي تفرون منه " يعني تكرهون الموت " فإنه ملاقيكم " يعني نازل بكم لا محالة
" ثم تردون " يعني ترجعون في الآخرة
" إلى عالم الغيب والشهادة " وقد ذكرناه " فينبئكم بما كنتم تعملون " يعني يخبركم ويجازيكم بما كنتم تعملون في الدنيا
سورة الجمعة 9 - 11
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة " يعني إذا أذن للصلاة " من يوم(3/425)
426
الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ) يعني امضوا إلى الصلاة فصلوها
ويقال " إلى ذكر الله " يعني الخطبة فاستمعوا إليها
وروى الأعمش عن إبراهيم قال كان ابن مسعود يقرأ " فامضوا إلى ذكر الله " ويقول لو قرأتها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي
وقال القتبي السعي على وجه الإسراع في المشي كقوله تعالى " وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى " [ القصص 20 ] والسعي العمل كقوله تعالى " وسعى لها سعيها " [ الإسراء 19 ] وقال " إن سعيكم لشتى " [ الليل 4 ] والسعي المشي كقوله تعالى " يأتينك سعيا " [ البقرة 260 ] وكقوله تعالى " فاسعوا إلى ذكر الله " [ الجمعة 9 ] وقال الحسن في قوله تعالى " فاسعوا إلى ذكر الله " قال ليس السعي بالأقدام ولكن سعي بالنية وسعي بالقلب وسعي بالرغبة
ثم قال عز وجل " وذروا البيع " ولم يذكر الشراء لأنه لما ذكر البيع فقد دل على الشراء
ومعناه اتركوا البيع والشراء
وقال جماعة من العلماء لو باع بعد الأذان يوم الجمعة لم يجز البيع
وقال الزهري يحرم البيع يوم الجمعة عند خروج الإمام
وروى جويبر عن الضحاك أنه قال إذا زالت الشمس يوم الجمعة حرم الشراء والبيع ولو كنت قاضيا لرددته
وروى معمر عن الزهري قال الأذان الذي يحرم نية البيع عند خروج الإمام وقت الخطبة وقال الحسن إذا زالت الشمس فلا تشتر ولا تبع
وقال محمد يحرم البيع عند النداء يوم الجمعة عند الصلاة
وروى عكرمة عن ابن عباس قال لا يصح البيع والشراء يوم الجمعة حين ينادى بالصلاة حتى تنقضي
وقال عامة أهل الفتوى من الفقهاء إن البيع جائز في الحكم لأن النهي لأجل الصلاة وليس بمانع لمعنى في البيع
ثم قال " ذلكم خير لكم " يعني السعي إلى الصلاة وترك الشراء والبيع
والاستماع إلى الخطبة خير لكم من الشراء والبيع
" إن كنتم تعلمون " يعني فاعلموا ذلك
وكل ما في القرآن " إن كنتم تعلمون " إن كنتم مؤمنين فهو بمعنى التقرير والأمر
ثم قال عز وجل " فإذا قضيت الصلاة " يعني فرغتم من الصلاة " فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله " يعني اطلبوا الرزق من الله تعالى بالتجارة والكسب اللفظ لفظ الأمر والمراد به الرخصة كقوله " وإذا حللتم فاصطادوا " [ المائدة 2 ] وهي رخصة بعد النهي
" واذكروا الله كثيرا " يعني واذكروا الله باللسان " لعلكم تفلحون " يعني لكي تنجوا
ثم قال عز وجل " وإذا رأوا تجارة أو لهوا " قال مجاهد اللهو هو الضرب بالطبل(3/426)
427
فنزلت الآية حين قدم دحية بن خليفة الكلبي
وروى سالم عن جابر قال أقبلت عير ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصلي الجمعة فانفض الناس إليهما فما بقي غير اثني عشر رجلا فنزلت الآية " وإذا رأوا تجارة أو لهوا "
" انفضوا إليها وتركوك قائما "
وروى معمر عن الحسن أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر فقدمت عير والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها فخرجوا إليها والنبي صلى الله عليه وسلم قائم
قال الله تعالى " وتركوك قائما " فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ولو اتبع آخرهم أولهم لالتهب الوادي عليهم نارا )
قال معمر عن قتادة قال لم يبق يومئذ معه إلا اثنا عشر رجلا وامرأة ويقال إن أهل المدينة كانوا إذا قدمت عير ضربوا بالطبل فلما قدم دحية الكلبي بتجارته وتميم الداري ضربوا بالطبل وخرج الناس فنزل " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " يعني خرجوا إليها يعني إلى التجارة ويقال " إليها " يعني جملة ما رأوا من اللهو والتجارة
" وتركوك قائما " على المنبر
" قل ما عند الله خير من اللهو " يعني خير من اللهو " ومن التجارة " يعني ثواب الله تعالى خير من اللهو ومن التجارة " والله خير الرازقين " يعني أقوى الرازقين وخير المعطين والله أعلم بالصواب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم(3/427)
428
سورة المنافقون
مدنية وهي إحدى عشرة آية
سورة المنافقين 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى " إذا جاءك المنافقون " " إذا " حرف من حروف التوقيت وجوابه قوله " فاحذرهم " وهذا إعلام من الله تعالى بنفاقهم وكذبهم وغرورهم
" قالوا نشهد إنك لرسول الله " يعني يقولون ذلك بلسانهم دون قلوبهم
" والله يعلم إنك لرسوله " من غير قولهم
" والله يشهد " يعني يبين " إن المنافقين لكاذبون " يعني إنهم مصدقون في قولهم ولكنهم كاذبون بأنهم أرادوا به الإيمان
قوله عز وجل " اتخذوا أيمانهم جنة " يعني حلفهم جنة من القتل وقرأ بعضهم " اتخذوا إيمانهم " بكسر الألف بمعنى اتخذوا إظهار الإسلام وتصديقهم سترا لأنفسهم وقراءة العامة " اتخذوا أيمانهم " بالنصب يعني استتروا بالحلف
وكلما ظهر نفاقهم حلفوا كاذبين
ثم قال " فصدوا عن سبيل الله " يعني صرفوا الناس عن دين الله وهو الإسلام
" إنهم ساء ما كانوا يعملون " يعني بئس ما كانوا يعملون حيث أظهروا الإيمان وأسروا الكفر وصدوا الناس عن الإيمان
" ذلك " يعني ذلك الحلف وصرف الناس عن الإيمان " بأنهم آمنوا " يعني أقروا باللسان علانية " ثم كفروا " يعني كفروا في السر
" فطبع على قلوبهم " بالكفر " فهم لا يفقهون " الهدى ولا يرغبون فيه
قوله تعالى " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم " يعني المنافقين وهم عبد الله بن أبي بن سلول وكان رجلا جسيما فصيحا يعني يعجبك منظرهم وفصاحتهم
" وإن يقولوا تسمع لقولهم " يعني لتصدقهم فتحسب أنهم محقون
" كأنهم خشب مسندة " قال مقاتل فيها تقديم يقول كأن أجسامهم خشب مسندة بعضها على بعض قائما وإنها لا تسمع ولا تعقل ويقال " خشب مسندة " يعني خشب أسند إلى الحائط ليس فيها أرواح فكذلك المنافقون(3/428)
429
لا يسمعون الإيمان ولا يعقلون
قرأ الكسائي وأبو عمرو وابن كثير في إحدى الروايتين " كأنهم خشب " بجزم الشين والباقون بالضم ومعناهما واحد وهو جماعة الخشب
فوصهفم بتمام الصور ثم أعلم أنهم في ترك التفهم بمنزلة الخشب
ثم قال " يحسبون كل صيحة عليهم " فوصفهم بالجبن أي كلما صاح صائح ظنوا أن ذلك لأمر عليهم ويقال إن كل من خاطب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يخافون ويظنون أنه مخاطب يخاطبه في أمرهم وكشف نفاقهم
ثم أمر أن يحذرهم وبين أنهم أعداؤه فقال " هم العدو " يعني هم أعداؤك " فاحذرهم " ولا تأمن من شرهم
ثم قال " قاتلهم الله " يعني لعنهم " أنى يؤفكون " يعني من أين يكذبون ويقال من أين يصرفون عن الحق
سورة المنافقون 5 - 6
ثم قال عز وجل " وإذ قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم " يعني عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار وأعرضوا عنه
وذلك أن عبد الله بن أبي بن سلول قيل له يا أبا الحباب قد أنزل فيك أي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت وامرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت وما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم
قرأ نافع " لووا رؤوسهم " بالتخفيف والباقون بالتشديد
ومن قرأ بالتخفيف فهو من لوى يلوي ومن قرأ بالتشديد فهو للتكثير
ثم قال " ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون " يعني يعرضون عن الاستغفار مستكبرين عن الإيمان في السر
ثم أخبر أن الاستغفار لا ينفعهم ما داموا على نفاقهم فقال " سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم " لأنهم منافقون
" إن الله لا يهدي القوم الفاسقين " يعني لا يرشدهم إلى دينه لأنهم لا يرغبون فيه
سورة المنافقون 7 - 8
ثم قال " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " يعني يتفرقوا
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله يقول كنا(3/429)
430
في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها فتنة )
فقال عبد الله بن أبي والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب رأس هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه )
وروى معمر عن قتادة أن عبد الله بن أبي قال لأصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله فإنكم لو لم تنفقوا عليهم قد انفضوا
قال واقتتل رجلان أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حليف الأنصار فظهر عليهم الغفاري فقال رجل منهم عظيم النفاق يعني عبد الله بن أبي عليكم صاحبكم عليكم حليفكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد صلى الله عليه وسلم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
وروى معمر عن الحسن أن غلاما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إني سمعت عبد الله بن أبي يقول كذا
فقال ( فلعلك غضبت عليه )
فقال أما والله يا نبي الله لقد سمعته يقول فقال ( فلعله أخطأ سمعك )
فقال لا والله يا نبي الله لقد سمعته يقول
فأنزل الله تعالى تصديقا للغلام " لئن رجعنا إلى المدينة "
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام وقال ( وعت أذنك يا غلام ) فنزل قوله تعالى " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا "
قال الله تعالى " ولله خزائن السموات والأرض " يعني مفاتيح السموات وهي المطر والرزق ومفاتيح الأرض وهي النبات
" ولكن المنافقين لا يفقهون " أمر الله تعالى
" يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " يعني القوي " منها " أي من المدينة الذليل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قال الله تعالى " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " حيث قواهم الله تعالى ونصرهم أي القدرة والمنعة لله
" ولكن المنافقين لا يعلمون " يعني لا يصدقون في السر
ويقال " ولله العزة " يعني القدرة ويقال نفاذ الأمر " ولرسوله " وهو عزة النبوة والرسالة " وللمؤمنين " وهو عز الإيمان والإسلام أعزهم الله في الدنيا والآخرة(3/430)
431
سورة المنافقون 9 - 11
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم " يعني لا تشغلكم أموالكم " ولا أولادكم عن ذكر الله " يعني عن طاعة الله تعالى
" ومن يفعل ذلك " يعني من لم يعمل بطاعته ولم يؤمن بوحدانيته " فأولئك هم الخاسرون " يعني المغبونين بذهاب الدنيا وحرمان الآخرة
ثم قال عز وجل " وأنفقوا مما رزقناكم " يعني مما رزقكم الله من الأموال
" من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب " يعني يقول يا سيدي ردني إلى الدنيا " فأصدق " يعني فأتصدق ويقال أصدق بالله
( وأكن من الصالحين ) يعني أفعل كما فعل المؤمنون
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال من كان له مال يجب فيه الزكاة فلم يزكه أو مال يبلغه بيت الله تعالى فلم يحج يسأل عند الموت الرجعة قال فقال رجل اتق الله يا ابن عباس إنما سألت الكفار الرجعة
قال ابن عباس إني أقرأ عليك بهذا القرآن ثم قرأ " يا أيها الذين آمنوا " إلى قوله " وأكن من الصالحين " فقال رجل وما يوجب الزكاة يا ابن عباس قال مائتا درهم فصاعدا
قال فما يوجب الحج قال الزاد والراحلة
قرأ أبو عمرو " فأصدق وأكون " بالواو وفتح النون والباقون " وأكن " بحذف الواو بالجزم
فمن قرأ " وأكون " لأن قوله " فأصدق " جواب للأول بالفاء فأكون معطوفا عليه
ومن قرأ " وأكن " فإنه عطفه على موضع " فأصدق " لأنه على معنى إن أخرتني أصدق وأكن ولم يعطفه على اللفظ
قال أبو عبيدة قرأت في مصحف عثمان هكذا بغير واو
ثم قال " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها " يعني إذ جاء وقتها
" والله خبير بما تعملون " من الخير والشر فيجازيكم
قرأ عاصم في رواية أبي بكر " يعلمون " بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء للمخاطبة والله أعلم(3/431)
432
سورة التغابن
مدنية وهي ثماني عشرة آية
سورة التغابن 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى " يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك " يعني له الملك الدائم الذي لا يزول
" وله الحمد " يعني يحمده المؤمنون في الدنيا وفي الجنة كما قال " له الحمد في الأولى والآخرة " [ القصص 70 ] ويقال " له الحمد " يعني هو المحمود في شأنه وهو أهل أن يحمد لأن الخلق كلهم في نعمته
فالواجب عليهم أن يحمدوه
ثم قال " وهو على كل شيء قدير " يعني قادر على ما يشاء
" هو الذي خلقكم " يعني خلقكم من نفس واحدة " فمنكم كافر ومنكم مؤمن " يعني منكم من يصير كافرا ومنكم من يصير أهلا للإيمان ويؤمن بتوفيق الله تعالى
ويقال منكم من خلقه كافرا ومنكم من خلقه مؤمنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى )
وإلى هذا ذهب أهل الجبر
ويقال " فمنكم كافر " يعني كافر بأن الله تعالى خلقه وهو كقوله " قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه " [ عبس 17 - 18 ] وكقوله " أكفرت بالذي خلقك من تراب " [ الكهف 37 ] ويقال " فمنكم كافر " يعني كافر في السر وهم المنافقون " ومنكم مؤمن " وهم المخلصون
ويقال هذا الخطاب لجميع الخلق ومعناه هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالله وهم المشركون ومنكم مؤمن وهم المؤمنون يعني استويتم في خلق الله إياكم واختلفتم في أحوالكم فمنكم من آمن بالله ومنكم من كفر
ثم قال " والله بما تعملون بصير " يعني عليم بما تعملون من الخير والشر
ثم قال عز وجل " خلق السموات والأرض بالحق " يعني للحق والحجة والثواب وللعقاب
" وصوركم " يعني خلقكم " فأحسن صوركم " يعني خلقكم على أجمل(3/432)
433
صورة
وهذا كقوله " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " [ التين 4 ] وكقوله " ولقد كرمنا بني ءادم " [ الإسراء 70 ] ثم قال " وإليه المصير " يعني إليه المرجع في الآخرة فهذا تهديد يعني كونوا على الحذر لأن مرجعكم إليه
ثم قال " يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون " يعني ما تخفون وما تضمرون في قلوبكم وما تظهرون وتعلنون بألسنتكم
" والله عليم بذات الصدور " يعني عليكم بسرائركم
سورة التغابن 5 - 6
قوله عز وجل " ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل "
اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ والتقريع يعني قد أتاكم خبر الذين كفروا من قبلكم
" فذاقوا وبال أمرهم " يعني أصابتهم عقوبة ذنبهم في الدنيا
ثم أخبر أن ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم فقال " ولهم عذاب أليم " في الآخرة
ثم بين السبب الذي أصابهم به العذاب فقال " ذلك " يعني وذلك العذاب
" بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات " يعني بالأمر والنهي ويقال " بالبينات " يعني بالدلائل والحجج
" فقالوا أبشر يهدوننا " يعني آدميا مثلنا يرشدنا ويأتينا بدين غير دين آبائنا " فكفروا " يعني جحدوا بالرسل والكتاب " وتولوا " يعني أعرضوا عن الإيمان
" واستغنى الله " الله تعالى عن إيمانهم
" والله غني " أي عن إيمان العباد " حميد " في فعاله يقبل اليسير ويعطي الجزيل
سورة التغابن 7 - 9
ثم قال عز وجل " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا " يعني مشركي العرب زعموا أن لن يبعثوا بعد الموت
" قل " يا محمد صلى الله عليه وسلم " بلى وربي لتبعثن "
فهذا قسم أقسم أنهم يبعثون بعد الموت
" ثم لتنبؤن بما عملتم " يعني تخبرون بما عملتم في دار الدنيا ويجزون على ذلك
ثم قال " وذلك على الله يسير " يعني البعث والجزاء على الله هين
قوله تعالى " فآمنوا بالله ورسوله " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وصدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم
" والنور الذي أنزلناه " يعني صدقوا بالقرآن الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم(3/433)
434
فسمى القرآن نورا لأنه يهتدى به في ظلمة الجهالة والضلالة ويعرف به الحلال والحرام
ثم قال " والله بما تعملون خبير " يعني عالم بأعمالكم فيجازيكم بها
ثم قال " يوم يجمعكم " يعني لتبعثن في يوم يجمعكم " ليوم الجمع " يعني يوم تجمع فيه أهل السماء وأهل الأرض ويجمع فيه الأولون والآخرون
قرأ يعقوب الحضرمي " يوم نجمعكم " بالنون وقراءة العامة بالياء ومعناهما واحد
ثم قال " ذلك يوم التغابن " يعني يغبن فيه الكافر نفسه وأهله ومنازله في الجنة يعني يكون له النار مكان الجنة وذلك هو الغبن والخسران
ثم قال " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا " يعني يقر بوحدانية الله تعالى ويؤدي الفرائض
" يكفر عنه سيئاته " يعني يغفر ذنوبه " ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم " يعني النجاة الوافرة
قرأ نافع وابن عامر " نكفر " و " ندخله " كلاهما بالنون والباقون كلاهما بالياء ومعناهما واحد
سورة التغابن 10 - 13
ثم وصف حال الكافرين فقال عز وجل " والذين كفروا بآياتنا " يعني بالكتاب والرسول
" أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير " يعني بئس المرجع الذي صار إليه المغبونون
ثم قال عز وجل " ما أصاب من مصيبة " يعني ما أصاب بني آدم من شدة ومرض وموت الأهلين " إلا بإذن الله " يعني إلا بإرادة الله تعالى وبعلمه
" ومن يؤمن بالله " يعني يصدق بالله على المصيبة ويعلم أنها من الله تعالى " يهد قلبه " يعني إذا ابتلي صبر وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظلم غفر
وروي عن علمقة بن قيس أن رجلا قرأ عنده هذه الآية فقال أتدرون ما تفسيرها وهو أن الرجل المسلم يصاب بالمصيبة في ماله ونفسه يعلم أنها من عند الله تعالى فيسلم ويرضى
ويقال " من يؤمن بالله يهد قلبه " للاسترجاع يعني يوفقه الله تعالى لذلك
" والله بكل شيء عليم " أي عالم بثواب من صبر على المصيبة
ثم قال عز وجل " وأطيعوا الله " في الفرائض " وأطيعوا الرسول " في السنن
ويقال " أطيعوا الله " في الرضا بما يقضي عليكم من المصيبة " وأطيعوا الرسول " فيما يأمركم به من(3/434)
435
الصبر وترك الجزع
" فإن توليتم " يعني أبيتم وأعرضتم عن طاعة الله وطاعة رسوله
" فإنما على رسولنا البلاغ المبين " أي ليس عليه أكثر من التبليغ
ثم وحد نفسه فقال عز وجل " الله لا إله إلا هو " يعني لا ضار ولا نافع ولا كاشف إلا هو
" وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله تعالى ويفوضوا أمورهم إليه
سورة التغابن 14 - 15
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم " حين يمنعونكم عن الهجرة " فاحذروهم " أن تطيعوهم في ترك الهجرة
روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن قوما أسلموا بمكة فأرادوا أن يخرجوا إلى المدينة فمنعهم أزواجهم وأولادهم
فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فأرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فنزل قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذرهم " " وإن تعفوا " يعني إن تتركوا ولا تعاقبوهم " وتصفحوا " يعني وتتجاوزوا " وتغفروا فإن الله غفور " لذنوب المؤمنين " رحيم " بهم
قوله عز وجل " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " يعني الذين بمكة بلية لا يقدر الرجل على الهجرة
روي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فأقبل الحسن والحسين يمشيان ويعثران فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل إليهما وأخذهما واحدا من هذا الجانب وواحدا من هذا الجانب
ثم صعد المنبر فقال ( صدق الله " إنما أموالكم وأولادكم فتنة "
لما رأيت هذين الغلامين لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما )
ثم أتم الخطبة
ثم قال " والله عنده أجر عظيم " أي ثواب عظيم لمن آمن ولمن لم يعص الله تعالى لأجل الأموال والأولاد وأحسن إليهم
سورة التغابن 16 - 18(3/435)
436
ثم قال عز وجل " فاتقوا الله ما استطعتم " يعني على قدر ما أطقتم
" واسمعوا " يعني اسمعوا ما تؤمرون به من المواعظ
" وأطيعوا " يعني وأطيعوا الله والرسول
" وانفقوا خيرا " يعني تصدقوا خيرا يعني وأنفقوا من أموالكم في حق الله تعالى " لأنفسكم " يعني ثوابه لأنفسكم ويكون زادا لكم إلى الجنة
ويقال معناه تصدقوا خير لأنفسكم من إمساك الصدقة
" ومن يوق شح نفسه " يعني يدفع البخل عن نفسه " فأولئك هم المفلحون " يعني الناجين السعداء
وقوله تعالى " إن تقرضوا الله قرضا حسنا " يعني صادقا من قلوبكم
" يضاعفه لكم " يعني القرض يضاعف حسناتكم
ويقال " يضاعفه لكم " يعني الله تعالى يضاعف القرض لكم فيعطي للواحد عشرة
إلى سبعمائة إلى ما لا يحصى
" ويغفر لكم " يعني يغفر لكم ذنوبكم
" والله شكور " يعني يقبل اليسير ويعطي الجزيل
" حليم " لا يعجل بالعقوبة لمن يبخل
ثم قال " عالم الغيب والشهادة " وقد ذكرناه
" العزيز الحكيم " يعني " العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره سبحانه وتعالى و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(3/436)
437
سورة الطلاق
كلها مدنية وهي اثنتا عشرة آية
سورة الطلاق 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به هو وأمته بدليل قوله تعالى " إذا طلقتم النساء " فذكر بلفظ الجماعة فكأنه قال يا أيها النبي ومن آمن بك " إذا طلقتم النساء " يعني أنت وأمتك
ويقال معناه يا أيها النبي قل لأمتك " إذا طلقتم النساء " يعني إذا أردتم أن تطلقوا النساء
وقال الكلبي نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم حين غضب على حفصة بنت عمر رضي الله عنها فقال " فطلقوهن لعدتهن "
طاهرات من غير جماع
وروى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال " فطلقوهن لعدتهن " طاهرات من غير جماع
روى سفيان عن عمرو بن دينار أن ابن عباس قرأ " فطلقوهن لقبل عدتهن " وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لو أن الناس أصابوا حد الطلاق لما ندم رجل على امرأته يطلقها وهي طاهرة لم يجامعها
فإن بدا أن يمسكها أمسكها وإن بدا له أن يخلي سبيلها خلى سبيلها
وروى عكرمة عن ابن عباس قال الطلاق على أربعة أوجه وجهان حلال ووجهان حرام
فأما الحلال بأن يطلقها من غير جماع أو يطلقها حاملا
وأما الحرام بأن يطلقها حائضا أو يطلقها حين جامعها
وقال الحسن " فطلقوهن لعدتهن " قال إذا طهرن من الحيض من غير جماع
وقال الزهري وقتادة يطلقها لقبيل عدتها
وروى ابن طاوس عن أبيه(3/437)
438
قال حد الطلاق أن يطلقها قبل عدتها
قلت وما قبل عدتها قال طاهرة من غير جماع
ثم قال " وأحصوا العدة " يعني واحفظوا العدة
فأمر الرجل بحفظ العدة لأن في النساء غفلة فربما لا تحفظ عدتها
ثم قال " واتقوا الله ربكم " يعني واخشوا الله ربكم فأطيعوه فيما أمركم ولا تطلقوا النساء في غير طهورهن
فلو طلقها في الحيض فقد أساء
والطلاق واقع عليها في قول عامة الفقهاء
ثم قال " لا تخرجوهن من بيوتهن " يعني اتقوا الله في إخراجهن من بيوتهن لأن سكناها على الزوج ما لم تنقض عدتها
ثم قال " ولا يخرجن " يعني ليس لهن أن يخرجن من البيوت
ثم قال " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " يعني إلا أن تزني فتخرج لأجل إقامة الحد عليها وهو قول ابن عباس
وقال الشعبي وقتادة خروجها في العدة فاحشة
وإخراج الزوج لها في العدة معصية وهكذا روي عن ابن عمر وإبراهيم النخعي
وقال ابن عباس الفاحشة أن تبذو على زوجها فتخرج
ثم قال " وتلك حدود الله " يعني الطلاق بالسنة وإحصاء العدة من أحكام الله تعالى
" ومن يتعد حدود الله " يعني يترك حكم الله فيما أمر من أمر الطلاق
" فقد ظلم نفسه يعني أضر بنفسه
ثم قال " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " يعني لا تطلقها ثلاثا فلعله يحدث من الحب أو الولد خير فيريد أن يراجعها فلا يمكنه مراجعتها
وإن طلقها واحدة أمكنه أن يراجعها
ثم قال " فإذا بلغن أجلهن " يعني إذا بلغن وقت انقضاء عدتهن وهو مضي ثلاث حيض ولم تغتسل من الحيضة الثالثة " فأمسكوهن بمعروف " يعني راجعوهن بإحسان يعني أن تمسكوهن بغير إضرار
" أو فارقوهن بمعروف " يعني اتركوهن بإحسان
ويقال " فإذا بلغن أجلهن " يعني انقضت عدتهن " فأمسكوهن بمعروف " يعني بنكاح جديد إذا طلقها واحدة أو اثنتين
ثم قال عز وجل " وأشهدوا ذوي عدل منكم " يعني أشهدوا على الطلاق وعلى المراجعة فهو على الاستحباب
ويقال على النكاح المستقبل فإن أراد به الإشهاد على الطلاق والمراجعة فهو على الاستحباب
ولو ترك الإشهاد جاز الطلاق والمراجعة
فإن أراد به الإشهاد على النكاح فهو واجب لأنه لا نكاح إلا بشهود
ثم قال " وأقيموا الشهادة لله " يعني يا معشر الشهود أدوا الشهادة عند الحاكم بالعدل على وجهها لحق الله تعالى ولسبب أمر الله تعالى
ثم قال " ذلكم يوعظ به " يعني هذا الذي يؤمر به
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " أي لا يكتم الشهادة
ثم قال " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " يعني يخشى الله ويطلق امرأته للسنة " يجعل(3/438)
439
له مخرجا ) يعني المراجعة
" ويرزقه من حيث لا يحتسب " يعني في شأن المراجعة
ويقال " يجعل له مخرجا " يعني ينجو من ظلمات يوم القيامة ويرزقه الجنة
ووجه آخر أن من اتقى الله عند الشدة وصبر يجعل له مخرجا من الشدة " ويرزقه من حيث لا يحتسب " يعني يوسع عليه من الرزق
وقال مسروق " يجعل له مخرجا " قال مخرجه أن يعلم أن الله هو يرزقه وهو يمنحه ويعطيه لأنه هو الرازق وهو المعطي وهو المانع
كما قال الله تعالى " هل من خلق غير الله يرزقكم " [ فاطر 3 ] الآية
ثم قال عز وجل " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " يعني من يثق بالله في الرزق " فهو حسبه " يعني الله كافيه
وروى سالم بن أبي الجعد أن رجلا من أشجع أسره العدو فجاء أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه فقال ( اصبر )
فأصاب ابنه غنيمة فجاء بها جبريل عليه السلام بهذه الآية " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب "
وعن عبد الله بن عباس قال جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت الأم فما تأمرني فقال ( آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم )
فرجع إلى منزله فقالت له بماذا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بكذا
فقالت نعم ما أمرك به
فجعلا يقولان ذلك فخرج ابنه بغنم كثير فنزل قوله تعالى " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " يعني من يثق الله في الشدة يجعل له مخرجا من الشدة
ويقال المخرج على وجهين أحدهما أن يخرجه من تلك الشدة والثاني أن يكرمه فيها بالرضا والصبر
ثم قال " إن الله بالغ أمره " يعني قاضيا أمره
قرأ عاصم في رواية حفص " بالغ أمره " بغير تنوين بكسر الراء على الإضافة والباقون " بالغ " بالتنوين " أمره " بالنصب نصبه بالفعل يعني يمضي أمره في الشدة والرخاء أجلا ووقتا
ثم قال " قد جعل الله لكل شيء " يعني جعل لكل شيء من الشدة والرخاء " قدرا " أجلا ووقتا لا يتقدم ولا يتأخر
سورة الطلاق 4 - 5
قوله تعالى " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم "
قال ابن عباس لما نزل قوله(3/439)
440
" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " [ البقرة 228 ] قال معاذ بن جبل يا رسول الله لو كانت المرأة آيسة لا تحيض كيف تعتد فنزل " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم " والآيسة أن تبلع ستين سنة ويقال خمسين سنة
" إن ارتبتم " إن شككتم في عدتهن " فعدتهن ثلاثة أشهر " فقام رجل آخر فقال لو كانت صغيرة كيف عدتها وقام آخر فقال لو كانت حاملا كيف عدتها فنزل " واللائي لم يحضن " يعني المرأة التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر مثل عدة الآيسة
" وأولات الأحمال أجلهن " يعني عدتهن " أن يضعن حملهن " وقال عمر رضي الله عنه لو وضعت ما في بطنها وزوجها على سريره قبل أن يدلى في حفرته لانقضت عدتها وحلت للأزواج
وروى الزهري عن عبيد الله عن أبيه أن سبيعة بنت الحارث قد وضعت بعد وفاة زوجها بعشرين يوما أو شهر فمر بها أبو السنابل بن بعكك فقال لها أي بعلك أتريدين أن تتزوجي فقالت نعم
قال لا حتى يأتي عليك أربعة أشهر وعشر
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها ( قد حللت للزواج ) يعني انقضت عدتك
ثم قال " ومن يتق الله " يعني يصبر على طاعة الله تعالى " يجعل له من أمره يسرا " يعني ييسر عليه أمره ويوفقه ليعمل على طاعة الله تعالى ويعصمه عن معاصيه
ثم قال عز وجل " ذلك أمر الله " يعني هذا الذي ذكره حكم الله وفريضته
" أنزله إليكم " يعني أنزله في القرآن على نبيكم
" ومن يتق الله " يعني ويعمل بأحكامه وفريضته " يكفر عنه سيئاته " في الدنيا " ويعظم له أجرا " يعني ثوابا في الجنة
قرأ نافع وابن عامر " نكفر عنه " بالنون والباقون بالياء ومعناهما يرجع إلى شيء واحد
سورة الطلاق 6 - 7
ثم رجع إلى ذكر المطلقات فقال عز وجل " أسكنوهن من حيث سكنتم " يعني أنزلوهن من حيث تسكنون فيه
" من وجدكم " يعني من سعتكم
والوجد القدرة والغنى ويقال افتقر فلان بعد وجده
ثم قال " ولا تضاروهن " يعني لا تظلموهن
" لتضيقوا عليهن " في النفقة والسكنى
" وإن كن أولات حمل " يعني إن كن المطلقات ذوات حمل " فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " وقد أجمعوا أن المطلقة إذا كانت حاملا فلها النفقة وأما إذا لم تكن حاملا فإن كان(3/440)
441
الطلاق رجعيا فلها النفقة والسكنى بالإجماع
وإن كان الطلاق بائنا فلها السكنى والنفقة في قول أهل العراق
وقال بعضهم لها السكنى ولا نفقة
ثم قال " فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن " يعني المطلقات إذا أرضعن أولادكم فأعطوهن أجورهن لأن النفقة على الأب وأجر الرضاع من النفقة فهو على الأب إذا كانت المرأة مطلقة
ثم قال " وأتمروا بينكم بمعروف " يعني هموا به واعزموا عليه ويقال هو أن لا تضار المرأة بالزوج ولا الزوج بالمرأة في الرضاع
ويقال " وأتمروا بينكم " يعني اتفقوا فيما بينكم يعني الزوج والمرأة يتفقان على أمر واحد
" بمعروف " يعني بإحسان
" وإن تعاسرتم " يعني تضايقتم وهو أن يأبى أن يعطى المرأة لأجل رضاعها وأبت المرأة أن ترضعه
ويقال يعني أراد الرجل أقل مما طلبت المرأة من النفقة ولم يتفقا على شيء واحد
قوله " فسترضع له أخرى " يعني يدفع الزوج الصبي إلى امرأة أخرى إن أرضعت بأقل مما ترضع الأم به
ثم قال عز وجل " لينفق ذو سعة من سعته " يعني ينفق على المرأة ذو الغنى على قدر غناه وعلى قدر عيشه وسعته ويسره
" ومن قدر عليه رزقه " يعني ضيق عليه رزقه " فلينفق مما آتاه الله " يعني على قدر ما أعطاه الله من المال
" لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " يعني لا يأمر الله نفسا في النفقة إلا ما أعطاها من المال " سيجعل الله بعد عسر يسرا " يعني المعسر ينتظر اليسر
سورة الطلاق 8 - 11
قوله تعالى " وكأين من قرية " يعني فكم من أهل قرية قرأ ابن كثير " وكأين " بمد الألف والباقون " وكأين " بغير مد مع تشديد الياء وهما لغتان ومعناهما واحد يعني وكم من قرية
" عتت عن أمر ربها " يعني أبت وعصت عن أمر ربها يعني عن طاعة ربها
قال مقاتل " عتت عن أمر ربها " يعني خالفت وعصت وقال الكلبي العتو المعصية
وقال أهل اللغة العتو مجاوزة الحد في المعصية
ثم قال " ورسله " يعني عن طاعة رسل الله تعالى
" فحاسبناها حسابا شديدا " يعني(3/441)
442
جازاها الله بعملها
ويقال " حاسبناها " في الآخرة " حسابا شديدا "
" وعذبناها عذابا شديدا نكرا " يعني عذابا منكرا على معنى التقديم يعني عذبناها في الدنيا عذابا شديدا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا
ويقال و " حاسبناها " يعني في الدنيا يعني جازيناها بخذلانها وحرمانها
ثم قال عز وجل " فذاقت وبال أمرها " يعني جزاء ذنبها
" وكان عاقبة أمرها خسرا " يعني أهل القرية يعني أن آخر أمرهم صار إلى الخسران والندامة
قوله عز وجل " أعد الله لهم عذابا شديدا " يعني ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم ولكن مع ما أصابهم في الدنيا " أعد الله لهم عذابا شديدا " في الآخرة لأنهم لم يرجعوا عن كفرهم
ثم أمر المؤمنين بأن يعتبروا بهم ويثبتوا على إيمانهم فقال " فاتقوا الله يا أولي الألباب " يعني اخشوا الله وأطيعوه يا ذوي العقول من الناس
" الذين آمنوا " بالله يعني الذين صدقوا بالله ورسوله
" قد أنزل الله إليكم ذكرا " يعني كتابا
ويقال شرفا وعزا وهو القرآن
ثم قال " رسولا " يعني أرسل إليكم رسولا " يتلوا عليكم " يعني يقرأ عليكم ويعرض عليكم
ويقال " قد أنزل إليكم ذكرا رسولا " يعني كتابا مع رسوله ليتلو عليكم يعني يقرأ عليكم " آيات الله مبينات " يعني واضحات
ويقال بين فيه الحلال والحرام
" ليخرج الذين آمنوا " يعني الذين صدقوا بتوحيد الله " وعملوا الصالحات " يعني الطاعات " من الظلمات إلى النور " يعني من الجهالة إلى البيان
ويقال " ليخرج الذين آمنوا " اللفظ لفظ المستقبل والمراد به الماضي يعني أخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور يعني من الكفر إلى الإيمان
ويقال هو على المستقبل يعني يخرجهم من الشبهات والجهالات إلى الدلائل والبراهين ويقال ليدعو النبي صلى الله عليه وسلم ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان من قدر الله الإيمان في سابق علمه
ثم قال عز وجل " ومن يؤمن بالله " يعني يصدق بالله
ويقال يثبت على الإيمان " ويعمل صالحا " يعني فرائض الله تعالى وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم
" يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار "
قرأ نافع وابن عامر " ندخله " بالنون والباقون بالياء يعني يدخله الله تعالى جنات تجري من تحتها الأنهار
" خالدين فيها " يعني مقيمين في الجنة دائمين فيها
" أبدا قد أحسن الله له رزقا " يعني أعد الله له ثوابا في الآخرة
سورة الطلاق 12
ثم قال عز وجل " الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن " يعني خلق سبع(3/442)
443
أرضين مثل عدد السماوات
" يتنزل الأمر بينهن " يعني ينزل الوحي من السموات
ويقال في كل سماء وفي كل أرض مثله أمره نافذ
وقال القتبي الأمر على وجوه الأمر القضاء كقوله " يدبر الأمر " [ يونس 3 ] ويعني يقضي القضاء وكقوله " ألا له الخلق والأمر " [ الأعراف 54 ] أي القضاء
والأمر الدين كقوله " وتقطعوا أمرهم بينهم " [ الأنبياء 93 ] أي دينهم
والأمر الدين كقوله تعالى " وظهر أمر الله " [ التوبة 48 ] أي دين الله
والأمر القول كقوله " يتنازعون بينهم أمرهم " [ الكهف 21 ] أي قولهم
والأمر العذاب كقوله " إنه قد جاء أمر ربك " [ هود 76 ] والأمر القيامة كقوله " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " [ النحل 1 ] والأمر الوحي كقوله " يتنزل الأمر بينهن " [ الطلاق 12 ] يعني الوحي
والأمر الذنب كقوله " فذاقت وبال أمرها " [ الطلاق 9 ] أي جزاء ذنبها
وأصل هذا كله واحد لأن الأشياء كلها بأمر الله تعالى فسميت الأشياء أمورا
ثم قال تعالى " لتعلموا أن الله على كل شيء قدير " يعني لكي يمكنكم أن تعلموا أن الله على كل شيء قدير
" وأن الله قد أحاط بكل شيء علما " يعني أحاط علمه بكل شيء
وروى معمر عن قتادة في قوله " سبع سموات ومن الأرض مثلهن " قال في كل سماء وفي كل أرض من أرضه خلق وأمر من أمره وقضى(3/443)
444
سورة التحريم
مدنية وهي اثنتا عشرة آية
سورة التحريم 1 - 2
قول الله تبارك وتعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خلا في يوم لعائشة رضي الله عنها مع جاريته مارية القبطية فوقفت حفصة على ذلك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تعلمي عائشة ) وحرم مارية على نفسه فأخبرت حفصة عائشة بذلك فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فطلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة فأمر الله تعالى رسوله بكفارة اليمين لتحريم مارية على نفسه وأمره بأن يراجع حفصة فقال له جبريل راجع حفصة فإنها صوامة قوامة ونزلت هذه الآية " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " يعني مارية " تبتغي مرضات أزواجك " يعني تطلب رضا زوجتك عائشة
" والله غفور " فيما حرمها على نفسه
ويقال غفور لذنب حفصة
" رحيم " حيث لم يعاقبها
قوله عز وجل " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " يعني بين الله لكم كفارة أيمانكم
ويقال أوجب الله عليكم كفارة أيمانكم
وفي الآية وجه آخر روى هشام بن عروة عن أبية عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل وكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنوا منهن
فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عائشة عن ذلك فقيل لها أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه
فقالت أما والله لنحتالن له
فذكرت ذلك لسودة وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنوا منك فقولي له أكلت مغافير فإنه سيقول لك لا
فقولي له ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه إذا وجد منه الريح فإنه سيقول لك حفصة سقتني شربة عسل فقولي له جرشت نحله العرفط يعني أن تلك النحلة أكلت العرفط وهو نبات له رائحة منكرة
وسأقول له ذلك وقولي له أنت يا صفية
فلما دخل على سودة قالت سودة لقد كدت أن أناديه وإنه لعلى الباب فرقا منك فلما دنا مني قلت أكلت المغافير قال لا قالت فما هذه الريح قال سقتني حفصة شربة عسل
قلت جرشت نحلة العرفط
فلما دخل على صفية قالت له مثل ذلك فلما دخل على حفصة قالت يا رسول الله ألا أسقيك منه قال لا حاجة لي به(3/444)
445
وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت له إني أجد منك ريحا
ثم دخل على حفصة فقالت إني أجد منك ريحا
قال أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه فنزل " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك "
ثم قال " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " يعني أوجب عليكم كفارة أيمانكم
" والله مولاكم " يعني ناصركم وحافظكم " وهو العليم " بما قالت حفصة لعائشة في أمر مارية
" الحكيم " حكم بكفارة اليمين
سورة التحريم 3 - 5
ثم قال عز وجل " وإذ أسر النبي " يعني أخفى النبي " إلى بعض أزواجه حديثا " يعني كلاما
" فلما نبأت به " يعني أخبرت بذلك الخبر حفصة عائشة " وأظهره الله عليه " يعني أظهر الله قولها لرسوله الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأخبرها ببعض ما أخبرت عائشة ولم يخبرها عن الجميع فذلك قوله " عرف بعضه وأعرض عن بعض " يعني سكت عن بعض
ومن هذا قيل إن الكريم لا يبالغ في العتاب
قرأ الكسائي " عرف " بالتخفيف يعني جازاها ببعضه والباقون " عرف " بالتشديد يعني عرف حفصة
" فلما نبأها به " يعني لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الخبر حفصة " قالت من أنبأك هذا " يعني من أخبرك بهذا
" قال نبأني " يعني أخبرني " العليم الخبير "
قوله عز وجل " إن تتوبا إلى الله " يعني عائشة وحفصة " فقد صغت قلوبكما " يعني مالت قلوبكما عن الحق
وذكر عن الفراء أنه قال معناه إن لا تتوبا إلى الله " فقد صغت قلوبكما " عن الحق ويقال فيه مضمر ومعناه إن تتوبا إلى الله تعالى يقبل الله توبتكما ويقال معناه إن تتوبا إلى الله " فقد صغت قلوبكما " يعني مالت إلى الحق
وروى الزهري عن عبد الله بن عباس قال كنت مع عمر حين حج فلما كنا في بعض الطريق نزل في موضع فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان قال الله تعالى " إن تتوبا إلى الله " فقال عمر رضي الله عنه واعجبا لك يا ابن عباس
قال الزهري كأنه كره ما سأله عنه ولم يكتمه
قال هي حفصة وعائشة ثم قال كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفقن نساؤنا يتعلمن من نسائهم
فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي(3/445)
446
تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فدخلت على حفصة فذكرت لها فقالت نعم
فقلت قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك
قال وكان لي جار من الأنصار يأتيني بخبر الوحي وأتاه بمثل ذلك
فأتاني يوما فناداني فخرجت إليه فقال حدث أمر عظيم
فقلت ماذا قال طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فقلت خابت حفصة وخسرت
فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لا أدري هو ذا معتزلا في هذه المشربة
فأتيته فدخلت فسلمت عليه فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه فقلت أطلقت نساءك يا رسول الله قال لا
فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجودته حتى نزل " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " إلى قوله تعالى " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما "
ثم قال " وإن تظاهرا عليه " يعني تعاونا على أذاه ومعصيته فيكون مثلكما كمثل امرأة نوح وامرأة لوط تعملان عملا تؤذيان بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
قرأ عاصم وحمزة والكسائي " تظاهرا " بالتخفيف وقرأ نافع وأبو عمرو بالتشديد وكذلك ابن كثير وابن عامر في إحدى الروايتين لأن أصله تتظاهران
" فإن الله هو مولاه " يعني وليه وناصره
" وجبريل وصالح المؤمنين " يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وأصحابه رضي الله عنهم ينصرونه
قال حدثنا الفقيه ابن جعفر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن حمدان قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا سعيد بن هشام قال حدثنا هشام بن عبد الملك عن محمد بن أبان عن عبد الله بن عثمان عن عكرمة في قوله " وصالح المؤمنين " قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال عبد الله فذكرت ذلك لسعيد بن جبير قال صدق عكرمة
ويقال " صالح المؤمنين " يعني خيار أصحابه
ثم قال " والملائكة بعد ذلك ظهير " يعني الملائكة أيضا أنصار النبي صلى الله عليه وسلم " بعد ذلك " يعني مع ذلك أعوان النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال تعالى " عسى ربه إن طلقكن " فخوفهن الله تعالى بفراق النبي صلى الله عليه وسلم إياهن و " عسى " من الله واجب " إن طلقكن " عسى ربه " أن يبدله أزواجا "
قرأ نافع وأبو عمرو " يبدله " بتشديد الدال والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد يقال
بدل وأبدل
" خيرا منكن مسلمات " يعني مستسلمات لأمر النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال " مسلمات " يعني معينات
ثم قال " مؤمنات " يعني مصدقات في إيمانهن " قانتات " يعني مطيعات لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم(3/446)
447
" تائبات " يعني راجعات عن الذنوب " عابدات " يعني موحدات مطيعات " سائحات " يعني صائمات
وقال أهل اللغة إنما سمي الصائم سائحا لأن الذي يسيح للعبادة لا زاد معه يمضي نهاره لا يطعم شيئا ولذلك سمي الصائم سائحا " ثيبات وأبكارا "
الثيبات جمع الثيب والأبكار جمع البكر
وهن العذارى
ويقال هذا وعد من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يزوجه في الجنة بالثيب والثيب هي آسية امرأة فرعون والبكر هي مريم أم عيسى عليه السلام وهي ابنة عمران تكون وليته في الجنة ويجتمع عليها أهل الجنة فيزوج الله تعالى هاتين المرأتين من محمد صلى الله عليه وسلم
سورة التحريم 6 - 8
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم " يعني بعدوا أنفسكم عن النار بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
" وأهليكم " يعني وقوا أهليكم " نارا " بتعليمهم ما ينجيهم منها
وقال قتادة مروهم بطاعة الله تعالى وانهوهم عن معصية الله
وقال مجاهد يعني أوصوا أهليكم بتقوى الله ويقال أدبوهم وعلموهم خيرا تقوهم بذلك نارا " وقودها " يعني حطبها
والوقود ما توقد به النار يعني حطبها " الناس " إذا صاروا إليها
وحطبها " والحجارة " قبل أن يصير الناس إليها وهي حجارة الكبريت
ثم قال " عليها ملائكة غلاظ شداد " يعني على النار ملائكة موكلين " غلاظ شداد " يعني أقوياء يعملون بأرجلهم كما يعملون بأيديهم " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون " يعني ليسوا كأعوان ملوك الدنيا يمتنعون بالرشوة ولكن يفعلون " ما يؤمرون " يعني لا يفعلون غير ما أمرهم الله تعالى
قوله عز وجل " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم " يعني يقول لهم الملائكة يوم القيامة حين يعتذرون " لا تعتذروا اليوم " يعني لا يقبل منكم العذر
" إنما تجزون ما كنتم تعملون " يعني تعاقبون بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي
ثم أمر المؤمنين بالتوبة عن الذنوب
فقال ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ) يعني صادقا في توبته ويقال تنصحون لله فيها من غير مداهنة(3/447)
448
وروى سماك بن حرب عن النعمان بن بشير قال سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن التوبة النصوح فقال هو الرجل يتوب من عمل السوء ثم لا يعود إليه أبدا
وروي عن ابن عباس أنه قال توبة النصوح الندم بالقلب والاستغفار باللسان والإضمار أن لا يعود إليها
قرأ نافع وعاصم في إحدى الروايتين " توبة نصوحا " بضم النون والباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب فهو صفة التوبة يعني توبة بالغة في النصح كما يقال رجل صبور وشكور وشكور
ومن قرأ بالضم يعني ينصحوا بها نصوحا كما يقال نصحت له نصحا ونصوحا
ثم قال " عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم " يعني يغفر لكم ما مضى من ذنوبكم إن تبتم
" ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي " صار اليوم نصبا لنزع الخافض يعني يكفر عنكم في يوم لا يخزي الله النبي
قال الكلبي يوم لا يعذب الله النبي " والذين آمنوا معه " ويقال يوم لا يخزيه فيما أراد من الشفاعة
وغيره وتم الكلام
ثم قال تعالى " والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم " يعني على الصراط
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من المؤمنين من نوره أبعد ما بيننا وبين عدن أبين ومنهم من نوره لا يجاوز قدميه ) فقال " نورهم يسعى بين أيديهم " يعني يضيء بين أيديهم
" وبأيمانهم " يعني عن أيمانهم وعن شمائلهم على وجه الإضمار
" يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " ذلك حين طفئت أنوار المنافقين أشفق المؤمنون على نورهم ويتفكرون فيما مضى منهم من العذاب فيقولون " ربنا أتمم لنا نورنا " يعني احفظ علينا نورنا " واغفر لنا " ما مضى من ذنوبنا " إنك على كل شيء قدير " من إتمام النور والمغفرة
سورة التحريم 9 - 11
قوله عز وجل " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين " يعني جاهد الكفار بالسيف وجاهد المنافقين بالقول والتهديد
" وأغلظ عليهم " يعني اشدد عليهم يعني على كلا الفريقين يعني على الكفار بالسيف وعلى المنافقين باللسان
" ومأواهم جهنم " يعني إن لم يرجعوا ولم يتوبوا فمرجعهم إلى جهنم " وبئس المصير " يعني بئس القرار وبئس المرجع
قوله تعالى " ضرب الله مثلا " يعني وصف الله شبها لكفار مكة وذلك أنهم استهزؤوا(3/448)
449
وقالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم يشفع لنا
فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع لكفار مكة كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته
وشفاعة لوط لامرأته
فذلك قوله " للذين كفروا امرأة نوح " واسمها واغلة " وامرأة لوط " واسمها واهلة
ويقال فيه تخويف لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليثبتن على دينه وطاعته
ثم قال " كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين " يعني نوحا ولوطا عليهما السلام " فخانتاهما " يعني خالفتاهما في الدين
وروي عن ابن عباس أنه قال ما زنت امرأة نبي قط وما كانت خيانتهما إلا في الدين
فأما امرأة نوح كانت تخبر الناس أنه مجنون وأما امرأة لوط فكانت تدل على الأضياف
وقال عكرمة الخيانة في كل شيء ليس في الزنى
" فلم يغنيا عنهما من الله شيئا " يعني لم يمنعهما صلاح زوجيهما مع كفرهما من الله شيئا يعني من عذاب الله شيئا
" وقيل " لهما في الآخرة " ادخلا النار مع الداخلين " فكذلك كفار مكة وإن كانوا أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفعهم صلاح النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك أزواجه إذا خالفنه
ثم ضرب الله مثلا للمؤمنين فقال عز وجل " وضرب الله مثلا للذين آمنوا " يعني بين الله شبها وصفة للمؤمنين الذين آمنوا
" امرأة فرعون " فإنها كانت صالحة لم يضرها كفر فرعون فكذلك من كان مطيعا لله لا يضره شر غيره
ويقال هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة يعني لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون صبرت على إيذاء فرعون
" إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة " وذلك أن فرعون لما علم بإيمانها فطلب منها أن ترجع فأبت ولم ترجع عن إيمانها فوتدها بأربعة أوتاد في يديها ورجليها وربطها وجعل على صدرها حجر الرحى وجعلها في الشمس
فأراها الله تعالى بيتها في الجنة ونسيت ما هي فيه من العذاب وضحكت فقالوا عند ذلك هي مجنونة تضحك وهي في العذاب
وروى أبو عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس فإذا ذرت أي طلعت الشمس وارتفعت أظلتها الملائكة بأجنحتها وأريت مقعدها من الجنة
وروى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية امرأة فرعون )
ثم قال " رب ابن لي عندك بيتا في الجنة " يعني ارزقني في الجنة
" ونجني من فرعون وعمله " يعني من عذاب فرعون وظلمه
" ونجني من القوم الظالمين " يعني من قوم فرعون يعني من تعييرهم وشماتتهم(3/449)
450
سورة التحريم 12
ثم قال عز وجل " ومريم ابنت عمران " يعني واذكر مريم ويقال معناه وضرب الله مثلا مريم ابنة عمران وصبرها على إيذاء اليهود " التي أحصنت فرجها " يعني عفت نفسها عن الفواحش
" فنفحنا فيه من روحنا " يعني أرسلنا جبريل عليه السلام فنفخ في جيب درعها وذلك قوله " فنفخنا فيه من روحنا " أي روحا من أرواحنا وهي روح عيسى عليه السلام " وصدقت بكلمات ربها " أي صدقت بعيسى عليه السلام ويقال صدقت بالبشارات التي بشرها بها جبريل عليه السلام
" وكتبه " يعني آمنت بكتاب الله تعالى
وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص " وكتبه " يعني الكتب التي أنزلت على الأنبياء والباقون " بكتابه " يعني الإنجيل
وقرأ بعضهم " وصدقت بكلمة ربها " يعني صار عيسى مخلوقا بكلمة الله فصدقت بذلك
" وكانت من القانتين " يعني المطيعين لله(3/450)
451
سورة الملك
كلها مكية وهي ثلاثون آية
سورة الملك 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى " تبارك الذي بيده الملك " يعني تعالى وتعظم وهذا قول ابن عباس وقيل تفاعل من البركة
وقال الحسن " تبارك " يعني تقدس " الذي بيده الملك " يعني الذي له الملك كما قال " له ملك السموات والأرض " ويقال " الذي بيده الملك " يعني الذي له القدرة ونفاذ الأمر
" وهو على كل شيء قدير " يعني من العز والذل يعز من يشاء ويذل من يشاء
ثم قال " الذي خلق الموت والحياة " قال مقاتل " خلق الموت " يعني النطفة والعلقة والمضغة وخلق " الحياة " يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار حيا
وقال الكلبي " خلق الموت " بمنزلة كبش أملح لا يمر على شيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات " والحياة " شيء كهيئة الفرس البلقاء الأنثى التي يركب عليها جبريل والأنبياء صلوات الله عليهم
وقال قتادة في قوله " خلق الموت والحياة " يعني أذل الله ابن آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة وفناء وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء
ويقال " خلق الموت والحياة " يعني قدر الحياة ثم قدر الموت بعد الحياة
" ليبلوكم " يعني ليختبركم ما بين الحياة والموت
" أيكم أحسن عملا " في حياته ويقال أيكم أكمل عملا وأخلص عملا
ويقال " خلق الموت والحياة " أي خلق الحياة للامتحان وخلق الموت للجزاء كما قيل لولا المحن لقدمنا مفاليس
وذلك أن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلق النار وخلق لها أهلا وابتلاهم بالعمل والأمر والنهي فيستوجبون بفعلهم الثواب والعقاب
والابتلاء من الله تعالى أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب
ثم قال تعالى " وهو العزيز الغفور " يعني " العزيز " بالنقمة للكفار و " الغفور " لمن تاب منهم
ثم قال " الذي خلق " يعني تبارك الذي خلق " سبع سموات طباقا " يعني مطبقا(3/451)
452
بعضها فوق بعض مثل القبة " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت "
قرأ حمزة والكسائي " من تفوت " بغير ألف والباقون بالألف وهما لغتان
ويقال تفاوت الشيء وتفوت إذا اختلف يعني ما ترى في خلق الرحمن اختلافا واضطرابا ويقال ما ترى فيها من اعوجاج ولكنه مستوي
ويقال معناه ما ترى في خلق السموات من عيب وأصله من الفوت أي يفوت الشيء فيقع فيه الخلل ولكنه متصل بعضها ببعض
سورة الملك 4 - 6
ثم أمر بأن ينظروا في خلقه ليعتبروا به ويتفكروا في قدرته فقال عز وجل " فارجع البصر " يعني رد البصر إلى السماء
ويقال قلب البصر في السماء ويقال اجتهد بالنظر إلى السماء
" هل ترى من فطور " يعني هل ترى فيها من شقوق ويقال هل ترى فروجا أو صدوعا أو خللا " ثم ارجع البصر كرتين " يعني انظر إليها مرتين وإنما أمر بالنظر مرتين لأن الإنسان إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر فيه مرة أخرى فأخبر الله تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرتين لا يرى فيها عيبا بل يتحير بالنظر إليها فذلك قوله " ينقلب إليك البصر خاسئا " يعني يرجع البصر ذليلا
" وهو حسير " يعني قد أعيا تداعيا من قبل أن يرى في السماء خللا
وقال القتبي " خاسئا " أي مبعدا " وهو حسير " أي كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه قبل أن يرى شيئا من الخلل
ثم قال " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح " يعني بالنجوم والكواكب
" وجعلناها رجوما للشياطين " يعني جعلنا بعض النجوم رميا للشياطين إذا قصدوا استراق السمع
" وأعتدنا لهم " يعني للشياطين " عذاب السعير " يعني الوقود
" وللذين كفروا " يعني أعتدنا للذين جحدوا " بربهم " يعني بوحدانية الله تعالى " عذاب جهنم "
قرئ في الشاذ " عذاب جهنم " بالنصب يعني اعتدنا لهم عذاب جهنم فيصير نصبا لوقوع الفعل عليه وقراءة العامة بالضم على معنى خبر الابتداء
ثم قال " وبئس المصير " يعني المرجع
سورة الملك 7 - 11(3/452)
453
ثم قال عز وجل " إذا ألقوا فيها " يعني ألقوا الكفار في نار جهنم
" سمعوا لها " يعني سمعوا منها " شهيقا " يعني صوتا كصوت الحمار
" وهي تفور " يعني تغلي كغلي المرجل
" تكاد تميز من الغيظ " يعني تكاد تتفرق من غيظها على أعداء الله تعالى
" كلما ألقي فيها فوج " يعني من النار فوج يعني أمة من الأمم
" سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير " يعني رسولا يخبركم ويخوفكم " قالوا بلى " يعني يقولون بلى " قد جاءنا نذير " يعني الرسل " فكذبنا " الرسول " وقلنا " إنكم لكاذبون على الله تعالى
" ما نزل الله من شيء " أي كتابا ولا رسولا
" إن أنتم إلا في ضلال كبير " يعني قلنا لهم ما أنتم إلا في خطأ عظيم
" وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل " يعني لو كنا نسمع إلى الحق " أو نعقل " يعني نرغب في الهدى ونتفكر في الخلق
" ما كنا في أصحاب السعير " يعني مع أصحاب الوقود في النار
ويقال معناه ما كنا من أهل النار
" فاعترفوا بذنبهم " يعني أقروا بشركهم " فسحقا " يعني فبعدا من رحمة الله تعالى " لأصحاب السعير " يعني الوقود
وقال الزجاج " فسحقا " نصب على المصدر فمعناه أسحقهم الله سحقا فباعدهم من رحمته
والسحق البعد كقوله " في مكان سحيق " [ الحج 31 ] أي بعيد
قرأ الكسائي " فسحقا " بضم السين والحاء والباقون بضم السين وجزم الحاء وهما لغتان معناهما واحد
سورة الملك 12 - 15
ثم بين حال المؤمنين فقال عز وجل " إن الذين يخشون ربهم بالغيب " يعني يخافون الله تعالى ويخافون عذابه الذي هو " بالغيب " فهو عذاب يوم القيامة
" لهم مغفرة " يعني مغفرة لذنوبهم " وأجر كبير " يعني ثوابا عظيما في الجنة
قوله تعالى " وأسروا قولكم أو اجهروا به "
اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر يعني إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به
" إنه عليم بذات الصدور " يعني بما في القلوب من الخير والشر
وذلك أن جماعة من الكفار كانوا يتشاورون فيما بينهم فقال بعضهم لبعض لا تجهروا بأصواتكم فإن رب محمد صلى الله عليه وسلم يسمع فيخبره قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد " وأسروا قولكم أو اجهروا به " فإنه يعلم به
ثم أخبر بما هو أخفى من هاتين الحالتين فقال " إنه عليم بذات الصدور " يعني فكيف لا يعلم قول السر ثم قال عز وجل " ألا يعلم من خلق " يعني ألا يعلم السر من خلق السر يعني هو خلق السر في قلوب العباد فكيف لا يعلم بما في قلوب العباد
ثم قال " وهو اللطيف الخبير " يعني لطف علمه بكل شيء يعني يرى أثر كل شيء(3/453)
454
بما في القلوب من الخير والشر ويقال " لطيف " يرى أثر النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء " خبير " يعني عالم بأفعال العباد وأقوالهم
ثم ذكر نعمه على خلقه ليعرفوا نعمته فيشكروه ويوحدوه فقال تعالى " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا " يعني خلق لكم الأرض ومدها وذللها وجعلها لينة لكي تزرعوا فيها وتنتفعوا منها بألوان المنافع " فامشوا في مناكبها " يعني لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وأكامها وجبالها
وهذا خبر بلفظ الأمر
وقال القتبي " فامشوا في مناكبها " يعني جوانبها ومنكبا الرجل جانباه
وقال قتادة " مناكبها " جبالها
قال وكان لبشر بن كعب سرية فقال لها إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة لوجه الله فقالت مناكبها جبالها فصارت حرة
فأراد أن يتزوجها فسأل أبو الدرداء فقال له دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
ويقال " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا " أي سهل لكم السلوك فيها " فامشوا في مناكبها " أي امشوا فيها
" وكلوا من رزقه " يعني تأكلون من رزق الله تعالى وتشكرونه
" وإليه النشور " يعني إلى الله تبعثون من قبوركم
ويقال معناه هو الذي ذلل لكم الأرض قادر على أن يبعثكم لأنه ذكر أولا خلق السماء ثم ذكر خلق الأرض ثم ذكر النشور
سورة الملك 16 - 20
ثم خوفهم فقال عز وجل " ءأمنتم من في السماء " قال الكلبي ومقاتل يعني أمنتم عقوبة من في السماء يعني الرب تعالى إن عصيتموه
ويقال هذا على الاختصار ويقال أمنتم عقوبة من هو جار حكمه في السماء
قرأ أبو عمرو ونافع " آمنتم " بالمد والباقون بغير مد بهمزتين ومعناهما واحد وهو الاستفهام والمراد به التوبيخ
وقرأ ابن كثير بهمزة واحدة بغير مد على لفظ الخبر
" أن يخسف بكم الأرض " يعني تغور بكم الأرض كما فعل بقارون
" فإذا هي تمور " يعني تدور بكم إلى الأرض السفلى
" أم أمنتم من في السماء " يعني عذاب من في السماء
" أن يرسل عليكم حاصبا " يعني حجارة كما أرسلنا إلى قوم لوط
وقال القتبي " أم " على وجهين مرة يراد بها الاستفهام كقوله " أم يحسدون الناس " ومرة يراد بها أو كقوله " أم أمنتم " ويعني أو أمنتم
وهذا كقوله " أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا " [ الإسراء 68 ](3/454)
455
ثم قال " فستعلمون كيف نذير " يعني تعييري عليهم بالعذاب
ويقال معناه سيظهر لكم كيف عذابي
قوله تعالى " ولقد كذب الذين من قبلهم " يعني الأمم الخالية كذبوا رسلهم " فكيف كان نكير " يعني كيف كانت عقوبتي إياهم وإنكاري لهم
ثم قال " أو لم يروا إلى الطير " يعني أو لم يعتبروا في خلق الله تعالى كيف خلق الطيور " فوقهم صافات " يعني باسطات أجنحتها في الهواء
" ويقبضن " يعني ويضممن أجنحتهن ويضربن بها
" ما يمسكهن " يعني ما يحفظهن في الهواء عند القبض والبسط
" إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير " يعني عالما بصلاح كل شيء
سورة الملك 21 - 23
قوله عز وجل " أمن هذا الذي هو جند لكم " يعني حزب لكم ومنفعة لكم
" ينصركم من دون الرحمن " يعني من عذاب الرحمن ومعناه هاتوا أخبروني من الذي يمنعكم من عذاب الله تعالى إن عصيتموه
ثم قال " إن الكافرون إلا في غرور " يعني ما الكافرون إلا في خداع وأباطيل
ثم قال عز وجل " أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه " يعني من ذا الذي يرزقكم إن حبس الله رزقه في الذنب وهذا كقوله " هل من خلاق غير الله يرزقكم من السماء والأرض " [ فاطر 3 ] ثم قال " بل لجوا " يعني تمادوا في الذنب
ويقال تمادوا في الكفر
ويقال بل مضوا " في عتو " يعني في تكبر " ونفور " يعني تباعدا من الإيمان
ثم قال عز وجل " أفمن يمشي مكبا على وجهه " يعني الكافر يمشي ضالا في الظلمة أعمى القلب
" أهدى " يعني هو أصوب دينا
" أفمن يمشي سويا على صراط مستقيم " هو المؤمن يعمل بطاعة الله يعني على دين الإسلام
وقال قتادة " أفمن يمشي مكبا على وجهه " قال هو الكافر عمل بمعصية الله تعالى يحشره الله تعالى يوم القيامة على وجهه " أمن يمشي سويا على صراط مستقيم " هو المؤمن يعمل بطاعة الله تعالى يسلك به يوم القيامة طريق الجنة
وقال الزجاج أعلم الله تعالى أن المؤمن يسلك الطريق المستقيم وإن كان الكافر في ضلالته بمنزلة الذي يمشي مكبا على وجهه
قال مقاتل نزلت في شأن أبي جهل وقال بعضهم هذا لجميع الكفار وجميع المؤمنين
ثم قال " قل هو الذي أنشأكم " يعني خلقكم " وجعل لكم السمع " لكي تسمعوا بها الحق " والأبصار " يعني لكي تبصروا بها الحق " والأفئدة " يعني القلوب لكي تعقلوا بها(3/455)
456
الهدى
" قليلا ما تشكرون " يعني شكركم فيما صنع إليكم قليلا
ويقال معناه خلق لكم السمع والأبصار والأفئدة آلة لطاعات ربكم وقطعا لحجتكم وقدرة على ما أمركم فاستعملتم الآلات في طاعة غير الله تعالى ولم توحدوه
سورة الملك 24 - 27
قوله عز وجل " قل هو الذي ذرأكم في الأرض " يعني خلقكم من الأرض
ويقال كثركم في الأرض وأنزلكم في الأرض
" وإليه تحشرون " يعني إليه ترجعون بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم
قوله تعالى " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " يعني البعث بعد الموت إن كنتم صادقين أنا نبعث خاطبوا به النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجماعة
ويقال أراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
" قل إنما العلم عند الله " يعني علم قيام الساعة عند الله " وإنما أنا نذير مبين " يعني مخوفا أخوفكم بلغة تعرفونها
قوله تعالى " فلما رأوه زلفة " يعني لما رأوا العذاب قريبا ويقال لما رأوا القيامة قريبة " وسيئت وجوه الذين كفروا " يعني ذللت ويقال قبحت وسودت
وقال القتبي " فلما رأوه زلفة " يعني لما رأوا ما وعدهم الله تعالى قريبا منهم وقال الزجاج " سيئت " أي تبين فيها السوء " في وجوه الذين كفروا " " وقيل هذا الذي كنتم به تدعون " يعني تشكون في الدنيا قرأ قتادة والضحاك ويعقوب الحضرمي " تدعون " بالتخفيف يعني تستعجلون وتدعون الله في قولكم فأمطر علينا حجارة من السماء وقراءة العامة " تدعون " بالتشديد يعني تكذبون
ويقال من أجله " تدعون " الأباطيل يعني تدعون أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما لا ترجعون ولا تجازون
ويقال " تدعون " أي تتمنون
سورة الملك 28 - 30
قوله تعالى " قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي " يعني إن عذبنا الله
" أو رحمنا " يعني غفر لنا
" فمن يجير الكافرين " يعني من ينجيهم ويغيثهم " من عذاب أليم " يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ( نحن مؤمنون بالله ونتوسل بعبادته إليه لا نأمن من عذابه على معصيته(3/456)
457
فكيف تؤمنون مع كفركم به من عذابه وعقوبته ) " فمن يجير الكافرين من عذاب أليم " أي من يقدر أن ينجي الكافرين من عذاب أليم
ثم قال عز وجل " هو الرحمن آمنا به " يعني قل هو الرحمن بفضله إن شاء عذبنا وإن شاء رحمنا آمنا به " وعليه توكلنا " يعني فوضنا إليه أمورنا
" فستعلمون من هو في ضلال مبين " يعني فستعرفون عند نزول العذاب من هو في خطأ بين
قرأ الكسائي " فسيعلمون " بالياء بلفظ الخبر والباقون بالتاء على معنى المخاطبة يعني سوف تعلمون يا كفار مكة
" قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا " يعني إن صار ماؤكم غائرا لا تناله الأيدي ولا الدلاء
" فمن يأتيكم بماء معين " يعني بماء طاهر
والغور والغائر يقال ماء غور ومياه غور وهو مصدر لا يثنى ولا يجمع
وقال مجاهد " بماء معين " يعني جار
وروى عكرمة عن ابن عباس يعني الطاهر
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له
" تبارك الذي بيده الملك " "
وروى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال يؤتى بالرجل في قبره من قبل رأسه فيقول له ليس لك علي من سبيل
قد كان يقرأ علي سورة الملك فيؤتى من قبل رجليه فيقول ليس لك علي سبيل كان يقوم بسورة الملك فيؤتى من قبل جوفه فيقول ليس لك علي سبيل
قد أوعاني سورة الملك قال وهي المنجية تنجي صاحبها من عذاب القبر
وروى ابن الزبير عن جابر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ سورة " ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه " و " تبارك الذي بيده الملك " والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم(3/457)
458
سورة نون والقلم
مكية وهي اثنتان وخمسون آية
سورة نون والقلم 1 - 6
قول الله تبارك وتعالى " ن والقلم "
قرأ الكسائي ونافع وعاصم في إحدى الروايتين بالإدغام والباقون بإظهار النون وهما لغتان ومعناهما واحد
قال ابن عباس هي السمكة التي تحت الأرضين
وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال أول ما خلق الله تعالى من شيء القلم فقال اكتب قال بم أكتب قال اكتب القدر فيجري بما هو كائن إلى قيام الساعة
ثم خلق النون يعني السمكة فدحا الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات فاضطربت النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة
وقال سعيد بن جبير والحسن وقتادة النون الدواة وقال قتادة لولا الدواة والقلم ما قام لله دين ولا صلح عيش خلقه والله يعلم ما يصلح خلقه
ويقال النون افتتاح اسم الله تعالى وهو النون
ويقال هو آخر اسمه من الرحمن وهذا قسم أقسم الله تعالى بالنون والقلم وجواب القسم " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " فذلك قوله " نون والقلم "
" وما يسطرون " يكتب الحفظة من أعمال بني آدم ويقال " وما يسطرون " يعني تكتب الكتبة في اللوح المحفوظ
" ما أنت بنعمة ربك بمجنون " يعني ما أنت يا محمد بحمد الله تعالى بمجنون كما يزعمون
وذلك أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى " اقرأ باسم ربك الذي خلق " [ العلق 1 ] إلى قوله " علم الإنسان ما لم يعلم " [ العلق 5 ] وعلمه جبريل الصلاة فقال أهل مكة جن محمد صلى الله عليه وسلم
وكان النبي يفر من الشاعر والمجنون فلما نسبوه إلى الجنون شق ذلك عليه فنزل " ما أنت بنعمة ربك بمجنون "
بل أنت رسول الله تعالى
ثم قال " وإن لك لأجرا غير ممنون " يعني غير مقطوع ويقال غير محسوب(3/458)
459
ويقال لا يمن عليك
" وإنك لعلى خلق عظيم " يعني على خلق حسن
وقال مقاتل يعني على دين الإسلام وقال عطية يعني على آدب القرآن
ثم قال " فستبصر ويبصرون " يعني سترى ويرون ويقال فستعلم ويعلمون " بأيكم المفتون " يعني إذا نزل بكم العذاب تعلمون أيكم المفتون يعني بأيكم المجنون ويقال الباء زيادة ومعناه أيكم المفتون يعني أيكم المجنون وقال قتادة يعني أيكم أولى بالشيطان وقال أبو عبيدة أيكم المجنون والباء زيادة واحتج بقول القائل نضرب بالسيف ونرجو بالفرج يعني نرجو الفرج
سورة نون والقلم 7 - 16
قوله تعالى " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله " يعني هو عالم بمن أخطأ الطريق وضل عن دينه " وهو أعلم بالمهتدين " لدينه
ثم قال " فلا تطع المكذبين وذلك أنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فأمره الله تعالى أن يثبت على دينه فقال تعالى " فلا تطع المكذبين " بوحدانية الله تعالى
" ودوا لو تدهن فيدهنون " قال مجاهد ودوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيميلون إليك
وقال السدي ودوا لو تكفر فيكفرون وقال القتبي ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم وكانوا أرادوا أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة
ثم قال " ولا تطع كل حلاف مهين " يعني كذابا في دين الله والحلاف مكثار الحلف " مهين " ضعيف فاجر
نزلت في الوليد بن المغيرة
وقال القتبي المهين الحقير الدنئ وقال الزجاج وهو فعيل من المهانة وهي القلة
ومعناه في هذا الموضع القلة في الرأي والتمييز
ثم قال " هماز " يعني الوليد بن المغيرة طعان لعان مغتاب " مشاء بنميم " يعني يمشي بين الناس بالنميمة
وقال القتبي " هماز " يعني عياب
ثم قال " مناع للخير " يعني بخيلا لا ينتفع بماله لنفسه ولا ينفق على غيره
ويقال معناه " مناع للخير " يعني التوحيد ويمنع الناس عن التوحيد
" معتد " يعني ظلوما لنفسه " أثيم " يعني فاجرا
قوله تعالى " عتل " يعني شديد الخصومة بالباطل ويقال " عتل " يعني أكول(3/459)
460
شروب صحيح الجسم رحيب البطن
" بعد ذلك " يعني مع ذلك " زنيم " يعني ملصق
وقال ابن عباس الزنيم الدعي الملصق ويستدل بقول القائل
( زنيم تداعاه الرجال زيادة % كما زيد في عرض الأديم الأكارع )
ويقال الزنيم الشديد الخلق وقد روي في الخبر هذا التفسير
وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم ) قال أما الجواظ فالذي جمع ومنع وتدعوه لظى نزاعة للشوى وأما الجعظري فالفظ الغليظ
وأما العتل الزنيم فالشديد الخلق رحيب الصدر والجوف أكول شروب ظلوم للناس
ويقال
الزنيم الدعي
وذكر أنه لما نزلت هذه الآية قال لأمه إن محمدا لصادق وأنه قال كذا وكذا فأقرت والدته له بذلك
ثم قال " أن كان ذا مال وبنين " يعني تطعه وإن كان ذا مال وبنين فلا تطعه بسبب ماله
ثم قال " إذا تتلى عليه آياتنا " يعني القرآن " قال أساطير الأولين " يعني كذبهم وأباطيلهم
وقال السدي يعني أساجيع الأولين
ثم قال " سنسمه على الخرطوم " يعني سنضربه على الوجه ويقال سنسود وجهه يوم القيامة ويقال سنسمه على أنفه وقال القتبي للعرب في هذا مذهب يقولون للرجل إذا سبه سبة قبيحة أو يثني عليه فاحشة قد وسمه ميسم سوء يريدون أنه ألصق به عارا لا يفارقه كما أن السمة لا يعفو أثرها
وقد وصف الله تعالى الوليد بالحلف والمهانة والمشي بالنميمة والبخل والظلم والإثم والدعوى فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة
قال والذي يدل على هذا ما روي عن الشعبي في قوله " عتل بعد ذلك زنيم " قال العتل الشديد
والزنيم له زنمة من الشر يعرف بها كما تعرف الشاة
سورة نون والقلم 17 - 30(3/460)
461
سورة نون والقلم 31 - 33
ثم قال " إنا بلوناهم " يعني اختبرنا أهل مكة بترك الاستثناء
ويقال ابتليناهم بالجوع والشدة
" كما بلونا أصحاب الجنة " يعني أهل ضيروان قبيلة باليمن
وروى أسباط عن السدي قال كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فلم يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا فيها
فلما مات أبوهم قال بنوه بعضهم لبعض على ما نعطي أموالنا هؤلاء المساكين تعالوا فلندع من يصرفها قبل أن يعلم المساكين ولم يستثنوا فانطلقوا وهم يتخافتون أي خفيا يقول بعضهم لبعض لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين فذلك قوله " إذ أقسموا " يعني حلفوا فيما بينهم
" ليصرمنها مصبحين " يعني ليجدنها وقت الصبح أي ليقطعنها قبل أن يخرج المساكين
" ولا يستثنون " يعني لم يقولوا إن شاء الله
وروي في الخبر أن أباهم كان إذا أراد أن يصرم النخل اجتمع هناك مساكين كثير وقد جعل له علامة فكل ثمرة تسقط وراء العلامات تكون للمساكين
فكانوا يأخذون الثمر قدر ما يتزودون به أياما كثيرة
فلما مات الرجل قال بنوه فيما بينهم إن أبانا كان عياله أقل وحاجته أقل فصار عيالنا أكثر وحاجتنا أكثر
فخرجوا بالليل لا يشعر بهم المساكين فاحترقت نخيلهم في تلك الليلة فذلك قوله " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون " يعني بعث الله تعالى نارا على جنتهم بالليل
والطائف الذي أتاك ليلا فأحرقها وهم نائمون
" من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم " يعني صارت الحديقة كالليل المظلم
وقال القتبي الصريم من أسماء الأضداد
يسمى الليل صريما والصبح صريما لأن الليل ينصرم عن النهار والنهار ينصرم عن الليل
ويقال " كالصريم " يعني ذهب ما فيها فكأنه صرم أي قطع وجز
ثم قال " فتنادوا مصبحين " يعني نادى بعضهم بعضا عند الصبح وقال بعضهم لبعض " أن اغدوا على حرثكم " يعني اخرجوا بالغداة على جز زرعكم وصرام نخيلكم
" إن كنتم صارمين " يعني إن أردتم أن تصرموها قبل أن يحضرها المساكين
" فانطلقوا " يعني ذهبوا إلى نخيلهم " وهم يتخافتون " يعني يتشاورون فيما بينهم بكلام خفي " أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد " قال مقاتل يعني على جد في أنفسهم
" قادرين " على جنتهم
وقال الزجاج معناه على قصد وقال القتبي الحرد المنع ويقال الحرد القصد " قادرين " واجدين
ويقال على قوة ونشاط ويقال على طريق جنتهم ويقال الحرد اسم تلك الجنة
" فلما رأوها " يعني فلما أتوها ورأوها مسودة أنكروها " قالوا إنا لضالون " يعني(3/461)
462
أخطأنا الطريق وليست هذه جنتنا
فلما تفحصوا علموا أنها جنتهم وهذا عقوبة لهم فقالوا " بل نحن محرومون " يعني حرمنا منفعتها
" قال أوسطهم " يعني أعدلهم وأعلمهم وأعقلهم " ألم أقل لكم لولا تسبحون " يعني هلا تستثنون في أيمانكم
ويقال كان استثناؤهم التسبيح يعني هلا قلتم سبحان الله فندموا على فعلهم و " قالوا سبحان ربنا " يعني نزهوه وعظموه تائبين عن ذنوبهم ويقال معناه نستغفر ربنا
" إنا كنا ظالمين " يعني ضارين بأنفسنا عاصين بمنعنا المساكين
" فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون " يعني جعل بعضهم يلوم بعضهم بعضا بصنيعهم ذلك ثم قالوا بأجمعهم قوله " قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين " يعني عاصين بمنعنا المساكين
ثم قالوا " عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها " يعني يعوضنا خيرا منها في الجنة
" إنا إلى ربنا راغبون " يعني راجين مما عنده
قال الله تعالى " كذلك العذاب " يعني هكذا عذاب الدنيا لمن منع حق الله تعالى
" ولعذاب الآخرة أكبر " لمن لم يتب ولم يرجع عن ذنبه
ويقال هكذا العذاب في الدنيا لأهل مكة بالجوع ولعذاب الآخرة أكبر إن لم يؤمنوا
" لو كانوا يعلمون " يعني لو كانوا يفقهون
ويقال لو كانوا يصدقون
سورة نون والقلم 34 - 39
ثم ذكر ما للمتقين من الثواب فقال تعالى " إن للمتقين عند ربهم " في الآخرة " جنات النعيم "
فلما ذكر الله تعالى نعيم الجنة قال عتبة بن ربيعة إن كان كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فإن لنا في الآخرة أكثر ما للمسلمين لأن فضلنا وشرفنا أكثر فنزل " أفنجعل المسلمين كالمجرمين " يعني أفنركم المجرمين كالمؤمنين ويقال معناه أفنهين المؤمنين كالمجرمن يعني لا يكون حال المسلمين في الهوان والذل كالمشركين
ثم قال تعالى " ما لكم كيف تحكمون " يعني ويحكم كيف تقضون بالجور " أم لكم كتاب فيه تدرسون " يعني ألكم كتاب تقرؤون فيه " إن لكم فيه لما تخيرون " يعني في الكتاب مما تتمنون
" أم لكم أيمان علينا بالغة " يعني ألكم عهد عندنا وثيق " إلى يوم القيامة "
يعني في يوم القيامة
" إن لكم لما تحكمون " يعني ما تقضون به لأنفسكم في الآخرة
سورة نون والقلم 40 - 41(3/462)
463
سورة نون والقلم 42 - 43
قوله تعالى " سلهم أيهم بذلك زعيم " يعني أيهم كفيل يكفل بذلك " أم لهم شركاء " يعني شهداء يشهدون أن الذي قالوا لهم حق
" فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين " يعني يشهدون أن لهم في الآخرة ما للمسلمين فهذا كله لفظ الاستفهام والمراد به الزجر والإياس يعني ليس لهم ذلك
قوله عز وجل " يوم يكشف عن ساق " يعني اذكر ذلك اليوم ويقال معناه أن الثواب والعقاب الذي ذكر في يوم يكشف عن ساق
قال ابن عباس يعني يظهر قيام الساعة
وروى سفيان عن المغيرة عن إبراهيم عن ابن عباس قال " عن ساق " يعني عن أمر عظيم وقال مجاهد " يوم يكشف عن ساق " عن بلاء عظيم وقال قتادة يكشف شدة الأمر
" ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون "
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد حدثنا ابن منيع قال حدثنا هدبة قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال حدثنا أبي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون في الدنيا ويبقى أهل التوحيد فيقال لهم كيف بقيتم وقد ذهب الناس فيقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره قال أو تعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم
فيقال لهم وكيف تعرفونه ولم تروه قالوا لا شبه له
فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا ويبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فيريدون السجود فلا يستطيعون
فيقول الله تعالى عبادي ارفعوا رؤوسكم قد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار )
قال أبو بردة فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال والله الذي لا إله إلا هو أحدثك أبوك بهذا الحديث فحلفت له ثلاثة أيمان فقال عمر ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا الحديث
وقال القتبي " يوم يكشف عن ساق " هذا من الاستعارة فسمى الشدة ساقا لأن الرجل إذا وقع في الشدة شمر عن ساقه فاستعيرت في موضع الشدة
ويقال يكشف ما كان خفيا
ويقال يبدؤون عن أمر شديد وهو عذاب عظيم يوم القيامة
ثم قال عز وجل " خاشعة أبصارهم " يعني ذليلة أبصارهم " ترهقهم ذلة " يعني تغشاهم وتعلوهم كآبة وكسوف وسواد
وذلك أن المسلمين إذا رفعوا رؤوسهم من السجود صارت وجوههم بيضاء كالثلج
فلما نظر اليهود والنصارى والمنافقون وهم الذين لم يقدروا على السجود حزنوا واغتموا واسودت وجوههم(3/463)
464
ثم بين المعنى الذي عجزهم عن السجود فقال " وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " يعني كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا وهم أصحاء معافون فلم يسجدوا
سورة نون والقلم 44 - 52
ثم قال عز وجل " فذرني ومن يكذب بهذا الحديث " يعني دع هؤلاء الذين لا يؤمنون بهذا القرآن
ويقال فوض أمرهم إلي فإني قادر على أخذهم متى شئت
" سنستدرجهم " يعني سنأخذهم وسيأتيهم العذاب
" من حيث لا يعلمون " يعني نذيقهم من العذاب درجة درجة من حيث لا يعلمون أن العذاب نازل بهم
وأصله في اللغة من ارتقاء الدرجة
وقال السدي كلما جددوا معصية جدد لهم نعمة وأنساهم شكرها وذلك الاستدراج
" وأملي لهم " يعني أمهلهم وأؤجلهم إلى وقت
" إن كيدي متين " يعني عقوبتي شديدة إذا نزلت بهم لا يقدرون على دفعها
قوله عز وجل " أم تسألهم أجرا " يعني أتسألهم على الإيمان جعلا " فهم من مغرم مثقلون " يعني لأجل الغرم يمتنعون
وهذا يرجع إلى قوله " أم لكم كتاب فيه تدرسون "
ثم قال " أم عندهم الغيب " يعني اللوح المحفوظ
" فهم يكتبون " يعني ما يقولون
ثم قال عز وجل " فاصبر لحكم ربك " يعني على أمر ربك ولقضاء ربك
" ولا تكن كصاحب الحوت " يعني لا تكن في قلة الصبر والضجر مثل يونس عليه السلام " إذ نادى وهو مكظوم " يعني مكروبا في بطن الحوت وقال الزجاج " مكظوم " أي مملوء غما
" لولا أن تداركه نعمة من ربه " يعني لولا النعمة والرحمة التي أدركته من الله تعالى " لنبذ بالعراء " يعني لطرح بالصحراء
والصحراء هي الأرض التي لا يكون فيها نخل ولا شجر يوارى فيها " وهو مذموم " يعني يذم ويلام
ولكن كان رحمة الله تعالى حيث نبذ بالعراء وهو سقيم وليس بمذموم
قوله تعالى " فاجتباه ربه " يعني اختاره ربه للنبوة " فجعله من الصالحين " يعني من المرسلين كقوله " وإن يونس لمن المرسلين "
قوله عز وجل " وإن يكاد الذين كفروا " يعني أراد الذين كفروا
" ليزلقونك(3/464)
465
بأبصارهم ) يعني ليرهقونك بأبصارهم إن قدروا على ذلك
ويقال معناه إذا قرأت القرآن فينظرون إليك نظرا شديدا بالعداوة يكاد يزلقك أي يسقطك من شدة النظر
وذكر عن الفراء أنه قال " ليزلقونك بأبصارهم " يعني يعتانونك يعني يصيبونك بأعينهم
وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أراد أن يعتان شيئا يقبل على طريق الإبل إذا صدرت عن الماء فيصيب منها ما أراد بعينه فأرادوا أن يصيبوا النبي صلى الله عليه وسلم
قال الكلبي " ليزلقونك " يعني ليصرعونك
" لما سمعوا الذكر " يعني قراءتك القرآن " ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين " يعني ما هذا القرآن إلا عظة للجن والإنس ويقال عز وشرف للعالمين
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر " آن كان ذا مال وبنين " بهمزتين والباقون بهمزة واحدة إلا ابن عامر فإنه يقرأ " آن كان " بالمد
فمن قرأ بهمزتين فالألف الأولى للاستفهام والثانية ألف إن
ومن قرأ بهمزة واحدة معناه لأن كان ذا مال أي لا تعطه لماله وتحمل لأن كان ذا مال
قال أساطير الأولين
قرأ نافع " ليزلقونك " بنصب الياء والباقون بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد
والله أعلم(3/465)
466
سورة الحاقة
مكية وهي اثنتان وخمسون آية
سورة الحاقة 1 - 8
قول الله تبارك وتعالى " الحاقة ما الحاقة " وهو اسم من أسماء القيامة ومعناه القيامة ما القيامة تعظيما لأمرها
وقال قتادة في قوله " الحاقة " يعني حقت لكل قوم أعمالهم يعني حقت للمؤمنين أعمالهم وللكافرين أعمالهم من حق يحق إذا صح
وذكر عن الفراء أنه قال إنما قيل لها الحاقة لأن فيها حواق الأمور يقال لقد حق عليك الشيء أي وجب
ثم قال " وما أدراك ما الحاقة " يعني ما تدري أي يوم هو تعظيما لأمرها
ثم وصف القيامة في قوله " فإذا نفخ في الصور " [ الحاقة 13 ]
ثم ذكر من كذب بالساعة والقيامة وما نزل بهم فقال " كذبت ثمود وعاد بالقارعة " يعني كذبت قوم صالح وقوم هود بالقيامة
وإنما سميت قارعة لأنها تقرع قلوب الخلق
ثم أخبر عن عقوبتهم في الدنيا فقال " فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية " يعني بطغيانهم ومعناه طغيانهم حملهم على التكذيب فأهلكوا
ويقال أهلكوا بالرجفة الطاغية كما قال في قصة عاد " بريح صرصر عاتية " يعني عتت على خزانها فذلك قوله " وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية " يعني باردة يعني شديدة البرد " سخرها عليهم " يعني سلطها عليهم " سبع ليال وثمانية أيام حسوما " يعني دائمة متتابعة
ويقال " عاتية " يعني شديدة " حسوما " يعني كاملة دائمة لا يفتر عنهم
وقال القتبي " حسوما " أي تباعا
وأصله من حسم الداء لأنه يكون مرة بعد مرة
" فترى القوم فيها صرعى " يعني في الريح
ويقال في الأيام ويقال في القرية
" صرعى " يعني موتى ويقال هلكى ويقال قلعى مطروحين " كأنهم أعجاز نخل خاوية " يعني منقلعة ساقطة
وروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن عباس قال ما أنزل الله تعالى قطرة من ماء إلا بمثقال ولا شعرة من الريح إلا بمكيال إلا يوم عاد ونوح
وأما(3/466)
467
الريح فعتت على خزانها يوم عاد فلم يكن لهم عليها سبيل
وأما الماء طغى على خزانة يوم نوح فلم يكن لهم عليه سبيلا كما قال الله تعالى " إنا لما طغا الماء حملناكم " [ الحاقة11 ] الآية
ثم قال عز وجل " فهل ترى لهم من باقية " يعني لم يبق أحدا منهم
سورة الحاقة 9 - 10
ثم قال عز وجل " وجاء فرعون ومن قبله "
قرأ أبو عمرو والكسائي " ومن قبله " بكسر القاف ونصب الباء الموحدة يعني ظهر فرعون وأتباعه وأشياعه والباقون " ومن قبله " بنصب القاف وجزم الباء يعني من تقدمه من عتاة الكفار
ثم قال " والمؤتفكات بالخاطئة " يعني قريات قوم لوط يعني جاء فرعون وقوم لوط " بالخاطئة " يعني بالشرك وبأعمالهم الخبيثة
" فعصوا رسول ربهم " يعني كذبوا رسلهم " فأخذهم أخذة رابية " يعني عاقبهم الله تعالى عقوبة شديدة
سورة الحاقة 11 - 17
ثم قال عز وجل " إنا لما طغى الماء " يعني طغى على خزانه يوم نوح كما روي عن ابن عباس
ويقال " طغى الماء " أي ارتفع ويقال في اللغة طغى الشيء إذا ارتفع جدا
وقال قتادة إنه طغى فوق كل شيء خمسة عشر ذراعا
" حملناكم في الجارية " يعني السفينة ومعناه حين غرق الله تعالى قوم نوح حملناكم يا محمد صلى الله عليه وسلم في السفينة في أصلاب آبائكم " لنجعلها لكم تذكرة " يعني لنجعل هلاك قوم نوح لكم عبرة لتعتبروا بها
( وتعيها أذن واعية ) يعني لتسمع هذا الخبر أذن سامعة ويحفظها قلب حافظ على معنى الإضمار
ثم رجع إلى أول السورة فقال " فإذا نفح في الصور نفخة واحدة " يعني نفخ إسرافيل في الصور نفخة واحدة
ثم قال " وحملت الأرض والجبال " يعني قلعت ما على الأرض من نباتها وشجرها وحملت الجبال عن أماكنها
( فدكتا دكة واحدة ) يعني فضربت على الأرض مرة واحدة وهذا قول مقاتل
وقال الكلبي يعني رفعت الأرض والجبال فزلزلتا زلزلة واحدة
ويقال " فدكتا دكة واحدة " أي كسرتا كسرة واحدة
" فيومئذ وقعت الواقعة " يعني في ذلك اليوم قامت القيامة
" وانشقت السماء " يعني انفرجت السماء بنزول الملائكة
" فهي يومئذ واهية " يعني ضعيفة منشقة متمزقة من الخوف
" والملك على أرجائها " يعني الملائكة على نواحيها وأطرافها يعني صفوف الملائكة حول الأرض " ويحمل عرش ربك فوقهم " يعني فوق الخلائق
( يومئذ ثمانية ) يعني ثمانية(3/467)
468
أجزاء من المقربين لا يعلم كثرة عددهم إلا الله
وروى عطاء بن السائب عن ميسرة في قوله " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " يعني ثمانية من الملائكة أرجلهم في تخوم الأرض السابعة
وقال وهب بن منبه أربعة من الملائكة يحملون العرش على أكتافهم لكل واحد منهم أربعة وجوه وجه ثور ووجه أسد ووجه نسر ووجه إنسان
روى الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب في قوله تعالى " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " ثمانية أوعال ما بين ركبهم إلى أظلافهم مسيرة خمسمائة عام
سورة الحاقة 18 - 24
ثم قال عز وجل " يومئذ تعرضون " أي تساقون إلى الحساب والقصاص وقراءة الكتب
ويقال " تعرضون " على الله تعالى كقوله " وعرضوا على ربك صفا " [ الكهف 48 ] ثم قال " لا تخفى منكم خافية " يعني لا يخفى على الله منكم ولا من أعمالكم شيء
قرأ حمزة والكسائي " لا يخفى " بالياء والباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأن لفظ خافية مؤنث
ومن قرأ بالياء انصرف إلى المعنى يعني لا يخفى منكم خاف والهاء ألحقت للمبالغة
ثم قال عز وجل " فأما من أوتي كتابه بيمينه " يعني كتابه الذي فيه عمله فرأى فيه الحسنات فسر بذلك " فيقول " لأصحابه " هاؤم أقرؤوا كتابيه " يعني تعالوا اقرأوا كتابيه
قال القتبي " هاؤم " في اللغة بمنزلة خذ وتناول ويقال للاثنين هاؤما وللجماعة هاؤموا
والأصل هاكم فحذفوا الكاف وأبدلوها همزة
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال بلغني أنهم يعرضون ثلاث عرضات
فأما عرضتان فهما الخصومات والمعاذير وأما الثالثة فتطاير الصحف في الأيدي
وروى عن عبد الله بن مسعود نحو هذا
ثم قال " إني ظننت أني ملاق حسابيه " يعني أيقنت وعلمت أني أحاسب
قوله تعالى " فهو في عيشة راضية " يعني في عيش مرضي " في جنة عالية " يعني مرتفعة
" قطوفها دانية " يعني اجتناء ثمارها قريب يعني شجرها قريب يتناوله القائم والقاعد ويقال لهم " كلوا واشربوا هنيئا " يعني كلوا من ثمار الجنة واشربوا من شرابها هنيئا يعني طيبا بلا داء ويقال حلال لا إثم فيه
" بما أسلفتم " يعني بما عملتم وقدمتم " في الأيام الخالية " يعني في الدنيا
ويقال بما عملتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية يعني في الدنيا
سورة الحاقة 25 - 26(3/468)
469
سورة الحاقة 27 - 37
ثم قال عز وجل " وأما من أوتي كتابه بشماله " روي عن ابن عباس أنه قال الآية الأولى نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد وهذه الآية في الأسود بن عبد الأسد ويقال في جميع المؤمنين وفي جميع الكفار
" فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه " يعني لم أعط كتابيه " ولم أدر ما حسابيه " يعني لم أعلم ما حسابي
قوله تعالى " يا ليتها كانت القاضية " يا ليتني تركت على الموتة الأولى بين النفختين ويقال " يا ليتها كانت القاضية " يعني المنية
قال مقاتل يعني يتمنى الموت
" ما أغنى عني ماليه " يعني ما أرى ينفعني مالي الذي جمعت في الدنيا
" هلك عني سلطانية " يعني بطل عني عذري وحجتي
يقول الله تعالى " خذوه فغلوه " يعني بالأغلال الثقال
" ثم الجحيم صلوه " يعني أدخلوه
" ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه " يعني أدخوله في تلك السلسلة
" أنه كان لا يؤمن بالله العظيم " يعني لا يصدق بالله العظيم
" ولا يحض " يعني لا يحث نفسه ولا غيره " على طعام المسكين " يعني لا يطعم المسكين في الدنيا
" فليس له اليوم هاهنا حميم " يعني قريب يمنع منه شيئا يعني أحدا يمنع من العذاب
" ولا طعام إلا من غسلين " يعني ليس له فيها طعام إلا من غسلين
وروى عكرمة عن ابن عباس قال لا أدري ما الغسلين
وروي عنه أنه قال الغسلين ما سقط عن عروقهم وذاب من أجسادهم
وقال القتبي هو فعلين من غسلت فكأنه غسالة
" لا يأكله إلا الخاطئون " يعني المشركين
وروى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قرأ عنده " لا يأكله إلا الخاطئون " وقال ابن عباس كلنا نخطئ ولكن " لا يأكله إلا الخاطئون " يعني العاصين الكافرين
سورة الحاقة 38 - 52
ثم قال عز وجل " فلا أقسم بما تبصرون " يعني أقسم بما تبصرون من الشيء ومن(3/469)
470
الخلق
" وما لا تبصرون " من الخلق
" إنه لقول رسول كريم " يعني هذا القرآن قول رسول كريم على الله تعالى يعني جبريل وهذا قول مقاتل
ويقال " قول رسول كريم " يعني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني محمدا صلى الله عليه وسلم
قال أبو العالية إنه يعني القرآن " لقول رسول كريم " يقرأ عليك يا محمد
ويقال معناه إن الذي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن ويقرؤه عليه جبريل الكريم على الله تعالى ليس الشياطين كما يقولون
" وما هو بقول شاعر " يعني القرآن ليس بقول شاعر
" قليلا ما تؤمنون " يعني قليلا ما تؤمنون
" وما " صلة
قرأ ابن كثير وابن عامر في رواية هشام " قليلا ما يؤمنون " بالياء " وقليلا ما يذكرون " بالياء والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال " ولا بقول كاهن " يعني ليس بقول كاهن وليس بقول شيطان أي عراف كاذب
" قليلا ما تذكرون " يعني قليلا ما تتعظون
ثم قال عز وجل " تنزيل من رب العالمين " يعني القرآن هو كلام رب العالمين أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال " ولو تقول علينا بعض الأقاويل " يعني أن محمد صلى الله عليه وسلم لو قال من ذات نفسه " لأخذنا منه باليمين " يعني لعاقبناه
فأعلم الله تعالى أنه لا محاباه لأحد إذا عصاه بالقرآن وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم
ومعنى قوله " باليمين " يعني بالقوة
وقال القتبي إنما قام اليمين مقام القوة لأن قوة كل شيء في يمينه
ولأهل اللغة في هذا مذاهب أخر وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة أحد فيقولون خذ بيده وافعل به كذا وكذا فكأنه قال الله عز وجل لو كذب علينا لأمرنا به بالأخذ بيده ثم عاقبناه
ويقال " لو تقول علينا بعض الأقاويل " معناه لو زاد حرفا واحدا على ما أوحيته إليه أو نقص لعاقبته وكان هو أكرم الناس علي
وفي الآية تنبيه لغيره لكيلا يغيروا شيئا من كتاب الله تعالى ولا يتقولوا فيه شيئا من ذات أنفسهم
ويقال " باليمين " يعني بالحق
ويقال بالحجة
" ثم لقطعنا منه الوتين " وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه يعني لأهلكناه
ثم قال " فما منكم من أحد عنه حاجزين " يعني ليس أحد منكم يمنعنا من عذابه
" وإنه " يعني القرآن " لتذكرة للمتقين " يعني عظة للذين يتقون الشرك والفواحش
" وإنا لنعلم أن منكم مكذبين " يعني وإنا لنعلم أن منكم أيها المؤمنون مكذبون بالقرآن يعني المنافقين
ثم قال عز وجل " وإنه لحسرة على الكافرين " يعني إن هذا القرآن ندامة على الكفارين يوم القيامة لأنه يقال لهم ألم يقرأ عليكم القرآن فيكون لهم حسرة وندامة بترك الإيمان
" وإنه لحق اليقين " يعني إن تلك الندامة لحق اليقين ليكون ذلك
ويقال إن القرآن من الله تعالى " حق اليقين " حقا يقينا
" فسبح باسم ربك العظيم " يعني صل لله تعالى
ويقال سبحه باللسان
والله أعلم وإليه المرجع والمآب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه(3/470)
471
سورة المعارج
مكية وهي أربعون وأربع آيات
سورة المعارج 1 - 7
قول الله تبارك وتعالى " سأل سائل "
قرأ نافع " سال " بغير همزة والباقون بالهمزة
فمن قرأ بغير همزة فهو من سال يسيل يعني جرى واد بعذاب الله تعالى
ومن قرأ بالهمزة فهو من سأل يسأل بمعنى دعا داع
" بعذاب واقع " وهو النضر بن الحارث فوقع به العذاب فقتل يوم بدر في الدنيا
وقال مجاهد دعا داع بعذاب يقع في الآخرة وهو قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
ويقال " سأل سائل " عن عذاب واقع والجواب " للكافرين ليس له دافع " يعني مانع من الله " ذي المعارج " يعني ذلك العذاب من الله واقع للكافرين الذي هو " ذي المعارج " قال مقاتل يعني ذا الدرجات يعني السموات السبع
وقال القتبي يعني معارج الملائكة أي تصعد تصد الملائكة " تعرج الملائكة والروح إليه " يعني جبريل
" في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " يعني ذلك العذاب واقع في يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة
ويقال يعني يعرج جبريل والملائكة في يوم واحد كان مقداره إن لو صعد غيرهم خمسين ألف سنة
وقال محمد بن كعب " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " قال هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة
ثم قال عز وجل " فاصبر صبرا جميلا " يعني اصبر صبرا حسنا لا جزع فيه
ثم أخبر متى يقع العذاب فقال " إنهم يرونه بعيدا " يعني يوم القيامة غير كائن عندهم
" ونراه قريبا " لا خلف فيه
سورة المعارج 8 - 14
ثم قال " يوم تكون السماء كالمهل " يعني اليوم الذي تكون السماء " كالمهل " أي(3/471)
472
كدردي الزيت من الخوف
ويقال ما أذيب من الفضة أو النحاس
" وتكون الجبال كالعهن " يعني كالصوف المندوف " ولا يسأل حميم حميما " يعني لا يسأل قريب عن قريبه
قرأ الكسائي " يعرج الملائكة " بالياء والباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأنها جمع الملائكة
ومن قرأ بالياء فلتقديم الفعل
وروي عن ابن كثير انه قرأ " ولا يسأل حميم " بضم الياء والباقون بالنصب
ومن قرأ بالضم فمعناه أنه لا يسأل قريب عن ذي قرابته لأن كل إنسان يعرف بعضهم بعضا
قوله تعالى " يبصرونهم " يعني يعرفونهم ملائكة الله
ومن قرأ بالنصب معناه لا يسأل قريب عن قريبه لأنه يعرف بعضهم بعضا " يبصرونهم " يعني يعرفونهم ويقال مرة يعرفونهم ومرة لا يعرفونهم
ثم قال تعالى " يود المجرم " يعني يتمنى الكافر
" لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه " يعني يفادي نفسه بولده " وصاحبته " يعني وزوجته " وأخيه وفصيلته التي تؤويه " يعني عشيرته التي يأوى إليهم
وقال مجاهد " وفصيلته " أي قبيلته هكذا روي عن قتادة
وقال قتادة يعني عترته وقال الضحاك يعني عشيرته
" ومن في الأرض جميعا " يعني يفادي نفسه بجميع من في الأرض
" ثم ينجيه " يعني ينجي نفسه من العذاب
سورة المعارج 15 - 18
قال الله تعالى " كلا " أي حقا لا ينجيه وإن فادى جميع الخلق ولا يفادي نفسه وقال أهل اللغة " كلا " ردع وتنبيه يعني لا يكون كما تمنى
ثم استأنف الكلام فقال " كلا إنها لظى " يعني النار والعقوبة و " لظى " اسم من أسماء النار
" نزاعة للشوى " يعني قلاعة للأعضاء ويقال حراقة للأعضاء والجسد
وقال القتبي الشوى جلود الرأس واحدها شواة يعني أن النار تنزع جلود الرأس
وعن أبي صالح قال " نزاعة للشوى " أطراف اليدين والرجلين وقال مقاتل يعني تنزع النار الهامة والأطراف
قرأ عاصم في رواية حفص " نزاعة " نصبا على الحال والباقون بالضم يعني إنها نزاعة للشوى
" تدعو من أدبر وتولى " يعني لظى تدعو إلى نفسه تنادي من أعرض عن التوحيد وأعرض عن الإيمان
ويقال إن لظى تنادي وتقول أيها الكافر تعال إلي فإن مستقرك في
وتقول أيها المنافق تعال إلي فإن مستقرك في
فذلك قوله " تدعو من أدبر وتولى "
ثم قال " وجمع فأوعى " يعني جمع المال ومنع حق الله تعالى
قال مقاتل " فأوعى " يعني فأمسكه فلم يؤد حق الله تعالى
سورة المعارج 19 - 21(3/472)
473
سورة المعارج 22 - 28
ثم قال عز وجل " إن الإنسان خلق هلوعا " يعني حريصا ضجورا بخيلا ممسكا وقال القتبي " هلوعا " يعني شديد الجزع
يقال ناقة هلوع إذا كانت حديدة النفس
" إذا مسه الشر جزوعا " يعني الفقر لا يصبر على الشدة
" وإذا مسه الخير منوعا " يعني إذا أصابه الغنى يمنع حق الله تعالى
" إلا المصلين " فإنهم ليسوا هكذا وهم يؤدون حق الله تعالى
" الذين هم على صلاتهم دائمون " يعني يحافظون على الصلوات
" والذين في أموالهم حق معلوم " يعني معروفا " للسائل والمحروم " يعني للسائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي لا يشهد الغنيمة ولا يسهم له
وروى وكيع عن سفيان عن قيس عن محمد بن الحسن قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فغنمت فجاء آخرون بعد ذلك فنزل " وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم "
وقال الشعبي أعياني أن أعلم ما المحروم
ثم قال عز وجل " والذين يصدقون بيوم الدين " يعني بيوم الحساب
" والذين هم من عذاب ربهم مشفقون " يعني خائفين
" إن عذاب ربهم غير مأمون " يعني لم يأت لأحد الأمان من عذاب الله تعالى ويقال لا ينبغي لأحد أن يأمن من عذاب الله تعالى
سورة المعارج 29 - 35
ثم قال " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هو العادون " وقد ذكرناه
" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " يعني الأمانات التي فيما بينهم وبين الله تعالى والعهد الذي بينهم وبين الناس حافظون
" والذين هم بشهاداتهم قائمون " يعني يؤدون الشهادة عند الحاكم ولا يكتمونها إذا دعوا إليها فيؤدون الشهادة على الوجه الذي علموها قرأ عاصم في رواية حفص وأبو عمرو في إحدى الروايتين " بشهاداتهم " وهو جمع الشهادة والباقون " بشهادتهم " وهي شهادة واحدة وإنما تقع على الجنس
ثم قال " والذين هم على صلاتهم يحافظون " يعني يداومون عليها ويحافظون عليها في مواقيتها
" أولئك في جنات مكرمون " يعني أهل هذه الصفة في جنات " مكرمون " بثواب من الله تعالى بالتحف والهدايا
سورة المعارج 36 - 37(3/473)
474
سورة المعارج 38 - 44
ثم قال عز وجل " فمال الذين كفروا قبلك مهطعين " يعني حولك ويقال عندك ناظرين
والمهطع المقبل ببصره على الشيء كانوا ينظرون إليه نظرة عداوة يعني كفار مكة
وإنما قوله " مهطعين " نصبا على الحال
" عن اليمين وعن الشمال عزين " يعني حلقا حلقا جلوسا لا يدنون منه فينتفعون بمجلسه
ويقال " عزين " يعني متفرقين
وروى تيمم عن طرفة عن جابر بن سمرة قال دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس متفرقين
ثم قال ( ما لي أراكم عزين ) يعني متفرقين " أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم " يعني يتمنى كل واحد منهم أن يدخل الجنة كما يدخل المسلمون
قال الله تعالى " كلا " يعني لا يدخلون ما داموا على كفرهم
ثم قال تعالى " إنا خلقناهم مما يعلمون " يعني من النطفة
وقال الزجاج معناه أنهم خلقوا من تراب ثم من نطفة
فأي شيء يدخلون به الجنة ويقال " إنا خلقناهم مما يعلمون " فبماذا يتكبرون ويتجبرون
ثم قال عز وجل " فلا أقسم برب المشارق " يعني أقسم برب المشارق وقال في آية " رب المشرق والمغرب " [ الشعراء 28 ]
وإنما أراد به الناحية التي تطلع الشمس منها والناحية التي تغرب الشمس منها
وقال في آية أخرى " رب المشرقين " [ الرحمن 17 ] يعني مشرق الشتاء ومشرق الصيف ورب المغربين كذلك وقال في هذه الآية " برب المشارق " يعني مشرق كل يوم وهي ثمانون ومائة مشرق في الشتاء مثلها في الصيف
ثم قال " والمغارب " يعني مغرب كل يوم
" إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم " يعني على أن نهلكهم ونخلق خلقا خيرا منهم " وما نحن بمسبوقين " يعني عاجزين
ثم قال " فذرهم " يعني اتركهم وأعرض عنهم
" يخوضوا ويلعبوا " يعني " يخوضوا " في الباطل ويستهزئوا
" حتى يلاقوا يومهم " يعني يعاينوا يومهم " الذي يوعدون "
قوله تعالى " يوم يخرجون من الأجداث سراعا " يعني في اليوم الذي يوعدون في اليوم الذي يخرجون من القبور " سراعا " يعني يسرعون إلى الصوت " كأنهم إلى نصب يوفضون " يعني إلى علم منصوب يمضون
قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص " إلى(3/474)
475
نصب ) بضم النون والصاد يعني أصناما لهم كقوله " وما ذبح على النصب " [ المائدة 3 ] والباقون " إلى نصب " يعني إلى علم منصوب لهم وعن مسلم بن البطين قال " إلى نصب " يعني كأنهم إلى علم يستبقون
وقال أهل اللغة الإيفاض هو الإسراع
" خاشعة أبصارهم " يعني ذليلة أبصارهم
" ترهقهم ذلة " يعني تغشاهم مذلة
ثم قال " ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون " يعني يوعدون فيه العذاب وهم له منكرون و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد(3/475)
476
سورة نوح
وهي ثمان وعشرون آية مكية
سورة نوح 1 - 4
قول الله تبارك تعالى " إنا أرسلنا نوحا إلى قومه " يعني جعله الله رسولا إلى قومه
" أن أنذر قومك " يعني أن خوف قومك بالنار لكي يؤمنوا بالله
" من قبل أن يأتيهم عذاب أليم " يعني الطوفان والغرق
" قال يا قوم إني لكم نذير مبين " يعني قال نوح لقومه أنبئكم بلغة تعرفونها " أن اعبدوا الله " يعني أنذركم وأقول لكم اعبدوا الله ووحدوه الله
" واتقوه " يعني اخشوه واجتنبوا معاصيه
" وأطيعون " فيما آمركم " يغفر لكم من ذنوبكم " يعني ذنوبكم
و " من " صلة
" ويؤخركم إلى أجل مسمى " يعني يؤجلكم إلى منتهى آجالكم
" إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر " يعني عذاب الله لا يستطيع أن يؤخره أحد
" لو كنتم تعلمون " يعني لو كان لكم علم تنتفعون به
سورة نوح 5 - 14
قوله تعالى " قال رب " يعني دعا نوح ربه بعد ما كذبوه في طول المدة " قال رب " يعني يا رب " إني دعوت قومي " إلى التوحيد " ليلا ونهارا " يعني في كل وقت سرا وعلانية
" فلم يزدهم دعائي " يعني إلى التوحيد " إلا فرارا " يعني تباعدا من الإيمان
قال عز وجل " وإني كلما دعوتهم " إلى التوحيد " لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم " لكيلا يسمعوا دعائي " واستغشوا ثيابهم " يعني غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا(3/476)
477
يسمعوا كلامي
" وأصروا " يعني أقاموا على الكفر والشرك " واستكبروا استكبارا " يعني تكبروا عن الإيمان تكبرا
قوله تعالى " ثم إني دعوتهم جهارا " يعني دعوتهم إلى الإيمان علانية من غير خفية " ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا " يعني خلطت دعاءهم بالعلانية بدعائهم في السر
ويقال جعلت دعاءهم بالعلانية كدعائهم في السر " فقلت استغفروا ربكم " يعني توبوا وارجعوا من ذنوبكم يعني الشرك والفواحش
" إنه كان غفارا " يعني غفارا لمن تاب من الشرك
" يرسل السماء عليكم مدرارا " يعني المطر دائما كلما احتاجوا إليه
" ويمددكم بأموال وبنين " يعني يعطيكم أموالا وأولادا " ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا " يعني يجعل لكم البساتين والأنهار في الجنان
قوله تعالى " ما لكم لا ترجون لله وقارا " ما لكم لا تخافون لله عظمة في التوحيد وهو قول الكلبي ومقاتل
وقال قتادة ما لكم لا ترجون لله عاقبة ويقال ما لكم لا ترجون عاقبة الإيمان يعني الجنة
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته وقال مجاهد ما لكم لا ترجون لله عظمة وقال مجاهد ما لكم لا ترون لله عظمة " وقد خلقكم أطوارا " يعني خلقا بعد خلق وحالا بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة
فمعناه ما لكم لا توحدوه وقد خلقكم " أطوارا " يعني ضروبا ويقال أراد به اختلاف الأخلاق والمناظر
سورة نوح 15 - 20
ثم وعظهم ليعتبروا فقال عز وجل " ألم تروا كيف خلق الله " يعني ألم تنظروا فتعتبروا كيف خلق الله تعالى " سبع سموات طباقا " يعني مطبقا بعضها فوق بعض
" وجعل القمر فيهن نورا " يعني ضياء لبني آدم
وإنما قال " فيهن " أراد به سماء الدنيا لأنها إحداهن
" وجعل الشمس سراجا " يعني نورا للخلق
ويقال " جعل القمر فيهن نورا " يعني في جميع السموات لأن وجهه مضيء لأهل السموات وظهره لأهل الأرض ويقال " وجعل القمر فيهن نورا " يعني معهن نورا
ثم قال عز وجل " والله أنبتكم من الأرض نباتا " يعني خلقكم في الأرض خلقا
ويقال خلقكم من الأرض وهو آدم وأنتم من ذريته
" ثم يعيدكم فيها " يعني بعد الموت
" ويخرجكم إخراجا " يعني يخرجكم من الأرض يوم القيامة
قوله تعالى " والله جعل لكم(3/477)
478
الأرض بساطا ) يعني فراشا " لتسلكوا منها " يعني فتمضوا فيها وتأخذوا فيها " سبلا فجاجا " يعني طرقا بين الجبال والرمال ويقال طرقا واسعة
سورة نوح 21 - 28
قوله تعالى " قال نوح رب إنهم عصوني " فيما أمرتهم من توحيد الله تعالى " واتبعوا " يعني أطاعوا " من لم يزده ماله وولده إلا خسارا " يعني أطاعوا من لم يزده ماله " وولده إلا خسارا " يعني كثرة ماله وولده إلا خسرانا في الآخرة
قوله " ومكروا مكرا كبارا " يعني مكرا كبيرا عظيما ويقال يعني قالوا كلمة الشرك
والكبير والكبار بمعنى واحد
" وقالوا لا تذرن آلهتكم " يعني قال بعضهم لبعض ويقال قال الرؤساء للسفلة " لا تذرن " يعني لا تتركوا عبادة آلهتكم
" ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " فهذه أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها يعني لا تتركوا عبادة هذه الأصنام
قرأ نافع " ودا " بضم الواو والباقون بالنصب ومعناهما واحد وهو اسم الصنم وقال قتادة هذه الآلهة كان يعبدها قوم نوح ثم عبدها العرب بعد ذلك
وقال القتبي " الود " صنم ومنه كانت العرب تسمى عبد ود وكذلك تسمي عبد يغوث
قوله تعالى " وقد أضلوا كثيرا " يعني هذه الأصنام أضلوا كثيرا من الناس يعني ضل بهن كثير من الناس كقوله " إنهن أضللن كثيرا من الناس "
ثم قال " ولا تزد الظالمين إلا ضلالا " يعني إلا خسارا وغبنا
ثم قال عز وجل " مما خطيئاتهم أغرقوا " يعني بشركهم بالله تعالى أغرقوا في الدنيا
" فأدخلوا نارا " في الآخرة
قال مقاتل " بما خطيئاتهم أغرقوا " يعني بخطياتهم وقال القتبي بما خطياتهم أغرقوا يعني من خطيئاتهم أغرقوا و " ما " زائدة
ثم قال " فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا " يعني أعوانا يمنعونهم من العذاب
قرأ أبو عمرو " خطاياهم " والباقون " خطيئاتهم " ومعناهما واحد وهو جمع خطيئة
قوله تعالى " وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " يعني لا تدع على ظهر الأرض من الكافرين " ديارا " يعني أحدا منهم ويقال أصله من الدار يعني نازلا بها(3/478)
479
ويقال في الدار أحد وما بها ديار يعني من أحد منهم ويقال
أصله ديوار فقلبت الواو ياء ثم شددت وأدغمت إحداهما في الآخرى
ثم قال عز وجل " إنك إن تذرهم يضلوا عبادك " يعني إنك إن تتركهم ولم تهلكهم يدعوا الموحدين إلى الكفر
" ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " يعني لا يكون منهم إلا أولاد يكفرون ويفجرون بعد البلوغ ويقال يعني ولا يلدوا إلا فجارا كفارا
وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره )
ثم قال عز وجل " رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا " يعني سفينتي وديني
وقال الكلبي " ولمن دخل بيتي مؤمنا " يعني مسجدي
قوله " وللمؤمنين والمؤمنات " يعني لجميع المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة " ولا تزد الظالمين إلا تبارا " يعني لا تزد الكافرين إلا هلاكا كقوله " تبرناهم تتبيرا "
وروى عكرمة عن ابن عباس كان إذا قرأ القرآن في الليل فمر بآية فيقول لي يا عكرمة ذكرني هذه الآية غدا
فقرأ ذات ليلة هذه الآية فقال يا عكرمة ذكرني غدا فذكرته ذلك فقال إن نوحا دعا بهلاك الكافرين ودعا للمؤمنين بالمغفرة وقد استجيب دعاؤه للمؤمنين بالمغفرة وقد استجيب دعاؤه على الكافرين فأهلكوا فكذلك استجيب دعاؤه في المؤمنين فيغفر الله تعالى للمؤمنين والمؤمنات بدعائه وبهلاك الكافرين فأهلكوا
وروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نجاة المؤمنين في ثلاثة أشياء بدعاء نوح عليه السلام وبدعاء إسحاق عليه السلام وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يعني للمذنبين والله أعلم(3/479)
480
سورة الجن
مكية وهي عشرون وثمان آيات
سورة الجن 1 - 4
قوله تبارك تعالى " قل أوحي إلي " يعني قل يا محمد أوحى الله إلي أي أخبرني الله تعالى في القرآن
" أنه استمع نفر من الجن " وهم تسعة من أهل نصيبين ومن أهل اليمن من أشرافهم
والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين السماء أي بين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فقالوا ما هذا إلا لشيء قد حدث
فضربوا مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء
فوجدوا النفر الذين خرجوا نحو تهامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة وهو يصلي مع أصحابه صلاة الفجر فاستمعوا منه فقالوا هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء
فرجعوا إلى قومهم " فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد " فأنزل الله تعالى " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " يعني طائفة وجماعة من الجن " فقالوا إنا سمعنا " يعني قالوا بعدما رجعوا إلى قومهم " إنا سمعنا قرآنا عجبا " يعني عزيزا شريفا كريما ويقال عزيزا لا يوجد مثله
" يهدي إلى الرشد " يعني يدعو إلى الهدى وهو الإسلام
ويقال إلى الصواب والتوحيد والأمر والنهي
ويقال يدل على الحق " فآمنا به " يعني صدقنا بالقرآن
ويقال آمنا بالله تعالى
" ولن نشرك بربنا أحدا " يعني إبليس يعني لن نشرك بعبادته أحدا من خلقه
قوله عز وجل " وأنه تعالى جد ربنا " أي ارتفعت عظمة ربنا
ويقال ارتفع ذكره ويقال ارتفع ملكه وسلطانه
" ما اتخذ صاحبة ولا ولدا " يعني لم يتخذ زوجة ولا ولدا كما زعم الكفار
واتفق القراء في قوله " أنه استمع " على نصب الألف لأن معناه قل أوحي إلي بأنه استمع
واتفقوا في قوله " إنا سمعنا " على الكسرة لأنه على معنى الابتداء
واختلفوا فيما سوى ذلك
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر كلها بالنصب بناء على قوله " أنه استمع " بالنصب إلا في حرفين أحدهما " فإن له نار جهنم " بالكسر والأخرى قوله " فإنه يسلك من(3/480)
481
بين يديه ) [ الجن 27 ] بالكسر على معنى الابتداء
وقرأ أبو عمرو وابن كثير كلها بالكسر إلا في أربعة أحرف " قل أوحي إلى أنه استمع " " وألوا استقاموا " [ الجن 16 ] " وأن المسجد " [ الجن 18 ] " وأنه لما قام عبد الله يدعوه " [ الجن 19 ]
قرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع في إحدى الروايتين هكذا إلا في قوله " وأنه لما قام عبد الله " وإنما اختاروا الكسر لهذه الأحرف بناء على قوله " إنا سمعنا " وقال أبو عبيدة ما كان من قول الجن فهو كسر ويكون معناه وقالوا إنه تعالى وقالوا " إنه كان يقول " وما كان محمولا على قوله " أوحي إلي " فهو نصب على معنى أوحي إلي أنه
ثم قال " وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا " يعني جاهلنا يعني إبليس لعنه الله ويقال " وإنه كان يقول سفيهنا " يعني كفرة الجن
" على الله شططا " يعني كذبا وجورا من المقال
سورة الجن 5 - 10
ثم قال عز وجل " وأنا ظننا " يعني حسبنا " أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا " يعني نتوهم أن أحدا لا يكذب على الله وإلى هاهنا حكاية كلام الجن
يقول الله تعالى " وأنه كان رجال من الإنس " يعني في الجاهلية " يعوذون برجال من الجن " وذلك أن الرجل إذا نزل في فضاء من الأرض كان يقول أعوذ بسيد هذا الوادي فيكون في أمانهم تلك الليلة
" فزادوهم رهقا " يعني زادوا للجن عظمة وتكبروا ويقولوا بلغ من سؤددنا أن الجن والإنس يطلبون منا الأمان " وأنهم ظنوا كما ظننتم " يعني كفار الجن حسبوا كما حسبتم يا أهل مكة " أن لن يبعث الله أحدا " يعني بعد الموت يعني إنهم كانوا غير مؤمنين كما أنكم لا تؤمنون
ويقال إنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا يعني رسولا
فقد أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم
ثم رجع إلى كلام الجن فقال " وأنا لمسنا السماء " يعني صعدنا السماء وأتينا السماء لاستراق السمع
" فوجدناها ملئت حرسا شديدا " يعني حفاظا أقوياء من الملائكة
" وشهبا " يعني رمينا نجما متوقدا
" وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع " يعني كنا نقعد فيما مضى للاستماع من الملائكة ما يقولون فيما بينهم من الكوائن
" فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " يعني نجما مضيئا
والرصد الذي أرصد للرجم يعني النجم
وروى عبد الرزاق(3/481)
482
عن معمر قال قلت للزهري أكان يرمىبالنجوم في الجاهلية قال نعم
قلت أفرأيت قوله " فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " قال غلظ وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قالت الجن بعضهم لبعض " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض " يعني يبعثه فلم يؤمنوا فيهلكوا " أم أراد بهم ربهم رشدا " يعني خيرا وصوابا فيؤمنوا ويهتدوا
ويقال لا ندري أخيرا أريد بأهل الأرض أو الشر حين حرست السماء ورمينا بالنجوم ومنعنا السمع ويقال أريد عذابا بمن في الأرض بإرسال الرسول بالتكذيب له أو أراد بهم ربهم خيرا ببيان الرسول لهم هدى وبيانا
سورة الجن 11 - 17
ثم قال عز وجل " وأنا منا الصالحون " يعني الموحدين والمسلمين
" ومنا دون ذلك " يعني ليسوا بموحدين
" كنا طرائق قددا " يعني فينا أهواء مختلفة وملل شتى
وقال القتبي يعني فرقا مختلفة وكل فرقة قدة مثل القطعة في التقدير والطرائق جمع الطريق
قوله تعالى " وأنا ظننا " يعني علمنا وأيقنا " أن لن نعجز الله في الأرض " يعني لا يفوت أحد من الله تعالى أي لا يفوت من حكم الله تعالى
" ولن نعجزه هربا " لا نقدر على الهرب منه
قال الله عز وجل " وأنا لما سمعنا الهدى " يعني القرآن يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم " آمنا به " يعني يعني صدقنا بالقرآن ويقال بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقال صدقنا بالله تعالى " فمن يؤمن بربه " قال بعضهم هذا من كلام الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فمن يصدق بوحدانية الله تعالى " فلا يخاف بخسا " يعني نقصانا من ثواب عمله " ولا رهقا " يعني ذهاب عمله كقوله تعالى " فلا يخاف ظلما ولا هضما " [ طه 112 ] ويقال هذا كلام الجن بعضهم لبعض " فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا "
والرهق الظلم أن يجعل ثواب عمله لغيره
والبخس النقصان من ثواب عمله
قوله تعالى " وأنا منا المسلمون " يعني المصدقين بوحدانية الله تعالى " ومنا القاسطون " يعني العادلين عن طريق الهدى
ويقال " القاسطون " يعني الجائزين
يقال قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل
كقوله تعالى " إن الله يحب المقسطين "(3/482)
483
ثم قال " فمن أسلم " يعني أقر بوحدانية الله تعالى وأخلص التوحيد له " فأولئك تحروا رشدا " يعني نووا وتمنوا وقصدوا ثوابا
ثم قال عز وجل " وأما القاسطون " يعني العادلين عن الطريق الجائرين " فكانوا لجهنم حطبا " يعني وقودا
قال الله تعالى " وأن لو استقاموا على الطريقة "
قال مقاتل لو استقاموا على طريقة الهدى يعني أهل مكة " لأسقيناهم ماء غدقا " يعني كثيرا من السماء كقوله " ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " [ الأعراف 96 ]
ثم قال عز وجل " لنفتنهم فيه " يعني لكي نبتليهم بالخصب قال الكلبي لو استقاموا على طريقة الكفر كلهم كانوا كفارا " لأسقيناهم ماء غدقا " يعني لأعطيناهم ماء كثيرا " لنفتنهم فيه " لنبتليهم به كقوله " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة " [ الزخرف 33 ] الآية
وقال قتادة " وأن لو استقاموا على الطريقة " يعني آمنوا لوسع الله عليهم الرزق
وقال القتبي هذا مثل ضربه الله تعالى للزيادة في أموالهم ومواشيهم كقوله " ولولا أن يكون الناس "
ثم قال " ومن يعرض عن ذكر ربه " يعني توحيد ربه ويقال يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " يسلكه عذابا صعدا " يعني يكلفه الصعود على جبل أملس
وقال مقاتل " عذابا صعدا " أي شدة العذاب
وقال القتبي يعني شاقا وقال قتادة صعودا من عذاب الله تعالى لا راحة فيه
سورة الجن 18 - 23
ثم قال عز وجل " وأن المساجد لله "
قال الحسن يعني الصلاة لله تعالى وقال قتادة كانت اليهود والنصارى يدخلون كنائسهم ويشركون بالله تعالى فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخلص الدعوة له إذا دخل المسجد
وقال القتبي قوله " وأن المساجد لله " يعني السجود لله
ويقال هي المساجد بعينها يعني بنيت المساجد ليعبدوا الله تعالى فيها
" فلا تدعوا مع الله أحدا " يعني لا تعبدوا أحدا غير الله تعالى
قرأ حمزة والكسائي وعاصم " يسلكه " بالياء والباقون بالنون ومعناهما واحد يقال سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته إذا أدخلته
قوله عز وجل " وأنه لما قام عبد الله " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الصلاة ببطن نخلة(3/483)
484
" يدعوه " يعني يصلي لله تعالى ويقرأ كتابه
" كادوا يكونون عليه لبدا " يعني يركب بعضهم بعضا ويقع بعضهم على بعض
ثم قال عز وجل " قل إنما أدعو ربي "
قرأ حمزة وعاصم " قل إنما أدعو ربي " على معنى الأمر يعني قل يا محمد إنما أدعو ربي يعني أعبده
" ولا أشرك به أحدا "
قرأ الباقون على معنى الخبر عنه
قرأ ابن عامر في رواية هشام " عليه لبدا " بضم اللام والباقون بكسرها ومعناهما واحد
وقال القتبي " يكونون عليه لبدا " أي يتلبدون به رغبة في استماع القرآن
يقال لبدت به أي لصقت به ومعناه كادوا أن يلصقوا به
قوله تعالى " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا " يعني لا أقدر لكم خذلانا ولا هداية
قوله تعالى " قل إني لن يجيرني من الله أحد " يعني لن يمنعني من عذاب الله أحد إن عصيته " ولن أجد من دونه ملتحدا " يعني ملجأ ولا مفرا
" إلا بلاغا من الله ورسالاته " يعني فذلك الذي يجيرني من عذاب الله ويقال في الآية تقديم ومعناه قل لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا أن أبلغكم رسالات ربي يعني ليس بيدي شيء من الضر والنفع والهداية إلا بتبليغ الرسالة
" ومن يعص الله ورسوله " في التوحيد ولم يؤمن به " فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا " أي مقيمين في النار أبدا يعني دائما
وقد تم الكلام
سورة الجن 24 - 28
ثم قال عز وجل " حتى إذا رأوا ما يوعدون " من العذاب يعني لما رأوا العذاب ويقال معناه أمهلهم حتى إذا رأوا ما يوعدون في الدنيا وفي الآخرة " فسيعلمون من هو أضعف ناصرا " يعني مانعا من العذاب
" وأقل عددا " يعني رجالا
فقالوا متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمد فنزل " قل إن أدري أقريب ما توعدون " يعني ما أدري أقريب ما توعدون من العذاب " أم يجعل له ربي أمدا " يعني أجلا ينتهي إليه
قوله تعالى " عالم الغيب " يعني هو عالم الغيب " فلا يظهر على غيبه أحدا " يعني هو الذي يعلم وقت نزول العذاب ولا يطلع على غيبه أحدا من خلقه
ثم قال عز وجل " إلا من ارتضى من رسول " يعني إلا من اختار لرسالته فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب ليكون دلالة لنبوته
" فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا "(3/484)
485
يعني من الملائكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلفه ليحفظوه من الشياطين " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم " يعني ليعلموا الرسول أن الذي أنزل إليه من رسالات الله وذلك أن الملائكة لو لم يرصدوهم لاستمعوا حين يقرأ جبريل ثم يفشون ذلك قبل أن يخبرهم الرسول فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق ولا يكون للأنبياء دلالة ثم لا يقبل قولهم
وروى أسباط عن السدي في قوله " إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا " قال إذا بعث إليه تعالى نبيا جعل معه حفظة من الملائكة
فإذا جاء الوحي من الله تعالى قالت له الملائكة هذا من الله
فإذا جاءه الشيطان قالت الحفظة هذا من الشيطان
" ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم " يعني ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أنهم بلغوا رسالات ربهم وقال مقاتل ليعلم الجن أن الرسل قد قاموا بإبلاغ الرسالة ولم يكونوا المبغين باستراق السمع لأنهم تمازجوا من استراق السمع
وقال سعيد بن جبير لم يجيء جبريل قط بالقرآن إلا ومعه أربعة من الحفظة
ثم قال عز وجل " وأحاط بما لديهم " يعني الله تعالى عالم بما عند الأنبياء ويقال عالم بهم
" وأحصى كل شيء عددا " يعني عدد الملائكة وعلم نزول العذاب ووقته وغير ذلك والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(3/485)
486
سورة المزمل
وهي عشرون آية مكية
سورة المزمل 1 - 8
قال الله تبارك وتعالى " يا أيها المزمل " يعني الملتف في ثيابه وأصله في اللغة المتزمل وهو الذي يتزمل في ثيابه وكل من التف بثوبه فهو متزمل وقد تزمل فأدغمت التاء في الزاي وشددت الزاي فقيل مزمل يعني به النبي صلى الله عليه وسلم " قم الليل " يعني قم الليل للصلاة " إلا قليلا " من الليل " نصفه " يعني قم نصفه
فاكتفى بذكر فعل الأول من الثاني لأنه دليل عليه " أو انقص منه قليلا " يعني أو انقص من النصف قليلا " أو زد عليه " يعني زد على النصف يعني ما بين الثلث إلى الثلثين
ثم قال " ورتل القرآن ترتيلا " يعني ترسل فيه وقال الحسن بينه إذا قرأته
فلما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فنزلت الرخصة في آخر السورة وقال مقاتل كان هذا قبل أن يفرض الصلوات الخمس وقال الضحاك " ورتل القرآن ترتيلا " قال اقرأه حرفا حرفا وقال مجاهد أحب الناس إلى الله تعالى في القراءة أعقلهم عنه
قوله تعالى " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " يعني سننزل عليك القرآن بالأمر والنهي يعني يثقل لما فيه من الأمر والنهي والحدود وكان هذا في أول الأمر ثم سهل الله تعالى الأمر في قيام الليل وقال قتادة في قوله " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " قال يثقل الله تعالى فرائضه وحدوده
ويقال يعني قيام الليل ثقيل على المجرمين ويقال ثقيل على من خالفه ويقال ثقيل في الميزان خفيف على اللسان ويقال نزوله ثقيل كما قال " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " [ الحشر 21 ] الآية
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جبرانها وما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه أي يذهب عنه
ثم قال " إن ناشئة الليل هي أشد وطئا " يعني ساعات الليل أشد موافقة للقراءة والسمع ويقال هي أشد نشاطا من النهار إذا كان الرجل محتسبا ويقال هي أرق لقلوبهم(3/486)
487
" وأقوم قيلا " يعني أبين وأصوب وأثبت قراءة وقال القتبي " ناشئة الليل " يعني ساعاته وهي مأخوذة من نشأت أي ابتدأت شيئا بعد شيء فكأنه قال إن ساعات الليل الناشئة فاكتفى بالوصف من الاسم قوله " أشد وطئا " يعني أثقل على المصلي من ساعات النهار
فأخبر أن الثواب على قدر الشدة " وأقوم قيلا " يعني أخلص للقول وأسمع له لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات قرأ أبو عمرو وابن عامر " أشد وطأ " بكسر الواو ومد الألف والباقون بنصب الواو بغير مد
فمن قرأ بالكسر يعني أشد مواطأة أي موافقة لقلة السمع يعني أن القرآن في الليل يتواطأ فيه قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم ومن قرأ بالنصب يعني أبلغ في القيام وأبين في القول
ويقال أغلظ على اللسان
قوله تعالى " إن لك في النهار سبحا طويلا " يعني فراغا طويلا تقضي حوائجك فيه ففرغ نفسك لصلاة الليل وقال القتبي " سبحا " أي تصرفا إقبالا وإدبارا بحوائجك وأشغالك
قوله عز وجل " واذكر اسم ربك " يعني اذكر توحيد ربك ويقال فاذكر ربك
ويقال صل لربك " وتبتل إليه تبتيلا " يعني أخلص إليه إخلاصا في دعائك بعبادتك وهو قول مجاهد وقتادة ويقال " وتبتل إليه تبتيلا " يعني انقطع إليه وأصل التبتل القطع ولهذا قيل لمريم العذراء البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة
سورة المزمل 9 - 13
ثم قال عز وجل " رب المشرق والمغرب " قرأ حمزة وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " رب المشرق " بالكسر والباقون " رب " بالضم فمن قرأ بالكسر اتباعا لقوله " واذكر اسم ربك " " رب المشرق والمغرب " ومن قرأ بالضم فهو على الابتداء ويقال معناه هو رب المشرق والمغرب
ثم قال " لا إله إلا هو " وقد ذكرناه " فاتخذه وكيلا " يعني وليا وحافظا وناصرا وكفيلا
ثم قال عز وجل " واصبر على ما يقولون " يعني على ما يقولون من التكذيب والأذى " واهجرهم هجرا جميلا " يعني اعتزلهم اعتزالا حسنا بلا جزع ولا فحش
قال الله تعالى " وذرني والمكذبين " هذا كلام على ما جرت به عادات الناس لأن الله تعالى لا يحول بينه وبين إرادته أحد ولكن معناه فوض أمورهم إلي يعني أمور المكذبين " أولي النعمة " يعني ذا المال والغنى " ومهلهم قليلا " يعني أجلهم يسيرا لأن الدنيا كلها قليلة يعني إلى قوم القيامة(3/487)
488
ثم بين ما لهم من العقوبة يوم القيامة فقال عز وجل " إن لدينا " يعني إن عندنا " أنكالا " يعني قيودا في الآخرة ويقال عقوبة من ألوان العذاب " وجحيما " ما عظم من النار " وطعاما ذا غصة وعذابا أليما " يعني ذا شوك يستمسك في الحلق لا يدخل ولا يخرج فيبقى في الحلق ومع ذلك لهم عذاب أليم
سورة المزمل 14 - 20
ثم قال الله تعالى " يوم ترجف الأرض والجبال " يعني تتحرك وتتزلزل صار اليوم منصوبا لنزع الخافض يعني هذه العقوبة في يوم ترجف " الأرض والجبال " " وكانت " يعني وصارت " الجبال كثيبا مهيلا " يعني صارت الجبال رملا سائلا وهو كقوله " فكانت هباء منثورا "
ثم قال عز وجل " إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يشهد عليكم بتبليغ الرسالة " كما أرسلنا إلى فرعون رسولا " يعني موسى بن عمران " فعصى فرعون الرسول " يعني كذبه ولم يقبل قوله " فأخذناه أخذا وبيلا " يعني عاقبناه عقوبة شديدة وهو الغرق فهذا تهديد لهم يعني إنكم إن كذبتموه فهو قادر على عقوبتكم
قوله عز وجل " فكيف تتقون إن كفرتم " يعني تنجون " يوما " في الآخرة إن كفرتم في الدنيا ويقال فيه تقديم ومعناه إن كفرتم في الدنيا كيف تحذرون " يوما " وتنجون
" يوما يجعل الولدان شيبا " وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان " يجعل الولدان شيبا " يعني يوم القيامة يشيب الولدان يعني من هيبته يشيب الصبيان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان هناك صبي يشيب رأسه من الهيبة ويقال هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق
ثم قال عز وجل " السماء منفطر به " يعني انشقت السماء من هيبة الرحمن " كان وعده مفعولا " يعني كائنا في البعث(3/488)
489
ثم قال " إن هذه تذكرة " يعني هذه السورة موعظة " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " يعني من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك التوحيد إلى ربه مرجعا فليفعل وقال أهل اللغة في قوله " السماء منفطر به " ولم يقل السماء منفطرة به فالتذكير على وجهين أحدهما أنه انصرف إلى المعنى ومعنى السماء السقف كقوله " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " [ الأنبياء 32 ] والثاني أن معناه السماء ذات الانفطار كما يقال امرأة مرضع أي ذات رضاع على وجه النسب
ويقال قوله " السماء منفطر به " يعني فيه شيء في يوم القيامة ويقال يعني بالله تعالى أي من هيبته
قوله تعالى " إن هذه تذكرة " يعني إن هذه الآيات التي ذكر موعظة بليغة " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " يعني من شاء أن يرغب فليرغب فقد أمكن له لأنه أظهر له الحجج والدلائل
سورة المزمل 20
ثم قال عز وجل " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى " يعني أقل " من ثلثي الليل ونصفه وثلثه " قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وعاصم " ونصفه وثلثه " كلاهما بالنصب والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فهو على تفسير الأدنى لأنه لما قال " أدنى من ثلثي الليل " وكان " نصفه وثلثه " تفسير لذلك الأدنى
ومن قرأ بالكسر فمعناه أدنى من نصفه وثلثه
وقال الحسن لما نزل قوله " قم الليل إلا قليلا " فكان قيام الليل فريضة فقام بها المؤمنون حولا فأجهدهم ذلك وما كلهم قام بها فأنزل الله تعالى رخصة " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى " إلى قوله " علم أن لن تحصوه " فصار تطوعا ولا بد من قيام الليل
فذلك قوله " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه " " وطائفة من الذين معك " يعني وجماعة من المؤمنين معك تقومون نصف الليل وثلثه " والله يقدر الليل والنهار " يعني يعلم ساعات الليل والنهار " علم أن لن تحصوه " يعني أن لن تطيعوه ولم تقدروا أن تحفظوا ما فرض الله عليكم على الدوام
ويقال معناه لن تطيقوا حفظ ساعات الليل " فتاب عليكم " يعني تجاوز عنكم ورفع عنكم وجوب القيام " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " في صلاة الليل ويقال " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " في جميع الصلوات " علم أن سيكون منكم مرضى " يعني علم الله تعالى أن(3/489)
490
منكم مرضى لا يقدرون على قيام الليل " وآخرون يضربون في الأرض " يعني يسافرون في الأرض " يبتغون من فضل الله " يعني في طلب المعيشة يطلبون الرزق من الله تعالى " وآخرون يقاتلون في سبيل الله " يعني يجاهدون في طاعة الله وفي الآية دليل أن الكسب الحلال بمنزلة الجهاد لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله وروى إبراهيم عن علقمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله تعالى منزلة الشهيد ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله "
ثم قال " فاقرأوا ما تيسر منه " يعني من القرآن " وأقيموا الصلاة " يعني الصلوات الخمس " وآتوا الزكاة " يعني الزكاة المفروضة " وأقرضوا الله قرضا حسنا " يعني تصدقوا من أموالكم بنية خالصة من المال الحلال " وما تقدموا لأنفسكم من خير " يعني ما تعملون من عمل من الأعمال الصالحة بنية خالصة " تجدوه عند الله " يعني تجدون ثوابه عند الله في الآخرة
" هو خيرا وأعظم أجرا " يعني الصدقة خير من الإمساك وأعظم ثوابا من معاملتكم وتجارتكم في الدنيا وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اتخذ له حيسا يعني تمرا بلبن فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه فقال بعضهم ما يدري هذا المسكين ما هذا فقال عمر لكن رب المسكين يدري ما هو فكأنه تأول قوله تعالى " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدون عند الله " هو خيرا وأعظم أجرا
ثم قال عز وجل " واستغفروا الله " يعني اطلبوا المغفرة لذنوبكم بالرجوع إلى الله تعالى " إن الله غفور " لمن تاب " رحيم " بعد التوبة والله أعلم(3/490)
491
سورة المدثر
وهي ست وخمسون آية مكية
سورة المدثر 1 - 10
قول الله تبارك وتعالى " يا أيها المدثر " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وقد تدثر بثوبه وأصله المتدثر بثيابه إذا نام فأدغمت التاء في الدال وشددت
وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه ( فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فخشيت فرجعت إلى أهلي فقلت زملوني زملوني فدثروني فنزل يا أيها المدثر ) بثيابه المضطجع على فراشه " قم فأنذر " يعني فخوف قومك وادعهم إلى التوحيد ويقال " قم فأنذر " يعني قم فصل لله تعالى ويقال " قم فأنذر " يعني خوفهم بالعذاب إن لم يوحدوا يعني ادعهم من الكفر إلى الإيمان
ثم قال عز وجل " وربك فكبر " يعني فعظمه عما يقول فيه عبدة الأوثان
ويقال " فكبر " يعني فكبر للصلاة
ثم قال " وثيابك فطهر " يعني طهر قلبك بالتوبة من الذنوب والمعاصي وهذا قول قتادة وقال مقاتل يعني قلبك فطهر بالتوبة وكانت العرب تقول للرجل إذا أذنب دنس الثياب وقال الفراء يعني ثيابك فقصر
وقال الزجاج لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة وإن كان طويلا لا يؤمن أن يصيبه النجاسة ويقال يعني لا تغدر فتكون غادرا دنس الثياب
وقال مجاهد " وثيابك فطهر " يعني نفسك فطهر ويقال عملك فأخلص ويقال خلقك فحسن
ثم قال " والرجز فاهجر " يعني المأثم فاترك ويقال " الرجز فاهجر " يعني ارفض(3/491)
492
عبادة الأوثان
قرأ عاصم في رواية حفص " والرجز " بضم الراء والباقون بكسر الراء ومعناهما واحد وهم الأوثان
يعني فارفض عبادة الأوثان ويقال الرجز العذاب كقوله تعالى " رجزا من السماء " [ البقرة 59 ] ومعناه كل شيء يجرك إلى عذاب الله تعالى فاتركه
ثم قال عز وجل " ولا تمنن تستكثر " يعني لا تعط شيئا قليلا تطلب به أكثر وأفضل في الدنيا
وقال الحسن " ولا تمنن تستكثر " يعني ولا تمنن بعملك على ربك تستكثره
وقال مجاهد لا تعط مالك رجاء فضل من الثواب في الدنيا
وقال الضحاك لا تعط لتعطى أكثر منه
قوله تعالى " ولربك فاصبر " يعني اصبر على أمر ربك
قال إبراهيم النخعي اصبر لعظمة ربك
وقال مقاتل " ولربك فاصبر " يعني يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم ويقال فاصبر نفسك في عبادة ربك " فإذا نقر في الناقور " يعني اصبر فعن قريب ينفخ في الصور
" فذلك يومئذ يوم عسير " يعني يوم شديد " على الكافرين غير يسير " يعني غير هين
وفي الآية دليل أن ذلك اليوم يكون على المؤمنين هينا وهذا مثل قوله تعالى " وكان يوما على الكافرين عسيرا " [ الفرقان 26 ] لأن الكفار يقطع رجاؤهم في جميع الوجوه
سورة المدثر 25
ثم قال عز وجل " ذرني ومن خلقت وحيدا " يعني اترك هذا الذي خلقته وحيدا وفوض أمره إلي وهو الوليد بن المغيرة خلقه الله تعالى وحيدا بغير مال ولا ولد " وجعلت له مالا ممدودا " يعني ورزقته مالا كثيرا قال مجاهد كان ماله ألف دينار وقال بعضهم كان بنوه عشرة وقال بعضهم كان ماله أربعة آلاف درهم
ثم قال عز وجل " وبنين شهودا " يعني حضورا لا يغيبون عنه في تجارة ولا غيرهم
وقال بعضهم " ذرني ومن خلقت وحيدا " يعني إنه لم يكن من قريش وكان ملصقا بهم لأنه ذكر أن أباه المغيرة تبناه بعد ما أتت عليه ثمانية أشهر ولم يكن منه كما قال الله تعالى " عتل بعد ذلك زنيم " [ القلم 13 ] " وجعلت له مالا ممدودا " يعني غير منقطع عنه " وبنين شهودا " لا يغيبون عنه ولا يحتاجون إلى التصرف وكان له عشرة من البنين وهذا قول الكلبي وغيره
وقال مقاتل سبع بنين " ومهدت له تمهيدا " يعني بسطت له في المال والخير بسطا ويقال أمهلت له إمهالا " ثم يطمع أن أزيد " يعني يطمع أن أزيد ماله وولده
وذلك أن تفاخر على رسول(3/492)
493
الله صلى الله عليه وسلم وقال لي مال ممدود ولي عشرة من البنين فلا يزال يزداد مالي وبني فنزل " ثم يطمع أن أزيد " يعني أن أزيده وهو يعصيني " كلا " وهو رد عليه يعني لا أزيد فما ازداد ماله بعد ذلك ولا ولده ولكن أخذ في النقصان فهلك عامة ماله وولده " إنه كان لآياتنا عنيدا " يعني مكذبا معرضا عنها معاندا
ثم قال عز وجل " سأرهقه صعودا " يعني يكلف في النار صعود جبل من صخرة ملساء في الباب الخامس يسمى سقر فإذا بلغ رأس العقبة دخل دخان في حلقه فيخرج من جوفه ما كان في جوفه من الأمعاء
فإذا سقط في أسفل العقبة سقي من الحميم فإذا بلغ أعلاه انحط منه إلى أسفله من مسيرة سبعين سنة
وقال مجاهد " سأرهقه صعودا " يعني مشقة من العذاب
وقال الزجاج سأحمله على مشقة من العذاب ويقال سأكلفه الصعود على عقبة شاقة والصعود والكؤود بمعنى واحد
ثم ذكر خبث أفعاله التي يستوجب بها العقوبة فقال " إنه فكر وقدر " يعني إنه فكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقدر في أمره وقال إنه ساحر
يقول الله عز وجل " فقتل كيف قدر " يعني لعن كقوله " قتل الخراصون " [ الذاريات 10 ] " ثم قتل كيف قدر " وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة ليدبروا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هذه أيام الموسم والناس مجتمعون وقد فشا قول هذا الرجل في الناس وهم سائلون عنه فماذا تجيبون وتردون عليهم فقالوا نقول إنه مجنون فقال بعضهم إنهم يأتونه ويكلمونه فيجدونه فصيحا عاقلا فيكذبونكم فقالوا نقول إنه شاعر قال بعضهم هم العرب وقد رأوا الشعراء وقوله لا يشبه الشعر فيكذبونكم قالوا نقول إنه كاهن
قال بعضهم إنهم لقوا الكهان وإذا سمعوا قوله وهو يستثني في كلامه المستقبل فيكذبونكم
ففكر الوليد بن المغيرة ثم أدبر عنهم ثم رجع إليهم وقال فكرت في أمره فإذا هو ساحر يفرق بين المرء وزوجه وأقربائه فاجتمع رأيهم على أن يقولوا إنه ساحر فنزل " فقتل كيف قدر " يعني كيف قدر بمحمد صلى الله عليه وسلم بالسحر " ثم قتل " يعني لعن مرة أخرى اللعنة على أثر اللعنة " كيف قدر " هذا التقدير الذي قال للكفرة إنه ساحر
" ثم نظر " يعني ثم نظر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم " ثم عبس " يعني عبس وجهه أي كلح وتغير لون وجهه
وقال الزجاج " ثم عبس " أي عبس وجهه " وبسر " أي نظر بكراهة شديدة " ثم أدبر " يعني أعرض عن الإيمان " واستكبر " يعني تكبر عن الإيمان ثم قال " إن هذا إلا سحر يؤثر " يعني تأثره من صاحب اليمامة يعني يرويه عن مسيلمة الكذاب
ويقال معناه ما هذا الذي يقول إلا سحر يرويه عن جبر ويسار ويقال عن أهل بابل " إن هذا إلا قول البشر " يعني ما هذا القرآن إلا قول الآدمي
سورة
المدثر 26 - 29(3/493)
494
سورة المدثر 30 - 31
قال الله تعالى " سأصليه سقر " يعني سأدخله سقر
قال مقاتل يعني الباب الخامس وقال الكلبي هو اسم من أسماء النار " وما أدراك ما سقر " تعظيما لأمرها
ثم بين حالها قال " لا تبقي ولا تذر " يعني لا تبقي لحما إلا أكلته ولا تذرهم إذا أعيدوا فيها خلقا جديدا
ويقال " لا تبقي ولا تذر " يعني لا تميت ولا تحيي ويقال لا تبقى اللحم ولا العظم ولا الجلد إلا أحرقته ولا تذر لحما ولا عظما ولا جلدا أي لا تدعه محرقا بل تجدده خلقا جديدا
ثم قال عز وجل " لواحة للبشر " يعني حراقة للأجساد شواهة للوجوه نزاعة للأعضاء وأصله في اللغة التسويد ويقال لاحته الشمس إذا غيرته وذلك أن الشيء إذا كان فيه دسومة فإذا أحرق اسود
ثم قال " عليها تسعة عشر " يعني على النار تسعة عشر من الملائكة مسلطون من رؤساء الخزنة وأما الزبانية فلا يحصى عددهم كما قال في سياق الآية " وما يعلم جنود ربك إلا هو "
وإنما أراد بالتسعة عشر مالكا ومعه ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف ويخرج لهب النار من أفواههم نزعت منهم الرأفة غضاب على أهلها يدفع أحدهم سبعين ألفا
فلما نزلت هذه الآية قال الوليد بن المغيرة لعنه الله أنا أكفيكم خمسة منهم وكل ابن لي يكفي واحدا منهم وسائر أهل مكة يكفوا أربعة منهم
وقال رجل من المشركين وكان له قوة وأن أكفيكموهم وحدي أدفع عشرة بمنكبي هذا وتسعة بمنكبي الأيسر فألقيهم في النار حتى يحترقوا وتجوزون حتى تدخلوا الجنة فنزلت هذه الآية " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " يعني ما سلطنا أعوان النار إلا ملائكة زبانية غلاظ شداد لا يغلبهم أحد " وما جعلنا عدتهم " يعني ما ذكرنا قلة عددهم وهم تسعة عشر " إلا فتنة للذين كفروا " يعني بلية لهم " ليستيقن الذين أوتوا الكتاب " وذلك أن أهل الكتاب وجدوا في كتابهم أن مالكا رئيسهم وثمانية عشر من الرؤساء فبين لهم أنما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم يقوله بالوحي " ويزداد الذين آمنوا إيمانا " حتى تصديقا وعلما " ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب " يعني يعلموا أنه حق وعدتهم كذلك " والمؤمنون " أيضا لا يشكون في ذلك " وليقول الذين في قلوبهم مرض " يعني المنافق " والكافرون " يعني المشركين " ماذا أراد الله بهذا مثلا " يعني يذكر خزنة جهنم تسعة عشر(3/494)
495
يقول الله تعالى " كذلك يضل الله من يشاء " يعني يخذله ولا يؤمن به وبأمثاله " ويهدي من يشاء " يعني يوفقه لذلك
ثم قال عز وجل " وما يعلم جنود ربك إلا هو " يعني من يعلم قوة جنود ربك وكثرتها إلا هو يعني الله تعالى
ويقال وما يعلم يعني لا يعلم عدد جموع ربك إلا الله تعالى " وما هي إلا ذكرى للبشر " يعني الدلائل والحجج في القرآن ويقال " ما هي " يعني القرآن ويقال وما هي يعني سقر " إلا ذكرى للبشر " يعني عظه للخلق
سورة المدثر 32 - 37
ثم أقسم الله تعالى لأجل سقر فقال " كلا " ردا عليهم " والقمر " يعني وخالق القمر " والليل إذا أدبر " يعني ذهب أقسم بخالق الليل وخالق الصبح فقال " والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر " يعني سقر إحدى الكبر العظام وباب من أبواب النار
قرأ نافع وحمزة وعاصم في رواية حفص " والليل إذ " بغير ألف " أدبر " بالألف والباقون " إذا " بالألف " دبر " بغير ألف وهما لغتان ومعناهما واحد دبر وأدبر ويقال دبر النهار وأدبر ودبر الليل وأدبر
وقال مجاهد سألت ابن عباس عن قوله " والليل إذا أدبر " فسكت حتى إذا كان آخر الليل قال يا مجاهد هذا حين دبر الليل ويقال الليل إذا أدبر يعني إذا جاء بعد النهار " والصبح إذا أسفر " يعني استضاء إنها " لإحدى الكبر " يعني أن سقر لأعظم دركات في النار
" نذيرا للبشر " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم نذيرا للخلق وإنما صار نعتا لأنه معناه تم نذيرا للبشر ويقال إن العذاب الذي ذكر نذيرا للبشر
قوله تعالى " لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " يعني يتقدم في الخير أو يتأخر عنه إلى المعصية فبينا لكم فهذا وعيد لهم لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر إلى المعصية كقوله " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " [ الكهف 29 ] ويقال معناه لمن شاء منكم أن يتقدم إلى التوبة فيوحد أو يتأخر عن التوبة فليقم على الكفر يعني نذيرا لمن شاء
سورة المدثر 38 - 54(3/495)
496
سورة المدثر 55 - 56
ثم قال " كل نفس بما كسبت رهينة " يعني كل كافر مرتهن بعمله " إلا أصحاب اليمين " يعني لكن أصحاب اليمين فإنهم ليسوا مرتهنين بعملهم يعني الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم
ويقال هم الذين عن يمين العرش ويقال " كل نفس بما كسبت رهينة " عند المحاسبة إلا أصحاب اليمين
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هم أطفال المسلمين يعني ليس عليهم حساب لأنهم لم يعملوا شيئا
ثم قال " في جنات يتساءلون " يعني إنهم في بساتين يتساءلون " عن المجرمين " يعني يرون أهل النار يسألونهم " ما سلككم في سقر " يعني ما الذي سلككم أدخلكم في سقر فأجابهم أهل النار " قالوا لم نك من المصلين " يعني لم نك نقر بالصلاة ولم نؤدها " ولم نك نطعم المسكين " يعني كنا لا نقر بالفرائض والزكاة ولا نؤديها
" وكنا نخوص مع الخائضين " يعني كنا نستهزئ بالمسلمين ونخوض بالباطل ونرد الحق مع المبطلين المستهزئين " وكنا نكذب بيوم الدين " يعني بيوم الحساب " حتى أتانا اليقين " يعني الموت والقيامة
قوله تعالى " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " يعني لا تنالهم شفاعة الأنبياء وشفاعة الملائكة " فما لهم عن التذكرة معرضين " فما للمشركين يعرضون عن القرآن والتوحيد " كأنهم حمر مستنفرة " يشبههم بالحمر الوحشية المذعورة حين فروا من القرآن وكذبوا به
قرأ نافع وابن عامر " مستنفرة " بنصب الفاء والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فمعناه نافرة فإن الصائد نفرها ومن قرأ بالكسر ومعناه نافرة ويقال نفر واستنفر بمعنى واحد
ثم قال " فرت من قسورة " فقال أبو هريرة يعني الأسد
وقال سعيد بن جبير القناص يعني الصيادين
وقال قتادة القسورة النبل يعني الرمي بالسهام ويقال هو حس الناس وأصواتهم
ثم قال عز وجل " بل يريد كل امرئ منهم " يعني أهل مكة " أن يؤتى صحفا منتشرة " وذلك أن كفار مكة قالوا إن الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب ذنبا يصبح وذنبه وكفارته مكتوب عند رأسه فهل ترينا مثل ذلك إن كنت رسولا فنزل " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة " يعني صحفا مكتوبة فيها جرمه وتوبته
ويقال نزلت في شأن عبد الله بن أمية المخزومي حين قال لن نؤمن حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه
قال الله تعالى " كلا " يعني لا يكون هذا أبدا
ثم ابتداء فقال " بل لا يخافون الآخرة " يعني البعث لكن لا يخافون عذاب الآخرة " كلا إنها تذكرة " يعني حقا إن القرآن عظة للخلق " فمن شاء ذكره " يعني من شاء أن يتعظ به فليتعظ " وما يذكرون إلا أن(3/496)
497
يشاء الله ) يعني إلا أن يشاء الله لهم ويقال " إلا أن يشاء الله " منهم
قرأ نافع " وما تذكرون " بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
ثم قال عز وجل " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " يعني هو أهل أن يتقى ولا يشرك به ويوحد ولا يعصى " وأهل المغفرة " يعني هو أهل أن يغفر لمن أطاعه ولا يشرك
ويقال هو أهل أن يتقى " وأهل المغفرة " لمن اتقى والله الموفق(3/497)
498
سورة القيامة
مكية وهي أربعون آية
سورة القيامة 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " لا أقسم بيوم القيامة " أجمع أهل التفسير أن معناه أقسم واختلفوا في تفسير " لا " قال بعضهم " لا " في الكلام زيادة للزينة ويجري في كلام العرب زيادة لا كما قال في آية أخرى " قال ما منعك ألا تسجد " [ الأعراف 12 ] يعني أن تسجد
وقال بعضهم " لا " رد لكلامهم حيث أنكروا البعث
فقال ليس الأمر كما ذكرتم
أقسم فقال " لا أقسم بيوم القيامة " " أقسم بيوم القيامة " ويقال معناه أقسم برب يوم القيامة يعني إنها كائنة
" ولا أقسم بالنفس اللوامة " يعني أقسم بخالق النفس اللوامة وهي نفس ابن آدم يلوم نفسه
كما روي عن ابن عباس وعن عمر ما من نفس برة وفاجرة إلا تلوم نفسها إن كانت محسنة تقول يا ليتني زدت إحسانا وإن كانت سيئة تقول يا ليتني تركت
ولم يذكر جواب القسم لأن في الكلام دليلا عليه وهو قوله " بلى قادرين " ومعناه ولا أقسم بالنفس اللوامة لتبعثن بعد الموت
ثم قال عز وجل " أيحسب الإنسان " يعني أيظن الكافر " أن لن نجمع عظامه " يعني أن لن يبعث الله بعد الموت
نزلت في أبي بن خلف ويقال في عدي بن ربيعة لإنكاره البعث بعد الموت
يقول الله سبحانه وتعالى " بلى قادرين " يعني إن الله تعالى قادر " على أن نسوي بنانه " يعني يجعل أصابعه ملتزقة وألحق الراحة بالأنامل وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه
وقال القتبي فكأنه قال " أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه " في الآخرة " بلى قادرين على أن نسوي بنانه " يعني أن نجمع ما صغر منه ونؤلف بينه أي نعيد السلاميات على صغرها ومن قدر على جمع هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر
وقال مجاهد يعني قادرا على أن نسوي خفه كخف البعير لا يعمل به شيئا
وقال سعيد بن جبير يعني كخف البعير أو كحافر الدابة والحمر لأنه ليس من دابة إلا وهي تأكل بفمها غير الإنسان(3/498)
499
قوله تعالى " بل يريد الإنسان ليفجر أمامه " يعني يقدم ذنوبه ويؤخر توبته ويقول سوف أتوب ولا يترك الذنوب وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه
وقال عكرمة " ليفجر أمامه " يعني يريد الذنوب في المستقبل
وقال القتبي " بل يريد الإنسان ليفجر أمامه " فقد كثرت فيه التفاسير
وقال سعيد بن جبير سوف أتوب وقال الكلبي يكثر الذنوب ويؤخر التوبة
وقال آخرون يتمنى الخطيئة وفيه قول آخر على طريق الإنكار بأن يكون الفجور بمعنى التكذيب بيوم القيامة ومن كذب بالحق فقد فجر وأصل الفجور الميل
فقيل للكاذب والمكذب والفاسق فاجر لأنه مال عن الحق
سورة القيامة 6 - 15
قوله تعالى " يسأل أيان يوم القيامة " يعني يسأل متى يوم القيامة تكذبيا بالبعث فكأنه قال بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة وهو أمامه وهو يسال متى يكون فبين الله تعالى في أي يوم يكون فقال " فإذا برق البصر " يعني شخص البصر وتحير البصر
قرأ نافع " فإذا برق البصر " بنصب الراء والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فهو من برق يبرق بريقا ومعناه شخص فلا يطرق من شدة الفزع
ومن قرأ بالكسر يعني فزع وتحير
وأصله أن الرجل إذا رأى البرق تحير وإذا رأى من أعاجيب يوم القيامة تحير ودهش
قوله " وخسف القمر " يعني ذهب ضوؤه " وجمع الشمس والقمر " يعني كالثورين المقرونين
ويقال " برق البصر " " وخسف القمر "
قال كوكب العين ذهب ضوؤه
وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال يجعلان في نور الحجاب
ويقال " جمع الشمس والقمر " يعني سوى بينهما في ذهاب نورهما وإنما قال " وجمع الشمس والقمر " ولم يقل وجمعت لأن المؤنث والمذكر إذا اجتمعا فالغلبة للمذكر
" يقول الإنسان يومئذ أين المفر " يقول أين الملجأ من النار قرئ في الشاذ " أين المفر " بكسر الفاء على معنى أين مكان الفرار
وقراءة العامة بالنصب يعني أين الفرار
ثم قال عز وجل " كلا لا وزر " يعني حقا لا جبل يلجؤون إليه فيمنعهم من النار ولا شجر يواريهم
والوزر في كلام العرب الجبل الذي يلتجئ إليه والوزر والستر هنا الشيء الذي يستترون به
وقال عكرمة " لا وزر " يعني منعة
وقال الضحاك يعني لا حصن لهم يوم القيامة
ثم قال عز وجل " إلى ربك يومئذ المستقر " يعني المرجع " ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " يعني يسأل ويبين له ويجازى بما قدم من الأعمال وأخر من سنة صالحة أو سيئة(3/499)
500
قوله عز وجل " بل الإنسان على نفسه بصيرة " يعني جوارح العبد شاهدة عليه
ومعناه على الإنسان من نفسه شاهد عليه يشهد كل عضو بما فعل
ويقال يعني جوارح العبد شاهدة عليه ومعناه رقيب بعضها على بعض
والبصيرة أدخلت فيها الهاء للمبالغة كما يقال رجل علامة
وقال الحسن في قوله " على نفسه بصيرة " يعني بصيرا بعيوب غيره جاهلا بعيوب نفسه " ولو ألقى معاذيره " يعني ولو تكلم بعذر لم يقبل منه
ويقال ولو أرخى ستوره يعني أنه شاهد على نفسه وإن أذنب في الستور
سورة القيامة 16 - 19
قوله تعالى " لا تحرك به لسانك " يعني لا تعجل بقراءة القرآن من قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام من قراءته وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال كان رسول الله إذا نزل عليه القرآن تعجل به للحفظ فنزل " لا تحرك به لسانك " " لتعجل به إن علينا جمعه " يعني حفظه في قلبك " وقرآنه " يعني يقرأ عليك جبريل حتى تحفظه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " يعني إذا قرأ عليك جبريل فاقرأ أنت بعد قراءته وفراغه
وقال محمد بن كعب " فاتبع قراءته " يعني فاتبع حلاله وحرامه
وقال الأخفش " إن علينا جمعه وقراءته " يعني تأليفه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " يعني تأليفه " ثم إن علينا بيانه " يعني بيان أحكامه وحدوده
ويقال " علينا بيانه " يعني شرحه
ويقال بيان فرائضه كما بين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم
سورة القيامة 20 - 30
ثم قال عز وجل " كلا بل تحبون العاجلة " يعني تحبون العمل للدنيا " وتذرون الآخرة " يعني تتركون العمل للآخرة
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " بل يحبون " بالياء على معنى الخبر عنهم
والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم بين حال ذلك اليوم فقال " وجوه يومئذ ناضرة " أي حسنة مشرقة مضيئة كما قال في آية أخرى " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " [ المطففين 24 ] " وإلى ربها ناظرة " يعني ناظرين يومئذ إلى الله تبارك وتعالى
وقال مجاهد " إلى ربها ناظرة " يعني تنتظر الثواب من ربها
وهذا القول لا يصح لأنه مقيد بالوجه موصول بإلى ومثل هذا لا يستعمل في الانتظار وعلى أن الانتظار موت الأبرار(3/500)
501
ثم قال عز وجل " ووجوه يومئذ باسرة " يعني عابسة
ويقال كريهة
ويقال كاسفة ومسودة " تظن أن يفعل بها فاقرة " يعني تعلم أنه قد نزل بها العذاب والشدة
يعني تعلم هذه الأنفس
ويقال الفاقرة الداهية ويقال قد أيقنت أن العذاب نازل بها
ثم قال عز وجل " كلا إذا بلغت التراقي " يعني حقا إذا بلغت النفس إلى الحلقوم
يعني خروج الروح " وقيل من راق " يعني يقول من حضره عند الموت هل من طبيب حاذق فيداويه ويقال " من راق " يعني من يشفي من هذا الحال
ويقال " من راق " يعني من يقدر أن يرقي من الموت
يعني لا يقدر أحد أن يرقي من الموت والعرب تقول من الرقية رقى يرقي رقية ومن الرقي وهو الصعود رقي يرقى رقيا فهو راق منهما
" وظن أنه الفراق " يعني استيقن أنه ميت وأنه يفارق الروح من الجسد
" وقيل من راق " أن الملائكة الذين حضروه ليقبض روحه يقول بعضهم لبعض " من راق " يعني من يصعد منا بروحه إلى السماء فأيقن عند ذلك أنه الفراق يعني أن روحه تخرج من جسده
وروي عن ابن عباس أنه قرأ " وأيقن أنه الفراق " " والتفت الساق بالساق " قال ابن عباس يعني التفت شدتان أخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من الآخرة
وروى وكيع عن بشير بن المهاجر قال سمعت الحسن يقول " والتفت الساق بالساق " قال هما ساقان إذا التفتا في الكفن " إلى ربك يومئذ المساق " يعني يساق العبد إلى ربه
سورة القيامة 31 - 35
ثم قال عز وجل " فلا صدق ولا صلى " وهو أبو جهل بن هشام يعني لم يصدق بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يصل لله تعالى
ويقال " ولا صلى " يعني ولا أسلم
فسمي المسلم مصليا " ولكن كذب وتولى " يعني " كذب " بالتوحيد " وتولى " يعني أعرض عن الإيمان ( ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) قال القتبي وأصله في اللغة يتمطط فقلبت الطاء ياء فصار يتمطى يعني " ذهب إلى أهله يتمطى " يعني ويتبختر في مشيته " أولى لك فأولى " وهذا عيد على أثر وعيد يعني احذر يا أبا جهل
وقال سعيد بن جبير قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل " أولى لك فأولى " " ثم أولى لك فأولى " ثم نزل به القرآن
وقال الزجاج معناه " أولى لك " يعني يوجب لك المكروه يا أبا جهل والعرب تقول أولى بفلان إذا أوعد له مكروها
وقال القتبي " أولى لك " تهديد ووعيد كما قال فأولى لهم
ثم ابتدأ فقال " طاعة وقول معروف " [ محمد 21 ]
سورة القيامة 36 - 37(3/501)
502
سورة القيامة 38 - 40
ثم قال تعالى " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " يعني أن يترك مهملا لا يؤمر ولا ينهى " ألم يك نطفة من مني يمنى " يعني أليس قد خلق من ماء مهين
قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم " من منى يمنى " بالياء والباقون بالتاء على معنى التأنيث لأن النطفة مؤنثة
ومن قرأ بالياء انصرف إلى المعنى وهو الماء " ثم كان علقة " يعني صار بعد النطفة علقة " فخلق فسوى " يعني جمع خلقه في بطن أمه مستويا معتدل القامة " فجعل منه " يعني خلق من المني " الزوجين " يعني لونين من الخلق " الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى " اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني أن هذا الذي يفعل مثل هذا هو قادر على أن يحيي الموتى
وذكر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ " أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى " قال سبحانك اللهم فبلى أي بلى قادر والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(3/502)
503
سورة الإنسان
مدنية وهي إحدى وثلاثون آية
سورة الإنسان 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى " هل أتى على الإنسان " يعني قد أتى على آدم " حين من الدهر " يعني أربعين سنة " لم يكن شيئا مذكورا " يعني لم يدر ما اسمه ولا ما يراد به إلا الله تعالى
وذلك أن الله تعالى لما أراد أن يخلق آدم أمر جبريل عليه السلام أن يجمع التراب فلم يقدر ثم أمر إسرافيل فلم يقدر ثم أمر عزرائيل عليهم السلام فجمع التراب من وجه الأرض فصار التراب طينا ثم صار صلصالا فكان على حاله أربعين سنة قبل أن ينفخ فيه الروح
وروى معمر عن قتادة قال كان آدم آخر ما خلق من الخلق خلق كل شيء قبل آدم عليه السلام
ثم قال " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه " يعني مختلطا ماء الرجل وماء المرأة لا يكون الولد إلا منهما جميعا
ماء الرجل أبيض ثخين وماء المرأة أصفر رقيق " نبتليه " يعني لكي نبتليه بالخير والشر " فجعلناه سميعا بصيرا " يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى وبصرا يبصر بها الهدى
وقال مقاتل في الآية تقديم يعني جعلناه سميعا بصيرا يعني جعلنا له سمعا لنبتليه يعني لنختبره
قوله عز وجل " إنا هديناه السبيل " يعني يبينا له وعرفناه طريق الخير وطريق الشر وطرائق الإيمان والكفر ويقال سبيل السعادة والشقاوة " إما شاكرا وإما كفورا " يعني إما أن يكون موحدا وإما أن يكون جاحدا لوحدانية الله تعالى
ويقال " إما شاكرا " لنعمه " وإما كفورا " لنعمه
ثم بين ما أعد للكافرين فقال " إنا أعتدنا للكافرين " يعني في الآخرة " سلاسلا وأغلالا وسعيرا " يعني هيأنا لهم أغلالا تغل بها أيمانهم إلى أعناقهم " وسعيرا " يعني وقودا
سورة الإنسان 5 - 7(3/503)
504
سورة الإنسان 8 - 10
ثم بين ما أعد للشاكرين فقال " إن الأبرار " يعني الصادقين في إيمانهم " يشربون من كأس " يعني من خمر " كان مزاجها كافورا " يعني على برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل ليس ككافور الدنيا ولا كمسكها ولكنه وصف بها حتى تهتدى به القلوب ويقال الكافور اسم عين في الجنة يمزج بها الخمر " عينا يشرب بها عباد الله " يعني عين الكافور يشرب بها أولياء الله تعالى في الجنة " يفجرونها تفجيرا " يعني يمزجونها تمزيجا
وقال ابن عباس " يفجرونها تفجيرا " في قصورهم وديارهم وذلك أن عين الكافور يشرب بها المقربون صرفا غير ممزوج ولغيرهم ممزوجا
ويقال " يفجرونها تفجيرا " يعني يفجرون تلك العين في الجنة كيف أحبوا كما يفجر الرجل النهر الذي يكون له في الدنيا هاهنا وهاهنا حيث شاء
ثم بين أفعالهم في الدنيا فقال " يوفون بالنذر " يعني يتمون الفرائض
ويقال أوفوا بالنذر " ويخافون يوما " وهو يوم القيامة " كان شره مستطيرا " يعني عذابه فاشيا وظاهرا وهو أن السموات قد انشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وغارت المياه
ثم قال عز وجل " ويطعمون الطعام على حبه " يعني على قلته وشهوته وحاجته إليه " مسكينا " وهو الطائف بالأبواب " ويتيما وأسيرا " يعني من أسر من دار الشرك
ويقال أهل السجن
وذكر أن الآية نزلت في شأن علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما وكانا صائمين فجاءهما سائل وكان عندهما قوت يومهما فأعطيا السائل بعض ذلك الطعام ثم جاءهما يتيم فأعطياه من ذلك الطعام ثم جاءهما أسير فأعطياه الباقي فمدحهما الله تعالى لذلك
ويقال نزلت في شأن رجل من الأنصار
ثم قال عز وجل " إنما نطعمكم لوجه الله " يعني ينوون بأدائهم ويضمرون في قلوبهم وجه الله تعالى
ويقولون " لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " يعني لا نريد منكم مكافأة في الدنيا ولا الثواب في الآخرة " إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا " يعني العبوس الذي تعبس فيه الوجوه من هول ذلك اليوم
والقمطرير الشديد العبوس
ويقال عبوسا أي يوم يعبس فيه الوجوه فجعل عبوسا من صفة اليوم
كما قال " في يوم عاصف " [ إبراهيم 18 ] أراد عاصف الريح والقمطرير الشديد
يعني ينقبض الجبين وما بين الأعين من شدة الأهوال
ويقال قمطرير نعت لليوم
ويقال يوم قمطرير إذا كان شديدا
يعني يوما شديدا صعبا
سورة الإنسان 11 - 14(3/504)
505
ثم قال عز وجل " فوقاهم الله شر ذلك اليوم " يعني دفع الله عنهم عذاب ذلك اليوم " ولقاهم " يعني أعطاهم " نضرة " حسن الوجوه " وسرورا " يعني فرحا في قلوبهم
قوله تعالى " وجزاهم بما صبروا " يعني أعطاهم الثواب بما صبروا على الفقر في الدنيا " جنة وحريرا " يعني لباسهم فيها حرير
ويقال بما صبروا على الطاعات
ويقال على المصائب
قوله عز وجل " متكئين فيها " يعني ناعمين في الجنة " على الأرائك " يعني على السرر وفي الحجال واحدها أريكة " لا يرون فيها شمسا " يعني لا يصيبهم فيها حر الشمس " ولا زمهريرا " يعني ولا برد الشتاء
ثم قال عز وجل " ودانية عليهم ظلالها " يعني قريبة عليهم ظلال شجرها
" وذللت قطوفها تذليلا " يعني قربت ثمارها ويقال وذللت قطوفها يعني مجنى ثمرها تذليلا يعني قريبا ينالها القاعد والقائم
وروى بن أبي نجيح عن مجاهد قال أرض الجنة من فضة وترابها مسك وأصول شجرها ذهب وفضة وأفنانها لؤلؤ وزبرجد والورق والثمر تحت ذلك فمن أكل قائما لم يؤذه ومن أكل جالسا لم يؤذه ومن أكل مضطجعا لم يؤذه
ثم قرأ " وذللت قطوفها تذليلا " وقال أهل اللغة
" ذللت " أي أدنيت منهم من قولك حائط ذليل إذا كان قصير السمك
والقطوف والثمرة واحدها قطف وهو نحو قوله تعالى " قطوفها دانية " [ الحاقة 23 ]
سورة الإنسان 15 - 22
قوله تعالى " ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب " وهي كيزان مدققة الرأس لا عرى لها " كانت قواريرا من فضة " يعني في صفاء القارورة وبياض الفضة
وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائه ولكن قوارير الجنة من فضة في صفاء القوارير كبياض الفضة
قرأ نافع وعاصم والكسائي " سلاسلا وقواريرا " كلهن بإثبات الألف والتنوين وقرأ حمزة بإسقاط الألف كلها فكان أبو عمرو يثبت الألف في الأولى من " قوارير " ولا يثبتها في الثانية
قال أبو عبيد رأيت في مصحف عثمان رضي الله عنه الذي يقال له مصحف الإمام " قوارير " بالألف والثانية كانت بالألف فحكت ورأيت أثرها بينا هناك أما السلاسل فرأيتها قد درست
وقال بعض أهل اللغة الأجود في العربية أن لا ينصرف " سلاسل وقوارير " لأن(3/505)
506
كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان أو ثلاثة أوسطها ساكن فإنه لا ينصرف فأما من صرفه ونون فإن رده إلى الأصل في الازدواج إذا وقعت الألف بغير تنوين
ثم قال " قدروها تقديرا " يعني على قدر كف الخدم ويقال على قدر كف المخدوم ولا يحجز عنهم ويقال على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه
ويقال على مقدار الذي لا يزيد ولا ينقص ليكون ألذ لشربهم " ويسقون فيها كأسا " يعني خمرا وشرابا " كان مزاجها " يعني خلطها " زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا " وقال القتبي يقال الزنجبيل اسم العين وكذلك السلسبيل ويقال إن السلسبيل اللبن والزنجبيل طعمه والعرب تضرب به المثل
وقال مقاتل إنما سمي السلسبيل لأنها تسيل عليهم في الطريق وفي منازلهم وقال أبو صالح بلغني أن السلسبيل شديد الجرية
وقال بعضهم معناه " كان مزاجها زنجبيلا " عينا فيها تسمى سلسبيلا يعني عينا تسمى الزنجبيل وتم الكلام
ثم قال " سلسبيلا " يعني سل الله تعالى السبيل إليها
قوله تعالى " ويطوف عليهم ولدان مخلدون " يعني لا يكبرون ولا يموتون ويكونون على سن واحد " إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا " قال قتادة كثرتهم وحسنهم كاللؤلؤ " منثورا " أي المنثور ( وإذا رأيت ثم رأيت نعيما ) يعني إذا رأيت هناك ما في الجنة " رأيت نعيما " " وملكا كبيرا " يعني على رؤوسهم التيجان كما يكون على رأس ملك من الملوك
ويقال " وملكا كبيرا " يعني لا يدخل عليهم رسول رب العزة إلا بإذنهم
ثم قال عز وجل " عاليهم ثياب سندس خضر " يعني على ظهورهم ثياب سندس
قرأ نافع وحمزة " عاليهم " بجزم الياء وكسر الهاء
والباقون بنصب الياء وضم الهاء
فمن قرأ بالجزم فمعناه الذي يعلوهم وهو اسم فاعل من علا يعلو
ومن قرأ بالنصب نصبه على الظرف كما تقول فوقهم ثياب
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ " عاليتهم ثياب " يعني الوجه الأعلى
ثم قال " ثياب سندس خضر " بالكسر " واستبرق " بالضم قرأ نافع وعاصم في رواية حفص " خضر واستبرق " كلاهما بالضم
والباقون كلاهما بالكسر
فمن قرا بالضم لأنه نعت الثياب
يعني ثيابا خضرا
ومن قرأ بالكسر فهو نعت للسندس
ومن قرأ ( واستبرق ) بالضم فهو نسق على الثياب ومعناه عليهم سندس واستبرق ومن قرأ بالكسر يكون عليهم ثياب من هذين النوعين
ثم قال عز وجل " وحلوا أساور من فضة " وهو جمع السوار " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " يعني الذي سقاهم خدمهم
ويقال الذين يشربون من قبل أن يدخلوا الجنة
ثم قال " إن هذا كان لكم جزاء " يعني الذي وصف لكم في الجنة ثوابا لأعمالكم " وكان سعيكم مشكورا " يعني عملكم مقبولا
يعني يبشرون بهذا إذا أرادوا أن يدخلوا الجنة(3/506)
507
سورة الإنسان 23 - 31
ثم قال " إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا " يعني أنزلنا عليك جبريل القرآن تنزيلا يعني إنزالا فالمصدر للتأكيد
ثم قال عز وجل " فاصبر لحكم ربك " يعني استقم على أمر الله تعالى ونهيه
ويقال اصبر على أذى الكفار
ويقال على تبليغ الرسالة " ولا تطع منهم آثما " يعني فاجرا وهو الوليد بن المغيرة " أو كفورا " يعني ولا كفورا وهو عتبة بن ربيعة وقال أهل اللغة " أو " توضع موضع الواو كقوله " آثما أو كفورا " يعني وكفورا
وذلك أن عتبة ابن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن فعلت هذا لأجل المال فارجع حتى أدفع إليك من المال ما تصير به أكثر مالا من أهل مكة
فنزلت هذه الآية " ولا تطع منهم آثما وكفورا "
ثم قال تعالى " واذكر اسم ربك " يعني صل باسم ربك " بكرة وأصيلا " يعني بكرة وعشيا يعني صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر " ومن الليل فاسجد له " يعني فصل لله تعالى المغرب والعشاء " وسبحه ليلا طويلا " يعني بعد المكتوبة فهذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة
ويقال له ولأصحابه وهذا أمر استحباب لا أمر وجوب
ثم قال عز وجل " إن هؤلاء يحبون العاجلة " يعني يختارون الدنيا " ويذرون وراءهم " يعني يتركون العمل لما هو أمامهم " يوما ثقيلا " يعني ليوم ثقيل
وقال مجاهد " وراءهم " يعني خلفهم
قوله تعالى " نحن خلقناهم وشددنا أسرهم " يعني قوينا خلقهم ليطيعوني فلم يطيعوني
ويقال شددنا مفاصلهم بالعصب والعروق والجلد لكيلا ينقطع المفاصل وقت تحريكها
ويقال " شددنا أسرهم " أي قبلهم ودبرهم لكي لا يسيل البول والغائط إلا عند الحاجة
" وإذا شئنا " يعني إذا أردنا " بدلنا أمثالهم تبديلا " يعني نحن نخلق خلقا أمثل منهم وأطوع لله تعالى " إن هذه تذكرة " يعني هذه السورة عظة لكم
ويقال هذه الآيات " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " يعني فمن شاء أن يتعظ فليتعظ فقد بينا له الطريق
ثم قال عز وجل " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " يعني إلا أن يشاء لكم فيوفقكم يعني إن جاهدتم فيوفقكم كقوله " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم " [ العنكبوت 69 ] الآية
قرأ ابن(3/507)
508
كثير وأبو عمرو " وما يشاؤون " بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال عز وجل " إن الله كان عليما حكيما " يعني كان " عليما " قبل خلقكم من يتخذ السبيل ولم يشرك ويوحد " حكيما " حكم بالهداية لمن كان أهلا لذلك
قوله تعالى " يدخل من يشاء في رحمته " يعني يكرم بالإسلام من كان أهلا لذلك
ويقال " يدخل من يشاء في رحمته " يعني في نعمته وهي الجنة في رحمته وفضله " والظالمين أعد لهم عذابا أليما " يعني يدخل الظالمين في عذاب أليم
ويقال يعذب الظالمين
وقرئ في الشاذ " والظالمون " وقراءة العامة " والظالمين " بالنصب ومعناه ويعذب الظالمين ويكون " أعد لهم " تفسيرا لهذا المضمر
والله أعلم(3/508)
509
سورة المرسلات
مكية وهي خمسون آية
سورة المرسلات 1 - 8
قول الله تبارك وتعالى " والمرسلات عرفا " قال الكلبي ومقاتل يعني الملائكة أرسلوا بالمعروف
ويقال كثرتها لها عرف كعرف الفرس
وقال أهل اللغة ويحتمل وجهين أحدهما أنها متتابعة بعضها في إثر بعض وهو مشتق من عرف الفرس
ووجه آخر أنه يرسل بالعرف أي بالمعروف
وروى سفيان عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي عبيدة الساعدي قال سألت عبد الله بن مسعود عن قوله " والمرسلات عرفا " قال الريح " فالعاصفات عصفا " قال الريح " والناشرات نشرا " قال الريح " فالفارقات فرقا " قال حسبك معناه " والمرسلات عرفا " يعني أرسل الرياح متتابعة كعرف الفرس " فالعاصفات عصفا " يعني الريح الشديدة التي تذر التراب بالبراري وتسمى ريح عاصف " والناشرات نشرا " يعني الريح التي تنشر السحاب
ويقال " الناشرات نشرا " يعني البعث يوم القيامة ويقال الملائكة الذي ينشرون الكتاب
" فالفارقات فرقا " يعني القرآن فرق بين الحق والباطل
ويقال هو القبر فرق بين الدنيا والآخرة
ويقال آيات الكتاب الذي فيه بيان عقوبة الكفار
" فالملقيات ذكرا " يعني فالمنزلات وحيا وهم الملائكة " عذرا أو نذرا " يعني أنزل الوحي " عذرا " من الله تعالى من الظلم " أو نذرا " لخلقه من عذابه
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص " عذرا " بضم العين وجزم الذال " أو نذرا " بضم النون وجزم الذال والباقون بضم الحرفين في كليهما والنذر جمع نذير بمعنى الإنذار
ومن قرأ بالجزم فمعناه كذلك وهو للتخفيف وإنما نصب " عذرا أو نذرا " لأنهما مفعولا لهما فمعناه " فالملقيات ذكرا " للإعذار والإنذار
ثم قال عز وجل " إنما توعدون لواقع " وهو جواب قسم
أقسم الله تعالى بهذه الأشياء " إن ما توعدون " من أمر الساعة والبعث " لواقع " يعني لكائن ولنازل(3/509)
510
سورة المرسلات 9 - 15
ثم قال عز وجل " فإذا النجوم طمست " يعني الموعد الذي توعدون في اليوم الذي فيه طمست النجوم يعني ذهب ضوؤها " وإذا السماء فرجت " يعني انشقت من خوف الرحمن " وإذا الجبال نسفت " يعني قلعت من أصولها حتى سويت بالأرض " وإذا الرسل أقتت " يعني جمعت وروى منصور عن إبراهيم قال " وإذا الرسل أقتت " قال وعدت
وقال مجاهد أي أجلت
قرأ أبو عمرو " وقتت " بغير همز " أقتت " بالهمز لأن الواو ضمت إلى الهمزة فجاز أن يبدل منها همزة
والعرب تقول صلى القوم إحدانا ووحدانا ومعناهما واحد يعني يجعل لها وقتا واحدا
وقيل جمعت لوقتها
ثم قال عز وجل " لأي يوم أجلت " على وجه التعظيم يعني لأي يوم أجلت الرسل ليشهدوا على قومهم
ثم بين فقال عز وجل " ليوم الفصل " يعني أجلها ليوم الفصل وهو يوم القضاء ويقال يوم الفصل يعني يوم يفصل بين الحبيب والحبيبة وبين الرجل وأمه وأبيه وأخيه " وما أدراك ما يوم الفصل " يعني ما تدري أي يوم القضاء تعظيما لذلك اليوم " ويل يومئذ للمكذبين " يعني الشدة من العذاب في ذلك اليوم للذين أنكروا وحدانية الله وجحدوا بيوم القيامة
سورة المرسلات 16 - 24
ثم قال عز وجل " ألم نهلك الأولين " يعني ألم يهلك الله تعالى من كان قبلهم بتكذيبهم لأنبيائهم " ثم نتبعهم الآخرين " يعني نهلك الآخرين يعني إن كذبوا رسلهم " كذلك نفعل بالمجرمين " يعني هكذا يفعل الله تعالى بالكفار " ويل يومئذ للمكذبين " يعني الذين كذبوا رسلهم
ثم قال " ألم نخلقكم من ماء مهين " يعني من نطفة وهو ماء ضعيف " فجعلناه في قرار مكين " يعني في رحم الأم
" إلى قدر معلوم " يعني إلى وقت معروف وهو وقت الخروج من البطن
" فقدرنا " يعني فخلقنا " فنعم القادرون " يعني نعم الخالق وهو أحسن الخالقين
قرأ نافع والكسائي " فقدرنا " بتشديد الدال والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد يقال قدرت كذا(3/510)
511
وكذا وقدرت يعني خلقه في بطن الأم نطفة ثم علقة ثم مضغة
يعني قدرنا خلقه قصيرا وطويلا
" فنعم القادرون " يعني فنعم ما قدر الله تعالى خلقهم
ثم أخبرهم بصنعه ليعتبروا فيؤمنوا بالبعث وعرفوا الخلق الأول فقال " ويل يومئذ للمكذبين " يعني الشدة من العذاب لمن رأى الخلق الأول فأنكر الخلق الثاني
ويقال " فنعم القادرون " يعني نعم المقدرون
ويقال نعم المالكون
سورة المرسلات 25 - 31
ثم قال عز وجل " ألم نجعل الأرض كفاتا " يعني أوعية للخلق
ويقال موضع القرار ويقال بيوتا ومنزلا " أحياء وأمواتا " يعني ظهرها منازل الأحياء وبطنها منازل الأموات
وقال الأخفش يعني أوعية للأحياء والأموات
وقال الشعبي بطنها لأمواتكم وظهرها لأحياءكم
ويقال يعني ويضمكم فيها والكفت الضم " وجعلنا فيها رواسي " يعني الجبال الثقال " شامخات " يعني عاليات طوالا " وأسقيناكم ماء فراتا " يعني ماء عذبا من السماء ومن الأرض
ثم قال تعالى " ويل يومئذ للمكذبين " يعني ويل لمن عاين هذه الأشياء وأنكر وحدانية الله تعالى والبعث
" انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون " يعني يوم الفصل يقال لهؤلاء الذين أنكروا البعث " انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون " يعني انطلقوا إلى العذاب
" انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب " وذلك أنه يخرج عنق من النار فيحيط الكفار مثل السرادق ثم يخرج من دخان جهنم ظل أسود فيتفرق فيهم ثلاث فرق رؤوسهم فإذا فرغ من عرضهم قيل لهم " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل " ينفعهم " ولا يغني من اللهب " يعني السرادق من لهب النار
وقال القتبي وذلك أن الشمس تدنو من رؤوسهم يعني رؤوس الخلق أجمع وليس عليهم يومئذ لباس ولا لهم أكنان فتلفهم الشمس يعني تسودهم وتأخذ بأنفاسهم ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله
ثم قال للمكذبين " انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون " من عذاب الله وعقابه " انطلقوا إلى ظل " أي دخان من نار جهنم قد سطع ثم افترق ثلاث فرق فيكونون فيه إلى أن يفرغ من الحساب كما يكون أوليائه في ظله
ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة أو النار
وصف الظل فقال " لا ظليل " يعني لا يظلكم من حر هذا اليوم بل يزيدكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس " ولا يغني من اللهب " وهذا مثل قوله " وظل من يحموم " [ الواقعة 43 ] وهو الدخان وهو سرادق أهل النار كما ذكر المفسرون(3/511)
512
سورة المرسلات 32 - 40
ثم قال عز وجل " إنها ترمي بشرر كالقصر " يعني النار ترمي بشرر القصر قال الكلبي يعني يشبه القصر وهو القصور الأعاريب التي على الماء واحدهما عربة وهي الأرحية التي تكون على الماء تطحن الحنطة
وقال مقاتل القصور أصول الشجر العظام
وقال مقاتل " إنها ترمي بشرر كالقصر " أراد القصور من قصور أحياء العرب
وقرأ بعضهم " كالقصر " بنصب الصاد شبه بأعناق النخل ثم شبه في لونه بالجمالات الصفر
فقال " كأنه جمالت صفر " وهي السود
والعرب تسمي السود من الإبل الصفر لأنه تشوبه صفرة كما قال الأعشى
( تلك خيلي وتلك منها ركابي % هن صفر أولادها كالزبيب )
يعني هن سود قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " جمالة صفر " وهي جمع جمل يقال جمل وجمال وجمالة وقرأ الباقون " جمالات " وهو جمع الجمع
وقال ابن عباس الجمالات الصفر حبال السفينة يجمع بعضها إلى بعض حتى يكون مثل أوساط الرجال " ويل يومئذ للمكذبين " يعني ويل لمن جحد هذا اليوم بعدما سمعه
ثم قال عز وجل " هذا يوم لا ينطقون " يعني لا يتكلمون وهذا في بعض أحوال يوم القيامة ومواضعها " ولا يؤذن لهم فيعتذرون " يعني لا يؤذن لهم في الكلام يعني الكفار ليعتذروا " ويل يومئذ للمكذبين " يعني ويل لمن جحد يوم القيامة وهو يقدر على الكلام في هذا اليوم يعني كان في الدنيا يقدر على المعذرة فتركها
ثم قال " هذا يوم الفصل " يعني يوم القضاء ويقال يوم يفصل بين أهل الجنة أهل النار " جمعناكم والأولين " يعني جمعناكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع من مضى قبلكم " فإن كان لكم كيد فكيدون " يعني إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم " ويل يومئذ للمكذبين " يعني ويل لمن أنكر قدرة الله والبعث والجمع يوم القيامة
سورة المرسلات 41 - 50
ثم قال تعالى " إن المتقين " يعني إن الذين يتقون الشرك والفواحش " في ظلال " قال(3/512)
513
الكلبي يعني في ظلال الأشجار
وقال مقاتل يعني في الجنان والقصور يعني في قصور الجنة " وعيون " يعني أي وأنهار جارية " وفواكه " يعني وألوان الفواكه " مما يشتهون " يعني يتمنون ويقال لهم " كلوا " يعني من الطعام " واشربوا " من الشراب " هنيئا " يعني سائغا مريئا لا يؤذيهم " بما كنتم تعملون " يعني ثوابا لكم بما عملتم في الدنيا " إنا كذلك نجزي المحسنين " يعني هكذا يثيب الله الموحدين المؤمنين المحسنين في أعمالهم وأفعالهم " ويل يومئذ للمكذبين " يعني ويل لمن أنكر هذا الثواب
ثم قال للمجرمين " كلوا وتمتعوا قليلا " يعني كلوا في الدنيا كما تأكل البهائم وعيشوا مدة قليلة إلى منتهى آجالكم " إنكم مجرمون " يعني مشركين وهذا وعيد وتهديد " ويل يومئذ للمكذبين " يعني لمن رضي بالدنيا ولا يقر بالبعث
ثم قال عز وجل " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون " يعني اخضعوا لله تعالى بالتوحيد لا يخضعون ويقال وإذا قيل لهم صلوا وأقروا بالصلاة " لا يركعون " يعني لا يقرون بها ولا يصلون " ويل يومئذ للمكذبين " يعني ويل طويل لمن لا يقر بالصلاة ولم يؤدها وقال مقاتل نزلت في ثقيف قالوا لا ننحني في الصلاة لأنه مذلة علينا " فبأي حديث بعده يؤمنون " يعني إن لم يصدقوا به فبأي كلام يصدقون يعني لا حديث أصدق منه ولا دعوة أبلغ من دعوى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم بالصواب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه(3/513)
514
سورة النبأ
مكية وهي أربعون آية
سورة النبأ 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " عم يتساءلون " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث جعلوا يتساءلون فيما بينهما ويقولون ما الذي جاء به هذا الرجل فنزل " عم يتساءلون " يعني عماذا يتساءلون " عن النبأ العظيم " يعني الخبر العظيم وهو القرآن كقوله " أنتم عنه معرضون " [ ص 68 ] ويقال معناه عن ماذا يتحدثون وعن أي شيء يتحدثون
ثم قال " عن النبأ العظيم " يعني خبرا عظيما
وقال الزجاج أصله عن ما فأدغمت النون في الميم والمعنى عن أي شيء يتساءلون ثم بين فقال " عن النبأ العظيم " يعني عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم
وقيل عن القرآن
وقيل " عن النبأ العظيم " يعني عن البعث والدليل عليه قوله تعالى " إن يوم الفصل كان ميقاتا " [ النبأ 17 ] ثم بين لهم الأمر الذي كانوا يتساءلون وهو البعث
ثم قال عز وجل " الذي هم فيه مختلفون " يعني مصدقا ومكذبا بالبعث بعضهم مصدق وبعضهم مكذب
ويقال بالقرآن ويقال بمحمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال تعالى " كلا سيعلمون " يعني سيعرفون " ثم كلا سيعلمون " يعني سيعرفون ذلك الوعيد على أثر الوعيد يعني سيعلمون عند الموت وفي الآخرة ويتبين لهم بالمعاينة
قرأ ابن عامر " ستعلمون " بالتاء على وجه المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
سورة النبأ 6 - 16
ثم ذكر صنعه ليستدلوا بصنعه على توحيده فقال تعالى " ألم نجعل الأرض مهادا " يعني فراشا ومناما
ويقال موضع القرار ويقال معناه ذللنا لهم الأرض ليسكنوها ويسيروا فيها
" والجبال أوتادا " يعني أوتدها وأثبتها(3/514)
515
ثم قال " وخلقناكم أزواجا " يعني أصنافا وأضدادا ذكرا وأنثى
ويقال ألوانا بيضا وسودا وحمرا " وجعلنا نومكم سباتا " يعني راحة لأبدانكم وأصله التمدد فلذلك سمي السبت لأنه قيل لبني إسرائيل استريحوا فيه
ويقال " سباتا " يعني سكونا وانقطاعا عن الحركات
ثم قال " وجعلنا الليل لباسا " يعني سكنا يسكنون فيه
ويقال سترا يستر كل شيء " وجعلنا النهار معاشا " يعني مطلبا للمعيشة " وبنينا فوقكم سبعا شدادا " يعني خلقنا فوقكم سبع سموات غلاظا غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام " وجعلنا سراجا وهاجا " يعني وقادا مضيئة " وأنزلنا من المعصرات " يعني من السحاب سمي معصرات لأنها تعصر الماء
ويقال المعصرات هي الرياح يعني ذوات الأعاصير
كقوله " إعصارا فيه نار " " ماء ثجاجا " يعني سيالا ويقال منصبا كبيرا " لنخرج به حبا ونباتا " يعني بالماء حبوبا كثيرة للناس ونباتا للدواب من العشب والكلأ " وجنات ألفافا " يعني شجرها ملتفا بعضها في بعض
سورة النبأ 17 - 23
فأعلم الله تعالى قدرته أنه قادر على البعث ثم بين أن البعث حق عليهم
فقال " إن يوم الفصل كان ميقاتا " يعني يوم القيامة ميقات وميعاد للأولين والآخرين " يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا " يعني جماعة جماعة
وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يبعث الناس صورا مختلفة بعضهم على صورة الخنزير وبعضهم على صورة القردة وبعضهم وجوههم كالقمر ليلة البدر
ثم قال عز وجل " وفتحت السماء " يعني أبواب السماء " فكانت أبوابا " يعني فصارت طرقا
قرأ حمزة والكسائي وعاصم " وفتحت السماء " بالتخفيف والباقون بالتشديد وهو لتكثير الفعل والتخفيف بفتح مرة واحدة
ثم قال عز وجل " وسيرت الجبال " يعني قلعت من أماكنها " فكانت سرابا " يعني فصارت كالسراب تسير في الهواء كالسراب في الدنيا " إن جهنم كانت مرصادا " أي رصدا لكل كافر ويقال سجنا ومحبسا " للطاغين مآبا " أي للكافرين مرجعا يرجعون إليها
" لابثين فيها أحقابا " يعني ماكثين فيها أبدا دائما
والأحقاب وأحدها حقب والحقب ثمانون سنة وكل سنة اثنا عشر شهرا وكل شهر ثلاثون يوما وكل يوم منها مقدار ألف سنة مما تعدون بأهل الدنيا فهذا حقب واحد
والأحقاب هو التأبيد كلما مضى حقب دخل حقب(3/515)
516
آخر
وإنما ذكر أحقابا لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم
فذكر وتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونه وهو كناية عن التأبيد أي يمكثون فيها أبدا
قرأ حمزة " لبثين " بغير ألف والباقون " لابثين " بالألف ومعناهما واحد
سورة النبأ 24 - 30
ثم قال عز وجل " لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا " يعني لا يكون فيها برد يمنعهم من حرها
وقال القتبي البرد النوم وقال الزجاج يجوز أن يكون البرد نوما ويجوز أن يكون معناه لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل " ولا شرابا " ينفعهم " إلا حميما " يعني ماء حارا قد انتهى حره " وغساقا " يعني زمهريرا
وقال الزجاج الغساق ما يغسق من جلودهم أي ما يسيل
وقد قيل الشديد البرد
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " وغساقا " بالتشديد والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد
ثم قال " جزاء وفاقا " يعني العقوبة موافقة لأعمالهم لأن أعظم الذنوب الشرك وأعظم العذاب النار ووافق الجزاء العمل
" إنهم كانوا لا يرجون حسابا " يعني لا يخافون البعث بعد الموت
ويقال كانوا لا يرجون ثواب الآخرة أنهم كانوا ينكرون البعث
قوله تعالى " وكذبوا بآيتنا كذابا " يعني جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن " كذابا " يعني تكذيبا وجحودا
" وكل شيء أحصيناه كتابا " يعني أثبتناه في اللوح المحفوظ " فذوقوا " يعني يقال لهم فذوقوا العذاب " فلن نزيدكم إلا عذابا "
سورة النبأ 31 - 37
ثم بين حال المؤمنين فقال عز وجل " إن للمتقين مفازا " يعني نجاة من النار إلى الجنة
ويقال المفاز بمعنى الفوز
يعني موضع النجاة " حدائق وأعنابا " يعني لهم حدائق في الجنة والحدائق ما أحيط بالجدار وفيه من النخيل والثمار " وأعنابا " يعني كروما " وكواعب أترابا " والكواعب الجواري مفلكات الثديين " أترابا " مستويات في الميلاد والسن
وقال أهل اللغة الكواعب النساء قد كعب ثديهن " وكأسا دهاقا " كل إناء فيه شراب فهو كأس فإذا لم يكن فيه شراب فليس بكأس كما يقال للمائدة إذا كان عليها طعام مائدة وإذا لم يكن فيها طعام خوان
يقال " دهاقا " يعني سائغا
وقال الكلبي " وكأسا دهاقا "(3/516)
517
يعني إناء فيه خمر ملآن متتابعا وهذا قول عطية وسعيد والعباس بن عبد المطلب ومجاهد وإبراهيم النخعي
ثم قال " لا يسمعون فيها لغوا " يعني حلفا وباطلا
ويقال " لوا يسمعون " في مشربها فحشا خبثا " ولا كذابا " يعني تكذيبا في شربها
يعني لا يكذبون فيها
قرأ الكسائي " كذابا " بالتخفيف يعني لا يكذب بعضهم بعضا
وقرأ الباقون بالتشديد وهو من التكذيب
ثم قال " جزاء من ربك " يعني ثوابا من ربك " عطاء حسابا " يعني كثيرا
وقال مجاهد عطاء من الله حسابا بما عملوا
وقال أهل اللغة " حسابا " أي كثيرا
كما يقال أعطينا فلانا عطاء حسابا أي كثيرا
وقال قتادة " جزاء من ربك " جزاؤهم بالعمل اليسير الخير الجسيم حسابا أي كثيرا وأصله أن يعطيه حتى يقول حسبي
وقال الزجاج " حسابا " أي ما يكفيهم يعني فيه ما يشتهون
ثم قال عز وجل " رب السموات والأرض " يعني خالق السموات والأرض
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " رب السموات والأرض " بضم الباء والباقون بالكسر
فمن قرأ بالضم فمعناه هو رب السموات والأرض ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الصفة أي جزاء من ربك رب السموات والأرض " وما بينهما الرحمن " يعني الرحمن هو رب السموات والأرض " لا يملكون منه خطابا " يعني لا يملكون الكلام بالشفاعة إلا بإذنه
سورة النبأ 38 - 40
قوله عز وجل " يوم يقوم الروح " قال الضحاك هو جبريل
وقال قتادة عن ابن عباس قال هو خلق على صورة بني آدم
ويقال هو خلق واحد يقوم صفا واحدا " والملائكة صفا " يعني صفوفا
ويقال الروح لا يعلمه إلا الله كما قال " قل الروح من أمر ربي " [ الإسراء 85 ]
" لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن " يعني لا يتكلمون بالشفاعة " إلا من أذن له الرحمن " بالشفاعة " وقال صوابا " يعني لا إله إلا الله يعني من كان معه التوحيد فهو من أهل الشفاعة
ثم قال عز وجل " ذلك اليوم الحق " يعني القيامة كائنة " فمن شاء اتخذ " يعني من شاء وحد واتخذ بذلك التوحيد " إلى ربه مآبا " يعني مرجعا
ويقال من شاء اتخذ بالطاعة إلى ربه مرجعا
ثم خوفهم فقال " إنا أنذرناكم عذابا قريبا " يعني خوفناكم بعذاب قريب وهو يوم القيامة
ثم خوف المؤمنين ووصف ذلك اليوم فقال " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " يعني(3/517)
518
عملت وأسلفت من الخير والشر يعني ينظر المؤمن إلى عمله وينظر الكافر إلى عمله " ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا " يعني لو كنت نهما منها فأكون ترابا أستوي بالأرض
وذلك أن الله تعالى يقول للسباع والبهائم كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر فيقول " يا ليتني كنت ترابا "
وروى عبد الله بن عمرو وأبو هريرة أن الله يحشر البهائم والدواب والناس ثم يقتص بعضهم من بعض حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء
ثم إن الله تعالى يقول لها كوني ترابا فيراها الكافر ويتمنى أن يكون مثلها ترابا
ويقول " يا ليتني كنت ترابا " يعني يا ليتني لم أبعث كقوله " يا ليتني لم أوت كتابيه " [ الحاقة 25 ] إلى قوله " يا ليتها كانت القاضية " [ الحاقة 27 ] والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم(3/518)
519
سورة النازعات
مكية وهي أربعون وست آيات
سورة النازعات 1 - 7
قول الله تبارك وتعالى " والنازعات غرقا " قال مقاتل يعني ملك الموت ينزع روح الكافر من صدره كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل فيخرج نفسه من حلقه معها العروق كالغريق في الماء " والناشطات نشطا " ملك الموت ينشط روح الكافر من قدمه إلى حلقه
وقال الكلبي " والنازعات " يعني ملك الموت وأعوانه " غرقا " أي كرها
يقال غرقت نفسه في صدره وذلك أنه ليس من كافر يحضره الموت إلا عرضت عليه جهنم فيراها قبل أن تخرج نفسه فيرى فيها أقواما مرة ينغمسون ومرة يرتفعون
فعند ذلك تغرق روحه في جسده
" والناشطات نشطا " يعني الملائكة الذين يقبضون أرواح المؤمنين بالتيسير وذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت إلا ويرى منزلته في الجنة
ويرى فيها أقواما من أهل معرفته وهم يدعون إلى أنفسهم فعند ذلك ينشط إلى الخروج
ويقال " النازعات " الملائكة تنزع النفس أغراقا كما يغرق النازع في القوس " والناشطات نشطا " الملائكة تقبض نفس المؤمن كما ينشط العقال
وقال عطاء " والنازعات غرقا " يعني القسى " والناشطات نشطا " يعني الأوهاق
ثم قال " والسابحات سبحا " يعني الملائكة الذين يقبضون أرواح الصالحين يسلونها سلا رقيقا ويتركونها حتى تستريح رويدا
ويقال " والسابحات سبحا " يعني السفن تجري في الماء
ويقال " والسابحات سبحا " يعني الملائكة جعل نزولها في السماء كالسباحة
ويقال " والسابحات سبحا " يعني النجوم الدوارة
كما قال و " كل في فلك يسبحون " [ الأنبياء 33 ]
ثم قال " فالسابقات سبقا " يعني الملائكة الذين يسبقون إلى الخير والدعاء
ويقال " فالسابقات سبقا " بالخير يعني أرواح المؤمنين يعرج بها إلى السماء سراعا تفتح لهم أبواب السماء
ويقال " فالسابقات سبقا " يعني خيول الغزاة
" فالمدبرات أمرا " يعني الملائكة الذين جعل إليهم تدبير الخلق وهم جبريل(3/519)
520
وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام
أما جبريل فعلى الوحي وإنزال الرحمة والعذاب على الخلائق بأمر الله
وأما ميكائيل فعلى الأمطار والنبات يقسم على البلاد والعباد بإذن الله
وأما عزرائيل وهو ملك الموت فعلى قبض الأرواح عند انقضاء أجلهم بإذن الله تعالى
وإما إسرافيل فعلى النفح في الصور متى أمره الله تعالى وهو قوله " يوم ترجف الراجفة " فهذا كله قسم وجواب القسم مضمر فكأنه أقسم بهذه الأشياء أنهم يبعثون يوم القيامة لأن في الكلام دليلا عليه وهو قوله " يوم ترجف الراجفة " يعني لتبعثن يوم القيامة في " يروم ترجف الراجفة " يعني الصيحة الأولى
ثم قال " تتبعها الرادفة " يعني الصيحة الثانية يعني النفخة الأولى للصعق والنفخة الأخرى للبعث
وروي عن يزيد بن ربيعة عن الحسن في قوله " يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة " قال هما النفختان فأما الأولى فتميت الأحياء وأما الثانية فتحيي الموتى
ثم تلا " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض " [ الزمر 68 ] ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأصل الرجفة الحركة يعني تزلزلت الأرض زلزلة شديدة عند النفخة الأولى والرادفة كل شيء يجيء بعد شيء فهو يردفه
سورة النازعات 8 - 14
ثم قال عز وجل " قلوب يومئذ واجفة " يعني خائفة خاشعة من هول ذلك اليوم
ويقال يعني ذليلة
ويقال زائلة عن مكانها
" أبصارها خاشعة " يعني أبصار الخلائق ذليلة
ويقال أبصار القلوب خاشعة
ثم ذكر قول الكفار وإنكارهم البعث فقال تعالى " يقولون أئنا لمردودون في الحافرة " تعجبا منهم وفي الآية تقديم ومعناه " أئنا لمردودن في الحافرة " أي إلى أول أمرنا يقال رجع فلان في حافرته وعلى حافرته يعني رجع من حيث جاء
ثم قال " أئذا كنا عظاما نخرة " يعني بعد ما كنا عظاما بالية
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " إذا كنا عظاما ناخرة " بالألف والباقون " نخرة " بغير ألف
قال بعضهم معناهما واحد هما لغتان
وقال بعضهم الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها والنخرة التي قد فسدت كلها
وقال مجاهد " عظاما نخرة " أو مرفوتة كما قال في قوله " عظاما ورفاتا " " قالوا تلك إذا كرة خاسرة " يعني إن كانوا كما تقولون فنحن بخسران
قال الله تعالى " فإنما هي زجرة واحدة " يعني يبعثهم صيحة واحدة وهو نفخ إسرافيل(3/520)
521
في الصور " فإذا هم بالساهرة " يعني على وجه الأرض يعني هم قيام على ظهر الأرض
ويقال سميت الأرض ساهرة لمنام الخلق وسهرهم عليها
سورة النازعات 15 - 26
ثم وعظهم بما أصاب فرعون في النكال في الدنيا فقال " هل أتاك حديث موسى " يعني قد أتاك خبر موسى " إذ ناداه ربه بالواد المقدس " يعني بالوادي المطهر " طوى " اسم الوادي " اذهب إلى فرعون إنه طغى " يعني علا وتكبر وكفر
" فقل هل لك إلى أن تزكى " يعني ألم يأن لك أن تسلم
ويقال معناه هل ترغب في توحيد ربك وتسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وتزكي نفسك من الكفر والشرك
قرأ ابن كثير ونافع " إلى أن تزكى " بتشديد الزاي لأن أصله تتزكى وأدغمت التاء في الزاي وشددت
والباقون بالتخفيف لأنه حذف إحدى التائين وتركت مخففة
ثم قال عز وجل " وأهديك إلى ربك فتخشى " يعني أدعوك إلى توحيد ربك " فتخشى " يعني تخاف عذابه فتسلم " فأراه الآية الكبرى " يعني العصا واليد وسائر الآيات
" فكذب وعصى " يعني كذب بالآيات ولم يقبل قوله " ثم أدبر يسعى " يعني أدبر عن التوحيد و " يسعى " في هلاك موسى " فحشر " يعني فجمع أهل المدينة " فنادى " يعني فخطب لهم " فقال " لهم اعبدوا أصنامكم التي كنتم تعبدون فإن هؤلاء أربابكم الصغار
و " أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى " يعني فعاقبه بعقوبة الدنيا وهي الغرق وعقوبة الآخرة وهي النار
ويقال الآخرة والأولى
يعني العقوبة بالكلمة الأولى والكلمة الأخرى
فأما الأولى فقوله " ما علمت لكم من إله غيري " والأخرى قوله " وأنا ربكم الأعلى " وكان بين الكلمتين أربعون سنة
ويقال قوله " وأنا ربكم الأعلى " كان في الابتداء حيث أمرهم بعبادة الأصنام ثم نهاهم عن ذلك وأمرهم بأن لا يعبدوا غيره
وقال " ما علمت لكم من إله غيري "
ثم قال " إن في ذلك " يعني في هلاك فرعون وقومه " لعبرة لمن يخشى " يعني لعظة لمن يريد أن يعتبر ويسلم
سورة النازعات 27 - 32(3/521)
522
سورة النازعات 33 - 41
ثم وعظ أهل مكة فقال " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها " يعني أبعثكم بعد الموت أشد أم خلق السماء في المشاهدة عند الناس خلق السماء أشد فالذي هو قادر على خلق السماء قادر على البعث
ثم قال " بناها " يعني خلق السماء مرتفعة " رفع سمكها " أي سقفها بغير عمد " فسواها " يعني سوى خلقها
ويقال خلقها مستوية بلا صدع ولا شق " وأغطش ليلها " يعني أظلم ليلها " وأخرج ضحاها " يعني أنوار ضحاها وشمسها ونهارها فإنها راجعة إلى السماء
ثم قال عز وجل " والأرض بعد ذلك دحاها " يعني بعد خلق الأرض السماء بسط الأرض ومدها " أخرج منها ماءها " يعني من الأرض ماءها
يعني عيونها للناس " ومرعاها " للدواب والأنعام
قال القتبي هذا من جوامع الكلم حيث ذكر شيئين على جميع ما أخرج من الأرض قوتا ومتاعا للأنعام من العشب والشجر والحب والتمر والملح والنار لأن النار من العيدان والملح من الماء
ثم قال عز وجل " والجبال أرساها " يعني أوتدها وأثبتها " متاعا لكم ولأنعامكم " يعني منفعة لكم ومنفعة لأنعامكم " فإذا جاءت الطامة الكبرى " يعني الصيحة العظمى وإنما سميت طامة لأنها طمت وعلت فوق كل شيء " يوم يتذكر الإنسان ما سعى " يعني يعلم بكل شيء عمله في الدنيا
ويقال يوم ينظر الإنسان في كتابه بما عمل من الخير والشر " وبرزت الجحيم " يعني أظهرت الجحيم " لمن يرى " يعني لمن وجبت له " فأما من طغى " يعني كفر وعلا وتكبر
" وآثر الحياة الدنيا " يعني اختار ما في الدنيا على الآخرة
ويقال اختار العمل للدنيا على الآخرة " فإن الجحيم هي المأوى " يعني مأوى من كان هكذا
ثم قال " وأما من خاف مقام ربه " يعني خاف المقام بين يدي ربه " ونهى النفس عن الهوى " يعني منع نفسه عن معاصي الله تعالى وعمل بخلاف ما تهوى من الحرام " فإن الجنة هي المأوى " يعني مأوى من كان هكذا
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخوف ما أخاف عليكم اثنان طول الأجل واتباع الهوى
فأما طول الأجل فينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق(3/522)
523
سورة النازعات 42 - 46
قوله تعالى " يسألونك عن الساعة " يعني عن قيام الساعة " أيان مرساها " أي وقت قيامها
وأصله يعني أي أوان ظهورها ووقتها
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " فيم أنت من ذكراها " يعني ما أنت وذاك دع ذلك إلى الله
ثم قال " إلى ربك منتهاها " يعني عند ربك علم منتهاها وقيامها
فانتهى عند ذلك
ثم قال عز وجل " إنما أنت منذر من يخشاها " يعني أنت مخوف بالقرآن من يخاف قيامها وليس عليك أن تعرف متى وقتها
ثم قال عز وجل " كأنهم يوم يرونها " يعني قيام الساعة " لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " يعني كأنهم لبثوا في قبورهم مقدار عشية يعني قدر آخر النهار أو قدر ضحاها وهو قدر أول النهار
ويقال كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدار العشية أو مقدار الضحى
قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين " إنما أنت منذر " بالتنوين والباقون بغير تنوين
فمن قرأ بالتنوين جعل " من " في موضع النصب
يعني منذر الذي يخشاها
ومن قرأ بغير تنوين جعل " من " في موضع خفض بالإضافة
والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد(3/523)
524
سورة عبس
مدنية وهي أربعون وآيتان
سورة عبس 1 - 7
قوله تبارك وتعالى " عبس وتولى " يعني كلح وأعرض بوجهه يعني النبي صلى الله عليه وسلم
وروى هشام بن عروة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا ومعه عتبة بن ربيعة في ناس من وجوه قريش وهو يحدثهم بحديث فجاء ابن أم مكتوم على تلك الحال فسأله عن بعض ما ينتفع به فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع كلامه وقال في رواية مقاتل كان اسم ابن أم مكتوم عمرو بن قيس
وقال في رواية الكلبي كان اسمه عبد الله بن شريح
فقال يا رسول الله علمني مما علمك الله تعالى
فأعرض عنه شغلا بأولئك القوم حرصا على إسلامهم فنزل " عبس وتولى " قال وهو بلفظ المغايبة تعليما للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه " عبس " محمد صلى الله عليه وسلم وجهه " وتولى " يعني فأعرض " أن جاءه الأعمى " يعني إن جاءه الأعمى
ويقال حين جاءه الأعمى وهو ابن أم مكتوم
ثم قال " وما يدريك لعله يزكى " يعني وما يدريك يا محمد لعله يصلي أو يفلح فيعمل خيرا أو يتعظ بالقرآن
ويقال يعني يزداد خيرا
" أو يذكر " يعني يتعظ بالقرآن " فتنفعه الذكرى " يعني العظة
ثم قال " أما من استغنى " يعني استغنى بنفسه عن ثواب الله
ويقال استغنى بماله ونفسه عن دينك وعظتك " فأنت له تصدى " يعني تقبل بوجهك عليه
ويقال " تصدى " أي تعرض
يقال فلان تصدى لفلان إذا تعرض له ليراه
قرأ عاصم " أو يذكر فتنفعه الذكرى " بنصب العين جعله جوابا ل " لعله " يعني " يتذكر فتنفعه " الفطة
وقرأ الباقون بالضم جعلوه جوابا للفعل
قرأ نافع وابن كثير " تصدى " بتشديد الصاد لأن الأصل تتصدى فأدغمت وشددت
وقرأ الباقون بحذف التاء للتخفيف فهذا كقوله " فقل هل لك إلى أن تزكى " [ النازعات 18 ]
ثم قال " وما عليك إلا يزكى " يعني ليس شيء عليك إن لم يوحد عتبة وأصحابه
ويقال لا يضرك إن لم يؤمنوا ولم يصلحوا(3/524)
525
سورة عبس 8 - 16
ثم قال عز وجل " وأما من جاءك يسعى " يعني يسرع إلى الخير ويعمل به وهو ابن أم مكتوم
ويقال يعني يمشي برجليه " وهو يخشى " يعني يخشى ربه " فأنت عنه تلهى " يعني تشتغل وتتلاهى وتتغافل
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم ابن أم مكتوم بعد نزول هذه الآية
ثم قال تعالى " كلا " يعني لا تفعل ولا تقبل على من استغنى عن الله تعالى بنفسه وتعرض عمن يخشى الله تعالى " إنها تذكرة " يعني هذه الموعظة تذكرة
ويقال هذه السورة تذكرة يعني موعظة " فمن شاء ذكره " يعني ذكر المواعظ وذكره يلفظ التذكير ولم يقل ذكرها لأنه ينصرف إلى المعنى لأن الموعظة إنما هي بالقرآن
يعني فمن شاء أن يتعظ بالقرآن فليتعظ " في صحف مكرمة " يعني أن هذا القرآن في صحف مكرمة
يعني مطهرة مبجلة معظمة وهو اللوح المحفوظ " مرفوعة " يعني مرتفعة " مطهرة " يعني منزهة عن التناقض والكذب والعيب
" بأيدي سفرة " يعني الكتبة الذين يكتبون في اللوح المحفوظ
ثم أثنى على الكتبة فقال " كرام بررة " يعني كراما على الله تعالى " بررة " أي مطيعين لله تعالى
ويقال " بررة " من الذنوب
وقال القتبي السفرة الكتبة
وأحدهما سافر وإنما يقال للكاتب سافر لأنه يبين الشيء ويوضحه
ويقال أسفر الصبح إذا أضاء والبررة جمع بار مثل كفرة وكافر
سورة عبس 17 - 32
ثم قال تعالى " قتل الإنسان ما أكفره " يعني لعن الكافر بالله تعالى يعني عتبة وأصحابه ومن كان مثل حاله إلى يوم القيامة
" ما أكفره " يعني ما الذي أكفره وهذا قول مقاتل
وقال الكلبي يعني أي شيء أكفره
ويقال نزلت في عتبة بن أبي لهب حيث قال إني كفرت بالنجم إذا هوى
ويقال " ما أكفره " يعني ما أشده في كفره
ثم قال " من أي شيء خلقه " يعني هل يعلم من أي شيء خلقه ويقال أفلا يعتبر من أي شيء خلقه ثم أعلمه ليعتبر في خلقه فقال " من نطفة خلقه فقدره " يعني خلقه في بطن أمه طورا بعد طور
" ثم السبيل يسره " يعني يسره للخروج من بطن أمه
ويقال يسره طريق الخير والشر
وقال مجاهد هو مثل قوله " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " [ الدهر 3 ](3/525)
526
قوله " ثم أماته فأقبره " يعني جعل له قبرا يوارى فيه
ويقال أمر به ليعتبر ويقال " فأقبره " أي جعله ممن يقبر ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض كالبهائم " ثم إذا شاء أنشره " يعني يبعثه في القبر إذا جاء وقته
ثم قال " كلا لما يقض ما أمره " يعني لم يؤد ما أمره من التوحيد و " ما " هنا صلة كقوله " فبما رحمة من الله " [ آل عمران 159 ]
وقال مجاهد " لما يقضي ما أمره " يعني لا يقضي أحدا أبدا كما افترض عليه
ثم أمرهم بأن يعتبروا بخلقه فقال تعالى " فلينظر الإنسان إلى طعامه " يعني إلى رزقه ومن أي شيء يرزقه فليعتبر به " أنا صببنا الماء صبا " يعني المطر
قرأ أهل الكوفة " أنا صببنا " بنصب الألف والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب جعله بدلا عن الطعام يعني " فلينظر الإنسان إلى طعامه " أي " أنا صببنا الماء صبا " ومن قرا بالكسر فهو على الاستئناف " أنا صببنا الماء صبا " يعني المطر على الأرض بعد المطر
" ثم شققنا الأرض شقا " يعني شققناها بالنبات والشجر " فأنبتا فيها حبا وعنبا " يعني في الأرض ومعناه أخرجنا من الأرض " حبا " يعني الحبوب كلها " وعنبا " يعني الكروم " وقضبا " قال ابن عباس يعني الفصة وهي القت الرطب
وقال القتبي القضب القت سمي قضبا لأنه يقضب مرة بعد مرة أي يقطع
وكذلك القصيل لأنه يقصل أي يقطع
ويقال " وقضبا " يعني جميع ما يقضب مثل القت والكرات وسائر البقول التي تقطع فينبت من أصله " وزيتونا " وهي شجرة الزيتون " ونخلا " يعني النخيل " وحدائق غلبا " قال عكرمة غلاظ الرقاب
ألا ترى أن الرجل إذا كان غليظ الرقبة يقال له أغلب والحدائق واحدها حديقة " غلبا " أي نخلا غلاظا طوالا
ويقال " حدائق غلبا " يعني حيطان النخيل والشجر
وقال الكلبي كل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة وما لم يحط به فليس بحديقة
ويقال الشجر يعني ملتف بعضه ببعض
ثم قال عز وجل " وفاكهة وأبا " ويعني الثمر كلها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( خلقتم من سبع ورزقتم من سبع فاسجدوا لله على سبع ) وإنما أراد بقوله ( خلقتم من سبع ) يعني من نطفة ثم من علقه الآية ( والرزق من سبع ) وهو قوله " فأنبتنا فيها حبا وعنبا " إلى قوله " وفاكهة " ثم قال " وأبا " يعني العنب وقال مجاهد ما يأكل الدواب والأنعام
وقال الضحاك هو التبن
" متاعا لكم ولأنعامكم " يعني الحبوب والفواكه منفعة لكم والكلأ والعشب منفعة لأنعامكم
سورة عبس 33 - 36(3/526)
527
سورة عبس 37 - 42
ثم ذكر القيامة فقال " فإذا جاءت الصاخة " يعني الصيحة تصخ الأسماع أي تصمها فلا يسمع إلا ما يدعا به
ويقال " الصاخة " اسم من أسماء القيامة وكذلك " الطامة " و " القارعة " و " الحاقة "
ثم وصف ذلك اليوم فقال " يوم يفر المرء من أخيه " وفراره أنه يعرض عنه منشغلا بنفسه وقال شهر بن حوشب " يوم يفر المرء من أخيه " يعني هو هابيل يفر من أخيه قابيل " وأمه وأبيه " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم من أمه وأبيه وإبراهيم من أبيه " وصاحبته " يعني لوط من امرأته " وبنيه " يعني نوح من ابنه
ويقال هذا في بعض أحوال يوم القيامة أن كل واحد منهم يشتغل بنفسه يعني فلا ينظر المرء إلى أخيه ولا إلى ابنه ولا إلى أبيه
ثم قال تعالى " لكل امرئ منهم شأن يغنيه " يعني لكل إنسان شغل يشغله عن هؤلاء
وروي في الخبر أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله كيف يحشر الناس قال ( حفاة عراة ) فقالت وكيف يحشر النساء قال ( حفاة عراة ) قالت عائشة واسوأتاه النساء مع الرجال حفاة عراة فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " يعني لكل واحد منهم عمل يشغله بنفسه عن غيره
ثم قال تعالى " وجوه يومئذ مسفرة " يعني من الوجوه ما يكون في ذلك اليوم مشرقة مضيئة " ضاحكة مستبشرة " يعني مفرحة بالثواب وهم المؤمنون المطيعون " ووجوه يومئذ عليها غبرة " يعني من الوجوه ما يعلوها السواد كالدخان وأصل الغبرة يعني الغبار
" ترهقها قترة " يعني تلحقها قترة يعني يغشاها الكسوف والسواد " أولئك هم الكفرة الفجرة " يعني أن أهل هذه الصفة هم الكفرة بالله تعالى الكذبة على الله تعالى
ويقال " ترهقها قترة " يعني المذلة والكآبة و " الفجرة " يعني الظلمة
والله الموفق بمنه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله(3/527)
528
سورة التكوير
مكية وهي عشرون وتسع آيات
سورة التكوير 1 - 9
قول الله تبارك وتعالى " إذا الشمس كورت " قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الحاكم أبو الفضل قال حدثنا محمد بن أحمد الكاتب المروزي حدثنا محمد بن حموية النيسابوري قال حدثنا إبراهيم بن موسى قال حدثنا هشام بن عبد الله ويحيى بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أحب أن ينظر إلي يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت ) قال روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " إذا الشمس كورت " قال إذا ذهب ضوؤها وكذلك قال الضحاك وعكرمة وقال مجاهد " إذا الشمس كورت " يعني إذا اضمحلت وذهب نورها ويقال تكور كما تكور العمامة يعني جمع ضوؤها ولف كما تلف العمامة
ثم قال عز وجل " وإذ النجوم انكدرت " يعني تناثرت وتساقطت " وإذا الجبال سيرت " يعني قلعت عن الأرض وسيرت في الهواء كقوله " ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة " [ الكهف 47 ] يعني خالية ليس عليها شيء من الماء والشجر وغيرها ثم قال " وإذا العشار عطلت " يعني النوق الحوامل عطلها أربابها اشتغالا بأنفسهم وواحدها عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر وهي أحسن ما يكون في الحمل فلا يعطلها أهلها إلا في يوم القيامة
وهذا على وجه المثل لأن في يوم القيامة لا يكون ناقة عشراء ولكن أراد به المثل يعني إن هول يوم القيامة بحال لو كان عند الرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه
ثم قال " وإذا الوحوش حشرت " يعني جمعت " وإذا البحار سجرت " يعني فجرت بعضها إلى بعض فصارت بحرا واحدا فملئت وكثر ماؤها كقوله " والبحر المسجور " [ الطور 6 ] يعني الممتلئ ويقال " سجرت " أي أحميت بالكواكب إذا تساقطت فيها
وقال ابن عباس إذا كان يوم القيامة كور الله تعالى الشمس والقمر والنجوم في البحر ثم بعث عليها ريحا دبورا فتنفخها فتصير نارا وهو قوله " وإذا البحار سجرت " أي أحميت
وقال قتادة " سجرت " أي غار ماؤها وقال الزجاج وقد قيل إنه جعل مياهها نارا يعذب بها الكفار فهذه الأشياء(3/528)
529
الست التي ذكرها قبل النفخة الأخيرة والتي ذكرها بعدها تكون بعد النفخة الآخرة وهو قوله " وإذا النفوس زوجت " قال الكلبي ومقاتل يعني نفوس المؤمنين قرنت بالحور العين ونفوس الكفار بالشياطين
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " وإذا النفوس زوجت " قال الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح
وقال أبو العالية الرياحي قرنت الأجساد بالأرواح وقال القتبي الزوج القرين كقوله " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " [ الصافات 22 ] يعني قرناءهم
ويقال " وإذا النفوس زوجت " أي قرنت نفوس الكفار بعضها ببعض والعرب تقول زوجت إبلي إذا قرنت بعضها ببعض
ويقال " وإذا النفوس زوجت " يعني الأبرار مع الأبرار في زمرة والأشرار مع الأشرار في زمرة
ثم قال " وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت "
كانت العرب إذا ولد لأحدهم ابنة دفنها حية فهي الموءودة فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلك أبوك وإنما يكون السؤال على وجه التوبيخ لقاتلها يوم القيامة لأن جوابها قتلت بغير ذنب وهو مثل قوله تعالى " يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس " [ المائدة 116 ] وإنما سؤاله وجوابه تبكيت على من ادعى هذا عليه
وقال عكرمة " الموؤودة " المدفونة كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت فجاء أوان ولادتها حفرت حفرة فإن ولدت جارية رمتها في الحفرة وإن ولدت غلاما حبسته
وقرئ في الشاذ " وإذا الموءودة سألت بأي ذنب قتلتماني " يعني المقتولة سألت لأبويها بأي ذنب قتلتماني ولا ذنب لي
سورة التكوير 10 - 14
قوله تعالى " وإذا الصحف نشرت " يعني تطايرت الصحف وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " سجرت " و " سعرت " مخففتين و " نشرت " مشددة
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم " سجرت " و " سعرت " مشددتين و " نشرت " مخففة
وقرأ حمزة والكسائي " سجرت " و " نشرت " مخففتين و " سعرت " مشددة
فمن شددها فللتكثير ومن خففها فعلى غير التكثير
ثم قال عز وجل " وإذا السماء كشطت " يعني نزعت من أماكنها كما يكشف الغطاء عن الشيء يعني كشفت عما فيها
ثم قال عز وجل " وإذا الجحيم سعرت " يعني وقدت للكافرين " وإذا الجنة أزلفت " يعني قربت للمتقين
فجواب هذه الأشياء قوله تعالى " علمت نفس ما أحضرت " يعني عند ذلك تعلم كل نفس ما عملت من خير أو شر وهذا كقوله " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا " [ آل عمران 30 ] الآية(3/529)
530
سورة التكوير 15 - 25
قوله تعالى " فلا أقسم بالخنس " يعني الذي خنس بالنهار وظهر بالليل ويقال " الخنس " التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل " الجوار " الجوار التي تجري و " الكنس " التي ترتفع وتغيب
وقال أهل التفسير " الخنس " يعني خمسة من الكواكب بهرام وزحل وزهرة والمشتري وعطارد التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل " الجواري " لأنهن يجرين بالليل في السماء " الكنس " يعني تستتر كما تكنس الظباء في كناسة وقال أهل اللغة " الخنس " واحدها خانس كقوله راكع وركع
وقال بعضهم " الخنس " أرادها هنا الوحوش وظباء الوحوش " والجواري الكنس " التي تدخل الكنائس وهو غصن من أغصان الشجر ويكون معناه أقسم برب هذه الأشياء
وروى عكرمة عن ابن عباس قال " الخنس " المعز و " الكنس " الظباء
ألم ترها إذا كانت في الظل كيف تكنس بأعناقها ومدت ببصرها وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود قال " الجوار الكنس " هي بقر الوحش
وقال علي بن أبي طالب هي النجوم وقال القتبي هي النجوم الخمسة الكبار لأنها تخنس أي ترجع في مجراها وتكنس أي تستتر كما تكنس الظباء
ثم قال عز وجل " والليل إذا عسعس " يعني إذا أدبر
وقال الزجاج " عسعس " إذا أقبل
و " عسعس " إذا أدبر والمعنيان يرجع إلى شيء واحد وهذا ابتداء الظلام في أوله وانتهاؤه في آخره
وقال مجاهد " إذا عسعس " يعني إذا أظلم " والصبح إذا تنفس " يعني إذا استضاء وارتفع ويقال إذا ارتفع حتى يصير النهار بينا فأقسم بهذه الأشياء ويقال بخالق هذه الأشياء " إنه " يعني القرآن " لقول رسول كريم " على ربه يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام
ثم أثنى على جبريل وبين فضله فقال " ذي قوة " يعني ذا شدة ويقال معناه أعطاه الله تعالى القوة ومن قوته أنه قلع مدائن قوم لوط بجناحه
ثم قال عز وجل " عند ذي العرش مكين " يعني عند رب العرش له منزلة " مطاع " يعني يطيعه أهل السماوات " ثم أمين " فيما استودعه الله من الرسالات ويقال " مطاع " يعني طاعته على أهل السموات واجبة كطاعة محمد صلى الله عليه وسلم على أهل الأرض " أمين " على الرسالة والوحي ويقال " أمين " في السماء كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمين في الأرض
ثم قال عز وجل " وما صاحبكم بمجنون " فهذا أيضا جواب القسم
يعني " وما(3/530)
531
صاحبكم ) الذي يدعوكم إلى التوحيد لله تعالى " بمجنون ولقد رءاه بالأفق المبين " يعني رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام " بالأفق المبين " عند مطلع الشمس
ثم قال " وما هو على الغيب بضنين " أي ليس محمد صلى الله عليه وسلم فيما يوحى الله تعالى إليه من القرآن ببخيل وقرأ ابن مسعود " بظنين " بالظاء وهكذا قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي " بظنين " يعني بمتهم والباقون بالضاد يعني البخيل " وما هو بقول شيطان رجيم " يعني القرآن ليس بمنزلة قول الكهان
سورة التكوير 26 - 29
قوله عز وجل " فأين تذهبون " يعني تذهبون عن طاعتي وكتابي ويقال " أين تذهبون " يعني تعدلون عن أمري وقال الزجاج فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم " إن هو إلا ذكر للعالمين " يعني ما هذا القرآن إلا عظة للجن والإنس
" لمن شاء منكم أن يستقيم " يعني لمن شاء أن يستقيم على التوحيد فليستقم " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " فأعلمهم أن المشيئة والتوفيق والخذلان إليه وأن الأمور كلها بمشيئة الله وإرادته والله الموفق و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد(3/531)
532
سورة الانفطار
مكية وهي تسع عشرة آية
سورة الانفطار 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " إذا السماء انفطرت " يعني انفرجت لهيبة الرب عز وجل ويقال انفرجت لنزول الملائكة كقوله تعالى " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " [ الفرقان 25 ] " وإذا الكواكب انتثرت " يعني تساقطت " وإذا البحار فجرت " يعني فتحت بعضها في بعض وصارت بحرا واحدا " وإذا القبور بعثرت " يعني بحثت وأخرج ما فيها ويقال بعثرت المتاع وبعثرته إذا جعلت أسفله أعلاه
ثم قال عز وجل " علمت نفس ما قدمت وأخرت " يعني ما عملت من سنة صالحة أو سيئة وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله أجر من اتبعه إلا أنه لا ينقص من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى الضلالة فاتبع فله أجر من اتبعه إلا أنه لا ينقص من أوزارهم شيئا ) ويقال " ما قدمت " أي ما عملت وما " أخرت " يعني أضاعت العمل فلم تعمل
سورة الانفطار 6 - 12
ثم قال عز وجل " يا أيها الإنسان " يعني يا أيها الكافر " ما غرك بربك الكريم " حيث لم يعجل بالعقوبة وقال مقاتل نزلت في كلدة بن أسيد حيث ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بقوسه فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم فبلع ذلك حمزة فأسلم حمية لذلك ثم أراد أن يعود كلدة لضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية
ويقال نزلت في جميع الكفار " ما غرك " يعني ما خدعك حين كفرت بربك الكريم المتجاوز لمن تاب " الذي خلقك " من النطفة " فسواك " يعني فسوى خلقك " فعدلك "(3/532)
533
يعني خلقك معتدل القامة " في أي صورة ما شاء ركبك " يعني شبهك بأي صورة شاء إن شاء بالوالد وإن شاء بالوالدة
قرأ عاصم والكسائي وحمزة " فعدلك " بالتخفيف والباقون بالتشديد
فمن قرأ بالتخفيف جعل " في " بمعنى إلى فكأنه قال " فعدلك " إلى أي صورة شاء أن يركبك يعني صرفك إلى ما شاء من الحسن والقبح
ومن قرأ بالتشديد فمعناه قومك وتكون " ما " صلة وقد تم الكلام عند قوله " فعدلك " ثم ابتدأ فقال " في أي صورة شاء ركبك " ويقال " ما " في معنى الشرط والجزاء والمعنى أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك ويكون " شاء " بمعنى يشاء ثم قال عز وجل " كلا بل تكذبون بالدين " يعني لا يؤمن هذا الإنسان بما ذكره من أمره وصورته " بل تكذبون بالدين " بأنكم مبعوثون يوم القيامة
ثم أعلم الله تعالى أن أعمالكم محفوظة عليهم فقال " وإن عليكم لحافظين " من الملائكة يحفظون أعمالكم " كراما كاتبين " يعني كراما على الله تعالى كاتبين يعني يكتبون أعمال بني آدم " يعلمون ما تفعلون " من الخير والشر
وروى مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى الحالتين الجنابة والغائط )
سورة الإنفطار 13 - 19
قوله تعالى " إن الأبرار " يعني المؤمنين المصدقين في أيمانهم " لفي نعيم " يعني في الجنة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان حاله مثل حالهم " وإن الفجار " يعني الكفار " لفي جحيم يصلونها يوم الدين " يعني يدخلونها يوم القيامة " وما هم عنها بغائبين " يعني لا يخرجون منها أبدا
وقال " وما أدراك ما يوم الدين " تعظيما لذلك اليوم " ثم ما أدراك ما يوم الدين " يعني كيف تعلم حقيقة ذلك اليوم ولم تعاينه " يوم لا تملك نفس لنفس شيئا " يعني لا تنفع نفس مؤمنة لنفس كافرة شيئا بالشفاعة
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " يوم " بضم الميم والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم معناه يوم لا تملك
ومن قرأ بالنصب فلنزع الخافض يعني في يوم
" والأمر يومئذ لله " يعني الحكم والقضاء لله تعالى وهو يوم القيامة(3/533)
534
سورة المطففين
مدنية ويقال نزلت بين مكة والمدينة ويقال مكية وهي ثلاثون وست آيات
سورة المطففين 1 - 6
قول الله تبارك وتعالى " ويل للمطففين " يعني الشدة من العذاب للذين ينقصون المكيال والميزان وإنما سمي الذي يجور في المكيال والميزان مطففا لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء الخفيف الطفيف
ثم بين أمرهم فقال " الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون " يعني استوفوا من الناس لأنفسهم و " على " بمعنى عن بمعنى " إذا اكتالوا عن الناس يستوفون " يعني يتمون الكيل والوزن " وإذا كالوهم " يعني إذا باعوا لغيرهم ينقصون الكيل ومعناه " وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " يعني ينقصون الكيل
وقال بعضهم " كالوهم " حرفان يعني كالوا ثم قال هم وكذلك أو وزنوا ثم قال هم " يخسرون " وذكر عن حمزة الزيات أنه قال هكذا " أو " معناه هم إذا كالوا أو وزنوا ينقصون
وكان الكسائي يجعلها حرفا واحدا " كالوهم " يعني كالوا لهم وكذلك أو وزنوا لهم وقال أبو عبيد وهذه هي القراءة لأنهم كتبوها في المصاحف بغير ألف ولو كان مقطوعا لكتبوا كالواهم بالألف
ثم قال عز وجل " ألا يظن أولئك " يعني ألا يعلم المطفف وألا يستيقن بالبعث وهو قوله تعالى " أنهم مبعوثون " يعني يبعثون بعد الموت " ليوم عظيم " يعني يوم القيامة هوله شديد " يوم يقوم الناس لرب العالمين " يعني في يوم يقوم الناس بين يدي الله تعالى
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يقوم الناس لرب العالمين مقدار نصف يوم يعني خمسمائة عام وذلك المقام على المؤمنين كتولي الشمس ) وروى نافع عن ابن عمر قال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يقوم أحدكم ورشحه إلى أنصاف أذنيه ) وقال ابن مسعود إن الكافر ليلجم بعرقه حتى يقول أرحني ولو إلى النار(3/534)
535
سورة المطففين 7 - 10
ثم قال " كلا " يعني لا يستيقنون بالبعث ثم استأنف فقال " إن كتاب الفجار " ويقال هذا موصول ب " كلا إن كتاب " يعني حقا إن كتاب الفجار " لفي سجين " يعني أعمال الكفار " لفي سجين " قال مقاتل وقتادة السجين الأرض السفلى وقال الزجاج السجين فعيل من السجن والمعنى كتابهم في حبس جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم وقال مجاهد سجين صخرة تحت الأرض السفلى فيجعل كتاب الفجار تحتها وقال عكرمة " لفي سجين " أي لفي خسارة وقال الكلبي السجين الصخرة التي عليها الأرضون وهي مسجونة فيها أعمال الكفار وأزواجهم فلا تفتح لهم أبواب السماء ثم قال " وما أدراك ما سجين " ثم أخبر فقال " كتاب مرقوم " يعني مكتوبا ويقال مكتوب مختوم " ويل يومئذ " يعني شدة العذاب " للمكذبين " يعني شدة العذاب للمكذبين
سورة المطففين 11 - 17
ثم نعتهم فقال " الذين يكذبون بيوم الدين " يعني يكذبون بالبعث " وما يكذب به " يعني بيوم القيامة " إلا كل معتد أثيم " يعني كل معتد بالظلم " أثيم " عاص لربه ويقال كل مقيد للخلق " أثيم " يعني فاجر وهو الوليد بن المغيرة وأصحابه ومن كان في مثل حالهم
ثم قال " إذا تتلى عليه آياتنا " يعني القرآن " قال أساطير الأولين " يعني أحاديث الأولين وكذبهم
ثم قال " كلا " يعني لا يؤمن " بل ران على قلوبهم " يعني ختم ويقال غطى على قلوبهم " ما كانوا يكسبون " يعني ما عملوا من أعمالهم الخبيثة
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إذا أذنب العبد ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإذا تاب صقل قلبه وإن زاد زادت وذلك قوله " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " ) وقال قتادة الذنب على الذنب حتى مات القلب واسود ويقال غلف على قلوبهم ويقال غطا على قلوبهم
وقال أهل اللغة الرين هو الصدأ يغشى على القلب
ثم قال " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " يعني لا يرونه يوم القيامة ويقال عن(3/535)
536
رحمته لممنوعون " ثم إنهم لصالوا الجحيم " يعني إذا دخلوا النار " ثم يقال هذا " يعني يقول لهم الخزنة " هذا الذي كنتم به تكذبون " يعني تجحدون وقلتم إنه غير كائن
سورة المطففين 18 - 21
ثم قال عز وجل " كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين " يعني حقا إن كتاب المصدقين " لفي عليين " وهو فوق السماء السابعة فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم " وما أدراك ما عليون "
ثم وصفه فقال " كتاب مرقوم " يعني مكتوبا مختوما في عليين " يشهده المقربون " يعني يشهد ذلك الكتاب " المقربون " يعني يشهده سبعة أملاك من مقربي أهل كل سماء
وقال بعضهم الكتاب أراد به الروح والأعمال يعني يرفع روحه وأعماله إلى عليين
سورة المطففين 22 - 28
ثم قال عز وجل " إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون " يعني المؤمنين الصالحين " لفي نعيم " في الجنة " على الأرائك ينظرون " يعني على سرر في الحجال ينظرون إلى أهل النار ويقال " ينظرون " إلى عدوهم حين يعذبون " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " يعني أثر النعمة وسرورهم في وجوههم ظاهر " يسقون من رحيق " يعني يسقون خمرا بيضاء وقال الزجاج الرحيق الشراب الذي لا غش فيه قال القتبي الرحيق الخمرة العتيقة
ثم قال " مختوم ختامة مسك " يعني إذا شرب وجد عند فراغه من الشراب ريح المسك
قرأ الكسائي " خاتمه مسك " وروي عن الضحاك أنه قرأ مثله وقرأ الباقون " ختامه مسك " ومعناهما قريب والخاتم اسم والختام مصدر يعني يجد شاربه ريح المسك حين ينزع الإناء من فيه
ثم قال تعالى " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " يعني بمثل هذا الثواب فليتبادر المتبادرون ويقال فليتحاسد المتحاسدون ويقال فليواظب المواظبون وليجتهد المجتهدون وهذا كما قال " لمثل هذا فليعمل العاملون "
ثم قال " ومزاجه من تسنيم " يعني مزاج الخمر من ماء اسمه تسنيم وهو من أشرف الشراب في الجنة
وإنما سمي " تسنيم " لأنه يتسنم عليهم فينصب عليهم انصبابا
وقال(3/536)
537
عكرمة ألم تسمع إلى الرجل يقول إني لفي السنام من قومه فهو في السنام من الشراب وقال القتبي أصله من سنام البعير يعني المرتفع
ثم وصفه فقال " عينا يشرب بها المقربون " يعني التسنيم عينا يشرب بها المقربون صرفا ويمزج لأصحاب اليمين
سورة المطففين 29 - 33
ثم قال عز وجل " إن الذين أجرموا " يعني أشركوا " كانوا من الذين آمنوا يضحكون " يعني من ضعفاء المؤمنين يضحكون ويسخرون ويستهزؤون بهم " وإذا مروا بهم يتغامزون " يعني يطعنون ويغتابون
وذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر بنفر من المنافقين ومعه نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون ويقال هذا حكاية عن كفار مكة أنهم كانوا يضحكون من ضعفاء المسلمين وإذا مروا بهم وهم جلوس يتغامزون يعني يتطاعنون بينهم ويقولون هؤلاء الكسالى
ثم قال " وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين " يعني رجعوا معجبين بما هم فيه " وإذا رأوهم " يعني رأوا المؤمنين " قالوا إن هؤلاء لضالون " يعني تركوا طريقهم " وما أرسلوا عليهم حافظين " يعني ما أرسل هؤلاء حافظين على أصحابه وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليحفظوا عليهم أعمالهم
قال مقاتل هذا كله في المنافقين يعني ما وكل المنافقون بالمؤمنين يحفظون عليهم أعمالهم
قرأ عاصم " انقلبوا فكهين " بغير ألف وفي رواية حفص والباقون بالألف وقال بعضهم ومعناهما واحد
وقال بعضهم " فاكهين " ناعمين " فكهين " فرحين
سورة المطففين 34 - 36
قوله عز وجل " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " يعني في الجنة يضحكون على أهل النار " على الأرائك ينظرون " إلى أعدائهم يعذبون في النار وهم على السرر في الحجال وأعداؤهم في النار " هل ثوب الكفار " يعني هل جزاء الكفار ويقال هل جوزي وعوقب الكفار إلا " ما كانوا يفعلون " يعني إلا بما عملوا في الدنيا من الاستهزاء وقال مقاتل يعني قد جوزي الكفار بأعمالهم الخبيثة جزاء مرا والله الموفق(3/537)
538
سورة الانشقاق
كلها مكية وهي عشرون وخمس آيات
سورة الانشقاق 1 - 5
قوله الله تعالى " إذا السماء انشقت " يعني انفرجت لهيبة الرب تعالى ويقال " انشقت " لنزول الملائكة وما شاء من أمره
" وأذنت لربها " يعني أطاعت السماء لربها بالسمع والطاعة
" وحقت " يعني وحق للسماء أن تطيع ربها الذي خلقها
" وإذا الأرض مدت " يعني بسطت ومدت مد الأديم ليس فيها جبل ولا شجر يعني حتى يتسع ذلك فيها جميع الخلائق
وروى علي بن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه لكثرة الخلائق فيها )
" وألقت ما فيها " يعني ألقت الأرض ما فيها من الكنوز والأموات " وتخلت " عنها " وأذنت لربها " يعني أجابت الأرض لربها بالطاعة وأدت إليه ما استودعها من الكنوز والموتى " وحقت " يعني وحق للأرض أن تطيع ربها الذي خلقها
سورة الانشقاق 6 - 9
ثم قال عز وجل " يا أيها الإنسان إنك كادح " يعني الأسود بن عبد الأسد ويقال أبي بن خلف ويقال جميع الكفار
يعني أيها الكفار " إنك كادح " يعني ساع بعملك " إلى ربك كدحا " يعني سعيا قال مقاتل وقال الكلبي معناه إنك عامل لربك عملا " فملاقيه " يعني فملاقي عملك ما كان من خير أو شر
فالأول قول مقاتل والثاني قول الكلبي
وقال الزجاج الكدح في اللغة السعي في العمل وجاء في التفسير إنك عامل لربك عملا فملاقيه
أي فملاقي ربك
وقيل فملاقي عملك
قوله عز وجل " فأما من أوتي كتابه بيمينه " يعني المؤمن " فسوف يحاسب حسابا يسيرا " يعني حسابا هينا " وينقلب " يرجع " إلى أهله مسرورا " الذي أعد الله له في الجنة مسرورا به
وروى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من نوقش في الحساب يوم القيامة عذب ) فقلت أليس يقول الله تعالى " فسوف يحاسب حسابا يسيرا "(3/538)
539
قال ( ليس ذلك بالحساب إنما ذلك العرض ولكن من نوقش للحساب يوم القيامة عذب )
ويقال " يحاسب حسابا يسيرا " لأنه غفرت ذنوبه ولا يحاسب بها ويرجع من الجنة مستبشرا
سورة الانشقاق 10 - 13
ثم قال " وأما من أوتي كتباه وراء ظهره " يعني الكافر يخرج يده اليسرى من وراء ظهره فيعطى كتابه بها " فسوف يدعو ثبورا " يعني بالويل والثبور على نفسه
" ويصلى سعيرا " يعني يدخل في الآخرة نارا وقودا
قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة " ويصلى سعيرا " بنصب الياء وجزم الصاد مع التخفيف
والباقون " ويصلى " بضم الياء ونصب الصاد مع التشديد
فمن قرأ " يصلى " بالتخفيف فمعناه أنه يقاسي حر السعير وعذابه
ويقال تصليت النار إذا قاسيت عذابها وحرها
ومن قرأ بالتشديد فمعناه أنه يكثر عذابه في النار حتى يقاسي حرها
" إنه كان في أهله مسرورا " يعني في الدنيا مسرورا بما أعطي في الدنيا فلم يعمل للآخرة
سورة الإنشقاق 14 - 19
ثم قال عز وجل " إنه ظن أن لن يحور بلى " قال مقاتل ظن أن لن يرجع إلى الله في الآخرة وهي لغة الحبشة وقال قتادة يعني ظن أن لن يبعثه الله تعالى
وقال عكرمة ألم تسمع الحبشي إذا قيل له حرا إلى أهلك يعني أرجع إلى أهلك
ثم قال " بلى " يعني ليرجعن إلى ربه في الآخرة " إن ربه كان به بصيرا " يعني كان عالما به من يوم خلقه إلى يوم بعثه
قوله تعالى " فلا أقسم بالشفق " والشفق الحمرة والبياض الذي بعد غروب الشمس وهذا التفسير يوافق قول أبي حنيفة رحمه الله
وروي عن مجاهد أنه قال الشفق هو ضوء النهار
وروي عنه أنه قال الشفق النهار كله وروي عن ابن عمر أنه قال الشفق الحمرة وهذا يوافق قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
ثم قال " والليل وما وسق " يعني ساق وجمع
وقال القتبي أي حمل وجمع ومنه الوسق وهو الحمل وقال الزجاج أي ضم وجمع
وقال مقاتل " والليل وما وسق " يعني ما ساق معه من الظلمة والكواكب
وقال الكلبي يعني ما دخل فيه " والقمر إذا اتسق " يعني إذا استوى وتم إلى ثلاث عشرة ليلة ويقال " اتسق " تم وتكامل(3/539)
540
" لتركبن طبقا عن طبق " قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " لتركبن " بنصب التاء والباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب فمعناه لتركبن يا محمد من سماء إلى سماء
ومن قرأ بالضم فالخطاب لأمته أجمعين يعني لتركبن حالا بعد حال حتى يصيروا إلى الله تعالى من إحياء وإماتة وبعث
ويقال مرة نطفة ومرة علقة
ويقال حالا بعد حال مرة تعرفون ومرة لا تعرفون يعني يوم القيامة
ويقال يعني السماء لتحولن حالا بعد حال مرة تتشقق بالغمام ومرة تكون كالدهان
قرأ بعضهم " ليركبن " بالياء يعني ليركبن هذا المكذب طبقا عن طبق يعني حالا بعد حال يعني الموت ثم الحياة
سورة الانشقاق 20 - 25
ثم قال عز وجل " فما لهم لا يؤمنون " يعني ما لكفار مكة لا يصدقون بالقرآن " وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون " يعني لا يخضعون لله تعالى ولا يوحدونه
ويقال ولا يستسلمون لربهم ولا يطيعون
ويقال لا يصلون لله تعالى
قوله تعالى " بل الذين كفروا يكذبون " يعني يجحدون بالقرآن والبعث أنه لا يكون
وقال مقاتل نزلت في بني عمرو بن عمير وكانوا أربعة فأسلم اثنان منهم
ويقال هذا في جميع الكفار
ثم قال " والله أعلم بما يوعون " يعني يكتمون في صدورهم من الكذب والجحود
ويقال مما يجمعون في قلوبهم من الخيانة
ويقال معناه " والله أعلم " بما يقولون ويخفون
" فبشرهم بعذاب أليم " يعني شديدا دائما
وقال مقاتل ثم استثنى الاثنين اللذين أسلما فقال " إلا الذين آمنوا " ويقال هذا الاستثناء لجميع المؤمنين يعني الذين صدقوا بتوحيد الله تعالى
" وعملوا الصالحات " يعني أدوا الفرائض والسنن " لهم أجر غير ممنون " يعني غير منقوص ويقال غير مقطوع ويقال لهم أجر لا يمن عليهم
ومعنى قوله " فبشرهم بعذاب أليم " يعني اجعل مكان البشارة للمؤمنين بالرحمة والجنة للكفار عذابا أليما على وجه التغيير لأن ذلك لا يكون بشارة في الحقيقة والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم(3/540)
541
سورة البروج
مكية وهي عشرون آية واثنتان
سورة البروج 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " والسماء ذات البروج " يعني ذات النجوم والكواكب
ويقال ذات القصور
وقال عطية العوفي كان القصور في السماء على أبوابه
وقال قتادة " البروج " النجوم وكذلك قال مجاهد أقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج وجواب القسم قوله تعالى " إن بطش ربك لشديد " [ البروج 12 ]
ثم قال " واليوم الموعود " يعني يوم القيامة
قال مقاتل " اليوم الموعود " الذي وعدهم أن يصيرهم إليه وقال الكلبي وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يصيروا إلى ذلك اليوم
وقال " وشاهد ومشهود " ذكر مقاتل عن علي قال الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر يوم الحج الأكبر
وروي عن ابن عباس أنه قال الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى " وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " [ النساء41 ] والمشهود يوم القيامة كقوله تعالى " وذلك يوم مشهود " [ هود 103 ]
وروى جويبر عن الضحاك مثله
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة
وروى سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( سيد الأيام يوم الجمعة وهو شاهد ومشهود يوم عرفة )
وروى جابر بن عبد الله قال الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة
وروى مجاهد عن ابن عباس قال الشاهد ابن آدم والمشهود يوم القيامة وقال عكرمة مثله
وقال بعضهم الشاهد آدم والمشهود ذريته
ثم قال عز وجل " قتل أصحاب الأخدود " يعني لعن أصحاب الأخدود " النار ذات(3/541)
542
الوقود ) يعني يصيرون إلى النار ذات الوقود في الآخرة
وقال الكلبي يعني النار ارتفعت فوقهم أربعين ذراعا فوقعت عليهم وأحرقتهم وقتلتهم وذلك قوله " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود " قال حدثنا أبو جعفر قال حدثنا علي بن أحمد قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الأخدود فقال ( كان ملك من الملوك كان له ساحر فكبر الساحر فقال للملك إني قد كبرت فلو نظرت غلاما في أهلك فطنا كيسا فعلمته علمي هذا فنظر إلى غلام من أعلم أهله كيسا فظنا فأمره أن يأتيه ويلزمه وكان بين منزل الغلام ومنزل الساحر راهب فقال الغلام لو دخلت على هذا الراهب وسمعت من كلامه فدخل عليه فأعجبه قوله وكان أهله إذا بعثوه إلى الساحر دخل الغلام على الراهب واحتبس عنده
فإذا أتى الساحر ضربه وقال ما حبسك فإذا رجع من عند الساحر إلى أهله دخل على الراهب فاحتبس عنده
فإذا أتى أهله ضربوه وقالوا ما حبسك فشكى ذلك إلى الراهب فقال له الراهب إذا قالوا لك ما حبسك فقل حبسني الساحر وإذا قال لك الساحر ما حبسك فقل حبسني أهلي
فبينما هو ذات يوم يريد الساحر إذا هو بدابة هائلة يعني كبيرة قد قطعت الطريق على الناس
فقال اليوم يتبين لي أمر الراهب فأخذ حجرا ودنا من الدابة فقال اللهم إن كان أمر الراهب حقا فاقتل هذه الدابة ثم رماها فأصاب مقتلها فقلتها
فقال الناس إن هذا الغلام قتل هذه الدابة واشتهر أمره
فأتى الراهب فأخبره فقال يا بني أنت خير مني فلعلك أن تبتلى لا تدلن علي فبلغ من أمر الغلام أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي من الأمراض فعمي جليس الملك فذكر له أمر الغلام فأتاه فقال يا بني قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص فقال الغلام ما أنا بساحر ولا أشفي أحد ولا يشفي إلا ربي
فقال له الرجل هذا الملك ربك قال لا ولكن ربي ورب الملك الله تعالى فإذا آمنت بالله تعالى به دعوت الله فشفاك
فأسلم فدعا الله تعالى فبرئ فأتى الملك فقال له الملك أليس يا فلان قد ذهب بصرك فقال بلى ولكن رده علي ربي فقال أنا قال لا ولكن ربي وربك الله قال أولك رب غيري قال نعم ربي وربك الله تعالى فلم يزل به حتى أخبره بأمر الغلام فأرسل إلى الغلام فجاءه فقال يا بني قد بلغ من سحرك أنك تشفي من كذا وكذا فقال الغلام ما أنا بساحر ولا أشفي أحدا وما يشفي إلا ربي فقال أنا قال لا ولكن ربي وربك الله فلم يزل به حتى دل على الراهب
فدعا بالراهب فأتي به فأراده على أن يرجع من دينه فأبى وأمر بمنشار فوضع في مفرق رأسه فشق به حتى سقط شقاه
ثم دعا بجليسه
وأراد أن يرجع عن دينه فأبى فأمر بمنشار فشق حتى سقط شقاه فأمر بالغلام أن يفعل ذلك بمكانه فقال احملوه في سفينة فانطلقوا به حتى إذا لججتم فغرقوه(3/542)
543
فانطلقوا به حتى إذا كانوا في وسط اللجة فلما أرادوا به ذلك فقال اللهم اكفينيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا
فجاء الغلام حتى قام بين يدي الملك فأخبره بالذي كان فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فإذا كنتم في ذروة الجبل فدهدهوه عنه فانطلقوا به حتى إذا كانوا بذلك المكان فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فدهدهوا عن الجبل يمينا وشمالا فجاء حتى قام بين يدي الملك فأخبره بالذي كان وقال للملك إنك لن تقدر على قتلي حتى تفعل بي ما آمرك به
فقال وما هو قال تجمع أهل مملكتك في صعيد واحد ثم تصلبني وتأخذ سهما من كتابي فترميتي به وتقول بسم الله رب هذا الغلام ففعل وأخذ سهما من كنانته فرمى به وقال بسم الله رب هذا الغلام فأصاب صدغه فوضع يده على صدغه فمات
فقال الناس آمنا برب هذا الغلام فقيل للملك وقعت فيما كنت تحاذر وقد أسلم الناس
فقال خذوا يا قوم الطريق وحدوا فيها أخدودا وألقوا فيها النار
فمن رجع عن دينه وإلا فألقوه فيها ففعلوا
فجعل الناس يجيئون ويلقون أنفسهم في الأخدود حتى كان آخرهم امرأة ومعها صبي لها رضيع تحمله فلما دنت من النار وجدت حرها فولت فقال لها الصبي يا أماه امضي فإنك على الحق فرجعت وألقت نفسها في النار
فذلك قوله عز وجل " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود "
وروي في خبر آخر أن الملك كان على دين اليهودية ويقال له ذو نواس واسمه زرعة ملك حمير وما حولها
فكان هناك قوم دخلوا في دين عيسى فحفر لهم أخدودا فأوقد فيها النار وألقاهم في الأخدود فحرقهم وحرق كتبهم
ويقال كان الذين على دين عيسى بأرض نجران فسار إليهم من أرض حمير حتى أحرقهم وأحرق كتبهم فأقبل منهم رجل فوجد مصحفا فيها وإنجيلا محترقا بعضه فخرج به حتى أتى به ملك الحبشة فقال له إن أهل دينك قد أوقدت لهم النار فأحرقوا بها وحرقت كتبهم وهذه بعضه
ففزع الملك لذلك وبعث إلى صاحب الروم وكتب إليه يستمده بنجارين يعملون له السفن
فبعث إليه صاحب الروم من يعمل له السفن فحمل فيها الناس وسافر بهم
فخرجوا ما بين ساحل عدن إلى ساحل جازان وخرج إليهم أهل اليمن فلقوهم بتهامة واقتتلوا فلم ير ملك حمير له بهم طاقة وتخوف أن يأخذوه فضرب فرسه حتى وقع في البحر فمات فيه
فاستولى أهل الحبشة على ملك حمير وما حوله وبقي الملك لهم إلى وقت الإسلام
وروي في الخبر أن الغلام الذي قتله الملك دفن فوجد ذلك الغلام في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه واضعا يده على صدغه كما كان وضعها حين قتل وكلما أخذت يده(3/543)
544
سال منه الدم وإذا أرسل يده انقطع الدم
فكتبوا إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليهم أن ذلك الغلام صاحب الأخدود فاتركوه على حاله حتى يبعثه الله تعالى يوم القيامة على حاله فذلك قوله تعالى " قتل أصحاب الأخدود " يعني لعن أصحاب الأخدود وهم الذين خدوا أخدودا " النار ذات الوقود " يعني الأخدود ذات النار الوقود
ويقال " قتل أصحاب الأخدود " يعني أهل الحبشة قتلوا أصحاب الأخدود أصحاب النار ذات الوقود
سورة البروج 6 - 11
ثم قال عز وجل " إذ هم عليها قعود " يعني القوم عند النار حضور
قال سفيان " إذ هم عليها " على السرر " قعود " عند النار " وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود " يعني أن خدامهم وأعوانهم يفعلون بالمؤمنين ذلك وهم هناك " شهود " يعني حضورا
ويقال يفعلون بالمؤمنين ذلك " وهم شهود " يعني يشهدون بأن المؤمنين في ضلال حين تركوا عبادة آلهتهم
ويقال " على ما يفعلون بالمؤمنين شهود " يشهدون على أنفسهم يوم القيامة " وما نقموا منهم " يعني وما طعنوا فيهم
" إلا أن يؤمنوا بالله " يعني سوى أنهم صدقوا بتوحيد الله تعالى " العزيز " في ملكه " الحميد " في فعاله
ويقال " وما نقموا منهم " يعني وما أنكروا عليهم " إلا أن يؤمنوا بالله " يعني إلا إيمانهم بالله " الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد "
ثم بين ما أعد الله لأولئك الكفار فقال عز وجل " إن الذين فتنوا " يعني عذبوا وأحرقوا " المؤمنين والمؤمنات " يعني في الدنيا " ثم لم يتوبوا " يعني لم يرجعوا عن دينهم ولم يتوبوا إلى الله تعالى " فلهم عذاب جهنم " في الآخرة " ولهم عذاب الحريق " يعني العذاب الشديد
وقال الزجاج المعنى والله أعلم " لهم عذاب " بكفرهم " ولهم عذاب " بما أحرقوا المؤمنين
قوله تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير " وقد ذكرناه
سورة البروج 12 - 16
ثم قال عز وجل " إن بطش ربك لشديد " يعني عذاب ربك لشديد وهذا قول مقاتل(3/544)
545
وقال الكلبي أخذ ربك لشديد ومعناهما واحد
ويقال عقوبة بك لشديدة وهذا موضع القسم
ثم قال " إنه هو يبدئ ويعيد " يعني يبدئ الخلق في الدنيا ويعيد في الآخرة يعني يبعثهم بعد الموت " وهو الغفور الودود " يعني " الغفور " لذنوب المؤمنين ويقال " الغفور " لذنوب التائبين " الودود " يعني المحب للتائبين
ويقال المحب لأوليائه ويقال " الودود " يعني الكريم
" ذو العرش المجيد " يعني رب السرير الشريف
قرأ حمزة والكسائي " المجيد " بكسر الدال وقرأ الباقون بالضم
فمن قرأ بالخفض جعله نعتا للعرش ومن قرأ بالضم جعله صفة ذو يعني " ذو العرش " وهو " المجيد " و " المجيد " الكريم
" فعال لما يريد " يعني يحيي ويميت ويعز ويذل
سورة البروج 17 - 22
ثم قال عز وجل " هل أتاك حديث الجنود " يعني قد أتاك حديثهم
ثم فسر الجنود فقال " فرعون وثمود " يعني قوم موسى وقوم صالح أهلكهم الله تعالى في الدنيا
وهذا وعيد لكفار هذه الأمة ليعتبروا بهم ويوحدوه
ثم قال تعالى " بل الذين كفروا في تكذيب " يعني إن الذين لا يعتبرون ويكذبون الرسل والقرآن " والله من ورائهم محيط " يعني لا يعجزه منهم أحد قدرته مشتملة عليهم هكذا قال الزجاج
ويقال اصبر على تكذيبهم فإن الله عالم بهم
" بل هو قرآن مجيد " يعني إنهم وإن كذبوا لا يعرفون حقه لا يقرون به وهو قرآن شريف أشرف من كل كتاب
أو يقال شريف لأنه كلام رب العزة " في لوح محفوظ " يعني مكتوبا في اللوح الذي هو محفوظ عند الله من الشياطين وهو عن يمين العرش من درة بيضاء
ويقال من ياقوتة حمراء
قرأ نافع " محفوظ " بالضم والباقون بالكسر
فمن قرأ بالضم جعله نعتا للقرآن ومعناه قرآن مجيد محفوظ من الشياطين في اللوح
ومن قرأ بالكسر فهو نعت للوح
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى جعل لوحا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين مرة ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء
وروي عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه قال حدثني فرقد في قوله تعالى " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " قال هو صدر المؤمنين وقال قتادة في اللوح المحفوظ عند الله تعالى والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما(3/545)
546
سورة الطارق
مكية وهي سبع عشرة آية
سورة الطارق 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى " والسماء والطارق " قال سعيد بن جبير سألت ابن عباس رضي الله عنهم عن قوله " والسماء والطارق " فقال " وما أدراك ما الطارق " " النجم الثاقب " وسكت فقلت له مالك فقال والله ما أعلم منها إلا ما أعلم ربي
يعني تفسير الآية ما ذكر في هذه الآية وهو قوله " والنجم الثاقب "
يعني هو الطارق
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في رواية أخرى في قوله " والسماء والطارق " قال الطارق الكواكب التي تطرقن في الليل وتخفين في النهار " وما أدراك ما الطارق " على وجه التعجب والتعظيم
ثم بين فقال " النجم الثاقب " يعني هو النجم المضيء
وقال مجاهد " الثاقب " الذي يتوهج
وقال الحسن البصري " الثاقب " يعني هو النجم حين يرسل على الشياطين فيثقبه يعني فيحرقه
وقال قتادة " النجم الثاقب " يعني يطرق بالليل ويخنس بالنهار فأقسم الله تعالى بالسماء ونجومها
ويقال بخالق السماء ونجومها " إن كل نفس لما عليها حافظ " وهذا جواب القسم يعني ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظ قولها وفعلها
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر " إن كل نفس لما عليها " بتشديد الميم والباقون " لما " بالتخفيف
فمن قرأ بالتشديد فمعناه ما من نفس إلا وعليها حافظ من الملائكة يحفظ قولها وفعلها
ومن قرأ بالتخفيف جعل " لما " مؤكدة ومعناه كل نفس لعليها حافظ
سورة الطارق 5 - 10
ثم قال " فلينظر الإنسان مم خلق " يعني فليعتبر الإنسان من ماذا خلق
قال بعضهم نزلت في جميع من أنكر البعث
ويقال نزلت في شأن أبي طالب ثم بين أول خلقهم ليعتبروا فقال " خلق من ماء دافق " يعني من ماء مهراق في رحم المرأة ويقال " دافق " بمعنى مدفوق
كقوله " فهو في عيشة راضية " [ القارعة 7 ] أي مرضية
ثم قال " يخرج من بين الصلب والترائب " يعني خلق من مائين من ماء الأب يخرج(3/546)
547
من بين الصلب ومن ماء الأم يخرج من الترائب
" والترائب " موضع القلادة كما قال امرؤ القيس
( مهفهفة بيضاء غير مفاضة % ترائبها مصقولة كالسجنجل )
ثم قال " إنه على رجعه لقادر " يعني على بعثه وإعادته بعد الموت لقادر ويقال على رجعه إلى صلب الآباء وترائب الأمهات لقادر والتفسير الأول أصح لأنه قال " يوم تبلى السرائر " يعني تظهر الضماير
ويقال يختبر السرائر " فما له من قوة ولا ناصر " يعني ليس له في ذلك اليوم قوة يدفع العذاب عن نفسه ولا مانع يمنع العذاب عنه
سورة الطارق 11 - 14
وقوله " والسماء ذات الرجع " فهو قسم أقسم الله تعالى بخالق السماء " ذات الرجع " يعني يرجع السحاب بالمطر بعد المطر والسحابة بعد السحابة " والأرض ذات الصدع " يعني يتصدع فيخرج ما بالنبات والثمار فيجعلها قوتا لبني آدم ويقال " ذات الصدع " يعني ذات الأودية وهو قول مجاهد
وقال قتادة يعني ذات النبات " إنه لقول فصل " يعني القرآن قول حق وجد " وما هو بالهزل " يعني باللعب
ويقال لم ينزل بالباطل
سورة الطارق 15 - 17
قوله تعالى " إنهم يكيدون كيدا " يعني يمكرون مكرا وهم أهل مكة في دار الندوة
ويقال يكيدون كيدا يعني يصنعون أمرا وهو الشرك والمعصية " وأكيد كيدا " يعني أصنع لهم أمرا وهو القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة
قوله تعالى " فمهل الكافرين " يعني أجل الكافرين ويقال خل عنهم " أمهلهم رويدا " يعني أجلهم قليلا أي إلى وقت الموت ويقال " إنهم يكيدون كيدا " بمعنى الخراصون الذين يصدون الناس يعني يحبسون الناس في كل طريق يعني يصدون الناس عن دينه
وروى عبد الرزاق عن أبي وائل عن همام مولى عثمان قال لما كتبوا المصحف شكوا في ثلاث آيات فكتبوها في كتف شاة وأرسلوها إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت فدخلت عليهما فناولتهما أبيا فقرأها فكان فيها " لا تبديل لخلق الله " وكان فيها " لم يتسن " فكتب " لم يتسنه " وكان فيها فأمهل الكافرين فمحى الألف وكتب " فمهل الكافرين " ونظر فيها زيد بن ثابت فانطلقت بها إليهم فناولتها زيد بن ثابت إليهم فأثبتوها في المصحف " أمهلهم رويدا " يعني أجلهم قليلا فإن أجل الدنيا كلها قليل(3/547)
548
سورة الأعلى
مكية وهي تسع عشرة آية
سورة الأعلى 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " سبح اسم ربك الأعلى " قال الكلبي يعني صل بأمر ربك ويقال " سبح " هو من التنزيه والبراءة يعني نزه ربك والاسم صلة ويقال معناه " سبح اسم ربك الأعلى " قل سبحان ربي الأعلى كما روي في الخبر أنه قيل يا رسول الله ما نقول في ركوعنا فنزل " سبح اسم ربك الأعلى " بمعنى العالي كقوله أكبر بمعنى الكبير
والعلو هو القهر والغلبة يعني أمره نافذ على خلقه فلما نزل " فسبح باسم ربك العظيم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اجعلوها في ركوعكم ) قالوا فما نقول في سجودنا فنزل " سبح اسم ربك الأعلى " قال ( اجعلوها في سجودكم ) ويقال " سبح اسم ربك " يعني اذكر توحيد ربك الأعلى ويقال كان بدء قوله " سبحان ربي الأعلى " أن ميكائيل خطر على باله عظمة الرب جلا وعلا سلطانه فقال يا رب أعطني قوة حتى أنظر إلى عظمتك وسلطانك فأعطاه قوة أهل السموات فطار خمسة آلاف سنة فنظر فإذا الحجاب على حاله واحترق جناحه من نور العرش
ثم سأل القوة فأعطاه القوة ضعف ذلك فجعل يطير ويرتفع عشرة آلاف سنة حتى احترق جناحه وصار في آخره كالفرخ ورأى الحجاب والعرش على حاله فخر ساجدا وقال " سبحان ربي الأعلى " يعني تعالى من أن يكون محسوسا مقهورا
ثم سأل ربه أن يعيده وإلى مكانه إلى حاله الأولى
ثم قال عز وجل " الذي خلق فسوى " يعني الذي خلق كل ذي روح وجميع خلقه ويقال سبح لله تعالى الذي خلقك فسوى خلقك يعني اليدين والرجلين والعينين ولم يخلقك زمنا ولا مكفوفا كما قال " وصوركم فأحسن صوركم " [ غافر 64 ]
قوله تعالى " والذي قدر فهدى " يعني قدر لكل شيء شكله يعني لكل ذكر وأنثى من شكله وهداه للأكل والشرب والجماع ويقال " فهدى " يعني فهداه السبيل " إما شاكرا وإما كفورا " [ الإنسان 3 ] ويقال " والذي قدر فهدى " يعني سبح لله الذي خلقك فقدر آجلك ورزقك وعملك ثم هداك إلى المعرفة والإسلام والأكل والشرب فصل بابن آدم وسبح لهذا(3/548)
549
المنعم المكرم الذي هو الأحد الصمد السيد " هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " [ الحديد 3 ]
ثم قال عز وجل " والذي أخرج المرعى " يعني أنبت الكلأ ويقال هو العشب والحشيش والقت وما أشبهه قرأ الكسائي " والذي قدر " بالتخفيف والباقون بالتشديد ومعناها واحد يقال قدرت الأمر وقدرته
" فجعله غثاء أحوى " يعني جعل المرعى يابسا بعد خضرته وقال القتبي " غثاء " يعني يابسا " أحوى " يعني أسود من قدمه واحتراقه
سورة الأعلى 6 - 13
ثم قال عز وجل " سنقرئك فلا تنسى " يعني سنعلمك القرآن وينزل عليك فلا تنسى " إلا ما شاء الله " يعني قد شاء الله أن لا تنسى القرآن فلم ينس القرآن بعد نزول هذه الآية
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ في قراءته قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام مخافة أن ينساه ويقال " سنقرئك فلا تنسى " يعني سنحفظ عليك حتى لا تنسى شيئا ويقال إن جبريل كان ينزل عليه في كل زمان ويقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين له ما نسخ فذلك قوله " إلا ما شاء الله " أن وينسخه ويذهب من قلبك
ثم قال تعالى " إنه يعلم الجهر وما يخفى " يعني يعلم العلانية والسر ويقال يعلم ما يجهر به الإمام في الفجر والمغرب والعشاء والجمعة " وما يخفى " يعني في الظهر والعصر والسنن ويقال " وما يخفى " من أقوالهم وأفعالهم ويقال " يعلم " ما ما يظهر من أفعال العبد " وما يخفى " يعني ما لم يعملوه وهم عاملوه
ثم قال عز وجل " ونيسرك لليسرى " يعني سنهون عليك حفظ القرآن وتبليغ الرسالة ويقال نعينك على الطاعة
قوله تعالى " فذكر " يعني فعظ بالقرآن الناس " إن نفعت الذكرى " يعني إن نفعتهم العظة ومعناه ما نفعت العظة بالقرآن إلا لمن يخشى ويقال " إن نفعت الذكرى " يعني إن قولك ودعوتك تنفع لكل قلب عاقل
ويقال " سنيسرك لليسرى " يعني نهون عليك عمل أهل الجنة
ثم قال " سيذكر من يخشى " يعني سيتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى ويسلم
ويقال معناه سيتعظ ويؤمن ويعمل صالحا من يخشى قلبه من عذاب الله تعالى " ويتجنبها " يعني يتباعد عنها يعني عن عظتك " الأشقى " يعني الشقي الذي وجب في علم الله تعالى أنه يدخل النار مثل الوليد وأبي جهل ومن كان مثل حالهما " الذي يصلى النار الكبرى " يعني يدخل يوم(3/549)
550
القيامة النار الكبرى يعني النار العظمى لأن نار الدنيا هي النار الصغرى ونار الآخرة هي النار الكبرى
وروى يونس عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وقد غمست في النار مرتين ليدنى منها وينتفع بها ولولا ذلك ما دنوتم منها ) ويقال إنها تستجير أن ترد إلى جهنم يعني تتعوذ منها
وقال بعض الحكماء علامة الشقاوة تسع أشياء كثرة الأكل والشرب والنوم والإصرار على الذنب والغيبة وقساوة القلب وكثرة الذنب ونسيان الموت والوقوف بين يدي الملك عز وجل وهذا هو الشقي الذي يدخل النار الكبرى " ثم لا يموت فيها ولا يحيى " يعني " لا يموت " في النار حتى يستريح من عذابها " ولا يحيا " حياة تنفعه وقال القتبي معناه هو العذاب بحال من يموت ولا يموت
سورة الأعلى 14 - 19
ثم قال عز وجل " قد أفلح من تزكى " يعني قد فاز ونجا من هذا العذاب وسعد بالجنة " من تزكى " يعني وحد الله تعالى وزكى نفسه بالتوحيد " وذكر اسم ربه " يعني توحيد ربه " فصلى " مع الإمام الصلوات الخمس ويقال " قد أفلح من تزكى " يعني أدى زكاة الفطر " وذكر اسم ربه فصلى " مع الإمام صلاة العيد
ويقال " قد أفلح من تزكى " يعني أدى زكاة المال يعني نجا من خصومة الفقراء يوم القيامة " وذكر اسم ربه فصلى " يعني كبر وصلى لله تعالى ويقال " قد أفلح من تزكى " يعني تاب من الذنوب " وذكر اسم ربه " يعني إذا سمع الآذان خرج إلى الصلاة
ثم ذم تارك الجماعة لأجل الاشتغال بالدنيا فقال " بل تؤثرون الحياة الدنيا " يعني تختارون عمل الدنيا على عمل الآخرة قرأ أبو عمرو " بل يؤثرون " بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال " والآخرة خير وأبقى " يعني عمل الآخرة " خير وأبقى " من اشتغال الدنيا وزينتها ويقال معناه يختارون عيش الدنيا الفانية على عيش الآخرة الباقية وإن عيش الآخرة " خير وأبقى " لأن في عيش الدنيا عيوبا كثيرة خوف المرض والموت والفقر والذل والهوان والزوال والحبس والمنع وما أشبه ذلك وليس في عيش الآخرة شيء من هذه العيوب لأجل هذا قيل إن الآخرة خير من الدنيا
ثم قال عز وجل " إن هذا لفي الصحف الأولى " يعني الذي ذكر في هذه السورة كان في الصحف الأولى يعني في الكتب الأولى ثم فسره فقال " صحف إبراهيم وموسى " ويقال الذي ذكر في " الصحف الأولى " يعني أن الذي في آخر السورة أربع آيات لفي كتب الأولين وكل كتاب مكتوب يسمى الصحف يعني في قوله " قد أفلح من تزكى " إلى آخر الآية(3/550)
551
سورة الغاشية
وهي ست وعشرون آية مكية
سورة العاشية 1 - 7
قول الله تبارك وتعالى " هل أتاك حديث الغاشية " " هل " استفهام استفهم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يكن أتاه بعد فكأنه قال الآن يأتيك خبره ثم أخبره
ويقال معناه قد أتاك حديث الغاشية و " الغاشية " اسم من أسماء يوم القيامة وإنما سميت غاشية لأنها تغشى الخلق كلهم
كما قال " يوما كان شره مستطيرا " [ الإنسان 7 ] ويقال " الغاشية " النار وإنما سميت غاشية لأنها تغشى وجوه الكفار
كما قال " وتغشى وجوههم النار " [ إبراهيم 5 ] أو كقوله " يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم " [ العنكبوت 55 ] ويقال " الغاشية " دخان النار يخرج من النار يوم القيامة عنق من النار فيحيط بالكفار مثل السرادق ويجيء دخانها فيغشى الخلائق حتى لا يرى بعضهم بعضا إلا من جعل الله تعالى له نورا بصالح عمله في الدنيا كقوله " كالقصر كأنه جمالات صفر " [ المرسلات 33 ] وكقوله " وظل من يحموم " [ الواقعة 43 ] ويقال غاشية الصراط تغشى المنافقين
كقوله " انظرونا نقتبس من نوركم " [ الحديد 13 ] الآية
ثم وصف ذلك اليوم وقال " وجوه يومئذ خاشعة " يعني من الوجوه وجوه يومئذ خائفة ذليلة في العذاب وهي وجوه الكفار
ثم قال " عاملة " يعني تجر على وجوهها في النار " ناصبة " يعني من تعب وعذاب في النار
ويقال ( عاملة ناصبة ) يعني تكلف الصعود على عتبة ملساء من النار فيرتقيها في عناء ومشقة فإذا ارتقى إلى ذروتها هبط منها إلى أسفلها
ويقال نزلت في رهبان النصارى " عاملة " في الدنيا " ناصبة " في العبادة أشقياء في الدنيا والآخرة
ويقال " عاملة " في الدنيا بالمعاصي والذنوب " ناصبة " في الآخرة بالعذاب " تصلى نارا حامية " يعني تدخل نارا حارة قد أوقدت ثلاثة آلاف سنة حتى اسودت
فهي سوداء مظلمة
قوله تعالى " تسقى من عين آنية " أي من عين حارة قد انتهى حرها " ليس لهم طعام " وهذا في بضع دركها " إلا من ضريع " قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر بضم التاء " تصلى نارا " وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم بمعنى المفعول الذي لم يسم فاعله(3/551)
552
ونصب " نارا " على أنه مفعول ثان
ومن قرأ بالنصب جعل الفعل الذي يدخل النار وهو كناية عن الوجوه ولهذا ذكره بلفظ التأنيث
ثم قال " ليس لهم طعام إلا من ضريع " والضريع نبات بين طريق مكة واليمن فإذا أكل الإبل منه رطبا بعضه فإذا يبس صار كأظفار الهرة فإذا أكل الكفار منه بقي في حلوقهم " ليس لهم طعام إلا من ضريع " يعني غير الضريع " لا يسمن " يعني لا يشبع الضريع " ولا يغني من جوع " يعني ولا ينفع من جوع وهذا الجزاء للذي يتعب نفسه للعمل في الدنيا والمعاصي وما لا يحتاج إليه
سورة الغاشية 8 - 16
ثم وصف مكان الذي يعمل لله تعالى ويترك عمل المعصية ويؤدي ما أمر الله به ويترك ما نهي عنه فقال " وجوه يومئذ ناعمة " يعني من الوجوه ما تكون ناعمة يعني في نعمة وكرامة وهي وجوه المؤمنين والتائبين والصالحين
ويقال " وجوه يومئذ ناعمة " يعني مشرقة مضيئة مثل القمر ليلة البدر " لسعيها راضية " يعني لثواب عملها راضية
ويقال لثواب سعيه الذي عمل في الدنيا من الخير حين رأى ثوابه في الجنة " راضية " مرضية رضي الله عنه بعمله في الدنيا ويرضى العبد من الله تعالى في الآخرة بالثواب " في جنة عالية " يعني ذلك الثواب في جنة مرتفعة في الدرجات العلى
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن المتحابين في الله في غرفة ينظر إليهم أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى كواكب السماء )
ثم قال عز وجل " لا تسمع فيها لاغية " يعني لا يكون في الجنة لغو ولا باطل وليس فيها غل ولا غش
قرأ نافع " لا تسمع " بالتاء المضمومة بلفظ التأنيث لأن " لاغية " مؤنثة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " لا يسمع " بضم الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وإنما ذكر بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى المعنى
يعني إلى اللغو
وروي عن ابن كثير ونافع في إحدى الروايتين " لا تسمع " بنصب التاء يعني لا تسمع في الجنة أيها الداخل كلمة لغو لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى
ثم قال " فيها عين جارية " يعني في الجنة عين جارية ماؤها أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فمن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا ويذهب من قلبه الغل والغش والحسد والعداوة والبغضاء
ثم قال " فيها سرر مرفوعة " يعني مرتفعة " وأكواب موضوعة " يعني الكيزان التي لا عرى لها مدورة الرأس " ونمارق مصفوفة " يعني وسائد قد صف بعضها إلى بعض على الطنافس(3/552)
553
قوله عز وجل " وزرابي مبثوثة " قال القتبي الزرابي الطنافس
ويقال البسط زرابي واحدها زربى
قوله عز وجل " مبثوثة " أي كثيرة متفرقة أو مبسوطة والنمارق الوسايد واحدها نمرقة والمؤمن جالس فوق هذا كله وعلى رأسه وصفا كأنهن الياقوت والمرجان جزاء بما كانوا يعملون
فإن شك شاك فيها وتعجب كيف هذا وهو غائب عنا فقل انظر إلى صنعة الرب تبارك وتعالى في الدنيا
سورة الغاشية 17 - 26
وهو قوله تعالى " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " يعني خلق من قطرة ماء خلقا عظيما يحمل عليه وإنما خص ذكر الإبل لأن الإبل كانت أقرب الأشياء إلى العرب
ثم قال عز وجل " وإلى السماء " يعني أفلا ينظرون إلى السماء " كيف رفعت " بلا عمد تحتها وحبست في الهواء بقدرة الرب سبحانه وتعالى
ثم قال " وإلى الجبال " يعني أفلا ينظرون إلى الجبال " كيف نصبت " على ظهر الأرض أوتادا لها وليس جبل من الجبال إلا وله عرق في قاف وملك موكل بجبل قاف
فإذا أراد الله تعالى بأهل أرض شيئا أوحى إلى ملك قاف فيحرك تلك العروق فيتزلزل
ثم قال " وإلى الأرض كيف سطحت " يعني بسطت على ظهر الماء
ثم قال " فذكر إنما أنت مذكر " يعني فذكر يا محمد صلى الله عليه وسلم وخوفهم بالعذاب في الآخرة " إنما أنت مذكر " يعني مخوفا بالقرآن " لست عليهم بمسيطر " يعني بمسلط تجبرهم على الإسلام وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
وقال مقاتل في الآية تقديم يعني فذكر " إلا من تولى " يعني أعرض عن الإيمان " وكفر " بالله تعالى " فيعذبه الله العذاب الأكبر " يعني فيدخله النار وهو العذاب الأكبر الدائم وهو عذاب النار حرها شديد وقعرها بعيد ومقامها حديد
قوله تعالى " إن إلينا إيابهم " يعني إن إلينا مرجعهم بعد الموت " ثم إن علينا حسابهم " يعني يحاسبون بكل صغيرة وكبيرة وقليل وكثير كما قال " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " [ الكهف 49 ]
ويقال " إن علينا حسابهم " يعني جزاءهم بأعمالهم يعني ثوابهم بما عملوا(3/553)
554
سورة الفجر
مكية وهي ثلاثون آية
سورة الفجر 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى " والفجر " هو قسم وجوابه " إن ربك لبالمرصاد " أقسم الله تعالى بالفجر يعني الصبح والفجر فجران المستطيل وهو من الليل
والفجر المعترض وهو من النهار
ويقال أراد به أول يوم من المحرم
ثم قال عز وجل " وليال عشر " يعني عشر ذي الحجة ويقال إنها عشر أيام العشر التي صام فيها موسى عليه السلام وهي قوله " وأتممناها بعشر " [ الأعراف 142 ]
ويقال هي أيام عاشوراء
ثم قال عز وجل " والشفع والوتر " قال قتادة الخلق كله شفع ووتر فأقسم الله تعالى بالخلق
وروى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال الشفع آدم وحواء والوتر الله تعالى
قال ابن عباس الوتر آدم شفع بزوجته حواء وقال عطاء الشفع الناس والوتر الله سبحانه وتعالى
وقال الحسن الشفع هو الخلق الذكر والأنثى والوتر الله تعالى
ويقال أقسم بالصلوات ومن الصلوات ما هو شفع وهو الفجر والظهر والعصر والعشاء ومنها ما هو وتر وهو الوتر في المغرب
ويقال إنما هو الأعداد كلها شفع ووتر
وعن ابن عباس الشفع أيام الذبح والوتر يوم عرفة
سورة الفجر 4 - 14
ثم قال عز وجل " والليل إذا يسر " قال الكلبي يعني ليلة المزدلفة يسير الخلق إلى المزدلفة
وقال القتبي " والليل إذا يسر " يعني يسرى فيه كقوله ليل نائم أي ينام فيه
وقال الزجاج أصله سرى يسري إلا أن الياء قد حذفت منه وهي القراءة المشهورة بغير ياء ويقرأ بالياء
قرأ حمزة والكسائي " والوتر " بكسر الواو
والباقون بالنصب وهما لغتان(3/554)
555
يقال للفرد وتر ووتر
وقرأ ابن كثير " إذا يسر " بالياء في حال الوصل والقطع وقرأ نافع بالياء إذا وصل وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والقطع لأن الكسرة تدل عليه
ثم قال عز وجل " هل في ذلك قسم لذي حجر " يعني أن في ذلك الذي ذكرناه قسما لذي لب من الناس
ويقال إن في ذلك قسم صدق لذي عقل ولب ورشد والحجر اللب
ثم قال عز وجل " ألم تر كيف فعل ربك بعاد " يعني ألم تعلم ويقال ألم تخبر واللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني فذلك خبر عاد " إرم ذات العماد " يعني عاقبة قوم عاد و " إرم " اسم عاد وقال بعضهم هما عادان أحدهما عاد وإرم ) والآخر هم قوم هود
وقال بعضهم كلاهما واحد ويقال " إرم " اسم للجنة التي بناها فمات قبل أن يدخلها وذكر فيها حكاية طويلة عن وهب بن مبنه
ثم قال " ذات العماد " يعني الفساطيط والعمود عمود الفسطاط
( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) يعني في القوة والطول ويقال " ذات العماد " يعني ذات القوة ويقال " ذات العماد " يعني دائم الملك طويل العمر
ويقال " ذات العماد " أي ذات البناء الرفيع
وروى أسباط عن السدي قال عاد بن إرم نسبهم إلى أبيهم الأكبر
كقولك بكر بن وائل
ويقال لا ينصرف إرم لأنه اسم قبيلة
وقال مقاتل " ذات العماد " يعني طولها اثنا عشر ذراعا " التي لم يخلق مثلها في البلاد " في الطول والقوة وإرم اسم أب قبيلة ينسب إليهم وهو إرم بن سمك بن نمك بن سام بن نوح
وقال الكلبي " ذات العماد " يعني كانوا أهل ذات عمود وماشية فإذا هاج العمود يعني يبس العشب رجعوا إلى منازلهم
ويقال عاد وإرم شيء واحد
ثم قال عز وجل " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " وهم قوم صالح نقبوا الجبل وقلعوا أحجارا لا يطيق مائتا رجل الآن بالواد
وقال الكلبي هو واد القرى
ثم قال عز وجل " وفرعون ذي الأوتاد " يعني قواده الكفرة الفجرة الذين خلقهم الله تعالى أوتادا لمملكته ليكفوا عنه عدوه
ويقال إن له بيتا أوتد فيه أوتادا فإذا عذب أحدا طرحه فيها
ويقال سمي ذو الأوتاد لأنه كان إذا غضب على أحد وثقه بأربعة أوتاد
ويقال الأوتاد وهي الصلب إذا غضب على أحد صلبه كقوله لأصلبنكم ويقال سمي ذو الأوتاد يعني ذو ملك ثابت
ثم قال " الذين طغوا في البلاد " يعني عادا وثمودا وفرعون عصوا في البلاد " فأكثروا فيها الفساد " يعني أكثروا في الأرض المعاصي " فصب عليهم ربك سوط عذاب " يعني أرسل عليهم ربك شديد العذاب حتى أهلكهم " إن ربك لبالمرصاد " يعني ممر الخلق عليه
ويقال " إن ربك لبالمرصاد " يعني ملائكة ربك على الصراط يرصدون العباد على جسر جهنم في سبع مواضع
وقال ابن عباس رضي الله عنه يحاسب العبد
في أولها بالإيمان فإن(3/555)
556
سلم إيمانه من النفاق والرياء نجا وإلا تردى في النار
وفي الثاني يحاسب على الصلاة فإن أتم ركوعها وسجودها في مواقيتها نجا وإلا تردى في النار وفي الثالث يحاسب على الزكاة فإن أداها بشروطها وإلا تردى في النار
والرابع يحاسب بصوم رمضان فإن صامه بحدوده وحقوقه نجا وإلا تردى في النار
وفي الخامس في الحج والعمرة وفي السادس بالوضوء والغسل من الجنابة وفي السابع بر الوالدين وصلة الرحام ومظالم العباد فإن أداها نجا وإلا تردى في النار
سورة الفجر 15 - 22
ثم قال عز وجل " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه " قال الكلبي ومقاتل نزلت في أمية بن خلف ويقال في أبي بن خلف " إذا ما ابتلاه " يعني اختبره ربه " فأكرمه " يعني رزقه " ونعمه " يعني أعطاه النعمة " فيقول ربي أكرمن " يعني أحبني وفضلني وأنا أهل لذلك " وأما إذا ما ابتلاه " بالفقر " فقدر عليه رزقه " أي قتر عليه رزقه قرأ أبو عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين " فقدر " بالتشديد والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد أي فقتر عليه رزقه وأصابه الجوع والأمراض " فيقول ربي أهانن " يعني طردني وعاقبني شكاية لربه
قال الله تعالى " كلا " أي حقا يعني ليس إهانتي وإكرامي في نزع الماء والولد والفقر والمرض ولكن إهانتي في نزع المعرفة وإكرامي بتوفيق المعرفة والطاعة
وقال قتادة لم يكن الغنى من الكرامة ولم يكن الفقر من الذل
ولكن الكرامة مني بتوفيق الإسلام والهوان مني بالخذلان عنه
إنما المكرم من أكرم بطاعتي والمهان من أهين بمعصيتي
ثم قال " بل لا تكرمون اليتيم " يعني لا يعطون حق اليتيم وكان في حجر أمية بن خلف يتيم لا يؤدي حقه
فنزلت الآية بسببه فصار فيها عظة لجميع الناس
ثم قال عز وجل " ولا تحضون على طعام المسكين " يعني لا يحثون أنفسهم ولا غيرهم على إطعام المسكين
ويقال لا تحاضون على إطعام المسكين
ويقال لا يحض بعضهم بعضا
قرأ حمزة والكسائي وعاصم " ولا تحاضون " بالألف يعني لا يحث بعضهم بعضا
وقرأ أبو عمرو " ولا يحضون " بالياء يعني لا يحثون والباقون " لا تحضون " بالتاء على المخاطبة
ثم قال " وتأكلون التراث " يعني الميراث " أكلا لما " يعني شديدا كقولك لممت(3/556)
557
الشيء إذا جمعته ومعناه يأكلون مال اليتيم أكلا شديدا سريعا
" وتحبون المال " يعني كثرة المال وجمع المال " حبا جما " يعني شديدا ويقال كثيرا
قرأ أبو عمرو " ويكرمون " " ويأكلون " " ويحبون " كلها بالياء على معنى الخبر عنهم
والباقون بالتاء على معنى الخطاب لهم
ثم قال عز وجل " كلا " يعني حقا " إذا دكت الأرض دكا دكا " يعني زلزلت الأرض زلزلة والتكرار للتأكيد
" وجاء ربك " قال بعضهم هذا من المكتوم الذي لا يفسر وقال أهل السنة " وجاء ربك " بلا كيف وقال بعضهم معناه وجاء أمر ربك بالحساب " والملك صفا صفا " يعني صفوفا كصفوف الملائكة وأهل الدنيا في الصلاة
سورة الفجر 23 - 30
ثم قال عز وجل " وجيء يومئذ بجهنم " يعني تحضر وتدنى من الكفار وروي عن عبد الرحمن بن حاطب قال كنا جلوسا إلى كعب يذكرنا فجاء عمر رضي الله عنه فجلس ناحية وقال ويحك يا كعب خوفنا فقال كعب إن جهنم لتقرب يوم القيامة لها زفير وشهيق حتى إذا قربت ودنت زفرت زفرة لا يبقى نبي ولا صديق إلا وهو يخر ساقطا على ركبتيه فيقول اللهم لا أسألك اليوم إلا نفسي ولو كان لك يا ابن الخطاب عمل سبعين نبيا لظننت أن لا تنجو
فقال عمر رضي الله عنه والله إن الأمر لشديد
ثم قال " يومئذ يتذكر الإنسان " يعني يتعظ الكافر " وأنى له الذكرى " يعني من تنفعه العظة ويقال " يومئذ يتذكر الإنسان " يعني يظهر الإنسان التوبة يعني ومن أين له التوبة يعني كيف تنفعه التوبة يومئذ
" يقول يا ليتني قدمت لحياتي " يعني يا ليتني عملت في حياتي الفانية لحياتي الباقية
ثم قال عز وجل " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد " قرأ الكسائي " لا يعذب " بنصب الذال " ولا يوثق " بنصب التاء والباقون كلاهما بالكسر
فمن قرأ بالنصب فمعناه ولا يعذب عذاب هذا الكافر وعذاب هذا الصنف من الكفار أحد وكذلك " لا يوثق وثاقه أحد "
ومن قرأ بالكسر معناه لا يتولى عذاب الله يوم القيامة أحد الملك يومئذ لله وحده والأمر بيده
ويقال معناه لا يقدر أحد من الخلق أن يعذب كعذاب الله تعالى ولا يوثق في الغل والصفد كوثاق الله تعالى
ثم قال عز وجل " يا أيتها النفس المطمئنة " التي اطمأنت بلقاء الله عز وجل ويقال " المطمئنة " يعني الراضية بثواب الله القانعة بعطاء الله الشاكرة لنعمائه تعالى يقال لها عند(3/557)
558
الفراق من الدنيا " ارجعي إلى ربك " يعني ارجعي إلى ثواب ربك إلى ما أعد الله لك في الجنة
" راضية مرضية " ويقال له يوم القيامة " فادخلي في عبادي " يعني مع عبادي الصالحين " وادخلي جنتي " يعني ادخلي الجنة بلا حساب
ويقال هذا الخطاب لأهل الدنيا يعني " أيتها النفس المطمئنة " في الدنيا التي أمنت من عذاب الله " ارجعي إلى ربك " يعني إلى طاعة ربك " راضية مرضية " " فادخلي في عبادي " يعني ادخلي في عبادي وفي طاعتي وادخلي في جنتي
ويقال معناه تقول الملائكة " يا أيتها النفس المطمئنة " ارجعي إلى ما أعد الله لك " راضية " " فادخلي في عبادي " على محض التقديم يعني يا أيتها النفس المطمئنة الراضية بما أعطيت من الثواب مرضية بما عملت وادخلي جنتي مع عبادي والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد نبيه وعبده وعلى آله وصحبه(3/558)
559
سورة البلد مكية وهي عشرون آية
سورة البلد 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى " لا أقسم بهذا البلد " " لا " صلة في الكلام ومعناه أقسم برب هذا البلد الذي ولدت فيه يعني مكة " وأنت حل بهذا البلد " يحلها يوم فتح مكة معناه فسيحل لك هذا البلد يعني القتال فيه ساعة من النهار ولم يحل لك أكثر من ذلك
وروى عبد الملك عن عطاء في قوله " وأنت حل بهذا البلد " قال إن الله تعالى حرم مكة فجعلها حراما يوم خلق السموات والأرض وهي حرام إلى أن تقوم الساعة ولم تحل إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل البيت يوم فتح مكة ووضع يده على باب الكعبة فقال ( لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرام الله تعالى إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار )
ثم قال عز وجل " ووالد وما ولد " يعني آدم " وما ولد " يعني ذريته
ويقال كل والد وكل مولود
وقال عكرمة " ووالد " الذي يلد " وما ولد " التي لم تلد من النساء والرجال " لقد خلقنا الإنسان في كبد " يعني معتدل الخلق والقامة
فأقسم بمكة وبآدم وذريته " لقد خلقنا الإنسان " منتصبا قائما على رجلين
وقال مقاتل نزلت الآية في الحارث بن عامر بن نوفل
وروى مقسم عن ابن عباس في قوله " لقد خلقنا الإنسان في كبد " قال خلق كل شيء يمشي على أربع إلا الإنسان فإنه خلق منتصبا
وهذا كقوله " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " [ التين 4 ] ويقال " لقد خلقنا الإنسان في كبد " يعني في مشقة وتعب
وروي عن ابن رفاعة عن سعيد بن الحسن قال وعن الحسن البصري في قوله " لقد خلقنا الإنسان في كبد " قال سعيد يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة
وقال الحسن لم يخلق الله تعالى خليقة يكابد مكابدة ما يكابد ابن آدم
وروي عن عطاء عن ابن عباس يقول خلق في شدة يعني مولده ونبات أسنانه وغير ذلك
ويقال معناه " لقد خلقنا الإنسان في كبد " وهي المضغة مثل الكبد دما عبيطا ثم يصير مضغة(3/559)
560
سورة البلد 5 - 10
قوله تعالى " أيحسب أن لن يقدر عليه أحد " يعني أيحسب الكافر أن لن يقدر الله تعالى عليه يعني على أخذه وعقوبته
" يقول أهلكت مالا لبدا " يعني أبا جهل بن هشام يقول أنفقت مالا كثيرا في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم ينفعني ذلك وهو أنه ضمن مالا لمن يقتل محمدا صلى الله عليه وسلم ويقال أنفق مالا يوم بدر
ثم قال عز وجل " أيحسب " يعني أيظن " أن لم يره أحد " يعني إن لم ير الله تعالى صنيعه فلا يعاقبه بما صنع
ثم ذكر ما أنعم عليه ليعتبر به ويوحده فقال " ألم نجعل له عينين " يعني ألم نخلق له عينين يبصر بهما " ولسانا " ينطق به " وشفتين " يضمهما
" وهديناه النجدين " قال الكلبي ومقاتل يعني عرفناه طريق الخير والشر
وقال قتادة يعني طريق الهدى والضلالة وهكذا قال ابن مسعود
ويقال " وهديناه النجدين " يعني هديناه في الصغر لأخذ الثديين يعني خلق له شفتين يأخذ بهما ثدي أمه
ويقال بينا له طريقين طريق الدنيا وطريق الآخرة
وقال مجاهد يعني طريق السعادة وطريق الشقاوة
ويقال الطاعة والمعصية ويقال طريق الصواب الخطأ
ومعناه ألم نجعل له ما يستدل به على أن الله تعالى قادر على أن يبعثه وأن يحصي عليه ما عمله
سورة البلد 11 - 20
ثم قال عز وجل " فلا اقتحم العقبة " يعني فلا هو اقتحم العقبة ويقال فلم يقتحم العقبة ويقال معناه فهل جاوز العقبة الذي يزعم أنه أنفق مالا كثيرا في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أراد بالعقبة الصراط
كما روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال إنه بين أيدينا عقبة كؤود لا ينجو منها إلا كل مخف
وكما روي عن أبي هريرة أنه بكى حين حضرته الوفاة قيل له وما يبكيك قال بعد المفازة وقلة الزاد وضعف النفس وعقبة كؤد والهبوط منها إلى الجنة أو إلى النار
ثم قال عز وجل " وما أدراك ما العقبة " يعني ما أدراك بماذا يكون مجاوزة الصراط
ثم قال " فك رقبة " يعني اقتحام العقبة هو فك الرقبة يعني إنما يجاوز الصراط أو(3/560)
561
الذي يعتق نسمة
" أو إطعام في يوم ذي مسبغة " يعني يجاوز الصراط بإطعام في يوم ذي مجاعة
قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي " فك " بنصب الكاف والهاء وأطعم بنصب الهمزة بغير الألف والباقون " فك رقبة " بضم الكاف وكسر الهاء " أو إطعام " بكسر الهمزة وإثبات الألف
فمن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى معناه فلا فك رقبة ولا أطعم في يوم ذي مسغبة فكيف يجاوز العقبة ومن قرأ بالضم فمعناه اقتحام العقبة فك رقبة يعني مجاوزة العقبة بعتق رقبة وبإطعام في يوم ذي مسغبة أي مجاعة
ثم بين لهم لمن يطعم الطعام فقال " يتيما ذا مقربة " يعني يتيما بينك وبينه قرابة " أو مسكينا ذا متربة " يعني مسكينا لا شيء له لاصق بالتراب من الجهد فهذا الإحسان مجاوزة العقبة " ثم كان من الذين آمنوا " يعني من صنع هذا الإحسان يكون مؤمنا لأنه لا يقبل عمل من الأعمال بغير إيمان
ويقال معناه ثم يثبت على إيمانه
قوله تعالى " وتواصوا بالصبر " يعني تحاثوا أنفسهم بالصبر وتحاثوا بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله وبالصبر على المكروهات لأنه روي في الخبر ( أن الجنة حفت بالمكاره )
ثم قال تعالى " وتواصوا بالمرحمة " يعني تحاثوا بالتراحم بعضهم على بعض يعني بالمرحمة على أنفسهم على غيرهم
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من لا يرحم الناس لا يرحمه الله )
ثم قال " أولئك أصحاب الميمنة " الذين يعطون كتبهم بإيمانهم " والذين كفروا بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ويقال كفروا بدلائل الله تعالى
" هم أصحاب المشئمة " يعني يعطون كتبهم بشمالهم " عليهم نار مؤصدة " يعني أدخلوا في النار وأطبقت عليهم لا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد
قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة " عليهم نار موصدة " بالهمزة والباقون بغير همزة وهما لغتان يقال أصدت وأوصدته إذا أطبقته والله أعلم
نسأل الله العفو والعافية و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد نبي الرحمة(3/561)
562
سورة الشمس
وهي خمس عشرة آية مكية
سورة الشمس 1 - 10
قول الله تبارك وتعالى " والشمس وضحاها " أقسم الله تعالى بالشمس وضوئها وحرها
ويقال بخالق الشمس وضحاها يعني ارتفاع النهار
ويقال حر الشمس يسمى ضحى
قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم " وضحاها " بالتفخيم وكذلك تلاها إلى آخر السورة
وقرأ حمزة والكسائي كلها بالإمالة
وقرأ نافع وأبو عمرو بين ذلك
ثم قال عز وجل " والقمر إذا تلاها " يعني يتبع الشمس والهاء كناية عن الشمس
وقال قتادة " والشمس " هو النهار و " القمر إذا تلاها " قال يتلوها صبيحة الهلال فإذا سقطت الشمس رأيت الهلال عند سقوطها
ثم قال " والنهار إذا جلاها " يعني إذا أضاء واستنار فقال القتبي هذا من الاختصار " والنهار إذا جلاها " يعني والأرض أو الدنيا يعني النهار إذا أضاء الدنيا
وقال الكلبي معناه إذا جلى النهار ظلمة الليل
ثم قال " والليل إذا يغشاها " يعني غطى ضوء النهار ويقال " والليل إذا يغشاها " يعني غطى الأرض وسترها
ثم قال " والسماء وما بناها " يعني والذي خلقها
ويقال معناه " السماء وما بناها " يعني الله عز وجل بناها فأقسم بنفسه ويقال " ما " للصلة ومعناه والسماء وبنائها
ثم قال " والأرض وما طحاها " يعني والذي بسطها على الماء من تحت الكعبة
ثم قال " ونفس وما سواها " يعني " ونفس " والذي سوى خلقها ويقال " ونفس " وما خلقها " فألهمها فجورها وتقواها " يعني ألهمها بالطاعة والمعصية ويقال عرفها وبين لها ما تأتي وما تذر
ثم قال عز وجل " قد أفلح من زكاها " يعني أصلحها الله تعالى وعرفها
وهذا جواب القسم وأصله لقد أفلح ولكن اللام حذفت لثقلها لأن الكلام طال(3/562)
563
ثم قال " وقد خاب من دساها " يعني خسر من أغفلها وأغواها وخذلها وأضلها
وقال القتبي معناه قد أفلح من زكى نفسه أي أنماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة " وقد خاب من دساها " يعني نقصها وأخفاها بترك عمل البر وبركوب المعاصي
وأصله دسس فجعل مكان إحدى السينين ياء كما يقال قصيت أظفاري وأصله قصصت
قال وأصل هذا أن أجواد العرب كانوا ينزلون في أرفع المواضع ويوقدون النار للطارقين لتكون أنفسهم أشهر واللئام ينزلون الأطراف والأهضام لتخفي أماكنهم على الطارقين فأخفوا أنفسهم
والبار أيضا أظهر نفسه بأعمال البر والفاجر دساها
ويقال إن الله تعالى يطلب من عباده المؤمنين يوم القيامة ستة أشياء بمكان النعمة والشكر وبمكان الشدة والصبر وبمكان الصحة العمل بالطاعة وبمكان الذنوب التوبة وبمكان العمل الإخلاص فمن يجىء بهذه الأشياء فقد أفلح ونجا ومن لم يجئ بهذه الأشياء فقد خسر وغبن
سورة الشمس 11 - 15
ثم قال " كذبت ثمود بطغواها " يعني طغيانهم حملهم على ذلك التكذيب " إذا انبعث أشقاها " يعني إذا قام أشقى ثمود وكلهم أشقياء في علم الله تعالى وأشقاهم عاقر الناقة وهو قذار بن سالف ومصدع بن دهر " فقال لهم رسول الله " صلى الله عليه وسلم يعني صالحا " ناقة الله " يعني احذروا ناقة الله " وسقياها " يعني لا تأخذوا سقياها ومعناه لا تعقروا ناقة الله وذروا شرابها
وقد ذكرناه في سورة الأعراف
" فكذبوه " يعني فخوفهم صالح بالعذاب " فعقروها " يعني فعقروا الناقة ويقال في الآية تقديم يعني فعقروها فخوفهم صالح عليه السلام بالعذاب فكذبوه
ثم قال عز وجل " فدمدم عليهم ربهم " يعني أنزل عليهم ربهم عقوبة " بذنبهم " والدمدمة المبالغة هي في العقوبة والنكال
ثم قال " فسواها " يعني فسواها في الهلاك يعني الصغير والكبير " ولا يخاف عقباها " قرأ نافع وابن عامر " فلا يخاف " بالفاء والباقون بالواو
فمن قرأ بالفاء فالفاء تصل الذي بعدها بالذي قبلها وهو قوله " فدمدم عليهم ربهم " يعني أطبق عليهم العذاب بذنوبهم " فسواها " يعني فسوى الأرض عليهم " ولا يخاف عقباها " هلاكهم ولا يقدروا أن يرجعوا إلى السلامة
ومن قرأ بالواو فمعناه التقديم والتأخير يعني الذي عقرها وهو لا يخاف عقبى عقرها
ويقال إن الله تعالى أهلكهم ولم يخف ثأرها وعاقبتها على غير وجه التقديم
وروى الضحاك عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه ( أتدري من أشقى الأولين ) قلت الله ورسوله أعلم
قال ( عاقر الناقة ) فقال ( أتدري من أشقى الآخرين ) قلت الله ورسوله أعلم قال ( قاتلك )
وبالله المستعان(3/563)
564
سورة الليل
مكية وهي إحدى وعشرون آية
سورة الليل 1 - 11
قول الله تبارك وتعالى " والليل إذا يغشى " أقسم الله تعالى بالليل إذا غشيت ظلمته ضوء النهار ويقال أقسم بخالق الليل إذا يغشى يعني يغشى الليل ضوء النهار " والنهار إذا تجلى " يعني أقسم بالنهار إذا استنار وتجلى عن الظلمة " وما خلق الذكر والأنثى " يعني والذي خلق الذكر والأنثى يعني آدم وحواء
وقال القتبي ما ومن أصلهما واحد وجعل من للناس وما لغير الناس
ويقال من مر بك من الناس وما مر بك من الإبل
وقال أبو عبيد " وما خلق " أي ومن خلق وكذلك قوله " والسماء وما بناها " [ الشمس 5 ] " ونفس وما سواها " [ الشمس 7 ] و " ما " في هذه المواضع بمعنى من وقال أبو عمرو و " ما " بمعنى من وبمعنى الذي
وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ " والنهار إذا تجلى " " والذكر والأنثى " وروى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء فقال أفيكم أحد يقرأ قراءة عبد الله بن مسعود فأشاروا إلي فقلت نعم أنا
فقال كيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية قلت سمعته يقرأ " والذكر والأنثى "
قال أنا والله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها وهؤلاء يريدونني على أن أقرأها وما خلق فلا أتابعهم
ثم قال عز وجل " إن سعيكم لشتى " فهذا موضع القسم أقسم الله تعالى بخالق هذه الأشياء " إن سعيكم لشتى " يعني أعمالكم مختلفة
عامل للجنة وعامل للنار ويقال " إن سعيكم لشتى " يعني عامل للجنة وعامل للنار ويقال " إن سعيكم لشتى " يعني أديانكم ومذاهبكم مختلفة
وقال أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال أخبرنا حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا أبو عبد الرحمن راشد بن إسماعيل عن منصور بن مزاحم عن يونس بن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا(3/564)
565
بكر رضي الله عنه اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشرة أواق من فضة فأعتقه لله تعالى فأنزل الله تعالى " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى " يعني سعي أبي بكر وسعي أمية وأبي ابنا خلف
" فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " يعني بلا إله إلا الله يعني أبا بكر " فسنيسره لليسرى " يعني الجنة " وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى " يعني بلا إله إلا الله " فسنيسره للعسرى " يعني أمية وأبي ابني خلف إذا ماتا
ويقال لنزول هذه الآية سبب آخر كان رجل من الكفار له نخلة في داره وسعفها في دار رجل من المسلمين وكان إذا سقطت ثمرة في دار المسلم نادى الكافر حرام حرام وكان المسلم يأخذ الثمرة فيرمي بها في دار الكافر لئلا يأكل ذلك صبيانه
فسقطت يوما ثمرة فأخذها ابن صغير للمسلم فجعلها في فيه فدخل الكافر فأخرج الثمرة من فيه وأبكى الصبي
فشكى المسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا المشرك فقال ( أتبيع نخلتك ليعطيك الله أفضل منها في الجنة ) فقال لا أبيع العاجل بالآجل
فسمع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاشترى النخلة من الكافر وتصدق بها على المسلم فنزلت " فأما من أعطى واتقى " يعني أعطى من ماله حق الله تعالى واتقى الشرك وسخط الله تعالى " وصدق بالحسنى "
يعني بثواب الله في الجنة " فسنيسره " يعني سنعينه ونوفقه " لليسرى " يعني لعمل أهل الجنة " وأما من بخل " بالصدقة " واستغنى " يعني رأى نفسه مستغنيا عن ثواب الله وعن جنته " وكذب بالحسنى " يعني بثواب الله وهو الجنة " فسنيسره للعسرى " يعني نخذله ولا نوفقه للطاعة فنيسر عليه طريق المعصية " وما يغني عنه ماله إذا تردى " يعني ما ينفعه ماله إذا مات وتركه في الدنيا وهو يرد إلى النار
سورة الليل 12 - 21
ثم قال عز وجل " إن علينا للهدى " يعني بيان الهدى ويقال علينا التوفيق للهدى من كان أهلا لذلك " وإن لنا للآخرة والأولى " يعني الدنيا والآخرة لله تعالى يعني يعطي منها من يشاء ويقال معناه إلى الله ثواب الدنيا والآخرة
ويقال " وإن لنا للآخرة والأولى " يعني لله تعالى نفاذ الأمر في الدنيا والآخرة
يعطي في الدنيا المغفرة والتوفيق للطاعة وفي الآخرة الحسنة والثواب(3/565)
566
ثم قال " فأنذرتكم نارا تلظى " يعني خوفتكم بالقرآن " نارا تلظى " يعني تشتعل على أهلها وتغيظ على أهلها وتزفر عليهم
قوله تعالى " لا يصلاها " يعني لا يدخل في النار " إلا الأشقى " يعني الذي ختم له بالشقاوة " الذي كذب وتولى " يعني كذب بالتوحيد والرسل وتولى عن الإيمان وعن طاعة الله وأخذ في طاعة الشيطان
ثم قال " وسيجنبها " يعني يتباعد عنها " الأتقى " يعني المتقي الذي يتقي الشرك وهو " الذي يؤتي ماله يتزكى " يعني يعطي من ماله حق الله تعالى " يتزكى " يعني يريد به وجه الله تعالى
ثم قال " وما لأحد عنده من نعمة تجزى " يعني لا يفعل ذلك مجازاة لأحد " إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " يعني يفعل ذلك طلب رضاء الله الأعلى يعني الله العلي الرفيع فوق خلقه بالقهر والغلبة
" ولسوف يرضى " يعني سوف يعطي الله من الثواب حتى يرضى بذلك
وقال مقاتل مر أبو بكر على بلال وسيده أمية بن خلف يعذبه فاشتراه وأعتقه فكره أبو قحافة عتقه فقال لأبي بكر أما علمت أن مولى القوم من أنفسهم فإذا أعتقت فأعتق من له منظرة وقوة فنزل " وما لأحد عنده من نعمة تجزى " يعني لا يفعل ذلك لطلب المجازاة ولكن إنما يعطي ماله " ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى " بثواب الله تعالى والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه(3/566)
567
سورة الضحى
مكية وهي إحدى عشرة آية
سورة الضحى 1 - 8
قول الله تبارك وتعالى " والضحى " يعني النهار كله ويقال " والضحى " ساعة من ساعات النهار وذلك حين يرتفع النهار ويقال الضحى حر الشمس " والليل إذا سجى " يعني أسود وأظلم ويقال يعني إذا سكن الناس ويقال " والضحى والليل إذا سجى " يعني عباده الذي يعبدونه في وقت الضحى وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم ويقال " والضحى " نور الجنة إذا تنور " والليل إذا سجى " يعني ظلمة الليل إذا أظلم ويقال " والضحى " يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار " والليل إذا سجى " يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل
فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء " ما ودعك ربك " يعني ما تركك ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم منذ أوحى إليك " وما قلى " يعني ما أبغضك ربك منذ أحبك وذلك أن مشركي قريش أرسلوا إلى يهود المدينة وسألوهم عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم فقالت لهم اليهود اسألوه عن أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح
فإن أخبركم بقصة أهل الكهف وقصة ذي القرنين ولم يخبركم عن أمر الروح فاعلموا أنه صادق
فجاؤوه وسألوه فقال لهم ( ارجعوا غدا حتى أخبركم ) ونسي أن يقول إن شاء الله فانقطع عنه جبريل خمسة عشر يوما في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك أربعين يوما
فقال المشركون قد ودعه ربه وأبغضه فنزل فيهم ذلك
وروى أسباط عن السدي قال أبطأ جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ليلة حتى شكى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقالت خديجة لعل ربك قد قلاك أو نسيك فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية " ما ودعك ربك وما قلى " " وللآخرة خير لك من الأولى " يعني ما أعطاك الله في الآخرة خير لك مما أعطاك في الدنيا
ويقال معناه عز الآخرة خير لك من عز الدنيا لأن عز الدنيا يفنى وعز الآخرة يبقى(3/567)
568
قوله تعالى " ولسوف يعطيك ربك فترضى " يعني يعطيك ثواب طاعتك حتى ترضى وسوف من الله تعالى واجب
ويقال " ولسوف يعطيك " الحوض والشفاعة حتى ترضى
ثم ذكر له ما أنعم عليه في الدنيا وفي الآخرة
فقال عز وجل " ألم يجدك يتيما فآوى " يعني كنت يتيما فضمك إلى عمك أبي طالب فكفاك المؤنة يعني حين كنت يتيما " ما ودعك ربك " فكيف يودعك بعد ما أوحى إليك
ثم قال عز وجل " ووجدك ضالا فهدى " يعني وجدك جاهلا بالنبوة والحكمة وبالكتاب وقراءته والدعوة إلى الإيمان فهداك إلى هذه الأشياء كقوله " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " [ الشورى 52 ] ويقال " ووجدك ضالا " يعني من بين قوم ضلال " فهدى " يعني حفظك من أمرهم وعن أخلاقهم
ويقال " ووجدك " بين قوم ضلال فهداهم بك
ثم قال عز وجل " ووجدك عائلا فأغنى " يعني وجدك فقيرا بلا مال فأغناك بمال خديجة
ويقال وجدك فقيرا عن القرآن والعلم فأغناك بالقرآن والعلم ويقال فوجدك فقير القلب يعني لترجو أموال الناس فأغناك يعني أغنى قلبك وأرضاك بما أعطاك
سورة الضحى 9 - 11
ثم قال تعالى " فأما اليتيم فلا تقهر " يعني لا تظلمه وادفع إليه حقه
ويقال معناه واذكر يتمك وارحم اليتيم
وقال مجاهد " فلا تقهر " يعني فلا تقهره
وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ " فأما اليتيم فلا تكهر "
يعني لا تعبس في وجهه
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من ضم يتيما وكان محسنا في نفقته كان له حجابا من النار يوم القيامة ومن مسح برأسه كان له بكل شعرة حسنة
قوله تعالى " وأما السائل فلا تنهر " يعني لا تؤذه ولا تزجره واذكر فقرك ولا تزجر السائل ولا تنهره ورده ببذل يسير أو بكلمة طيبة
وفي الآية تنبيه لجميع الخلق لأن كل واحد من الناس كان فقيرا في الأصل فإذا أنعم الله عليه وجب أن يعرف حق الفقراء
ثم قال عز وجل " وأما بنعمة ربك فحدث " يعني بهذا القرآن فيعلم الناس
وفي الآية تنبيه لجميع من يعلم القرآن أن يحتسب في تعليم غيره
ويقال معناه فحدث الناس بما آتاك الله من الكرامة ويقال معناه اجهر بالقرآن في الصلاة
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله تعالى جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده ) يعني يشكر بما أنعم الله عليه ويحدث به فيظهر على نفسه أثر النعمة والله الموفق و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد(3/568)
569
سورة الشرح
وهي ثمان آيات مكية
سورة الشرح 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى " ألم نشرح لك صدرك " معطوف على قوله " ألم يجدك يتيما فآوى " [ الضحى 6 ] وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( سألت ربي مسألة ووددت أني لم أسألها قط فقلت اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما
فقال الله تعالى " ألم يجدك يتيما فآوى " قلت بلى قال " ووجدك ضالا فهدى " [ الضحى 7 ] قلت بلى قال " ووجدك عائلا فأغنى " [ الضحى 8 ] قلت بلى
قال " ألم نشرح لك صدرك " الآية
وروي عن بعض المتقدمين أنه قال سورة التوبة والأنفال بمنزلة سورة واحدة وسورة ألم نشرح لك والضحى بمنزلة سورة واحدة وسورة لإيلاف قريش وألم تر كيف بمنزلة سورة واحدة
قال " ألم نشرح لك صدرك " يعني ألم نوسع قلبك بالتوحيد والإيمان وهذا قول مقاتل
وقال الكلبي أتاه جبريل فشرح صدره حتى أبدى قلبه ثم جاء بدلو من ماء زمزم فغسله وأنقاه مما فيه ثم جاء بطشت من ذهب قد ملئ علما وإيمانا فوضعه فيه
ويقال الانشرح للعلم حتى علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا من وقت الميثاق فشق صدره على جهة المثل فيعبر به عنه
وقال " ألم نشرح لك " يعني ألم نلين قلبك بقبول الوحي وحب الخيرات ويقال معناه ألم نطهر قلبك حتى لا تؤذيك الوسواس كسائر الناس ويقال " ألم نشرح " يعني نوسع لك قلبك بالعلم كقوله " وعلمك ما لم تكن تعلم " [ النساء 113 ]
ثم قال " ووضعنا عنك وزرك " يعني غفرنا لك ذنبك كقوله " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح 2 ] ويقال غفرنا لك ذنبك أي زلتك بترك الاستثناء ويقال معناه " ووضعنا عنك وزرك " يعني عصمناك من الذنوب " الذي أنقض ظهرك " لو لم يعصمك الله لأثقل ظهرك ويقال معناه أخرجنا من قلبك الأخلاق السيئة وطبائع السوء " الذي أنقض ظهرك " يعني التي لو لم ننزعها عن قلبك لأثقل عليك حمل النبوة والرسالة(3/569)
570
ثم قال " ورفعنا لك ذكرك " يعني في التأذين والخطب حتى لا أذكر إلا وذكرت معي يعني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله في كل يوم خمس مرات في الأذان والإقامة
سورة الشرح 5 - 8
قوله تعالى " فإن مع العسر يسرا " يعني مع الشدة سعة يعني بعد الشدة سعة في الدنيا
ويقال بعد شدة الدنيا سعة في الآخرة يعني إذا احتمل المشقة في الدنيا ينال الجنة في الآخرة
ثم قال عز وجل " إن مع العسر يسرا " على وجه التأكيد
وروي عن ابن عباس أنه قال لا يغلب العسر يسرين
وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال كانوا يقولون لا يغلب عسر واحد يسرين
وقال ابن مسعود لو كان العسر في حجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه لأن الله تعالى يقول " إن مع العسر يسرا " ويقال " إن مع العسر " وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم " يسرا " وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل في عز وشرف
ثم قال عز وجل " فإذا فرغت فانصب " يعني إذا فرغت من الجهاد فاجتهد في العبادة " وإلى ربك فارغب " يعني اطلب المسألة إليه
قال قتادة " فإذا فرغت " من الصلاة " فانصب " في الدعاء وهكذا قال الضحاك وقال مجاهد " فإذا فرغت " من أشغال نفسك " فانصب " يعني فصل
" فإذا فرغت " من الفرائض " فانصب " في الفضائل ويقال " فإذا فرغت " من الصلاة " فانصب " نفسك للدعاء والمسألة " وإلى ربك فارغب " يعني إلى الله فارغب في الدعاء برفع حوائجك إليه والله أعلم(3/570)
571
سورة التين
مكية وهي ثمان آيات
سورة التين 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " والتين والزيتون " وهما مسجدان بالشام ويقال هما جبلان بالشام " التين " جبل بيت المقدس " والزيتون " جبل بدمشق
وقال قتادة " التين " الجبل الذي عليه دمشق " والزيتون " الجبل الذي عليه بيت المقدس
ويقال " التين " الذي يؤكل
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال تينكم وزيتونكم هذا
وقال مجاهد هو الذي يؤكل وهو قول سعيد بن جبير والشعبي
ثم قال " وطور سنين " يعني الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى صلوات الله عليه ويقال " الطور " اسم الجبل " سينين " يعني ذا شجر
ويقال " والتين " معناه علي كرم الله وجهه " والزيتون " فاطمة رضي الله عنها بنت محمد صلى الله عليه وسلم " وطور سنين " هما الحسن والحسين سيدا الشهداء في دار الدنيا وهذا لا يصح في اللغة " وهذا البلد الأمين " يعني مكة أمين من أن يهاج فيها من دخل فيها
ويقال " الأمين " لجميع الحيوان الذي لا يجري عليه القلم
ثم قال عز وجل " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " يعني في أحسن صورة لأنه يمشي مستويا وليس منكوسا وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها
قال بعضهم نزلت في شأن الوليد بن المغيرة وقال بعضهم نزلت في كلدة بن أسيد وقال بعضهم هذا عام
قوله تعالى " ثم رددناه أسفل سافلين " يعني رددناه بعد القوة والشباب الحسن إلى الضعف والهرم حتى يصير كالصبي في حاله الأول الأولى يعني رددناه إلى أرذل العمر
ويقال " رددناه " يعني الفاجر والكافر بعد موتة إلى أسفل السافلين في النار
سورة التين 6 - 8
ثم قال عز وجل " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وعملوا الصالحات " فلهم أجر غير ممنون " يعني غير منقوص وذلك أن المؤمن إذا(3/571)
572
عمل في حال حياته وقوته وشبابه فإذا مرض أو هرم أو مات فإنه يكتب له حسناته كما كان يعمل في حال شبابه وقوته إلى يوم القيامة
ويقال " غير ممنون " يعني غير مقطوع ويقال " غير ممنون " يعني لا يمن عليه
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن المؤمن إذا مات صعد ملكاه إلى السماء فيقولان إن عبدك فلانا قد مات فأذن لنا حتى نعبدك في السماء فيقول الله تعالى إن سماواتي مملوءة بملائكتي ولكن اذهبا إلى قبره واكتبا له حسناته إلى يوم القيامة )
ثم قال " فما يكذبك بعد بالدين " يعني أيها الإنسان ما الذي حملك بعدما خلقك الله تعالى في أحسن تقويم حتى كذبت بيوم الدين والقضاء
ثم قال " أليس الله بأحكم الحاكمين " يعني بأعدل العادلين بالعدل مع الكفار ومع المؤمنين بالفضل
وقال مقاتل " فما يكذبك بعد بالدين " يعني فما يكذبك أيها الإنسان بعد بيان الصورة الحسنة والشباب والهرم بالحساب لا تغتر بصورتك وشبابك فهو قادر على أن يبعثك
ويقال معنى قوله " إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات " [ العصر 3 ] يعني لا يحزن ولا يذهب عقله من كان عالما عاملا به
وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ) اللهم وفقنا لذلك ببركة النبي صلى الله عليه وسلم والحمد لله(3/572)
573
سورة العلق
مكية وهي تسع عشرة آية
سورة العلق 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " اقرأ باسم ربك الذي خلق " يقول اقرأ القرآن بأمر ربك وهذا أول شيء نزل من القرآن وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ أربعين سنة كان يسمع صوتا يناديه يا محمد ولا يرى شخصه وكان يخشى على نفسه الجنون حتى رأى جبريل عليه السلام يوما في صورته فغشي عليه فحمل إلى بيت خديجة فقالوا لها تزوجت مجنونا فلما أفاق أخبر بذلك خديجة فجاءت إلى ورقة بن نوفل وكان يقرأ الإنجيل ويفسره ثم جاءت إلى عداس وكان راهبا فقال لها إن له نبأ وشأنا يظهر أمره
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما إلى الوادي فجاء جبريل عليه السلام بهذه السورة وأمره بأن يتوضأ ويصلي ركعتين فلما رجع أعلم بذلك خديجة وعلمها الصلاة وذلك قوله " قوا أنفسكم وأهليكم نارا " [ التحريم 6 ] يعني علموهم وأدبوهم
وروى معمر عن الزهري قال أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة الصادقة وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح
ثم حبب الخلاء إليه يعني العزلة
فكان يأتي حراء ويمكث هناك ثم يرجع إلى خديجة
فجاءه الملك وهو على حراء فقال له " اقرأ " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أنا بقارئ فأخذني فغطني ثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال " اقرأ " فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " ) فرجع ترجف بوادره وقد أخذته الرعدة حتى دخل على خديجة فقال ( زملوني زملوني ) فزملوه حتى ذهب عنه الروع فذلك قوله " اقرأ باسم ربك " يعني اقرأ بعون الله ووحيه إليك ويقال معناه " اقرأ باسم(3/573)
574
ربك ) كقوله " واذكر اسم ربك " [ المزمل 8 والإنسان 25 ] يعني اذكر ربك ثم وصفه فقال " الذي خلق " يعني ربك الذي خلق الخلائق
ثم قال عز وجل " خلق الإنسان من علق " يعني بني آدم من دم عبيط وقال في آية أخرى " ألم نخلقكم من ماء مهين " [ المرسلات 20 ] وقال في آية أخرى " خلقناكم من تراب " [ الحج 5 ] وهذه الآيات يصدق بعضها بعضا لأن أول الخلق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة
كما بين الجملة في موضع آخر
ثم قال عز وجل " اقرأ وربك الأكرم " يعني اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك وإن كنت غير قارئ " الأكرم " يعني ربك المتجاوز عن جهل العباد ويقال " اقرأ " وقد تم الكلام ثم استأنف فقال " وربك الأكرم " يعني الكريم ويقال " الأكرم " يعني المكرم الذي يكرم من يشاء بالإسلام
ثم قال " الذي علم بالقلم " علم الكتابة والخط بالقلم " علم الإنسان ما لم يعلم " يعني علم آدم عليه السلام أسماء كل شيء يعني ألهمه ويقال " علم الإنسان " يعني محمد صلى الله عليه وسلم " ما لم يعلم " يعني القرآن كقوله " ما كنت تدري ما الكتاب " [ الشورى 52 ] ويقال " علم الإنسان ما لم يعلم " يعني علم بني آدم ما لم يعلموا كقوله " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " [ النحل 78 ]
سورة العلق 6 - 14
ثم قال عز وجل " كلا " يعني حقا " إن الإنسان ليطغى " يعني الكافر ليعصي الله
ويقال يرفع منزلة نفسه " إن رآه استغنى " يعني إن رأى نفسه مستغنيا عن الله تعالى مثل أبي جهل وأصحابه ومثل فرعون حيث ادعى الربوبية
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن محمد السري عن إبراهيم عن عبد الله عن جعفر بن عوف قال عن الأعمش عن القاسم قال قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه منهومان لا يشبعان طالب العلم وطالب الدنيا ولا يستويان أما طالب العلم فيزداد رضى الله وأما طالب الدنيا فيزداد في الطغيان ثم قال " كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى "
ثم قال " إن إلى ربك الرجعى " يعني المرجع إلى الله تعالى يوم القيامة ويقال معناه رجوع الخلائق كلهم بعد الموت إلى الله تعالى فيحاسبون ويجازون فريق في الجنة وفريق في السعير
قوله تعالى " أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في(3/574)
575
المسجد رفع صوته بالقراءة فلغطوا ورموه بالحجارة فخفض صوته في صلاتين يعني الظهر والعصر إذا حضروا
وأما صلاة المغرب اشتغلوا بالعشاء وصلاة العشاء ناموا وصلاة الفجر لم يقوموا فرفع في هذا فصار سنة إلى اليوم فنزل " أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى " ويقال إن أبا جهل بن هشام قال لئن رأيت محمدا صلى الله عليه وسلم يصلي لأطأن عنقه فنزل " أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى " يعني ألم تر أن هذا الكافر ينهى عبد الله عن الصلاة وهو محمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال " أرأيت إن كان على الهدى " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم إن كان على الإسلام " أو أمر بالتقوى " يعني التوحيد
ثم قال " أرأيت إن كذب وتولى " يعني " إن كذب " بالتوحيد " وتولى " عن الإسلام " ألم يعلم بأن الله يرى " يعني يعلم بأن الله يرى أفعاله فيجازيه وهذا جواب لجميع ما تقدم من قوله " أرأيت "
ويقال في الآية إضمار وهو قوله " أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى " يعني بهذا الذي يصنع ويؤذي محمدا صلى الله عليه وسلم أليس هو على ضلالة أليس هو قد نهى عن الصلاة والخيرات " أرأيت إن كان على الهدى " يعني أرأيت أيها الناهي إن كان المصلي على الهدى " أو أمر بالتقوى " يعني بالتوحيد واجتناب المعاصي فتنهاه عن ذلك
سورة العلق 15 - 19
ثم قال تعالى " كلا لئن لم ينته " يعني حقا لئن لم يمتنع أبو جهل عن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتب ولم يسلم قبل الموت " لنسفعا بالناصية " يعني لنأخذ به بناصيته أخذا شديدا يعني يؤخذ بناصيته يوم القيامة ويطوى مع قدميه ويطرح في النار
فنزلت الآية في شأن أبي جهل وهي عظة لجميع الناس وتهديد لمن يمنع عن الخير وعن الطاعة
ثم قال عز وجل " ناصية كاذبة " جعل الكاذبة صفة الناصية وإنما أراد صاحب الناصية يعني " ناصية كاذبة " على الله تعالى " خاطئة " يعني مشركة
ويقال " خاطئة " يعني الجاحد الذي يجحد بالله ويأكل رزق الله تعالى ويعبد غيره
ثم قال عز وجل " فليدع ناديه " يعني قل يا محمد صلى الله عليه وسلم فليدع أهل مجلسه وأصحابه الكفرة حتى يعينوه " سندع الزبانية " يعني ملائكة العذاب غلاظ شداد و " الزبانية " أخذ من الزبن وهو الدفع وإنما سموا الزبانية لأنهم يدفعون الكفار إلى النار
ويقال إنما سموا زبانية لأنهم يعملون بأرجلهم كما يعملون بأيديهم
وروي في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ بهذه السورة وبلغ إلى قوله " لنسفعنا بالناصية " قال أبو جهل أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك
قال الله تعالى " فليدع نادية سندع الزبانية " فلما سمع ذكر الزبانية رجع فزعا
فقيل له(3/575)
576
خشيت منه قال لا ولكن رأيت عنده فارسا فهددني زبانيته فلا أدري ما الزبانية ومال إلى الفارس فخشيت أن يأكلني
وروى عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدد أبا جهل فقال أبو جهل لم تهددني فوالله لقد علمت أني أكثر أهل الوادي ناديا لئن دعوت يعني أهل مجلسي منعوني عن ربك فنزل " فليدع نادية سندع الزبانية " قال ابن عباس رضي الله عنه لو دعا ناديه أخذته الزبانية
ثم قال " كلا لا تطعه " يعني حقا لا تطعه في ترك الصلاة يا محمد " واسجد " يعني صل إلى ربك " واقترب " إلى الله بالأعمال الصالحة
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ألا ترى إلى قوله " واسجد واقترب " يعني اقترب إلى ربك بالسجود
والله الموفق بمنه وكرمه(3/576)
577
سورة القدر
مكية وهي خمس آيات
سورة القدر 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " إنا أنزلناه في ليلة القدر " يعني أنزلنا القرآن الكريم جملة واحدة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ في ليلة القدر يعني في ليلة القضاء وإنما سميت القضاء لأن الله تعالى يقدر في تلك الليلة ما يكون من السنة إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره ويسلمه إلى مدبرات الأمور وهم أربعة من الملائكة إسرافيل وميكائيل وجبريل وملك الموت عليهم السلام
وفي آية أخرى " في ليلة مباركة " وإنما سميت ليلة القدر مباركة لأنه ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة
ثم قال عز وجل " وما أدراك ما ليلة القدر " تعظيما لها فقال " ليلة القدر خير من ألف شهر " يعني العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا بين أصحابه يحدث بأن رجلا كان من بني إسرائيل لبس السلاح ألف شهر وصام ولم يضع السلاح حتى مات فعظم ذلك على أصحابه فنزل " ليلة القدر خير من ألف شهر " يعني العمل فيها وثوابه أفضل من لبس السلاح والصيام ألف شهر ليس فيها ليلة القدر
وروي في خبر آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أرى أعمال الناس ) فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لم يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله تعالى " ليلة القدر خير من ألف شهر "
فقيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ليلة هي قال ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان )
ثم قال عز وجل " تنزل الملائكة " يعني تتنزل الملائكة من كل سماء ومن سدرة المنتهى وهو مسكن جبريل على وسطها فينزلون إلى الأرض ويدعون الخلق ويؤمنون بدعائهم إلى وقت طلوع الفجر
فذلك قوله " تنزل الملائكة والروح فيها " يعني جبريل معهم
وذكر في الخبر أن جبريل عليه السلام وقف على سطح الكعبة ونشر جناحيه فبلغ أحدهما المشرق والآخر المغرب
وقال بعضهم " الروح " خلق يشبه الملائكة وجهه يشبه وجه بني آدم
وقال بعضهم هو ما قال الله تعالى " قل الروح من أمر ربي " [ الإسراء 85 ] وقال(3/577)
578
مجاهد ما نزل ملك إلا ومعه روح ولهم أيد وأرجل وهم موكلون على الملائكة كما أن الملائكة موكلون على بني آدم
ثم قال عز وجل " بإذن ربهم " يعني ينزلون بأمر ربهم " من كل أمر سلام " يعني تلك الليلة من كل أمر " سلام " يعني سلامة في هذه الليلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ويقال ( سلام ) يعني لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها شرا
وقال القتبي " من " توضع موضع الباء يعني بكل أمر هي أي بكل خير " هي حتى مطلع الفجر " وقال مجاهد من كل أمر سلام وسلام من أن يحدث فيها أذى أو يستطيع الشيطان أن يعمل فيها
ويقال معناه " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " وقد تم الكلام يعني ينزلون فيها من كل أمر من الرخصة وبكل أمر قدره الله تعالى في تلك الليلة إلى قابل
ثم استأنف فقال " سلام هي " يعني سلام وبركة وخير كلها " حتى مطلع الفجر " يعني إلى مطلع الفجر
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ " من كل امرء " يعني الملائكة يسلمون على كل امرئ
وقرأ الكسائي " حتى مطلع الفجر " بكسر اللام والباقون بنصب اللام
فمن قرأ بالكسر جعله اسما لوقت الطلوع ومن قرأ بالنصب جعله مصدرا يعني يطلع طلوعا ومطلعا والله الموفق و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم(3/578)
579
سورة البينة
مدنية وهي ثمان آيات
سورة البينة 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب " يعني اليهود والنصارى " والمشركين " يعني عبدة الأوثان " منفكين " يعني غير منتهين عن كفرهم وعن قولهم الخبيث " حتى تأتيهم البينة " يعني حتى أتاهم البيان فإذا جاءهم البيان فريق منهم انتهوا وأسلموا وفريق ثبتوا على كفرهم
ويقال لم يزل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين حتى وجب في الحكمة علينا في هذه الحال إرسال الرسول إليهم
ويقال معناه لم يكونوا منتهين عن الكفر حتى أتاهم الرسول والكتاب فلما آتاهم الكتاب والرسول تابوا ورجعوا عن الكفر وهم مؤمنو أهل الكتاب والذين أسلموا من مشركي العرب
وقال قتادة " البينة " أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وقال القتبي " منفكين " أي زائلين يقال لا أنفك من كذا أي لا أزول
قوله تعالى " رسول من الله يتلو صحفا مطهرة " يعني قرآنا مطهرا من الزيادة والنقصان
ويقال " مطهرة " من الكذب والتناقض ويقال " صحفا مطهرة " أي أمورا مختلفة
ويقال سمي القرآن صحفا من كثرة ما فيه من السور
قوله تعالى " فيها كتب قيمة " يعني صادقة مستقيمة لا عوج فيها
ويقال " فيها كتب قيمة " يعني تدل على الصلاح والصواب ولا تدل على الشرك والمعاصي
ثم قال عز وجل " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب " يعني وما اختلفوا في محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود والنصارى " إلا من بعد ما جاءتهم البينة " يعني بعدما ظهر لهم الحق فنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال " وما أمروا " يعني وما أمرهم محمد صلى الله عليه وسلم " إلا ليعبدوا الله " يعني ليوحدوا الله
ويقال " وما أمروا " في جميع الكتب " إلا ليعبدوا الله " يعني يوحدوا الله " مخلصين له الدين حنفاء " مسلمين
روي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال " حنفاء " يعني(3/579)
580
متبعين
وقال الضحاك " حنفاء " يعني حجاجا يحجون بيت الله تعالى
ثم قال " ويقيموا الصلاة " يعني يقرون بالصلاة ويؤدونها في مواقيتها " ويؤتوا الزكاة " يعني يقرون بها ويؤدونها " وذلك دين القيمة " يعني المستقيم لا عوج فيه يعني الإقرار بالتوحيد وبالصلاة والزكاة وإنما قال " القيمة " بلفظ التأنيث لأنه انصرف إلى المعنى والمراد به السنة المستقيمة " لا عوج فيها " يعني هذا الذي يأمرهم محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا أمروا في جميع الكتب
سورة البينة 6 - 8
ثم قال عز وجل " إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " يعني الذين جحدوا من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ومن مشركي مكة وثبتوا على كفرهم " في نار جهنم خالدين فيها " يعني دائمين فيها " أولئك هم شر البرية " يعني شر الخليقة
قرأ نافع وابن عامر " البريئة " بالهمز والباقون بغير همز
فمن قرأ بالهمز فلأن الهمزة فيها أصل يقال برا الله الخلق يبرأ أبدا وهو الخالق البارئ
ومن قرأ بغير همز فلأنه اختار حذف الهمزة وتخفيفها
ثم مدح المؤمنين ووصف أعمالهم وبين مكانهم في الآخرة حتى يرغبوا إلى جواره فقال " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بالله وأخلصوا بقلوبهم وأفعالهم وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم إلى يوم القيامة " أولئك هم خير البرية " يعني هم خير الخليقة
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص والله المؤمن أكرم على الله تعالى من بعض الملائكة الذين عنده
وروي عن الحسن أنه سئل عن قوله " أولئك هم خير البرية " أهم خير من الملائكة قال ويلك أين تعدل الملائكة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل " جزاؤهم عند ربهم " يعني ثوابهم في الآخرة " جنات عدن تجري من تحتها الأنهار " يعني انهار من الخمر والعسل واللبن وماء غير آسن " خالدين فيها أبدا " يعني دائمين مقيمين فيها " رضي الله عنهم " بأعمالهم " ورضوا عنه " بثوابه الجنة " ذلك " يعني هذا الثواب الذي ذكر " لمن خشي ربه " يعني وحد ربه في الدنيا واجتنب معاصيه والله الموفق بمنه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم(3/580)
581
سورة الزلزلة
مختلف فيها وهي ثمان آيات مدنية
سورة الزلزلة 1 - 6
قول الله تبارك وتعالى " إذا زلزلت الأرض زلزالها " وذلك أن الناس كانوا يرون في بدء الإسلام أن الله تعالى لا يؤاخذهم بالصغائر من الذنوب ولا يعاقب إلا في الكبائر حتى نزلت هذه السورة وقال " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وذكر أهوال ذلك اليوم وبين أن القليل في ذلك اليوم يكون كثيرا فقال " إذا زلزلت الأرض زلزالها " يعني تزلزلت الأرض عند قيام الساعة وتحركت واضطربت حتى يتكسر كل شيء عليها
ويقال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة فنزل وبين متى يكون قيام الساعة فقال " إذا زلزلت الأرض زلزالها " يعني وتحركت تحركا وهو كقوله " ويخرجكم إخراجا " [ نوح 18 ] والمصدر للتأكيد
قوله تعالى " وأخرجت الأرض أثقالها " يعني أظهرت ما فيها من الكنوز والأموات " وقال الإنسان ما لها " يعني يقول الإنسان الكافر " ما لها " يعني للأرض على وجه التعجب
" يومئذ تحدث أخبارها " يعني تخبر الأرض بكل ما يعمل فيها بنو آدم من خير أو شر وتقول المؤمن صلى علي وحج واعتمر وجاهد
فيفرح المؤمن وتقول للكافر أشرك علي وسرق وزنى وشرب الخمر فيحزن الكافر فيقول " ما لها " يعني ما للأرض تحدث بما عمل عليها على وجه التقديم والتأخير ومعناه " يومئذ تحدث أخبارها " " وقال الإنسان ما لها "
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " بأن ربك أوحى لها " يعني أن الأرض تحدث بأن ربك أذن لها في الكلام وألهمها " يومئذ يصدر الناس أشتاتا " يعني يرجع الناس متفرقين فريق في الجنة وفريق في السعير وفريق مع الحور العين يتمتعون وفريق مع الشياطين يعذبون فريق على السندس والديباج على الأرائك متكئون وفريق على وجوههم في النار يجرون
لأنهم في الدنيا هكذا كانوا فريقا حول المساجد والطاعات وفريق في المعاصي والشهوات فذلك قوله(3/581)
582
" يومئذ يصدر الناس أشتاتا " يعني يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب " أشتاتا " فرقا فرقا
" ليروا أعمالهم " يعني ثواب أعمالهم وهذا
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه فإن كان محسنا يقول لم لم أزدد إحسانا وإن كان غير ذلك يقول لم لم ترغب عن المعاصي ) وهذا عند معاينة الثواب والعقاب
وقال أبي بن كعب الزلزلة لا تخرج إلا من ثلاثة إما نظر الله تعالى بالهيبة إلى الأرض وإما لكثرة ذنوب بني آدم وأما لتحرك الحوت التي عليها الأرضون السبع تأديبا للخلق وتنبيها
سورة الزلزلة 7 - 8
ثم قال عز وجل " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " يعني مقدار ذرة وهو الذي يرى في شعاع الشمس
يعني يرى ثوابه في الآخرة " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " يعني يرى جزاءه في الآخرة
وروى قتادة عن محمد بن كعب القرظي في قوله " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " الآية قال ما من كافر عمل مثقال ذرة من خير إلا عجل له ثواب ذلك في الدنيا في نفسه أو في أهله أو في ماله حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله مثقال ذرة من خير وما من مؤمن عمل مثقال ذرة من شر إلا عجل له عقوبتها في الدنيا في نفسه أو في ماله أو في أهله حتى يخرج من دار الدنيا وليس له عند الله مثقال ذرة من شر
وروى معمر عن زيد بن أسلم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال علمني مما علمك الله فدفعه إلى رجل يعلمه القرآن فعلمه " إذا زلزلت الأرض " حتى بلغ " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " فقال الرجل حسبي فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( دعه فقد فقه الرجل )
وروى الأجلح عن أبي إسحاق عن امرأته أنها قالت دخلت على عائشة رضي الله عنها أنا وامرأة أبي السفر فجاء سائل يسألها وعندها سلة من عنب فأخذت حبة من عنب فأعطته فنظر بعضنا إلى بعض فقال إن قدر هذا أثقل من ذرات كثيرة ثم قرأت " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " والله أعلم(3/582)
583
سورة العاديات
مكية وهي إحدى عشرة آية
سورة العاديات 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " والعاديات ضبحا " قال مقاتل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني كنانة واستعمل عليهم المنذر بن عمرو فأبطأ عليه خبرهم فاغتم لذلك فنزل عليه جبريل عليه السلام بهذه السورة يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمه عن حالهم فقال " والعاديات ضبحا " يعني أفراس أصحابك يا محمد صلى الله عليه وسلم إنهم يضبحون في عدوهم " فالموريات قدحا " يعني النار التي تقدح من حوافر الفرس إذا عدت في مكان ذي صخور وأحجار " فالمغيرات صبحا " يعني أصحابك يغيرون على العدو عند الصبح " فأثرن به نقعا " يعني يثيرون بحوافرهن التراب إذا عدت الفرس في مكان سهل يهيج التراب والغبار " نقعا " يعني أطراحا على الأرض " فوسطن به جمعا " يعني أصحابك أصبحوا في وسط العدو مع الظفر والغنيمة فلا تغتم
وقال الكلبي والعاديات ضبحا يعني أنفاس الخيل حين تتنفس إذا أجهدت وقال ابن مسعود رضي الله عنه " والعاديات ضبحا " يعني الإبل بعرفات إذا دخل الحجاج مكة وروى عطاء عن ابن عباس في قوله " والعاديات ضبحا " قال الخيل ما ضبحت دابة قط إلا كلب أو فرس وهو أن يلهث كما يلهث الكلب
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي الإبل تذهب إلى وقعة بدر
وقال أبو صالح تقاولت مع عكرمة في قوله تعالى " والعاديات ضبحا " قال عكرمة قال ابن عباس هي الخيل في القتال فقلت مولاي أعلم من مولاك فإنه كان يقول هي الإبل تكون بمكة حين تفيض من عرفات إلى جمع وقال أهل اللغة الضبح صوت حلقومها إذا عدت والضبح والضبع واحد يقال ضبحت النوق وضبعت إذا عدت في السير
وهذا قسم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء وجوابه قوله " إن الإنسان لربه لكنود " [ العاديات 6 ]
ثم قال " فالموريات قدحا " قال بعضهم فالمنجيات عملا وهذا مثل ضربه الله تعالى فكما أن الأقداح تنجي الرجل من برد الشتاء والهلاك وإذا لم يكن معه الزند هلك في البرد فكذلك العمل الصالح ينجي العبد يوم القيامة من العذاب الهلاك وإذا لم يكن معه عمل صالح(3/583)
584
يهلك بالعذاب
ويقال " فالموريات قدحا " يعني نار أبي حباحب وكان أبو حباحب رجلا في بعض أحياء العرب من أبخل الناس ولم يوقد نارا ليخبز حتى ينام كل ذي عين ثم يوقدها فإذا استيقظ أحد أطفأها لكي لا ينتفع بناره أحد بخلا منه فكذلك الخيل حين اشتدت على أرض الحصاة فقدحت النار بحوافرها لا ينتفع بها كما لا ينتفع بنار أبي حباحب
ثم قال " فالمغيرات صبحا " يعني الخصماء يغيرون على حسنات العبد يوم القيامة بمنزلة ريح عاصف يجيء ويرفع التراب الناقع من حوافر الدواب فذلك قوله " فأثرن به نقعا " ويقال هي الإبل ترجع من عرفات إلى المزدلفة ثم يرجعن إلى منى وتذبح هناك ويقسم اللحم ويؤخذ اللحم كأنهم أغاروها " فأثرن به نقعا " يعني هيجن بالوادي غبارا حين يرجعون من مزدلفة إلى منى
وقوله " به " كناية عن الوادي فكأنه يقول " فأثرن بالوادي نقعا " أي غبارا
ثم قال " فوسطن به جمعا " يعني فوقعن بالوادي ويقال بالمكان يعني اجتمع الحاج بمنى
سورة العاديات 6 - 11
ثم قال تعالى " إن الإنسان لربه لكنود " فيه جواب القسم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء وفيه بين ذكر فضل الغازي وفضل فرس الغازي على تفسير من فسر الآية على الفرس حين أقسم الله تعالى بالتراب الذي يخرج والنار التي تخرج من تحت حوافر فرس الغازي لأنه ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله تعالى
ومن فسر الآية على الإبل ففي الآية بيان فضل الحاج وفضل دواب الحاج حيث أقسم بالتراب الذي يخرج من تحت أخفاف إبل الحاج والنار التي تخرج منها حيث صارت في أرض الحجارة
" إن الإنسان لربه لكنود " يعني لبخيل
قال مقاتل نزلت في قرط بن عبد الله وقال معنى الكنود بلسان كندة وبني حضرموت هو العاصي لربه وبلسان بني كنانة البخيل
ويقال هو الوليد بن المغيرة ويقال هو أبو حباحب ويقال كان ثلاثة نفر في العرب في عصر واحد أحدهم آية في السخاء وهو حاتم الطائي والثاني آية في البخل وهو أبو حباحب والثالث آية في الطمع وهو أشعب كان طماعا وكان إذا رأى عروسا تزف إلى موضع جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره وكان إذا رأى إنسانا يحك عنقه فيظن أنه ينزع القميص ليدفعه إليه
ويقال الكنود الذي يمنع رفده ويجيع أهله ويضرب عبده ويأكل وحده ولا يعبأ للنائبة في قومه وقال الحسن الكنود الذي يذكر المصائب وينسى النعم ويقال الكنود الذي لا خير فيه ويقال للأرض التي غلب عليها السبخة ولا يخرج منها البذر أرض كنود(3/584)
585
ثم قال تعالى " وإنه على ذلك لشهيد " يعني الله تعالى حافظ على صنعه عالم به " وإنه لحب الخير لشديد " يعني الإنسان على جمع المال حريص
وقال القتبي معناه إنه لحب المال لبخيل والشدة ههنا البخل وقال الزجاج معناه أنه من أجل حب المال لبخيل وهذا موافق لما قال القتبي
ثم قال عز وجل " أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور " يعني أفلا يعلم هذا البخيل إذا بعث الناس من قبورهم وعرضوا على الله تعالى " بعثر " يعني أخرج " وحصل ما في الصدور " يعني بين ما في القلوب من الخير والشر " إن ربهم بهم يومئذ لخبير " يعني عالم بهم وبأعمالهم وبنياتهم ومن أطاعه في الدنيا ومن عصاه فيها
وفي الآية دليل أن الثواب يستوجب على قدر النية ويجري به وقوله تعالى " وحصل ما في الصدور " يعني يحصل له من الثواب بقدر ما كان في قلبه من النية إن نوى بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة يحصل له الثواب على قدره والله ولي الموفق بمنه(3/585)
586
سورة القارعة
مكية وهي إحدى عشرة آية
سورة القارعة 1 - 11
قول الله تبارك وتعالى " القارعة ما القارعة " يعني القيامة ما القيامة والساعة ما الساعة
وهذا من أسماء يوم القيامة مثل الحاقة والطامة والصاخة
وإنما سميت القارعة لأنها تقرع القلوب بالأهوال
ثم قال عز وجل " وما أدراك ما القارعة " تعظيما لشدتها
ثم وصفها فقال تعالى " يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " يعني كالجراد وكالفراش يجول بعضهم في بعض كما قال في آية أخرى " كأنهم جراد منتشر " [ القمر 7 ] متحيرين حفاة عراة
والمبثوث المبسوط المنتشر الذي يجول بعضه في بعض ويقال ويقال شبههم بالفراش لأنهم يلقون أنفسهم في النار كما يلقي الفراش نفسه في النار
قوله تعالى " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " يعني كالصوف المندوف وهي تمر مر السحاب " فأما من ثقلت موازينه " يعني رجحت حسناته على سيئاته ويقال " ثقلت موازينه " بالعمل الصالح بالصلاة والزكاة وغيرها من العبادات " فهو في عيشة راضية " يعني في عيش مرضي في الجنة لا موت فيها ولا فقر ولا مرض ولا خوف ولا جنون آمن من كل خوف " وأما من خفت موازينه " يعني رجحت سيئاته على حسناته يعني الكافر ويقال " من خفت موازينه " يعني لا يكون له عمل صالح " فأمه هاوية " يعني مصيره إلى النار
قال قتادة هي أمهم ومأواهم وإنما سميت الهاوية لأن الكافر إذا طرح فيها يهوي على هامته وإنما سميت أمه لأنه مصيره إليها ومسكنه فيها
ثم وصفها فقال " وما أدراك ما هيه " تعظيما لشدتها
ثم أخبر عنها فقال " نار حامية " يعني حارة قد انتهى حرها وأصله ما هي فأدخلت الهاء للوقف كقوله " اقرءوا كتابيه "(3/586)
587
[ الحاقة 19 ] وأصله كتابي
قرأ حمزة والكسائي " وما أدراك ما هي " بغير هاء في الوصل وبالهاء عند الوقف
وقرأ الباقون بإثباتها في الوصل والوقف
والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم(3/587)
588
سورة التكاثر
مكية وهي ثماني آيات
سورة التكاثر 1 - 8
قول الله تبارك وتعالى " ألهاكم التكاثر " قال الكلبي نزلت في حيين من العرب أحدهما بنو عبد مناف والآخر بنو سهم تفاخرا في الكثرة فكثرتهم بنو عبد مناف فقال بنو سهم إنما البغي والقتال قد أهلكنا فنعد أحيانا وأحياكم وأمواتنا وأمواتكم ففعلوا فكثرتهم بنو سهم فنزل " ألهاكم التكاثر " يعني شغلكم وأذهلكم التفاخر " حتى زرتم المقابر " يعني أتيتم وذكرتم وعددتم أهل المقابر ويقال معناه شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد عن طاعة الله تعالى " حتى زرتم المقابر " يعني حتى يدرككم الموت على تلك الحال
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ " ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر " ثم قال ( يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ) ويقال معناه أغفلكم التفاخر والتكاثر عن الهاوية والنار الحامية حتى زرتم المقابر يعني عددتم من في المقابر
ثم قال عز وجل " كلا " وهو رد عليهم صنيعهم ويقال " كلا " معناه لا تدعون الفخر بالأحساب حتى دخلتم المقابر وقال الزجاج " كلا " ردع لهم وتنبيه يعني ليس الأمر الذي ينبغي أن يكون عليه التكاثر والذي ينبغي أن يكونوا عليه طاعة الله تعالى والإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال مقاتل " كلا سوف تعلمون " إذا نزل بكم الموت
ويقال " كلا سوف تعملون " إن سئلتم في القبر
ثم قال " ثم كلا سوف تعلمون " بعد الموت حين نزل بكم العذاب أن الأحساب لا تنفعكم
قوله تعالى " كلا لو تعلمون " قال بعضهم معناه كلا لا تؤمنون بالوعيد وقد تم الكلام
ثم استأنف فقال " لو تعلمون علم اليقين " يعني لو تعلمون ما القيامة باليقين لألهاكم(3/588)
589
عن ذلك ويقال هذا موصول ب " كلا لو تعلمون " يقول حقا لو علمتم علم اليقين بأن المال والحسب والفخر لا ينفعكم يوم القيامة ما افتخرتم بالمال والعدد والحسب
ثم قال عز وجل " لترون الجحيم " قرأ ابن عامر والكسائي " لترون " بضم التاء والباقون بالنصب وقرأ ابن كثير " ثم لترونها " بضم التاء
فمن قرأ بالضم فهو على فعل ما لم يسم فاعله ونصب الجحيم على أنه مفعول به ثان يعني " لترون الجحيم " ومن قرأ بالنصب فعلى فعل المخاطبة ونصب الجحيم لأنه مفعول يعني لترون الجحيم يوم القيامة عيانا " ثم لترونها عين اليقين " يعني تدخلونها عيانا لا شك فيه " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " يعني ولتسألن يوم القيامة عن النعيم قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أكل خبزا يابسا أو شرب الماء البارد الفرات فقد أصاب النعيم وقال ابن مسعود رضي الله عنه هو الأمن والصحة وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن جابر أنه قال جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأطعمناهم رطبا وأسقيناهم الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هذا من النعيم الذي تسألون عنه ) وروى صالح بن محمد عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهم قال إن أبا بكر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكلة أكلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي الهيثم بن التيهان من لحم وخبز وشعير وبسر مذنب وماء عذب فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما ذلك للكفار ثم قال ثلاثة لا يسأل الله تعالى عنها العبد يوم القيامة ما يواري عورته وما يقيم به صلبه وما يكنه من الحر والقر وهو مسؤول بعد ذلك عن كل نعمة ) وروى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما أنعم الله تعالى على العبد من نعمة صغيرة أو كبيرة فيقول عليها الحمد لله إلا أعطاه الله تعالى خيرا مما أخذ ) والله الموفق بمنه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم(3/589)
590
سورة العصر
مكية وهي ثلاث آيات
سورة العصر 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى " والعصر " قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعني الدهر وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال يعني صلاة العصر وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لما أسلم قالوا خسرت يا أبا بكر حين تركت دين آبائك فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس الخسارة في قبول الحق إنما الخسارة في عبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنكم فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية
" والعصر " أقسم الله تعالى بصلاة العصر " إن الإنسان لفي خسر " يعني أن الكافر لفي خسارة
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال " إن الإنسان لفي خسر " يعني الناس كلهم
ثم استثنى فقال عز وجل " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فإنهم غير منقوصين
كما قال الله تعالى " ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون " يعني يكتب لهم ثواب عملهم وإن ضعفوا عن العمل
قال الزجاج " إن الإنسان " أراد به الناس والخسر والخسران واحد ومعناه إن الإنسان الكافر والعاملين بغير طاعة الله تعالى لفي خسر
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ والعصر ونوايب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفي لعنة إلى آخر الدهر ويقال أقسم الله تعالى بخالق الدهر فقال " إن الإنسان لفي خسر " يعني أبا جهل والوليد بن المغيرة ومن كان في مثل حالهم ثم استثنى المؤمنين فقال " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضوان الله تعالى عليهم " وتواصوا بالحق " يعني تحاثوا على القرآن يعني يرغبون الناس في الإيمان والأعمال الصالحة " وتواصوا بالصبر " يعني تحاثوا على الصبر على عبادة الله تعالى وعلى الشدائد فيرغبون الناس على ذلك
ويقال " وتواصوا بالصبر " على المكاره فإن الجنة حفت بالمكاره والله الموفق بمنه(3/590)
591
سورة الهمزة
مكية وهي تسع آيات
سورة الهمزة 1 - 9
قول الله تبارك وتعالى " ويل لكل همزة لمزة " يعني الشدة من العذاب
ويقال " ويل " واد في جهنم " ولكل همزة لمزة " قال أبو العالية يعني يهمزه في وجهه ويلمزه من خلفه
وقال مجاهد الهمزة الطعان واللمزة الذي يأكل لحوم الناس
وقال ابن عباس الهمزة واللمزة الذي يفرق بين الناس بالنميمة
والآية نزلت في الأخنس بن شريق
ويقال الذي يسخر من الناس فيشير بعينه وبحاجبيه وبشفتيه إليه
وقال مقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم ويطعن في وجهه
ويقال نزلت في جميع المغتابين
ثم قال عز وجل " الذي جمع مالا وعدده " يعني استعبد بماله الخدم والحيوان " وعدده " أي حسبه وأحصاه قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " جمع " بالتشديد والباقون بالتخفيف
فمن قرأ بالتشديد فهو للمبالغة وكثرة الجمع ومن قرأ بالتخفيف فمعناه " جمع مالا وعدده " أي قوما أعدهم نصارا
ثم قال عز وجل " يحسب أن ماله أخلده " يعني يظن أن ماله الذي جمع أخلده في الدنيا ويمنعه من الموت فلا يموت حتى يفنى ماله
يقول الله تعالى " كلا " لا يخلده ماله وولده
ثم استأنف فقال تعالى " لينبذن في الحطمة " يعني ليقذفن في الحطمة و " الحطمة " اسم من أسماء النار
" وما أدراك ما الحطمة " تعظيما لشأنها ولشدتها
ثم وصفها فقال " نار الله الموقدة " يعني المستعرة تحطم العظام وتأكل اللحوم فلهذا سميت الحطمة " التي تطلع على الأفئدة " يعني تأكل الجلد واللحم حتى تبلغ أفئدتهم
وقال القتبي " تطلع على الأفئدة " يعني تشرف على الأفئدة وخص الأفئدة لأن الألم إذا وصل إلى الفؤاد مات صاحبه فأخبر أنهم في حال الموت وهم لا يموتون كما قال " لا يموت فيها ولا يحيى " [ الأعلى 13 ] ويقال " تطلع على الأفئدة " يعني تأكل الناس حتى تبلغ(3/591)
592
الأفئدة فإذا بلغت الأفئدة ابتدأ خلقه
ولا تحرق القلب لأن القلب إذا احترق لا يجد الألم فيكون القلب على حاله لكي يجد الألم
ثم قال عز وجل " إنها عليهم مؤصدة " يعني مطبقة على الكافرين " في عمد ممددة " يعني طبقها ممدود مشدود إلى العمد
وقال الزجاج معناه العذاب مطبق عليهم في عمد أي في عمد من النار
وقال الضحاك " مؤصدة " يعني حائط لا باب فيه
وروي عن الأعمش أنه كان يقرأها " عليهم مؤصدة " بعمد ممدودة يعني أطبقت الأبواب ثم شددت بالأوتاد من حديد من نار حتى يرجع إليهم غمها وحرها فلا يفتح لهم باب ولا يدخل عليهم روح ولا يخرج منها غم إلى الأبد
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " في عمد " ممدودة بضم العين وقرأ الباقون بالنصب ومعناهما واحد وهو جمع العماد
اللهم إنا نسألك العفو(3/592)
593
سورة الفيل
مكية وهي خمس آيات
سورة الفيل 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " ألم تر " يعني ألم تخبر بالقرآن
ويقال " ألم تر " يعني ألم يبلغك الخبر اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الإخبار يعني اعلم واعتبر بصنيع الله تعالى " كيف فعل ربك " يعني كيف عذب ربك " بأصحاب الفيل " وكان بدء أصحاب الفيل ما ذكرناه في سورة البروج أن زرعة قتل المسلمين بالنار فهرب رجل منهم إلى ملك الحبشة وأخبره بذلك فبعث ملك الحبشة جيشا إلى أرض اليمن فأمر عليهم أرياطا ومعه في جنده أبرهة الأشرم فركب البحر فيمن معه حتى أتوا ساحلا مما يلي أرض اليمن فدخلوها ومع أرياط سبعون ألفا من الجيش وهزم زرعة وجنوده وألقى زرعة نفسه بفرسه في الماء فهلك وأقام أرياط باليمن سنين في سلطانه ذلك
ثم نازعه في أمر الحبشة أبرهة وكان من أصحابه ممن وجهه النجاشي معه إلى اليمن
وخالفه أبرهة وتفرق الجند وصار إلى كل واحد منهما طائفة منهم
ثم خرجوا للقتال فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط إنك لا تصنع شيئا بأن تلقي الحبشة بعضها في بعض حتى تفنيها فأبرز لي وأبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إلى جنده
فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فاخرج
فخرج إليه أبرهة وكان رجلا قصيرا وخرج إليه أرياط وكان رجلا طويلا عظيما في يده حربة وخلف أبرهة عبد يقال له عتودة وروي عن بعضهم عيودة بالياء فلما دنا أحدهما من صاحبه رفع أرياط الحربة فضرب بها على رأس أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فخدشت حاجبيه وعينه وأنفه وشفتيه فلذلك سمي أبرهة الأشرم وحمل عيودة على أرياط من خلف أبرهة فقتل أرياط وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن
وكل ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي ملك الحبشة فلما بلغه ذلك غضب غضبا شديدا وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف أن لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته
فلما بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه وملأ جرابا من تراب أرض اليمن ثم بعث إلى النجاشي وكتب إليه أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك واختلفنا في أمرك وكل(3/593)
594
طاعة لك
إلا أني قد كنت أقوى على أمر الجيش منه وأضبط له وقد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر يمينه
فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري
وقال أبرهة لعتودة حين قتل أرياط أحكمك يعني أحكم علي بما شئت فقال عتودة حكمي أن لا تدخل عروس من بيت أهل اليمن على زوجها حتى أصيبها قبله
قال ذلك لك
فأقام أبرهة باليمن وغلامه عتودة يصنع باليمن ما كان أعطاه من حكمه
ثم عدل عليه رجل من حمير أو من خثعم فقتله
فلما بلغ أبرهة قتله وكان أبرهة رجلا حليما ورعا في دينه النصرانية فقال قد آن لكم يا أهل اليمن أن يكون منكم رجل حازم يأنف مما يأنف منه الرجال إني والله لو علمت حين حكمته أنه يسأل الذي سأل ما حكمته وأيم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل ولا قود
ثم إن أبرهة بنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانه في أرض الروم ولا في أرض الشام
ثم كتب إلى النجاشي الأكبر ملك الحبشة أني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب
فلما علمت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي خرج رجل من بني كنانة من الحمس حتى قدم اليمن فدخل الكنيسة فنظر فيها
ثم خرى فيها فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها فقال من اجترأ علي بهذا فقال له أصحابه أيها الملك رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب
فقال أعلي اجترأ بهذا ثم قال بالنصرانية لأهدمن ذلك البيت ولأخربنه حتى لا يحجه حاج أبدا
فدعا بالفيل وأذن قومه بالخروج
وروي في رواية أخرى أن فئة من قريش خرجوا حتى أتوا إلى أرض النجاشي فأوقدوا نارا فلما رجعوا تركوا النار في يوم عاصف حتى وقعت النار في الكنيسة فأحرقتها فعزم أبرهة وهو خليفة النجاشي أن يخرج إلى مكة فيهدم الكعبة وينقل أحجارها إلى اليمن فيبني هناك بيتا ليحج الناس إليه
وروي في رواية أخرى أن رجلا من أهل مكة خرج إلى اليمن فأخذ حزمة من القصب ذات ليلة وأضرم النار في الكنيسة فأحرقها ثم هرب
فبناها أبرهة مرة أخرى فحلف بعيسى ابن مريم ليهدمن الكعبة لكي يتحول الحج إلى كنيسته فتجهز فخرج معه الفيل حتى إذا كان في بعض طريقة بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه فتلقاه رجل من بني كنانة من الحمس فقتله
فازداد أبرهة بذلك غضبا وحث على المسير والانطلاق حتى إذا كان بأرض خثعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو يفن فدعى قومه وأحبابه من سائر(3/594)
595
العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله
فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه وأخذ ذو يفن وأوتي به أسيرا
فلما أراد قتله قال أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي فتركه وحبسه عنده في وثاقه
ثم مضى على وجهه ذلك حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي فقاتله فهزمه وأخذ أسيرا
فلما أتي به وهم بقتله فقال أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب فتركه وخلى سبيله وخرج به معه يدله على أرض العرب
حتى إذا مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث الثقفي في رجال من ثقيف فقالوا أيها الملك إنما نحن عبيدك ليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد وليست بالتي يحج إليه العرب وإنما ذلك بيت قريش الذي بمكة فنحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال فخرج يهديهم الطريق حتى أنزلهم بالمغمس وهي على ستة أميال من مكة فمات أبو رغال هناك فرجمت العرب قبره فهو القبر الذي ترجمه الناس بالمغمس
ثم إن قريشا لما علموا أن لا طاقة لهم بالقتال مع هؤلاء القوم لم يبق بمكة أحد إلا خرج إلى الشعاب والجبال ولم يبق أحد إلا عبد المطلب على سقايته وشيبة أقام على حجابة البيت
فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي البيت ويقول اللهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبوا بصليبهم فأمر ما بدا لك
ثم إن أبرهة بعث رجلا من الحبشة على جمل له حتى انتهى إلى مكة وساق إلى أبرهة أموال قريش وغيرها
فأصاب مائتي بعير لعبد المطلب وهو يومئذ كبير قريش وسيدها
ثم بعث أبرهة رجلا من أهل حمير إلى مكة وقال له سل عن سيد هذا البيت وشريفهم ثم قال له إن الملك يقول لك إني لم آت لأخرجكم وإنما جئت لأهدم هذا البيت فإن لم تتعرضوا إلى دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم
فلما دخل الرسول مكة جاء إلى عبد المطلب وأدى إليه الرسالة فقال عبد المطلب ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام
فإن يمنعه فهو بيته وحرمه وإن لم يحل بينه وبين حرمه والله ما عندنا دفع عنه
فقال له الرسول فانطلق بنا إليه فإنه قد أمرني أن آت بك إليه فانطلق إليه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتي العسكر حتى أتى العسكر فسأل عن ذي يفن وكان صديقا له فجاءه وهو في مجلسه فقال له هل عندك من عناء بما نزل بنا فقال له ذو يفن ما عناء رجل أسير بيد ملك ينتظر بأن يقتله غدوا أو عشيا ألا أن صاحب الفيل صديق لي فأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستوصي بك خيرا ويستأذن لك على الملك فتكلمه أنت بما بدا لك
فقال حسبي ففعل ذلك
فلما دخل عبد المطلب على الملك وكلمه فأعجبه كلامه ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك
قال عبد المطلب حاجتي إليك أن ترد إلي مائتي بعير لي فقال لك ذلك
قال له أبرهة لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم إني زهدت فيك حين كلمتني(3/595)
596
في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه
قال عبد المطلب إنني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه
فقال ما كان ليمنعه مني قال أنت وذلك
فرد عليه الإبل فانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج بمن بقي من أهل مكة إلى الجبال وفي بطون الشعاب
ثم إن عبد المطلب أخذ بحلقتي باب الكعبة وقال اللهم إن المرء يمنع رحله وذكر كلمات في ذلك ثم أرسل حلقتي الباب وانطلق ومن معه إلى قلل الجبال ينتظرون ما يصنع أبرهة بمكة
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ جيشه وهيأ فيله وكان اسم الفيل محمودا وكنيته أبو العباس وكنية أبرهة أبو البكشوم
فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى جاء إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محمودا وارجع راشدا من حيث جئت فإنك والله في بلد الله الحرام
ثم أرسل أذنه واضطجع
فضربوه ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبرزين فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك وأرسل الله تعالى عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمصة والعدسة لا تصيب أحدا منهم إلا هلك
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق فخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا معه يسقط من جسده أنملة أنملة كلما سقطت منه أنملة خرجت منه مده قيح ودم حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم مات
فملك ابنه يكثوم بن أبرهة ملك اليمن
وروي في الخبر أنه أول ما وقعت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وقال بعضهم كان أمر أصحاب الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة
وقال بعضهم كان ذلك في عام مولده وروي عن قيس بن مخرمة أنه قال ولدت أنا ورسول اله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل
فنزل قوله " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " يعني كيف عاقب ربك أصحاب الفيل بالحجارة حين أرادوا هدم الكعبة
قال تعالى " ألم يجعل كيدهم في تضليل " يعني كيد الذين أرادوا هدم الكعبة يعني في خسارة
ويقال معناه ألم يجعل صنيعهم في أباطيل " وأرسل عليهم طيرا أبابيل " يعني متتابعا بعضها على أثر بعض وقال سعيد بن جبير أرسل الله عليهم طيورا بيضا صغارا
وقال عبيد بن عمير أرسل عليهم طيرا بلقا من البحر كأنها الخطاطيف
وروى عطاء عن ابن عباس قال طيرا سودا جاءت من قبل البحر فوجا فوجا
ثم قال " ترميهم بحجارة من سجيل "
قال سعد بن جبير الحجارة أمثال الحمصة(3/596)
597
وروي عن ابن عباس قال رأيت عند أم هانئ من تلك الحجارة مثل بعر الغنم مخططة بحمرة
وروى إسرائيل عن جابر بن أسباط قال طير كأنها رجال الهند جاءت من قبل البحر تحمل الحجارة في مناقيرها وأظافيرها أكبرها كمبارك الإبل وأصغرها كرؤوس الإنسان " ترميهم بحجارة من سجيل " يعني من طين خلط بالحجارة ويقال طين مطبوخ كما يطبخ الآجر
وذكر مقاتل عن عكرمة قال هي طير جاءت من قبل البحر لها رؤوس كرؤوس السباع لم تر قبل يومئذ ولا بعده فجعلت ترميهم بالحجارة فتجدر جلودهم وكان أول يوم رئي فيه الجدري
ويقال مكتوب في كل حجر اسم الرجل واسم أبيه ولا يصيب الرجل شيء إلا نفذه فما وقع على رأس رجل إلا خرج من دبره وما وقعت على جنبه إلا خرجت من الجنب الآخر
وقال وهب بن منبه " حجارة من سجيل " قال بالفارسية سخ وكل يعني حجارة وطين
وروى موسى بن بشار عن عكرمة " حجارة من سجيل " قال سنك وكل
ثم قال عز وجل " فجعلهم كعصف مأكول " يعني كزرع بال فأخبر الله تعالى أنه سلط على الجبابرة أضعف خلقه كما سلط على النمرود بعوضة فأكلت من دماغه أربعين يوما فمات من ذلك
نسأل الله العفو والعافية و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد(3/597)
598
سورة قريش
مكية وهي أربع آيات 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى " لإيلاف قريش إيلافهم " قرأ ابن عامر " لإلاف قريش " بهمزة مختلسة الكسر والباقون بياء قبلها همزة ومعناهما واحد
وهذا موصول بما قبله يعني أن الله تعالى أهلك أصحاب الفيل " لإيلاف قريش " يعني لتقر قريش بالحرم ويجاورون البيت
حيث قال " فجعلهم كعصف مأكول " " لإيلاف قريش " يعني فعل ذلك ليؤلف قريشا بهاتين الخصلتين الرحلتين اللتين بهما عيشهم ومقامهم بمكة
وقال أهل اللغة ألفت موضع كذا أي لزمته وألفينه الله كما لزمت موضع كذا ألزمنيه الله
وكرر الإيلاف على معنى التأكيد كما تقول أعطيتك المال لصيانة وجهك وصيانتك عن جميع الناس
وقال مجاهد " لئلاف قريش " يعني لنعمتي على قريش وقال سعيد بن جبير أذكر نعمتي على قريش ويقال معناه لا يشق عليهم التوحيد كما لا يشق عليهم " رحلة الشتاء والصيف " قال مقاتل وذلك أن قريشا كانوا تجارا ومن ذلك سمت قريشا وكانوا يمتارون في الشتاء من الأردن وفلسطين لأن ساحل البحر كان أدناها فإذا كان الصيف تركوا طريق الشام وأخذوا طريق اليمن فشق ذلك عليهم فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة حتى حملوا الطعام في السفن إلى مكة للبيع وجعل أهل مكة يخرجون إليهم على مسيرة ليلة ويشترون فكفاهم الله تعالى مؤونة الشتاء والصيف
" فليعبدوا رب هذا البيت " لأن " رب هذا البيت " كفاهم مؤونة الخوف والجوع فليألفوا العبادة كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف
وقال الزجاج كانوا يترحلون في الشتاء إلى الشام وفي الصيف إلى اليمن
وهذا موافق لما قال مقاتل
وقال السدي في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام وهكذا قال القتبي
وروي عن أبي العالية أنه قال كانوا لا يقيمون بمكة صيفا ولا شتاء فأمرهم الله تعالى بالمقام عند البيت في العبادة
ويقال معناه قل لهم يا محمد حتى يجتمعوا على الإيمان والتوحيد وعبادة رب هذا(3/598)
599
البيت كاجتماعهم على رحلة الشتاء والصيف " فليعبدوا رب هذا البيت " يعني السيد والخالق لهذا البيت الذي صنع هذا الإحسان إليكم حتى يكرمكم في الآخرة كما أكرمكم في الدنيا " الذي أطعمهم من جوع " يعني أشبعهم بعد الجوع الذي أصابهم حتى جهدوا " وآمنهم من خوف " يعني من خوف الجهد والعدو والغارة
وقال السدي " آمنهم " من خوف الجذام
نسأل الله العفو والعافية(3/599)
600
سورة الماعون
مكية وهي سبع آيات
سورة الماعون 1 - 7
قول الله تبارك وتعالى " أرأيت الذي يكذب بالدين " قرأ الكسائي " أرأيت " بغير ألف وقرأ نافع " أرأيت " بالألف بغير همزة والباقون بالألف والهمزة " أرأيت " وهذه كلها لغات العرب واللغة المعروفة بالألف والهمزة ومعناه ألا ترى يا محمد هذا الكافر الذي يكذب بالدين يعني بيوم القيامة
ويقال معناه ما تقول يا محمد في هذا الكافر الذي يكذب بيوم القيامة فكيف يكون حاله يوم القيامة وقال قتادة نزلت في وهب بن عايل وقال جعدة بن هبيرة نزلت في العاص بن وائل ويقال هذا تهديد لجميع الكفار
ثم قال عز وجل " فذلك الذي يدع اليتيم " يعني يدفع اليتيم عن حقه ويقال يمنع اليتيم حقه ويظلمه " ولا يحض على طعام المسكين " يعني لا يحث على إطعام المسكين ويقال معناه لا يطعم المسكين
ثم قال عز وجل " فويل للمصلين " يعني للمنافقين " الذين هم عن صلاتهم ساهون " يعني لاهين عنها حتى يذهب وقتها
" الذين هم يراؤون " الناس بالصلاة ولا يريدون بها وجه الله تعالى حتى إذا رأوا الناس صلوا وإذا لم يروا الناس لم يصلوا
ثم قال تعالى " ويمنعون الماعون " قال مقاتل يمنعون الزكاة والماعون بلغة الحبش المال
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال يراؤون بصلاتهم ويمنعون الزكاة
ويقال الماعون يعني المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم
وعن أبي عبيد قال سألت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الماعون فقال ما يتعاطاه الناس فيما بينهم مثل الفأس والقدوم والقدر والدلو
وروى وكيع عن سالم بن عبد الله
قال سمعت عكرمة يقول الماعون الفأس والقدوم والقدر والدلو
قلت من منع هذا فله الويل
قال من راءى بصلاة وسها عنها ومنع هذا فله الويل
وقال القتبي الماعون الزكاة ويقال الماعون هو الماء والكلأ
وروي عن الفراء أنه قال هو المال والله أعلم وأحكم بالصواب(3/600)
601
سورة الكوثر
مكية وهي ثلاث آيات
سورة الكوثر 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى " إنا أعطيناك الكوثر " يعني الخير الكثير لفضيلة القرآن ويقال العلم وقال القتبي أحسبه فوعل من الكثرة والخير الكثير وقال مقاتل " إنا أعطيناك الكوثر " أراد به نهرا في الجنة طينه مسك أذفر ورضراضه اللؤلؤ أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وروى عطاء بن السائب عن محمد بن زياد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الكوثر نهر في الجنة حافتاه الذهب ومجراه على الدر والياقوت ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل تربته أطيب من المسك ) وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( بينما أنا أسير في الجنة فإذا بنهر حافتاه من اللؤلؤ المجوف يعني الخيام قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك )
ثم قال عز و جل " فصل لربك " يعني صل لله الصلوات الخمس " وانحر " قال بعضهم انحر نفسك يعني اجتهد في الطاعة وقال بعضهم " وانحر " يعني استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم " وانحر " يعني البدنة واعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعه انحر يعني استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم وانحر يعني البدنة يعني اعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعه وقال بعضهم " وانحر " صل صلاة العيد يوم النحر وانحر البدنة
ثم قال عز وجل " إن شانئك هو الأبتر " يعني مبغضك وهو العاص بن وائل السهمي " هو الأبتر " يعني الأبتر من الخير
وذلك أن العاص بن وائل السهمي كان يقول لأصحابه هذا الأبتر الذي لا عقب له فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتم لذلك فنزل " إن شانئك هو الأبتر " وأنت يا محمد صلى الله عليه وسلم ستذكر معي إذا ذكرت فرفع الله ذكره في كل مواطن
ويقال " فصل لربك وانحر " بأن يستوي بين السجدتين حتى يبدي نحره فخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم(3/601)
602
والمراد به جميع الأمة كما قال " يا أيها الرسل " وأراد به هو وأصحابه
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله " فصل لربك وانحر " قال يعني ضع اليمين على الشمال في الصلاة " إن شانئك هو الأبتر " في ماله وولده وأهله والبتر في اللغة الاستئصال والقطع وقال قتادة " الأبتر " الحقير الرقيق الذليل والله أعلم(3/602)
603
سورة الكافرون
مكية وهي ست آيات
سورة الكافرون 1 - 6
قول الله تبارك وتعالى " قل يا أيها الكافرون " " يا أيها " الياء للنداء وأي للتمييز وها للتنبيه
ألا ترى أنه لا يجوز لله أن يقال يا أيها الرحمن كما قال تعالى " يا أيها العزيز " لأن التنبيه لا يجوز
وذلك أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن يسرك أن نتبعك عاما وترجع إلى ديننا عاما فنزلت هذه السورة
وقال مقاتل نزلت في المستهزئين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم وجرى على لسانه ما جرى فقال أبو جهل أخزاه الله لا تفارقنا إلا على أحد أمرين ندخل معك في بعض ما تعبد وتدخل معنا في ديننا أو تتبرأ من آلهتنا ونتبرأ من إلهك فنزلت هذه السورة
وقال الكلبي وذاك أنهم أتوا العباس فقالوا له لو أن ابن أخيك استلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول وآمنا به فنزل " قل يا أيها الكافرون " ويقال إنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا له إن ابن أخيك يؤذينا ونحن لا نؤذيه لحرمتك فدعاه أبو طالب وذكر ذلك له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما أدعوهم إلى كلمة واحدة ) فقال ما هي قال ( لا إله إلا الله ) فنفروا عن هذه الكلمة فنزل " قل يا أيها الكافرون " يعني قل يا محمد لأهل مكة " لا أعبد ما تعبدون " يعني " لا أعبد " بعد هذا " ما تعبدون " أنتم من الأوثان ولا أرجع إلى دينكم
ثم قال " ولا أنتم عابدون ما أعبد " يعني لا تعبدون أنتم بعد هذا الرب الذي أعبده أنا حتى ترون ما يستقبلكم غدا
وهذا كقوله عز وجل " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا " [ الكهف 29 ]
قوله تعالى " ولا أنا عابد ما عبدتم " يعني لست أنا في الحال عابدا لأصنامكم وما كنت عابدا لها قبل هذا لأني علمت مضرة عبادتها " ولا أنتم عابدون ما أعبد " يعني لستم عابدين في الحال لجهلكم وغفلتكم وقلة عقلكم(3/603)
604
ثم قال عز وجل " لكم دينكم ولي دين " يعني قد أكملت عليكم الحجة وليس علي أن أجبركم على الإسلام فاثبتوا على دينكم حتى تروا ماذا يستقبلكم غدا وأنا أثبت على ديني الذي أكرمني الله تعالى به ولا أرجع إلى دينكم أبدا
وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ بآية القتال وفيها دليل أن الرجل إذا رأى منكرا أو سمع منكرا فأنكره فلم يقبل منه لا يجب عليه أكثر من ذلك وإنما عليه أن يحفظ مذهبه وطريقه ويتركهم على مذهبهم وطريقهم
وقال الحسن سمعت شيخا يحدث قال بينما أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ " قل يا أيها الكافرون " فقال ( أما هذا فقد برئ من الشرك ) وسمع رجلا يقرأ " قل هو الله أحد " فقال ( أما هذا فقد غفر الله تعالى له والله أعلم(3/604)
605
سورة النصر
وهي ثلاث آيات مكية
سورة النصر 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى " إذا جاء نصر الله " وروى عبد الملك بن سليمان قال سمعت سعيد بن جبير يقول كان أناس من المهاجرين قد وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس دونهم وكان يسأله فقال عمر أما أنا سأريكم منه اليوم ما تعرفون به فضله فسأله عن هذه السورة " إذا جاء نصر الله والفتح " قال بعضهم أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " أن تحمده وتستغفره فقال يا ابن عباس ألا تتكلم فقال أعلمه الله متى يموت فقال " إذا جاء نصر الله والفتح " فهي آيتك من الموت
" فسبح بحمد ربك " قال مقاتل لما نزلت هذه السورة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فاستبشروا فسمع بذلك ابن عباس فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما يبكيك ) فقال نعيت نفسك فقال ( صدقت ) فعاش بعد هذه السورة سنتين
وروى أبو عبيد بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول ( سبحانك ربي وبحمدك اللهم اغفر لي ) وقال علي رضي الله عنه لما نزلت هذه السورة مرض النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس فخطبهم وودعهم ثم دخل المنزل وتوفي بعد أيام
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى " إذا جاء نصر الله " يعني إذا أتاك نصر من الله تعالى على الأعداء من قريش وغيرهم " والفتح " يعني فتح مكة والطائف وغيرها " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " يعني جماعة جماعة وقبيلة قبيلة وكان قبل ذلك يدخلون واحدا واحدا فدخلوا فوجا فوجا فإذا رأيت ذلك فاعلم أنك ميت فاستعد للموت بكثرة التسبيح والاستغفار فذلك قوله " فسبح بحمد ربك " يعني سبحه ويقال " فسبح " أي فصل لربك " واستغفره إنه كان توابا " يعني متجاوزا
والله الموفق اللهم إنا نسألك العفو والعافية و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد(3/605)
606
سورة المسد
وهي خمس آيات مكية
سورة المسد 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى " تبت يدا أبي لهب وتب " يعني خسر أبو لهب وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى " وأنذر عشيرتك الأقربين " [ الشعراء 214 ] صعد على الصفا ونادى واصاحبا فاجتمعوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أمرني ربي أن أنذر عشيرتي الأقربين وأدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فقولوا أشهد لكم بها عند ربي ) فأنكروا ذلك فقال أبو لهب تبا لك سائر الأيام ألهذا دعوتنا وروي في خبر آخر أنه اتخذ طعاما ودعاهم ثم قال ( أسلموا تسلموا وأطيعوا تهتدوا ) فقال أبو لهب تبا لك سائر الأيام ألهذا دعوتنا فنزلت " تبت يدا أبي لهب " يعني خسرت يدا أي لهب عن التوحيد " وتب " يعني وقد خسر
ويقال إنما ذكر اليد وأراد به هو وقال مقاتل " تبت يدا أبي لهب وتب " يعني خسر نفسه وكان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى ولهذا ذكره بالكنية ولم يذكر اسمه لأن اسمه كان منسوبا إلى صنم
وقال بعضهم كنيته كان اسمه
ثم قال عز وجل " ما أغنى عنه ماله وما كسب " يعني ما نفعه ماله في الآخرة إذ كفر في الدنيا " وما كسب " يعني ما ينفعه ولده في الآخرة إذا كفر في الدنيا والكسب أراد به الولد لأن ولد الرجل من كسبه
ثم قال عز وجل " سيصلى نارا ذات لهب " يعني سيدخل في نار ذات لهب يعني ذات شعل
ثم قال عز وجل " وامرأته حمالة الحطب " يعني تدخل النار معه
قرأ عاصم " حمالة الحطب " بنصب الهاء ويكون على معنى الذم والشين ومعناه أعني حمالة الحطب
والباقون بالضم على معنى الابتداء
أو " حمالة الحطب " جعل نعتا له فقال " حمالة الحطب " يعني حمالة الخطايا والذنوب
ويقال " حمالة الحطب " يعني تمشي بالنميمة فسمى النميمة حطبا لأنه يلقي بين القوم العداوة والبغضاء
وكانت تمشي بالنميمة في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويقال كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالليل من بغضها لهم حتى(3/606)
607
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شدة وعناء
فحملت ذات ليلة حزمة شوك لكي تطرحها في طريقهم فوضعتها على جدار وشدتها بحبل من ليف على صدرها فأتاها جبريل عليه السلام ومده خلف الجدار وخنقها حتى ماتت فذلك قوله " في جيدها حبل من مسد " أي من ليف
وقال أكثر أهل التفسير " في جيدها حبل من مسد " يعني في الآخرة في عنقها سلسة من حديد وفوقها نار وتحتها نار
وروى سعيد بن جبير رضي الله عنه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال لما نزلت " تبت يدا أبي لهب " جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه لو تنحيت يا رسول الله فإنها امرأة بذية فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( سيحال بيني وبينها ) فدخلت فلم تره فقالت لأبي بكر هجانا صاحبك فقال والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله قالت إنك لمصدق فاندفعت راجعة فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ما رأتك فقال ( لم يزل بيني وبينها ملك يسترني عنها حتى رجعت )
وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي يزيد بن زيد قال لما نزلت هذه السورة قيل لامرأة أبي لهب أن محمدا قد هجاك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الملأ وقالت يا محمد صلى الله عليه وسلم على ما تهجوني فقال ( أما والله ما أنا هجوتك ما هجاك إلا الله تعالى ) قالت هل رأيتني أحمل الحطب أو رأيت في جيدي حبل من مسد وقال مجاهد " في جيدها حبل من مسد " مثل حديد البكرة وقال غيره يعني عروة السلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا نسأل الله العفو والعافية و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم(3/607)
608
سورة الإخلاص
مختلف فيها وهي أربع آيات مكية
سورة الإخلاص 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى " قل هو الله أحد " وذلك أن قريشا قالوا له صف لنا ربك الذي تعبده وتدعونا إليه ما هو فأنزل الله تعالى " قل هو الله أحد " يعني قل يا محمد للكفار إن ربي الذي أعبده " هو الله أحد " يعني فرد لا نظير له ولا شبيه ولا شريك ولا معين له
ثم قال عز وجل " الله الصمد " يعني الصمد الذي لا يأكل ولا يشرب
وقال السدي وعكرمة ومجاهد " الصمد " الذي لا جوف له وعن قتادة قال كان إبليس لعنه الله ينظر إلى آدم عليه السلام ودخل في فيه وخرج من دبره يعني حين كان صلصالا فقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال " الصمد " الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ويتضرعون إليه عند مسألتهم
وقال أبو وايل " الصمد " السيد الذي انتهى سؤدده وكذلك قال سعيد بن جبير
وقال الحسن البصري " الصمد " الدائم وقال قتادة " الصمد " الباقي ويقال الكافي
وقال محمد بن كعب القرظي " الصمد " الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
ويقال " الصمد " التام في سؤدده
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال " الصمد " الذي لا يخاف من فوقه ولا يرجو من تحته ويصمد إليه في الحوائج
ثم قال تعالى " لم يلد ولم يولد " يعني لم يكن له ولد يرث ملكه
" ولم يولد " يعني لم يكن له والد يرث عنه ملكه " ولم يكن له كفوا أحد " يعني لم يكن له نظير ولا شريك فينازعه في عظمته وملكه
وقال مقاتل إن مشركي العرب قالوا إن الملائكة كذا وكذا وقالت اليهود والنصارى في عزير والمسيح ما قالوا فكذبهم الله تعالى وأبرأ نفسه مما قالوا فقال " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " قرأ عاصم في رواية حفص " كفوا " بغير همزة وقرأ حمزة " كفوا " بسكون الفاء مهموزا والباقون بضم الفاء مهموزا بهمزة وكل ذلك يرجع إلى معنى واحد
وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال من قرأ " قل هو الله أحد " بعد صلاة الفجر إحدى عشرة مرة لم يلحقه ذنب يومئذ ولو اجتهد الشيطان(3/608)
609
وروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أيعجز أحدكم أن يقرأ القرآن في ليلة ) فقيل يا رسول الله من يطيق ذلك قال ( أن يقرأ قل هو الله أحد ثلاث مرات ) وروي عن ابن شهاب عن الزهري رضي الله عنه قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ قل هو الله أحد مرة فكأنما قرأ ثلث القرآن )
والله أعلم(3/609)
610
سورة الفلق
مكية وهي خمس آيات
سورة الفلق 1 - 5
قوله تعالى " قل أعوذ برب الفلق " يعني قل يا محمد أعتصم وأستعيذ وأستعين بخالق الخلق و " الفلق " الخلق وأنما سمي الخلق فلقا لأنهم فلقوا من آبائهم وأمهاتهم ويقال " أعوذ برب الفلق " يعني بخالق الصبح ويقال فالق الحب والنوى
قال الله تعالى " إن الله فالق الحب والنوى " [ الأنعام 95 ] وقال " فالق الإصباح " [ الأنعام 96 ] ويقال الفلق واد في جهنم ويقال جب في النار
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الفلق شجرة في جهنم فإن أراد الله أن يعذب الكافر بأشد العذاب يأمره أن يأكل من ثمرها )
وروي عن كعب الأحبار أنه دخل في بعض كنائس اللروم فقال أخس عمل وأضل قوم قد رضيت لكم بالفلق فقيل له ما الفلق يا كعب قال بئر في النار إذا فتح بابها صاح جميع أهل النار من شدة عذابها
ثم قال عز وجل " من شر ما خلق " يعني الجن والإنس
وقال الكلبي " من شر ما خلق " يعني من شر كل ذي شر
ثم قال عز وجل " ومن شر غاسق إذا وقب " يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار
ويقال " إذا وقب " يعني إذا جاء وأدبر
وقال القتبي الغاسق الليل والغسق الظلمة ويقال الغاسق القمر إذا انكسف واسود " وإذا وقب " يعني إذا دخل في الكسوف
ثم قال تعالى " ومن شر النفاثات في العقد " يعني الساحرات المؤاخذات المهيجات اللواتي ينفثن في العقد
ثم قال " ومن شر حاسد إذا حسد " يعني كل ذي حسد وإنما أراد به لبيد بن أعصم اليهودي ويقال لبيد بن عاصم
وروى الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم أنه قال سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود عقد له عقدا فاشتكى لذلك أياما فأتاه جبريل عليه السلام فقال له إن رجلا من اليهود سحرك فبعث عليا رضي الله عنه واستخرجها فحلها(3/610)
611
فجعل كلما حل عقدة وجد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك خفة حتى حلها كلها فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال فما ذكر النبي ذلك لليهودي
وروي في خبر آخر أن لبيد بن أعصم اتخذ لعبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ من عائشة رضي الله عنها فجعل في اللعبة إحدى عشرة عقدة ثم ألقاها في بئر وألقى فوقها صخرة
فاشتكى من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا شديدا فصارت أعضاؤه مثل العقد
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان إذ أتاه ملكان أحدهما جلس عند رأسه والآخر عند قدميه فالذي عند قدميه
يقول للذي عند رأسه ما شكواه قال السحر
قال من فعل به قال لبيد بن أعصم اليهودي
قال فأين صنع السحر قال في بئر كذا
قال ماذا رأوه قال يبعث إلى تلك البئر فينزح ماؤها فإنه ينتهي إلى صخرة فإذا رأها فيلقلعها فإن تحتها كؤبة وهي كؤبة قد سقط عنقها وفي الكؤبة وتر فيه إحدى عشرة عقدة فيحرقها في النار فيبرأ إن شاء الله تعالى
فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد فهم ما قالا فبعث عليا وعمار بن ياسر رضي الله عنهما إلى تلك البئر في رهط من أصحابه فوجدوها كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم فنزلت هاتان السورتان وهما إحدى عشرة آية فكلما قرأ آية انحل منها عقدة حتى انحلت العقد كلها ثم أحرقها بالنار فبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروي في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " قل هو الله أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " ( ما سأل منها سائل ولا استعاذ مستعيذ بمثلها قط ) وهذه الآية دليل أن الرقية جائزة إن كانت بذكر الله تعالى وبكتابه
والله أعلم(3/611)
612
سورة الناس
مكية وهي ست آيات
سورة الناس 1 - 6
قوله تعالى " قل أعوذ برب الناس " يقول أستعيذ بالله خالق الناس ويقال أستعيذ بالله الذي هو رازق الخلق
قوله تعالى " ملك الناس " يعني خالق الناس ومالكهم وله نفاذ الأمر والملك فيهم
ثم قال " إله الناس " يعني خالق الناس ومعطيهم ومانعهم " من شر الوسواس " يعني من شر الشيطان ويقال معناه أستعيذ بالله تعالى ليحفظني من شر الشيطان لأني لا أستطيع أن أحفظ نفسي من شره لأنه يجري في نفس الإنسان مجرى الدم ولا يراه بشر والله تعالى قادر على حفظي من شره ومن وسوسته
ثم وصف الشيطان فقال " الخناس " قال مجاهد هو منبسط على قلب الإنسان إذا ذكر الله خنس وانقبض فإذا غفل انبسط على قلبه
ويقال له خنوس كخنوس القنفذ
ثم قال " الذي يوسوس في صدور الناس " ويوسوسهم " من الجنة والناس " يعني يدخل في صدور الجن كما يدخل في صدور الإنس ويوسوس لهم
ويقال " الناس " في هذا الموضع يصلح للجن والإنس فإذا أراد به الجن فمعناه يوسوس في صدور المؤمنين الذين هم جن " يوسوس في صدور الناس " يعني الذين هم من بني آدم
ويقال " الناس " معطوف على الوسواس ومعناه " من شر الوسواس " " ومن شر الناس " كما قال في آية أخرى " شياطين الإنس والجن " وقال مقاتل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له جبريل عليه السلام ألا أخبرك يا محمد صلى الله عليه وسلم بأفضل ما يتعوذ به قلت ( وما هو ) قال المعوذتان
وروى علقمة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما تعوذ المتعوذون بمثل المعوذتين )
وروي عن الحسن البصري في قوله " من الجنة والناس " قال إن من الناس شياطين ومن الجن شياطين فتعوذوا بالله من شياطين الجن والإنس وقال هما شيطانان
فأما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس
وأما شيطان الإنس فيأتي علانية
وروى أبو معاوية عن عثمان بن واقد قال أرسلني أبي إلى محمد بن المنكدر أسأله عن(3/612)
613
المعوذتين أهما من كتاب الله تعالى قال من لم يزعم أنهما من كتاب الله تعالى فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين والله أعلم
و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة والمقربين وأهل طاعتك أجمعين
ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
حسبنا الله ونعم الوكيل
ووافق الفراغ من كتابة هذا التفسير المبارك لمولانا الإمام العالم العلامة أبي الليث نصر بن إبراهيم السمرقندي رضي الله عنه آمين وأرضاه وجعل الجنة منقلبه ومثواه ونفعنا بعلومه ومدده وأسراره في الدارين آمين في يوم الأحد المبارك مستهل محرم الحرام افتتاح سنة اثنين وتسعين وتسعمائة المباركة
أحسن الله عاقبتها بمحمد وآله.
تم الكتاب والحمد لله أولا وآخر وظاهرا وباطنا.(3/613)